اذهبي الى المحتوى
"أم عبيد الله"

فقه تغيير المنكر

المشاركات التي تم ترشيحها

post-13806-1165449402_thumb.jpg

92ddd93918.gifفقه تغيير المنكر92ddd93918.gif

 

كــتاب قيم لـ "د / محمود توفيق محمد سعد"

 

تقديم بقلم : عمر عبيد حسنة

الحمد لله القائل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } .. ( آل عمران : 110 ) ، الذي جعل خيرية هذه الأمة وتميزها ، وقوامها ، وكيانها ، وخلودها ، واستمراريتها ، منوطا بقيامها بالحق ، والدعوة إليه ، والنشر له ، والإغراء به ، واستمرار حراسته ، والدفاع عنه ، حيث لم يرض الله لها ـ وهي أمة الرسالة الخاتمة ـ أن تكون صالحة بذاتها ، بل لا بد أن تكون صالحة بذاتها ، مصلحة لغيرها ، مضحية في سبيل تمكين الحق ، مدافعة للباطل ، حتى تستحق صفة الخيرية ، والتميز ، والفضل .

قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ( المائدة : 8 ) .

 

ذلك أن الخاتمية تعني فيما تعني : توقف النبوات : وتوقف النبوة ، يعني : توقف التصويب من السماء ، لأي منكر وخروج وانحراف ـ لذلك لا بد من أن تكون القوامة على الحق ويكون التصويب مستمرا ، لأن الشر من لوازم الخير، والمنكر من لوازم المعروف ، والتدافع بين الخير والشر ، والمعروف والمنكر ، من سنن الله الاجتماعية في الخلق ، قال تعالى : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } ( الرعد: 17 ) . وقال : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } .. ( الحج : 40 )

 

ولولا هذا الضرب ، بين الحق والباطل ، وهذا التدافع ، بين الخير والشر ، لتوقف التاريخ ، وانتهت الحياة ، وتوقف الاختيار ، ولم يبق أي معنى للتكليف وأي مدلول للابتلاء ، لذلك جعل الله التصويب في الرسالة الخاتمة ، وفي أمة الرسالة الخاتمة ذاتياً ، يمارس في ضوء قيم وهدايات وثوابت الوحي ، وجعله تكليفاً شرعياً ، يتحدد بمقدار الاستطاعة ، وسبيلاً لاستمرار الأمة ، ومناط خيريتها ، وتميزها ، كما أسلفنا .

ذلك أنه لا معنى لخلود الرسالة ، الذي يعني استمرار الحق ، واستمرار حراسته ، والقيام به ، وتقديم النماذج التي تجسدها في كل زمان ومكان ، إِذا لم يستمر التصويب ويستمر التجديد وإنتاج النماذج وتستمر الأمة القائمة به .

 

الصلاة والسلام علي الذي بُعث في الأمة رسولاً منها ، يتلو عليها ، آيات الله ، ويزكيها ، ويعلمها الكتاب والحكمة ، ويضع عنها إِصرها والأغلال التي كانت عليها ، يشهد عليها ، ويصوب مسارها لتتحقق لها صفة الخيرية ، وتتأهل بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها ، لتكون شهيدة على الناس إلى قيام الساعة ، فهي أمة القيادة بما أورثها الله من الكتاب ، واصطفاها له ، لأنها وحدها التي تمتلك الإمكان الحضاري ، إمكان التصويب ، بما اختصت من قيم السماء الصحيحة ، وتمتلك الشهادة على الناس ، ولهم ، بما تحقق لها من شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } ... ( الحج : 78 ) .

وبعد :

 

فهذا كتاب الأمة الحادي والأربعون : (( فقه تغيير المنكر )) للدكتور محمود توفيق محمد سعد ، الأستاذ في جامعة الأزهر ، في سلسلة كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات ، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر ، مساهمة منه في استرداد شخصية المسلم المعاصر المتوازن الذي يعيش التوحيد الحقيقي والانسجام العملي ، بين معارف وهدايات الوحي المعصوم في الكتاب والسنة ، ومدارك ومكتسبات العقل ، أو بين صحيح المنقول ، وصريح المعقول ، كما يقول الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ويتخلص من الثنائية وألوان الشرك الذي يؤدي إلى الانشطار الثقافي والمعرفي ، الذي كان ولا يزال وراء التمزق والضلال الثقافي ، للوصول إلى إعادة إخراج الأمة المسلمة ، وتحقيق شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها ، وبناء خيريتها ، لتكون مؤهلة للشهادة على الناس والقيادة لهم ، هذه الخيرية التي تجيء ثمرة لتكليف ، ومجاهدة ، ومعاناة ، وتضحيات في سبيل التصويب والمناصحة ، التي تحققها حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لتقويم سلوك المجتمع المسلم بشرع الله ، وحمل الرحمة للإنسانية جمعاء ، وإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان الذي هو مصدر الشر

 

والشرك في العالم ، وتأمين حرية الإنسان في الاختيار ، وتحقيق عبوديته لله ، وتحريره من سائر العبوديات ، وفي ذلك استرداد لإنسانيته ، وتحقيق لكرامته ، التي تميزه عن سائر المخلوقات .

 

وهـذه كـانت المقدمـة.... تابعن معي أخواتي الـفصل الأول "التغيير ضرورة وغاية

".

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،،

 

جزاك الله خيرا اختي الحبيبة

متابعين معاك

واصلي

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

حيا الله الحبيبة أم عبيد الله :)

 

قد أبدعت و الله أخية في اختيارك التحفة .. فالله نسأل أن يبارك فيكِ و في نقلك !

 

معكِ يا حبيبة ..

فما أقل الزاد ! .. و ما أطول الطريق !

 

و إن كان الطريق طريق ورود و زهور ..

فإنه لا يخلو من وخز الإبر ! .. و قسوة الحنظل !! فكم توحشه نثرة الإخوان !

 

و الله نسأل أن يكون في هذه السطور الخير الكثير لكل من قرأ معنا و تابع .. فشارك !

 

و حيا الله مسبقاً السابقات .. فنحن نقوى بهن ! .. و كذا هن !

 

 

في انتظارك

 

 

 

اللهم صل على الحبيب ..

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

(الغالية البارعة)

وجزاكِ الله خيراً على مرورك العطر

تـسعدني متابعتك

 

(المشرفة الحبيبة المهاجرة)

والله كم أسعدني مرورك العطر وكلماتك الرقيقة

بـارك الله فيكِ مشرفتي الغالية

وتسعدني متابعتك .....

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

الفصل الأول

"التغيير ضرورة وغايةً"

إن منهج الإسلام في بناء المسلم عقيدةً وسلوكا لا يرمي إلى أن يجعله صالحاً في نفسه فحسب ، بل يتجاوز ذلك إلى أن يجعله الصالح المصلح ، فيه يتحقق الوجود المتمكن للأمة المسلمة ، وبه ترتقي الأمة من طور الاتصاف ( بالإسلامية ) انتساباً إلى أفق ( المسلمة ) سلوكا ووجودا .

المسلم الصالح في نفسه فحسب ، به تكون الأمةُ الإسلامية ، ولا تقوم به الأمة المسلمة ، فإنَّ المسلمة أمة صالحة في نفسها مصلحة ما حولها . ومن ثمَّ كانت دعوة الإٍسلام رامية دائماً إلى الصلاح والإصلاح معاً ، ولن يكون إصلاح البتة إلا بتحقق الصلاح الذاتي وتمكنه .

يقول الله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ( التوبة : 71 ) .

{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } ( طه : 132 ) .

{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } ( الحج :40ـ 41 ) .

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } ( التحريم : 6 )

في تلك الآيات وغيرها يمتزج الصالح بالمصلح ليشكل كنه المسلم الذي به تقوم الأمة المسلمة ، التي لا تستقيم حركة الحياة بغير قيادتها وريادتها .

وفي السنة أحاديث كثيرة ، يمتزج فيها الصلاح بالإصلاح :

ن درة بنت أبي لهب ، قالت : « قام رجُلٌ إلى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو على المنبر فقال : يا رسول الله ! أيَّ الإسلام خير ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : خير الناس أقرؤهم وأتقاهم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم » . امتزج الصلاح الذَّاتي ( أقرؤهم وأتقاهم ) بالإصلاح الجمعي ( آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر ، وأوصلهم للرحم ) ، فليس ( الإقراء ) حسن التلاوة والحفظ فحسب ، بل هو إلى ذلك أيضا : حسن فقه ما يقرأ ، وحسن تطبيقه وطاعة ما به أمر وعنه نهي .

فالأمة المسلمة لا يكون المرء فيها صالحاً في نفسه ، منصرفا عن غيره، مشتغلا بحاله ، بل هو صالح في نفسه ، ومصلح لما حوله ثانيا : إنسانا وكونا .

والحق عز وجل جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس بصلاحها وإصلاحها معاً : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } ( آل عمران : 110 ) .

 

فهي أمة أخرجت للناس ، أي لما فيه صالحهم ، وقد جعل قوله : { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } ... إلخ شرط هذه الخيرية، وبيان كونها أخرجت للناس ولمصلحتهم . وقد فقه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ذلك فقها بالغاً ، فتحققت بهم فقها وسلوكاً الأمة المسلمة ، كما يحبها الله تعالى : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ قال : لو شاء الله لقال ( أنتم خير أمة ) فكنا كلنا ولكن قال (كنتم) فهي خاصة لأصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن صنع صنيعهم ، قوله ( من صنع صنيعهم ) : بيان أن من تحقق فيه كما تحقق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاح والإصلاح في القرون التالية إلى يوم القيامة ، فهو منهم .

وقد فسرها أبو هريرة أيضا تفسيرا كاشفا عن حقيقة هذه السِّمة الرافعة للأمة من طور ( الإسلامية ) ، إلى أفق ( المسلمة ) :

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال : خير الناس للناس : تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم ، حتى يدخلوا في الإسلام.

 

يس في هذا دعوة إلى إكراه الناس على الإسلام ، وقسرهم عليه ، فإن سيدنا أبا هريرة أفقه وأحكم من أن يفسرها تفسيراً يصطدم مع قول الله تعالى :

{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } ( البقرة : 256) .

ولكنه فسرها تفسير أهل الحكمة والبلاغة العالية : إنه يريد ، إنكم تكونون خير الناس للناس ، إذا ما دعوتموهم إلى الإسلام بالحكمة والقدوة والأسوة والسلوك الملتزم هدي الله تعالى في كل حال ، وبالحلم والأناة والصبر والمصابرة فتأسرونهم وتأخذون بمجامع قلوبهم وعقولهم فقهاً وسلوكاً ، فينقادون لكم وللدخول في الإسلام إعجاباً واقتناعاً ، كانقياد الأسير المغلول في السلاسل ، فهو أسر دعوة وقدوة وأسوة ، لا أسر أغلال وأصفاد ، فسيدنا أبو هريرة عليم بأن قسر امرئ على عقيدة ما ، لا يكون خيراً له ، ولو أنه أراد ظاهر عبارته لكان صدرها متناقضاً مع عجزها ، كما لا يخفى ، وأبو هريرة ، أحكم من أن يختلط عليه ما يقول .

