اذهبي الى المحتوى

المشاركات التي تم ترشيحها

علامة باركود

علو الهمة

د. أمين بن عبدالله الشقاوي

 

 

تاريخ الإضافة: 22/4/2010 ميلادي - 8/5/1431 هجري

زيارة: 46504

 

حفظ بصيغة PDF نسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات

 

الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً رسول الله.

 

وبعد:

فإن من الخصال الجميلة، والخلال الحميدة، والأخلاق العالية الرفيعة: الهمة العالية، والناس إنما تعلو أقدارهم، وترتفع منازلهم بحسب علو هممهم وشريف مقاصدهم، قال بعضهم: علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمـور، ومعنى ذلك: أن المؤمن لا تنتهي إنجازاته في أمور دينه ودنياه، بل كلما انتهى من إنجاز سعى إلى آخر، وهكذا حال صاحب الهمة العالية.

 

وقد حثَّ سبحانه عباده على علوِّ الهمة، والمسارعة إلى الخيرات، والتنافس في أعالي الدرجات، قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وقال تعالى: ﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ [الصافات: 61]، وقال تعالى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].

 

وبيَّن تعالى فضل المجاهدين أصحاب الهمم العالية، على القاعدين المُؤثِرِين للراحة والدَّعَة، فقال: ﴿ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [النساء: 95]، وقال تعالى: ﴿ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ [الحديد: 10].

 

روى الإمـام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ))[1].

 

وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما روى الطبراني في الكبير من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى: يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُوِر وَأَشرَافَهَا، وَيَكَرهُ سَفْسَافَهَا))[2]، أي: الحقير الرديء منها.

 

وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أعلى الناس همة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يمتثل لهذا التوجيه الرباني الكبير، فيقوم حتى تتفطر قدماه، وفي النهار جهاد ودعوة وقيادة للأمة، وكان في بيته تسع نسوة يقوم على شؤونهن، وكان يضع الحجر على بطنه من الجوع، وتمرُّ الليالي تلو الليالي لا يوقد في بيت رسول الله نار، إن هو إلا الأسودان – التمر والماء – لقد ولَّى عهد النوم والراحة، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح: 7، 8].

 

وكان عليه الصلاة والسلام يحث أصحابه على الهمة العالية والمسابقة إلى الدرجات العالية، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في غزوة بدر، قال: فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ))، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ))، قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ؟! قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟!)). قَالَ: لاَ وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: ((فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا))، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ[3].

 

ومن الأمثلة على الهمة العالية:

ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه – وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء – يعني المشركين – ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أُحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتل وقد مَثَّل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته بِبِنَانِه.

 

قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ إلى آخر الآية [الأحزاب: 23][4].

 

وعلو الهمة على قسمين:

الأول: رجل يشعر بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته، وهذا ما يسمى (عظيم الهمة، أو عظيم اليقين).

الثاني: رجل فيه الكفاية لعظائم الأمـور، ولكنه يحتقر نفسه فيضع همه في سفاسف الأمور وصغائرها، وهذا ما يسمى صغير الهمة؛ قال المتنبي:

وَلم أرَ فِي عيوبِ الناسِ عيباً

كنقصِ القادرين عَلَى التمامِ

 

ومن الأمثلة على علو الهمة:

ما قاله مسروق عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: والله ما أُنزلت آية، إلا وأنا أعلم فيم نزلت؟ وأين نزلت؟ ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني، تبلغه المطايا، لأتيته.

 

وكان الإمام البخاري يقوم في الليلة الواحدة ما يقارب عشرين مرة، لتدوين حديث أو فكرة.

 

وقال الإمام أحمد بن حنبل: رحلت في طلب السُّنَّة إلى الثغور والشامات والسواحل، والمغرب والجزائر، ومكة والمدينة، واليمن، وخراسان وفارس، وقال: حججت خمس حجات: منها ثلاث حجج راجلاً من بغداد إلى مكة.

