اذهبي الى المحتوى

امانى يسرى محمد

العضوات
  • عدد المشاركات

    7600
  • تاريخ الانضمام

  • تاريخ آخر زيارة

  • الأيام التي فازت فيها

    60

مشاركات المكتوبهة بواسطة امانى يسرى محمد


  1. بسم الله الرحمن الرحيم

    إنَّ القرآن العظيم لا تنقضي عجائبُه، ولا تُحصَى معانِيهِ وفوائدُه، فهو كلامُ اللهِ العليمِ الخبيرِ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولهذا حثنا اللهُ سبحانَهُ على قراءته وتدبره، ففي تدبُّرِ القرآنِ والعملِ بِهِ شفاءٌ للفردِ وللمجتمع من أمراضه الحسية والمعنوية، وتلبيةٌ لحاجاتِهِ الدنيوية والأخروية، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) فالله الذي خلق عباده هو أعلم بما يصلحهم، قال تعالى: (ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، وقال سبحانه: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ).
    فمَنْ عَرَفَ فَضْلَ القرآنِ تلهَّفَ إليه تَلَهُّفَ الظمآنِ إلى الماء، والزُّروعِ إلى السَّماء، والمريضِ إلى الشفاء، والغريقِ إلى الهواء، والمسجونِ إلى الحرية والفضاء..
    والذي يعيش بدون القرآن والعمل به والاستهداء بهديه، فإنَّ حياتَه (كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
    وقد بيَّنَ اللهُ سبحانَهُ الغايةَ من إنزالِ القرآنِ فقال سبحانه: 
    (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، فالتفكر في آيات الله والتدبر لها يوصل إلى الهداية بكتاب الله (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).
    فتدبر القرآن هو مفتاحٌ للعلوم والمعارف، وبه يزداد الإيمان في القلب. وكلما ازداد العبد تأملاً فيه ازداد علماً وعملاً وبصيرة.
    وقد نعى الله على المشركين إعراضَهم عن القرآن وعدمَ استفادَتِهم من عِبَره وهديه فقال سبحانه: (
    أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ).
    إِنَّ تدبر القرآن هو التأمُّلُ لفهم المعنى، والتوصُّلُ إلى معرفةِ مقاصدِ الآياتِ وأهدافها، وما ترمي إليه من المعاني والحِكَمِ والأحكام، وذلك بقصد الانتفاع بما فيها من العلم والإيمان، والاهتداء بها والامتثال بما تدعو إليه..

    ولكن كيف يمكن تدبر القرآن الكريم؟
    هناك خُطُواتٌ عمليةٌ ووسائلُ تعين على تدبر القرآن الكريم، منها:


    1ـ تنويرُ البصيرةِ بالإقبالِ على الله تعالى والقُرْبِ مما يحبُّه الله والامتثالِ لأمره، والابتعادِ عما نهى عنه، قال سبحانه: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً)، فالعلمُ نورٌ، والمعصيةُ ظُلْمَةٌ، ولا بدَّ لمن يريدُ النورَ أنْ يبتعدَ عن كلِّ ما فيه ظُلْمَة، فكلما ابتعدَ المسلمُ عن المعاصي كان أقربَ إلى التوفيقِ والسداد.

    2ـ ومما يعين على تدبر القرآن: استشعارُ عَظَمَةِ القرآنِ وذلك باليقينِ التام بأنك مع القرآن حيٌّ وبدونه ميت، ومع القرآن مُبْصِرٌ وبدونه أعمى، ومع القرآنِ مُهْتَدٍ وبدونه ضَال.
    والاستشعارُ بأن القرآن كلام الله تعالى وأنه رسائلُ أرسَلَها الله إلى عباده لهدايتهم لأفضل السُّبُل التي فيها نفعهم في الدنيا والآخرة، فالإسلام هو أكملُ نظامٍ عرفته البشرية لإصلاح الناس، وخيرُ ما يعبِّرُ عن الإسلام هو القرآن العظيم.
    فالقرآن شفاءٌ من أمراض الشهوات والشبهات، والقرآن يعطي منهجاً سليماً في الحياة ويُصْلِحُ الفردَ والمجتمع.
    وكيف لا يَسْتَشْعِرُ عَظَمَةَ القرآن مَنْ عَرَفَ أنَّ القرآنَ هو كلامُ الله تعالى، فإذا كان القرآنُ هو كلامُ اللهِ سبحانه فإنَّ فضلَ القرآنِ على سائر الكلام كفضلِ اللهِ تعالى على خلقه.
    لقد وصف الله تعالى تأثُّرَ المؤمنين بالقرآن فقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً)، وقال تعالى: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).
    فقد وَصَفَ اللهُ المؤمنين الذين يخشونه بأنهم تَقْشَعِرُّ جلودُهُم من هذا القرآن الكريم تعظيماً له، وذلك الذي بعثهم على الخضوع له والانقياد، ولذلك قال بعدها: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ). فالتدبر لا يكون إلا بالتعظيم لله ولكتابه العظيم.

    3ـ ومن الوسائل التي تعين على تدبر القرآن: أنْ يَحْسَبَ أنه هو المخاطب بالقرآن الكريم، فماذا لو حَسِبَ كلٌّ منَّا أنَّ القرآن قد أنزل عليه، وأنه هو المخاطب به، فكيف سيَتَلَقَّى رسائلَهُ ومواعظَهُ، وأوامرَهُ ونواهيَهُ، فما أنفسَها وما أعظمَها مِنْ رسائلَ قالها الخالقُ العظيمُ لخلقه وعباده الذين لا يعرفون من الخير إلا ما عرَّفهم به ربهم، ولا نجاة لهم من الشرور والآثام إلا بابتعادهم عما نهى الله عنه.
    قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: (إنَّ مَنْ كان قَبْلَكُمْ رأوا القرآنَ رسائلَ مِنْ ربِّهِمْ، فكانوا يتدبَّرونها بالليل، ويَتَفَقَّدُونَها في النهار).

    4ـ ومن الوسائل المعينة على التدبر: معرفةُ أنَّ القرآنَ لا تنقضي عجائبُهُ، فلا يَقْتَصِرُ على ما وردَ في تفسيرِ الآية، بل يُعْمِلُ الفِكْرَ والنَّظَرَ ويَتَأمَّلُ في الآياتِ وما تَدُلُّ عليه، وبهذا تُفْهَمُ الآيةُ على أوسع معانِيها التي تدل عليها، ولا تُقْصَرُ الآيةُ على معنىً واحدٍ من المعاني، فالآيةُ تُفهم على معانٍ كثيرةٍ لا تعارض بينها، فمعرفةُ سببِ النزولِ يُفِيدُنَا في فهم الآية، لكنه لا يعني قَصْرَ مَفْهُومِ الآيةِ على ما وَرَدَ في سبب النزول، فالعبرةُ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السبب، فيُمْكِنُ أنْ تُحمَلَ الآيةُ على الكثيرِ من المعاني الحقيقية والمجازية التي تُفْهَمُ من الآية، ويَسمح بها التركيب، إذا لم يكن هناك تعارضٌ بين هذه المعاني.

    5ـ ومما يعين على التدبر: تَكْرارُ الآيةِ وتَرديدُها، والعَوْدَةُ المُتَجَدِّدَةُ للآياتِ، فذلك له أثرٌ عظيمٌ في حضورِ القلبِ واستحضارِ الآياتِ والتأثُّرِ بها..
    ففي التَّكْرَارِ تقريرٌ للمعاني في النفس، وتثبيتٌ لها في الصدر، وسكينةٌ وطمأنينةٌ للقلب.
    وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف من بعده، عن أَبي ذَرٍّ أن النَّبِيَّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ قَامَ بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا حَتَّى أَصْبَحَ وهي قوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). رواه النسائي وابن ماجه.
    وقال بعض السلف: إني لأفتتحُ السورةَ، فَيُوقِفُنِي بعضُ ما أشْهَدُ فيها عَنِ الفراغِ منها، حتى يطلعَ الفجرُ .
    وعن الحسن أنه ردَّدَ في ليلة حتى أصبحَ قولَ اللهِ تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، فقيل له في ذلك؟ فقال: إن فيها مُعْتَبَراً، مانرفع طَرْفاً ولا نَرُدُّهُ إلا وَقَعَ على نِعمَةٍ، وما لا نعلمه من نِعَمِ اللهِ أكثر).
    و قام تميمٌ الداريُّ في ليلة بهذه الآية: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).
    وقَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَوْفٍ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ بنَ أَبِي الحَوَارِيِّ، بعد أن صَلَّى العَتَمَةَ، قَامَ يُصَلِّي، فَاسْتَفْتَحَ بِـ (الحَمْدُ للهِ) إِلَى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ)، فَطُفْتُ الحَائِطَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَإِذَا هُوَ لا يُجَاوِزُهَا، ثُمَّ نِمْتُ، وَمَرَرْتُ فِي السَّحَرِ وَهُوَ يَقْرَأُ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا إِلَى الصُّبْحِ.
    وقرأ عامرُ بنُ عبد قيس في ليلة سورة غافر، فلما انتهى إلى هذه الآية: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ)، لَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حتى أصبح.
    وقال عَبَّادُ بْنُ حَمْزَةَ: دَخَلْتُ عَلَى أَسْمَاءَ وَهِيَ تَقْرَأُ: (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)، قَالَ: «فَوَقَفَتْ عَلَيْهَا، فَجَعَلَتْ تَسْتَعِيذُ وَتَدْعُو» قَالَ عَبَّادٌ: فَذَهَبْتُ إِلَى السُّوقِ، فَقَضَيْتُ حَاجَتِي، ثُمَّ رَجَعْتُ وَهِيَ فِيهَا بَعْدُ تَسْتَعِيذُ وَتَدْعُو.

    6ـ ومما يعين على تدبر القرآن: التفاعل مع الآيات بالسؤال والتعوذ والاستغفار ونحوِهِ عند مناسبة ذلك، فذلك يعين على حضور القلب عند التلاوة.
    وهكذا كان هدي النبي عليه الصلاة والسلام، فقد وصف حُذَيْفَةُ رضي الله عنه قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: (يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ). رواه مسلم.
    وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) ، فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا: (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) ، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَمَنْ قَرَأَ : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) ، فَانْتَهَى إِلَى: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)، فَلْيَقُلْ: بَلَى. وَمَنْ قَرَأَ: (وَالْمُرْسَلاَتِ)، فَبَلَغَ: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) ، فَلْيَقُلْ : آمَنَّا بِاللهِ. رواه أبو داود والبيهقي في السنن الكبرى.
    وقال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: (مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتاً، لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدّاً مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) إلا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكُ الْحَمْدُ. رواه الترمذي، والبيهقي في شعب الإيمان وفي دلائل النبوة.
    وقَالَ حُسَيْنٌ الْكَرَابِيسِيُّ: بِتُّ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَكَانَ يُصَلِّي نَحْوَ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَمَا رَأَيْتُهُ يَزِيدُ عَلَى خَمْسِينَ آيَةً فَإِذَا أَكْثَرَ فَمِائَةٌ وَكَانَ لا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلا سَألَ اللهَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَجْمَعِينَ، وَلا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلا تَعَوَّذَ بِاللهِ مِنْهُ، وَسَألَ النَّجَاةَ لِنَفْسِهِ وَلِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّمَا جُمِعَ لَهُ الرَّجَاءُ وَالرَّهْبَةُ مَعاً.
    فالمؤمنُ عندما يَمُرُّ على آياتِ الوعيدِ يَخَافُ أنْ يَكُونَ داخلاً فيها، ويَسألُ اللهَ السلامةَ من ذلك، وعند ذِكْرِ المغفرةِ والرحمةِ يَستبشرُ ويَفرَحُ ويَسألُ اللهَ أنْ يكونَ مِنْ أهلِ ذلك.
    وعند ذِكْرِ اللهِ وصفاتِهِ وأسمائِهِ تتملَّكُهُ المحبةُ للهِ والهيبةُ له والخضوعُ لجلالِهِ وعَظَمَتِهِ.

    7ـ ومن وسائل التدبر: القراءةُ بتأنٍ وهدوء، والتفاعلُ مع الآيات بحضور القلب، وإلقاء السمع، وإمعان النظر، وإعمال العقل. فلا يكون هَمُّهُ الإكثارَ من القراءة بدون تأمُّلٍ وفَهْمٍ لما يقرؤه.

    8ـ ومن الوسائل التي تعين على التدبر: الاطلاع على ما ورد في تفسير الآية والعودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها.

    9ـ ومن وسائل التدبر: فهمُ اللغةِ العربيةِ التي نزل بها القرآن ومعرفة معاني الكلمات ودَِلالاتها، وما توحي إليه من اللطائف والظلال، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، فكلما ازداد الإنسان معرفة باللغة العربية استطاع أن يفهم القرآن بطريقة أفضل، وأدرك مِنْ بلاغته وإعجازه ما يُحَرِّكُ القلوبَ ويُبْهِرُ الألباب.

    10ـ ومما يعين على التدبر: أنْ يربطَ الإنسانُ بين آياتِ القرآنِ والواقعِ الذي يعيشُهُ، ويجعلَ من الآيات منطلقاً لإصلاح حياتِه وواقعِه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.
    وذلك من غير تكلُّفٍ وتمحُّل في إنزال الآيات على الواقع.

    11ـ ومن وسائل التدبر: التأمُّلُ في سِياقِ الآيةِ، والسياقُ يتكونُ مِنَ السِّبَاقِ واللحاقِ، فالسِّباقُ هو ما قبل الآية، واللحاق هو ما بعد الآية.
    وبما أنَّ ترتيبَ الآياتِ والسُّوَرِ هو توقيفيٌّ من الله تعالى، فلا بد أن يكون هناك الكثيرُ من الحِكَمِ والأسرارِ في هذا الترتيب، ولهذا اهتمَّ العلماءُ بعلمِ المناسباتِ بينَ الآياتِ بعضِهَا مع بعض، وكذلك بين السُّورةِ مع غيرِهَا من السُّوَر في القرآن الكريم.

    12ـ ومما يعين على التدبر: التساؤل، وذلك بأنْ يسألَ القارئُ نفسَهُ، لماذا ابتُدِئتِ السورةُ أو الآيةُ بذلك واختُتِمَتْ بذلك؟ ولماذا جاءتْ بهذا السياق؟ ولماذا هذه اللفظةُ دونَ غيرِهَا؟ وغير ذلك من التساؤلات.. والتساؤل بماذا يمكنُ أنْ أعمَلَ بهذه الآياتِ.
    وبهذا يَأخذُ العِبَرَ من القَصَصِ والأمثالِ وغيرِ ذلك، ويَمتثلُ بما في القرآنِ مِنْ أمرٍ ونهي.
    فالتساؤلُ يُثِيرُ الفِكْرَ والنَّظَرَ عند الإنسان، ويحفِّزُهُ على البحث عن معنى الآية ودَِلالاتها، ويُرَسِّخُ المعنى في الذهن.

    13ـ ومما يعين على التدبر أنْ يَعْرِضَ المؤمنُ نفسَهُ على كتاب الله، فينظرَ في صفات المؤمنين هل هو من المتصفين بها، وفي صفات المنافقين والكافرين هل هو بعيد عنها، أم أنه يتصف بشيء منها، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِساً يَوْماً فَعَرَضَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فَانْتَبَهَ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْمُصْحَفِ، لِأَلْتَمِسَ ذِكْرِي اليَومَ حَتَّى أَعْلَمَ مَعَ مَنْ أَنَا وَمَنْ أُشْبِهُ، فَنَشَرَ المُصْحَفَ فَمَرَّ بِقَوْمٍ: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، وَمَرَّ بِقَوْمٍ: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)، وَمَرَّ بِقَوْمٍ: (يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قَالَ: فَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ لَسْتُ أَعْرِفُ نَفْسِي هَهُنَا. ثُمَّ أَخَذَ فِي السَّبِيلِ الآخَرِ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ: (إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ)، وَمَرَّ بِقَوْمٍ: (إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)، وَمَرَّ بِقَوْمٍ يُقَالُ لَهُمْ: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرٍ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ). قَالَ: فَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ. قَالَ: فَمَا زَالَ يُقَلِّبُ الْوَرَقَ وَيَلْتَمِسُ حَتَّى وَقَعَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أنا مِنْ هَؤُلَاءِ.
    فهكذا يقرأ المؤمنُ القرآنَ ليرى أينَ هُوَ مِنَ الامتثالِ بالصفاتِ التي يَمدَحُهَا القرآنُ، وأينَ هو من الابتعادِ عن الصفاتِ المذمومةِ فيه.
    وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً والحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.

    عمر بن عبد المجيد البيانوني
    صيد الفوائد
                   

  2. (ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)
    ذكر الله عز وجل فيما ينعم به على أهل الجنة نزع الغل من صدورهم . والنزع : الاستخراج . والغل : الحقد الكامن في الصدر . والجمع غلال . أي أذهبنا في الجنة ما كان في قلوبهم من الغل في الدنيا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين . وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : ونزعنا ما في صدورهم من غل . وقيل : نزع الغل في الجنة ألا يحسد بعضهم بعضا في تفاضل منازلهم . وقد قيل : إن ذلك يكون عن شراب الجنة ، ولهذا قال : وسقاهم ربهم شرابا طهورا أي يطهر الأوضار من الصدور ; على ما يأتي بيانه في سورة " الإنسان " و " الزمر " إن شاء الله تعالى .


    (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) الاعراف
    1-  (ونزعنا مافي صدورهم من غل) (ونزعنا) يدل على أنهم يخفون (غلهم) إخفاء شديدا عميقا داخل نفوسهم(فليس له أثر في حياتهم)رحم الله أهل الأيمان /عقيل الشمري
               2- (ونزعنا مافي صدورهم من غِل) حين نطهر قلوبنا من الغل،،فنحن نعيش في جزء من الجنة،،/ وليد العاصمي
    3-  ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) إن خلا القلبُ من غلٍّ يُكدّره ، فبشروه بـدنياً مابهـا كَـدَرُ !! / عايض المطيري
    4-  كلما صفت النفوس قويت أواصر الأخوة { ونزعنا مافي صدورهم من غل إخوانا}/ محمد الربيعة
    5-  ( ونزعنا مافي صدورهم من غل ..)هنيئاً لقلوب تصبح وتمسي ، لا تحمل حقداً على مسلم ما أسعدها، فهي تعيش بصفة من صفات أهل الجنة !!/عايض المطيري
               6- " ونزعنا ما في صدورهم من غل" تذوق طعم الجنة وأنت هنا، انزعه من قلبك الآن. / عبد الله بلقاسم
    7-  ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا.......... قد يختلف الصالحون ويتطاحنون وتضيق النفوس أحيانا، لكن لما اجتمعت قلوبهم على الغاية جمعهم هناك. / عبد الله بلقاسم
    8-   ‏﴿ونزعنا ما في صدورهم من غِلّ إخوانا﴾ صفاء القلب نعيمٌ من الجنة مُعجّل . /  إبراهيم العقيل.          
              9-  إن الحقد يشبه تجرع السم ، على أمل أن يموت به شخص آخر . ولذلك كان من نعيم أهل الجنه ( ونزعنا مافي صدورهم من غل ) فعِش نعيمهم ." / فوائد القرآن

    10-  الحمد يكون بالقول ﴿وقالوا الحمد لله﴾ والشكر يكون: بالقلب ﴿أبوء لك بنعمتك علي﴾ واللسان ﴿وأما بنعمة ربك فحدث﴾ والعمل ﴿اعملوا آل داود شكرا / نايف الفيصل


     المصدر

    اسلام ويب

    حصاد التدبر

    36791571_237094323560063_7262414304509427712_n.jpg?_nc_cat=107&_nc_ohc=TaxKODykzgEAX-aRd1M&_nc_ht=scontent.fcai2-1.fna&oh=3a3fa666fc042683a19abac49233b681&oe=5ECB3346
     
     
     

  3. Image result for بسم الله الرحمن الرحيم"
     
     
    سورة البقرة تحدثت في مطلعها عن الكتاب {ذلك الكتاب} وآل عمران تحدثت عن الكتب الثلاثة
    جاء في البقرة {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وجاء في مطلع آل عمران مثلها
    في سورة البقرة من جملة ختامها {لله ما في السموات ...} وآل عمران {إن الله لا يخفى ..} وهذه إحاطة لعلم الله



    استهلت سورة البقرة بالحديث عن المتقين حيث جعل الله تعالى كتابه هدًى لهم، ومن جملة أوصافهم بأنهم {يؤمنون بالغيب} ما هو الغيب ؟!
    جاء التفصيل في مسائل الغيب في ختام السورة بقوله جلّ وعلا
    {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ..}


    انتهت سورة الفاتحة بالحديث عن الذين أنعم الله عليهم وهم المؤمنون، ثم المغضوب عليهم وهم اليهود، ثم الضالون وهو النصارى
    ثم تحدثت سورة البقرة بالتفصيل في هذه الطوائف الثلاث وأحوالها كما قال تعالى في المؤمنين :
    {هدى للمتقين}


    ابتدأت سورة الفاتحة بقوله تعالى {الحمد لله رب العالمين} وانتهت بذكر جزء من هؤلاء العالمين وهم الذين آمنوا، واليهود، والنصارى وذلك في قوله تعالى {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} #القران_الكريم




    وحين يجاهد الإنسان نفسه يهديه الله سبله (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
    وحين يهدي الله المجاهدين سبله يتحقق لهم وعده بالنصر الذي جاءت #سورة_الروم تبشّر به (وعد الله حقا)هذا والله أعلم


    #سورة_القصص تعلمنا أساليب إعداد الفرد والمجتمع لمواجهة الظلم والظَلَمة عبر توثيق الصلةبالقرآن والابتعاد عن الجهل واللغو واتباع الهوى والتوكل على الله في كل أمر
    تأتي بعدها #سورة_العنكبوت سورةالمجاهدة لأن مواجهة الظلم بشتى أشكاله ظلم النفس وظلم الظلمة يحتاج جهادا كبيرا


    اختتمت سورة طه{لكان لزامًا وأَجل مسمًّى}
    وجاء في أول الأنبياء{اقترَب لِلنَاس حسابهم} الأجل المسمى المذكور في آية سورة طه هو يوم الحساب
    في طه{ومن أعرض عن ذكرِي فَإِنَّ له معيشة}أي أتتك آياتنا فأعرضت عنها، وفي أول سورة الأنبياء{وهم في غفلة معرضون}


    جاء في صدر سورة الحجر قول الكفار في النبي عليه السلام {وقالوا يا أيها الذي نزّل عليه الذكر إنك لمجنون}
    وهذا مما أحزن النبي عليه السلام
    {ولقد نعلم أنه يضيق صدرك بما يقولون}
    ثم أرشد الله تعالى نبيه إلى ما فيه الخير والهدى {فسبح بحمد ربك...}


    ختم الله تبارك وتعالى سورة مريم{فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين}
    وافتتحت سورة طه{ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}
    والكلام في الموضعين عن القرآن
    وفي نهاية مريم جاء{إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا}
    ناسب ذلك في طه{له ما في السموات وما في الأرض}


    لما ختم سورة إبراهيم بقوله تعالى {هذا بلاغ للناس} استهلّ سورة الحجر بقوله تعالى {ألم تلك آيات الكتاب وقرآن مبين}
    فآيات الكتاب هي أعظم بلاغ ونذير للناس
    ثم أن الكفار ظنوا أنهم لن يزولوا
    {أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال} وهذا بسبب {ويلههم الأمل}


    استهلت سورة طه بأحد مقاصد القرآن الكريم {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} فسعادة المسلم مرتبطة باتباع هدى الله تعالى
    ونوره، فهو صمام الأمان، وانتهت السور ببيان أن الشقاء كل الشقاء بالإعراض عن ذكر الله تعالى وعن نوره {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}


    افتتحت سورة #مريم بقوله تعالى {ذكر رحمت ربك عبده زكريا}
    وفي نهايتها{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل له الرحمن ودًا} فذكر رحمة بعبد من عباده ثم ذكر الرحمة لعامة المؤمنين
    ثم بشر الله تعالى عبدا من عباده {إنا نبشّرك بغلام}
    ثم بشر عباده عامة{لتبشّر به المتقين}



    سورة النور حثتنا على طاعة الله عزوجل وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
    وسورة الفرقان بيّنت عاقبة من لم يستجب (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا)
    عُد إلى رشدك واتبع نبيك وأطعه قبل أن تندم!