ففي الآية بيان حقيقة الأمة المسلمة ، وقوامها : فعل الخير والدعوة إليه والإعانة عليه ، وترك الشرِّ والنهي عنه ، حتى تستقيم حركة الحياة ، فإن بذلك بقاء الحياة وصلاحها ، ولذلك جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحياة في هذه الأرض كمثل الحياة في سفينة تمخر عباب البحر ، لا نجاة لها ، ولمن فيها ، إلا بالدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والأخذ على أيدي المفسدين .

 

تـابعن معي "بيان السنة ضرورة التغيير"

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

"بيان السنة ضرورة التغيير"

 

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : « مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها ، إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ، ولم نؤذِ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادُوا هلكُوا جميعا ، وإن يأخذوا على أيديهم ، نجوا ونجوا جميعا » .

الصورة التي يقدمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لواقع الحياة على هذه الأرض ، وعلائق الناس فيها ، ببعضهم ، ومسؤوليتهم في الحفاظ على بقائها وصلاحها صورة منتزعة من واقع مشاهد ، لا يتأتى لأحد أن يجادل ، أو يتوقف فيه البتة ، فلن يكون منه إلا التسليم بما ينتهي إليه التصوير والمقارنة والموازنة ، من هدي يأخذ بأيدي الناس إلى التي هي أهدى وأقوم ، اقتناعا واطمئنانا ، فينقادون إليه انقياد ذي الأغلال ، إلى خير ، يرمى به إليه .

 

شبه الرسول صلى الله عليه وسلم ، القائم على حدود الله تعالى ، المراقب لها ، الواقف عند حماها في جميع شأنه ، والواقع فيها ، الراتع المنهمك المستمر في انتهاكها ، فلا يرعوى ، يشبه هذين الصنفين ـ وفي رواية لأحمد يضيف إليهم المداهن في حدود الله . المصانع المنافق ، المزين لانتهاك الحرمات ، الساكت عن ذلك . الانتهاك ، تحت ستار الحرية ـ يشبه هذه الأصناف الثلاثة وعلائقهم ببعضهم على ظهر هذه الأرض ، بقوم شاءوا السفر في سفينة تمخر عباب البحر ، فكان بينهم استهام المنازل واقتسامها ، فكان لبعضهم أعلاها ، وكان لبعضهم أسفلها ، وهو أوعرها وشرها كما في رواية لأحمد ـ وكذلك منازل الناس في الحياة على هذه الأرض ـ وكان الذين في أسفلها في حاجة إلى أن يستقوا ماءً ، فإذا استقوا مرّوا على من فوقهم ، النازلين اقتراعاً أعلى السفينة ، فكان ضرورة أن يَصُبّّ الأسفلون عند مرورهم على الأعلين ، فتأذى الأعلون ، وفي رواية للترمذي وأحمد « فقال الذين في أعلاها : لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا » فثقل ذلك على الأسفلين : كما في رواية لأحمد « فقال الأسفلون : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا فاستقينا منه ولم نمرَّ على أصحابنا فنؤذيهم » ،وفي رواية للبخاري : « فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا : ما لك ؟ فقال : تأذيتم بي ولابد لي من الماء » وهنا برز صنيع المداهنين المصانعين ، الذين يبغون الفتنة في الأرض ، تحت شعار الحرية الشخصية ، فقال بعضهم كما في رواية للإمام أحمد : « إنما يخرق في نصيبه » ، وقال الآخرون : لا ، فإن أخذوا على يدي ذلك الخارق ، ولم ينخدعوا بمقاله المداهن، الرافع شعار (( الحرية الشخصية )) نجا الجميع ، وإِن تركوه يخرق في نصيبه خرقاً هلكوا جميعاً.

هذا التفصيل لوقائع الأحداث في المشبه به ( أصحاب السفينة ) يشير إلى وقائع مثلها في حياة الناس ، في هذه الأرض .

والرسول صلى الله عليه وسلم ـ اختار موقع أحداث المشبه به سفينة ، وهو مكان دال على عظيم تعرضه للمخاطر الجسام ، التي لا تخفى ، ليهدي الناس إلى أنَّ هذه الأرض ، وما عليها ، لا تقل تعرضاَ للمخاطر الجسام عما تتعرض له السفينة في بحر لجيَّ ، قد تكون خطايا بعض ساكنيها سببا لهلاك جميعهم حين لا يأخذون على أيديهم .

 

قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }{ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (الأنفال : 24 ـ 25 ) .

يتــبع هذا الجزء..

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

الـــتكــملة

 

هذه الصورة الكلية التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم ، ببيانه الحكيم تجمع بين واقعين متشابهين متماثلين : واقع ممتد عبر الحياة زماناً ومكانا ، هو واقع القائمين على حدود الله ، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وواقع الواقعين فيها ، التاركين للمعروف ، المرتكبين للمنكر ، وواقع المداهنين المصانعين في الحق ، الساكتين على الشر ، يقابل ذلك الواقع واقع قريب إلى الأذهان والأبصار لا يكاد يغفل عنه ، أو يجهله أحد من الناس ، هو صورة المشبه به : صورة تجعل المتلقي كأنه يرى الأحداث تجري أمام عينيه : يرى سفينة في بحر لجيّ ، يقبل قوم على الإبحار فيها ، ويرى تقاسم القوم ، واستهامهم مواقع فيها ، فإذا قوم في أعلاها ، وقوم في أسفلها . هكذا تبدأ الأحداث ، دون أن يكون فيها ما يخرجها عن سنن العدالة ، وكذلك تبدو الحياة على الأرض ، ثم تأتي ضرورات الحياة وحاجاتها ، وأثرها في مجرياتها ، وعلائق الناس بعضهم ببعض وفقا لمناهجهم في التعامل مع تلك الضرورات والحاجات ومن تكون عندهم ، فالأعلون ممتعون بالاستقاء دونما حاجة إلى مرور على غيرهم ، فتتحقق ضروراتهم وحاجاتهم دونما اصطدام بالآخرين وكذلك طائفة من الناس في هذه الحياة .

والأسفلون يقتضي تحقيقهم ضرورات حياتهم ومصالحهم المرور على غيرهم والاصطدام بهم ، فإذا هم أمام أمرين عظيمين :

· ضرورة تحقيق ضروراتهم وحاجاتهم .

· ضرورة الاتصال بالآخرين والاحتكاك ببعض شؤونهم .

وتلك حال الجمهرة الكاثرة من الناس في هذه الحياة ، وهنا تكون الحكمة والحنكة ، وتقدير الأمور بمقاديرها ، وفقاً لما يقضي به حسن البصيرة والفراسة ، واستبصار العواقب من الأسفلين ، ومن شاكلهم ، وهنا يكون الإيثار والصبر الجميل ، والاحتساب والفضل من الأعلين ، ومن شاكلهم .

الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هديه هذا يرسم لنا صورة لما هو الغالب على الطائفتين في الحياة : الأعلين والأسفلين ، فلا أيثار ولا احتساب ولا فضل من الأعلين ، ولا حكمة ولا حسن بصيرة من الأسفلين . فيصور لنا الأعلين ، وقد تأذوا من مرور الأسفلين عليهم ، والمرور حقهم وضرورة من ضروراتهم ، فكان هذا من الأعلين غير حميد .

 

إِنَّ اقتسام الأشياء عدالة وارتضاء ، لا ينفي أن يكون للآخرين بها بعض الحق ولو من وجه خفي ، فليس الذي يملكه هذا ، بِخال من حق الآخرين فيه ، فكل أمر الإنسان وشأنه وماله من الموجودات حساً ، ومعنى ، لغيره فيه بعض الحق : جسده وعقله وقلبه ، ماله وولده وعلمه ، تقواه وقدره وجاهه ... إلخ .

وما يكون لأحد ، ولا ينبغي له أن يتبرم من أن يستعمل الآخرون ما لهم من حق ، فيما ملكت يده بفضل الله تعالى . وغير قليل من الناس تضيق نفوسهم حين يطلب الآخرون حقوقهم عندهم ، فترتسم آيات الضجر على الوجوه ، وقد تلفظ الأفواه كلماتٍ طاعنات ، وقد تمتد الأيدي ، بما يؤذي الطالبين حقاً لهم ، وما ذلك بالمنهج الأمثل في الإسلام .

الأمثل إسلاماً ، إظهار البشاشة والرضا ، حين يطلب الآخرون حقوقهم ، بل من حقهم على من تكون حقوقهم في أيديهم ، أن يبثوا في نفوسهم رضاهم باستخدام حقهم المتعلق بما ملكت أيديهم ، ويوحون إليهم ، أن أخذه منهم أحبُّ إليهم ، أو كمثل حبهم هم ، أن يأخذوا ما لهم عند غيرهم ، فقد هدى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله : « لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه » .

وفيما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من حال الأعلين ، تصوير لما يكون من بعض الأمة من دافعات إلى الخطايا ، وإن كثيراً مما يقترفه الجاهلون ، يحمل جمع من غيرهم أوزار حملهم عليه واضطرارهم للتردي فيه ، بما يكون منهم ، من أساليب حاملة على ذلك . منها ما هو مقصود ، ومنها ما هو عن غفلة وجهالة.

 

يــتبع هــذا الجزء....

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

التكمـــلة

 

من مسؤولية الأعلين ومن ضارعهم في الأمة ، أن يعتصموا من حمل غيرهم على التردي في الخطايا .

الغني حين يمتنع عن أداء زكاة ماله ، أو يتأخر في إخارجها ، يحمل بعض الفقراء على التردي في بعض الخطايا : سرقة ، أو استجداءً أو احتيالاً ، فتُخرَقُ السفينة .

الزوج حين يحرم زوجه من بعض حقوقها الحسية والمعنوية ، يحملها على أن تسقط في مستنقع النشوز أو الخيانة ، فتُخرقُ السفينة .

الأب حين يحرم بنيه بعض حقوقهم ، يحملهم ، على التردي في هاوية العقوق ، فتُخرقُ السفينة .

المعلم حين يحرم تلاميذه بعض حقوقهم ، فلا يحسن إعداد نفسه علماً وصنعة ، ولا يخلص في تعليمهم ، يحمل بعضهم على أن يختلس العلم ، أو يسرقه عند اختباره ، فتُخَرقُ السفينة.

ولي الأمر الأعلى حيث يحرم شعبه حقه عليه ، في أن يحكمهم بما شرع خالقهم ، لا بما شرعه هو ، وبطانته ، يحملُ شعبه أو بعضه على أن يخرق السفينة خرقاً لا يكاد يصلح : يسقط حبه وهيبته والثقة فيه من نفوسهم ، وتمتلئ القلوب والعقول كرهاً وادعاء خيانة ، فيسهل على الدهماء الخروج عليه ، فيفسدون في الأرض ، فتُخرَقُ السفينة . والمسؤول عن ذلك هو ولي الأمر وبطانته ، إذ منع شعبه حقه .. وإذا ما كان الدال على الخير كفاعله فإن الحامل لغيره على الشر كفاعله .. وما خرجت أمة قط على إمام عدل ، فالعدل أساس الملك ، ولا يكون عدل البتة إذا لم يك وفقاً لما أنزل الله عز وجل .

إن الحكمة لتقتضي بأن ليس الصلاح أن لا تفعل الشر ، بل وألا تحمل الآخرين عليه ، بل وأن تعينهم على الاعتصام من التردي في خباله .

