اذهبي الى المحتوى
غِــيثَـــة اآلريــســْ

*القَــواعد الحسَــان في أسْــرار الطَّـــاعة والاستعدَآاد لِـــــرمضَـــان

المشاركات التي تم ترشيحها

136283336810.gif

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

إن الحمد لله، نحمده، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا وعلى آله وصحبه وأزواجه وأتباعه إلى يوم وبعد…

 

لما كانت الأزمنة الفاضلة من أنسب أوقات الجد والاجتهاد في الطاعة وكان شهر رمضان من مواسم الجود الإلهي العميم، حيث تُعْتَق الرقاب من النار، وتوزع الجوائز الربانية على الأصفياء والمجتهدين، كان لزامًا أن تتواصى الهمم على تحصيل الغاية من مرضاة الرب في هذا الشهر، وهو من التواصي بالحق المأمور به في سورة العصر، وإذا كان دعاة الباطل واللهو والفجور تتعاظم هِمَمُهُم في الإعداد لغواية الخلق في هذا الشهر بما يذيعونه بين الناس من مسلسلات ورقص ومجون وغناء، فأَخْلِقْ بأهل الإيمان أن ينافسوهم في هذا الاستعداد، ولكن في البر والتقوى.

ولقد صامت أمتنا دهورًا، غير أن صومها لهذا الشهر ما كان يزيدها إلا بعدًا عن ربها ومليكها وحاكمها الحقيقي، فصار رمضان موسمًا مفرّغًا من مضمونه مجردًا من حقائقه، بل صار ميدانًا للعربدة وشغل الأوقات بما يغضب الكريم المتعال.

***

ولو تجهزت الأمة لهذا الشهر الفضيل وأعدت له عدته، وشمر الناس جميعًا سواعد الجد وشدوا مآزرهم في الطاعة لرأينا أمة جديدة تولد ولادة شرعية، وذلك بعد استعداد جاد ومخاض عولجت فيه الهمم والعزائم لتدخل في الشهر وهي وثابة إلى الطاعات.

وهذه الرسالة نصيحة لعام المسلمين بَثْتُها غَيْرةً على حالهم مع الله في هذا الشهر، وجُهد مُقِلٍّ أبذله ، ويعلم ربي ما هنالك.

هي منهاج في كيفية الاستعداد لشهر رمضان، وجدول أعمال تفصيلي لما ينبغي أن يقوم به سالك طريق الآخرة، إرشادات نفيسة من أئمة التربية والتزكية من السلف الصالح تقود المرء قيادةً حثيثة للوصول إلى درب القَبول.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

وكتبه

المعتز بالله أبو محمد رضا بن أحمد صمدي

***

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

***

 

القاعدة الأولى

بعث واستثارة الشوق إلى الله

 

على مر الأيام والليالي يُخْلَقُ الإيمان في القلب([1]) وتصدأ أركان المحبة فتحتاج إلى من يهبك سربالاً إيمانًا جديدًا تستقبل به شهر رمضان، واصل القدرة على فعل الشيء معونة الله ثم مؤونة العبد، ونعني بالمؤونة رغَبته وإرادته، فعلى قدر المؤونة تأتي المعونة.

وفي الحديث القدسي: "إذا تقرب العبد إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب إليّ ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي يمشي أتيته هرولة" رواه البخاري.

فالبداءة من العبد ثم الإجابة حتمًا من الرب: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }.

فلابد من إثارة كوامن شوقك إلى الله عز وجل حتى تلين لك الطاعات فتؤديها ذائقًا حلاوتها ولذتها، وأية لذة يمكن أن تحصلها من قيام الليل ومكابدة السهر ومراوحة الأقدام المتعبة أو ظمأ الهواجر أو ألم جوع البطون إذا لم يكن كل ذلك مبنيًا على معنى: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى }([2]) ؟!

***

ومن لبى نداء حبيبه بدون شوق يحدوه فهو بارد سمج، دعوى محبته لا طعم لها.

لا جرم كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته: "وأسألك الرضا بالقضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك…" رواه النسائي بسند صحيح.

وشوقك لربك ولإرضائه أفناه رَين الشبهات والشهوات وأهلكته جوائح المعاصي ومرور الأزمنة دون كدح إلى الله، فتحتاج يا باغي الخير إلى بعث هذا الشوق من جديد لو كان ميتًا، أو استثارته إن كان موجودًا كامنًا.