    #سورة_الفرقان تفرق بين الحق والباطل من خلال الرد على الشبهات وتفنيدها من خلال الآيات الكونية وآيات القرآن
    #سورة_الشعراء تعطينا وسيلة من وسائل التفريق بين الحق والباطل وهو الإعلام الهادف النزيه المبني على الحوارالعلمي القائم على الأدلة الواضحة لتحريك العقل بأسلوب راقي



    اختتمت سورة الحجر بقوله تعالى {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}
    قال مجاهد رحمه الله : هو الموت
    واستهلت سورة النحل بقوله تعالى {أتى أمر الله فلا تستعجلوه}
    هو الهلاك واقتراب الساعة والقيامة
    ومن مات قامت قيامته.



    جاء في أوائل سورة آل عمران دعاء المؤمنين لربه {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا... } {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد}
    وفي ختامها دعاؤهم مطولا أيضا وفيه {ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد}



    فضيلة الشيخ صالح التركي

    Image result for تناسب اوائل السور مع اواخرها


  4. استخراج العبودية بالبلاء ([1])


    الحمد لله على ما قدّره وقضاه، القادرُ القاهرُ بما أمر به من أمره وأمضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ موقنٍ بما وعد به على الصبر من جزيل ثوابه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أعظمُ الخلق ابتلاء، وأقواهم صبراً على ما أصابه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الشرف والنجابة، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

    فأوصيكم ونفسي أيها المسلمون بتقوى الله تعالى؛ فهي سفينة النجاة، وحبل الهداة إلى دار السلام.

    أيها المسلمون: لقد قدّر اللهُ أن تكون هذه الدارُ دارَ ابتلاءٍ ولم يجعلها دارَ صفاء، أيامُ الفرح فيها منغَّصة، وصفوها مشوب بكدَر، ورخاؤها لا يدوم..نعيمُها ابتلاء، وحياتها عناء..أهلُها منها على وجل؛ إما بنعمة زائلة، أَوْ بلية نازلة، أَوْ مَنيَّة قاضية، سمّاها الله في محكم التنزيل بالمتاع القليل.

    وحال الناس فيها كما قال الأول:

    فيومٌ علينا ويومٌ لنا ** ويومٌ نُسَاءُ ويومٌ نُسرّ

    إذا عُلمَ هذا فإن العاقل إذا عَرف حقيقتها لم يغتر بها، وإذا عَلم أنها دار ابتلاء، تَلمَّس شيئاً من أسرار ذلك؛ ليزداد بهذا عبودية لله، وتعلّقاً بالدار الآخرة، ولتتوق نفسُه لدارٍ لا يزول نعيمُها، ولا يتنغّص عيشُها.

    أيها المسلمون: إن المؤمن له مع الله عبوديةً في الضراء، كما له عبودية في السرّاء، وله عبودية في العُسر كما له عبودية في اليُسر، فينزل البلاءُ ليستخرج الله به أنواعاً من العبودية لم تكن لتخرج لولا البلاء، كما قال ابن الجوزي رحمه الله: "فلولا النازلة ما رُؤي بعضُ العبّاد على باب اللجأ،...فهذا من النِّعم في طَي البلاء، وإنما البلاءُ المحض ما يَشغلك عنه تعالى، فأما ما يقيمك بين يديه ففيه جمالك"([2])ا.هـ.

    ومِن أسرار اسم الله اللطيف: أن الله تعالى مِن لطفه بعبده أن: "يبتليه ببعض المصائب، فيوفّقه للقيام بوظيفة الصبر فيها، فيُنيله درجاتٍ عالية لا يُدركها بعمَله، وقد يشدِّد عليه الابتلاء بذلك، كما فعل بأيوب عليه السلام، ويوجِد في قلبه حلاوةَ رَوحِ الرجاء، وتأميلَ الرحمة، وكشف الضر، فيَخِف ألمه، وتنشط نفسُه"([3]).


    عباد الله: ألا وإن من أعظم ما يُسلّي المؤمن ـ وهو يعيش المصيبة أو ينتظرها ـ أن يوطّن نفسَه على أمورٍ إذا استحضرها هانَ عليه ما يلقى، ومن ذلك:

    1 ـ أن يعلَم أن الابتلاء قاسمٌ مشترك بين الخلق، كما قال الأول:

    وأعلم أني لم تُصبني مصيبةٌ *** من اللهِ إلا قد أصابت فتىً قبْلي

    ولو سلِم منه أحدٌ لسلِم الأنبياءُ والمرسلون، ولكن الله تعالى ـ لحكمةٍ بالغة ـ ينوّع على عباده البلاء؛ فمنهم من يُبْتلى بالسراء، ومنهم من يُبتلى بالضراء.. منهم من يُبتلى بالفقر، ومنهم من يُبتلى بالمرض، وآخرون بفقد الأحبة، وغيرهم بالسجن أو القتل.

    فالله تعالى ـ كما يقول ابن القيم رحمه الله ـ "يربّي عبدَه على السراء والضراء، والنعمة والبلاء؛ فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد على الحقيقة مَن قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عَبْدُ السَّراء والعافية؛ الذي يعبد الله على حرفٍ، فإن أصابه خيرٌ اطمأن به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، فلا ريبَ أن الإيمان الذي يَثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمانُ النافع وقت الحاجة، وأما إيمانُ العافية فلا يكاد يصحب العبدَ ويبلّغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمانٌ يثبت على البلاءِ والعافية"([4]).

    ولا حل غير الصبر واليقين، فالجزع لا يُحيي ميتاً، ولا يَشفي مريضاً، ولا يُصلِح فاسداً: «ومَن يَصبِر يصبّره الله»([5]).

    2 ـ أن تتذكر كم صرف ربُك عنك مِن النِّقم والبلاء، وأن ما أصابك ليس بشيء بالنسبة لما صُرف عنك، قال الحسن البصري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾[العاديات: 6] قال: "يُعدّد المصائب، ويَنسى النعم"!([6])

    وتأمل في ذلك العلاج النبوي الذي له أثره البالغ لمن استعمله؛ ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم"([7])، "فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحَظ الجليل؛ رآه يفوق جمعاً كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه، مهما بلغت به الحال؛ فيزول قلقُه وهمُّه وغمُّه، ويزداد سرورُه واغتباطُه بنعم الله التي فاق فيها غيرَه ممن هو دونه فيها، وكلما طال تأمّل العبدِ بنعم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية؛ رأى ربَّه قد أعطاه خيراً ودفع عنه شروراً متعددة، ولا شك أن هذا يدفع الهمومَ والغموم، ويوجِب الفرحَ والسرور"([8]).

    نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة خير أنبيائه..بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة



    3 ـ فمن أعظم ما يسلّي المبتَلى: أن البلاء له أمدٌ ينتهي إليه، ووقتٌ يَنقضي عنده، وما عُرِفَ أن بلّيةً استحكمت استحكاماً تاماً لا فرج معه!

    ابتلي يعقوبُ عليه السلام عشرات السنين، ثم جاءه الفرج.. ومرض أيوب عليه السلام سنوات طويلة، حتى استنكره أقربُ الناس له! ثم جاءه الفرج.. وفي الواقع شواهد كثيرة.

    4 ـ استعن بالدواء القرآني: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة: 153] من هم الصابرون الذين بشّرهم ربهم؟ ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[البقرة: 156] فتأمل كيف جمعت هذه الآيات ثلاثة أنواع من العلاج: علاج نفسي: وهو التصبر، وعلاج قولي: وهو الاسترجاع، وعلاج بدني وقلبي: وهو الصلاة!

    ومع وضوح هذا العلاج الرباني؛ إلا أن من الناس مَن يقصّر في تعاطيها عند نزول البلاء، وهي أدوية ربانية، واللهِ ما لجأ لها عبدٌ - موقناً بها - إلا وسكب اللهُ في قلبه من اليقين والرضا ما لا يخطر له على بال، مع استحضار ما سبق ذِكره من علاجات.

    ولله درّ علقمة بن قيس رحمه الله حين قال في تفسير قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[التغابن:11] قال: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلّم"([9]).

    ورحم الله ابن الجوزي يوم قال: "مَن عاش مع الله طيّبَ النفسِ في زمنِ السلامة؛ خفّ عليه زمنُ البلاء، فهناك المحك...والعاقل من أعدّ ذخرًا، وحصّل زادًا، وازدادَ من العُدد للقاء حربِ البلاء، ولا بد من لقاء البلاء، ولو لم يكن إلا صرعةُ الموت..فنسأل الله - عز وجل - يقينًا يقينا شرَّ ذلك اليوم؛ لعلنا نصبر للقضاء أو نرضى به، ونرغبُ إلى مالك الأمور أن يهب لنا من فواضل نِعَمه على أحبابه، حتى يكون لقاؤه أحب إلينا من بقائنا، وتفويضنا إلى تقديره أشهى لنا من اختيارنا، ونعوذ بالله من اعتقاد الكمال لتدبيرنا"([10])ا.ه.

    اللهم إنا نسألك العافية في الدين والدنيا والآخرة.. اللهم إنا نسألك يا مَن يَفرح بسؤال عباده، ويا من لا يُبْرِمُه إلحاح الملحين.. أن تجعل لنا في ساعتنا هذه ولجميع إخواننا المكروبين فرجاً ومخرجاً من حيث لا يحتسبون..

    اللهم إن لنا إخواناً هنا وهناك ـ وأنت أعلم ـ يُصبحون في ابتلاء، ويمسون في ابتلاء، اللهم إنا نسألك يا أرحم الراحمين ـ في هذه الساعة المباركة ـ أن تكشف ضرهم، وأن تفرج كربهم، وأن تنفّس غمهم.

    اللهم ارفع بالابتلاء درجاتهم، وارزقهم الصبر والاحتساب، واملأ قلوبهم رضاً بك، ورضاً عنك، وأخرجهم من هذه الدنيا سالمةً أديانهم، رفيعةً درجاتهم.

    اللهم إنا نعوذ بك من عافية تجعلنا نكفر نعمَتَك، أو تُنسينا حسنَ بلائك. اللهم اجعلنا شاكرين لك، ذاكرين لك، راهبين لك، إليك مخبتين منيبين.



    ([1]) ألقيت في 2/6/1437هـ.

    ([2]) صيد الخاطر: (132) طبعة ابن خزيمة، بتصرف.

    ([3]) تفسير الأسماء الحسنى للسعدي: (74).

    ([4]) طريق الهجرتين لابن القيم (ص: 277).

    ([5]) الحديث في صحيح مسلم ح(1053)، وقد روى ابن أبي الدنيا في القناعة والعفاف: (69)، عن الأحنف بن قيس يقول: "اللهم هب لي يقينا يهون علي مصائب الدنيا".

    ([6]) الشكر لابن أبي الدنيا (ص: 25).

    ([7]) صحيح مسلم ح(2963).

    ([8]) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة (7) بتصرف.

    ([9]) تفسير الطبري (23/ 12).

    ([10]) صيد الخاطر (153).

    موقع د.عمر المقبل


  5. (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنةهي المأوى)
    قمة النجاح وقوة الإرادة
    أن تنهى النفس عن هواها
    إذاخالف هواها أمرخالقها
    أن تمسك بزمامهاوتزجرها
    لا.للتهاون في الطاعات
    لا..للتمادي مع الهوى والشهوات
    لا..للانحدارفي مهاوي السيئات
    فهذا هو طريق الجنة إن أردت الوصول إليها بلا تبعات
     
     
     
    (والذين هم بشهاداتهم قائمون)
    أعظم مايميّزك أيها المؤمن
    القيام بالشهادة
    وماتميز بها المؤمن إلا لثقل حملها
    فبهايقوم العدل
    وبها تقوم الأمانة
    وبها تقوم الحياة الكريمة
    بدأ من الشهادتين إلى جميع الشهادات
    من بيع ونكاح وسائرالعقود
    فعدم القيام بهاسقوط أركان العدل
    وقيام الغش والباطل والخيانة
     
     
    (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون*الذين يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون*أولئك هم المؤمنون حقا)
    (معايير الجودة)
    تحدد مصداقيةالإيمان
    وبقدر نسبتها تحجز صاحبها عن المنكرات
    داوم بها على قياس درجة إيمانك لتجعله في صعود
     
     
    (واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين)
    مقامات التقـوى خمـس:
    اتقاءالكفـر،وذلـك مقـام الإسلام
    اتقاءالمحرمـات والمعـاصي وهـومقـام التوبـة
    اتقاءالشـبهات،وهـومقـام الـورع
    اتقاءالإسراف في المباحـات وهـومقـام الزهـد
    اتقاءانشغال القلب بغيرالله،وهـومقـام الإخلاص والمراقبة
     
     
    ﴿رَبِّ إِنّي ظَلَمتُ نَفسي فَاغفِر لي﴾
    فيها اعتراف من العبد بعثرته وإقرار بالتعدي بزلّته وانكسار بين يدي من وفّقه لتوبته
    وحسن ظنّ بكشف بلائه وكربته وصدق العزم على صلاحه واستقامته
     
     
    (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم)
    كل تجاوز عن حدود طاعة الله
    فيه ضرر راجع عليكم
    إما في الدنيا عقوبة وتمحيصا
    أو في الآخرة جزاء وفاقا
    إلا أن يُتدارك ذلك بتوبة أو عفو من الله
    فارحم نفسك
    واعلم أنك بطاعة ربك تحميها,تُكرمها ,تُحسن إليها
    (منْ عمل صالحاً فلنفسه ومنْ أَساء فعليها)
     
     
    (أيحسَب الإنسانُ أن يُترك سُدى)
    إياك أن تغفل عن هذه الحقيقة
    فمن الناس من يتذمّر
    فيترك كل ما يقيّده
    يتحاشى مايخالف هواه
    يتناسى ما أمِر به
    ثم يمضي ويتمطى كأن لم يفعل شيئا
    فاعلم أنك لن تُترك كمايُترك الهمَل
    أنت خُلقت لأمر جلل
    فصن قلبك من الآفات والعلل
    وأحسِن يارعاك الله القول والعمل
     
     
    (فزيّنَ لهم الشيطان أعمالهم فهو وليّهم اليوم)
    احذر من الشيطان وموالاته
    فإنه يزين المعاصي ليُكثر العبد من ذنوبه وزلّاته
    ويصرفه عن التوبة ليتمادى في غيّه وغفلاته
    فابتعد عن تتبع خطواته
    والامتثال لإغراءاته
    والانصات لوسْوساته
    والتصديق بضلالاته
    واستعذ بربك من شره ..وعليك بمعاداته
     
     
    (قرآنا عجبا,يهدي إِلى الرُّشد فآمنا به)
    الرّشد:جامع للصواب والحق والحكمة ونور البصيرة والسداد
    فبقدر العمل به يُوهب العقل الرشد
    ويرزق الفكر النضج والاتساع والبعد
    ويصبح العبد لآخرته أكثر استعداداً وعُدّة
    ويوفقه الرحمن ويُسبل عليه محبته وودّه
    وبقدر التفريط فيه يفقد العقل نوره ورشده
     
     
    (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي)
    ليكن أول ما يتبادر إلى ذهنك عند حصول النعمة
    الاعتراف بالفضل لصاحب الفضل
    والشكر له جل وعلا
    فمن أعلى مراتب الشكر الالتفات لفضل المنعم
    واستشعار المنة قبل الالتفات للنعمة
     
     
    (الله وليّ الذين آمنوا)
    ولاية الله الخاصة بالمؤمن درجات
    فهي بقدر ما وقر في قلبك من إخلاص وإيمان
    وبقدر ما تحركت به جوارحك من طاعة للرحمن
    أتدري ما الولاية؟
    أن يثبّتك الله عند تقلب القلوب
    ويحفظك عند دواعي المعاصي والذنوب
    ويعصمك عند الفتن والخطوب
    وينزّل السكينة عليك عند المحن والكروب
     
     
    {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون}
    تخلص من التماثيل التي أنت عاكف عليها وأنت لا تدري
    تخلّص منها قبل أن تقابل الواحد الأحد
    كل حجارةاعتقدت فيها نفعا
    كل أبراج ونجوم اعتقدت لها تأثيرا
    كل رياضةهي في أصلها طقوس وثنية
    كل خاتم وعقد وزينة هي في أصلها تمائم
    كن خالصا لربك على الحنيفية
     
     
    (ولَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُون)
    اعمل ما شئت
    لكن احذر دواعي الخزي والفضيحة الكبرى
    وابتعد عمن أخزاهم الله تشبّها وتقليدا تسلم
    تدرّع بلباس التقوى
    فمن خلعه وتعرّى عنه أخزاه الله
    كن مع رُبّان سفينة النجاة والكرامة
    {يوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذينَ آمَنُوا مَعَه)
     
     
    في الدنيا لايدل الجمال والقبح والبياض والسوادعلى مكانةوشرف
    وسيختفي غدا كل جمال
    لن يحظى به إلا من حاز شرف الطاعة
    ستظهرآثارها على الوجوه
    بياضا(يوم تبيض وجوه)
    وحسنا(وجوه يومئذ ناضرة)
    ونورا(وجوه يومئذمسفرة)
    وسعادة(ضاحكةمستبشرة)
    وكرامة(وجوه يومئذ ناعمة)
    وماعداهم فوجوه مسودةمغبرةعابسة
     
     
    (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم)
    تمسك بالصدق مع الله ووفائك بعهده
    تمسك به صدقا في القول والفعل والحال
    قل لمن يخادع نفسه ويدّعي الصدق
    إلى متى؟
    غدا ستتساقط الأقنعة
    سيخسركل كاذب ومنافق
    ستُلغى كل منفعة
    لن ينتفع أحد إلابقدر ماتمسك به من الصدق
    فراجع نفسك ومصداقيتها,أين هي من الصدق مع الله
     
     
    (إِنَّهمْ كانُوا يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَات ويَدْعُونَنَا رَغَبًا ورَهَبًا)
    المسارعة إلى الله في الخيرات لاتقوم إلابعبادتين
    الرغبة في مرضاته وموعوده
    والرهبة منه ومن وعيده
    فمن لا يرغب ولا يرهب ليس بعابد
    وصِل رغباتك الدنيّة بالرغبة إليه تعلو
    وقِس رهباتك الدنيوية بالرهبة منه تخبو
     
     
    (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)
    وجِلَ القلب حياءً من عظمة الرب وطمعا في القبول مع قلّة الزاد والكسب وخوفا من عواقب الذنب وتقصيرا مع انهمار النّعم من كل صوب فقدّموا عبادتهم في قالب من الخوف والرجاء والحب ...هذا حال من أراد السباق والرفعة والقرب
     
     
    (فاتبعوني يحببكم الله)
    سمعت أحدهم يقول بثقة وهو قول متداول في وسائل التواصل:
    "ربي خلقك يعني يحبك"
    ومن قال لك ذلك؟ لا يحب الله جميع خلقه
    واعلم أن الله لا يحب إلا أهل طاعته
    فبقدر الاتباع تكون المحبة
    وكلما ترقّيت في درجـات الاتباع
    ترقيت في درجات المحبة
     
     
    (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)
    ((بإيمانهم))بقدر رصيدهم من الإيمان تكون الهداية
    ومن فقد رصيده ضاع
    فاحرص على رصيدك وزِده باستمرار
    زده بكثرةالذكر والاستغفار
    زده بمجالسة الأبرار
    زده بالعمل الصالح واجتناب الأوزار
     


  6. إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
     
    ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
     
    أما بعد: فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار، أعاذني الله وإياكم وسائر المسلمين والمحبين من النار، ومن كل عمل يقرب إلى النار، اللهم آمين.
     
    الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض على ما ترون، ولكن سيأتي يوم تبدل السماء وتبدل الأرض.
     
    السماء التي خلقها الله سبحانه وتعالى فوقنا ستكون أيضا فوقنا يوم القيامة، لكن ستتبدل وتتغير الصفات وتبقى الذات، وكذلك الأرض، قال سبحانه: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [إبراهيم: 48].
     
    فالله جل جلاله ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 10، 11].
     
    اليوم؛ السماءُ سقفٌ محفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى، ﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 32].
     
    السماء اليوم ممسوكة بقدرته سبحانه: ﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحج: 65].
     
    من السماء ينزل الغيث، وتأتي البركات ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ ﴾، وهي حبيبات المطر ﴿ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 42- 43].
     
    ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ خوفاً من الصواعق التي أسبابها البرق، وطمعاً فيما فيه من الخير، ﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الروم: 24].
     
    هذا من السماء، وهذا منذ الأزل، وإلى أن يأتي يوم القيامة.
     
    أما يوم القيامة فهو ﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ﴾ [المعارج: 8]، تكون السماء كالزيت المغلي من شدة الحرارة، ﴿ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ﴾ [الطور: 9]، ﴿ إِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴾ [التكوير: 11]، ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ﴾ [المرسلات: 9] يحدث فيها التشقق، ويحدث فيها الانفتاح والانفراج.
     
    ويوم القيامة، ستطوى هذه السماوات التي ترونها وتلفّ، ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 104].
     
    في ذلك اليوم ستنفطر السماء وتتشقق، ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ [الانفطار: 1]، ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، ويصير لونها أحمر كلون الورد، ﴿ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴾ [الرحمن: 37]، ﴿ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 16]، متصدعة، ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ﴾ [الفرقان: 25]. ﴿ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ﴾ [النبأ: 19].
     
    أمَّا الأرض! وما أدراك ما الأرض؟ إنَّ الأرضَ اليوم وما فيها؛ من سهول ووديان، وبحار وأنهار، وغابات وأشجار، وهضاب وجبال، وصخور ورمال، وحدائق ذات بهجة.
     