والرسول صلى الله عليه وسلم يصور لنا حال الأسفلين في السفينة بين شقي الرحى : حاجتهم إلى الماء ، وهو ضرورة الضرورات ، وتأذي الآخرين من المرور عليهم .

فإذا بالبصائر تغشى فلا تقدر الأمور قدرها ، ولا تتفرس في الواقعات عواقبها ، فينظرون في أخف الضررين فيحتملونه .

وقد كشف لنا النبي صلى الله عليه وسلم ما هو غالب على الدهماء حينذاك: الافتتان بحق الملكية والحرية الشخصية ، التي يظن أنها المطلقة اليد ، تفعل فيما تملك ما تشاء ، فيرين على الألباب ، ما يطمس نورها ، فتهتف الضلالة فيهم : « لو خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا » .

كلمات تقال ، تحمل في ظواهرها طيب المقاصد ، وحسن الدوافع ( في نصيبنا ) ( لم نؤذ من فوقنا ) كلما فاتنة ، تلقي بالغشاوة على البصائر فلا تنفذ في عقبى الأشياء ، ولكن من تحت تلك الكلمات الطامة ، التي لا تبقي ولا تذر .

كلمات هي أصل الداء ، وجرثومة الفساد ، في كثير من الحياة . كلمات يغشى بريقها البصائر فلا تفقه كنهها ، ولا يفقه قائلوها فلسفة الامتلاك في الإسلام : ليس المرء بمطلق اليد فيما يملك بفضل الله تعالى . ثم يزعم أنه يفعلها لكيلا يؤذي غيره ، وهو في حقيقة فعله لا يؤذي فحسب ، بل هو يدمر ويمحق .

حين يستقيم تصور الإنسان حقائق الامتلاك في الإسلام ، تستقيم حركته وسلوكه فيما يملك ، فيعلم أن لحرية التصرف فيما ملكه الله تعالى ، حداً يقف عنده ، لا يتعداه ، لأن في تعديه ضربا من الاعتداء على الآخرين .

 

« عن سمرة بن جندب أنه كانت له عضدُ من نخله في حائط رجلٍ من الأنصار ، قال ومع الرجل أهله . قال فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه ، فطلب إليه أن يبيعه ، فأبى ، فطلب إليه أن يناقله ، فأبى ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى ، فطلب إليه أن يناقله ، فأبى ، قال : (( فهبه له ، ولك كذا وكذا )) أمراً رغبة فيه فأبى ، فقال : (( أنت مضار )) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري : (( اذهب فاقلع نخله » .

فهدى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنَّ حرية تصرف المرء فيما يملك غير مطلقة ، بل تحكمها ترك المضارة ، سواء ما كان منها جهالة ، وما كان منها عمداً .

 

يـتـبع هذا الجزء

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إن حال أهل السفينة كما صوره الرسول صلى الله عليه وسلم من الجلاء والبديهة العقلية والمسلمة الفطرية ما يجعله بعيداً عن الجدال ، أو التوقف فيه ، وهذا ما يجعل إقامته مقام المشبه به حال الدنيا ومن فيها : علائق ومسؤولية ، حقاً وواجباً ، أمراً يستوجب التسليم المطلق ، بأن حكم العقل في حال الدنيا ، ومن فيها ، حكم السفينة وأهلها : علائق ومسؤولية ، وحقاً واجباً ، وأن التوقف في ذلك خطيئة عقلية تقذف بصاحبها خارج أفق الإنسانية ، فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم من بعد أن أبان علاقة القائمين على حدود الله في الدنيا ، بالواقعين فيها ، وبالمداهنين ، قد أقام الحجة على كل ذي عقل ، أنَّ صلاح المرء في نفسه غير كاف ، بل فريضة عليه أن يكون صالحاً ، وأن يكون مصلحاً ما حوله ، قائماً بالاحتساب والرقابة الراشدة على ما حوله ، فلا يدع أيدي العابثين ممتدة بالشر .

 

فأقام الإنسانية أمام فريضة تغيير المنكر ، ومنع أهله منه ، والأخذ على أيديهم أيَّا كانت نياتهم ومقاصدهم ، قياماً لا تستطيع الفكاك منه ، والتخلي عنه ، أو التوقف فيه ؛ لأن في هذا التوقف والتخلي إخراجاً لها من أفق الإنسانية المسلمة وقذفا بها في حمأة الجاهلية وخبالها .

وهو صلى الله عليه وسلم باختياره عناصر المشبه به على هذا النحو ، أبلغ في هدي الأمة إلى أنَّ فريضة تغيير المنكر ضرورة حياة ، لا ينظر فيها إلى دوافع فعل المنكر ونوازعه ، فإن كثيراً من الماحقات قد يكون مبعثها حسن نوايا الجاهلين الحمقى .

إن حسن النية وحده ، لا يثمر خيراً ولا يهدي إليه ، إلا إذا كان هذا الحسن ثمرة علم وفقه ، وحكمه وبصيرة ، فأغلق بذلك البيان الباب ، في وجه من يتوانى عن تغيير المنكر الواقع اغتراراً بحسن نوايا فاعليه .

وأغلقه في وجه من يتوانى عن التغيير ، اغتراراً بالحرية الشخصية ، التي بدت في قول المداهنين (( إنما يخرق في نصيبه )) .

 

هذه المقابلة الإبليسية ( إنما يخرق في نصيبه ) إنما يرفعها لواءاً جمهرة من المداهنين المرجفين في المدينة ، يدلسون بهذه الأغلوطة الإبليسية ( الحرية الشخصية ) على الدهماء ، الذين يلهثون خلف كل ناعق ، بما يرفع عنهم تكاليف الصلاح والإصلاح ، ويبهرج لهم أغلوطاته ، بما تشتهيه نوازع الحيوانية فيهم . فما من مذهب فلسفي أو سياسي أو اجتماعي أو فني ، أراد أن يضرب في الأمة المسلمة فيوهي بنيانها ، فيصرف الناس عن الاستمساك بالهدي ، إِلا رفع شعاراً ( أغلوطة ) الحرية الشخصية : إنما يخرق في نصيبه.

هذه المذاهب وإن تغايرت وتناحرت فيما بينها ، منهجاً وحركة ، فالذي يوحد بينها الرغبة الجموح ، في صرف الناس عن التعاون على تحقيق الوجود المتمكن للأمة المسلمة ، فلا تجد فتنة في الناس أسرع وأنكى من أغلوطة الحرية الشخصية.

جاء في ميثاق إِبليس : بروتوكولات حكماء صهيون :

(( كذلك كنا قديماً ، أول من صاح في الناس : (( الحرية والمساواة والإخاء )) ، كلمات ما انفكت ترددها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة ، متجمهرة من كل مكان حول هذه الشعائر ، وقد حرمت بترددها العالم من نجاحه ، وحرمت الفرد من حريته الشخصية الحقيقية ، التي كانت من قبل في حمى يحفظها من أن يخنقها السفلة )) .

(( إن كلمة ( الحرية ) تزج بالمجتمع في نزاع مع كل القوى حتى قوى الطبيعة وقوة الله )) .

وإذا ما كان النبي صلى الله علي وسلم قد هدى حين أخبر أنه ستكون فتنةُُ ، فسأله الصحابة: فما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : « كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله » ، وهو ما استند إليه وإلى غيره من آيات الله والحكمة ، أهل العلم والدعوة فتنادوا مخلصين : الإٍسلام هو الحل ، إذا ما كان ذلك فإن المرجفين في الأمة الساعين في الأرض فساداً يرفعون شعاراً (( الليبرالية هي الحل )) على الرغم من أن (( الليبرالية قد اتخذت الحرية المطلقة الأساس شبه المقدس لها )) ، ومن الحرية اشتق لها اسمها الكاشف عن حقيقتها وكنهها .

 

ما (( الليبرالية )) في حقيقتها إلا رفض سلطة الدين في شؤون الحياة عقيدة وشريعة ومنهج حياة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ، وإن حاول بعض دهاقنتها ، خداع الدهماء ، في بيان حقيقتها ، بما لا ينفرهم منها ، فيبهرجونها في بادئ الأمر لهم ولا يقدمون لهم ، في مفتتح دعوتهم لها ، ما يمكن أن تنتبه له بعض عقول الدهماء فينصرفوا عنها .

يزعم دهاقين (( الليبرالية )) الخارجة من عباءة (( الماسونية )) ، أن (( الليبرالية )) دعوة إعلاء شأن الفرد وحريته في الاختيار ، والانتماء ، والملكية ، والقرار ، وحقه في المشاركة في عقد اجتماعي ، يرتضيه في ظل مجتمع ، يوفر كافة ضمانات الحرية بأشكالها الديمقراطية والتوازن الطبيعي في المجتمع )).

كلمات يغشون بها على عقول كثير من الدهماء ، فيتمكنون منهم ويسعون بهم إلى تقويض الوجود المتمكن للأمة المسلمة ، ومن خلال تبني سياستهم القائمة على (( إطلاق الحرية الدينية كاملة ، وعادلة ، ومتساوية ، وبلا انحياز ، وأن الدولة مهمتها توفير الحرية لكل الأفراد ، وحماية مصالحهم المدنية ( كذا) وملكياتهم الخاصة ، وعلى السلطة عدم التدخل في الشؤون الدينية إلا إِذا كانت بعض الأعمال التي يقوم بها أصحابها بدعوى الدين ، تعد محرمة أو مجرمة أصلاً لأسباب غير دينية )) .

 

يتــبع...

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

الفصل الثاني

التغيير ضرورة وغاية

 

إن وجود المنكر في المجتمع أمر طبيعي ، لا يخلو منه مجتمع في أي حقبة من حقب الحياة ، ولكن الذي ليس من الطبيعي أن يرى أبناء المجتمع المنكر ، فلا يسعون إلى تغييره (!) ، وفي التغيير بقاءُ الحياة على النحو الذي يحبه الله عز وعلا .

ولما كانت غاية تغيير المنكر عظيمة ، وكان فريضةً وضرورة حياة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين منهاج التغيير وآلياته ووسائله ، والضوابط والآداب ، حتى لا تضل الأمة في قيامها بتلك الفريضة ، فتسلك بها غير السبيل القويم ، أو تتخذ وسيلة غير التي تكون لها .

 

وبيان النبوة لوسائل (( تغيير المنكر )) وضوابطه ، يقيم الأمة على المحجة البيضاء ولا يبقي لها عذراً في التقاعس أو التكاسل عن القيام بهذه الفريضة ، فكان البيان شافياً شاملاً ، لا يكاد يفلت منه واحد من الأمة ، مهما كان موقعه في الحياة ، ومهما كانت قدرته واستطاعته ، مما يدل على أن منزلة (( تغيير المنكر )) ، من مقومات شخصية المسلم ، الذي به قيام الأمة المسلمة .

 

تابعــن معي "بيان النبوة وسائل التغيير"

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بيان النبوة وسائل التغيير

(( عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان » ( رواه مسلم ) .

الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه (( مسلم )) والأربعة وأحمد قد بين السبل ، التي يسلكها المرء إلى التغيير ، فصدّوه بقوله : « من رأى منكم منكرا فليغيره » ثم بين آلات التغيير وسبله من بعد ذلك ، ناظماً لها نظماً أولياً ، فلا يتخلى المرء عن سبيل ، إلى الذي بعده ، إلا إذا أعذر نفسه ، وأيقن أن ليس في طوقه القيام بالتغيير من خلال السبيل الذي ترك .

