اذهبي الى المحتوى
ميرفت ابو القاسم

التوبة - طريق الاسلام

المشاركات التي تم ترشيحها

التوبة

 

التوبة " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين " أي: هذه براءة من اللّه, ومن رسوله إلى جميع المشركين المعاندين, أن لهم أربعة أشهر, يسيحون في الأرض على اختيارهم, آمنين من المؤمنين, وبعد الأربعة الأشهر, فلا عهد لهم, ولا ميثاق. وهذا لمن كان له عهد مطلق, غير مقدر, أو مقدر بأربعة أشهر, فأقل. أما من كان له عهد مقدر, بزيادة على أربعة أشهر, فإنه يتعين أن يتمم له عهده, إذا لم يخف منه خيانة, ولم يبدأ بنقض العهد. ثم أنذر المعاهدين في مدة عهدهم, أنهم, وإن كانوا آمنين, فإنهم لن يعجزوا اللّه, ولن يفوتوه. وأنه, من استمر منهم على شركه, فإنه لا بد أن يخزيه. فكان هذا, مما يجلبهم إلى الدخول في الإسلام, إلا من عاند, وأصر, ولم يبال بوعيد اللّه.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

" وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم " هذا ما وعد اللّه به المؤمنين, من نصر دينه, وإعلاء كلمته, وخذلان أعدائهم, من المشركين, الذين أخرجوا الرسول ومن معه, من مكة, من بيت اللّه الحرام, وأجلوهم مما لهم التسلط عليه, من أرض الحجاز. نصر اللّه رسوله والمؤمنين حتى افتتح مكة, وأذل المشركين, وصار للمؤمنين, الحكم والغلبة, على تلك الديار. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم, مؤذنه أن يؤذن يوم الحج الأكبر, وهو: يوم النحر, وقت اجتماع الناس, مسلمهم, وكافرهم, من جميع جزيرة العرب, أن يؤذن بأن اللّه بريء ورسوله من المشركين. فليس لهم عنده, عهد وميثاق, فأينما وجدوا قتلوا, وقيل لهم: لا تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا, وكان سنة تسع من الهجرة. وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه, وأذن ببراءة يوم النحر, ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم, علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه. ثم رغب تعالى المشركين بالتوبة, ورهبهم من الاستمرار على الشرك فقال: " فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ " . أي: فائتيه, بل أنتم في قبضته, قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين. " وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " أي: مؤلم مفظع في الدنيا, بالقتل, والأسر, والجلاء, وفي الآخرة, بالنار, وبئس القرار.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

" إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين " أي هذه البراءة التامة المطلقة, من جميع المشركين. " إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " واستمروا على عهدهم, ولم يجر منهم ما يوجب النقص, فلا نقصوكم شيئا, ولا عاونوا عليكم أحدا, فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم, قَلَّتْ, أو كثرت. لأن الإسلام, لا يأمر بالخيانة, وإنما يأمر بالوفاء. " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ " الذين أدوا ما أمروا به, واتقوا الشرك والخيانة, وغير ذلك, من المعاصي. " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم " يقول تعالى " فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ " أي: التي حرم فيها قتال المشركين المعاهدين, وهي أشهر التيسير الأربعة, وتمام المدة, لمن له مدة أكثر منها, فقد برئت منهم الذمة. " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ " في أي مكان وزمان. " وَخُذُوهُمْ " أسرى " وَاحْصُرُوهُمْ " أي: ضيقوا عليهم, فلا تدعوهم يتوسعون في بلاد اللّه وأرضه, التي جعلها معبدا لعباده. فهؤلاء, ليسوا أهلا لسكناها, ولا يستحقون منها شبرا, لأن الأرض أرض اللّه, وهم أعداؤه, المنابذون له ولرسله, المحاربون, الذين يريدون أن تخلو الأرض من دينه, ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره, ولو كره الكافرون. " وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ " أي: كل ثنية وموضع, يمرون عليه, ورابطوا في جهادهم, وابذلوا غاية مجهودكم في ذلك, ولا تزالوا على هذا الأمر, حتى يتوبوا من شركهم. ولهذا قال: " فَإِنْ تَابُوا " من شركهم " وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ " أي: أدوها بحقوقها " وَآتُوا الزَّكَاةَ " لمستحقيها " فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ " أي: اتركوهم, وليكونوا مثلكم, لهم ما لكم, وعليهم ما عليكم. " إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " يغفر الشرك فما دونه, للتائبين, ويرحمهم, بتوفيقهم للتوبة, ثم قبولها منهم. وفي هذه الآية, دليل على أن من امتنع من أداء الصلاة أو الزكاة, فإنه يقاتل حتى يؤديها, كما استدل بذلك أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

" وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون " لما كان ما تقدم من قوله " فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ " أمرا عاما في جميع الأحوال, وفي كل الأشخاص منهم, ذكر تعالى, أن المصلحة إذا اقتضت تقريب بعضهم, جاز, بل وجب ذلك فقال: " وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ " أي: طلب منك أن تجيره, وتمنعه من الضرر, لأجل أن يسمع كلام اللّه, وينظر حالة الإسلام. " فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ " ثم إن أسلم, فذاك, وإلا فأبلغه مأمنه, أي: المحل الذي يأمن فيه. والسبب في ذلك, أن الكفار قوم لا يعلمون. فربما كان استمرارهم على كفرهم, لجهل منهم, إذا زال, اختاروا عليه الإسلام. فلذلك أمر اللّه رسوله, وأمته أسوته في الأحكام, أن يجيروا من طلب أن يسمع كلام اللّه. وفي هذا حجة صريحة, لمذهب أهل السنة والجماعة, القائلين بأن القرآن كلام اللّه غير مخلوق, لأنه تعالى, هو المتكلم به, وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها. وبطلان مذهب المعتزلة, ومن أخذ بقولهم: أن القرآن مخلوق. وكم من الأدلة الدالة على بطلان هذا القول, ليس هذا, محل ذكرها. " كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين " هذا بيان للحكمة الموجبة, لأن يتبرأ اللّه ورسوله من المشركين, فقال: " كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ " هل قاموا بواجب الإيمان, أم تركوا رسول اللّه والمؤمنين من أذيتهم؟. حاربوا الحق ونصروا الباطل؟ أما سعوا في الأرض فسادا, فيحق عليهم أن يتبرأ اللّه منهم, وأن لا يكون لهم عهد عنده, ولا عند رسوله؟. " إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ " من المشركين " عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " فإن لهم - في العهد - وخصوصا في هذا المكان الفاضل - حرمة أوجب أن يراعوا فيها. " فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ " , ولهذا قال: " كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا " إلى قوله " لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " . " كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون " أي: " كَيْفَ " يكون للمشركين عند اللّه عهد وميثاق والحال أنهم " وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ " بالقدرة والسلطة, لا يرحموكم, و " لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً " أي: لا ذمة ولا قرابة, ولا يخافون اللّه فيكم, بل يسومونكم سوء العذاب, فهذه حالكم معهم لو ظهروا. ولا يغرنكم منهم, ما يعاملونكم به وقت الخوف منكم, فإنهم " يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ " الميل والمحبة لكم, بل هم الأعداء حقا, المبغضون لكم صدقا. " وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ " لا ديانة لهم, ولا مروءة