    الأرض اليوم وما عليها؛ من دور وقصور، ومبان ضخمة، ومصانع وناطحاتِ سحاب، ستُبدَّل يوم القيامة، ولن يبقى الحال هو الحال، ولن يبقى على ما هو، بل ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27]، و﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88].
     
    أمّا ما في الأرض؛ من الجبال الراسيات فتدك دكًّا دكًّا، وتنسَفُ وتقتلع من جذورها، وتزول من أماكنها، وتسير سيراً، وتمر مرّ السحاب، ﴿ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴾ [الحاقة: 14]، ﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ﴾ [المرسلات: 10]، ﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴾ [القارعة: 5]، كالصوف المنبوش ليست صلبة وليست قوية، ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 47]، ﴿ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ﴾ [الطور: 10]، بعد أن تقتلعَ تسير وتمرُّ مرَّ السحاب، ﴿ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً ﴾، أي: غبارا ﴿ مُنْبَثًّا ﴾ [الواقعة: 4- 6]، ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ﴾ [المزمل: 14].
     
    وأما البحار فتتفجَّر ذراتُها، وبالنار تسعّر محيطاتها، والبحار والمحيطات ستتحول إلى نيران يوم القيامة، ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾ [الانفطار: 3]، ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴾ [التكوير: 6].
     
    أما عموم الأرض يوم القيامة؛ فيمدّها الله سبحانه وتعالى مدّ البساط، مدَّ الأديم، يرى أولُهم آخرَهم، ليست كما هي اليوم مكوَّرة؛ لا ترى إلا بعد مسافة قصيرة.
     
    أما يوم القيامة؛ فأولها وآخرها ستمدُّ، قال سبحانه: ﴿ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ* وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 3- 5]، استمعت لأمر ربها بأذنها وأطاعته، سبحانه وتعالى، فإذا كانت الأرض اليوم ليست كما هي قبل ألف عام، أو حتى مائتي عام، فكيف ستكون يوم القيامة؟ نسأل الله السلامة.
     
    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
     
    الخطبة الآخرة
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، المبعوث رحمة مهداة، للعالمين كافة، وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، أما بعد:
    قال الله جل جلاله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ﴾، أَيْ: لَا ترى وَادِياً وَلَا ترى جَبَلا؛ ﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ ﴾ لا تنفع المكانة، ولا تنفع الواسطة، ولا تنفع الأموال ولا الغنى ولا الجاه، لا ينفع أي أمر؛ إلا من أتى الله بقلب سليم، ﴿ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ ﴾ وخضعت وذلت وخشعت ﴿ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 105- 112].
     
    وإذا الجنين بأمِّه متعلِّقٌ *** خوفَ الحسابِ وقلبُهُ مذعورُ
    هذا بلا ذنبٍ يخافُ لهولِه *** كيفَ المقيمُ على الذنوبِ دهورُ؟
     
    حقًّا يا عباد الله، حقًّا وصدقاً كما قال الله في هذه الآيات: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ الناس ما قدروا الله حق قدره، ﴿ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ* وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ ﴾ أرض الآخرة، أرض يوم القيامة أشرقت وأضاءت ﴿ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ* وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ﴾ جماعات جماعات ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ﴾، أي: أرض الجنة ﴿ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 67- 75].
     
    والمؤمنون يوم القيامة لا يحزنهم الفزع الأكبر، وهم من فزع يومئذ آمنون، ولا يطول على المؤمنين، وكلُّهم يدخلون الجنة إن شاء الله، والبقيَّةُ يحاسبون في هذا اليوم، ولنستمع إلى ما رواه سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ["يُحْشَرُ النَّاسُ"] -أي المؤمنون- ["يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ"] [م] [2790] [النَّقِيّ]: خُبْز الدَّقِيق الْحُوَّارَي، وَهُوَ النَّظِيف الْأَبْيَض [فتح]، وهو الذي لا غشَّ فيه، ولا يوجد فيه ما يشوبه ["لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ"] [خ] [6521] الأرض يوم القيامة، كالرغيف كالقرصة، قال ابن حجر رحمه الله: -يُرِيدُ أَنَّهَا مُسْتَوِيَةٌ، -ليست مكورة- لَيْسَ فِيهَا عَلَامَةُ سُكْنَى، وَلَا بِنَاءٌ، وَلَا أَثَرٌ، وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْعَلَامَات الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا فِي الطَّرَقَات؛ كَالْجَبَلِ -مثلاً- وَالصَّخْرَة الْبَارِزَة [فتح الباري]، كل هذا غير موجود، ليس فيها معلم لأحد. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ["تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً"] ليست قطعاً وكِسراً وأرغفة ["يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ"]، أَيْ: يُمِيلُهَا -ويقلبها سبحانه وتعالى- ["بِيَدِهِ، كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ؛ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ"]، فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ -وهو لم يسمع هذا ما دار من الحديث،- فَقَالَ: [بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ! أَلَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟] -ويريد أن يخبرَهم بما عنده من علم من كتابهم- قَالَ: ["بَلَى"]، قَالَ: [تَكُونُ الْأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً]، -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم-، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ -اليهودي-: [أَلَا أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ؟] -الخبزة تحتاج لإدام- قَالَ: [إِدَامُهُمْ بَالَامٌ وَنُونٌ]، قَالُوا: [وَمَا هَذَا؟] -الصحابة لم يعرفوها؛ لأنها كلمة ليست بعربية، قال: [ثَوْرٌ وَنُونٌ]، -أي: ثور وحوت من حيتان البحر، خلقه الله كيف شاء سبحانه- [يَأكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا] [خ] [6520]، [م] 30- [2792].
     
    السبعون ألفاً هم والله -تعالى أعلم- الذين يدخلون الجنة قبل الناس، يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، هؤلاء يأكلون من زائدة كبد الحوت، وهذه الرواية أيضاً من زائدة كبد الثور، بالام ونون، هذا الذي يكرم الله به أهل الجنة قبل دخولهم الجنة، أمّا إذا دخلوها فلهم شأن آخر، وهذا النُّزُل ما يقدم للضيف، فإذا قدمنا على الله، فنحنُ ضيوفُ على الله، فأعِدُّوا العدة، فإننا سنرحل عن هذه الدنيا، التي هي ليست بدار مقرٍّ؛ بل هي دارُ ممرٍّ، فلنستعد لهذا اليوم، الذي هو مصير كلِّ إنسان، وكلِّ حيوان.
     
    وكلُّ من عليها يبقى لأجلٍ معين، يطول أو يقصر، أياماً أو سنين، لكن في النهاية سنرحل عن هذه الدنيا بأكملها، وسنقابل الله سبحانه وتعالى، ليس بيننا وبينه ترجمان، وسيتكلم الله عزّ وجلّ مع كلِّ عبدٍ من عباده، ويقول: يا عبدي ألم تفعل يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فماذا نحن قائلون لله يوم القيامة؟ ليس معنا والدٌ ولا ولد، ولا عشيرة ولا قبيلة، لن يكون معنا إلا ما قدمنا من أعمال.
     
    ولكنّ رحمةَ الله فوق كلّ شيء، فنحن عبادٌ لدينا ذنوب وخطايا، وهو ربٌّ رحيم غفورٌ سبحانه وتعالى، فنسأله سبحانه وتعالى أن يصليَ على نبيه، محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، كما قال وأمر ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
     
    اللهمّ صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
     
    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، يا رب العالمين.
     
    اللهم لا تجعل لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا غائباً إلا رددته إلى أهله سالماً غانماً يا رب العالمين.
     
    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.
     
    ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].

     
    الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد
    شبكة الألوكة
     

  7.  
    إن مما يرغِّب المسلم في الإقبال على طاعات الله تعالى هو علمه بما لتلك الطاعات من أثر في الدنيا والآخرة، ومن هذه الطاعات والقربات: تلاوة القرآن الكريم وتدبره والعمل به، فذلك من أكبر الأعمال التي تقرب الإنسان من ربه؛ لِما للقرآن الكريم من الأهمية البالغة؛ فهو حبل الله المتين، ولهذا كانت فضائله يوم القيامة عديدة:

    ♦ فمن ذلك أن القرآن الكريم يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه؛ فعن أبي أمامة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
    ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه))[1]، والقرآن الكريم يدافع عن أهله أمام الله تعالى، وما أحوج المرء في ذلك الموقف الرهيب إلى مدافعٍ ومحامٍ عنه! فعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقْدُمُهُ سورة البقرة وآل عمران تحاجَّان عن صاحبهما))[2]، وغاية محاجة القرآن عن أهله أن يحصلوا - بسبب تلاوتهم له وعملهم به - على رضا المولى عز وجل، ويدخلوا الجنة فيُزيَّنوا من حللها، وذاك ما يتبين من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يجيء القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب، حلِّهِ، فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب، زده، فيُلبس حُلَّة الكرامة، ثم يقول: يا رب، ارضَ عنه فيرضى عنه))[3].
     
    ♦ ومن ذلك أن ثواب قراءة القرآن والعمل به يكون كبيرًا ومضاعفًا يوم القيامة؛ يقول عز وجل:
    ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29، 30]، فقد جعلت الآيةُ الجزاءَ الأوفى للتالين لكتاب الله تعالى والعاملين به؛ ولهذا كان مطرف رحمه الله تعالى يقول عن الآية: "هذه آية القرَّاء"[4].
     
    ♦ ومن ذلك أن القرآن قائد؛ يقود صاحبه إما إلى الجنة أو إلى النار، فمن كان تاليًا للقرآن حق تلاوته، وعاملًا به في سرِّه وإعلانه، لم يتركه القرآن يوم القيامة حتى يدخل الجنة؛ يقول الله سبحانه وتعالى:
    ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ﴾ [المائدة: 15، 16]، فسبل السلام في الآية هي: "طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام، المنزَّهة عن كل آفة، والمؤمِّنة من كل مخافة، وهي الجنة"[5]، وقد جاء عن أبي موسى الأشعري: "إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا، وكائن عليكم وزرًا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن؛ فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زُجَّ في قفاه، فقذفه في النار"[6].
     
    ♦ ومن ذلك أن القرآن الكريم يرفع الدرجات في الجنة يوم القيامة، وذلك بحسب أخذ العبد له في الدنيا تلاوة وحفظًا وعملًا؛ جاء عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
    ((يُقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ ورتل كما كنتَ ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها))[7].
     
    وخلاصة ما تقدم أن على المؤمن الحريص على رضا الله سبحانه وتعالى، والمتشوق لدخول الجنان والترقي فيها، أن يوليَ أعظم الاهتمام لكتاب الله المبين، فينكب عليه تلاوة وتدبرًا وحفظًا، وأن يقرنَ ذلك كله بالعمل به؛ فلا عبرةَ بتلاوة وحفظ لم يلازمهما العمل بالقرآن؛ يقول سبحانه وتعالى:
    ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، ويقول عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29، 30]، فربط سبحانه في الآية بين تلاوة القرآن وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله؛ بيانًا لتلازم تلاوة القرآن بالعمل بما فيه من الأحكام؛ يقول بعض العلماء مبرزًا أهمية العمل بالقرآن: "إن من عمِلَ بالقرآن فكأنه يقرؤه دائمًا وإن لم يقرأْهُ، ومن لم يعمل بالقرآن، فكأنه لم يقرأه، وإن قرأه دائمًا".
     
    وليعلم قارئ القرآن الماهر فيه أن ملاك قبول عمله عند الله عز وجل هو الإخلاص في عمله، وابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى؛ فالقارئ المرائي هو أحد الثلاثة الذين تُسعَّر بهم النار يوم القيامة؛ يقول أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (
    (أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه... ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرَّفه نِعَمَهُ فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعلمته، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمتَ العلم ليُقال: عالم، وقرأت القرآن ليُقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقيَ في النار))[8].
     

    [1] صحيح مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، ح: 1337.
    [2] صحيح مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.
    [3] أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، وقال: حديث حسن صحيح.
    [4] انظر: تفسير ابن كثير (3/ 881).
    [5] جامع الأحكام، القرطبي، (6/ 63).
    [6] جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي، ص: 219.
    [7] سنن الترمذي، كتاب: فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
    [8] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب: من قاتل للرياء والسمعة استحق النار.
     
     
    شبكة الالوكة

  8. الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ:
     
    فإن النميمة من الذنوب العظيمة التي حذر الله ورسوله منها، وهي مرض عضال، وداء خبيث، يفسد في المجتمعات ويورث العداوة والبغضاء فيها، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 10، 11].
     
     
    قال ابن كثير: ﴿ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾: الذي يمشي بين الناس وَيُحَرِّشُ بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين، وهي الحالقة[1].
     
     
    والنميمة كما بيَّنها النبي صلى اللهُ عليه وسلم هي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَبدِاللهِ بنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟[2] هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ"[3].
     
     
    قال أبو السعادات: "الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ": أي: كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس.
     
     
    وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة[4].
     
    والنمام متوعَّد بعدم دخول الجنة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ هَمَّامِ بنِ الحَارِثِ قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا مَعَ حُذَيْفَةَ رضي اللهُ عنه فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ: إِنَّ هَذَا يَرْفَعُ إِلَى السُّلْطَانِ أَشْيَاءَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ - إِرَادَةَ أَنْ يُسْمِعَهُ -: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ"[5].
     
    قال ابن حجر: "القَتَّاتُ هو النَّمَّامُ، ووقع بلفظ: "نَمَّامٌ" في رواية أبي وائل عن حذيفة عند مسلم[6]، وقيل: الفرق بين القتات والنمام، أن النمام الذي يحضر القصة فينقلها، والقتات الذي يتسمع من حيث لا يُعلم به ثم ينقل ما سمعه"[7].
     
     
    والنمام يعذب في قبره قبل يوم القيامة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ" ثُمَّ قَالَ: "بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ" قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ: "لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا"[8].
     
     
    والنمام شر عباد الله، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ غَنَمٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: "خِيَارُ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللهِ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ"[9].
     
     
    والفرق بين الغيبة والنميمة:
    أن الغيبة هي التكلم خلف إنسان مستور بما هو فيه مما يكرهه، أما النميمة فهي نقل كلام صادر عن الغير بغية الإفساد، وعلى ذلك تكون الغيبة صادرة عن المغتاب في الأصل، أما النميمة فهي كلام صادر عن الغير، وكذلك الغيبة قد تباح في بعض الأحيان لغرض شرعي، أما النميمة فلم ينقل جواز إباحتها أحد.
     
     
    قال الذهبي رحمه الله: "النميمة من الكبائر، وهي حرام بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت على تحريمها الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة، وقد أجاب عما يوهم أنها من الصغائر، وَهِيَ قَولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم: "وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ"، بأن المراد ليس بكبير تركه عليهما أو ليس بكبير في زعمهما، ولهذا قيل في رواية أخرى: "بَلَى إِنَّهُ كَبِيرٌ"[10].
     
     
    قال ابن حجر: "وجه كونه أي (النم) كبيرة ما فيه من الإفساد، وما يترتب عليه من المضار، والحكم على ما هو كذلك بأنه كبير ظاهر جلي"[11].
     
     
    قال ابن حزم: "اتفقوا على تحريم الغيبة، والنميمة في غير النصيحة الواجبة وفيه دليل على أنها من الكبائر"[12].
     
     
    قال الذهبي رحمه الله: "كل من حُملت إليه نميمة وقيل له: قال فيك فلان: كذا وكذا؛ لزمه ستة أحوال:
     
    الأول: ألا يصدقه لأنه نمام فاسق وهو مردود الخبر.
     
    الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح فعله.
     
    الثالث: أن يبغضه في الله عزَّ وجلَّ، فإنه بغيض عند الله، والبغض في الله واجب.
     
    الرابع: ألا يظن في المنقول عنه السوء لِقَولِهِ تَعَالَى: ﴿ اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12].
     
    الخامس: ألا يحمله ما حُكي له على التجسس والبحث عن تحقق ذلك مصداقًا لِقَولِهِ تَعَالَى ﴿ وَلاَ تَجَسَّسُوا ﴾.
     
    السادس: ألا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فلا يحكي نميمته.
     
     
    وتكمن خطورة النمام في أنه يقل الاحتراز منه؛ لأنه يأتي في صورة الناصح المشفق، فإن صدقته تحقق حينئذ ما يريده النمام من الإفساد، قال ابن حزم: "من جاء إليك بباطل رجع من عندك بحق، وذلك أن من نقل إليك كذبًا عن إنسان حرك طبعك فأجبته فرجع عنك بحق، فتحفظ من هذا ولا تجب إلا عن كلام صح عندك عن قائله"[13].
     
     
    والنمَّامون كثيرون ومن أشدهم خطرًا: طائفة جعلت مهنتها الوقيعة بين العلماء والحكام، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ رضي اللهُ عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم نَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللهِ لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ، قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُولُهُ؟! قَالَ: ثُمَّ قَالَ: يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ، قَالَ: قُلْتُ: لَا جَرَمَ لَا أَرْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا حَدِيثًا[14].
     
     
    وهذا المعنى الذي آثر ابن مسعود المصير إليه؛ جاء في حديث ضعَّفه بعض أهل العلم وجاء فيه: "لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ"[15].
     
     
    وطائفة أخرى أكل الحسد قلوبها، فلا تكاد ترى زوجين أو صديقين متآلفين إلا سعت للتفريق بينهما بالنميمة، كل ذلك في لباس النصح والإشفاق.
     
     
    وروي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]. وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيم ﴾، وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبدًا[16].
     
     
    قال الحسن البصري: 
    من نَمَّ إِلَيكَ نَمَّ عَلَيكَ.
     
     
    ومما تعالج به النميمة: أن يعلم النمام أنه معرض نفسه لسخط الله تعالى وعقوبته، وأنها تحبط الحسنات، وأن يتدبر المرء في عيوبه ويجتهد في التطهر منها، وأن يعلم أن تأذي غيره بالغيبة أو بالنميمة كتأذيه بها فكيف يرضى لغيره ما يتأذى به، قال الشاعر:
     
    تَنَحَّ عَنِ النَّمِيمَةِ وَاجْتَنِبْهَا 
    فَإِنَّ النَّمَّ يُحْبِطُ كُلَّ أَجْرِ 
    يُثِيرُ أَخُو النَّمِيمَةِ كُلَّ شَرٍّ 
    وَيَكْشِفُ لِلخَلَائِقِ كُلَّ سِرِّ 
    وَيَقْتُلُ نَفْسَهُ وَسِوَاهُ ظُلْمًا 
    وَلَيْسَ النَّمُّ مِنْ أَفْعَالِ حُرِّ 
     
     
    وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.
     
     
    [1] "تفسير ابن كثير" (14/89).
     
    [2] العضة: رُوِيَت هذه اللفظة على وجهين، أحدهما: العِضَة بكسر العين وفتح الضاد على وزن العِدَة وهي الأشهر في كتب اللغة، والثاني: العَضْه بفتح العين وسكون الضاد على وزن الوَجْه وهو الأشهر في كتب الحديث. والمعنى: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟"
    الفاحش الغليظ التحريم.
     
    [3] "صحيح مسلم" (برقم 2606).
     
    [4] "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" (ص320).
     
    [5] "صحيح البخاري" (برقم 6056)، و"صحيح مسلم" (برقم 105).
     
    [6] "صحيح مسلم" (برقم 105).
     
    [7] "فتح الباري" (10/473).
     
    [8] "صحيح البخاري" (برقم 1378)، و"صحيح مسلم" (برقم 292).
     
    [9] "مسند الإمام أحمد" (29/521) (برقم 17998)، وقال محققوه: حسن بشواهده.
     
    [10] "الكبائر" (ص160)، بتصرُّف.
     
    [11] "الزواجر" (2/572).
     
    [12] "مراتب الإجماع" (ص156).
     
    [13] "الأخلاق والسير في مداواة النفوس" لابن حزم (ص37).
     
    [14] "صحيح البخاري" (برقم 3150) ، و"صحيح مسلم" (برقم 1062) واللفظ له.
     
    [15] "سنن أبي داود" (برقم 4860).
     
    [16] "الكبائر" للذهبي (ص160).
     
     

    د.ايمن الشقاوي
    شبكة الالوكة

  9. تفسير الربع الحادي عشر من سورة النساء بأسلوب بسيط

     
     

     



    الآية 148، والآية 149: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾: أي: لا يُحِبُّ الله أن يَجهر أحدٌ بقوْل السُوء من السَبّ والغيبة وغير ذلك ﴿ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ﴾: يعني: لكنْ يُباح للمظلوم أن يدعو على ظالِمِه، وأن يَذكُره بما فيه من السوء، لِيبيِّن مَظْلمته، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا ﴾ يَسمع أقوالكم، فاحذروا أن تتكلموا بما يُغضبه فيعاقبكم على ذلك، وَكَانَ اللَّهُ ﴿ عَلِيمًا ﴾ بنيَّاتكم وأعمالكم، ثم حَبَّبَ اللهُ تعالى إلى عباده المؤمنين فِعل الخير في السر أو العَلَن، وإلى العفو عَمَّن ظلَمهم فقال: ﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ ﴾: يعني إن تُظهِروا الخير أو تُخفوه، فإنَّ الله تعالى سيُعطِي فاعلَه خيراً، ﴿ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوء ﴾: يعني أو تعفو عَمّن أساء إليكم في أبدانكم أو أموالكم أو أعراضكم، فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فمَن عفا عن الخَلق: عفا اللهُ عنه، ومَن أحسن إلى الخلق: أحسن الله إليه، فلهذا قال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾: أي يعفو عن عباده مع قدرته عليهم، وسيعفو سبحانه عن صاحب العفو حينما تزِلّ قدمه، فيَجني - في حق الله - ما يستوجب به العقوبة، فيَشكر اللهُ له عفوه السابق فيعفو عنه.

    الآية 150، والآية 151: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ من اليهود والنصارى ﴿ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِه ﴾ بأن يؤمنوا بالله ويُكَذِّبوا رسله الذين أرسلهم إلى خَلقه، ﴿ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ﴾: أي ببعض الرسل (﴿ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ﴾ ﴿ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾: يعني ويريدون أن يتخذوا طريقاً بين الكفر والإيمان، وليس هناك إلا طريق واحد (وهو الإيمان أو الكفر)، فمَن آمن بكل الرسل فهو المؤمن، ومَن آمن ببعضهم وكفر ببعضهم فهو الكافر، ولهذا قال: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾، أما المؤمنون فإنهم يُقرُّون بنبوَّة الرُسُل أجمعين، ولا يفرقون بين أحدٍ منهم في الإيمان بهم، وبما جاؤوا به من التوحيد.