***

عوامل بعث الشوق إلى الله

 

1- مطالعة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وتدر كلامه وفهم خطابه فإن من شأن هذه المطالعة والفهم والتدبر فيها أن يشحذ من القلب همة للوصول إلى تجليات هذه الأسماء والصفات والمعاني، فتتحرك كوامن المعرفة في القلب والعقل ويأتي عندئذٍ المدد([3]).

وتأمل قصة أبي الدحداح في فهمه كلام ربه كيف حرك أريحيَّتُه وألبسه حب البذل.

فعن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: { مَن ذَا

الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ }قال أبو الدحداح الأنصاري: وإن الله يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، قال فناوله رسول الله يده، قال فإني أقرضت ربي حائطي، قال: حائطه له ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فنادي يا أم الدحداح! قالت: لبيك، قال: أخرجي من الحائط فإني أقرضته ربي عز وجل، وفي رواية أخرى أنها لما سمعته يقول ذلك عمدت إلى صبيانها تُخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كم من عِذْقٍ رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح"([4]).

***

وتأمل رعاك الله من عَطَنِ الشبهات كيف فهم الصحابي من كلام الله عز وجل المعنى الظاهر بدون أن يكون في قلبه تردد أو تهيب لأن شجرة إيمانه قامت على ساق التنزيه([5]).

2- مطالعة منن الله العظيمة وآلائه الجسيمة فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ولذلك كثر في القرآن سوقُ آيات النعم الخلق والفضل تنبيهًا لهذا المعنى، وكلما ازددت علمًا بنعم الله عليك كلما ازددت شوقًا لشكره على نعمائه.

3- التحسر على فوت الأزمنة في غير طاعة الله، بل قضاؤها في عبادة الهوى. قال ابن القيم: وهذا اللحظ يؤدي به إلى مطالعة الجناية، والوقوف على الخطر فيها، والتشمير لتداركها والتخلص من رقها وطلب النجاة بتمحيصها. أهـ.

4- تذكر سبق السابقين مع تخلفك مع القاعدين يورثك هذا تحرقًا للمسابقة والمسارعة والمنافسة، وكل ذلك أمر الله به، قال تعالى: { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } وقال: { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } وقال: { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }.

واعلم أن بعث الشوق وظيفة لا ينفك عنها السائر إلى الله عز وجل، ولكن ينبغي مضاعفة هذا الشوق قبل شهر رمضان لتُضاعف الجهد فيه، وهذا الشوق نوع من أنواع الوقود الإيماني الذي يُحفّز على الطاعة، ثم به يذوق المتعبد طعم عبادته ومناجاته.

ومجالات الشوق عندك كثيرة أعظمها وأخطرها الشوق إلى رؤية وجه الله عز وجل، ويمكنك أن تتمرن على قراءة هذا الحديث مع تحديث نفسك بمنزلتها عند الله، وهل ستنال شرف رؤيته أم لا؟ قال r: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة وتنجّنا من النار؟ فيُكشفُ الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم". رواه مسلم.

***

وفي مجالات الشوق: الشوق إلى لقاء الله وإلى جنته ورحمته ورؤية أوليائه في الجنة وخاصة الشوق للقاء النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.

واعلم أن لهذا الشوق لصوصًا وقطاعًا يتعرضون لك، فاحذر الترفه (وخاصة في شهر رمضان) واحذر فتنة الأموال، والأولاد والأزواج، خلفهم وراءك ولا تلتفت وامض حيث تؤمر، واجعل شعارك في شهر رمضان: { قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْك رَبِّ لِتَرْضَى }.

فحيَّهلا إن كنت ذا همةٍ فقدْ

حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا

ولا تنتظر بالسير رفقة قاعدٍ

ودعُه فإن العزم يكفـيك حاملـــاً

***

( [1] ) عن عبد الله بن عمر قال: قال r: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثواب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم" رواه الطبراني والحاكم (صحيح الجامع).

( [2] ) قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله: (لما نهض موسىu ببني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل، رأى على وجه الاجتهاد أن يتقدم وحده مبادرًا إلى أمر الله وحرصًا على القرب منه وشوقًا إلى مناجاته) أهـ: البحر المحيط (6/266).

( [3] ) راجع لزامًا كلام ابن القيم في الفائدة السادسة والثلاثين من فوائد الذكر من كتابه الطيب "الوابل الصيب".

( [4] ) العذق من النخل كالعنقود من العنب، رداح: ثقيل لكثرة ما فيه من التمر، انظر "الإصابة" في (7/57) و"صفة الصفوة" (1/617).