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

" اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون " " اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا " أي: اختاروا الحظ العاجل الخسيس في الدنيا. على الإيمان باللّه ورسوله, والانقياد لآيات اللّه. " فَصَدُّوا " بأنفسهم, وصدوا غيرهم " عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " " لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون " " لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً " أي: لأجل عداوتهم للإيمان " إِلًّا وَلَا ذِمَّةً " أي: لأجل عداوتهم للإيمان وأهله. فالوصف, الذي جعلهم يعادونكم لأجله ويبغضونكم, هو الإيمان. فذبوا عن دينكم, وانصروه, واتخذوا من عاداه, عدوا, ومن نصره لكم وليا, واجعلوا الحكم يدور معه, وجودا وعدما. لا تجعلوا الولاية والعداوة, طبعية تميلون بها, حيثما مال الهوى, وتتبعون فيها النفس الأمارة بالسوء, ولهذا: " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون " " فَإِنْ تَابُوا " عن شركهم, ورجعوا إلى الإيمان " وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ " وتناسوا تلك العداوة إذ كانوا مشركين, لتكونوا عباد اللّه المخلصين, وبهذا يكون العبد, عبدا حقيقة. لما بين من أحكامه العظيمة ما بين, ووضح منها ما وضح, أحكاما وحِكَمًا, وحُكْمًا, وحكمة قال: " وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ " أي: نوضحها ونميزها " لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " فإليهم سياق الكلام. وبهم تعرف الآيات والأحكام, وبهم عرف دين الإسلام, وشرائع الدين. اللهم اجعلنا من القوم الذين يعلمون, ويعملون بما يعلمون, برحمتك وجودك, وكرمك, وإحسانك, يا رب العالمين. " وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون " يقول تعالى - بعدما ذكر أن المعاهدين من المشركين, إن استقاموا على عهدهم فاستقيموا لهم على الوفاء. " وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ " أي: نقضوها وحلوها, أو أعانوا على قتالكم, أو نقصوكم. " وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ " أي: عابوه, وسخروا منه. ويدخل في هذا, جميع أنواع الطعن الموجهة إلى الدين, أو إلى القرآن. " فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ " أي: القادة فيه, الرؤساء الطاعنين في دين الرحمن, الناصرين لدين الشيطان. وخصهم بالذكر, لعظم جنايتهم, ولأن غيرهم تبع. وليدل على أن من طعن في الدين, وتصدى للرد عليه, فإنه من أئمة الكفر. " إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ " أي: لا عهود, ولا مواثيق, يلازمون على الوفاء بها, بل لا يزالون خائنين, ناكثين للعهد, لا يوثق منهم. " لَعَلَّهُمْ " في قتالهم إياهم " يَنْتَهُونَ " عن الطعن في دينكم, وربما دخلوا فيه

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

 

" ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين " ثم حث على قتالهم, وهيج المؤمنين بذكر الأوصاف, التي صدرت من هؤلاء الأعداء, والتي هم موصوفون بها, المقتضية لقتالهم فقال: " أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ " الذي يجب احترامه, وتوقيره, وتعظيمه؟ وهموا أن يجلوه ويخرجوه من وطنه, وسعوا في ذلك ما أمكنهم. . " وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " حيث نقضوا العهد, وأعانوا عليكم. وذلك حيث أعانت قريش - وهم معاهدون - بني بكر حلفاءهم, على خزاغة, حلفاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم, وقاتلوا معهم كما هو مذكور مبسوط في السيرة. " أَتَخْشَوْنَهُمْ " في ترك قتالهم " فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " . فاللّه أمركم بقتالهم, وأكد ذلك عليكم غاية التأكيد. فإن كنتم مؤمنين, فامتثلوا لأمر اللّه, ولا تخشوهم, فتتركوا أمر اللّه. " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين " ثم أمر بقتالهم وذكر مات يترتب على قتالهم من الفوائد, وكل هذا, حث وإنهاض للمؤمنين على قتالهم فقال: " قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ " بالقتل " وَيُخْزِهِمْ " إذا نصركم اللّه عليهم, وهم الأعداء الذين يطلب خزيهم ويحرص عليه. " وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ " هذا وعد من اللّه وبشارة, قد أنجزها. " وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ " " ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم " " وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ " فإن في قلوبهم من الحنق والغيظ عليهم, ما يكون قتالهم وقتلهم, شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغم, والهم, إذ يرون هؤلاء الأعداء, محاربين للّه ولرسوله, ساعين في إطفاء نور اللّه, وزوالا للغيظ, الذي في قلوبكم. وهذا يدل على محبة اللّه للمؤمنين, واعتنائه بأحوالهم. حتى إنه جعل - من جملة المقاصد الشرعية - شفاء ما في صدورهم وذهاب غيظهم. ثم قال: " وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ " من هؤلاء المحاربين, بأن يوفقهم للدخول في الإسلام, ويزينه في قلوبهم, ويُكَرِّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان. " وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " يضع الأشياء مواضعها, ويعلم من يصلح للإيمان فيهديه, ومن لا يصلح, فيبقيه في غيه وطغيانه. " أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون " يقول تعالى لعباده المؤمنين - بعد ما أمرهم بالجهاد-: " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا " من دون ابتلاء وامتحان, وأمر بما يبين به الصادق والكاذب. " وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ " أي: علما يظهر ما في القوة إلى الخارج, ليترتب عليه الثواب والعقاب. فيعلم الذين يجاهدون في سبيله: لإعلاء كلمته " وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً " أي: وليا من الكافرين, بل يتخذون اللّه ورسوله والمؤمنين أولياء. فشرع اللّه الجهاد, ليحصل به هذا المقصود الأعظم, وهو أن يتميز الصادقون, الذين لا يتحيزون إلا لدين اللّه, من الكاذبين, الذين يزعمون الإيمان, وهم يتخذون الولائج والأولياء, من دون اللّه, ورسوله, والمؤمنين. " اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " أي: ما يصير منكم ويصدر, فيبتليكم بما تظهر به حقيقة ما أنتم عليه, ويجازيكم على أعمالكم, خيرها وشرها " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون " يقول تعالى: " مَا كَانَ " أي ما ينبغي ولا يليق " لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ " بالعبادة, والصلاة, وغيرها من أنواع الطاعات, والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم بالكفر, بشهادة حالهم وفطرهم, وعلم كثير منهم, أنهم على الكفر والباطل. فإذا كانوا " شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ " وعدم الإيمان, الذي هو شرط لقبول الأعمال, فكيف يزعمون أنهم عُمَّارُ مساجد اللّه, والأصل منهم مفقود, والأعمال منهم باطلة؟!!. ولهذا قال: " أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ " أي: بطلت وصلت " وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ " . " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " ثم ذكر من هم عمار مساجد اللّه فقال: " إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ " الواجبة والمستحبة, بالقيام بالظاهر منها والباطن. " وَآتَى الزَّكَاةَ " لأهلها " وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ " أي قصر خشيته على ربه, فكف عنه ما حرم اللّه, ولم يقصر بحقوق اللّه الواجبة. فوصفهم بالإيمان النافع, وبالقيام بالأعمال الصالحة, التي أُمُّها, الصلاة, والزكاة, وبخشية اللّه التي هي أصل كل خير. فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها, الذين هم أهلها. " فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ " و " عسى " من اللّه واجبة. وأما من لم يؤمن باللّه, ولا باليوم الآخر, ولا عنده خشية للّه, فهذا ليس من عمار مساجد اللّه, ولا من أهلها, الذين هم أهلها, وإن زعم ذلك, وادعاه.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

" أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين " لما اختلف بعض المسلمين, أو بعض المسلمين وبعض المشركين, في تفضيل عمارة المسجد الحرام, بالبناء, والصلاة, والعبادة فيه, وسقاية الحاج, على الإيمان باللّه, والجهاد في سبيله - أخبر اللّه تعالى بالتفاوت بينهما, فقال: " أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ " أي: سقيهم الماء من زمزم, كما هو المعروف, إذا أطلق هذا الاسم, أنه هو المراد " وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ " . فالجهاد والإيمان باللّه, أفضل من سقاية الحاج, وعمارة المسجد الحرام, بدرجات كثيرة, لأن الإيمان, أصل الدين, وبه تقبل الأعمال, وتزكو الخصال. وأما الجهاد في سبيل اللّه, فهو ذروة سنام الدين, به يحفظ الدين الإسلامي, ويتسع, وينصر الحق, ويخذل الباطل. وأما عمارة المسجد الحرام, وسقاية الحاج, فهي, وإن كانت أعمالا صالحة, فهي متوقفة على الإيمان, وليس فيها من المصالح, ما في الإيمان والجهاد, فلذلك قال: " لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " أي: الذين وصفهم الظلم, الذين لا يصلحون لقبول شيء من الخير, بل لا يليق بهم إلا الشر. " الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون " ثم صرح بالفضل فقال: " الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ " بالنفقة في الجهاد, وتجهيز الغزاة " وَأَنْفُسِهِمْ " بالخروج بالنفس " أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ " أي: لا يفوز بالمطلوب, ولا ينجو من المرهوب, إلا من اتصف بصفاتهم, وتخلق بأخلاقهم. " يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم " " يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ " رحمة منه, وكرما, وبرا بهم, واعتناء ومحبة لهم. " بِرَحْمَةٍ مِنْهُ " أزال بها عنهم الشرور, وأوصل إليهم بها كل خير. " وَرِضْوَانٌ " منه تعالى عليهم, الذي هو أكبر نعيم الجنة وأجله, فيحل عليهم رضوانه, فلا يسخط عليهم أبدا. " وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ " من كل ما تشتهيه الأنفس, وتلذ الأعين, مما لا يعلم وصفه ومقداره, إلا اللّه تعالى, الذي منه أن اللّه أعد للمجاهدين في سبيله, مائة درجة, ما بين كل درجتين, كما بين السماء والأرض, ولو اجتمع الخلق في درجة واحدة منها لوسعتهم. " خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم " " خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا " لا ينتقلون عنها, ولا يبغون عنها حِوَلًا. " إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ " لا تستغرب كثرته على فضل اللّه, ولا يتعجب من عظمه وحسنه, على من يقول للشيء كن فيكون. " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون " يقول تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " اعملوا بمقتضى الإيمان, بأن توالوا من قام به, وتعادوا من لم يقم به. و " لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ " الذين هم أقرب الناس إليكم. وغيرهم من باب أولى وأحرى, فلا تتخذوهم " أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا " أي: اختاروا على وجه الرضا والمحبة " الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ " . " وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " لأنهم تجرأوا على معاصي اللّه, واتخذوا أعداء اللّه أولياء. وأصل الولاية: المحبة والنصرة. وذلك أن اتخاذهم أولياء, موجب لتقديم طاعتهم على طاعة اللّه, ومحبتهم على محبة اللّه ورسوله. " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين " ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك, وهو أن محبة اللّه ورسوله, يتعين تقديمها على محبة كل شيء, وجعل جميع الأشياء تابعة لهما فقال: " قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ " ومثلهم الأمهات " وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ " في النسب والعشيرة " وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ " أي: قراباتكم عموما " وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا " أي: اكتسبتموها, وتعبتم في تحصيلها. خصها بالذكر, لأنها أرغب عند أهلها, وصاحبها أشد حرصا عليها, ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كَدّ. " وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا " أي: رخصها ونقصها, وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات, من الأثمان, والأواني, والأسلحة, والأمتعة, والحبوب, والحروث, والأنعام, وغير ذلك. " وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا " من حسنها وزخرفتها, وموافقتها لأهوائكم. فإن كانت هذه الأشياء " أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ " فأنتم فسقة ظلمة. " فَتَرَبَّصُوا " أي: انتظروا ما يحل بكم من العقاب " حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ " الذي لا مرد له. " وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " أي: الخارجين عن طاعة اللّه, المقدمين على محبة اللّه, شيئا من المذكورات. وهذه الآية الكريمة, أعظم دليل على وجوب محبة اللّه ورسوله, وعلى تقديمها على محبة كل شيء. وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد, على من كان شيء من المذكورات أحب إليه من اللّه ورسوله, وجهاد في سبيله. وعلامة ذلك, أنه إذا عرض عليه أمران, أحدهما يحبه اللّه ورسوله, وليس لنفسه فيها هوى. والآخر, تحبه نفسه وتشتهيه, ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا للّه ورسوله, أو ينقصه. فإنه إن قدم ما تهواه نفسه, على ما يحبه اللّه, دل على أنه ظالم, تارك لما يجب عليه.

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

" لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين " يمتن تعالى, على عباده المؤمنين, بنصره إياهم في مواطن كثيرة من مواطن اللقاء, ومواضع الحروب والهجاء, حتى في يوم " حنين " الذي اشتدت عليهم فيه الأزمة, ورأو من التخاذل والفرار, ما ضاقت عليهم به الأرض على رحبها وسعتها. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم, لما فتح مكة, سمع أن هوازن اجتمعوا لحربه. فسار إليهم صلى الله عليه وسلم, في أصحابه, الذين فتحوا مكة, وممن أسلم من الطلقاء, أهل مكة. فكانوا اثنى عشر ألفا, والمشركون أربعة آلاف. فأعجب بعض المسلمين بكثرتهم, وقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة. فلما التقوا, هم وهوازن, حملوا على المسلمين حملة واحدة, فانهزموا, لا يلوي أحد على أحد, ولم يبق مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم, إلا نحو مائة رجل, ثبتوا معه, وجعلوا يقاتلون المشركين. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم, يركض بغلته نحو المشركين ويقول " أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب " . ولما رأى من المسلمين ما رأى, أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في الأنصار, وبقية المسلمين, وكان رفيع الصوت فناداهم: يا أصحاب السمرة, يا أهل سورة البقرة. فلما سمعوا صوته, عطفوا عطفة رجل واحد, فاجتلدوا مع المشركين. فهزم اللّه المشركين, هزمة شنيعة, واستولوا على معسكرهم, ونسائهم, وأموالهم. وذلك قوله تعالى " لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ " وهو اسم للمكان الذي كانت فيه الوقعة بين مكة والطائف. " إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا " أي: لم تفدكم شيئا, قليلا ولا كثيرا " وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ " بما أصابكم من الهم والغم, حين انهزمتم " بِمَا رَحُبَتْ " أي على رحبها وسعتها. " ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ " أي منهزمين. " ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين " " ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ " والسكينة: ما يجعله اللّه في القلوب, وقت القلاقل والزلازل, والمفظعات, ما يثبتها, ويسكنها, ويجعلها مطمئنة, وهي من نعم اللّه العظيمة على العباد. " وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا " وهم الملائكة, أنزلهم اللّه معونة للمسلمين يوم حنين, يثبتونهم, ويبشرونهم بالنصر. " وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا " بالهزيمة والقتل, واستيلاء المسلمين على نسائهم وأولادهم وأموالهم. " وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ " يعذبهم اللّه في الدنيا, ثم يردهم في الآخرة إلى عذاب غليظ. " ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم " " ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ " فتاب اللّه على كثير, ممن كانت الوقعة عليهم, وأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, مسلمين تائبين, فرد عليهم نساءهم, وأولادهم. " وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " أي: ذو مغفرة واسعة, ورحمة عامة, يعفو عن الذنوب العظيمة للتائبين, ويرحمهم - بتوفيقهم للتوبة والطاعة, والصفح عن جرائمهم, وقبول توباتهم. فلا ييأسنَّ أحد من رحمته ومغفرته, ولو فعل من الذنوب والإجرام, ما فعل. " يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم " يقول تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ " باللّه الذين عبدوا معه غيره " نَجَسٌ " أي خبثاء في عقائدهم وأعمالهم. وأي نجاسة أبلغ, ممن كان يعبد مع اللّه آلهة, لا تنفع ولا تضر, ولا تغني عنه شيئا؟!!. وأعمالهم ما بين محاربة للّه, وصد عن سبيل اللّه, ونصر للباطل, ورد للحق, وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح. فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها, عنهم. " فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا " وهو سنة تسع من الهجرة, حين حج بالناس أبو بكر الصديق. وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه, عليا, أن يؤذن يوم الحج الأكبر بـ " براءة " . فنادى أن لا يحج بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان. وليس المراد هنا, نجاسة البدن, فإن الكافر - كغيره - طاهر البدن, بدليل أن اللّه تعالى أباح وطء الكتابية ومباشرتها, ولم يأمر بغسل ما أصاب منها. والمسلمون ما زالوا يباشرون أبدان الكفار, ولم ينقل عنهم أنهم تقذرو ا منها, تَقَذُّرَهْم من النجاسات. وإنما المراد - كما تقدم - نجاستهم المعنوية, بالشرك. فكما أن التوحيد والإيمان, طهارة, فالشرك نجاسة. وقوله " وَإِنْ خِفْتُمْ " أيها المسلمون " عَيْلَةً " أي: فقرا وحاجة, من منع المشركين من قربان المسجد الحرام, بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم, من الأمور الدنيوية. " فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ " فليس الرزق مقصورا على باب واحد, ومحل واحد, بل لا ينغلق باب, إلا وفتح غيره أبواب كثيرة, فإن فضل اللّه واسع, وجوده عظيم. خصوصا لمن ترك شيئا لوجه اللّه الكريم, فإن اللّه أكرم الأكرمين. وقد أنجز اللّه وعده, فإن اللّه قد أغنى المسلمين من فضله, وبسط لهم من الأرزاق, ما كانوا به من أكبر الأغنياء والملوك. وقوله: " إِنْ شَاءَ " تعليق للإغناء بالمشيئة, لأن الغنى في الدنيا, ليس من لوازم الإيمان, ولا يدل على محبة اللّه, فلهذا علقه اللّه بالمشيئة. فإن اللّه يعطي الدنيا, من يحب, ومن لا يحب, ولا يعطي الإيمان والدين, إلا من يحب. " إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " أي: علمه واسع, يعلم من يليق به الغنى, ومن لا يليق. ويضع الأشياء مواضعها, وينزلها منازلها. وتدل الآية الكريمة, وهي قوله " فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا " , أن المشركين - بعد ما كانوا, هم الملوك والرؤساء بالبيت, ثم صار بعد الفتح, الحكم لرسول اللّه والمؤمنين, مع إقامتهم في البيت, ومكة المكرمة, ثم نزلت هذه الآية. ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم, أمر أن يجلوا من الحجاز, فلا يبقى فيها دينان. وكل هذا لأجل بُعْدِ كل كافر عن المسجد الحرام, فيدخل في قوله " فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا " .

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

" قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " هذه الآية أمر بقتال الكفار من اليهود والنصارى من " الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ " إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم. " وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " فلا يتبعون شرعه, في تحريم المحرمات. " وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ " أي: لا يدينون بالدين الصحيح, وإن زعموا أنهم على دين, فإنه دين, غير الحق. لأنه إما دين مبدل, وهو: الذي لم يشرعه اللّه أصلا. وإما دين منسوخ قد شرعه اللّه, ثم غيره بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم, فيبقى التمسك به بعد النسخ, غير جائز. فأمره بقتال هؤلاء, وحث على ذلك, لأنهم يدعون إلى ما هم عليه, ويحصل الضرر الكثير منهم للناس, بسبب أنهم أهل كتاب. وغيى ذلك القتال " حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ " أي: المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم, وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم, بين أظهر المسلمين, يؤخذ منهم كل عام, كلٌّ على حسب حاله, من غني, وفقير, ومتوسط, كما فعل ذلك أمير المؤمنين, عمر بن الخطاب وغيره, من أمراء المؤمنين. وقوله " عَنْ يَدٍ " أي: حتى يبذلوها في حال ذلهم, وعدم اقتدارهم, ويعطوها بأيديهم, فلا يرسلون بها خادما, ولا غيره, بل لا تقبل إلا من أيديهم. " وَهُمْ صَاغِرُونَ " . فإذا كانوا بهذه الحال, وسألوا المسلمين أن يقروهم بالجزية, وهم تحت أحكام المسلمين وقهرهم, وحال الأمن من شرهم وفتنتهم, واستسلموا للشروط التي أجراها المسلمون, بما ينفي عزهم وتكبرهم, ويوجب ذلهم وصغارهم, وجب على الإمام أو نائبه, أن يعقدها لهم. وإلا, بأن لم يفوا, ولم يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون, لم يجز إقرارهم بالجزية, بل يقاتلون حتى يسلموا. واستدلوا بهذه الآية, الجمهور, الذين يقولون: لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب, لأن اللّه لم يذكر أخذ الجزية إلا منهم. وأما غيرهم, فلم يذكر إلا قتالهم حتى يسلموا. وألحق بأهل الكتاب - في أخد الجزية, وإقرارهم في ديار المسلمين, المجوس. فإن النبي صلى الله عليه وسلم, أخذ الجزية من مجوس هجر. ثم أخذها أمير المؤمنين عمر, من الفرس المجوس. وقيل: إن الجزية تؤخذ من سائر الكفار, من أهل الكتاب وغيرهم. لأن هذة الآية, نزلت بعد الفراغ من قتال العرب المشركين والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم, فيكون هذا القيد إخبارا بالواقع, لا مفهوما له. ويدل على هذا, أن المجوس أخذت منهم الجزية, وليسوا أهل كتاب. ولأنه قد تواتر عن المسلمين, من الصحابة ومن بعدهم, أنهم يدعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلاث. إما الإسلام, أو أداء الجزية, أو السيف, من غير فرق بين كِتَابِيٍّ وغيره. " وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون " لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب, ذكر من أقوالهم الخبيثة, ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم ولدينهم, على قتالهم, والاجتهاد وبذل الوسع فيه فقال: " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ " وهذه المقالة, وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم فيدل ذلك, على أن في اليهود, من الخبث والشر, ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة, التي تجرأوا فيها على اللّه, وتنقصوا عظمته وجلاله وقد قيل: إن سبب ادعائهم في " عزير " أنه ابن اللّه, أنه لما تسلط الملوك على بني إسرائيل, ومزقوهم كل ممزق, وقتلوا حَمَلَةَ التوراة, وجدوا عزيرا بعد ذلك,, حافظا لها أو أكثرها, فأملاها عليهم من حفظه, واستنسخوها, فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة. " وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ " عيسى بن مريم " ابْنُ اللَّهِ " . قال اللّه تعالى " ذَلِكَ " القول الذي قالوه " قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ " لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا. ومن كان لا يبالي بما يقول, لا يستغرب عليه أي قول يقوله, فإنه لا دين ولا عقل, يحجزه, عما يريد من الكلام. ولهذا قال: " يُضَاهِئُونَ " أي: يشابهون في قولهم هذا " قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ " أي: قول المشركين الذين يقولون: " الملائكة بنات اللّه " تشابهت أقوالهم في البطلان. " قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ " أي: كيف يصرفون على الحق, الصرف الواضح المبين, إلى القول الباطل المبين. " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون " وهذا - وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة, أن تتفق على قول - يدل على بطلانه, أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه - فإن لذلك سببا وهو أنهم: " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ " وهم علماؤهم " وَرُهْبَانَهُمْ " أي: العُبَّاد المتجردين للعبادة. " أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ " يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه, فيحلونه, ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه, ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها. وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم, ويعظمونهم, ويتخذون قبورهم أوثانا, تعبد من دون اللّه, وتقصد بالذبائح, والدعاء, والاستغاثة. " وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ " اتخذوه إلها من دون اللّه. والحال أنهم خالفوا في ذلك, أمر اللّه لهم على ألسنة رسله قال اللّه تعالى: " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " فيخلصون له العبادة والطاعة, ويخصونه بالمحبة والدعاء. فنبذوا أمر اللّه, وأشركوا به, ما لم ينزل به سلطانا. " سُبْحَانَهُ " وتعالى " عَمَّا يُشْرِكُونَ " أي: تنزه وتقدس, وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم, فإنهم ينتقصونه في ذلك, ويصفونه بما لا يليق بجلاله. واللّه تعالى العالي في أوصافه وأفعاله, عن كل ما نسب إليه, مما ينافي كماله المقدس. فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه, ولا برهان لما أصَّلوه, وإنما هو مجرد قول قالوه, وافتراء افتروه - أخبر أنهم " يُرِيدُونَ " بهذا " أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ " . ونور اللّه: دينه, الذي أرسل به الرسل, وأنزل به الكتب. وسماه اللّه نورا, لأنه يستنار به في ظلمات الجهل, والأديان الباطلة. فإنه علم بالحق, وعمل بالحق, وما عداه, فإنه بضده. " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " فهؤلاء اليهود والنصارى, ومن ضاهاهم من المشركين, يريدون أن يطفئوا نور اللّه, بمجرد أقوالهم, التي ليس عليها دليل أصلا. " وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ " لأنه النور الباهر, الذي لا يمكن لجميع الخلق, لو اجتمعوا على إطفائه, أن يطفئوه. والذي أنزله, جميع نواصي العباد بيده. وقد تكفل بحفظه, من كل من يريده بسوء, ولهذا قال: " وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ " وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله, فإن سعيهم, لا يضر الحق شيئا. ثم بين تعالى, هذا النور الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه, فقال: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى " الذي هو العلم النافع " وَدِينِ الْحَقِّ " الذي هو العمل الصالح فكان ما بعث اللّه به محمدا صلى الله عليه وسلم, مشتملا على بيان الحق من الباطل, في أسماء اللّه, وأوصافه, وأفعاله, وفي أحكامه وأخباره, والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب, والأرواح, والأبدان, من إخلاص الدين للّه وحده, ومحبة اللّه وعبادته, والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم, والأعمال الصالحة, والآداب النافعة, والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه, من الأخلاق, والأعمال السيئة, المضرة للقلوب والأبدان, والدنيا والآخرة. فأرسله اللّه بالهدى ودين الحق " لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ " أي: ليعليه على سائر الأديان, بالحجة والبرهان, والسيف والسنان. وإن كره المشركون ذلك, وبغوا له الغوائل, ومكروا مكرهم, فإن المكر السيئ, لا يضر إلا صاحبه. فوعد اللّه, لا بد أن ينجزه, وما ضمنه, لابد أن يقوم به. " يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " هذا تحذير من اللّه تعالى لعباده المؤمنين, عن كثير من الأحبار والرهبان, أي: العلماء والعباد, الذين يأكلون أموال الناس بالباطل, أي: بغير حق, ويصدون عن سبيل اللّه. فإنهم - إذا كانت لهم رواتب من أموال الناس, أو بذل الناس لهم من أموالهم - فإنه لأجل علمهم وعبادتهم, ولأجل هداهم وهدايتهم. وهؤلاء يأخذونها, ويصدون الناس عن سبيل اللّه, فيكون أخذهم لها, على هذا الوجه, سحتا وظلما. فإن الناس ما بذلوا لهم من أموالهم, إلا ليدلوهم على الطريق المستقيم. ومن أخذهم لأموال الناس بغير حق, أن يعطوهم ليفتوهم, أو يحكموا لهم بغير ما أنزل اللّه. فهؤلاء الأحبار والرهبان, ليحذر منهم هاتان الحالتان: أخذهم لأموال الناس بغير حق, وصدهم الناس عن سبيل اللّه. " وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ " أي: يمسكونها " وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ " أي: طرق الخير الموصلة إلى اللّه, وهذا هو الكنز المحرم, أن يمسكها عن النفقة الواجبة. كأن يمنع منها الزكاة أو النفقات الواجبة للزوجات, أو الأقارب, أو النفقة في سبيل اللّه إذا وجبت. " فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " ثم فسره بقوله: " يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " " يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا " أي: على أموالهم. " فِي نَارِ جَهَنَّمَ " فيحمى كل دينار أو درهم على حدته. " فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ " في يوم القيامة كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, ويقال لهم توبيخا ولوما: " هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ " فما ظلمكم ولكنكم ظلمتم أنفسكم, وعذبتموها بهذا الكنز. وذكر اللّه في هاتين الآيتين, انحراف الإنسان في ماله, وذلك بأحد أمرين: إما أن ينفقه في الباطل, الذي لا يجدي عليه نفعا, بل لا يناله منه إلا الضرر المحض. وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشهوات, التي لا تعين على طاعة اللّه, وإخراجها للصد عن سبيل اللّه. وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات, و " النهي عن الشيء, أمر بضده " .

