اذهبي الى المحتوى
** الفقيرة الى الله **

..◘ حوار يبعث على الاعتبار ◘..

المشاركات التي تم ترشيحها

post-125640-1315034524.png

 

حوار يبعث على الاعتبار

 

-إبراهيم شعبان-

 

شقيق البلخي له باعٌ في التربية، نبت في مجلسه تلميذٌ يُسمَّى حاتمًا الأصمَّ، ولم يكن حاتمٌ أَصمَّ؛ وإنما عُرف بهذا نتيجة حيلة حفظ بها ماء وجه امرأة في مجلس علم وجَّهت إليه سؤالًا، وعند حديثها أحدثَت، فاحمرَّ وجهُها؛ خجلًا من الإحراج، فقال لها حاتم: ارفعي صوتك عاليًا؛ حتى يمكن الإجابة عليك، يهدف من ذلك إلى طمأنتها على حيائها؛ حيث فهمت أنه لم يسمع ما حدث منها، فانزاح عنها كابوس الخجل، فأُطلق عليه الأصم، وما هو كذلك، ولكنها الحكمة، وإليك أخي القارئ الحوار الهادف بين الأستاذ وتلميذه مع إضافة فقرات؛ إتمامًا للفائدة، واحتياجًا للموعظة؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

 

قال الأستاذ لتلميذه: يا حاتم، ماذا تعلَّمت وقد صحبتني أكثر من ثلاثين عامًا؟ فأجابه التلميذ: تعلمت ستة أشياء، وها هي:

الأول: رأيت الناس في شكٍّ من أمر الرزق، فهاموا في الدنيا وأشغلتهم عن الدين؛ خوفًا من الفقر، وجمعوا المال من حِلِّه أو حرامه، وحرصوا على ما بأيديهم، وشحت نفوسهم، فبخلوا على المحتاجين، ولم يفتحوا للفقير بابًا، ولم يحضُّوا على إطعام مسكين، مشاريع الخير منهم في حرمان، والشح على أنفسهم أفسح ميدان، أولادهم من المخمصة في خوف، وذووهم من الحرمان في جنَف، لم يعرف المسكين لهم بابًا، ولم يأنس الفقير منهم طلبًا، يسيرون بين الناس بصورة الفقراء، ينظرون لتجَّار السلع كارهين، وللخبز متسوِّلين، يلتمسون فضلات الناس، يرتدون رثَّ الثياب دون إحساس، أبدانهم من البخل نحيلة، وعيونهم من الحرمان ذليلة، فقلت في نفسي: كيف أتعب فيما ضمنه الله وهو القائل: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6]، ألستُ دابَّة؟ فأخذت سلاح التوكُّل على الله، ومشيت في أرض الله، أضرب في مناكبها وآكل من رزقه، قانعًا بما رزقني به مولاي، قائلاً:

 

صُنِ النفس واحملها على ما يزينها تعشْ سالمًا والقولُ فيك جميلُ

ولا ترين الناس إلا تجمُّلاً نبا بك وقت أو جفاك خليلُ

وإن ضاق رزقُ اليوم فاصبرْ إلى غد عسى نكبات العصر عنك تزولُ

 

الثاني: شاهدت أن لكل إنسان صديقًا يُفشي إليه سرَّه، ويشكو إليه أمره، ويكشف له فكره، ويخشى أن يصبح سره مفشوًّا، وفكره مجلوًّا، وسرعان السر لم يُدفَن، والفكر لم يُكفَّن؛ فذاع الأمر، وانكشف المخبوء، وأصبح الصديق عدوًّا؛ فاستحكم العداء، وزال الصفاء، وحلَّ الجفاء، وانتشر البلاء، فقلت لنفسي: صديقك من صدَقك لا من صدَّقك، وتمثل أمامي قول القائل: أحبِبْ حبيبَك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضَك يومًا ما، وأَبغِضْ بغيضَك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبَك يومًا ما؛ فأصبحت من الناس على حذر دون إساءة، وأخذت العمل الصالح صديقًا، والقول الطيِّب سلوكًا؛ فهما الرفيق عند الاحتضار، والسرير عند نزول القبر، والمُدافِع وقت سؤال الملكين، والمُؤنِس في الوحشة، والصاحب في الوَحْدة، والزميل حتى قيام الساعة، والمتحدِّث عند تطاير الكتب، والشاخص عند الميزان، والنور على الصراط، ومفتاح باب الجنة والسعادة.