( [5] ) لابن القيم رحمه الله مقالات رائقة حول كثير من الأسماء والصفات جمعها بعضهم في كتاب مستقل، وللغزالي رسالة اختصرها النبهاني في "مختصر المقصد الأسني" لا تخلو من هنات تظهر لممارس الكتاب والسنة.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

***

القاعدة الثانية

معرفة فضل المواسم ومنة الله فيها

وفرصة العبد منها

 

قال ابن رجب رحمه الله : وجعل الله سبحانه وتعالى لبعض الشهور فضلاً على بعض، كما قال تعالى: { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} وقال تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، وأقسم بالعشر وهي عشر ذي الحجة على الصحيح

 

***

 

(وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، يُترَّب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات، وقد خرج ابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات ربكم فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤُمن روعاتكم" (ضعيف الجامع).

 

***

وفي الطبراني من حديث محمد بن مسلمة مرفوعًا: "إن لله في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها، فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدًا"(صحيح الجامع).

وفي مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من عمل يوم إلا يُختم عليه"(صحيح الجامع).

روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن مجاهد قال: ما من يوم إلا يقول: ابن آدم قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم فانظر ماذا تعمل فيّ، فإذا انقضى طواه، ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يَفُضُّ ذلك الخاتم يوم القيامة، ويقول اليوم حين ينقضي: الحمد لله الذي أراحني من الدنيا وأهلها، ولا ليلةٍ تدخل على الناس إلا قالت كذلك، وبإسناده (أي ابن أبي الدنيا) عن مالك بن دينار.

 

***

وعن الحسن قال: ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم، يقول: يا أيهال الناس: إني يوم جديد وإني على ما يُعمل فيّ شهيد، وإني لو قد غربت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة.وعنه أنه كان يقول: يا ابن آدم اليوم ضيفك، والضيف مرتحل يحمدك أو يذمُّك، وكذلك ليلتك، وبإسناده عن بكر المُزني أنه قال: ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم اغتنمني، لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلةٍ إلا تنادي: ابن آدم اغتنمني، لعله لا ليلة لك بعدي.

وعن عمر بن ذر أنه كان يقول: اعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما، وإنما جُعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم، فأحيوا لله أنفسكم بذكره، فإنما تحيا القلوب بذكر الله. أهـ([1]).

***

واعلم- رحمني الله وإياك- أن معرفة فضل المواسم يكون بمطالعة ما ورد فيها من فضل وبما يحصل للعبد من الجزاء إذا اجتهد.

ويمكنك مطالعة هذه النصوص والآثار في الكتب المعنية بالفضائل كرياض الصالحين للنووي والترغيب والترهيب للمنذري ولطائف المعارف لابن رجب.

**

( [1] ) "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" (ص40) فما بعدها بتصرف يسير.

***

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

***

القاعدة الثالثة

تمارين العزيمة والهمة

 

إذا كان الأصوليون يعرّفون العزيمة بأنها ما بُنيت على خلاف التيسير كالصوم في السفر لمن أطاقه، وعدم التلفظ بكلمة الكفر وإن قتل، فإن العزيمة عند أهل السلوك لها حظ من هذا المعنى فالعزيمة أو العزم عندهم هو استجماع قوى الإرادة على الفعل.

وكأن صاحب العزيمة لا رخصة له في التخلف عن القيام بالهمة، بل هو مطالب باستجماع قوته وشحذها حتى يطيق الأداء.

وغالب من تكلم في هذا الباب لم يشر إلى أهمية تمارين العزيمة أي تحفيز الهمة لتقوى على المجاهدة في الأزمنة الفاضلة، مع أن الشرع أشار إلى ذلك باستحباب صوم شعبان لتتأهب النفس وتقوى على صيام رمضان بسهولة.

وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل أن يبدأ بركعتين خفيفتين حتى تتريض نفسه ولا تضجر.

وأشار الشاطبي في الموافقات إلى أن السنن والنوافل بمثابة التوطئة وإعداد النفس للدخول في الفريضة على الوجه الأكمل.

وكثير من الناس يعقد الآمال بفعل جملة من الطاعات في شهر رمضان فإذا ما أتى الشهر (أصبح خبيث النفس كسلان) وذلك لأنه لم يحل عقدة العادة والكسل والقعود.

والعزيمة لا تكون إلا فيما لا تألفه النفوس أو لا تحبه فتحتاج النفس إلى المجاهدة في معرفة فضل ذلك العمل المكروه إليها ثم في مجاهدة وإرادات العجز والكسل، ولذلك قال الله عن الجهاد: { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ...}.