    الآية 153: ﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ ﴾ وهم هنا اليهود، الذين جاؤوا يسألونك (على سبيل العناد) سؤالاً يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم، وهو أن تأتي إليهم بمعجزة تشهد لك بالصِدق، وهي ﴿ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاء ﴾:ِ أي تُنَزِّلَ عليهم القرآن جُملةً واحدة كما نَزَلت التوراة والإنجيل، وهذا غاية الظلم منهم والجهل، فإنَّ الرسولَ بشر، ليس في يده من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، وهو الذي ينزل ما يشاء في الوقت الذي يشاء (بحسب الأحوال والأحداث)، وذلك لتربية عباده، وتثبيت المؤمنين، والرد على المخالفين، مما يدل على اعتناء الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾، فلا تَعجب أيها الرسول مِن طلب هؤلاء اليهود ﴿ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾: أي عياناً بالبصر، ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾: أي بسبب ظُلْمِهم أنفسهم حين سألوا أمرًا ليس من حقِّهم، ﴿ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾: يعني: وبعد أن رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يَرَهُ غيرهم (حيث فلق الله لهم البحر وأنجاهم وأغرق عدوهم)، وبعد أن شاهدوا الآيات البينات (القاطعة بنفي الشرك) على يد موسى: اتخذوا العجل إلهاً يعبدونه من دون الله، ﴿ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ ﴾: أي فعَفونا عن عبادتهم العجل بسبب توبتهم، ﴿ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾: يعني وآتينا نبيهم موسى حُجَّة عظيمة تؤيِّد صِدق نُبُوَّتِه، فقهر بها أعداءه، ولم يؤثر ذلك في طباعهم.
     
    الآية 154، والآية 155: ﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ﴾: يعني ورفعنا فوق رؤوسهم جبل الطور - تهديداً لهم - حين امتنعوا عن الالتزام بالعهد المؤكَّد الذي أعطوه بالعمل بأحكام التوراة، ﴿ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ﴾: يعني وأمرناهم أن يدخلوا باب "بيت المقدس" سُجَّدًا، فلم يفعلوا، ﴿ وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ﴾: أي وأمرناهم ألا يَعْتَدُوا بالصيد في يوم السبت فاعتدَوا، واصطادوا، ﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾: أي وأخذنا عليهم عهدًا مؤكَّدًا على أن يعملوا بما في التوراة، فنقضوا هذا العهد، إذاً فلا غَرابة في سؤالهم إيَّاك أن تنزل عليهم كتاباً من السماء.
     
    ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ ﴾: أي فبسبب نقضهم للعهود لعنَّاهم، لأن هذا نظير قوله تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ﴾، ﴿ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾: يعني وكذلك لَعَنَّاهُمْ بسبب كفرهم بآيات الله الدالة على صِدق رسله، وكذلك بسبب: ﴿ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾، وكذلك بسبب: ﴿ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾: أي عليها أغطية فلا تفقه ما تقول، ﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾: يعني بل طمس الله عليها بسبب كُفرهم، ﴿ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا ﴾ إيمانًا ﴿ قَلِيلًا ﴾ لا ينفعهم (كإيمانهم بموسى وهارون والتوراة)، ولكن كُفرهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أضاع هذا الإيمان.

    الآية 156: ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴾: يعني: وكذلك لَعَنَّاهُمْ بسبب كُفرهم وافترائهم على مريم بما نسبوه إليها من الزنى، وهي بريئة منه.

    الآية 157: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ﴾: يعني ولَعَنَّاهُمْ أيضاً بسبب قولهم - على سبيل التَهَكُّم والاستهزاء -: (إننا قتلنا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مريم الذي يَدَّعِي أنه رسولَ اللَّه)، وهذا مثل قول فرعون وهو يتحدث عن موسى: (﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾)).
     
    فأكْذَبَهم اللهُ تعالى في ذلك بقوله: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ ﴾: يعني وما قتلوا عيسى عليه السلام ﴿ وَمَا صَلَبُوهُ ﴾ ﴿ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾: يعني: بل صلبوا رجلا شبيهًا به ظنًّا منهم أنه عيسى، ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ﴾: يعني: ومَن ادَّعى قَتْلَهُ من اليهود قد وقعوا في شك وحَيْرَة: هل هذ الرجل (الذي ألْقِيَ عليه شبه عيسى) هو عيسى؟ أو غيره؟ إنهم لم يجزموا أبداً بأنّ مَن ألقوا عليه القبض فصلبوه وقتلوه هو المسيح عليه السلام، و ﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ﴾: يعني لا عِلْمَ لديهم في ذلك ﴿ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ﴾ ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴾: يعني وما قتلوه مُتيقنين بأنه هو، بل كانوا شاكين مُتوهمين.

     فإذا كانوا يزعمون أنه هو الذي صُلِب، ويّزعمونَ أنه إلهٌ (فهل هناك إلهٌ - يتعَذب على أيدي بعضِ خَلقِهِ - يَستحق أن يُعبَد؟!)، (وهل يُعقل أن يُعبَد الصليب الذى قتِلَ عليه إلهٌ وأغرقه دماً، أمْ يُكسَر وَيُدَنَّسُ؟!)، (وإذا كانوا يعتقدون أنَّ الصَلب كانَ من أجل تكفير خطيئة آدم عليه السلام، فهل يتحمل الأبناء خطيئة الآباء؟ أمْ أنَّ اللهَ لم يكن قادراً أن يغفرَ مِن غير تعذيب؟!)، (ومَن الذى كان يَحكم الكون، وَيُسَيّر المخلوقات ويرزقها، ويُمسِك السماء حتى لا تقع على الأرض عندما ماتَ الإله؟!)، (وإنْ كانوا يزعمون أنّ الإله قد مات، فمَن الذى أحياه؟ هل هو الذى أحيا نفسه؟ أمْ أنّ هناك إلهاً آخر هو الذى أحياه؟، ولماذا لم يَقهر الموتَ عندما جاءه لينتزع روحه، أليس هو إلههم كما يزعمون؟!)، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل هو سبحانه - جَلَّ في عُلاه - الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، الجبار القهار ذو القوةِ المتين.
     
    الآية 158: ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾: يعني: بل رفع اللهُ عيسى إليه ببدنه وروحه حيًّا، وطهَّره من الذين كفروا، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا ﴾ في مُلكه ﴿ حَكِيمًا ﴾ في تدبيره وقضائه.

    الآية 159: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ﴾: يعني: وما مِن أحد من أهل الكتاب (المختلفين في أمر عيسى عليه السلام) يكون موجوداً وقت نزول عيسى في آخر الزمان إلاَّ وسيؤمن بأنه عبدٌ لله ورسولٌ منه، وذلك ﴿ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾: يعني بعد نزوله من السماء (لأنه لن يموت حتى ينزل في آخر الزمان)، فحينئذٍ يُوقِنُ أهل الكتاب أنه ما قُتِلَ وما صُلِبَ (لأن بنزوله ورؤيته: قد زالت الشُبهة التي كانت عندهم)، وعندما يَنزل: يَقتل الدجال، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين، حتى تكون المِلَّة واحدة (وهي مِلَّة الإسلام).
     
    ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ ﴾ عيسى عليه السلام ﴿ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ بتكذيب مَن كَذَّبَه، ولم يتبع بشارته بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويَشهد بتصديق مَن صدَّقه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك يشهد على اليهود أنهم كَذَّبوه وطعنوا فيه، وعلى النصارى أنهم جعلوه شريكاً مع الله تعالى في عبادتهم، وأنه بَرِيءٌ مِمَّن فعل ذلك، قال تعالى - حاكياً عن عيسى عليه السلام: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾.
     
    الآية 160: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا ﴾: يعني فبسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة: ﴿ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ ﴾ من المأكولات ﴿ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾: أي كانت حلالاً لهم، ﴿ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾: يعني وكذلك كان هذا التحريم بسبب صدِّهم أنفسهم وغيرهم عن دين الله القويم، وهو الإسلام.

    الآية 162: ﴿ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ﴾: يعني: لكنِ المتمكنون في العلم بأحكام الله من اليهود، ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ بالله ورسوله ﴿ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ وهو القرآن ﴿ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ كالتوراة والإنجيل، ﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ﴾ أي وأخُصّ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ - لِمَزيدِ فضلِهم - وهم الذين يؤدُّون الصلاة في أوقاتها بخشوع، وكذلك: ﴿ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ وهو الجنة.
     
     
     
     
     

    الربع الأخير من سورة النساء



    الآية 164: ﴿ وَرُسُلًا : أي وأرسلنا للناس رُسُلاً، فمنهم مَن ﴿ قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ ﴾ في القرآن ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾: أي مِن قَبلِ هذه الآية، ﴿ وَرُسُلًا ﴾ أخرى ﴿ لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ﴾ لِحكمةٍ أردناها، ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾.

     وفي هذه الآية إثبات صفة الكلام لله تعالى كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه كَلَّمَ نبيه موسى عليه السلام حقيقةً بلا وَساطة، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾، وفي هذا ردٌ قاطع على مَن يُنكرون صفة الكلام لله تعالى، ويتحَجَّجون بأنه لا يليق به سبحانه أن يتكلم، فهذا قولٌ باطل، وافتراءٌ على الله عز وجل، بل على العكس تماماً، فإنَّ الذي يتكلم خيرٌ وأكمل مِن الذي لا يتكلم، والذي يسمع ويُبصِر خيرٌ وأكمل مِن الأصَمّ والأعمى، وإنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، ولَمَّا أراد الله تعالى إبطال عبودية هذه الآلهة المزعومة مِن دونِه: كانَ يُظهِر صفة النقص التي فيها، كما قال تعالى - حكايةً عن ابراهيم عليه السلام: ﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾، فكيف تُعبَدُ آلهةً صَمَّاء لا تسمع ولا تُبصِر ولا تتكلم؟، وكذلك لما أراد إبطال عبودية النصارى لعيسى عليه السلام وأمِّه قال عنهما: ﴿ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾، فكيف تُعبَدُ آلهة تحتاج إلى الطعام والشراب وتفتقر إليه، وبالتالي تحتاج إلى قضاء حاجتها؟!

    الآية 166: ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ ﴾: يعني: إن يَكفُر بك اليهود وغيرهم، فاللهُ يَشهد لك بأنك رسوله الذي أَنْزَلَ عليه القرآن العظيم، فقد ﴿ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ﴾ ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ﴾: أي يشهدونَ كذلك بصِدق ما أُوحِيَ إليك، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾: يعني وشهادة الله وحدها كافية.

    الآية 167: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بالله وبرسوله، ﴿ وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: يعني وصَدُّوا الناسَ عن الإسلام، أولئك ﴿ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ عن طريق الحق.

    الآية 170: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ بِالْحَقِّ ﴾: أي بالإسلام، الذي هو دينُ الحق ﴿ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا ﴾ به واتبِّعوه ﴿ خَيْرًا لَكُمْ ﴾ ﴿ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: يعني وإن تُصِرُّوا على الجحود والعِناد: فإن الله غنيٌ عنكم وعن إيمانكم; لأنه سبحانه مالِكُ السموات والأرض وما فيهما، فإذا كانت السموات والأرض قد خضعَتا لله تعالى (كَوْنًا وقدَرًا)، فأوْلَى بكم أن تؤمنوا بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن الذي أنزله عليه، وأن تنقادوا لذلك (شرعًا) حتى يكون الكونُ كلُّه خاضعًا لله (قدرًا وشرعًا)، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾.

     وفي الآية دليل على عموم رسالة نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين.

    الآية 171: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ وهم هنا النصارى: ﴿ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ﴾: يعني لا تتجاوزوا الاعتقاد الحق في دينكم، ﴿ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ فلا تجعلوا له صاحبةً ولا ولدًا، فـ ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ ﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ﴾ وهي كلمة: "كُن" التي خلقه الله بها، ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ وهو جبريل عليه السلام، الذي أرسله الله إلى مريم بكلمة "كُن"، فنفخها جبريل في مريم بأمر ربه، واعلم أن الروح هو اسم من أسماء جبريل عليه السلام،والدليل على ذلك: قوْل الله تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾.

    ﴿ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم للناس الذي تجدونه في كتبكم، ﴿ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ﴾ بأن تجعلوا عيسى وأمه شريكين مع الله، ﴿ انْتَهُوا ﴾ عن ذلك ﴿ خَيْرًا لَكُمْ ﴾ ﴿ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ ﴿ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ﴾: أي تنزَّهَ اللهُ تعالى عن ذلك، فإنه ليس مُحتاجاً إلى ولدٍ كما يحتاجُ البشر، فإنّ البشر يحتاجون إلى ولدٍ يَخدمهم ويرعاهم في كِبَرهم، وعند مرضهم، وحالَ ضَعفِهم، أما اللهُ تعالى فهو - سبحانهُ - القوي الغني الذي لا يحتاجُ إلى شيءٍ مما يحتاجُه البشر، فلا يحتاجُ إلى زوجةٍ أو ولد، لأنه سبحانه ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾: يعني كل ما في السموات والأرض ملْكُه، فكيف يكون له منهم صاحبة أو ولد؟ ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ على تدبير خلقه وتصريف معاشهم.

     فسبحان الله العظيم، أحياناً يقولون عن المسيح إنه هو الله، وأحياناً يقولون إنه ابن الله، وأحياناً يقولون إنه ثالثُ ثلاثة، فمَن إلههم الذي يعبدون؟!

    الآية 172: ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ ﴾: أي لن يَأْنف (يعني لن يَتقزَّز) ولن يمتنع ﴿ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ﴾ ﴿ (وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ﴾: يعني وكذلك لن يأنَفَ الملائكة المُقَرَّبون من الإقرار بالعبودية لله تعالى، ﴿ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ ﴾: يعني ومن يأنف عن الانقياد والخضوع ﴿ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ ﴾ كلهم ﴿ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴾ يوم القيامة، ويَفصلُ بينهم بحُكمه العادل ويُجازي كُلاً بما يستحق.

    الآية 174، والآية 175: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ وهو رسولنا محمد، وما جاء به من البينات والحجج القاطعة، وأعظمها القرآن الكريم (المعجزة الخالدة التي تشهد له بصِدق نبوته ورسالته الخاتمة)، ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ وهو القرآن، ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ ﴾ اعتقادًا وقولا وعملا، ﴿ وَاعْتَصَمُوا بِهِ ﴾ من شر النفس والشيطان وكذلك استمسكوا بالنور الذي أُنزل إليهم، ﴿ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ ﴾: يعني فسيُدخلهم الجنة رَحمةً منه وفضلاً، ﴿ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾: أي ويوفقهم إلى سلوك الطريق المستقيم المُوصل إلى روضات الجنات.
     
     
     
     
     
     
    من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف أ.د. التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف) واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

    رامى حنفى محمود

    شبكة الألوكه الشرعية
     
     
     
     


  10. الربع التاسع من سورة النساء

     

    الآية 114: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ﴾: يعني لا نفعَ في كثير من كلام الناس سِرّاً فيما بينهم ﴿ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾: يعني إلا إذا كان حديثًاً داعيًا إلى بذل المعروف من الصدقة، أو الكلمة الطيبة، أو التوفيق بين المتخاصمين، ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾: يعني ومن يفعل تلك الأمور ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ﴾: يعني طلبًا لرضا الله تعالى راجيًا ثوابه ﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾.

    الآية 115: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ ﴾: يعني ومَن يُخالف ﴿ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ﴾: يعني مِن بعد ما ظهر له الحق ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾: يعني ويَسلك طريقًا غير طريق المؤمنين وما هم عليه من الحق، (وأوَّلهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتابعيهم بإحسان)، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في الصَحِيحَيْن -: (خيرُ الناس قَرْني، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم)، فمن اتَّبَع طريقاً غير طريقهم: ﴿ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ﴾: يعني نتركه وما توجَّه إليه، فلا نوفقه للخير ﴿ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ﴾: يعني ونُدخِله نار جهنم يقاسي حرَّها، ﴿ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾.

     واعلم أنّ في قوله تعالى: ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ دليل على أن (إجماع المسلمين) هو مصدر من مصادر التشريع (بعد القرآن والسُنَّة)، بمعنى أنه إذا أجمعتْ أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم على شيء فإنه يجب الأخْذ به وعدم مخالفته، فما شَهدَتْ له هذه الأمّة بالقبول، فهو مقبول، وما شَهدَت له بالرَدّ، فهو مَردود، وذلك في جميع علوم الدين (كإجماع أهل التفسير وإجماع أهل الحديث وغيرهم).
     
     ونحن نقول لمن يخالفون الإجماع ولا يأخذون به: (عندما مات موسى عليه السلام: حَرَّفَ اليهود التوراة، فأرسل الله لهم عيسى عليه السلام ليوضح لهم ما حَرَّفوه، ثم لمَّا رُفِعَ عيسى عليه السلام: حَرَّفَ النصارى الإنجيل، فأرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما حَرَّفوه، وعندما مات محمد صلى الله عليه وسلم: تطاوَلَ بعض الخلق على القرآن، وحاولوا أن يُحَرِّفوه (فأفشلهم الله تعالى، وأبطل مَكْرهم، وفضَحَ أمْرهم)، هنا نسأل: (هل كان الله سَيُرسِل نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم لِيَرُدّ على هؤلاء المفترين؟) بالطبع لا، لأن الله قد أخبر أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتَم النبيين)، إذن مَن سَيَرُدّ عليهم؟! لا يوجد غير إجماع المسلمين بأن هذا القرآن قد نُقِلَ إلينا مُتَواتِراً (يعني من جماعات كثيرة تنقل بعضها عن بعض)، وذلك بحِفظ الله تعالى له، لأنه سبحانه قد تعَهَّدَ بحِفظه وجَمْعِه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴾، وذلك لأنه هو الدين الخاتَم، الذي ارتضاه الله لجميع الخلق إلى قيام الساعة، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾.
     
    الآية 117، والآية 118، والآية 119: ﴿ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا ﴾: يعني ما يَعبد المشركون من دون الله تعالى إلا أوثانًا لا تنفع ولا تضر (وهم يُسَمُّونهم بأسماء الإناث، كاللات والعُزَّى ومَناة)، ﴿ وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ﴾: يعني كما هم في واقع الأمر يَدعون شيطاناً متمردًا على الله، إذ هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام فعبدوها، فهم إذاً عابدون للشيطان في باطن الأمر لا الأوثان، وهذا الشيطان قد ﴿ لَعَنَهُ اللَّهُ ﴾ ﴿ وَقَالَ ﴾ الشيطان لله تعالى: ﴿ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾: يعني لأتخِذنَّ مِن عبادك عدداً كبيراً يعبدونني ولا يعبدونك، وهم معروفون بمعصيتهم إياك، وطاعتهم لي، ﴿ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ ﴾: يعني ولأصرفَنَّ مَن تبعني منهم عن طريق الحق، ﴿ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ﴾: يعني سأعوقهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة بأنهم لن يُعذَّبوا، أو بأنه سيُغفَر لهم (حتى وإن استمروا على المعاصي ولم يتوبوا)، ﴿ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ ﴾: يعني ولأدعونَّهم ليجعلوا لآلهتهم نصيباً من الأنعام، فيَقطعون آذانها لتكون علامة على أنها ستُذبَح للآلهة، ﴿ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾: يعني ولأدعونَّهم إلى تغيير ما خلقه الله تعالى في الفِطرة، (بالبِدَع والشرك والمعاصي)، وتغيير هيئة ما عليه الخَلق (كالوَشْم والنَمْص (وهو تخفيف الحاجب للمرأة)، وغير ذلك)، ﴿ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴾.

    الآية 121: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ المتبعون للشيطان ﴿ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ ﴿ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ﴾: يعني ولا يجدون عنها ملجأً يهربون إليه منها.

    الآية 123، والآية 124: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ﴾: يعني اعلموا أيها المسلمون أنَّ فضْل الله تعالى وثوابه العظيم لا يُنال بأمنياتكم الخالية من العمل، ﴿ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ من اليهود والنصارى، وإنما يُنالُ بالإيمان الصادق بالله تعالى، وإحسان العمل الذي يُرضيه، فسُنن الله تعالى ثابتة، وهي أنَّ ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه﴾ - إلا لو تاب منه وقَبِلَ الله توبته - ﴿ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ﴾ يتولى أمره وشأنه، ﴿ وَلَا نَصِيرًا ﴾ ينصره، ويدفع عنه سوء العذاب، ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ بالله تعالى وبما أنزل من الحق ﴿ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ﴾ دار السعادة والراحة والنعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتَلَذُّ الأعين، التي فيها ما لا عَينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر من أنواع المآكل والمشارب اللذيذة، والمناظر العجيبة، والقصور، والغُرَف المُزَخرَفة، والأنهار الجارية، والأشجار المُتَدَلِّية، والفواكه الغريبة، والأصوات العذبة، وأعلى من ذلك كله تمتع الأرواح بقُرب ربهم، وتلذذ العيون برؤيته، وتلذذ الأسماع بخطابه الذي يُنسيهم كل نعيم، ولولا الثبات من الله لهم لطاروا وماتوا من الفرح والسرور.
     
    ﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾: يعني ولا يُنْقَصون من ثواب أعمالهم شيئًا، ولو كان مقدار النُقرة التي في ظهر النواة.

    الآية 125: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا ﴾: يعني لا أحد أحسن دينًاً ﴿ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾: يعني وهو مُتقِن للعبادة ومُؤديها على النحو الذي شرعه الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾: يعني وقد اصطفى الله إبراهيم عليه السلام، واتخذه خليلاً، والخُلّة (هي أعلى مقامات المحبة والاصطفاء) وقد شَرَّفَ الله أيضاً بالخُلَّة محمداً صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم آخر خطبة، فقال: "أما بعد أيها الناس: فلو كنتُ متخذاً من أهل الأرض خليلاً، لاتخذتُ أبا بكر ابن أبي قحافة خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله".

    الآية 127: ﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ﴾: يعني وما زالوا يستفتونك في النساء (أي: في شأن ما لَهُنَّ وما عليهنَّ من حقوق، كالميراث والمهر وغير ذلك)، ﴿ قُلِ اللَّهُ ﴾ وحده ﴿ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ﴾، وقد أفتاكم سبحانه فيهنَّ وبَيَّنَ لكم حقوقهنَّ وواجباتهنَّ في الآيات الأولى من هذه السورة، حيث قررتْ الآيات حق المرأة والطفل في الميراث، وحثتْ على المحافظة على مال اليتيم.
     
     وقوله تعالى: ﴿ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ﴾: أي: وما يُتلَى عليكم في يتامى النساء في أول السورة كافٍ لا تحتاجون معه إلى مَن يُفتيكم، إذ بَيَّنَ لكم سبحانه أنه إذا كانت تحت أيديكم يتيمات وكنتم ترغبون في نكاحهنّ فأعطوهنّ مهورهنَّ كاملة مثل باقي النساء، وإذا كنتم لا ترغبون في نكاحهنّ فأعطوهنّ مالهنّ وزَوِّجوهُنَّ غيركم، ولا يَحِلّ لكم أن تحبسوهنّ في بيوتكم من أجل أموالهنّ.
     
    ﴿ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾: أي وكذلك قد بَيَّنَ الله لكم أمر الضعفاء ﴿ مِنَ الْوِلْدَان ﴾ الصغار، حيث قد أعطاهم حقهم وافياً في آيات المواريث، ﴿ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ﴾: أي وكذلك بَيَّنَ لكم وجوب القيام لليتامى بالعدل، وترْك الظلم عليهم في حقوقهم، ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ﴾ لا يَخفى عليه شيء، وسيجازي كُلاً بما يستحق.