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

@أم يُمنى

 

وفيك بارك الرحمن

 

وجزاك الله خيرعلى المتابعة

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

" إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين " يقول تعالى " إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ " أي في قضاء اللّه وقدره. " اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا " وهي هذه الشهور المعروفة " فِي كِتَابِ اللَّهِ " أي في حكمه القدري. " يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " وأجرى ليلها ونهارها, وقدر أوقاتها فقسمها على هذه الشهور الاثنى عشر شهرا. " مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ " وهي رجب الفرد, وذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم. وسميت حرما, لزيادة حرمتها, وتحريم القتال فيها. " فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ " يحتمل أن الضمير يعود إلى الاثنى عشر شهرا, وأن اللّه تعالى, بين أنه جعلها مقادير للعباد, وأن تعمر بطاعته, ويشكر اللّه تعالى على مِنَّتِهِ بها, وتقييضها لصالح العباد, فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها. ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم, وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها, خصوصا مع النهي عن الظلم كل وقت, لزيادة تحريمها, وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها. ومن ذلك, النهي عن القتال فيها, على قول من قال: إن القتال في الأشهر الحرم لم ينسخ تحريمه, عملا بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها. ومنهم من قال: إن تحريم القتال فيها منسوخ, أخذا بعموم نحو قوله تعالى: " وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً " أي: قاتلوا جميع أنواع المشركين, والكافرين برب العالمين. ولا تخصوا أحدا منهم بالقتال دون أحد, بل اجعلوهم كلهم لكم أعداء كما كانوا هم معكم كذلك, قد اتخذوا أهل الإيمان أعداء لهم, لا يألونهم من الشر شيئا. ويحتمل أن " كَافَّةً " حال من الواو فيكون معنى هذا: وقاتلوا جميعكم المشركين, فيكون فيها وجوب النفير, على جميع المؤمنين. وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله: " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً " الآية. " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ " بعونه, ونصره, وتأييده. فلتحرصوا على استعمال تقوى اللّه, في سركم, وعلنكم, والقيام بطاعته. خصوصا عند قتال الكفار, فإنه في هذه الحال, بما ترك المؤمن العمل بالتقوى في معاملة الكفار الأعداء المحاربين. " إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين " النسيء هو: ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم. وكان من جملة بدعهم الباطلة, أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال, في بعض أوقات الأشهر الحرم, رأوا - بآرائهم الفاسدة - أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم, التي حرم اللّه القتال فيها, وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم, أو يقدموه, ويجعلوا مكانه من أشهر الحل, ما أرادوا. فإذا جعلوه مكانه, أحلوا القتال فيه, وجعلوا الشهر الحلال حراما. فهذا - كما أخبر اللّه عنهم - أنه زيادة في كفرهم وضلالهم, لما فيه من المحاذير. منها: أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم, وجعلوه بمنزلة شرع اللّه ودينه. واللّه ورسوله بريئان منه. ومنها: أنهم قلبوا الدين, فجعلوا الحلال حراما, والحرام حلالا. ومنها: أنهم مَوَّهوا على اللّه بزعمهم, وعلى عباده, ولبسوا عليهم دينهم, واستعملوا الخداع والحيلة في دين اللّه. ومنها: أن العوائد المخالفة للشرع, مع الاستمرار عليها, يزول قبحها عن النفوس. وربما ظن, أنها عوائد حسنة, فحصل من الغلط والضلال, ما حصل. ولهذا قال: " يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ " أي: ليوافقوها في العدد, فيحلوا ما حرم اللّه. " زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ " أي: زينت لهم الشياطين, الأعمال السيئة, فرأوها حسنة, بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم. " وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ " أي: الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم, فلو جاءتهم كل آية, لم يؤمنوا. اعلم أن كثيرا من هذه السورة الكريمة, نزلت في غزوة تبوك. إذ ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى غزو الروم, وكان الوقت حارا, والزاد قليلا, والمعيشة عسرة. فحصل من بعض المسلمين من التثاقل, ما أوجب أن يعاتبهم اللّه تعالى عليه ويستنهضهم, فقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " ألا تعلمون بمقتضى الإيمان, ودواعي اليقين, من المبادرة لأمر اللّه, والمسارعة إلى رضاه, وجهاد أعدائه لدينكم. فـ " مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ " أي: تكاسلتم, وملتم إلى الأرض, والدعة, والكون فيها. " أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ " أي: ما حالكم إلا حال من رضي بالدنيا, وسعى لها, ولم يبال بالآخرة, فكأنه ما آمن بها. " فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " التي مالت بكم, وقدمتموها على الآخرة " إِلَّا قَلِيلٌ " . أفليس قد جعل اللّه لكم عقولا, تَزِنُون بها الأمور, وأيها أحق بالإيثار؟. أفليست الدنيا - من أولها إلى آخرها - لا نسبة لها في الآخرة. فما مقدار عمر الإنسان القصير جدا من الدنيا, حتى يجعله الغاية, التي لا غاية وراءها. فيجعل سعيه, وكده وهمه, وإرادته, لا يتعدى الحياة الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار, المشحونة بالأخطار. فبأي رَأْيٍ, رأيتم إيثارها على الدار الآخرة, الجامعة لكل نعيم, التي فيها ما تشتهيه الأنفس, وتلذ الأعين, وأنتم فيها خالدون. فواللّه ما آثر الدنيا على الآخرة, من وقر الإيمان في قلبه, ولا من جزل رأيه, ولا من عُدَّ من أولي الألباب. " إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير " ثم توعدهم على عدم النفير فقال: " إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا " في الدنيا والآخرة. فإن عدم النفير في حال الاستنفار, من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب, لما فيه من المضار الشديدة. فإن المتخلف, قد عصى اللّه تعالى, وارتكب لنهيه, ولم يساعد على نصر دين اللّه, ولا ذب عن كتاب اللّه وشرعه, ولا أعان إخوانه المسلمين على عدوهم, الذي يريد أن يستأصلهم, ويمحق دينهم. وربما اقتدى به غيره من ضعفاء الإيمان, بل ربما فَتَّ في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء اللّه. فحقيق بمن هذا حاله, أن يتوعده اللّه بالوعيد الشديد, فقال: " إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا " فإنه تعالى متكفل بنصرة دينه وإعلاء كلمته. فسواء امتثلتم لأمر اللّه, أو ألقيتموه, وراءكم ظهريا. " وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " لا يعجزه شيء أراده, ولا يغالبه أحد. " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم " أي: إلا تنصروا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم, فاللّه غني عنكم, لا تضرونه شيئا. فقد نصره في أقل ما يكون " إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا " من مكة, لما هموا بقتله, وسعوا في ذلك, وحرصوا أشد الحرص, فالجأوه إلى أن يخرج. " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " أي: هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه. " إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ " أي: لما هربا من مكة, لجآ إلى غار ثور, في أسفل مكة, فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب. فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة, حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما فأنزل اللّه عليهما, من نصره, ما لا يخطر على البال. " إِذْ يَقُولُ " النبي صلى الله عليه وسلم " لِصَاحِبِهِ " أبي بكر لما حزن واشتد قلقه. " لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا " بعونه ونصره وتأييده. " فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ " أي: الثبات والطمأنينة, والسكون المثبتة للفؤاد. ولهذا لما قلق صاحبه سكنه و " قال لا تحزن إن اللّه معنا " . " وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا " وهي الملائكة الكرام, الذين جعلهم اللّه حرسا له. " وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى " أي: الساقطة المخذولة. فإن الذين كفروا, كانوا على حرد قادرين, في ظنهم أنهم يقدرون على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم, وأخذه, حنقين عليه, فعملوا غاية مجهودهم في ذلك. فخذلهم اللّه, ولم يتم لهم مقصودهم, بل ولا أدركوا شيئا منه. ونصر اللّه رسوله, بدفعه عنه. وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع. فإن النصر على قسمين, نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم, بأن يتم اللّه لهم ما طلبوا, وقصدوا, ويستولوا على عدوهم, ويظهروا عليهم. والثاني نصر المستضعف, الذين طمع فيه عدوه القادر. فنصر اللّه إياه, أن يرد عنه عدوه, ويدافع عنه, ولعل هذا النصر أنفع النصرين. ونصر اللّه رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع. وقوله " وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا " أي كلماته القدرية, وكلماته الدينية, هي العالية على كلمة غيره, التي من جملتها قوله: " وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ " , " إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ " , " وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ " . فدين اللّه, هو الظاهر العالي, على سائر الأديان, بالحجج الواضحة, والآيات الباهرة والسلطان الناصر. " وَاللَّهُ عَزِيزٌ " لا يغالبه مغالب, ولا يفوته هارب. " حَكِيمٌ " يضع الأشياء مواضعها, وقد يؤخر نصر حزبه, إلى وقت آخر, اقتضته الحكمة الإلهية. وفي هذه الآية الكريمة, فضيلة أبي بكر الصديق, بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة, وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة, والصحبة الجميلة. وقد أجمع المسلمون, على أنه هو المراد بهذه الآية الكريمة. ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم, كافرا لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها. وفيها فضيلة السكينة, وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد, في أوقات الشدائد والمخاوف, التي تطيش لها الأفئدة, وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه, وثقته بوعده الصادق, وبحسب إيمانه وشجاعته. وفيها: أن الحزن قد يعرض لخواص عباده الصديقين, مع أن الأولى - إذا نزل بالعبد - أن يسعى في ذهابه عنه, فإنه مضعف للقلب, موهن للعزيمة. " انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " يقول تعالى, لعباده المؤمنين - مهيجا لهم على النفير في سبيله:- " انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " في العسر واليسر, والمنشط والمكره, والحر والبرد, وفي جميع الأحوال. " وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " أي: ابذلوا جهدكم في ذلك, واستفرغوا وسعكم, في المال والنفس. وفي هذا دليل, على أنه - كما يجب الجهاد في النفس - يجب في المال, حيث اقتضت الحاجة, ودعت لذلك. ثم قال " ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ " أي: الجهاد في النفس والمال, خير لكم من التقاعد عن ذلك, لأن فيه رضا اللّه تعالى, والفوز بالدرجات العاليات عنده, والنصر لدين اللّه, والدخول جملة جنده وحزبه. " لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون " " لَوْ كَانَ " خروجهم " عَرَضًا قَرِيبًا " أي: لطلب عرض قريب, ومنفعة دنيوية, سهلة التناول وكان السفر " وَسَفَرًا قَاصِدًا " أي: قريبا سهلا. " لَاتَّبَعُوكَ " لعدم المشقة الكثيرة. " وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ " أي: طالت عليهم المسافة, وصعب عليهم السفر, فلذلك تثاقلوا عنك. وليس هذا من أمارات العبودية, بل العبد حقيقة, هو المتعبد لربه في كل حال, القائم بالعبادة السهلة والشاقة, فهذا العبد للّه على كل حال. " وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ " أي: سيحلفون لتخلفهم عن الخروج - أن لهم عذرا, وأنهم لا يستطيعون ذلك. " يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ " بالقعود والكذب, والإخبار بغير الواقع. " وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " . وهذا العتاب, إنما هو للمنافقين, الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم, في " غزوة تبوك " وأبدوا من الأعذار الكاذبة ما أبدوا. فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بمجرد اعتذارهم, من غير أن يمتحنهم, فيتبين له الصادق من الكاذب, ولهذا عاتبه اللّه على هذه المسارعة إلى قبول اعتذارهم فقال: " عَفَا اللَّهُ عَنْكَ " إلى قوله " فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ " " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم " عَفَا اللَّهُ عَنْكَ " أي: سامحك, وغفر لك ما أجريت. " لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ " في التخلف " حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ " . بأن تمحنهم, ليتبين لك الصادق من الكاذب, فتعذر من يستحق العذر, ممن لا يستحق ذلك. " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين " ثم أخبر, أن المؤمنين باللّه واليوم الآخر, لا يستأذنون في ترك الجهاد, بأموالهم وأنفسهم, لأن ما معهم من الرغبة في الخير والإيمان, يحملهم على الجهاد, من غير أن يحثهم عليه حاث, فضلا عن كونهم يستأذنون في تركه من غير عذر. " وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ " فيجازيهم على ما قاموا به من تقواه. ومن علمه بالمتقين, أنه أخبر, أن من علاماتهم, أنهم لا يستأذنون في ترك الجهاد. " إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون " " إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ " أي: ليس لهم إيمان تام, ولا يقين صادق, فلذلك قلَّتْ رغبتهم في الخير, وجبنوا عن القتال, واحتاجوا أن يستأذنوا في ترك القتال. " فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ " أي: لا يزالون في الشك والحيرة. " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين " يقول تعالى: مبينا أن المتخلفين من المنافقين, قد ظهر منهم من القرائن, ما يبين أنهم ما قصدوا الخروج بالكلية, وأن أعذارهم التي اعتذروها, باطلة, فإن العذر, هو المانع الذي يمنع, إذا بذل العبد وسعه, وسعى في أسباب الخروج, ثم منعه مانع شرعي, فهذا الذي يعذر. " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين " وأما هؤلاء المنافقون " وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً " أي: لاستعدوا وعملوا ما يمكنهم من الأسباب. ولكن لما لم يعدوا له عدة, علم أنهم ما أرادوا الخروج. " وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ " معكم في الخروج للغزو " فَثَبَّطَهُمْ " قدرا وقضاء, وإن كان قد أمرهم, وحثهم على الخروج, وجعلهم مقتدرين عليه. ولكن بحكمته ما أراد إعانتهم, بل خذلهم وثبطهم " وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ " من النساء والمعذورين. " لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون " ثم ذكر الحكمة في ذلك فقال " لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا " أي: نقصا. " وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ " أي: ولسعوا في الفتنة والشر بينكم, وفرقوا جماعتكم المجتمعين. " يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ " أي: هم حريصون على فتنتكم, وإلقاء العداوة بينكم. " وَفِيكُمْ " أناس ضعفاء العقول " سَمَّاعُونَ لَهُمْ " أي: مستجيبون لدعوتهم, يغترون بهم. فإذا كانوا حريصين على خذلانكم, وإلقاء الشر بينكم, وتثبيطكم عن أعدائكم, وفيكم من يقبل منهم, ويستنصحهم. فما ظنك بالشر الحاصل من خروجهم مع المؤمنين, والنقص الكثير منهم؟. فللّه ما أتم الحكمة حيث ثبطهم, ومنعهم من الخروج مع عباده المؤمنين رحمة بهم, ولطفا من أن يداخلهم, ما لا ينفعهم, بل يضرهم. " وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ " فيعلم عباده كيف يحذرونهم, ويبين لهم من المفاسد الناشئة من مخالطتهم. ثم ذكر أنه قد سبق لهم سوابق في الشر فقال: " لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ " أي: حين هاجرتم إلى المدينة, فبذلوا الجهد. " وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ " : أي: أداروا الأفكار, وأعملوا الحيل, في إبطال دعوتكم, وخذلان دينكم, ولم يقصروا في ذلك. " حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ " فبطل كيدهم واضمحل باطلهم. فحقيق بمثل هؤلاء, أن يحذر اللّه عباده المؤمنين منهم, وأن لا يبالي المؤمنين,, بتخلفهم عنهم. " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " أي: ومن هؤلاء المنافقين, من يستأذن في التخلف, ويعتذر بعذر آخر عجيب. فيقول: " ائْذَنْ لِي " في التخلف " وَلَا تَفْتِنِّي " في الخروج. فإني إذا خرجت, فرأيت نساء بين الأصفر, لا أصبر عنهن, كما قال ذلك " الجد بن قيس " . ومقصوده في قلبه - قبحه اللّه - الرياء والنفاق ويعبر بلسانه بأن مقصودي مقصود حسن, فإن في خروجي فتنة وتعرضا للشر, وفي عدم خروجي, عافية, وكفا عن الشر. قال اللّه تعالى - مبينا كذب هذا القول - " أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا " . فإنه على تقدير صدق هذا القائل في قصده, فإن في التخلف مفسدة كبرى, وفتنة عظمى, محققة, وهي: معصية اللّه, ومعصية رسوله, والتجرى على الإثم الكبير, والوزر العظيم. وأما الخروج, فمفسدة قليلة بالنسبة للتخلف, وهي متوهمة. مع أن هذا القائل قصده التخلف لا غير, ولهذا توعدهم اللّه بقوله: " وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ " ليس لهم عنها مفر ولا مناص, ولا فكاك, ولا خلاص.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

" إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون " يقول تعالى - مبينا أن المنافقين, هم الأعداء حقا, المبغضون للدين صرفا. " إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ " كنصر وإدالة على العدو " تَسُؤْهُمْ " أي: تحزنهم وتغمهم. " وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ " كإدالة العدو عليك " يَقُولُوا " متبجحين بسلامتهم من الحضور معك. " قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ " أي: قد حذرنا وعملنا, بما ينجينا من الوقوع في مثل هذه المصيبة. " وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ " بمصيبتك, وبعدم مشاركتهم إياك فيها. " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " قال تعالى - رادا عليهم في ذلك - " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا " أي: ما قدره وأجراه في اللوح المحفوظ. " هُوَ مَوْلَانَا " أي: متولي أمورنا الدينية والدنيوية, فعلينا الرضا بأقداره, وليس في أيدينا من الأمر شيء. " وَعَلَى اللَّهِ " وحده " فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ " أي: ليعتمدوا عليه, في جلب مصالحهم, ودفع المضار عنهم, وليثقوا به في تحصيل مطلوبهم, فلا خاب من توكل عليه. وأما من توكل على غيره, فإنه مخذول, غير مدرك لما أمل. " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون " أي: قل للمنافقين, الذين يتربصون بكم الدوائر: أي شيء تربصون بنا؟ فإنكم لا تربصون بنا, إلا أمرا, فيه غاية نفعنا, وهو إحدى الحسنيين. إما الظفر بالأعداء, والنصر عليهم, ونيل الثواب الأخروي والدنيوي. وإما الشهادة التي هي من أعلى درجات الخلق, وأرفع المنازل عند اللّه. وأما تربصنا بكم - يا معشر المنافقين - فنحن نتربص بكم, أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده, لا سبب لنا فيه, أو بأيدينا, بأن يسلطنا عليكم فنقتلكم. " فَتَرَبَّصُوا " بنا الخير " إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ " بكم الشر. " قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين " يقول تعالى - مبينا بطلان نفقات المنافقين, وذاكرا السبب في ذلك - " قُلْ " لهم " أَنْفِقُوا طَوْعًا " من أنفسكم " أَوْ كَرْهًا " على ذلك, بغير اختياركم. " لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ " شيء من أعمالكم " إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ " خارجين عن طاعة اللّه. " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون " ثم بين صفة فسقهم وأعمالهم بقوله: " وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ " والأعمال كلها, شرط قبولها, الإيمان, فهؤلاء, لا إيمان لهم, ولا عمل صالح. حتى إن الصلاة, التي هي أفضل أعمال البدن, إذا قاموا إليها, قاموا كسالى, وقد بين اللّه ذلك فقال: " وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى " أي: متثاقلون, لا يكادون يفعلونها, من ثقلها عليهم. " وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ " من غير انشراح صدر, وثبات نفس. ففي هذا, غاية الذم, لمن فعل مثل فعلهم. وأنه ينبغي للعبد, أن لا يأتي الصلاة, إلا وهو نشيط البدن, والقلب إليها. ولا ينفق, إلا وهو منشرح الصدر, ثابت القلب, يرجو ذخرها وثوابها من اللّه وحده, ولا يتشبه بالمنافقين. " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " يقول تعالى: فلا تعجبك أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم, فإنه لا غبطة فيها. وأول بركاتها عليهم, أن قدموها على مراضى ربهم, وعصوا اللّه لأجلها " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " . والمراد بالعذاب هنا, ما ينالهم من المشقة في تحصيلها, والسعي الشديد في ذلك, وهم القلب فيها, وتعب البدن. فلو قابلت لذاتهم فيها بمشقاتهم, لم يكن لها نسبة إليها, فهي - لما ألهتهم عن اللّه وذكره - صارت وبالا عليهم, حتى في الدنيا. ومن وبالها العظيم الخطر, أن قلوبهم تتعلق بها, وإرادتهم لا تتعداها فتكون منتهى مطلوبهم, وغاية مرغوبهم ولا يبقى في قلوبهم للآخرة نصيب, فيوجب ذلك, أن ينتقلوا من الدنيا " وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ " . فأي: عقوبة أعظم من هذه العقوبة, الموجبة للشقاء الدائم, والحسرة الملازمة. " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون " " وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ " قصدهم في حلفهم هذا أنهم " قَوْمٌ يَفْرَقُونَ " أي: يخافون الدوائر, وليس في قلوبهم شجاعة تحملهم على أن يبينوا أحوالهم. فيخافون إن أظهروا حالهم منكم, ويخافون أن تتبرأوا منهم, فيتخطفهم الناس من كل جانب. وأما حال قوي القلب, ثابت الجنان, فإنه يحمله ذلك, على بيان حاله, حسنة كانت أو سيئة. ولكن المنافقين خلع عليهم خلعة الجبن, وحلوا بحلية الكذب. " لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون " ثم ذكر شدة جبنهم فقال: " لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً " يلجأون إليه عندما تنزل بهم الشدائد. " أَوْ مَغَارَاتٍ " يدخلونها, فيستقرون فيها " أَوْ مُدَّخَلًا " أي: محلا يدخلونه فيتحصنون فيه " لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ " أي: يسرعون ويهرعون. فليس لهم ملكة, يقتدرون بها على الثبات. " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " أي: ومن هؤلاء المنافقين, من يعيبك في قسمة الصدقات, وينتقد عليك فيها. وليس انتقادهم فيها وعيبهم, لقصد صحيح, ولا لرأي رجيح, وإنما مقصودهم أن يعطوا منها. " فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ " وهذه حالة, لا ينبغي للعبد أن يكون رضاه وغضبه, تابعا لهوى نفسه الدنيوي, وغرضه الفاسد. بل الذي ينبغي, أن يكون لمرضاة ربه, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم, " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " . " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون " وقال هنا: " وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " أي: أعطاهم من قليل وكثير. " وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ " أي: كافينا اللّه, فنرضى بما قسمه لنا. وليؤملوا فضله وإحسانه إليهم بأن يقولوا: " سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ " أي: متضرعون في جلب منافعنا, ودفع مضارنا. ثم بين تعالى