***

وتمارين العزيمة من صميم القيام بحق شهر رمضان وتحصيل المغفرة فيه لأنه لا قوة للنفس ما لم تُعد العدة للطاعة قال تعالى: { وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُم فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ }.

قال ابن الخراط- في كتابه الصلاة والتهجد- كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز- رحمهما الله- : أما بعد، فإنه من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر، ومن نظر العواقب نجا، ومن أطاع فهو أفضل، ومن حلُم غنم، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم، فإذا ندمت فأقلع، وإذا جهلت فَسَلْ، وإذا غضبت فأمسك، واعلم أن أفضل الأعمال ما أُكرهم النفسُ عليه.

***

وقد اعترض بعض العلماء بظاهر قول رسول الله r: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المُنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى"([1])، وبقوله : "اكفلوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا"([2])، وبالحديث الآخر: "ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر أو كسل فليقعد"([3])، فإن النفس كسلى ثقيلة عن فعل الخير، بطيئة النهوض إلى أعمال البر، فلو لم تصلّ مثلاً حتى تدعوك نفسك للصلاة وحتى تنشط إليها وتخف عليها لما صليت إلا قليلاً، وربما لم تصل معها أبدًا، ولا قامت لك عن فراشها ولا تركت راحتها ولا لذيذ نومها.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

***

 

(لقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم على السفاسف فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين والهين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفًا من عباراتهم وعباداتهم التي تدل على تشميرهم وعزيمتهم وهمتهم:

 

***

قال الحسن: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره.

وقال وهيب بن الورد: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل، وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني: ما بلغني عن أحد من الناس أنه تعبد عبادة إلا تعبدت نظيرها وزدت عليه.

وقال أحد العباد: لو أن رجلاً سمع برجل هو أطوع لله منه فمات ذلك الرجل غمًا ما كان ذلك بكثير.

وقيل لنافع: ما كان ابن عمر يفعل في منزله؟ قال: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما.

وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة الجماعة صام يومًا، وأحيا ليلة، وأعتق رقبة.

واجتهد أبو موسى الأشعري t قبل موته اجتهادًا شديدًا، فقيل له: لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق؟ فقال: عن الخيل إذا أُرسلت فقاربت رأسَ مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلها أقلُّ من ذلك، قال: فلم يزل على ذلك حتى مات.

وعن قتادة قال: قال مورق العجلي: ما وجدت للمؤمن في الدنيا مثلاً إلا مثل رجلٍ على خشبة في البحر، وهو يقول: "يا رب يا رب" لعل الله أن ينجيه.

 

***

وعن أسامة قال: كان من يرى سفيان الثوري يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق، أكثر ما تسمعه يقول: "يا رب سلّم سلّم".

وعن جعفر: دخلنا على أبي التياح نعوده، فقال: والله إنه لينبغي للرجل المسلم أن يزيده ما يرى في الناس من التهاون بأمر الله أن يزيده ذلك جدًا واجتهادًا، ثم بكى.

وعن فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: ما رأيت أحدًا أكثر صلاة ولا صيامًا منه ولا أحدًا أشد فرقًا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه ثم ينتبه فلا يزال يبكي تغلبه عيناه، ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينفض العصفور من الماء ويجلس يبكي فأطرح عليه اللحاف.

وعن المغيرة بن حكيم قال: قالت فاطمة بنت الملك: يا مغيرة، قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاة وصيامًا من عمر ابن عبد العزيز ولكني لم أر من الناس أحد قط كان أشد خوفًا من ربه من عمر، كان إذا دخل البيت ألقى نفسه في مسجده، فلا يزال يبكي ويدعو حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ فيفعل مثل ذلك ليلته جمعاء.

وعن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع أنه دخل على فاطمة بنت عبد الملك فقال: ألا تخبريني عن عمر؟ قالت: ما أعلم أنه اغتسل من جنابة ولا احتلام منذ استُخلِف.

وكان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة، ويصوم في الحر حتى يخضر جسده ويصفر، فكان علقمة بن قيس يقول له: لِمَ تعذب نفسك؟ فيقول: كرامتها أريد، وكان يصوم حتى يخضر جسده ويصلي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له: إن الله عز وجل لم يأمرك بكل هذا، فقال: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئًا إلا جئت به.