    الآية 128: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا ﴾: يعني وإذا خافت الزوجة ترَفُّعَ زوجها عنها وعدم رغبته فيها، ﴿ أَوْ إِعْرَاضًا ﴾ عنها بوجهه، فلا يكلمها ولا يَأنَس بها (وذلك لِسُوء خُلُقِها، أو لِكِبَر سِنِّها وعدم رغبتها في المعاشرة الزوجية، أو غير ذلك)، وأراد أن يفارقها، فآثَرَتْ هي البقاءَ معه: ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾: يعني فلا بأس ولا حرج في هذه الحالة ﴿ أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ﴾: يعني فلها أن تُجْري مع زوجها صُلحاً (وهو ما يُسَمُّونه: تفاوُضاً) يَحفظ لها بقاءها في بيتها عزيزة محترمة، وذلك بأن تتنازل له عن بعض حقها في الفراش (فتَهَبُ بعضَ أيامها لزوجته الثانية)، أو تتنازل عن بعض ما كان واجباً لها من النفقة أو الكسوة، فإنّ هذا خيرٌ لها من الفراق، ولهذا قال: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾: يعني والصلح أوْلَى وأفضل من الفراق، وذلك لضمان النفقة عليها وغير ذلك.
     
     وقوله تعالى: ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾: يعني وقد فُطِرَتْ النفوس على البخل، فهو مُلازمٌ للنفس البشرية لا يفارقها (والمرأة كالرجل في هذا)، إلا أن المرأة أشَحّ منه في أن تُعطي شيئاً مِن حقها لغيرها، إذاً فليُراعِ الزوج هذا، ولا يَستغل اضطرارها لهذه المصالحة فيُنقِصها كثيراً من حقوقها، ولهذا قال تعالى بعدها: ﴿ وَإِنْ تُحْسِنُوا ﴾ معاملة زوجاتكم ﴿ وَتَتَّقُوا ﴾ اللهَ فيهنّ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ لا يَخفى عليه شيء، وسيَجزيكم بالإحسان إحساناً وبالخيرِ خيراً.

    الآية 129: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ﴾ أيها الرجال ﴿ أَنْ تَعْدِلُوا ﴾ العدل التام ﴿ بَيْنَ النِّسَاءِ ﴾ في المحبة وميل القلب، أما في النفقة والكِسوة والعِشرة بالمعروف فهذا مُستطاع.
     
    ﴿ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾ على تحقيق العدل في الحب فلن تستطيعوا، ولذلك لا يؤاخِذ الله تعالى به، ولكنْ بشرط: ﴿ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ﴾: يعني فلا تُعرِضوا عن المرغوب عنها كُلَّ الإعراض ﴿ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾: أي حتى لا تتركوها كالمرأة المُعلَّقة التي (ليست متزوجة ولا هي مُطلَّقة) فتأثموا، ﴿ وَإِنْ تُصْلِحُوا ﴾ أعمالكم فتَعدِلوا في النفقة والعطاء بين زوجاتكم ﴿ وَتَتَّقُوا ﴾ الله تعالى وتخشوه فيهنّ: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا ﴾ يغفر لكم ما عجزتم عن القيام به لِضَعفكم ﴿ رَحِيمًا ﴾ يرحمكم في دنياكم وأخراكم بسبب تقواكم له.
     
    الآية 130: ﴿ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا ﴾: يعني: فإذا تعذر الاتفاق بين الرجل وامرأته، فلا بأس بالفراق، فإذا تفرقا: ﴿ يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا ﴾ منهما ﴿ مِنْ سَعَتِهِ ﴾ وفضله، فيُغني الزوج بزوجةٍ خيرٍ له منها، ويُغني الزوجة بزوجٍ خيرٍ لها منه، وإن انقطعتْ نفقتها من زوجها (بعد الفراق)، فإنَّ رِزقَها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق، القائم بمصالحهم، ولذلك قال بعدها: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾، فمَن كان كذلك قهو قادرٌ على إغنائهما، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا ﴾ في فضله وعطائه ﴿ حَكِيمًا ﴾ فيما يقضي به بين عباده.

    الآية 131: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ وما بينهما، ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ من اليهود والنصارى، ﴿ وَإِيَّاكُمْ ﴾: أي وكذلك عَهِدنا إليكم يا أمة محمد ﴿ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ﴿ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾: يعني فإنه سبحانه غنيٌ عنكم; لأنّ له جميع ما في السموات وما في الأرض ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا ﴾ عن خلقه، فلا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين وجحود الجاحدين، وكان سبحانه ﴿ حَمِيدًا ﴾ في صفاته وأفعاله، مُستحقاً للثناء في كل حال.

    الآية 134: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا ﴾: يعني مَن كانت هِمَّتُهُ وإرادته دَنِيَّة غير متجاوزة ثواب الدنيا، وليس له إرادة في الآخرة فإنه قد قَصُرَ سَعْيُهُ ونَظَرُه، ومع ذلك فلا يَحصل له من ثواب الدنيا سوى ما كَتب الله له منها، فإنه تعالى هو المالك لكل شيء، ﴿ فَعِنْدَ اللَّهِ ﴾ وحده ﴿ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ ﴾: فلْيَطلبهما منه ولْيَستعن به عليهما، فإنه لا يُنالُ ما عنده إلا بطاعته، ولا تُدرَكُ الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة به، والافتقار إليه على الدَوام.
     
     وله سبحانه الحكمة في توفيق مَن يوفقه، وخذلان مَن يَخذله، وله الحكمة كذلك في عطائه ومَنْعِه، ولهذا قال: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا ﴾ لأقوال عباده ﴿ بَصِيرًا ﴾ بأعمالهم ونياتهم، وسيجازيهم على ذلك.
     
     
     
     
     

    تفسير الربع العاشر من سورة النساء



    الآية 135: (﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ﴾: يعني كونوا قائمين بالعدل في كل أموركم، ﴿ شُهَدَاءَ لِلَّه ﴾:ِ أي مؤدين للشهادة لوجه الله تعالى، ﴿ وَلَوْ ﴾ كانت ﴿ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ ﴿ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ﴾: يعني: ومهما كان شأن المشهود عليه غنيًّا أو فقيرًا، فلا يَحمِلَنَّكم غِنى الغنى ولا فقْر الفقير على تحريف الشهادة أو كتمانها (ظناً منكم أنَّ ذلك في مصلحته)، فإنَّ الله تعالى أوْلَى به منكم، وأعلم بما فيه صلاحه، ﴿ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ﴾: يعني فلا يَحمِلَنَّكم الهوى والتعصب للغير على ترْك العدل، ﴿ وَإِنْ تَلْوُوا ﴾: يعني وإن تحرفوا الشهادة بألسنتكم فتأتوا بها على غير حقيقتها، ﴿ أَوْ تُعْرِضُوا ﴾ عنها بترْك أدائها أو بكتمانها: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾: أي عليمًا بدقائق أعمالكم، وسيجازيكم بها.

    الآية 136: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا ﴾: أي داوِموا على ما أنتم عليه من التصديق الجازم ﴿ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ على رُسُله الكرام، ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ عن طريق الحق.

    الآية 138، والآية 139: ﴿ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾: يعني أخبِرهم بخبرٍ يَظهرُ أثره على بَشرَةِ وجوههم ألماً وحسرة، (وهو العذاب المؤلم في النار).

     وهؤلاء المنافقون هم ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ﴾: يعني أيَطلبون بذلك النُصرة والقوة عند الكافرين؟ إنهم لا يملكون ذلك، ﴿ فَإِنَّ الْعِزَّةَ ﴾ والنُصرة والقوة ﴿ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾: أي جميعُ ذلك للهِ وحده.

    الآية 140، والآية 141: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ﴾: أي نَزَّلَ عليكم في القرآن ﴿ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ ﴾: أي فلا تجلسوا مع الكافرين والمستهزئين ﴿ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ﴾: يعني إنكم إذا جالستموهم، وهم على ما هم عليه من الكفر والاستهزاء، فأنتم مِثلهم؛ لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها.

     وكذلك السامع لغَيْبَةِ أخيه (يعني بما يَكرهه في غيبته)، وكانَ في استطاعته أن يدافع عنه، أو أن يقول لهم: (الله يهديه ويغفر له)، ليمنعهم بذلك من غيبته، أو كانَ في استطاعته أن يترك مجلس الغيبة ولم يفعل، وكان راضياً بذلك، ومُقِرَّاً للمغتابين على ما هم عليه: فإنه مغتابٌ مثلهم يأكل لحم أخيه ميتاً.

    ﴿ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ يلْقَون فيها سوء العذاب، وهؤلاء المنافقون هم ﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ﴾: يعني ينتظرون ما يَحِلُّ بكم من الفتن والحرب: ﴿ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ ﴾ ونَصَرَكم على عدوكم وغَنِمتم: ﴿ قَالُوا ﴾ لكم: ﴿ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ﴾ نناصركم؟، ﴿ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ ﴾: يعني قَدْرٌ من النصر والغنيمة، ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾: يعني ألم نساعدكم ونَحْمِكُم من المؤمنين؟ ﴿ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾ وبينهم ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾: يعني ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين طريقًا ليغلبوهم بالحُجَّة والبرهانً في الآخرة، وإنما قلنا (في الآخرة) لأن السِياق كان يتحدث عن أن الله سوف يحكم بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة.

    الآية 142، والآية 143: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ ﴾: أي يعتقدون بجهلهم أنهم يُخادعونَ اللَّهَ، بما يُظهرونه من الإيمان وما يُبطنونه من الكفر، ظنًّا منهم أنّ ذلك يَخفى على الله تعالى، ﴿ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ ومجازيهم بمثل عملهم، ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ﴾: أي قاموا إليها في فتور، ﴿ يُرَاءُونَ النَّاسَ ﴾ ﴿ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾، ولذلك أمر الله المؤمنين - في آيةٍ أخرى - أن يذكروا الله ذكراً كثيراً، لأن الذكر الكثير براءةٌ من النفاق.

     وإنَّ مِن شأن هؤلاء المنافقين أنهم ﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾: يعني حَيارَى مترددين بين الكفر والإيمان، لا يستقرون على حال، فـ﴿ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ﴾: يعني فلا هم مع المؤمنين ولا هم مع الكافرين، ﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ﴾: يعني ومَن يَصرف الله قلبه عن الإيمان وعن الاستمساك بهديه: ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾: يعني فلن تجد له طريقًا إلى الهداية واليقين.

    الآية 144: (﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ بالنصرة والمحبة والإعانة وبإفشاء أسرار المؤمنين لهم، ﴿ أَتُرِيدُونَ ﴾ بمودَّة أعدائكم ﴿ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾: أي حُجَّةً ظاهرة على عدم صِدق إيمانكم؟

    الآية 145، والآية 146: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾: يعني في أسفل منازل النار يوم القيامة، ﴿ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ يدفع عنهم سوء هذا المصير، ثم ذكر تعالى الأمل الوحيد لهم في النجاة من ذلك العذاب الأبدي فقال: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ﴾ ﴿ وَأَصْلَحُوا ﴾ ما أفسدوه من أحوالهم باطنًا وظاهرًا، ﴿ وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ﴾ من شر النفس والشيطان، واستمسكوا بدين الله، (﴿ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾) في الدنيا والآخرة، ﴿ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾.

    الآية 147: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ ﴾: يعني ماذا يستفيد الله تعالى من تعذيبكم ﴿ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ ﴾ فإنه سبحانه غني عن ذلك، وإنما يعذب العباد بذنوبهم إن لم يتوبوا وأصَرُّوا على ما هم فيه، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا ﴾ لعباده على طاعتهم له، ﴿ عَلِيمًا ﴾ بكل شيء.
     
     

  11. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}
    من ابتغى العزة في جاه أو مال أو قوة أو سلطان أو غير ذلك من أسباب الرفعة الدنيوية فليراجع نفسه فما هي إلا دار غرور سريعاً ما تنتهي بهجتها و تنطفيء أنوارها و تبدأ رحلة التكريم و العزة الحقيقية أو الذلة والإهانة الأبدية، العزة لله و فيما يرضي الله و دوام التكريم و النعيم فقط في دار الكرامة لمن أحب الله و أحبه الله.

    إياك أن تلتمس العزة في عرض زائل حتى لا تعذب بفقده أو تهان بسببه. إلى الله يصعد كل قول و عمل صالح، فيرفع معه صاحبه درجات و ينال العزة الحقيقية عند مليك الأرض و السماوات. أما المكر السيء و أهله فليس لهم عزة و إنما هي الإهانة و النكال، و إن بدت لهم عزة في دار الغرور فإنما هي خدعة و اختبار سرعان ما سيزول.

     

    مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

    1-  "من كان يريد العزة فلله العزة جميعا" دليل على أن التماس العز لايكون إلا بطاعة الله،وأن ملتمس العز بغيرها لايزداد إلا ذلاّ. . / فوائد القرآن
    2-  (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) في الكلام الطيب قال (يصعد) وفي العمل قال (يرفعه) : لأن العمل ثقيل وثقيل /عقيل الشمري
    3-  (إليه يصعد الكلم الطيب) من جمال الكلم الطيب وصعوده : أنه يقع في سمع الله قبل أذن السامع /عقيل الشمري
    4-  العزّة لله لا تُنال إلا بطاعة الله (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) / عبد العزيز الطريفي
    5-  "من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" من أراد العزة فعليه بالكلم الطيب والعمل الصالح / نوال العيد  
    6-  (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) يا من يريد العزة، اطلبها ممن هي بيده، فإن العزة بيد اللّه، ولا تنال إلا بطاعته . / تفسير السعدي  
    7-  ما أكثر الذين يبتغون العزة نفسهم،غير أنهم يختلفون في التماسها من مظانها،والموفق هو من طلبها ممن يملكها(من كان يريد العزة فلله العزة جميعا)./.سعود الشريم 
    8-  صباحك عزة. من أعزه الله لن يخفضه أحد، ومن اعتز بغير الله ذل "من كان يريد العزة فلله العزة جميعا / نوال العيد
    9-  لا تحزن إنْ لم يحتف أهل الأرض بأحرفك الجميلة ، وكلماتك الصادقة فهناك في السماء من يسمعها . ﴿إليه يصعد الكلم الطيب﴾ / إبراهيم العقيل
    10-    لا يزال عمل العبد يرتفع لربه حتى يرفع الله ذكره: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}..." / نوال العيد.
               11- ﴿ والعمل الصالح يَرفعه ﴾ ﴿ ولكل درجات مما عملوا ﴾ حجمك عند الله .... بحجم عملك الصالح !" / نايف الفيصل
               12-   قَرنَ الله الإيمان ب(العمل الصالح) في أكثر من 200 آية في كتابه... لتعلم أن الإيمان بلا عمل كالشجر بلا ثمر ! / نايف الفيصل
    13-  (إليه يصعد الكلم الطيب) لا أحد يعترضه أو يمنعه من كل أحد مهما كانت لغاتهم أو أحوالهم  إليه بلا واسطة أو ترجمان./ د. عبدالله بلقاسم
    14-  من أراد أن يعزه الله فعليه بوصية الله عز وجل (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه( . / نوال العيد
    15-   ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ حتى ولو لم يُقدّر الآخرون طيبة كلماتك وصدق عباراتك.. يكفيك أنها تصعد لـِربك وتزف إلى سماواته العلا..!! / ماجد الزهراني
    16-   ‏﴿ إليه يصعد الكَلِمُ الطيب ... ﴾ اختر من كلماتك وألفاظك أطيبها فإن لم تجد لها في قلوب الآخرين مهبط فيكفي أنها إلى ربك تصعد ! / حاتم المالكي
    17-    التكبير والجهر به في العشر كفيل بإذكاء مشاعر العزة في نفسك؛ لتستحضر على الدوام أنه أحد أكبر من الله)من كان يريد العزة فلله العزة جميعا( / سعود الشريم
    18-  ﴿ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ﴾ لا تأسفنَّ على كلمةٍ طيبةٍ قلتها أو عملٍ صالحٍ فعلته فيكفيك أنّهُ لله يصعد./ روائع القرآن
                19- ﴿ إليه يصعد الكلم الطيب ﴾ لا تحزن إنْ لم يحتف أهل الأرض بأحرفك الجميلة وكلماتك الصادقة فهناك في السماء من يسمعها / إبراهيم العقيل



    المصدر
    طريق الاسلام
    حصاد التدبر

    36769004_236244556978373_3217953226611490816_n.jpg?_nc_cat=106&_nc_ohc=o4WJVL7cmX4AX-OiaMR&_nc_ht=scontent.fcai2-1.fna&oh=dddb0406a7a22b99867aab86be857019&oe=5ED8B5A4

  12. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

    فهذا هو الحديث الأخير في باب "الحلم والأناة والرفق"، وهو:

    حديث عبد الله بن مسعود  قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟، تحرم على كل قريب هين لين سهل[1].

    ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟، يحتمل أن يكون هذا الشك من الراوي، بمعنى أن التردد حصل للراوي، وأن النبي ﷺ قال إحدى الجملتين، يعني: يكون الرسول ﷺ قال: ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو قال الأخرى: بمن تحرم عليه النار، وهل المؤدى واحد لو فُرض أن النبي ﷺ قال الجملتين، أو أن إحدى الجملتين أبلغ من الأخرى؟

    بعضهم يقول: إن قوله: ألا أخبركم بمن يحرم على النار دون قوله: أو بمن تحرم عليه النار، يعني: يحرم على النار أنه لا يدخل النار أصلاً، تحرم عليه النار أنه حتى لو دخلها فإنها لا تضره، هكذا قال بعضهم، والذي يظهر -والله أعلم- أن ذلك يرجع إلى شيء واحد بمعنى أن هذا الإنسان لا يدخل النار. بمعنى: أنه لا يعذب بالنار.

    من هو الذي لا يعذب بها، يحرم عليها أو تحرم عليه؟ قال: تحرم على كل قريب هين لين سهل، قريب، يمكن أن يفسر بأنه السهل، بمعنى أنه إن وقع عليه شيء من المظلمة، أو الخطأ، أو نحو ذلك، فاستُرضِي يرضى، قريب.

    لكن من الناس من لو وقع في حقه شيء من التقصير فإن رضاه لا ينال، ولا يمكن أن يستدرك هذا الخطأ في حقه مهما اعتذر إليه، فهذا ليس بقريب، هذا بعيد، ولهذا فإن من أهل العلم من يفسر القريب هنا بأنه السهل.

    لكن لما ذكر النبي ﷺ السهل في هذه الأوصاف في آخرها كان التأسيس أولى من التوكيد، يعني: بمعنى أن لا تكون كلمة قريب بمعنى سهل، فتكون مكررة، فيكون القريب بمعنى أنه قريب الفيئة إذا حصل له صدود، غاضَبَ أحداً، وهو قريب أيضاً إذا استُرضِي، وهو قريب أيضاً حينما يُحتاج إليه في شيء، إلى غير ذلك من المعاني.

    وأما الهين واللين، فالهين هنا صفة مدح، وأما الهوان فهو صفة ذم، الهوان قريب من معنى الذل، وأما الهين هنا فمعناه أنه ليس بصعب، ولا شَكْس، ولا عَسِر.

    يعني: من الناس من يكون فيه شيء من الرعونة والصعوبة، والقرب منه مشكلة، إذا اقتربت منه فأنت لا تأمن على نفسك من غوائله.

    فلان هين لين، بمعنى أنه طيع يستجيب، ولا تصل به الخصومة إلى حد يؤذي به الآخرين، أو أن يظلمهم، أو نحو ذلك، ولا يكون هذا الإنسان متمنعاً حينما يُطلب منه النزول عن بعض حقه، أو نحو ذلك، فلان هين لين، واللِّين ضد الشدة، والسهل هو الذي يقابل الصعب والشديد.

    هذه أوصاف قسمها الله  على عباده، والناس لا يستوون في ذلك إطلاقاً، ومنهم من يوهب هذه الأوصاف، ومنهم من يحصّل بعضها، أو كثيراً منها بالترويض والمجاهدة، وتربية النفس، وكما قال النبي ﷺ: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[2].

    فذاك الإنسان الذي يقابل هذه الأوصاف، يعني: ليس بهين، ولا لين، ولا سهل، ولا قريب، معناها أنه صعب شديد، شكس الطباع، لا يمكن أن يُغضي، أو أن يتجاوز، أو أن يتنازل، أو أن يفوّت حقًّا من حقوقه، ومن حصل منه -في وهمه على الأقل- شيء من الإساءة في حقه، فإن هذا الإنسان الشديد لا يترك سبيلاً إلا سلكه من أجل استقصاء حقه، فتجد هذا في كل أموره، إذا وقف جاره عند بيته صارت مشكلة، ولهذا قد يصل الأمر أحياناً إلى وضع أحجار، وطوب وأشياء من أجل أن لا يقف أحد أمام البيت، ومن وقف فلا يلومن إلا نفسه، لو طفل صغير من أبناء الجيران رمى حجراً، أو نحو ذلك في فناء الدار، أو على الباب، أو نحو ذلك، هذه صارت، مشكلة تصل أحياناً إلى الشُرط، لو أن أحد أولاده ضربه أحد أبناء الجيران، أو نحو ذلك ما تنتهي القضية، يقدم شكوى ويجرجر الجيران.

    وهكذا ولدك قال كذا، زوجتك قالت لزوجتي كذا، وفي كل يوم مشاكل مع هؤلاء الجيران، لو وضعوا خشبة على الجدار، أو نحو ذلك من حوائجهم حصلت مشكلة، فمثل هذا لا يستطيع الناس أن يتعاملوا معه، ويتحاشاه الجميع، فيبقى منبوذاً -نسأل الله العافية.

    وإن عاملهم بالدينار والدرهم فإنه لا يترك شيئاً من حقه إلا استقصاه، لا يعرف الإمهال، وما جاء في التيسير، والإنذار للمعسر، أو نحو ذلك، وإنما يقف عند حقه فيستوفي ذلك جميعاً دون إمهال أو إرفاق، ولا يبالي، يمكن أن يقفل العداد، ويقفل الماء، وفي البيت أطفال يتضاغون، وهو لا يبالي بهم، جاء اليوم الذي يدفع فيه الإيجار لابد أن يدفع، بل إن بعضهم هدم الحاجز الذي في الدَّرَج، يمكن أي طفل أن يسقط من أجل أن يُضطر هؤلاء إلى الخروج من المبنى، وفيهم أيتام، فهو كذلك في تعاملاته.

    بينما الآخر الهين اللين إذا قالوا له: نحن الآن ننتظر إلى آخر الشهر، ننتظر إلى رمضان، إلى كذا، أمهلنا، نحن في ضائقة.

    قريب سهل هين لين، وإذا طلب منه الناس أن يتنازل عن بعض مظلمة، أو حق، أو نحو ذلك، فالأمر قريب، قالوا: نحن نجلس ونصطلح، فلا إشكال، وأما الآخر فلا يفهم هذه اللغة إطلاقاً، لو أحد في الطريق احتك بسيارته، أو نحو هذا تقول له: ما تريد سنعطيك إياه، لكن لا تُوقفنا بالشارع، وتَضيع أوقاتنا وفي الشمس، لا، لابد أن يحضر المرور، ما تريد سيعطى لك، أبداً، هو مستعد إلى آخر نفس أن يكابد.