ولبيان ما هدى إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً مفصلاً يجلّي الدقائق ويحرر القول ويفصل المشتجرات حتى لا يبقى عذر لمعتذر ، سيكون بياننا على النحو التالي :

· بيان المنكر : حقيقته وشروطه ..

· بيان المغَيَّر : شروطه وآدابه .

· بيان ذي المنكر وشروطه .

· بيان وسائل التغيير : شروطها وآدابها .

تم تعديل بواسطة "أم عبيد الله"

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بيان المنكر الواجب تغييره : الحقيقة والشروط

كلمة ( منكر ) بضم الميم وسكون النون ، وفتح الكاف ( مُفْعَل ) مثل ( مُكرم ) اسم مفعول من ( أُنكرِ ) المبني لما لم يسم فاعله ، أي جُهِل ولم يعرف .

وقد اختلفت عبارة أهل العلم في بيان حقيقة المنكر ، فمنهم من عرَّفه بما هو أعلى صوره ، ومنهم من عرفه ببعض صوره ، فلم تكن التعاريف كاشفة عن حقيقة وماهية المنكر الواجب تغييره .

ذهب (( أبو العالية )) إلى أن المنكر عبادة الأوثان ، وهذا أعلى أنواع المنكر ، ولا يتصور أنه يقصر حقيقته عليه ، فإنه من العلم والحكمة بمكان عظيم .

ومساق الحديث من رواية (( أبي سعيد )) ، دالُُ على أن المنكر الذي قام رجل لتغييره ، ليس من عبادة الأوثان ، وإنما هو تقديم خطبة العيد على الصلاة .

ولذلك قال (( الفخر الرازي )) : رأس المنكر الكفر . فجعله رأس المنكر ، وما عداه من الكبائر دونه وداخل في المنكر .

وقال الجصَّاص في (( أحكام القرآن )) : المنكر هو ما نهى الله عنه .

وقال الألوسي : المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع .

وقال علي القاري : المنكر ما أنكره الشرع وكرهه ولم يرض به .

وقال الراغب الأصفهاني : (( المنكر كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه ، أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول ، فتحكم بقبحه الشريعة )) .

والذي نذهب إليه أن (( المنكر )) الذي يجب على الأمة تغييره ، هو ما خالف الشرع كتاباً وسنة مخالفة قاطعة .

وسواء في هذا ، أن تكون المخالفة لما أمر به الشرع إيجاباً أو لما نهى عنه تحريماً ، وسواء كانت المخالفة تركاً بالكلية ، لما أمر به الشرع أو زيادة عليه بغير نص ، أو نقصاً منه بغير عذر ، أو تغييراً فيه ، أو تبديلاً في ذاته ، أو فيما يتعلق به زماناً أو مكاناً أو كيفية أو وسيلة . فكل مغايرة ذاتية أو عريضة فيما أمر به الشرع هي منكر ، ومثل ذلك تماماً المخالفة بالفعل لما نهى عنه ، مخالفة كلية أو غير كلية .. إلخ .

وسواء في هذا ـ أيضاً ـ أن يكون الأمر أو النهي تصريحاً ، أو تلويحاً ، تفصيلاً أو إجمالاً .

تلك حقيقة المنكر الذي يجب على الأمة تغييره ،

وهو يشترط فيه شروط أهمها : *أن يكون المنكر متفقاً على إنكاره لثبوته بالكتاب أو السنة ، بحيث لا يكون إنكاره محل خلاف بين أهل العلم الموثوق بهم من ذوي الاختصاص والتقوى فإن كان محل اجتهاد واختلاف ، فليس مما يجب على الأمة تغييره ، بل يكون لمن ذهب إلى أنه منكر على الراجح عنده وأن يدعو إلى تركه من باب النصيحة إلى ما هو الأعلى والأليق بالمسلم .

وغير قليل من أحكام الشريعة المستمدة من الكتاب والسنة بغير طريق العبارة والمنطوق ، هو مناط اختلاف بين أهل العلم .

وكل ما أدى إلى منكر محقق هو نفسه منكر ، يجب تغييره ، فمن تيقن أن هذا العنب لا يزرع إلا ليصنع خمراً ، كانت زراعة العنب بهذا الغرض منكراً فوجب تغييره ، ومن تعلم الطب ليؤذي المسلمين ، أو يكشف عورات نسائهم ، كان تعلمه الطب منكراً ، يجب تغييره ... إلخ

وتحقيق هذا الشرط من الأمور المهمة ، التي قد يتساهل فيها بعض الناس ، فإن تحقيقه على الوجه الصحيح ، لا يكون إلا ممن جمع بين العلم والحكمة ، إذ العلم يحقق له الوقوف على وجوه الدلالة في النصوص ، ووجوه اصطفاءات الأئمة ، والوقوف على دقائق العلم .

والحكمة تحقق له سعة الأفق ، ونفاذ البصيرة ، إلى عقبى الأحداث ، فلا يغتر برأي فطير ، عليه مسحة من زخرف القول ، أو وهج الحماسة ، واندفاع الشبيبة ، بل يكون له من الحكمة والروية ، ما يجعله يقف على حقائق الأشياء .

وإذا ما كان تحقيق الوقوف على ما اتفق عليه أئمة أهل العلم ، وما اختلفوا فيه من الكدى التي لا يكاد يجتازها إلا الخاصة فكيف بتحقيق الحكمة مع ذلك ؟ إنَّ غير قليل ممن استطاع التفوق في فقه الدين ، فقه تصور ، ليفتقر إلى كثير من الحكمة في توظيف هذا الفقه ، توظيفاً مثمراً متناغياً مع الفطرة الصافية ، وحركة الحياة المسلمة .

· أن يكون المنكر موجوداً متيقناً ، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « من رأى منكم منكرا فليغيره » فقوله ( رأى ) دال على وجوب العلم بوقوع المنكر ، علماً محققاً ، أو بإقدام صاحبه عليه لا محالة ، كأن يتيقن أنه يدبّر لقتل آخر أو لشرب خمر ... إلخ . وأن الشواهد والقرائن قاطعة بعزمه على إيقاعه ، فإن من المنكر ما يكون تغييره بمنعه منه ، قبل وقوعه ، بأي سبيل من سبل المنع المشروعة ، وهو في هذا يكون أقرب إلى النهي عن المنكر ، منه إلى تغييره ، فإن النهي أعم من التغيير .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بيان المغِّير المنكر : شروطه وآدابه

إذا ما كان تغيير المنكر ، عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى ، فإنه يشترك مع بقية العبادات في بعض الفرائض :

· أن يكون القائم بالتغيير مكلفا ، وأساس التكليف : العقل والبلوغ ، فمن جنَّ عقله ، أو أصابه فيه داء ، فقد أعفي من فريضة التغيير ، ما بقي الجنون أو الداء ، ومن لم يبلغ الحلم ، لا يجب عليه التغيير لمنكر رآه ، فإن كان مميزاً عارفاً بالمنكر قادراً على تغييره صحَّ له أن يغيره ، ولا يجوز منعه من ذلك

كما لا يجوز حمله على التغيير ، إلا على سبيل تدريبه على الطاعات من قبل وجوبها عليه ، على أن يكون ذلك تحت إمرة وليه .

 

· أن يكون مسلماً ، فإنَّ أي عبادة لا تقبل بغير إسلام ، ولا تفرض من قبل الدخول فيه ، فلا يتصور أن تفرض على غير المسلم ، أن يغير ما تنكره شريعة هو لا يؤمن بها ، وإن كان ذلك منكراً في شريعته ، التي يؤمن بها أيضاً ، فنحن غير مكلفين بحمل غير المسلمين على التمسك بشرائع عباداتهم ، التي يتفق بعضها مع بعض ما في الإسلام ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحمل يهود المدينة على ترك الربا ، وهو المحرم في توراة موسى عليه السلام ، مثلما هو محرم في الإسلام ، إلا إذا تحاكموا إلى المسلمين ، فيحملون على حكم الإسلام وحده ، لأنهم تحاكموا إليه طواعية .

فإذا أعان غير المسلم على تغيير المنكر ، أثيب على إعانته تلك ، بما يليق بها من نعم الدنيا ، ولا يصح منعه من أن يعين على ذلك إلا إذا خرق شروط التغيير وآدابه .

· ولا يشترط مع الإسلام العدالة ، فكل مسلم يجب عليه تغيير المنكر على الوجه الذي هو أهل له ، وليس بلازم أن يكون غير مرتكب للمنكرات . ذلك ما عليه أهل العلم فإن للفاسق بل عليه أن يغير المنكر ، إلا إذا كان لا يقيم الصلوات المكتوبات استهانة أو استهزاء أو إنكاراً لفرضيتها ، فإنه يكون بذلك غير مسلم البتة ، بل هو مرتد ، وهو أدنى منزلة من أهل الكتاب ، فإن استتيب وتاب والتزم ، وجبت إعانته وإكرامه وتأليف قلبه .

أما إن كان فاسقاً يؤدي الصلاة أو يتركها كسلاً لا استهانة ـ عند بعض أهل العلم ـ فإنه لا يُسقط عنه فريضة تغيير المنكر بسقوطه هو فيه ، فإن الفسق لا يرفع التكليف ، مثلما ترفعه الردّة ، وهذا الفاسق يكون على أحد أمرين :

- أن يكو مرتكبا منكرا غير الذي يراه من غيره .

- أن يكون مرتكباً منكراً من جنس ما يراه من غيره .

 

إن كان الأول ، فإن تغيير منكر غيره فرض عليه ، ما تحققت فيه بقية شرائط التغيير . فلا يتأثر بوقوعه هو في منكر آخر ، فالواقع في منكر الغيبة مثلاً ، عليه أن يغير منكر سرقة واقع من غيره . فإِننا لو اشترطنا أن يكون القائم بالتغيير خالياً من كل منكر ، فإنا نكاد لا نجد من يتحقق في ذلك ، ولا سيما في عصرنا والعصور القادمة .

يقول سعيد بن جبير : (( إن لم يأمر بمعروف ولم ينه عن المنكر ، إلا من لا يكون فيه شيء ، لم يأمر أحد بشيء )) فأعجب مالكا ذلك من سعيد بن جبير )) .

وإن كان الآخر أي المغيِّر ، واقعاً في منكر من جنس ما يراه من غيره ، فإن له حالين : أن يكون غيره عليماً بوقوعه فيه أو لا يكون .

إن كان عليماً بوقوعه فيه فالأولى تغيير منكر نفسه أولاً ، ولا سيما إذا ما كان التغيير باللسان ، حتى لا يكون السعي إلى التغيير حينئذٍ عقيماً أو عقباه أكثر ضرراً .

وإن كان غير عليم بوقوعه فيه ، لم يتوقف تغييره منكر غيره على تقديم تغييره منكر نفسه ، بل يفعلهما معاً أيَّاً كان سبيل التغيير وآلته ، فلا ينتظر الفراغ من تمام تغيير منكر نفسه ، ولا سيما إذا ما كان المغير ذا ولاية عامة أو خاصة على من يريد تغيير منكره .