***

وقيل لعامر بن عبد الله: كيف صبرك على سهر الليل وظمأ الهواجر؟ فقال: هل هو إلا أني صرفت طعام النهار إلى الليل ونوم الليل إلى النهار؟ وليس في ذلك خطير أمر، وكان إذا جاء الليل قال: أذهب حرُ النار النوم، فما ينام حتى يصبح.

 

وعن أحمد بن حرب قال: يا عجبًا لمن يعرف أن الجنة تُزيَّن فوقه والنار تُسَعَّرُ تحته كيف ينام بينهما؟

وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطًا في مسجد بيته يخوّف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفًا، حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا دخلت الفترة (الفتور) تناول سوطه وضرب به ساقه، وقال: أنت أولى بالضرب من دابتي، وكان يقول: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لُتُزاحمَنَّهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً.

وكان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلت: رجلٌ أصيب بمصيبة، منكسر الطرف، منخفض الصوت، رطْب العينين، إن حركته جاءت عيناه بأربع، ولقد قالت له أمه: ماذا الذي تصنع بنفسك؟ تبكي الليل عامته لا تسكت؟ لعلك يا بني أصبتّ نفسًا، لعلك قتلت قتيلاً، فيقول: يا أماه، أنا اعلم بما صنعت نفسي.

وقال هُشيم تلميذ منصور بن زاذان: كان لو قيل له إن ملك الموت على الباب ما عنده زيادة في العمل.

 

***

وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وبلغ من الاجتهاد ما لو قيل له: القيامة غدًا ما وجد مزيدًا، وكان يقول: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي.

وعن موسى بن إسماعيل قال: لو قلت لكم إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكًا قط صدقْتُكم، كان مشغولاً بنفسه، إما أن يحدث وإما أن يقرأ وإما أن يسبح وإما أن يصلي، كان قد قسم النهار على هذه الأعمال.

وعن وكيع قال: كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة فما رأيته يقضي ركعة.

فهؤلاء هم أنموذج السالكين الصادقين.

فتشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح

وهذه كانت سيرتهم في مجاهدة النفس ومغالبة الهوى فاستحضرها عند هبوب ريح الكسل وسل الله حسن العمل.

***

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

***

 

القاعدة الرابعة

نبذ البطالة والبطالين ومصاحبة ذوي الهمم

 

ليس هناك أشأم على السائر إلى الله من البطالة وصحبة البطالين، فالصاحب ساحب، والقرين بالمقارّن يقتدي.

(والبرهان الذي يعطيه السالكون علامة لصدقهم أنهم يأبون غلا الهجرة والانضمام إلى القافلة ويذرون كل رفيق يثبطهم ويزين لهم إيثار السلامة، ينتفضون ويهجرون كل قاعد، ويهاجرون مع المهاجرين إلى الله، ويطرحون أغلال الشهوات وحب الأموال عن قلوبهم)([1]).

ولما أراد قاتل المائة أن يتوب حقًا قيل له: اترك أرضك فإنها أرض سوء واذهب إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم. متفق عليه. فلابد لمن أراد تحصيل المغفرة من شهر رمضان أن يترك المُخْلِدين إلى الأرض ويزامل ذوي الهمم العالية

كما قال الجنيد: سيروا مع الهمم العالية.

وقد أمر الله خير الخلق عليه الصلاة والسلام بصحبة المجدّين في السير إلى الله وترك الغافلين فقال عز من قائل : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }، وقال عز وجل: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ

الصَّادِقِينَ }.

 

***

فلو صحب الإنسان من يظنون أن قيام الساعة من الليل إنجاز باهر فهو مغبون لن يعْدُو قدره، بل سيظل راضيًا عن نفسه مانًّا على ربه بتلك الدقائق التي أجهد نفسه فيها ولكنه لو رأى الأوتاد من حوله تقف الساعات الطوال في تهجد وتبتل وبكاء (وهم مُتَقَالُّونْهَا) فأقل أحواله أن يظل حسيرًا كسيرًا على تقصيره مرددًا.

أنا العبد المخلَّفُ عن أُناسٍ حوَوْا من كل معروفٍ نصيبا

وقد قيل: الراحة للرجالة غفلة.

وقال شعبة بن الحجاج البصري أمير المؤمنين في الحديث: لا تقعدوا فُراغًا فإن الموت يطلبكم.

وقال الشافعي: طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات، فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان.

( [1] ) "الرقائق " للراشد (ص140).