    مثل هذه الأخلاق -أيها الأحبة- ليست من أخلاق أهل الجنة، المؤمن يتنازل عن بعض حقه، يتحمل، يصبر، يعفو، يصفح، لا يؤذي إخوانه المسلمين بفعل، يظلمهم بيده، أو يأخذ أموالهم ونحو ذلك، ولا يؤذيهم بالقول، يتكلم فيهم، يجرح مشاعرهم بكلام لا حاجة إليه، ولو رأى منهم ما يكره من الأقوال والفعال يكظم ذلك في نفسه، ويصبر، ويحتسب عند الله  ويعفو ويصفح. 

    هذه أخلاق يحتاج الإنسان أن يروض نفسه عليها، وأن يربي من تحت يديه من الأولاد والتلاميذ على هذا اللون من الأخلاق؛ لأن هؤلاء الصغار حينما يرون والدهم، أو من يقوم على تربيتهم مشاكساً، ويرى أن هذا هو الكمال، وأن هذا هو القوة، وأن هذا هو الوصف الذي يمدح عليه الإنسان، فإنهم سيكونون مثله؛ لأن البيئات المريضة المحمومة بهذه الأخلاق المرذولة، ما الذي يحصل للناشئة فيها؟ يحصل لهم تقمص هذه الأخلاق؛ لأنهم يسمعون صباح مساء أن الإغضاء والترك والإعراض والتنازل والعفو أنه من التضييع، والضعف، والخنوع، وأن هذا من النقص، وإذا رأوا واحداً منهم يبدو من حماليق عينيه منذ نعومة أظفاره أنه لا يدع شاردة ولا واردة من حق إلا استقصاه، فهذا هو الممدوح عندهم، فيثنى عليه.

    يقول: في طالب في المدرسة ولد في المدرسة ضربني كذا فضربته ضربة كذا، وكسرت أنفه، نعم، بطل، رجل، كذا، يربَّى على هذا، فيفرح وينتشي، ثم تكبر معه هذه الصفات، ولا يمكن بعد ذلك تلافيها واستبدالها بغيرها، والله المستعان.

    والله أعلم.

    وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم

     

    موقع د.خالد السبت



  13. في كل هم / حزن / ضيقة صدر .. راجع نفسك فربما تركت ذنوباً بلا توبة ..
    { من يعمل سوءاً يجز به }
     
     
    من الهوان والصغار أن يقسم الشيطان على ضلالك .. ثم تستجيب له !! .
    ﴿ولأضلنهم ﴾
     
     
    ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾
    للمختصين بالمُحاماة :
    مامقدار إعمال هذه الآية في قضاياكم ؟!

     
     
    (وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ یُكۡفَرُ بِهَا وَیُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُوا۟ مَعَهُمۡ ...إِنَّكُمۡ إِذا مِّثۡلُهُمۡ)
    مجرّد المجالسة اقتضت المجانسة
    فكيف الحال بمن يُسهم معهم في تلك الأحاديث؟!

     
     
    (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ)
    اطرد من حياتك من لا يعرفك إلا في غناك .

     
     
    إن طال بك الوقت في طريق الظلام فهذه الآية توضح لك طريق النور
    (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)
     
    Image may contain: text
     
     
    {أيبتغون عندهم العزة}
    نفوس ضعيفة ذليلة تستمد قوتها من بشر ضعيف مثلها
    عندما تختلط المفاهيم ياليت نتذكر هذة الآيه

     
     
    ( أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّه )؟!
    متى طلبت العزة من غير الله إلا عادت ذلًا على صاحبها وخيبة له في الدنيا والآخرة!

     
     
    (قل متاع الدنيا قليل))
    <قليل>…
    لا يستحق أن تكون حزينًا أو قلقًا من أجله.

     
     
    ﻻ يصح أي حكم من اﻷحكام إﻻ بأمرين: اﻷول:العلم لقوله(إﻻ من شهد بالحق وهم يعلمون). والثاني:العدل لقوله(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) / سعود الشريم
     
     
    في القرآن يأمر الله بالحذر من الأعداء (خذوا حذركم) لكنه ينهى عن الخوف (فلا تخافوهم) لأن الحذر عقل والخوف جُبن



    83322263_2755900497819989_12615828028061



    ( يبين الله لكم أن تضلوا ) ( فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال )
    "كل حكم خالف حكم الله فهو ضلال وإن استحسنه الناس ."

     
     
    ﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدى لِّلۡمُتَّقِینَ (٢)﴾ [البقرة ٢]
    فضائل التقوى المستنبطة من القرآن
    - الهدى؛ ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
    - النصرة؛ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ﴾.
    - الولاية؛ ﴿وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ﴾.

     
     
    {وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ}
    بيان حكمة الله في مناسبة العقوبة للذنب؛ فالذنب الذي فعلوه أنهم فعلوا شيئا صورته صورة المباح؛ ولكن حقيقته غير مباح فصورة القرد شبيهة بالآدمي ولكنه ليس بآدمي
    وهذا لأن الجزاء من جنس العمل.
    (ابن عثيمين)

     
     
    تحرر كما تشاء ..افعل كما تشاء..ولكن تأمل قوله تعالى:
    ﴿ وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ﴾
    ففي حريتك احذر أن تقابل الله بفعل أو قول تظلم فيه نفسك..

     
     
    لمن يشتكي من ذنوب الخلوات .. دونك هذه الآية :
    ﴿يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم ﴾

     
     
    ﴿ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا﴾
    قد تجد من يقف بجانبك هنا وإن كنت على غير حق، لكن هناك لا مفر!.

     
     
    ﴿وما أصابك من سيئة فمن نفسك﴾
    كل ما ساءك أمر، إنما هو من نفسك، فراجع حساباتك



    83145030_2758263690917003_83109466161020

     

  14. تفسير الربع السابع من سورة النساء بأسلوب بسيط

     

     

    الآية 88: ﴿ فَمَا لَكُمْ ﴾ أيها المؤمنون قد اختلفتم ﴿ فِي ﴾ شأن ﴿ الْمُنَافِقِينَ ﴾، فأصبحتم ﴿ فِئَتَيْنِ ﴾، فئةٌ منكم تقولُ بقتالهم وأخرى لا تقول بذلك؟ ﴿ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ﴾: يعني والله قد أوقعهم في الكفر والضلال بسبب سوء أعمالهم، كما قال تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾، فلا ينبغي لكم أن تشُكُّوا في أمرهم، بل أمرهم واضح لا إشكال فيه، إنهم منافقون قد تكرر كُفرهم، وَوَالوا الكفار، ﴿ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ﴾: يعني أتوَدُّون هداية مَن صَرف الله قلبه عن دينه؟ ﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾: يعني ومَن خَذله الله عن دينه، فلا طريق له إلى الهدى.

     

    الآية 89: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾: يعني: تمنَّى المنافقون لكم أيها المؤمنون لَوْ تَكْفُرُونَ ﴿ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ في الكفر والجحود، ﴿ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ بالنصرة والمحبة والمَعونة ﴿ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ بُرهانًا منهم على صِدق إيمانهم، لأن الهجرة إلى المدينة تقطع صِلَتُهُم بدار الكفر، فيَفتُر عزْمهم عن النفاق، ويراجعوا الصِدق في إيمانهم فيؤمنوا، ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾ عما دُعُوا إليه ولم يهاجروا: ﴿ فَخُذُوهُمْ ﴾ أينما كانوا، ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ ﴿ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ ﴾ من دون الله ﴿ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾.

     

    الآية 90: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ﴾: يعني إلا المنافقين الذين يلجأون وينضمون إلى قوم بينكم وبينهم عهدٌ وميثاق على عدم القتال فلا تقاتلوهم، لأنه باستجارتهم بهم (طالبين الأمان منهم) سيكون لهم نفس حُكمهم في حقن الدم والمال، وذلك حتى لا تنقضوا عهدكم معهم، ﴿ أَوْ جَاءُوكُمْ ﴾: يعني وكذلك المنافقون الذين أتَوا إليكم وقد ﴿ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ ﴾: يعني ضاقت صدورهم وكرهوا أن يقاتلوكم، ﴿ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ﴾: يعني كما كرهوا أن يقاتلوا قومهم، فلم يكونوا معكم ولا مع قومهم، فلا تقاتلوهم، ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ ﴾: يعني لَسَلَّطَ هؤلاء المنافقين ﴿ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ﴾ مع أعدائكم المشركين، ولكنَّ الله تعالى صرفهم عنكم بفضله وقدرته، ﴿ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ﴾: يعني فإن تركوكم ﴿ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ ﴾ ﴿ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ﴾: يعني وقدموا إليكم المُسالَمة (﴿ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ﴾: يعني فليس لكم عليهم مِن طريقٍ لِقتالِهم، وهذا دليل على أن الاعتداء لا يكونُ إلا على المعتدين، كما قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ﴾ وهذا هو الكافر المحارِب للمسلمين، أما الكافر المُسالِم فلا يُقتَل، وكذلك المُعاهَد والمُستئمَن في أوطاننا.

     

    الآية 91: ﴿ سَتَجِدُونَ ﴾ قومًا ﴿ آَخَرِينَ ﴾ من المنافقين ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ﴾: يعني يَوَدُّون الاطمئنان على أنفسهم من جانبكم فيُظهِرون لكم الإيمان، كما يَوَدُّون الاطمئنان على أنفسهم من جانب قومهم الكافرين فيُظهِرون لهم الكفر، وهم ﴿ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ﴾: يعني كلما أُعِيدوا إلى مَوطن الكفر والكافرين: وقعوا في أسوأ حال، وكلما عَرض لهم عارض من عوارض الفتن: أعماهم ونَكسهم على رءوسهم، وازداد كُفرهم ونفاقهم، ﴿ فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ﴾: يعني فهؤلاء إن لم يفارقوكم، ويُقدموا إليكم المُسالَمة، ﴿ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ ﴾ عن قتالكم: ﴿ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾: يعني حيث وجدتموهم، ﴿ وَأُولَئِكُمْ ﴾ قد ﴿ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾: يعني جعلنا لكم الحُجَّة البيِّنة على قتْلِهم وأسْرِهم (لِكَونِهم معتدين، ظالمينَ لكم، تاركينَ للمُسالَمة، فلا يَلوموا إلا أنفسهم).

     

    الآية 92: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ﴾: يعني إلا أن يقع منه ذلك على وجه الخطأ الذي لا عَمْدَ فيه، ﴿ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ﴾: يعني فعليه عِتق رقبة مؤمنة من الأسر، ﴿ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ﴾: يعني وتسليم الدِيَة (وهي مائة من الإبل، أو ألف دينار ذهب، أو اثنا عشر ألف درهم فضة) يدفعها القاتل إلى أهل المقتول ﴿ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ﴾: يعني إلا أن يعفوا عليه فلا يأخذوا منه هذه الدِيَة، ولا يطالبوه بها، ﴿ فَإِنْ كَانَ ﴾ المقتول ﴿ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ ﴾: يعني من قوم كفار أعداء للمسلمين، محاربين لهم ﴿ وَهُوَ ﴾: أي المقتول ﴿ مُؤْمِنٌ ﴾ بالله تعالى وبما أنزل من الحق على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ﴾: يعني فعلى قاتله عتق رقبة مؤمنة فقط، ولا يُعطِي الدِيَة إلى أهله الكفار، إذ لا تُعطَى الدِيَة لعدو يستعين بها على حرب المسلمين، ﴿ وَإِنْ كَانَ ﴾ هذا المقتول المؤمن ﴿ مِنْ قَوْمٍ ﴾ كفار، ولكنْ: ﴿ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ﴾: يعني بينكم وبينهم عهدٌ على عدم القتال: ﴿ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ﴾ وذلك احتراماً لأهله بسبب ما لهم من العهد والميثاق، ﴿ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ﴾ ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ﴾ رقبةً يعتقها، أو كانَ لا يقدر على ثمن عتقها: ﴿ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ﴾، وقد شُرِعَتْ هذه الكفارة في القتل الخطأ لتكون ﴿ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ ﴾ تعالى على العبد القاتل خطأً، ورحمةً به، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا ﴾ بحقيقة شأن عباده ﴿ حَكِيمًا ﴾ فيما شرعه لهم.

     

    الآية 93: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ﴾ بغير حق: ﴿ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ هذا إذا جازاهُ على ذنبه ولم يَقبل توبته، عِلماً بأنه سبحانه يَتفضل على أهل الإيمان فلا يُجازيهم بالخلود في جهنم.

     

    الآية 94: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: يعني إذا خرجتم تضربون الأرض بأرجلكم (مسافرين) لتجاهدوا في سبيل الله ﴿ فَتَبَيَّنُوا ﴾: يعني فتثبتوا، وكونوا على بَيِّنَة مِمَّن تلقونهم في طريقكم، حتى لا تقتلوا مسلماً تحسبونه كافراً، لأن التَثَبُّت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكَفّ عن الشرور العظيمة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

     

     واعلم أن سبب نزول هذه الآية أن نَفَراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا فلَقَوا رجلاً يسوقُ غَنَماً مِن بَني سليم، فلما رآهم سَلَّمَ عليهم قائلاً: السلام عليكم، فقالوا له: ما قُلتَها إلا تَقِيَّةً - أي خوفاً منا - لِتَحفظ نفسك ومَالَك، فقتلوه، فلَمَّا عَلِمَ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، حَمَلَ دِيَتَهُ إلى أهله وَرَدَّ غَنَمَه.

     

    ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ ﴾: أي وَلَا تَقُولُوا لمن ظهر منه شيءٌ من علامات الإسلام ولم يقاتلكم، كأن يُعلن إسلامه لكم (بقول الشهادة أو بإلقاء السلام)، فلا تقولوا له: ﴿ لَسْتَ مُؤْمِنًا ﴾ لاحتمال أن يكون مؤمنًا يُخفي إيمانه، ثم عاتَبَهم سبحانه بقوله: ﴿ تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾: يعني لِتطلبوا بذلك متاع الدنيا الزائل، وتأخذوا غنم الرجل الذي قتلتموه، فإن كان قصْدُكم الغنيمة ﴿ فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ﴾: يعني فعند الله تعالى من الفضل والعطاء ما يُغنيكم به، وما عنده سبحانه خيرٌ وأبقَى من عَرَض الدنيا القليل الفاني، فأطيعوه وأخلِصوا له النِيَّة والعمل.

     

    ﴿ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ ﴾: أي كذلك كنتم في بدء الإسلام - مثل هذا الرجل الذي قتلتموه - تُخفون إيمانكم عن قومكم من المشركين، ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ بأنْ أظهَرَ دينه، ونَصَرَكم، وأعَزَّكم بالإيمان والقوة والهداية.

     

     فنظرُ العبد لحالته الأولى، يَجعله يعامل الناس بمثل ما كانَ عليه قبلَ هُداه، ولهذا أعاد الأمر بالتبَيُّن فقال: ﴿ فَتَبَيَّنُوا ﴾: يعني فتبَيَّنوا مستقبَلاً، ولا تقتلوا أحداً حتى تتأكدوا مِن كُفره، لأنّ قتْل النفس عظيم، ولذلك لَمَّا أُخبِرَ النبي صلى الله عليه وسلم بأن أسامة بن زيد قتل رجلاً قال (لا إله إلا الله) - ظناً منه أنه قالها خوفاً من سيفه - فقال صلى الله عليه وسلم لأسامة: "هَلاَّ شَقَقْتَ عن قلبه"، ومِن هنا خرجتْ القاعدة الفقهية التي تقول: (نحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر)، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ وسيجازيكم على أعمالكم.

     

     وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للعبد إذا رأى نفسه تميلُ إلى شيءٍ - يُغضِبُ الله - أن يُذَكِّرها بما أعَدَّهُ الله لمن نَهى نفسه عن هواها، وقدَّم مَرضاة ربه على رضا نفسه، فإنَّ في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر الله (وإن شَقَّ عليها ذلك)، قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ .

     

     واعلم أنَّ في قوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ ﴾ إرشادٌ إلى المؤمن في أن يَرفق بالعُصاة، وأن يرحمهم لِضَعفهم واستحواذ الشيطان عليهم، وأن يَعذرهم بجهلهم، لأنه كان جاهلاً مثلهم بحُرمة ما يفعل، حتى سَخَّرَ الله له مَن عَلَّمَه وحَلمَ عليه ورَفَقَ به، فإذا رأى عاصياً فعليه أن يقول: (الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به)، وأن يسأل اللهَ الثبات، فقد يتوب الله على هذا العاصي الذي يحتقره، وقد يَخذل الآخر لحظة الاحتضار - بسبب تَكَبُّره - فلا يَنطق بالشهادتين، فحينئذٍ يَتسع صدره للخلق، ويكون ليِّناً ورفيقاً في النصيحة كما عَلَّمَه الله (بالحكمة والموعظة الحسنة) - وذلك بعد أن يُنكِرَ المعصية بقلبه.

     

     وعليه أن يبدأ معه بالثناء عليه وأن يُظهِرَ له أنه يخاف عليه من عذاب الله، كما قال شعيب عليه السلام لقومه: ﴿ (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ﴾، وليَحذر من أن يُنَفِّرَه من الالتزام والهدى بسبب نصيحةٍ بسوء خُلُق (بغضب) أو أن ينصحه أمام الخَلق، فيَصُدّهُ بذلك عن سبيل الله، فيجده في ميزان سيئاته يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿ وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، فارحم - أخي الحبيب - حتى تُرحَم، واعلم أنه إذا كان نَهْيُك عن المنكر سوف يتسبب في منكر أكبر منه فتوقف، فإنه سَعْيٌ في معصية الله.

     

    الآية 95، والآية 96: ﴿ لَا يَسْتَوِي ﴾: يعني لا يتساوى ﴿ الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾: يعني المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله ﴿ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ﴾: يعني - باستثناء أصحاب الأعذار منهم فإنهم معذورون بتخلفهم عن الجهاد - أما المتخلف عن الجهاد بغير عذر فلا يتساوى هو ﴿ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ فقد ﴿ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ ﴾، ورفع منزلتهم ﴿ دَرَجَةً ﴾ عالية في الجنة، ﴿ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾: يعني: وكُلاً من المجاهدين والقاعدين (من أهل الأعذار) قد وعدهم الله بالجنة، وذلك لِما بذلوا وضحَّوا في سبيل الحق، وبصِدق نية أصحاب الأعذار في الخروج إذا زال عنهم العذر، ﴿ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ فقد منحهم سبحانه ﴿ دَرَجَاتٍ مِنْهُ ﴾ عالية في الجنات ﴿ وَمَغْفِرَةً ﴾ لذنوبهم ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ واسعة، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا ﴾ لمن تاب إليه وأناب ﴿ رَحِيمًا ﴾ بأهل طاعته، المجاهدين في سبيله.

     

    الآية 97، والآية 98، والآية 99: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾: يعني: إِنَّ الَّذِينَ تتوفاهم الملائكة لحظة الاحتضار، وكانوا ﴿ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ بقعودهم في دار الكفر وترْك الهجرة، ﴿ قَالُوا ﴾: أي تقول لهم الملائكة توبيخًا لهم: ﴿ فِيمَ كُنْتُمْ ﴾: يعني في أيّ شيءٍ كنتم مِن أمْر دينكم؟ ﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾: يعني كنا ضعفاء في أرضنا، عاجزين عن دفْع الظلم والقهر عن أنفسنا، ﴿ قَالُوا ﴾: أي فتقول لهم الملائكة توبيخًا: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾: يعني فتخرجوا من أرضكم إلى أرضٍ أخرى حتى تأمنوا على دينكم؟ ﴿ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ ﴿ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ﴾: يعني ويُستَثنَى - من ذلك المصير - هؤلاء الضعفاء الذين ﴿ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ﴾: يعني لا يقدرون على دفع القهر والظلم عن أنفسهم، ﴿ وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ﴾: يعني ولا يعرفون طريقًا يُخَلِّصُهُم مما هم فيه من المُعاناة ﴿ فَأُولَئِكَ ﴾ الضعفاء ﴿ عَسَى اللَّهُ ﴾: يعني يُرجَى لهم من الله تعالى ﴿ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ﴾ لِعِلمه تعالى بحقيقة أمْرهم ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾.

     

     

    [1] وهي سلسلة تفسير للآيات التي يَصعُبُ فهمُها في القرآن الكريم (وليس كل الآيات)، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبو بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو شرحُ الكلمة الصعبة في الآية.

    • واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

     

    الربع الثامن من سورة النساء

     

    الآية 100: ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: يعني ومَن يخرج من أرض الشرك إلى أرض الإسلام فِرارًا بدينه، راجيًا فضل ربه: ﴿ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا ﴾: يعني مكانًا يَنعَمُ فيه بما يكونُ سببًا في قُوَّته وذِلَّة أعدائه، ﴿ وَسَعَةً ﴾: يعني ويجد أيضاً سَعَةً في رزقه وعَيْشه، ﴿ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾: يعني قاصدًا نُصرة دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإعلاء كلمة الله تعالى وعبادته ﴿ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ﴾ وهو في طريق هجرته قبل أن يَبلُغَ مَقصِده: ﴿ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾: يعني فقد ثَبتَ له جزاء عمله، ووجب أجْرُهُ على الله تعالى كاملاً غير منقوص (فضلاً منه وإحسانًا)، وسيَغفِرُ له ذنوبه، ويَرحمه فيُدخِله جنته ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾.

     

    الآية 101: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾: يعني وإذا سافرتم في أرض الله ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾: يعني إن خفتم من عُدوان الكفار عليكم في حال صلاتكم، ﴿ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾: يعني يُظهِرون لكم عداوتهم فاحذروهم.

     

     واعلم أن الآية قد ذكرت أن القصر رخصة في حال الخوف من الكفار (لأنَّ غالب أسفار المسلمين - في بدء الإسلام - كانت على خوفٍ من الكفار)، ولكنْ ثبت في السُنَّة أن القصرَ يكونُ رخصةً في السفر عموماً (سواء في حال الأمن أو في حال الخوف).

     

    الآية 102: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ ﴾ أيها النبي ﴿ فِيهِمْ ﴾: يعني في ساحة القتال ﴿ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ ﴾: يعني فأردتَ أن تصلي بهم، ﴿ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ﴾: يعني فَلْتَقُمْ جماعةٌ منهم لِيُصَلوا معك، ﴿ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ﴾ معهم لِيحملوها وهم يُصلون، ﴿ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ ﴾: يعني فإذا سجدتْ هذه الجماعة الأولى: فلتكن الجماعة الأخرى من خلفكم في مواجَهة عدوكم، ثم عندما تنهضون إلى الركعة الثانية: تُتِمّ الجماعة الأولى ركعتهم الثانية بأنفسهم، ثم يُسَلِّمون وَحدَهم (هذا كله وأنت واقف قبل ركوعك)، ﴿ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ﴾: يعني ثم تأتي الجماعة الأخرى (التي لم تبدأ الصلاة) فليأتموا بك في ركعتك الثانية (وهي الركعة الأولى لهم)، ثم بعد أن تُسَلِّم أنت: يقوموا لِيُكملوا ركعتهم الثانية بأنفسهم، (وبهذا تكون كل جماعة منهم قد صَلَّتْ ركعة معك وركعة بأنفسهم)، ﴿ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ﴾: يعني وليَحذروا مِن عدوهم وليأخذوا أسلحتهم لِيُصَلُّوا بها، ﴿ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً ﴾: يعني ليهجموا عليكم هجمة واحدة ليقضوا عليكم، ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ﴾ فلا تحملونها أثناء الصلاة، ولكنْ: ﴿ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ لأنكم حينئذٍ سَتُصَلُّون بدون سلاح، ﴿ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾.