فإن كان من العامة ومن حوله من يمكن أن يقوم بالتغيير دونه ، فعليه الاشتغال بتغيير منكر نفسه أولاً ، ويدع غيره يقوم بتغيير هذا المنكر متى كانوا قادرين وصالحين لتغييره .

(( يروى أن رجلاً جاء سيدنا عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال يا ابن عباس ، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال : أبلغت ذلك ، قال : أرجو ، قال : إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله ، فافعل .

قال : وما هنَّ ؟

قال : قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } ، أحكمت هذه ؟ قال لا .

قال : فالحرف الثاني ؟ قال : قوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } ، أحكمت هذه ؟ قال : لا ، فالحرف الثالث ؟

قال : قولُ العبد الصالح (( شعيب )) عليه السلام : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ } ، أحكمت هذه ؟ قال : لا . قال : فابدأ بنفسك )) .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بيان الواقع في المنكر : شروطه وأحواله

لما كان التغيير ، إنما هو واقع على منكر محقق ، يقوم به واحد من الناس ، فإنَّ ذلك الواقع في هذا المنكر لا يشترط لتغييره أن يكون مكلفاً ( عاقلاً ، بالغاً ) ، بل كل منكر يقع من أحد ، يكون ذلك الفعل منكراً في حقه ، أو حق من هو مثله ممن ليس له فيه رخصة ، فإنه يجب تغييره.

المجنون يمنع من إتلاف ماله ، أو مال غيره ، وكذلك الصبي ، وإن كان كلاهما غير مكلف .

والكافر البالغ العاقل ، يرجع تغيير منكره الواقع منه ، إلى نوع ذلك المنكر ومحله.

إن كان منكره مما ليس منكراً في دينه ، ولا يتعلق به حق مسلم ، فلا يجب على أحد تغيير هذا المنكر ، لأن كفره هو نفسه أعلى المنكرات ، ولا يجب على أحد أن يمنعه منه ، بل ولا يصلح لأحد أن يكرهه على تركه .

وإن كان منكره مما هو منكر في دينه ـ أيضاً ـ وإن تعلق به حق غير مسلم فلا يجب على أحد أن يغيره ، إلا إذا تحاكم إلينا ، فيحمل على ما يحكم به الإسلام الذي احتكم إليه .

فإن تعلق بحق مسلم ، وجب منعه منه ، وإنزاله على ما يقضي به الإسلام ، حفاظاً على حق المسلم ، أو حق الأمة والدعوة .

وإن كان صاحب المنكر مسلماً مكلفاً ، فيشترط فيه التيقن أنَّ ذلك الفعل منكر في حقه عند جمهور أهل العلم ، فإن كان فيه خلاف ، وهو على ما كان مرجوحاً ، فلا يجب على أحد تغييره ، بل ينصح إلى الأعلى بالحكمة .

والمسائل في هذا الباب كثيرة ، مما يستوجب على القائم لتغيير منكر ما ، أن يعلم موقعه من باب ما اختلف الأئمة في حكمه .

وقد يكون ما فعل منكراً في نفسه عند جميع العلماء ، إلا أنه في حقه خاصة ليس منكراً ، لوجود رخصة له ، ترفع عنه نكارة هذا الفعل ، كمن أفطر في رمضان لعذر ، أو غطى رأسه في الطواف لعذر ... إلخ .

فإن كان فعله ما حَرُم ، لضرورة شرعية ، فإنه يُسعى إلى رفع الضرورة عنه لا أن يمنع من ذلك المحرم ، فإن أزيلت أسباب الضرورة ، وبقي على منكره غُيّر عليه بالسُبل التي حددها الإسلام .. فكان فقه حال ذي المنكر ، من ركائز شخصية المغيِر ، وركناً ركيناً من مسؤوليته .

تابع الفصل الثاني

بيان وسائل التغيير : مراتبها وآدابها

تغيير المنكر باليد : أحواله وآدابه

تغيير المنكر باللسان : أحواله وآدابه

تغيير المنكر بالقلب : أحواله وآدابه

العجز عن التغيير باليد أو اللسان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بيان وسائل التغيير : مراتبها وآدابها

الناظر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أنه حين أوجب على من رأى منكراً أن يغيره ، ذكر وسائل التغيير ومسالكه ، وقد أحاط بها جامعة . ذلك أنَّ ما يقع من عمل الإنسان ، نوعان كُليَّان :

- داخل جوَّاني قلبي .

- خارجي برَّاني.

وهذا الثاني ( الخارجي ) قسمان : فعل وقول ، القول : أداته اللسان وما ضارعه من أدوات البيان . والفعل : أداته الجارحة كاليد وما ضاهاها مما يستخدمه الإنسان في أفعاله .

فالتغيير إما جواني قلبي ، يترتب عليه واقع سلوكي في الحياة ، وإما خارجي فعلي أداته اليد وما ضاهاها ، وإما خارجي قولي أداته اللسان وما ضارعه ، فكان فيما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم جمعاً محكماً . وهو قد رتبها على نحو جامع بين النهج الصاعد من وجه ، والنازل من آخر : الوجه النازل ( اليد ـ اللسان ـ القلب ) ناظرُُ إلى الاستطاعة ، وإلى حال المغيِّر ، ومنزلته في القيام بفريضة التغيير ، فإن المغير باليد لا شك أعلى قدرة واستطاعة ، فالتغيير باليد أحوج إلى مزيد من الشجاعة والمصابرة والحكمة والحزم ، ثم من بعده في هذا ، التغيير باللسان ، ثم من دونهم جميعاً في هذا المغير بالقلب فكان البدء بالأصعب أداء ، والأشق تكليفاً ( التغيير باليد ) ، وهو في الوقت نفسه أعلى منزلة ، وأنفذ أثراً ، وأسرع ، وأنجع علاجاً .

والوجه الصاعد في الترتيب نفسه ( اليد ـ اللسان ـ القلب ) ناظرُُ إلى شمولية التكليف ، وكثرة من يطيق أو من يصلح ، فلا شك في أن التغيير باليد وما ضارعها ، من يكلف به لتحقق شروطه فيه ، أقل بكثير ممن يكلف بالتغيير باللسان ، وكذلك من يطيق أو من يصلح للتغيير باليد ، أقل ممن يطيق أو يصلح للتغيير باللسان ، وأكثر ذلك عدداً في هذا التغيير بالقلب ، فذلك الذي لا يعجز عنه مسلم البتة ، فكل المسلمين له صالحون ما داموا أهلاً للتكليف .

فالترتيب الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ناظر في حاليه ، إلى منهاجية التدرج العلمي للتغيير ، وليس ناظراً إلى التدرج التربوي للنهي عن المنكر ، وفرق بين تغيير المنكر والنهي عنه ، فالتغيير أخص من النهي .

ومنهاجية التدرج في النهي ، يُبْدأ فيها بالتعليم ، وتأليف القلوب ، واستمالتها إلى البعد عن المنكر بالحكمة والموعظة ، فإن لم يُجد ذلك انتقل إلى ما هو أشد منه في النهي ، كإظهار التجهم والإعراض عن الإكرام ، فإن لم يجد ، كان النهي بما هو أشد من ذلك .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

تغيير المنكر باللسان : أحواله وآدابه

اللسان وسيلة التعريف والتعليم والمناصحة ، والدعوة وبيان الأحكام ، وطرق الوقاية من المنكرات ، وعلاج ما وقع منها ، ووسيلة التخويف من سوء العقبى ، في الدارين ، لمن ارتكبها ، أو أعان عليها ، أو علمها ورضي بها .

والتغيير باللسان غير محصور في تأنيب وتعنيف من أقدم على منكر ، أو وقع فيه ، أو التشهير بمن اتخذ المنكر صناعة ورسالة ، فذلك بعض صور التغيير ، وليس من أعلاها ، بل لتغيير المنكر صورٌ جد كثيرة ، منها ما هو مباشر في التغيير ، ومنها ما يمكن كل مكلف أن يقوم به ، ومنها ما لا يقوم به إلا خاصة من المكلفين المسلمين .

· ما يستطيعه كل مسلم من التغيير باللسان غير قليل :

- منه: تبليغ من يكون قادراً على التغيير باليد ، أو غيرها ، حين يكون ذلك أنجع .وهو عنه عاجز ، كتبليغ ولي الأمر ومن يقوم مقامه بما يراه من منكر .

- ومنه : ذكر الله تعالى بصفات الجلال والقهر وآيات العذاب عند رؤية المنكر وأهله ، ذكراً مسموعاً ، لينتبه ذو المنكر فيحجم عنه ويكف .

- ومنه : الدعاء لأصحاب المنكرات بالهداية ، والعفو عنهم ، وتطهير المجتمع من منكراتهم ، والدعاء على المصرِّين المحاربين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الساعين بالفتنة ، ليهلكهم الله تعالى ، ويزهق باطلهم ، فالدعاء ، ولا سيما في السحر من الأسلحة الفاعلة ، والوسائل الموصلة إلى تغيير المنكر.

· ومما لا يستطيعه إلا من تحققت فيه خصائص التغيير باللسان وآدابه :

- نشر العلم بأسباب الوقوع في المنكر ، وعواقبه ، وطرائق الوقاية منه ، وأفانين المرجفين به في المدينة وأثرهم في الأمة ... إلخ ، سواء كان هذا النشر شفاهياً ، أو كتابياً .

- ومنه : التشهير بسير المحاربين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، الساعين في الأرض فساداً ، ممن ينتسبون للإسلام جهاراً ، ففي كشف هؤلاء ، وما يمكرون ويكيدون للمسلمين ، ونقض افتراءاتهم ودحضها ، تغيير بالغ للمنكر .

والقول بأن تغيير المنكر باللسان ، إنما هو للعلماء ، منظور فيه إلى بعض صوره التي لا يقوم بحقها إلا العلماء ، وليس عاماً في كل صور التغيير باللسان ، فإنَّ منها ما يستطيعه كثير من الأمة .

· وللتغيير باللسان أحوال ، وآداب لكل حالة :

- إذا كان المغيِّر ذا ولاية خاصة على ذي المنكر كأن يكون المغيِّر هو الوالد أو الزوج ، فإنه يقوم بالتغيير باللسان أيضاً ، دون إذن من الولي الأعلى ، وعليه أن يقوم بكل صور هذا التغيير ، متى كان مجيداً لها .

- وإذا كان المغيِّر ذا ولاية عامة على ذي المنكر ، فالأمر كذلك ، وعليه أن يكلف من الرعية من يقوم بذلك ويرعاه ، فإن من حق الرعية على ولي الأمر ، أن يحميها من كل ما يوقع بها ضرراً من غيرها ، أو من بعض أبنائها .. عليه أن يحمي عقيدتها الصحيحة ، وأن ينقيها من كل ما هو غير مشروع ، وأن يحمي علمها وثقافتها النافعة ، وأن يحمي اقتصادها من الربا والكساد والبوار ، وأن يحمي صحتها من الأدواء الفاتكة ، وأن يحمي كل شيء فيها من كل ما يمكن أن يلحق بأحد منها ضرراً .