***

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

***

القاعدة السادسة

الإعداد للطاعة ومحاسبة النفس عليها

 

واعلم أن الاستعداد للطاعة ومحاسبة النفس عليها وظيفتان متباينتان، لكنهما متداخلتان أي يتعاقبان ويتوارد أحدهما على الآخر.

أما الإعداد للعمل فهو علامة التوفيق وأمارة الصدق في القصد، قال تعالى: { وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً }، والطاعة لابد أن يُمهَّد لها بوظائف شرعية كثيرة حتى تؤتي أكلها ويُجتبني جناها، وخاصة في شهر رمضان حيث تكون الأعمال ذات فضل وثواب وشرف مضاعف لفضل الزمان.

فصلاة الجماعة لابد أن تسبق بإحسان الوضوء ونية صادقة حسنة في تحصيل الأجر وزيارة الله عز وجل في بيته وتعظيم أمره والبدار في تلبية ندائه (حي على الصلاة) والمسارعة في سماع خطابه والالتذاذ بمناجاته ولقائه.

 

***

 

فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تَضعُفُ صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يُخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يُحدث، تقول: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في الصلاة ما انتظر الصلاة" متفق عليه.

ويحتفُّ بهذا الإعداد في التطهر والنيات إعدادٌ نفسي للقْيا الله عز وجل، ويكون ذلك بأمور منها: ترداد الأفكار الشرعية الواردة عند الخروج من البيت والمشي إلى المسجد فإنها مهمة في حضور القلب ومنها عدم فعل ما يتنافى مع الوقار والطمأنينة أثناء المشي إلى المسجد كتشبيك الأصابع وكثرة التلفت والتطلع إلى المارة وزخارف وزهرة الدنيا(وخاصة في هذه العصور) وعدم الإسراع والسعي، وذلك أن المشي إلى الصلاة جزء هام ممهد للخشوع في الصلاة، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة" متفق عليه، وفي رواية لمسلم: "فإن أحدكم إذا كان يعمدُ إلى الصلاة فهو في صلاة" ، ولا ينبغي أن يكثر من الضحك قبل الصلاة وبعدها فإنه يذهب لذة الخشوع ويقسي القلب ويحول بينه وبين الشعور بثمرة الطاعة.

 

***

 

وعند دخول المسجد لابد أن يدخله معظمًا مظهرًا الوجل من مهابة المكان وصاحبه، فإن المساجد منازل الرحمة ومهابط البركات، لذا شرع أن يقول الداخل إلى أي مسجد: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.

فإذا دخل المسجد شرع في السنة الراتبة أو النافلة ريثما يقام للصلاة، وأهمية هذه السنة أو النافلة تكمن في تهيئتها وتمهيدها للفريضة لكمال الحضور فيها.

ثم يشرع في صلاة الفريضة مستحضرًا ما سنذكره عن وسائل تحصيل لذة الطاعة في الصلاة.

 

***

ومن جنس هذا الاستعدادُ لصلاة التراويح فإنها من أعظم العبادات في ليالي رمضان، ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وعن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئًا من الشهر حتى بقي سبعٌ فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله، لو نفلتنا قيام هذه الليلة (أي قمت بنا الليلة كلها)، قال: فقال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسِب له قيام الليلة" رواه أبو داود بإسناد صحيح.

ويشكو كثير من المواظبين على قيام الليل في رمضان من عدم لمسهم لثمرة هذه الصلاة مع اعتقادهم بأهميتها وسعيهم لبلوغ الغاية من أدائها.

 

والحق أن هذه الصلاة المهمة كغيرها تحتاج إلى إعداد وتهيئة، فيلزم الراغب في الانتفاع من صلاة التراويح إقلال الطعام للغاية، ويحبَّذ أن يأتي المسجد وفي بطنه مسُّ من جوع، فإنه مثمر جدًا في حضور القلب، وينبغي عليه أن يتطهر جيدًا ويلبس أحسن الثياب ويأتي الصلاة مبكرًا، وقبيح جدًا أن تفوته صلاة العشاء، فهذا دليل الحرمان وعدم الفقه في الدين، فإن صلاة العشاء في جماعة تعدل قيام نصف ليلة كما في الحديث، فوق كونها فريضة والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: "وما تقرب إليّ عبدي بأحب إليّ مما افترضته عليه"رواه البخاري.

 

***

ثم يستحضر القدوم على الله والوفادة إليه وانتهاز فرصة التعرض لرحمته ومغفرته والعتق من النار، ويذهب إلى المسجد يدفعه الشوق والرغبة في الفضل، ويكدره الحياء من الله وخوف الرد والإعراض، ويطلب مساجد أهل السنة حتى يُوهَبَ للصالحين إن كان من غير المقبولين ثم يستحضر ما ذكرناه من وظائف عند الدخول في الصلاة وأثنائها.