     

     واعلم أن هذه الطريقة السابقة هي إحدى طرق صلاة الخوف، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صَلاها بأكثر من طريقة.

     

    الآية 103: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ ﴾: يعني فإذا أدَّيتم الصلاة بهذه الطريقة السابقة ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ﴾: يعني فداوِموا على ذِكر الله في جميع أحوالكم، ﴿ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ ﴾: يعني فإذا زالَ الخوف عنكم ﴿ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ كاملةً، وفي أوقاتها، فـ ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾: يعني فإنها واجبة في أوقاتٍ معلومةٍ في الشرع.

     

    الآية 104: ﴿ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ﴾: يعني ولا تَضْعُفوا في طلب عدوكم وقتاله، ﴿ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ ﴾: أي تتألمون من القتال وآثاره: ﴿ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ﴾، ومع ذلك لا يَكُفُّون عن قتالكم، فأنتم أوْلَى بذلك منهم لأنكم: ﴿ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ﴾ من الثواب والنصر والتأييد ﴿ مَا لَا يَرْجُونَ ﴾ هم، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾.

     

    الآية 107، والآية 108: ﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾: يعني ولا تدافع - أيها الرسول - عن الذين يخونون أنفسهم بمعصية الله تعالى، وَلَا تَكُنْ لهم خَصِيمًا (يعني مُدافعًا عنهم)، فـ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴾: يعني إن الله لا يحب مَن عَظُمَتْ خيانته، وكَثُرَ ذنبه، فهؤلاء ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ﴾: يعني يَستترون من الناس خوفًا من اطِّلاعهم على أعمالهم السيئة، ﴿ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ ﴾ تعالى ولا يستحيون منه، ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ مَعَهُمْ ﴾ بعلمه، مُطَّلِعٌ عليهم ﴿ إِذْ يُبَيِّتُونَ ﴾: يعني حين يُدبِّرون ليلاً ﴿ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ﴾ ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾.

     

    الآية 110: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا ﴾: يعني ومَن يُقْدِمْ على عمل سيِّئ قبيح، ﴿ أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ﴾ بارتكاب ما يخالف حُكمَ اللهِ وشرعه، ﴿ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ ﴾ نادمًا على ما عمل، راجيًا مغفرته وستر ذنبه: ﴿ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا ﴾ له ﴿ رَحِيمًا ﴾ به، فقد قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾، ولذلك ينبغي للعبد - وهو يستغفر الله - أنْ يَستشعرَ في قلبه الندم أنه خالفَ أمْرَ الملك العظيم جَلَّ جلاله، وأنه عَصاهُ بِنِعْمَتِهِ التي أعطاها له وحَرَمَ غيره منها، وأنه كان يعلم أنَّ اللهَ يراه وهو يَعصي ولم يُبالِي بذلك، ولكنْ رغمَ هذا كله فإنه يعلمُ أنه غفورٌ رحيم، فحينئذٍ ينكسر قلبه لله تعالى وهو يستغفره (على كل ما ضاع من عمره في المعصية، وعلى كل ما فاته من الطاعة).

     

    الآية 111: ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا ﴾ متعمداً ﴿ فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾: يعني فإنما يضر بذلك نفسه وحدها، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا ﴾ بحقيقة أمر عباده ﴿ حَكِيمًا ﴾ فيما يَقضي به بين خلقه.

     

    الآية 112: ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً ﴾ بغير عمد ﴿ أَوْ إِثْمًا ﴾ متعمدًا، ﴿ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ ﴾: يعني ثم يَتهم بهذا الإثم شخصاً (بَرِيئًا) لم يفعل شيئاً ﴿ فَقَدِ احْتَمَلَ ﴾: يعني فقد تحمَّل ﴿ بُهْتَانًا ﴾: أي كَذبًا ﴿ وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ واضحاً.

     


  15.  تبدأ السورة بخبرٍ عن اقتراب الساعة وانشقاق القمر؛ قال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: 1]، هذه الآية العظيمة من آيات الله في الكون التي يجب أن نعتبر بها، ونتأهب لقرب هذا اليوم العظيم العسير على الكافرين، اليسير على المؤمنين.
     
     ﴿ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ﴾ [القمر: 3]؛ التكذيب والإعراض عن الحق، والادعاءات والافتراءات الباطلة - هي الحجج والوسائل الفاسدة الباطلة التي اعتاد استخدامَها المعرضون عن الحق المتبعون لأهوائهم.
     
     تتوالى آيات الله في الكون ومن حولنا، وقد ذكر الله تبارك وتعالى بعض القصص للأقوام السابقة في هذه السورة الكريمة، وذكر الله لنا أن التكذيب واتباع الهوى من أكثر الآفات القلبية المدمرة للإنسان.
     
     في قصة نوح عليه السلام أوضح الله لنا عاقبة التكذيب والافتراءات الباطلة، وخطورة القسوة والتعدي، ورفض الاستسلام والانقياد لأوامر الله واتباع رسوله؛ فكانت العاقبة الهلاك بالغرق في الدنيا والخلود في العذاب في الآخرة.
     
    وظهرت لنا أهمية السعي والدأب والصبر والتوكل على الله من خلال شخصية نوح عليه السلام، وتعلمنا منه أهمية الدعاء واللجوء إلى الله عز وجل، والتضرع إليه مع اليقين وحسن الظن بالله في النصر والنجاة.
     
     مراقبة الله في كل الأقوال والأفعال، واستشعار معية الله وإحاطته بكل شيء وكل صغيرة وكبيرة؛ قال تعالى: ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ﴾ [القمر: 52، 53].
     
     اليقين في إجابة الله عز وجل وأنه قريب مجيب للداعي؛ فوعده حق، وبذلك تكون منَّة الله ونعمته وفضله علينا بتهدئة النفس وسكينتها من خلال الاعتقاد بعدله ورحمته؛ فلا نيأس من روح الله.
     
     وتختتم قصة قوم نوح عليه السلام بتيسير القرآن لمن أراد وسعى واجتهد ليتدبره، ويتفقه على الوجه الحق الذي أراده الله وقَصَدَهُ؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]؛ فكما كانت السفينة وسيلة النجاة للمؤمنين، فإن القرآن والعمل بأوامر الله واجتناب نواهيه هو النجاة لنا في الدنيا والآخرة.
     
     تنتقل بنا السورة لتقصَّ علينا خبر قوم عاد، وأن التكذيب هو الأسلوب المتبع لدى الكفار؛ ومن هنا إشارة للمؤمن الحق بضرورة التسليم والتصديق بشرع الله وأوامره.
     
     وكيف كان عقاب الله لقوم عاد عقابًا سريعًا وشديدًا في قوته، ومستمرًّا في دوامه اليوم بأكمله، وقبل العذاب يأتي دومًا الإنذار؛ قال تعالى: ﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ [القمر: 18]، فيجب علينا أن نتعظ ونسرع بالتوبة والرجوع إلى الله، والندم على ما نرتكبه من معاصٍ وذنوب.
     
     وتختتم القصة بذكر فضل القرآن، وضرورة تعهده بتطبيق أوامره واجتناب نواهيه وتصديق أخباره؛ في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 22].
     
     وتبدأ قصة نبي الله صالح عليه السلام، ويكون التكذيب هو السلوك المتبع عند الكفار، وزاد عليه اتهامهم لصالح عليه السلام بالتجبر والكبر، وهو الوصف الحقيقي لهؤلاء الكفار المتكبرين عن الحق.
     
     ومن هنا نلتفت إلى اصطفاء الله لرسله ولأوليائه الصالحين من البشر؛ فلنحرص على تحقيق التوحيد والسعي نحو منزلة المقربين السابقين بالخيرات.
     
     ضرورة اتباع أوامر الله والتحذير من الكبر والعناد، والإصرار على الباطل، والبعد عن الحق.
     
     لم ينتفع قوم ثمود بآية الله (الناقة)، ورفضوا تنفيذ ما أُمِرُوا به وتجاوزوا الحد في العصيان بأنهم خططوا لقتل الناقة وعقروها، فكان عقاب الله صيحة واحدة، فسبحان الله! فمشيئته نافذة، وعذابه أليم؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴾ [القمر: 31].
     
     وتختتم القصة بذكر القرآن في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 32]؛ ليؤكد ضرورة تدبره، والاتعاظ والعبرة بما فيه من قصص قرآني وأوامر ونواهٍ.
     
     قصة لوط عليه السلام نتدبر منها خطورة التكذيب وضرورة طاعة الله، وأهمية شكر النعم التي وهبها الله عز وجل لنا ومنَّ علينا بها بفضله وكرمه.
     
     التذكر والاتعاظ بمرارة العذاب، وأن متع الدنيا وشهواتها زائلة وفانية، وخطورة اتباع الأهواء المخالفة لشرع الله.
     
     وتأتي النجاة بفهم القرآن الميسر لمن أراد تدبره؛ في قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 40].
     
     قصة موسى عليه السلام مع فرعون جاءت لتؤكد خطورة التكذيب والإعراض عن الحق، وتختتم بعذاب الله لفرعون، وأن لا عزيزَ ولا قادر سوى الله سبحانه وتعالى.
     
     وتختتم السورة ببشارة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالنصر للمسلمين وهزيمة الكفار؛ وذلك حدث في غزوة بدر في قوله تعالى: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ [القمر: 45].
     
     ويؤكد الله شدة عقابهم في الآخرة كما ذكر الله: ﴿ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾ [القمر: 46].
     
     وتأتي آية تبعث الطمأنينة والسكينة في القلب: ﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ [القمر: 50]؛ حيث يخبرنا الله أن مشيئته نافذة وفوق كل شيء؛ فأمره سبحانه وتعالى بكن فيكون، فلكل شيء نهاية وعاقبة.
     
     من خلال تأمل سورة القمر، أيقنَّا بضرورة مراقبة الله في كل وقت وحين، وعدم غفلة القلب وانشغاله بمتع الدنيا وشهوات الأنفس، التي قد تضله في الحياة وتهلكه في الآخرة.
     
     بعد ذكر هلاك الأقوام السابقة بطرق متعددة، وكيف كان العذاب الأليم لهم في الدنيا والخلود في النار - يكون ختام السورة كله سكينة وطمأنينة وبشرى بجزاء المتقين، وفوزهم بنعيم الجنة الدائم ومعية الله؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54، 55].

     
    نهى  فرج
    شبكة الالوكة

     
     


  16. 13083317761746.gif
     

     

    للقلب أهمية خاصة؛ حيث أمر الله تعالى بتطهيره، والحفاظ على سلامته، ومنزلته في الجسد منزلة عظيمة جدًّا، فهو الموجه والمخطط، وهو ملك الجوارح ومستقر التوحيد، وباقي الجوارح تبع له، وبصلاحه تصلح الجوارح، وبفساده تفسد.


    أنواع القلوب[1]:

    قال ابن القيم: القلوب ثلاثة: قلب خال من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذ بيتًا ووطنًا وتحكم فيه بما يريد، وتمكن منه غاية التمكن.

    القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان وأوقد فيه مصباحه، لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية، فللشيطان هنالك إقبال وإدبار ومجالات ومطامع، فالحرب دُول وسجال.


    القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رجم فاحترق.



    القلب السليم في القرآن الكريم:

    القلب السليم الذي يلقى الله عز وجل وليس فيه شيء غير الله عز وجل[2]، وهو أفضل القلوب وخص بالذكر؛ لأن بسلامته تسلم الجوارح: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 83، 84].

    وإن من شيعة نوح عليه السلام، ومن هو على طريقته في النبوة والرسالة، ودعوة الخلق إلى الله، وإجابة الدعاء، إبراهيم الخليل عليه السلام: ﴿ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ من الشرك والشبه، والشهوات المانعة من تصور الحق، والعمل به، وإذا كان قلب العبد سليمًا، سلم من كل شر، وحصل له كل خير، ومن سلامته أنه سليم من غش الخلق وحسدهم، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق، ولهذا نصح الخلق في الله، وبدأ بأبيه وقومه)[3].

    وقالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].

    قال الشيخ محمد بن عثيمين: (ذكر الله تَعَالَى مُبَيِّنًا أَنَّهُ لا ينفعُ الْإِنْسَانَ يومَ القيامةِ إلَّا مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ، فالمالُ والبنونَ لا ينفعونَ إلَّا مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ، وفي هَذَا الاستثناء دَليلٌ عَلَى أنَّ المدارَ عَلَى القَلْبِ، وَهُوَ أن يكونَ سَليمًا، وسلامتُهُ ... منْ كلِّ عملٍ أو قولٍ، وللقلبِ قولٌ وعملٌ، أمَّا قولُه فإقرارُهُ، وأمَّا عَمَلُه فهو تَحَرُّكُهُ مِن رجاءٍ، وخوفٍ، ومَحَبَّةٍ، وغيرِ ذلكَ)[4].


    من الأحاديث النبوية عن القلب:

    أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن أهمية سلامة القلب باعتباره السبب في نجاة الإنسان؛ فعَن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ"[5].


    قال النووي: (المضغة القطعة من اللحم سُميت بذلك؛ لأنها تمضغ في الفم لصغرها، قالوا: المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب، وفي هذا الحديث التأكيد على السعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد، واحتج بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس، وفيه خلاف مشهور، مذهب أصحابنا وجماهير المتكلمين أنه في القلب، وقال أبو حنيفة: هو في الدماغ) [6].

    وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ، أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ»[7].


    وقد علق الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي على الحديث بقوله: أفئدتهم مثل أفئدة الطير: قيل مثلها في رقتها وضعفها؛ كالحديث الآخر: أهل اليمن أرق قلوبًا وأضعف أفئدة، وقيل: في الخوف والهيبة، والطير أكثر الحيوان خوفًا وفزعًا) [8].

    وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ، القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ»[9].

    قال ابن حجر: (ومقلِّب القلوب هو المقسم به والمراد بتقليب القلوب تقليب أعراضها وأحوالها لا تقليب ذات القلب)[10].



    من أقوال السلف عن القلب:

    عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «لَوْ فَارَقَ ذِكْرُ الْمَوْتِ قَلْبِي خَشِيتُ أَنْ يَفْسُدَ عَلَيَّ قَلْبِي»[11].


    وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ النيسابوري قَالَ: حَرَسْتُ قَلْبِي عِشْرِيْنَ سَنَةً ثُمَّ حَرَسنِي عِشْرِيْنَ سَنَةً ثُمَّ، وَرَدتْ عَلَيَّ وَعَلَيْهِ حَالَةٌ صرنَا محروسَيْن جَمِيْعًا) [12].


    وقَالَ الْحَسَنُ لِرَجُلٍ: دَاوِ قَلْبَك فَإِنَّ حَاجَةَ اللَّهِ إلَى الْعِبَادِ صَلَاحُ قُلُوبِهِمْ، يَعْنِي أَنَّ مَطْلُوبَ الرَّبِّ مِنْ الْعِبَادِ، صَلَاحُ قُلُوبِهِمْ مِنْ الْمِحَنِ وَالْفَسَادِ، وَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ، حَتَّى تَسْتَقِرَّ فِيهَا مَعْرِفَةُ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَتَمْتَلِئَ مِنْ خَوْفِهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَمَهَابَتِهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) فَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ حَتَّى تُفَرِّدَ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ) [13].

    وقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: - يظُنُّهُ سُلَيْمَان الْخَوَّاص رَحِمَهُ اللَّهُ - الذِّكْرُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ لِلْجَسَدِ، فَكَمَا لَا يَجِدُ الْجَسَدُ لَذَّةَ الطَّعَامِ مَعَ السَّقَمِ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الذِّكْرِ مَعَ حُبِّ الدُّنْيَا) [14].

    وقال ابن رجب: (صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات، واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه)[15].

    وقال ابن القيم: (ثم انفُذ من ساحة الصدر إلى مشاهدة القلب، تجد ملكًا عظيمًا جالسًا على سرير مملكته، يأمر وينهى ويولِّي ويعزل، وقد حفَّ به الأمراء والوزراء والجند كلهم في خدمته، إن استقام استقاموا، وإن زاغ زاغوا، وإن فسد فسدوا، فعليه المعول وهو محل نظر الرب تعالى، ومحل معرفته ومحبته وخشيته، والتوكل عليه والإنابة إليه، والرضا به وعنه، والعبودية عليه أولًا وعلى رعيته وجنده تبعًا)[16].


    مكانة القلب بين الجوارح:

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (العين تقصر عن القلب والأذن، وتفارقهما في شيء، وهو أنها إنما يرى صاحبها بها الأشياء الحاضرة والأمور الجسمانية مثل الصور والأشخاص، فأما القلب والأذن فيعلم الإنسان بهما ما غاب عنه، وما لا مجال للبصر فيه من الأشياء الروحانية والمعلومات المعنوية، ثم بعد ذلك يفترقان: فالقلب يعقل الأشياء بنفسه؛ إذ كان العلم هو غذاءه وخاصيته، أما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب، فهي بنفسها إنما تحمل القول والكلام، فإذا وصل ذلك إلى القلب أخذ منه ما فيه من العلم، فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب)[17].

    من الأمور التي تعين على سلامة القلب:

    1- الدعاء: عَنْ رَجُلٍ مَنْ بَنِي حَنْظَلَةَ، قَالَ: صَحِبْتُ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: أَلاَ أُعَلِّمُكَ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا سَلِيمًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ)[18].

    2- ذكر الله: فإنه يجلو صدأ القلوب، ويزيد قرب العبد من ربه؛ قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16].

    3- العمل الصالح: قيل إِنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا فِي الْقَلْبِ، وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَزِيَادَةً فِي الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ[19].

    4- مجالسة الصالحين: وقد قال مالك بن أنس: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة أتى محمد بن المنكدر، فأنظر إليه نظرة، فأتَّعظ بها أيامًا [20].


    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا قلوبًا سليمة خاشعة ترجو رحمته وتخاف عذابه إنه هو الغفور الرحيم.

     

    7b009501113c323e7038dc7e775c59ee.gif


    [1] الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 24)

    [2] صفة الصفوة (2/ 359).

    [3] تفسير السعدي؛ تيسير الكريم الرحمن (ص: 705).

    [4] تفسير العثيمين - الشعراء (ص: 159).

    [5] صحيح البخاري (1/ 20)، صحيح مسلم (3/ 1219).

    [6] شرح النووي على مسلم (11/ 29).

    [7] صحيح مسلم (4/ 2183).

    [8] المصدر نفسه.

    [9] سنن الترمذي ت بشار (4/ 16).

    [10] فتح الباري لابن حجر (11/ 527).

    [11] الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 300).

    [12] سير أعلام النبلاء، ط الحديث (10/ 145).

    [13] غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (1/ 62).

    [14] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 52).

    [15] تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 53).

    [16] التبيان في أقسام القرآن - (1 / 259).

    [17] مجموع الفتاوى (9/ 310).

    [18] سنن الترمذي ت شاكر (5/ 476)، قال الشيخ الألباني: ضعيف.

    [19] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 423).

    [20] المستغيثين بالله تعالى عند المهمات والحاجات (ص: 140).

     
     
    شبكة الألوكة
     
    سلامة إبراهيم النمر
    Image result for ‫اللهم صل‬‎
     
     

  17. Related image


    1 - أن تكون الصدقة من كسب طيب:

    قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ[1] ﴾ [البقرة: 267]، روى مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾[المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجلَ يُطِيل السفر أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يدَيْه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرام، وملبَسُه حرام، وغُذي بالحرام؛ فأنَّى يُستجاب لذلك؟!))[2].
     


    2 - أن تكون الصدقة من أجود المال:

    قال تعالى: ﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا[3] الْخَبِيثَ[4] مِنْهُ تُنْفِقُونَ[5] وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ[6] إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ[7] وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ[8] حَمِيدٌ[9] ﴾ [البقرة: 267]. وقال سبحانه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ[10] حَتَّى تُنْفِقُوا[11] مِمَّا تُحِبُّونَ[12] ﴾ [آل عمران: 92].

     

    ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحاء، وكانت مستقبلةَ المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخُلها، ويشرب مِن ماءٍ فيها طيِّبٍ، قال أنس: فلما أُنزلت هذه الآية ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وإن أحب أموالي إليَّ بَيْرُحاء، وإنها صدقةٌ لله، أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضَعْها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخٍ، ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين))، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه[13].



    3 - عدم تأخير الزكاة عن وقتها:

    الزكاة ركن من أركان الإسلام، فيجب على المسلم الذي وجبت عليه الزكاة - في مال، أو زرع، أو تجارة، أو ذَهَب، أو غير ذلك، ألا يُؤخِّرها عن وقتها.
     

    ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان))[14].

     
    وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن آتاه الله مالًا، فلم يؤدِّ زكاته؛ مُثِّل له ماله شُجاعًا أقرعَ[15] له زبيبتانِ[16] يُطوِّقه[17] يوم القيامة يأخذ بلِهْزِمَتَيه[18] - يعني: بشِدْقَيْه - يقول: أنا مالُكَ، أنا كنزُكَ))، ثم تلا هذه الآية: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [آل عمران: 180[19]].
     

    قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ[20] مَعْرُوشَاتٍ[21] وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ[22] وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ[23] وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا[24] وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ[25] يَوْمَ حَصَادِهِ[26] وَلَا تُسْرِفُوا[27] إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141].

     

    4 - أن يُؤدِّي الزكاة بنفس طيِّبة:

    روى الطبراني في الصغير - بسند صحيح - عن عبدالله بن معاوية الغاضري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ مَن فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: مَن عبدالله وحده وأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيِّبةً بها نفسُه، رافدة عليه[28] كل عام، ولا يعطي الهرِمة[29] ولا الدرِنة[30] ولا المريضة، ولا الشَّرَط[31] اللئيمة[32]، ولكن مِن وسط أموالكم[33]، فإن الله لم يسألكم خيرَه، ولم يأمركم بشرِّه[34].

     

    5 - عدم التهاون في إخراج زكاة الحلي:

    روى أبو داود - بسند حسن - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، أن امرأةً[35] أتَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مَسَكَتانِ[36] غليظتان من ذَهَب.
     

    فقال: لها: ((أتعطين زكاة هذا؟))، قالت: لا، قال: ((أيسرُّك[37] أن يُسوِّرَك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟!))، قال: فخلعتهما، فألقَتْهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: هما لله عز وجل ولرسوله[38].