 

- وإذا كان المغيِّر وذو المنكر ، ليس لأحدهما على الآخر ولاية عامة أو خاصة ، بل بينهما علاقة الإخاء الإيماني ، التي هي أوثق العلائق ، فإن لكلّ أن يغير بلسانه منكر غيره ، فيما يستطيعه ويجيده ، ولا سيما ما يكون عاماً من صور التغيير باللسان ، التي سبقت الإشارة إليها ، فإن كان من أهل العلم ، المشهود لهم من العلماء ، فإن عليه فريضة ، أن يغير بلسانه المنكر ، ولا يحتاج في هذا إلى إذن خاص من ولي الأمر المسلم ، المقيم شرع الله تعالى ، لأن معه إذناً عاماً ، فهذه رسالة أهل العلم التي كلفهم بها الإسلام ، ولا يجوز لأحد من أهل العلم ، أن يتقاعس أو يتشاغل عن أداء تلك الرسالة . وإن كان الوالي لا يقيم شرع الله ، فعلى العلماء أيضاً التغيير باللسان ولا يتوقف هذا على إذن من أحد ، متى التزم العالم بأدب التغيير باللسان ، وعلى العامة مناصرة العلماء في هذا ، حتى لا يسعى مثل ذلك السلطان إلى إلحاق الضرر بهم ، أو بأحد من أهليهم ، أو منعهم من أداء رسالتهم .

 

- وإذا كان لذي المنكر ولاية خاصة على من يقوم بالتغيير ، كأن يكون والده ، أو يكون زوج من تريد تغيير منكره ، فإن بعض صور التغيير باللسان لا يجوز للولد أو الزوجة فعلها ، كالتعنيف والتشهير وإغلاظ القول ، وما شابه ذلك ، أما بيان المنكر وعقباه ، والدعاء بالهداية والوعظ بالحسنى ، فذلك لهما أو عليهما . وكذلك عليهما أو لهما إبلاغ من يحسن القيام بتغيير منكرهما ، إذا ما خشي الولد أو الزوجة ، أن يتجاوز أحدهما ، فإن التجاوز في نفسه منكر يجب مع ظن الوقوع فيه الاستعانة بآخرين .

- وإذا كان لذي المنكر ولاية عامة كالسلطان ، فإن تغيير منكره باللسان من الرعية ، يرجع إلى نوع المنكر :

إن كان منكره خاصاً به ، مستوراً لا يجاهر به ، فعلى من يراه ممن حوله من بطانته مناصحته بالحسنى ، والدعاء له بالهداية ، وبالستر أيضاً ، حتى لا تسقط هيبته من قلوب الأمة ، إذا ما كان مسلماً يقيم الصلاة .

 

وإن كان منكره خاصاً غير مستور ، فعلى علماء الأمة مناصحته بالحسنى، وبيان الهدى والحق ، والدعاء له بالتوبة والصلاح ، وتعليم الأمة بغض فعله ، دون خروج عليه ، ما دام مسلماً يقيم الصلاة ، فإن تاب وأناب ، نوصر وعزّر ، وإن لم يتب سعت الأمة إلى عزله بالحسنى ، دون فتنة هي أكبر من منكره ، وإلا كان الصبر فريضة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .

وإن كان منكره عاماً يتعلق بحق الأمة ، ولم يكن منكراً يدخل به باب الكفر المخرج من الملة ، فإن على علماء الأمة السعي إليه ، لمناصحته وإرشاده وتعليمه ، ثم إلزامه بأن يقضي في الأمة بالعدل ، وعلى العامة مناصرة العلماء وتأييدهم ، ولا يجوز للعلماء مناصحته علانية ، متى تيسرت مناصحته سرًّا ، فإن مناصحته علانية ، أو ذكر مناكيره ، تعين العامة على الخروج عليه ، كما أن المجاهرة بنصيحة السلطان ، تدفعه إلى الاستهتار في المنكر والإصرار عليه .

وليس لعالم ، له إلى سلطان سبيل مناصحته في سرٍ، أن يتقاعس أو يتشاغل عن مناصحته ، والإخلاص فيها ، والاستعداد للوفاء بحقها ، وليس له أن يستبدل بهذه المناصحة في السر ، مناصحة في العلانية ،(( عن شقيق ، عن أسامة بن زيد ، قال : قيل له : ألا تدخل على عثمان فتكلمه ، فقال : أترون أني لا أكلمه إلا أُسِمعكم . والله ، لقد كلمته فيما بيني وبينه ، ما دون أن أفتتح أمراً لا أحبُّ أن أكون أول من فتحه )) .

وهذا كله إذ أمكن ذلك ، فإن لم يمكن الوعظ سرًّا والإنكار ، فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق )) .

وعلى العامة الوقوف مع علماء الأمة ومناصرتهم ، والذَّب عنهم وتكثير سوادهم حتى يرسخ في قلوب الولاة هيبتهم ، وأنَّ من ورائهم الأمة إذا ما دعوا إلى الحق ، فيخضع أولئك الولاة لذلك الحق .

وتاريخ علماء الأمة حافل بالتصدي لقول الحق في وجه الولاة حين ينحرفون علانية عن الحق ، وسياق رواية حديث ( تغيير المنكر لمن رآه ) والذي سبق ذكره ، فيه الدلالة على ذلك حيث قام رجل إلى الوالي ، حين أراد مخالفة السنة ، بتقديم خطبة العيد على صلاتها ، فأنكر بلسانه ، فقال أبو سعيد الخدري : أما هذا فقد قضى ما عليه .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

تغيير المنكر بالقلب : أحواله وآدابه

يُفَسَّرُ التغيير بالقلب بأنه كره المنكر ، وأن هذا ليس بإزالة ، وتغيير من فاعله للمنكر ولكنه هو الذي وسعه ، وفي هذا نظر .

إذا كان كره المنكرات وأصحابها ، فعلاً قلبيَّاً ، فإن له واقعاً سلوكياً في حياة صاحبه يصدق ذلك الكره أو يكذبه ، فإن من آيات أو ثمرات كره المنكرات ، الإعراض عنها ، وعن أصحابها ، واجتنابهم ، والاعتصام من الاختلاط بهم ، وفعل ما يمكن أن يعود عليهم بنفع دنيوي ، ووجوب إظهار بغض أفعالهم واحتقارهم ما داموا على منكرهم ، ووجوب قطيعتهم في شتى حركات الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ، ولا سيما المجاهرون منهم بمنكراتهم .

وسبيل مقاطعة أهل المنكر المجاهرين والمرجفين في المدينة ، به ضرب من ضروب التغيير المؤثرة ، وهو مما لا يعجز عنه أحد أبداً .

وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاذ هذا السبيل في واقعة الذين تخلفوا عن غزوة العسرة : { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } ... الآية ) ( التوبة : 118 ) .

 

وقد وصف (( كعب بن مالك )) ما كان من تلك القطيعة البالغة الأثر وصفاً فيه الهداية إلى المنهاج الأمثل في سبيل تغيير المنكر بالقلب .

إنَّ مجرد عدم الرضا القلبي عن المنكر وصاحبه ، لغير كافٍ في تغيير المنكر ، ولا يعد صاحبه مغيِراً ، ولذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل القلبي تغييراً نظراً لثمرته ، التي ينبغي أن تنبثق من هذا الكره القلبي .

(( عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول : يا هذا ، اتَّق الله ، ودع ما تصنع ، فإنه لا يحلُّ لك ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ، ثم قال : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }{ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }{ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ }{ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .

ثم قال : كلا ، والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذنَّ على يدي الظالم ، ولتأطرُنه على الحق أطرا ، ولتقصرونه على الحق قصرا » .

وفي رواية زادت : « أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ، ثم ليلعنكم كما لعنهم » .

ففي هذا آيات باهرات على أن من التغيير القلبي ، مقاطعة أصحاب المنكر وترك مخالطتهم ، وذلك الذي لا يعجز عنه أحد ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا التغيير (( أضعف الإيمان )) ولهذا الحكم عدة وجوه من المعنى أعلاها :

إن تكاليف هذا السبيل من التغيير أضعف تكاليف الإيمان، فكل من تلبس بالإيمان هو قادر عليه . ولذلك جاء قوله هذا مناظراً لقوله ( فإن لم يستطع ) في الضربين الأولين : التغيير اليدوي واللساني ، فكأنه قال فليغيره بقلبه ، وهذا يستطيعه كل مسلم ، لأنه أضعف الأيمان . وهو يتناسق من وجه مع قوله في رواية أخرى : « وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل » ، أي وليس وراء هذا التكليف من تكاليف الإيمان حبة خردل ، فهو أخفها وأيسرها .

وعلى هذا لا يكون قوله : « وذلك أضعف الإيمان » وصفا بالضعف لإيمان من عجز عن التغيير اليدوي أو اللساني ، ولكنه قام بحق التغيير القلبي ، بل هو وصف بالضعف واليسر ، لما كلف به من عجز به ، من عجز عن التغيير اليدوي واللساني ، أي ما كلف به من تكاليف الإيمان ضعيف يسير ، لا يعجز عنه أحدُُ أبداً .

لأن من عجز عن التكليف الأعلى ، وقام بحق التكليف الأدنى ، لا يوصف إيمانه بأنه ضعيف ، بل إيمانه قوي . فمن عجز عن الصلاة قائماً وصلى جالساً صلاة تامة ، لا يوصف إيمانه بالضعف ، بل يوصف ما كلف به بأنه أيسر مما كلف به غيره وأضعف ثقلاً .. فالإيمان لا يوصف بالضعف ، إلا إيمان من ترك ما هو قادر عليه ، وأما من عجز عن أمر ، وقام بحق ما استطاعه ، فإنه لا يوصف إيمانه بضعف ، وإن وصفت تكاليف ما قدر عليه بأنها أضعف من تكاليف ما عجز عنه .

ويذهب جماعة إلى أن هذا وصفُُ لثمرة هذا التغيير القلبي ، فقوله : ( أضعف الإيمان ) أي أقله ثمرة ، وهو مقبول ، إذا ما ناظرنا ثمرة التغيير القلبي بثمرة التغيير اليدوي واللساني من وجه ، وإن كانت ثمرة هذا التغيير القلبي قد تكون مع بعض المنكرات أعظم أثراً من غيرها ، ولذلك فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مع الذين تخلفوا عن غزوة العسرة.

المعنى الذي أذهب إليه : إنه وصف لتكاليف التغيير القلبي ، وليس وصفاً لثمرته أو وصفاً لإيمان فاعله القائم بحقه ، العاجز عن التغيير اليدوي واللساني .

والتغيير القلبي للمنكرات على النحو الذي كشفنا عن حقيقته : كُرهُُ قلبي ، تصاحبه استجابة سلوكية لمقتضياته ، إنما هو فرض عين على كل مسلم ذكراً أو أنثى أياً كان وضعه في العلم والجهل ، والغنى والفقر ، الصحة والمرض ، فهو لا يسقط عن أحد مادام مكلفاً .

وهو ملازم لما هو أعلى منه تكليفاً ، فمن استطاع التغيير اليدوي لزمه معه أيضاً التغيير القلبي ، وكذلك مستطيع التغيير اللساني يلزمه التغيير القلبي على النحو الذي شرحناه .

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ التارك للمنكرات فعلاً وقولاً لكنه يخالط أهلها ، وغير غاضب لله عز وجل بشأنها ، إنما هو من أهل المنكرات أيضاً ، لا يقل عنهم شناعة إثم واستحقاق عقوبة .