أما محاسبة النفس على الطاعات فهذا من أنفع الوظائف التي يقوم بها العابدون في شهر رمضان، والأصل أن المحاسبة وظيفة لازمة للسالك طريق الآخرة، ولكنها تتأكد وتزداد في هذا الشهر.

والمحاسبة معناها: فحصُ الطاعة ظاهرًا وباطنًا، وأولاً وآخرًا، بحثًا عن الثمرة ليعرف مأتاها فيحفظَه، وقدرها فينميه، ووصولاً للنقص سابقًا، ليتداركه لاحقًا.

والمحاسبة تكون قبل العمل وأثناءه وبعده.

أما قبله فبالاستعداد له واستحضار ما قصّر فيه حتى يتلافاه، وأثناءه بمراقبة العمل ظاهرًا وباطنًا أوله وآخره، والمحاسبة بعد العمل بإعادة ذلك العمل.

 

***

 

وهذه المحاسبة إذا واظب عليها المرء صارت مسلكًا لا يحتاج إلى تكلّف ومعالجة وسيجد غِبَّ هذه المحاسبة وثمرتها تزايدًا في مقام الإحسان الذي سعى إليه كل السالكون وهي أن يعبد الله كأنه يراه.

ومثل هذه المحاسبة ينبغي أن تكون في الخفاء، يحاور نفسه وهواه ويعالج أي قصور بِلوم نفسه وتقريعها وعقابها على كسلها وخمولها.

***

 

والصواب تنشئة النفس على دوام المحاسبة الذاتية والمراقبة الشخصية، وتعويدها على العقاب عند الزلل، فإن هذا من شأنه أن ينقّي العبادة من أي حافز خارجي دخيل على النية الصالحة كرغبة في تسويد ورقة المحاسبة أو نحو ذلك. وقال الحفظي:

 

شـارط النفس وراقب لا تكـن مثل البهائـم

ثم حاسـبها وعاتـب وعلـى هـذا فـلازم

ثم جاهدها وعاقـب هكذا فعـل الأكـارم

لم يزالوا في سـجالِ للنـفـوس محاربـيـنا

فاز من قام الليـالي بصــلاة الخاشعـيـنا

 

***

***

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

***

القاعدة السابعة

مطالعة أحكام الصوم وما يتعلق بشهر رمضان

 

وهذا من أكد الواجبات، فمفتاح السعادة ومنشور الولاية مرهون بالعلم الصحيح النافع الممهّد للعمل الصالح، وليس ثمة عمل صالح بدون علم نافع.

والعم النافع ينادي على صالح العمل فإن أجابه وإلا ارتحل، وكما وجب على المصلي تعلم ما يقيم به صلاته وعلى المزكّي ما يخرج به زكاته وهلم جرا… فيقبح قبحًا شرعًا أن يتعرض الناسك لأجل مواسم الطاعات وهو مفلس من طرائق المنافسة فقيرًا في زاد المعاملة.

ولابد من معرفة أحكام الصوم وأعذاره وأركانه ومبطلاته ومباحاته وأحكام صلاة التراويح والاعتكاف، وفي حق المرأة أن تتعلم أحكام الصوم في حق الحائض والمستحاضة والنفساء والصوم في حق الحامل والمرضع.

وننصح بالكتب الآتية في تحصيل أحكام الصيام منها مع عدم الامتناع عن سؤال أهل العلم ومراجعتهم عند المشكلات:

1- "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (باب: هديه r في الصوم).

2- "صفوة الكلام في مسالك الصيام" لأبي إدريس محمد عبد الفتاح (رسالة مختصرة).

3- "فقه السنة" للشيخ سيد سابق مع تمام المنة في التعليق على فقه السنة للشيخ الألباني.

وتجنب أيها الأريب التصدر للفتيا والتبرع بالإفادات حال كونك لست من أهل هذا الشأن، فإنه مشأمة لك ومظلمة لغيرك.

ومما تتأكد مطالعته ما يتعلق بفقه المعاملة مع الرب وما ينبغي فعله في المواسم، وننصح بكتاب "لطائف المعارف" للحافظ ابن رجب رحمه الله.

***

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

***

 

القاعدة الثامنة

إعداد النفس لتذوق عبادة الصبر

 

قال تعالى: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }.