 

الثالث: لاحظت لكل واحد عدوًّا يريد إهلاكه، ويرقب تدميره، لا يُحب أن يراه، يسرُّه عنته، ويحزنه فرحه، ينتظر أن تدور عليه الدوائر، وتصطلح على سفينته الأنواء، فقلت لنفسي: مَنْ عدوِّي حتى أحذره؟ أهو مَن ظلمني؟ أم هو من أكل لحمي؟ أم هو المسيء إليَّ؟ نعم، هذا في دنيا البشر وارد، فماذا أفعل لهؤلاء؟ قلت: عليَّ بإصلاح ما بيني وبين ربي؛ فهو القائل يوم الفصل: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [غافر: 17]، والرسول قال: ((إنما المفلس الذي يأتي بصلاة وصيام وزكاة، ولكنه شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا؛ فيؤخذ من حسناته إلى حسناتهم، فإذا فنيت حسناته ولم يقض ما عليه، أُخذ من سيئات من ظلمهم إلى سيئاته ثم طُرح في النار))، ففهمت أنهم بظلمهم لي وإساءتهم إلي يُهدونني حسناتِهم، ويحملون عني سيئاتي؛ فلم أحفل بهم، وإنما كانت نظرتي للعدو الحقيقي؛ فإذا هو يجري مني مجرى دمي، وهو الشيطان الذي يغريني بمعصية الله، ويُزيِّن لي مواطِن الهلكة، وإلى نفسي الأمَّارة بالسوء التي تضاجِعني، تقيل معي حيث أقيل، وتقوم معي حيث أقوم، وثالث الأعداء دنياي التي تتمثَّل بالعجوز الشمطاء التي أسقطت أسنانها، هلكت في الدهر، تتقمَّص شخصية فتاة هيفاء، حسرت عن رأسها، وكشفت عن ساقيها، تنادي طلَّابها؛ فتغدر بعشَّاقها، قولها مضحك، وفعلها مُبكٍ، وختام الأعادي: الهوى العاصف الذي طار بصاحبه إلى النكبات؛ فأغرق سفينته في بحر لُجِّيٍّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه ظلمات، فأخذت هؤلاء الأربعة أعدائي، وكم أحاول الإفلات، ويحضرني قول القائل:

 

إني بُليت بأربع ما سُلِّطوا إلا لكثرة شقوتي وبلائي

إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلُّهم أعدائي

 

post-125640-1315034530.gif

الرابع: رأيت أن كلَّ مخلوق مطلوب، ولكل مطلوب طالب، والموت طالب المطلوب؛ فرجعت إلى نفسي وقلت: أين الآباء والأجداد؟ أين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى وشيَّد، وزخرف ونجَّد؟ طحنَهم الثرى بكلكله؛ فتلك عظامهم بالية، وجلودهم ممزَّقة، وشعورهم متناثرة؛ فسقطت أناملهم التي أجادت الكتاب، وعميت أبصارهم التي يا طالما نظرت إلى الأحباب، وتناثرت الثنايا وقد كانت لؤلؤًا لردِّ الجواب، بيوتهم خربت أو بيعت للأعداء، أموالهم قُسِّمَت، وأزواجهم نُكحت أو ترمَّلت، أولادهم تيتَّمت أو خدمٌ لكسرة خبز جافة، نعم، قد يكون هذا أو بعضه، فقلت: سبحان الذي لا يموت، وتمثلت قول القائل:

في الذاهبين الأوَّلي ن من القرون لنا بصائرْ

لما رأيت مواردًا للموت ليس لها مصادرْ

ورأيت قومي نحوها يمضي الأكابرُ والأصاغرْ

لا يَرجع الماضي إليَّ ولا مِن الباقين غابرْ

أيقنتُ أني لا محا لةَ حيث صار القومُ صائرْ

 

فأفرغت نفسي للذي لا بد منه، حتى إذا جاء الطالب، استقبلته دون علائق، وقلت: حبيب جاء على شوق، وتمثلت بحديث من قال: "غدًا ألقى الأحبة، محمدًا وصحبه".

 

الخامس: نظرت إلى الناس أحبابًا وأعداءً؛ فلم يملك أحد لنفسه فضلًا عن غيره شيئًا، ولكنه التكالب على الدنيا، أو الحسد البغيض الذي يأكل القلوب، والحقد الدفين الذي يطرد الإيمان، فقلت لنفسي:

 

طلِّق الدنيا ثلاثًا والْتَمِسْ زوجًا سواها

إنها زوجةُ سوءٍ لا تبالي من أتاها

 

وإنها رأس كل خطيئة إن أحببتها، إذا حلَت أوحلت، وإذا جلت أوجلت، وإذا كسَت أوكست، فكم رفَعتْ لأهلها علامات، فلمَّا علا مات، وحاربتُ الحسد؛ فهو المرض الذي لا دواء له سوى الإيمان والقناعة؛ فكم أعيا الأطباء، وأيْئَس العلماء، وكما قال معاوية: عالجت كل المرضى إلا الحاسدين، عجزت في علاجهم؛ فهم أصحاب علَّة بلا مرض، وأهل مرض بلا علَّة، مرضهم الحسد وليس الغبطة، يتمنون زوال نعمة الله عن أصحابها، عياذًا بالله من هذه العلل، فتمثَّلت قول القائل:

 

أمتُّ مطامعي فأرحت نفسي فإنَّ النفس إنْ طمِعَت تهونُ

وأحييتُ القنوع وكان ميتًا ففي إحيائه عرضي مصونُ

 

وبقول القائل:

 

اصبر على كيد الحسو د فإن صبرك قاتلُهْ

فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكلُهْ

 

فاتخذت الدنيا مطيَّةً ذلولًا لآخرتي، وقنعت بما قسمه لي ربي:

 

فعشت غنيًّا بلا درهمٍ أَمُرُّ على الناس مثل الملِكْ

 

السادس: رأيت أن كل ساكن لا بد وأن يتخلَّى عن سكَنه طوعًا أو كرهًا، وأن مصير الإنسان إلى دار جديدة بعد رحيله عن دنياه، فأعددت ما يمكن إعداده من زاد التقوى ولباسها للسكن الجديد، وسمعت من ينادي قائلًا:

 

تزوَّدْ للذي لا بدَّ منه فإنَّ الموت ميقات العبادِ

أترضى أن تكون رفيقَ قومٍ لهم زاد وأنت بغير زادِ

 

فسُرَّ الأستاذ من تلميذه الأصمِّ، وأرجو أن نكون تلاميذ للقرآن الكريم والسنة المطهرة؛ كي نفوز فوزًا عظيمًا.

 

أخي القارئ، هيا نشد المئزر، ركضًا إلى الله بزاد التقوى، سائلين الله حسن الخاتمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر: مجلة التوحيد

 

 

 

post-125640-1315034536.png

  • معجبة 2

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

 

حوار أكثر من رائع!

قيم فعلا وملئ بالفوائد والعبر

 

جزاك الله خيرا على نقلك الطيب.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،،

 

جزاكِ الله خيرًا يا غالية على النقل القيم

 

كلمات كلها كالدر المكنون~

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

 

حوار أكثر من رائع!

قيم فعلا وملئ بالفوائد والعبر

 

جزاك الله خيرا على نقلك الطيب.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×