(( عن جابرٍ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أوحى الله عز وجل إلى جبريل ـ عليه السلام ـ أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها ، قال : يا ربّ إن فيهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين ، قال ، فقال : اقلبها عليه وعليهم ، فإنَّ وجهه لم يتمعَّر فيَّ ساعة قطُّ » .

 

والناظر في حال كثير من الناس ، يرى تخلياً عن جميع مراتب تغيير المنكر وسبله : التغيير اليدوي ، واللساني ، والقلبي ، ولا يعين أحداً على شيء من ذلك التغيير . بل ترى كثيراً من العامة يبتهجون بمعرفة وصحبة المتمرسين بالمنكرات ، ويفتخرون بمعرفتهم أو مشاهدتهم ومصافحتهم ومعرفة دقائق أخبارهم ، هذا ما تراه في حال كثير من العامة مع أصحاب المنكرات المجاهرين بها الساعين إلى إشاعة الفاحشة في الأمة عن عمدٍ وتآمر مع أعداء الأمة من الماسونيين والصهيونيين والماركسيين والعلمانيين .

إن الإعجاب بالطواغيت والمحاربين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأهل الفسق والفاحشة ، ليكاد يشيع في شبيبة الأمة وشيبها ، مما يكاد ينزل بها من الله عز وعلا ، من اللعن والغضب ، مالا يبقي ولا يذر .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

العجز عن التغيير باليد أو اللسان

إذا ما كان تغيير المنكر ذا مراتب ثلاث ، فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد قيد فرضية التغيير باليد بالاستطاعة ، وكذلك التغيير باللسان ، فإن عجز عن الأولى ، انتقل إلى الثانية ، فإن عجز عنها أيضاً انتقل إلى الأخير (التغيير القلبي).

والعجز نوعان : حسيّ ومعنوي . يكون الحسي ّ لمرض أو فقد الأداة التي يكون بها التغيير ، فيقدر العفو بقدر العجز : { بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ }{ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } ( القيامة : 14- 15 ) ، فإن تحقق العجز الحسيّ عن مباشرة التغيير اليدوي أو اللساني بقي وجوب إعانة من هو غير عاجز إعانةً مستطاعةً مثل المناصرة والمؤازرة ، وتكثير السواد ، والدعاء له بالتوفيق والتثبيت ، وإخلافه في أهله إن غاب ، ومناصحته والتواصي بالحق وبالصبر .

(( عن زيد بن خالد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من جهَّز غازيا في سبيل الله فقد غزا » ( متفق عليه ) .

ويكون العجز المعنوي في صور عديدة ، منها ما يملك المرء إزالته والاعتصام منه ، ومنها ما لا يستطيع إزالته .

 

مما يستطاع إزالته : العجز العلمي ، فمن لم يستطع تغيير المنكر لجهله به أو بآدابه وضوابطه ، وجب عليه السعي إلى أن يتعلم ، ما يجهل ، حتى يقوم بهذه الفريضة ، التي يحسن تحقيقها على نحو يحقق للأمة رسالتها .

وإزالة العجز العلمي قد تيسرت طرائقه ، فمنه ما لا يكلف جهداً ولا مالاً لما يبذله أهل العلم من نشر العلم النافع .

ومن العجز الذي قد لا يستطاع إزالته لبعض الأمة : خوف مكروه على النفس أو الأهل ، وهو درجات وأحكام :

· إذا خاف المرء على نفسه القتل لذلك ، وعلم أن في قتله بذلك نفعاً وأثراً عاجلاً أو آجلاً ، فإن كان من أهل العلم المقتدى بهم ، فالأعلى والأوجب ألا يصده هذا عن القيام بحق التغيير باليد أو اللسان ، فقد ندبت السنة لذلك.

روى الحاكم مرفوعاً عن جابر : « سيد الشهداء حمزةُ بنُ عبد المطلب، ورجلُُ قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله » .

وروى مسلم بسنده عن (( صهيب )) حديثاً طويلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عن غلام ممن كان قبلنا ، بحث عن الحق والهدى حتى علمه وآمن به ودعا إليه ، وعاش له ، فتوعده الملك إن لم يكف عن دعوته قتله ، فوجد أن في قتله نفعاً للدعوة فصبر ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ، فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا الجبل فقال : (( اللهم اكفنيهم بما شئت )) ، فَرَجَفَ بهم الجبل ، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال كفانيهم اللهُ ، فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به فاحملوه على (( قُرقُورٍ )) فتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به ، فقال : (( اللهم اكفنيهم بما شئت )) فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال كفانيهم اللهُ ، فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : وما هو ! قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، وتصلبني على جذع ، ثمَّ خذ سهما من كنانتي ، ضع السهم في كبد القوس ثم قل : باسم الله رب الغلام ، ثم ارمني به فإنك إن فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ، ثم قال : باسم الله ربِّ الغلام ، ثم رماه ، فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات .

فقال الناس : آمنا برب الغلام ، آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام ، فأتى الملك ، فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك ، قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود في أفواه السّكك فخدّت ، وأضرم النيران ، وقال من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها ، أو قيل له : اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبّي لها ، فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام : يا أمه ، اصبري ، فإنك على الحق » .

في هذا القصص الحق دلالة باهرة وإيذان بالغ بأن تضحية الداعية والعالم والقدوة بنفسه في سبيل دعوته الحقة ذات أثر عظيم ، ونفع عميم للدعوة وتأجيج جذوة الاستمساك بها في صدور الأمة ، فيكون ذلك أنفع للدعوة .

والعالم الداعية ذو الحكمة قادر ـ بعون الله تعالى ـ على أن يقدر الأمور بما هو أنفع وأنجع .

وكل ذلك من باب العزيمة التي هي أليق بحال أهل العلم والدعوة ، ويبقى لهم باب الفسحة والرخصة مفتوحاً ، فمن خاف القتل إن غيّر المنكر ، فله أن يدعه حتى يزول خوفه ، ولكن الصبر والتضحية أعلن وأسمى .

يقول (( ابنُ بطّال )) : (( النصيحة لازمة على قدر الطاقة إذ علم الناصح أنه يُقبل نصحه ويُطاع أمره ، وأمن على نفسه المكروه ، فإن خشي على نفسه أذىً ، فهو في سعة ) .

ويجعلون له في سيدنا (( هارون )) عليه السلام في هذا أسوة ، فقد كفّ عن بني إسرائيل ، وحملهم عن تغيير منكر عظيم هو عين الشرك حين خشي على نفسه القتل :

{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } ( الأعراف : 150 ـ 151) ,

يقول ابن العربي : (( وفي هذا دليل على أن لمن خشي القتل عند تغيير المنكر ، أن يسكت عنه )) .

في هذا الاستدلال نظر مفصل :إنَّ سيدنا (( هارون )) إنما كف عن منع بني إسرائيل ، بعد أن بلغ في ذلك مبلغا عظيما ، وخشي على الدعوة ، وهو خليفة أخيه (( موسى )) عليهما السلام ، فلو أنه قتل ، وليس فيهم (( موسى )) عليه السلام لكانت آثار ذلك جدَّ فادحة على الدعوة فأيقن بنور النبوة وحكمتها ، أن الصبر عليهم ، وترك التصدي لهم ، حتى يعود موسى عليه السلام ، أنفع وأعلى للدعوة وللأمة ، من الإقدام على التصدي والاستشهاد في سبيل الله ، فإن في الاستشهاد خيره وحده ، وهو إنما يريد الخير للأمة والدعوة ، فسيدنا (( هارون )) عليه السلام ما سكت مخافة قتله فقط ، (( إنما خشي تفرق الأمة من بعد قتله : { إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } ( طه : 94 ) ، فحرصه على القيام بحق ما كلفه به (( موسى )) عليه السلام ، وهو ذاهب إلى الميقات { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } ( الأعراف : 142 ) ، وهو السبب الرئيس إلى كف سيدنا (( هارون )) عليه السلام عن التصدي لهم ، من بعد أن بلغ في دعوتهم والتصدي لهم مبلغاً عظيماً .

وللعالم الداعية في ذلك أسوة حسنة ، فإذا ما رأى أن تصديه للمنكر وإقدامه على الاستشهاد في سبيل الله تعالى ، خسران بالغ للدعوة والأمة ، وإن كان فيه نفع له وحده ، أن يقدم صالح الدعوة والأمة على صالحه هو ، وذلك كأن يكون إماماً في قومه ذا منهج بديع في الدعوة وذا أثر نافذ في القلوب لا يتحقق من غيره كمثل تحققه منه ، وأنه يستفاد منه سالماً في الأمة أكثر من استشهاده ، فليكن حرصه حينذاك على سلامته من القتل أولى وأعلى من حرصه على استشهاده ، حتى يتمكن من تربية قادة يخلفونه وأجيال تحمل أمانة الدعوة من بعده .

أما إن رأى العالم بحكمته أنّ في صبره واستشهاد إلهاباً وتأجيجاً لجذوة الانتصار للحق في قلوب الأمة ، وكان في الناس من يخلفه في الدعوة ، فالأعلى أن يصبر حتى يقتل .

· وإن كان الخائف على نفسه القتل ، ليس من أهل العلم والقدوة ، فأحبّ إليّ أن يدع ذلك التغيير حتى يزول ما يخشاه ، ما دام في الأمة من يقوم به ممن هو الأعلى منه من أهل العلم ، شريطة أن يناصرهم بما يستطيع ، وأن يخلفهم في أهليهم .

أما الخوف على الأهل ، ولا سيما الوالدان والزوجة والأولاد ، فالأحب إليّ أن يقدر العالم القدوة حالهم ، فإن كان أهله ممن لا يفتنون في دينهم ، وكان القتل أحب إلى نفوسهم ، وكان القتل أيضاً أنفذ أثراً في الدعوة ، وأهزُّ لعروش الطغيان ، فالأولى القيام بحق التغيير ، والصبر على الإيذاء والقتل { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ( العنكبوت : 69) .

أما إن كانوا ممن يخشى عليهم الفتنة في الدين ، فالأعلى بل الأوجب حمايتهم من الفتنة ، بالكف عما يؤدي إليها من تغيير المنكر باليد أو اللسان ، حتى يزول ما يخشاه عليهم وحتى يرقى إيمانهم إلى درجة الرسوخ والصمود أمام المحن .

وإذا ما كان حال الخوف على الأهل ، لذوي العلم والقدوة ، فإن حال غيرهم من العامة أولى بحمايتهم من الفتنة ، بالكف عما قد يسبب تعرضهم للفتنة في دينهم .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

· وإذا خاف المرء على نفسه وأهله التعذيب الجسدي ، أو المعنوي الفاتن ، فتُقدرُ الأمور بقدرها . إن كان قادراً على الصبر واحتماله ، موقناً أنَّه لن يفتن في دينه ، فالأعلى له وللدعوة وللأمة أن يستعين بالله تعالى على ذلك ، ويصبر ، ويصابر فيغير المنكر الذي رآه ، سواء كان من العلماء القدوة أو ممن هم دون ذلك ما دام قد تحقق التيقن على الصبر والاحتمال . وأهل العلم وطلابه أولى بذلك من غيرهم ، فإن الله تعالى ـ قد نعى على من يدعي الإيمان ولا يصبر على تكاليفه ، وعلى مقتضيات الدفاع عنه ونشره .يقول جل جلاله { الم }{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ }{ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } ( العنكبوت : 1 -3 ) .