فبعض الخليقة تجعل من مواسم الطاعة مرتعًا لنيل اللذات بكل أنواعها، وهو مرتع وخيم على صاحبه، إذ به يخرج من الشهر كما دخل بل أفسد، وتزداد المسافة بينه وبين حقيقة قصد الآخرة، وتتكاثف غيوم الشهوات حائلة بينه وبين الوصول إلى الله.

وإذا كان شهر رمضان هو شهر الصوم والصبر فما أحرانا أن نتذوق حقيقة الصبر لنتذوق حقيقة الصوم.

وأمامك أيها الساعي إلى الخيرات في هذا الشهر صبر عن المحارم، وصبر على الطاعات، ومع ذلك كله صبر على كل بلية تنالك.

وأنواع الصبر هذه هي أوسمة الولاية وقلادات الإماماة في الدين.

 

 

***

كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما تُنال الإمامةُ في الدين بالصبر واليقين، واستدل بقول تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }.

قال ابن القيم رحمه الله([1]): "فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن أظهر معاني الصبر: حبس النفس على المكرمة وأنه من أصعب المنازل على العامة وأوحشها في طريق المحبة، وإنما كان صعبًا على العامة لأن العامي مبتدئ في الطريق وليس له درب في السلوك وليس تهذيب المرتاض بقطع المنازل، فإذا أصابته المحن أدركه الجزع وصعب عليه احتمال البلاء وعز عليه وجدان الصبر لأنه ليس في أهل الرياضة فيكون مستوطنًا للصبر، ولا من أهل المحبة فيلتذ بالبلاء في رضا محبوبه…)أهـ.

مما نقلته لك تعلم أيها الحريص على النجاة أن شهر رمضان ميدانك الرحب لتمارس رياضة الصبر وأنت مُعانٌ في كل فجِ.

***

فعين الله تصنعك، والأبالسة في أصفادها ترمقك، ونفسك ستراها إلى الخير وثابة وعن الشر هيّابة، فلم يبق إلا أن تعالج الخطرات والوساوس الوالجات في حنايا قلبك، ليت شعري ما أشبه قلبك بالمريض في غرفة العناية المركزة، إنه محروم من كل طعام يفسد دورة علاجه، بل محروم من مخاطبة أقرب الأقربين لتتفرغ أجهزة جسمه للانتعاش واسترداد العافية، ثم إنه يتنفس هواءً معقمًا خاليًا من كل تلوث، وتدخل في شرايينه دماء نقية لتمده بأسباب القوة، ويقاس نبضه ودرجة حرارته كل حين ليتأكد الطبيب من تحسن وظائف جسمه، فما أحرى هذا القلب السقيم الذي أوبقته أوزاره، وتعطن بالشهوات، وتلوث بالشبهات، وترهل بمرور الشهور والدهور دون تزكية وتربية، ما أحراه أن يدخل غرفة العناية المركزية في شهور رمضان، فتكون كل إمدادات قوته مادة التقوى وإكسير المحبة لله ورسوله r وطاعتهما.

***

فلتصدر مرسومًا على نفسك أن تلزم جناب الحشمة في هذا الشهر أمام شهوة البطن وغيره، فإن أعلنت عليك التمرد فلا تتردد في فرض الأحكام الاستثنائية وأصدر قرارًا باعتقال هذه النفس الناشز وأدخلها سجن الإرادة حتى تنقاد لأوامرك إذا صدرت، فإن ازداد تمردها وتجرأت في ثورتها فألهب ظهرها بسياط العزيمة وعنفها على مخالفتها أمرك وعصيانها إرادتك، فإن أبت إلا الشرود فلوّح لها بحكم الإعدام وأنها ليست عليك بعزيزة، فإن تمنعت إدلالاً وطمعًا في عطفك فلابد من تنفيذ حكم الإعدام في ميدان العشر الأواخر بحبسها في معتكف التهذيب حتى تتلاشى تلك النفس المتمردة وتفنى، وتتولد في تلك الليالي والأيام نفس جديدة وادعة مطمئنة تلين لك عند الطاعات إذا أمرتها، وتثور عليك عند المعاصي إذا راودتها، فقد وُلدت ولادة شرعية في مكان وزمان طاهرين ونشأت وتربَّت في كنف الصالحين، فلن تراها بعد ذلك إلا على الخير.

إنها ولادةٌ لنفس ذات إمامة في الدين، تنشأت على مهد الولاية، وترفِّت في سلك الرهبوت والتبتل.

***

 

( [1] ) "التهذيب" (2/566).

***

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×