كيفية قسمة الصدقات الواجبة فقال: " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ " إلى " عَلِيمٌ حَكِيمٌ " . " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم " يقول تعالى: " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ " أي: الزكوات الواجبة, بدليل أن الصدقة المستحبة لكل أحد, لا يخص بها أحد دون أحد. إنما الصدقات - لهؤلاء المذكورين, دون من عداهم, لأنه حصرها فيهم, وهم ثمانية أصناف. الأول والثاني الفقراء, والمساكين, وهم في هذا الموضع, صنفان متفاوتان. فالفقير, أشد حاجة من المسكين, لأن اللّه بدأ بهم, ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم, ففسر الفقير, بأنه الذي لا يجد شيئا, أو يجد بعض كفايته دون نصفها. والمسكين: هو الذي يجد نصفها فأكثر, ولا يجد تمام كفايته, لأنه لو وجدها لكان غنيا, فيعطون من الزكاة, ما يزول به فقرهم ومسكنتهم. والثالث: العاملون على الزكاة, وهم: كل من له عمل وشغل فيها, من حافظ لها, وجاب لها من أهلها, أو راع, أو حامل لها, أو كاتب, أو نحو ذلك. فيعطون لأجل عمالتهم, وهي أجرة لأعمالهم فيها. والرابع: المؤلفة قلوبهم. والمؤلفة قلبه هو: السيد المطاع في قومه, ممن يرجى إسلامه, أو يخشى شره أو يرجى بعطيته, قوة إيمانه, أو إسلام نظيره, أو جبايتها ممن لا يعطيها. فيعطى, ما يحصل به التأليف والمصلحة. الخامس: الرقاب, وهم المكاتبون الذين قد اشتروا أنفسهم من ساداتهم. فهم يسعون في تحصيل ما يفك رقابهم, فيعانون على ذلك من الزكاة. وفك الرقبة المسلمة التي في حبس الكفار, داخل في هذا, بل أولى. ويدخل في هذا, أنه يجوز أن يعتق الرقاب استقلالا, لدخوله في قوله " وفي الرقاب " . السادس, الغارمون, وهم قسمان: أحدهما: الغارمون لإصلاح ذات البين, وهو أن يكون بين طائفتين من الناس, شر وفتنة, فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم, بما يبذله لأحدهم أو لهم كلهم. فجعل له نصيب من الزكاة, ليكون أنشط له, وأقوى لعزمه, فيعطى, ولو كان غنيا. والثاني: من غرم لنفسه, ثم أعسر, فإنه يعطى ما يُوَفِّى به دينه. والسابع: الغازي في سبيل اللّه, وهم: الغزاة المتطوعة, الذين لا ديوان لهم. فيعطون من الزكاة, ما يعينهم على غزوهم, من ثمن سلاح, أو دابة, أو نفقة له ولعياله, ليتوفر على الجهاد, ويطمئن قلبه. وقال كثير من الفقهاء: إن تفرغ القادر على الكسب لطلب العلم, أعطى من الزكاة, لأن العلم داخل في الجهاد في سبيل اللّه. وقالوا أيضا: يجوز أن يعطى منها الفقير, لحج فرضه, وفيه نظر. والثامن: ابن السبيل, وهو: الغريب المنقطع به في غير بلده. فيعطى من الزكاة, ما يوصله إلى بلده. فهؤلاء الأصناف الثمانية, الذين تدفع إليهم الزكاة وحدهم. " فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ " فرضها وقدرها, تابعة لعلمه وحكمه " وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " . واعلم أن هذه الأصناف الثمانية, ترجع إلى أمرين. أحدهما: من يعطى لحاجته ونفعه, كالفقير, والمسكين, ونحوهما. والثاني: من يعطى للحاجة إليه, وانتفاع الإسلام به. فأوجب اللّه هذه الحصة, في أموال الأغنياء, لسد الحاجات الخاصة والعامة, للإسلام والمسلمين. فلو أعطى الأغنياء زكاة أموالهم, على الوجه الشرعي, لم يبق فقير من المسلمين. ولحصل من الأموال, ما يسد الثغور, ويجاهد به الكفار, وتحصل به جميع المصالح الدينية. " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم " أي: من هؤلاء المنافقين " الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ " بالأقوال الردية, والعيب له ولدينه. " وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ " أي: لا يبالون بما يقولون من الأذية للنبي. ويقولون: إذا بلغه عنا بعض ذلك, جئنا نعتذر إليه, فيقبل منا, لأنه أذن, أي: يقبل كل ما يقال له, لا يميز بين صادق وكاذب. وقصدهم - قبحهم اللّه - فيما بينهم, أنهم غير مكترثين بذلك, ولا مهتمين به. لأنه إذا لم يبلغه, فهذا مطلوبهم, وإن بلغه, اكتفوا بمجرد الاعتذار الباطل. فأساءوا كل الإساءة, من أوجه كثيرة, أعظمها أذية نبيهم, الذي جاء لهدايتهم, وإخراجهم من الشقاء والهلاك, إلى الهدى والسعادة. ومنها: عدم اهتمامهم أيضا بذلك, وهو قدر زائد على مجرد الأذية. ومنها: قدحهم في عقل النبي صلى الله عليه وسلم, وعدم إدراكه, وتفريقه بين الصادق والكاذب. وهو أكمل الخلق عقلا, وأتمهم إدراكا, وأثقبهم رأيا وبصيرة, ولهذا قال تعالى: " قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ " أي: يقبل من قال له خيرا وصدقا. وأما إعراضه وعدم تعنيفه لكثير من المنافقين المعتذرين بالأعذار الكاذبة, فلسعة خلقه, وعدم اهتمامه بشأنهم, وامتثاله لأمر اللّه في قوله: " سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ " . وأما حقيقة ما في قلبه ورأيه, فقال عنه: " يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ " الصادقين المصدقين, ويعلم الصادق من الكاذب, وإن كان كثيرا ما يعرض عن الذين يعرف كذبهم وعدم صدقهم. " وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ " فإنهم به مهتدون, وبأخلاقه يقتدون. وأما غير المؤمنين فإنهم لم يقبلوا هذه الرحمة, بل ردوها, فخسروا دنياهم وآخرتهم. " وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ " بالقول والفعل " لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " في الدنيا والآخرة. ومن العذاب الأليم, أنه يتحتم قتل مؤذيه وشاتمه. " يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين " " يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ " فيتبرأوا مما صدر منهم من الأذية وغيرها. فغايتهم أن ترضوا عليهم. " وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ " لأن المؤمن لا يقدم شيئا على رضا ربه. فدل هذا, على انتفاء إيمانهم, حيث قدموا رضا غير اللّه ورسوله. " ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم " وهذا محادة للّه, ومشاقة له, وقد توعد من حاده بقوله: " أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " بأن يكون في حد وشق مبعد عن اللّه ورسوله بأن تهاون بأوامر اللّه, وتجرأ على محارمه. " فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ " الذي لا خزي أشنع ولا أفظع منه, حيث فاتهم النعيم المقيم, وحصلوا على عذاب الجحيم عياذا باللّه من حالهم.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×