فما كان الإيمان قط كلمات تلوكها الألسنة ، وإلا لما توقف في قولها كفار مكة حين طولبوا بالإيمان ، وإنما هو تكاليف ومجاهدة ومصابرة .. ودعوى القيام بتلك التكاليف ، يحتاج بيان الزائف منها والخالص ، إلى ابتلاء وفتنة كمثل فتنة النار الذهب ، فلا يبقى منه إلا ما خلص ونصح، فمن أذهبت الفتنة دعوة الإيمان من قلبه ، فهو الكذاب الأشر في دعواه الإيمان .

وهذا الأنموذج المتخاذل المستخدم أمام الفتنة والبلاء ، شاخص في كل جيل : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } ( العنكبوت : 10 ) .

وما كان الله مصوراً بهذا من ضعف لحظة عن احتمال الفتنة ، ولكنه يصور بهذا من جعل فتنة الناس كعذاب الله ذلك الذي اختلطت في حسه الفارقات بين ما هو من عذاب الله ، وما هو من فتنة الناس ، فحسب أنهما سواء ، ومثل هذا لا يقوم في قلب خالطه الإيمان مهما بلغ الناس في فنون الفتنة والتعذيب ، فكل فتنة ومصيبة دون النار عافية .

فمن ادعى الإيمان ولم يصبر على الفتنة فيه ، كانت دعواه سرابا ، ولذا كان من مقتضيات دعوى الإيمان : الثبات عليه ، واتخاذ الأسباب المحققة للصبر على تكاليفه ، وقد حكى الحق موعظة (( لقمان )) لابنه لنتأسى بها : { يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } ( لقمان : 17) .

فهذه الدعائم الأربع لنجاح الداعية : إقامة الصلاة ، بكل ما تتطلبه من مقتضيات في بناء شخصية الداعية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بكل ما يتطلبانه من زاد وفير لتكوين شخصيته ، وتحقيق القيام بتلك الفريضة البالغة الأثر في تحقيق قيام الأمة المسلمة الرائدة القائدة ، المخرجة الناس من جور السلاطين إلى عدل الإسلام ، ثم الصبر على ما يلقاه الداعية من أهل الباطل من كل صنوف وفنون الافتتان والابتلاء .

وفي قصِ القرآن موعظة (( لقمان )) ابنه ، إيذان بالغ بالأمر الإيجابي بما تضمنته من هذه الدعائم الأربع . فإنَّ أهل العلم ليذهبون إلى أنَّ سنَّة البيان القرآني في الأمر بالفعل : الإخبار عنه أو عن صاحبه في سياق المدح ، أو الرضا عنه أو عن صاحبه ، وذلك ما هو الجلي في القصص القرآني وما يحكيه من أخبار السابقين .

المسلم القوي الإيمان ، جدير بأن يصبر على الفتنة والابتلاء ، وجدير به قبل التصدي للدعوة إلى الله تعالى ، وإلى تغيير المنكر بيده ، أو لسانه ، أن يدرب نفسه وأهله على الصبر على الابتلاء ، وعلى الصمود أمام المحن ، وأهوال التعذيب ، الذي يبدع فيه الطواغيت وشياطينهم .

إنَّ صبر الدعاة وأهليهم على تعذيب الطغاة ، لينكأ في سويداء الطواغيت أعظم من السهام المسمومة ، وإنَّ مضاجعهم لتُقضُّ بهم من مصابرة الدعاة ومرابطتهم واحتسابهم ما يلقونه من تعذيبهم ونكالهم .

وفي القرآن حث بالغ على الصبر والمصابرة في سبيل الإيمان ، والدعوة إليه ، والدفع عنه ، وتغيير المنكر : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } ( البقرة : 153 ) .

{ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ( آل عمران : 120 ) ؟

{ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } ( آل عمران : 186).

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ( آل عمران : 200 ) .

وعلى الرغم من ذلك ، فقد جعل الله لمن خشي على نفسه ، أن يمسك عن التغيير باليد أو اللسان ، بل أذن له فيما فوق ذلك : أذن له أن يكفر بلسانه وحده مع اطمئنان قلبه بالإيمان إذا ما خشي على نفسه : { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ( النحل : 106) .

· فإذا خاف المرء على عرضه أو عرض أهله ، بانتهاك حرمته ، كمثل ما يفعل الطواغيت الآن في المعتقلات والسجون ، فإنّ الأعلى في هذه الحال أن يكف المسلم عن تغيير المنكر بيده أو لسانه ، ويقيم على تغييره بقلبه ، على النحو الذي وضّحناه ، فإن حفاظ المسلم على عرضه وعرض أهله أولى وأوجب من الحفاظ على نفسه وأهله وماله .

 

ومجمل الأمر : أن الخوف على عرض من أعراض الحياة الدنيا ، ليس من صور العجز المانع من الاستطاعة التي هي شرط التكليف بتغيير المنكر باليد أو اللسان ، ولم يجعل لمن خاف على عرض من دنياه ، فسحة في أن يدع تغيير ما يراه من منكر بيده أو لسانه إذا ما كان أهلاً للتغيير اليدوي أو اللساني .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

فاصلة القول

إذا ما كان جليًّا أنَّ تغيير المنكر إنما هو لدرء المفاسد ، كيما يتحقق الوجود المتمكن للأمة المسلمة ، فإنه إذا ما تيقن المسلم ، أو غلب على ظنه الراشد ، أن تغييره منكراً سوف يترتب عليه وقوع منكر أعمّ ، أو أبقى أو أنكى أثراً ، فجمهور أهل العلم يذهبون إلى ترك تغيير ذلك المنكر إلى الأدنى ، دفعاً لوقوع ما هو فوقه .

يقول (( ابن القيم )) : إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه ، وأبغض إلى الله ورسوله ، فإنه لا يسوغ إنكاره ، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله ، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم ، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدَّهر ...

من تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار ، رآها من إضاعة هذا الأصل ، وعدم الصبر على منكر ، فطلب إزالته ، فتولد منه ما هو أكبر منه ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها ، بل لمّا فتح الله مكة ، وصارت دار إسلام ، عزم على تغيير البيت وردَّه على قواعد إبراهيم ، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه ، خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام ، وكونهم حديثي عهدٍ بكفر ، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد ، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه ... فإنكار المنكر أربع درجات :

( الأولى ) أن يزول ويخلفه ضده .

( الثانية ) أن يقل وإن لم يزل بجملته .

(الثالثة ) أن يخلفه ما هو مثله .

( الرابعة ) أن يخلفه ما هو شر منه .

فالدرجتان الأوليان مشروعتان ، والثالثة موضع اجتهاد ، والرابعة محرمة )) ( 66 ).

 

وتقدير درجات المنكر في حادثات الحياة ونوازلها ، وما بينها من مراتب ، بحاجة إلى بصيرة نافذة في دقائق فقه الدين ، وفي فقه نوازل الحياة ، الذي هو أساس فقه التدين ، وبحاجة أيضاً إلى الحكمة البالغة ، وإخلاص النصح في تحقيق ما اشتبه ، وتحرير ما اشتجر ، وذلك جهد بالغ لا يقوم به إلا صفوة أهل العلم .

يقول الإمام ابن تيمية : (( اعتبار مقادر المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص ، لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقلّ أن تعوز النصوص من يكون خبيراً لها وبدلالتها على الأحكام .

وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكرٍ ، بحيثلا يفرقون بينهما ، بل إما أن يفعلوهما جميعاً ، أو يتركوهما جميعاً ، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر ، بل ينظر ، فإن كان المعروف أكثر ، أمر به ، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر ، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ، بل يكون النهي حينئذ من باب الصدّ عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله ، وزوال فعل الحسنات .. وإن كان المنكر أغلب ، نهي عنه ، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه ، أمراً بمنكر، وسعياً في معصية الله ورسوله.

وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان ، لم يؤمر بهما ، ولم ينه عنهما ، فتارة يصلح الأمر ، وتارة يصلح النهي ، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي ، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين ، وذلك في الأمور المعينة الواقعة ......

وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله .

ومن هذا الباب : إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أُبّي ، وأمثاله من أئمة النفاق والفجور ، لما لهم من أعوان ، فإزالة منكره بنوع من عقابه ، مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك ، بغضب من قومه وحميتهم ، وبنفور الناس إذا سمعوا أن (( محمدا )) يقتل أصحابه )) .

ومن ذلك حين قال عبد الله بن أُبي في غزاة سكع فيها رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فتناصرا : فعلوها ؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذلّ ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال : يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « دعه لا يتحدث الناس أنَّ محمدا يقتل أصحابه » ( متفق عليه ) .

فتلك حكمة النبوة التي يجب أن يتأسى بها القائمون بتغيير المنكر ، ولهذا قال (( عمر )) رضي الله عنه بعد أن استبان له نور الحكمة النبوية في هذا :

(( قد ـ والله ـ علمتُ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمُ بركة من أمري )) .

ومن ثمَّ فإن تغيير المنكر المترتب على تغييره آثار فردية أو جماعية ، لا يستقيم القيام به إلا من بعد مراجعة ملابساته ومساقاته ، والموازنة بينه وبين آثاره ، وهذا يقتضي استشارة أهل العلم والحكمة ، فكثيراً ما يتوقف الطبيب عن معالجة داءٍ ما خشية ما سوف يترتب على معالجته دوائياً أو جراحياً من أدواء وآثار أفدح ، إلى أن تتهيأ الظروف والملابسات لمعالجته دونما آثار ضارة ، وكذلك مُغيِر المنكر يحتاج إلى الحكمة في هذا أكثر من احتياج الطبيب ، فإنَّ ما يترتب على غفلة الطبيب في هذا ، أقل ضرراً مما قد يترتب على غفلة المغيّر للمنكر .. ولا أحسب أن أحداً يتهم مثل ذلك الطبيب بالتقصير أو الخيانة أو الإفراط في القيام بواجبه حينئذ ، بل هو بوصف الحكيم النَّطاسيِّ : أجدرُ وأحقُّ .. وكذلك ينبغي ألا يتهم العامة والدهماء ، علماء الأمة حين يوصون بالصبر على ذلك المنكر ، حتى تتهيّأ له الظروف ومناخات وملابسات ومساقات أفضل ، يؤتي التغيير فيها ثمراً أطيب وأعظم ، وهذا وجه من وجوه المعنى القرآني في قوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ } ( النحل : 125 ) ، وفي قوله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوإِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (يوسف : 108 ) .

فالحكمة والبصيرة ، دعامتا النجاح في القيام بتغيير المنكر ، قياماً يرضي الله عزَّ وعلا ، ويحقق الغاية من التكليف به .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .

والحمد لله رب العالمين .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

هه هه هه ..

 

مهلاً مهلاً أيتها الحبيبة : أم عبيد الله :)

 

 

لي عودة أتدارس فيها ؛ و الأحبة ..

 

 

لا حرمكِ الله المثوبة ..

و نفعنا و إياكِ بما تسطرين ..

 

 

 

اللهم صل على الحبيب ..

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

:biggrin:

معذرة يا حبيبة

اردت أن أكتبه كله دفعة واحدة بسبب إنشغالي في الايام القادمة

 

بارك الله لكِ والأخوات وآمل أن تنتفعن به..

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×