 

وقال ابن الجوزي: طاف الإمام أحمد بن حنبل الدنيا مرتين، حتى جمع المسند وفيه ثلاثون ألف حديث، وقال أيضاً: ولو أني قلت: طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب، فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم، وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب ولله الحمد[5]. ا هـ.

 

وقال ابن الجوزي – في ترجمة الطبراني - : هو العلامة سليمان بن أحمد مُسنِد الدنيا، زادت مؤلفاته على خمسة وسبعين مؤلفاً، سئل عن كثرة أحاديثه؟! فقال: كنت أنام على الحصير ثلاثين سنة.

 

قال الشافعي رحمه الله:

تَغَرَّبْ عن الأوطانِ في طلبِ العُلا

وسافِرْ ففي الأسفارِ خمسُ فوائدِ

تَفَرُّجُ همٍّ واكتسابُ معيشةٍ

وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجدِ

 

ومن الأمثلة على علو الهمة في وقتنا المعاصر:

ما أخبرني به أحد الإخوة أن هناك أعمى وأصم وأبكم لا تفوته تكبيرة الإحرام، والعجيب أن الذي يقوده إلى المسجد ابنه وهو أصم وأبكم، ومع ذلك: الاثنان عندهما همة عالية للمبادرة إلى بيوت الله، والصلاة مع الجماعة، مع أنهما معذوران شرعاً.

 

وقال المتنبي:

وإذا كانت النفوس كباراً

تعبت في مرادها الأجسام

وقال أيضاً:

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير

كطعم الموت في أمر عظيم

وقال أبو فراس الحمداني:

ونحن أناس لا توسط عندنا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر

تهون علينا في المعالي نفوسنا

ومن يخطب الحسناء لم يغله المهرُ

 

قال ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن الهمة: فكيف يحسن بذي همة قد أزاح الله عنه علله، وعرفه السعادة والشقاوة أن يرضى بأن يكون حيواناً، وقد أمكنه أن يصير إنساناً، وبأن يكون إنساناً وقد أمكنه أن يكون ملكاً، وبأن يكون ملكاً وقد أمكنه أن يكون ملكاً في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فتقوم الملائكة في خدمته، وتدخل عليهم من كل باب، قال تعالى: ﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 24].

 

وهذا الكمال إنما يُنَالُ بالعلم ورعايته والقيام بموجبه, وأعظم النقص نقص القادر على التمام وحسرته على تفويته، فَثَبَتَ أنه لا شيء أقبح بالإنسان من أن يكون غافلاً عن الفضائل الدينية، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، فمن كان كذلك فهو من الهمج الرعاع الذين يكدرون الماء ويقلون، إن عاش عاش غير حميد، وإن مات مات غير فقيد، وفقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء، ولا تستوحش لهم الغبراء[6].

 

الخلاصة:

أنه ينبغي للمؤمن أن تكون همته عالية، يسعى إلى معالي الأمـور وفيما يصلحه من أمر دينه ودنياه، وأن يبذل في ذلك الغالي والنفيس، وألا يكون ضعيف الهمة يحب الراحة والكسل، فإنه بقدر الكد تكتسب المعالي، ومن طلب العلا سهر الليالي[7].

 

قال الشاعر:

ومن رام العلا من غير كد

أضاع العمر في طلب المحال

تروم العز ثم تنام ليلاً

يغوص البحر من طلب اللآلي

 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

ـــــــــــــ

[1] (20/296) برقم 12981، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[2] (3/131) برقم 2894، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1/384) برقم 1890.

[3] ص 789، برقم (1901).

[4] صحيح البخاري ص 542، برقم 2805، وصحيح مسلم ص790، برقم (1903).

[5] صيد الخاطر، ص402.

[6] جامع الآداب من كلام ابن القيم بتحقيق يسري السيد محمد (1/218-219).

[7] انظر: علو الهمة لأخينا الشيخ إسماعيل المقدم.

 

 

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/social/0/20945/#ixzz4P46LROkQ

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

موضوع قيم جدا

جزاكِ الله خيرا يا حبيبة ونفع بك.

ينقل للساحة المناسبة.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×