     

    6 - ألا يبطل صدقته بالمن والأذى:

    قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ[39] وَالْأَذَى[40] ﴾ [البقرة: 264].

    روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يُعطي شيئًا إلا منَّه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبِل إزاره))[41].



    7 - الإخلاص في الصدقة:

    قال تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ[42] وَتَثْبِيتًا[43] مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ[44] بِرَبْوَةٍ[45] أَصَابَهَا وَابِلٌ[46] فَآتَتْ[47] أُكُلَهَا[48] ضِعْفَيْنِ[49] فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ[50] وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 265].

     
    روى النسائي - بسند حسن - عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لا يقبَلُ مِن العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتُغي به وجهه))[51].



    8 - إخفاء الصدقة:

    قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271].

    ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعةٌ يُظِلُّهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عدل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبه مُعلَّق في المساجد، ورجلانِ تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجل دعَتْه امرأة ذات منصب وجمال؛ فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه))[52].

     

    9 - إظهار الصدقة إذا كان فيه مصلحة:

    قال تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾ [البقرة: 271].

    روى مسلم عن جَرير بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كُنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قومٌ حفاةٌ عراةٌ مجتابِي النِّمار[53] أو العباء[54]، متقلِّدي السيوف - عامَّتُهم من مضر، بل كلهم من مضر - فتمعَّر[55] وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لِما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا فأذَّن، وأقام فصلى، ثم خطب، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [النساء: 1] إلى آخر الآية ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾[النساء: 1] والآية التي في الحشر ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [الحشر: 18]، تصدق رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره))، حتى قال: ((ولو بشقِّ تمرة))، قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرَّة، كادت كفُّه تَعجِزُ عنها، بل قد عجَزت، قال: ثم تتابع الناسُ[56]، حتى رأيت كومينِ من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلَّل[57] كأنه مُذْهَبةٌ[58]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سنَّ في الإسلام سُنةً حسنةً، فله أجرُها وأجرُ مَن عمِل بها بعده، مِن غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومَن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً، كان عليه وِزْرها ووِزْر مَن عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء))[59].
    Related image


    [1] ما كسبتم: بالتجارة والصناعة وغيرهما.

    [2] رواه مسلم (1015).

    [3] ولا تيمموا: تقصدوا.

    [4] الخبيث: الرديء.

    [5] تنفقون: في الزكاة.

    [6] ولستم بآخذيه؛ أي: الخبيث لو أعطيتموه في حقوقكم.

    [7] إلا أن تغمضوا فيه: بالتساهل وغض البصر، فكيف تؤدُّون منه حق الله؟! ومعناه: لو كان لأحدكم على رجل حق، فجاءه بهذا لم يأخذه إلا وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقه وتركه.

    [8] واعلموا أن الله غني: عن نفقاتكم.

    [9] حميد: محمود في أفعاله.

    [10] لن تنالوا البر؛ أي: ثوابه وهو الجنة.

    [11] حتى تنفقوا: تتصدقوا.

    [12] مما تحبون: من أموالكم.

    [13] متفق عليه: رواه البخاري (1461)، ومسلم (998).

    [14] متفق عليه: رواه البخاري (8)، ومسلم (16).

    [15] شجاعًا أقرع: ثعبانًا ضخمًا قد تساقط شعره من كثرة سمِّه.

    [16] زبيبتانِ: نابان يخرجان من فيه.

    [17] يطوقه: يصير ذلك الثعبان طوقًا له في رقبته.

    [18] بلِهْزِمَتَيْه: بجانبي فمه.

    [19] رواه البخاري (1403).

    [20] أنشأ جنات: خلق جنات، جمع جنة، وهي البستان.

    [21] معروشات: ما انبسط على وجه الأرض وانتشر مما يعرش، مثل: الكرم والقرع والبطيخ وغيرها.

    [22] وغير معروشات: ما قام على ساق وبسق، مثل: النخل والزرع وسائر الأشجار.

    [23] مختلفًا أكله: ثمره وطعمه، منها الحلو والحامض، والجيد والرديء.

    [24] متشابهًا: في الوَرَق، وغير متشابه في الحَبَّ والطعم.

    [25] حقه: ما وجب فيه من الزكاة.

    [26] يوم حصاده: يوم حصاده إن كان حَبًّا، وجذاذه إن كان نخلًا.

    [27] ولا تسرفوا في إخراجه؛ أي: بألا تبقوا لعيالكم منه شيئًا.

    [28] رافدة عليه: تعينه نفسه على أداء الزكاة.

    [29] الهرمة: كبيرة السن.

    [30] الدرنة: الجرباء.

    [31] الشرط: صغار المال وشراره.

    [32] اللئيمة: البخيلة باللبن.

    [33] من وسط أموالكم: فيه دليل على أنه ينبغي أن يخرج الزكاة من أوساط المال، لا من شراره، ولا من خياره.

    [34] صحيح: أخرجه أبو داود (2/103، رقم 1582)، بسند رجاله ثقات، إلا أنه منقطع، ولكن وصله الطبراني في الصغير (ص 115)، والبيهقي (4/95، رقم 7067)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2/300، رقم 1062)، بسند صحيح.

    [35] أن امرأة: هي أسماء بنت يزيد بن السكن.

    [36] مسكتان: الواحدة مسكة وهي الإسورة والخلاخيل.

    [37] أيسرك: قال: الخطابي: إنما هو تأويل قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 35].

    [38] حسن: رواه أبو داود (1568)، والترمذي (637)، ورواه النسائي (2479).

    [39] المن: وهو أن يمن عليه بعطائه؛ فيقول أعطيتك كذا، ويعد نعمه عليه فيكدرها.

    [40] الأذى: أن يعيره فيقول إلى كم تسأل وكم تؤذيني؟! وقيل من الأذى: هو أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه.

    [41] رواه مسلم (1006).

    [42] ابتغاء مرضات الله: طلبًا لرضا الله تعالى.

    [43] تثبيتًا: تحقيقًا وتيقنًا بمثوبة الله تعالى لهم على إنفاقهم في سبيله.

    [44] كمثل جنة: بستان.

    [45] بربوة: مكان مرتفع مستوٍ.

    [46] وابل: مطر غزير.

    [47] فآتت: أعطت.

    [48] أكلها: ثمرها.

    [49] ضعفين: مثلي ما يثمر غيرها.

    [50] فطَلٌّ: مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها.

    [51] حسن: رواه النسائي (3140) بسند حسن.

    [52] متفق عليه: رواه البخاري (1423)، ومسلم (1031).

    [53] النمار: جمع نَمِرة، وهي ثياب صوف فيها تنمير. مجتابي النمار: خرقوها وقوروا وسطها، ولبِسوها، من الفقر.

    [54] العباء: جمع عباءة وعباية لغتان.

    [55] فتمعر: تغير.

    [56] فتتابع الناس: وكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير والفاتح لباب هذا الإحسان.

    [57] يتهلل: أي يستنير فرحًا وسرورًا.

    [58] مُذهَبة: فضة مذهبة، وهو وصف لحسن الوجه.

    [59] رواه مسلم (1017).
     

    شبكة الالوكة
    الشيخ وحيد عبد السلام بالي
     
    image.jpeg.04a9cc0226ecf630ae8b8df2faa59371.jpeg
     
     
     

     




  18. عَنْ أبي هُريرةَ - رَضْيَ اللهُ عَنْه - قال: فالرَّسول الله صلَّي اللهُ عليه وسلَّم: «مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المرءِ ترْكُه ما لا يعنِيه». حديثٌ حسَنٌ؛ رواه التِّرمذيُّ وغيرُه.

    قال العلَّامةُ ابنُ عثيمين - رحمه الله -:
    إسلامُ المرءِ هو استسلامُه لله عزَّ وجلَّ ظاهرًا وباطنًا. فأمَّا باطنًا فاستسلامُ العبدِ لرَبِّه بإصلاحِ عقيدتِه وإصلاح قلبه، وذلك بأن يكون مؤمنًا بكل ما يجبُ الإيمان به على ما سبق في حديثِ جبريل.

    وأمَّا الاستسلامُ ظاهرًا فهو إصلاح عمله الظاهر، كأقواله بلسانه وأفعاله بجوارحه. والناس يختلفون في الإسلام اختلافًا ظاهرًا كثيرًا، كما إن الناس يختلفون في أشكالهم وصورهم، منهم الطويل ومنهم القصير، ومنهم الضخم ومنهم من دون ذلك، ومنهم القبيح ومنهم الجميل، فيختلفون اختلافًا ظاهرًا. فكذلك أيضا يختلفون في إسلامهم لله عزَّ وجلَّ حتى قال الله في كتابه: ﴿ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ [الحديد: من الآية 10].

    وإذا كان الناس يختلفون في الإسلام، فإنَّ مما يزيد في حسن إسلام المرء أن يدع ما لا يعنيه ولا يهمه لا في دينه ولا في دنياه. فالإنسان المسلم إذا أراد إن يجعل إسلامه حسنًا فليدع ما لا يعنيه، فالشيء الذي لا يهمه يتركه. فمثلا: إذا كان هناك عمل وترددت هل تفعل أو لا تفعل؟ انظر هل هو من الأمور الهامة في دينك ودنياك فافعله، وإلا فاتركه، والسلامة أسلم.

    كذلك أيضا أن لا تدخل في شؤون الناس إذا كان هذا لا يهمك، وهذا خلاف ما يفعله بعض الناس اليوم، من حرصه علي اطلاعه علي أعراض الناس وأحوالهم، ويجد اثنان يتكلمان فيحاول أن يتقرب منهما حتى يسمع ما يقولان، ويجد شخصًا جاء من جهة من الجهات فتراه يبحث وربما يبادر الشخص نفسه ويقول له: من أين جئت؟ وماذا قال لك فلان؟ وماذا قلت له؟ وما أشبه ذلك في أمور لا تعنيه ولا تهمه. فالأمور التي لا تعنيك اتركها، فإنَّ هذا من حسن إسلامك، وهو أيضا فيه راحة للإنسان، فكون الإنسان لا يهمه إلا نفسه هذا هو الراحة، أما الذي يتتبع أحوال الناس ماذا قيل؟ وماذا حدث لهم؟... فإنَّه سوف يتعب تعبًا عظيمًا، ويفوِّت على نفسه خيرًا كثيرًا، مع أنَّه لا يستفيد شيئًا، فاجعل دأبك دأب نفسك، وهمك هم نفسك، وانظر إلى ما ينفعك فافعله، والذي لا ينفعك اتركه، وليس من حسن إسلامك أن تبحث عن أشياء لا تهمك.

    ولو أننا مشينا على هذا وصار الإنسان دأبه دأب نفسه ولا ينظر إلا إلى فعله، لحصل خيرًا كثيرًا. أما بعض الناس تجده مشغولًا بشؤون غيره فيما لا فائدة له فيه، فيضيع أوقاته ويشغل قلبه ويشتت فكره، وتضيع عليه مصالح كثيرة. أما بعض الناس تجده مشغولًا بشؤون غيره فيما لا فائدة له فيه، فيضيّع أوقاته ويشغل قلبه ويشتت فكره، وتضيع عليه مصالح كثيرة. وتجد الرجل الدؤوب الذي ليس له هم إلا نفسه وما يعنيه، تجده ينتج ويثمر ويحصل، ويكون في راحة فكرية وقلبية وبدنية، ولذا يعدُّ هذا الحديث من جوامع كلم النبي صلي الله عليه وسلم فإذا أردت شيئًا فعلًا أو تركًا انظر هل يهمك أو لا؟! إن كان لا يهمك اتركه ولا تتعرض له واسترح منه، وأرح قلبك وفكرك وعقلك وبدنك، وإن كان يهمُّك فاشتغل به بحسبه، فعلي كل حال كل إنسان عاقل كما جاء في الحديث السابق: «الكيِّسُ من دان نفسَه وعمِل لما بعد الموتِ». فكل إنسان عاقل يحرص على أن يعمل لما بعد الموت، ويحاسب نفسه على أعمالها. والله الموفق.





    الشيخ محمد بن صالح العثيمين

    شبكة الألوكة

     


  19. تفسير الربع الخامس من سورة النساء


    الآية 59: (﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ ﴿ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾: يعني وأطيعوا وُلاةَ أمْركم - وهم الحُكَّام - في غير معصية الله، ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾: يعني فإن اختلفتم في شيءٍ بينكم، فأَرجِعوا الحُكم فيه إلى كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، هذا ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ ﴾ حق الإيمان ﴿ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ﴾، لأنّ ﴿ ذَلِكَ ﴾ الرَدّ إلى الكتاب والسُنَّة ﴿ خَيْرٌ ﴾ لكم من التنازع والقول بالرأي ﴿ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾: يعني وأحسن عاقبةً ومآلاً في الدنيا والآخرة (لأنّ تأويل الشيء هو ما يَؤول إليه في آخر الأمر)، فحُكم اللهِ ورسوله هو أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وآخرتهم.
     
    الآية 60: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ﴾ أولئك المنافقين ﴿ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ ومع ذلك فهُم ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا ﴾ في فَصْل الخصومات بينهم ﴿ إِلَى الطَّاغُوتِ ﴾: أي إلى غير ما شَرَعَ اللهُ من الباطل، ﴿ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ﴾: أي بهذا الباطل؟، ﴿ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ ﴾ بذلك ﴿ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ عن طريق الحق، وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان الصادق يَقتضي الانقياد لشرع الله تعالى، والحُكم به في كل أمر من الأمور.

    الآية 61: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى ﴾ الحُكم بـ ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى ﴾ تحكيم ﴿ الرَّسُولِ ﴾ ﴿ رَأَيْتَ ﴾ هؤلاء ﴿ الْمُنَافِقِينَ ﴾ الذين يُظهرون الإيمان ويُبطِنون الكفر ﴿ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾: يعني يُعرضون عنك، وكذلك يَصُدّون الناس عن اتِّباع دينك.

    الآية 62: ﴿ فَكَيْفَ ﴾ يكون حال أولئك المناففين ﴿ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ من المعاصي (ومنها تحكيم الطاغوت)؟، ﴿ ثُمَّ جَاءُوكَ ﴾ أيها الرسول معتذرين لِما صَدَرَ منهم و ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ﴾ لك ﴿ إِنْ أَرَدْنَا ﴾: يعني ما قصَدْنا بتحاكُمِنا إلى غيرك ﴿ إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ﴾: أي ما قصَدْنا بذلك إلاَّ الإحسان إلى المتخاصمين والتوفيق بينهم، وهم كَذَبة في ذلك، فإنَّ الإحسان كله في تحكيم الله ورسوله، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾.
     
    الآية 63: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ هم ﴿ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ﴾ حقيقة ﴿ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ من النفاق ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ ﴿ وَعِظْهُمْ ﴾: يعني وحَذِّرْهُم مِن سوء ما هم عليه، ﴿ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾: يعني قولا يؤثر فيهم، ويُخوفهم تخويفاً شديداً.
     
    الآية 64: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ ﴾: يعني إلا لِيُستجابَ له، وفي هذا دليل على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به وينهى عنه، وفي هذا أيضاً إثبات عِصمة الرُسُل - من الخطأ - فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله أمر بطاعتهم طاعة مطلقا، فلولا أنهم معصومون، ولولا أنهم لا يَشرعون ما هو خطأ: لَمَا أمر بذلك مطلقا.
     
     وأما قوله: ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي إن الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره وتوفيقه، ففيه إثبات القضاء والقدر، والحث على الاستعانة بالله، وبيان أنه لا يُمكِن للإنسان - إن لم يُعِنْهُ الله - أن يطيع الرسول، ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ ﴾: يعني ولو أن هؤلاء المنافقين ﴿ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ بفعل السيئات (ومنها التحاكم إلى الطاغوت، وترْكِهِم لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم): ﴿ جَاءُوكَ ﴾ أيها الرسول - في حياتك - تائبين معترفين بخطيئتهم ﴿ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾.

     واعلم أن هذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مُختَصّ بحياته فقط؛ لأن السِيَاق يدل على ذلك (لِكَوْن الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته)، وإلاَّ، فلو أنَّ كل مذنب لا يُغفَرُ له إلا إذا أتى الرسول صلى الله عليه وسلم واستغفر له لما تاب أحد، ولَلَزِمَ أن يَبقى الرسولُ حياً لِيستغفر للمذنبين، وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فإنه لا يُطلَبُ منه شيءٌ، لأن ذلك يكون شِركاً.
     
    الآية 65: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ ﴾: يعني فوَرَبِّكَ، وهذا مِثل قول القائل مُهدداً: (أنا لن أقسم، ولكنْ لو لم تفعل كذا: سوف يحدث كذا)، وهذا تأكيدٌ للقسم، فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أن هؤلاء ﴿ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ حق الإيمان ﴿ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾: يعني حتى يجعلوك حَكَمًا فيما وقع بينهم من اختلاف (وذلك في حياتك)، ويتحاكموا إلى كتاب الله وسُنِّتِك (بعد مماتك)، ﴿ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا ﴾: يعني ضِيقًاً ﴿ مِمَّا قَضَيْتَ ﴾ لهم ﴿ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾: يعني وينقادوا مع ذلك انقيادًا تاماً لهذا الحُكم.
     
     وفي هذا دليل على أنه مِن صَميم الإيمان: تحكيم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم (من الكتاب والسنة) في كل شأن من شؤون الحياة (مع الرضا والتسليم للحُكم الإلهي) حتى ولو لم يوافق هَوَى العبد.

    الآية 66، والآية 67، والآية 68: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ ﴾: يعني ولو أوجَبنا على هؤلاء المنافقين المتحاكمين إلى الطاغوت ﴿ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾: يعني أن يَقتل بعضكم بعضًا (كما حصل ذلك لبني إسرائيل عندما أرادوا التوبة من عبادة العجل)، (﴿ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ﴾) مهاجرين في سبيلنا ﴿ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ﴾: يعني ما استجاب لذلك إلا عددٌ قليلٌ منهم، (﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ ﴾): يعني ولو أنهم استجابوا لما يُنصحون به من أوامر الله ونواهيه ﴿ لَكَانَ ﴾ ذلك ﴿ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ للإيمان في قلوبهم، وللطاعة على جوارحهم، ﴿ وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا ﴾: يعني وحينئذٍ سنعطيهم من عندنا ﴿ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ في الدنيا والآخرة، ﴿ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾: يعني ولأرشدناهم ووفقناهم إلى طريق الله القويم وهو الإسلام، وثبتناهم عليه، ولذلك ينبغي للعبد عندما يقرأ في الصلاة قول الله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾، أن يرجو من الله أن يثبته على الإسلام حتى يلقاه، وألاَّ يُضِلَّهُ بذنوبه.

    الآية 69، والآية 70: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾: يعني فَأُولَئِكَ سيكونون في صُحبة مَن أنعم الله عليهم بالجنة ﴿ مِنَ النَّبِيِّينَ ﴾ ﴿ وَالصِّدِّيقِينَ ﴾ الذين كَمُلَ تصديقهم بما جاءت به الرُسُل (اعتقادًا وقولا وعملاً)، وكذلك مَن غلب عليه الصدق في أقواله وأعماله، لكثرة ما يَصدُق ويتحرى الصدق، ﴿ وَالشُّهَدَاءِ ﴾ في سبيل الله ﴿ وَالصَّالِحِينَ ﴾، ﴿ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ في الجنة، ﴿ ذَلِكَ الْفَضْلُ ﴾: يعني ذلك العطاء الجَزيل إنما هو ﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾ وحده، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾، فهو سبحانه يعلم أحوال عباده، ويعلم مَن يَستحقُّ منهم ذلك الثواب الجزيل (بسبب ما قام به من الأعمال الصالحة)، ومَن لا يستحق ذلك.

     ولذلك ينبغي للعبد عندما يقرأ في الصلاة قول الله تعالى: (﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ )، أن يستشعر الرجاء والتذلل لله تعالى في أن يجعله في الجنة مع الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وأن يستشعر كذلك في قوله: ﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ أن الله هو الذي أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق والإعانة، والنجاة من الفتن والذنوب، وليس ذلك مَهارةً منهم أو ذكاء، كما قال أحد أهل الجنة: ﴿ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ (أي لكنتُ من المُحضَرين في العذاب)، فبذلك يرجو من ربه هذه النعمة التي ينجو بها من العذاب، ويتنعم بها في الجنة.
     
    الآية 71: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ بالاستعداد لعدوكم ﴿ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ ﴾: يعني فاخرجوا لملاقاته جماعة بعد جماعة ﴿ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ﴾: يعني أو اخرجوا لملاقاته مجتمعين.
     
    الآية 72، والآية 73: ﴿ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ﴾: يعني وإنَّ منكم لَنَفَرًا يتأخر عن الخروج (لِمُلاقاة الأعداء) مُتثاقلاً وَيُثَبِّطُ غيره (يعني يُلقي في نفوسهم الرغبة في التخلف، ويُحَبِّبه إليهم حتى يَتكاسلوا عن الخروج)، ﴿ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ﴾: يعني فإن قُدِّر عليكم أن تُصابوا بقتلٍ أو هزيمة (قَالَ) - مستبشرًا -: ﴿ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ﴾: يعني قد حفظني اللهُ حين لم أكن حاضرًا مع أولئك الذين وقع لهم ما تكرهه نفسي، وَسَرَّه تخَلُّفه عنهم، ﴿ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ﴾ بنصرٍ وغنيمة ﴿ لَيَقُولَنَّ ﴾ - حاسدًا متحسِّرًا - ﴿ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ﴾ في الظاهر: ﴿ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمً ﴾.

    الربع السادس من سورة النساء

    الآية 74: ﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ ﴾: يعني يبيعون ﴿ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ ليستبدلونها ﴿ بِالْآَخِرَةِ ﴾ ونعيمها الأبدي الذي لا تنغيص فيه، ولا تعب (وهذا بعد أن يُطلَبُ منهم الجهاد من وَلِيّ الأمر - وهو حاكم البلد - دفاعاً عن دينهم، ودفاعاً عن وطنهم المسلم)، ﴿ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ مخلصًا له، مقبلاً على عَدُوِّه ﴿ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾.
     
    الآية 77: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ ﴾ قبل الإذن بالجهاد: ﴿ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ﴾ عن قتال أعدائكم من المشركين، ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ﴾: يعني وعليكم فقط أداء ما فرضه الله عليكم من الصلاة، والزكاة، ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ ﴾: يعني فلما فُرِضَ ﴿ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ ﴾: يعني إذا جماعةٌ منهم قد تغير حالهم، فأصبحوا ﴿ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾ ﴿ وَقَالُوا ﴾: يعني وأعلنوا عما اعتراهم من شدة الخوف، فقالوا: ﴿ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ﴾؟ ﴿ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾: يعني هَلاَّ أمهلتنا إلى وقتٍ قريب (وذلك رغبةً منهم في متاع الحياة الدنيا)، ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾، وسوف يتركه الإنسان في لحظةٍ خاطفةٍ مِن ليلٍ أو نهار، ثم يُقسَّمُ مالُهُ على ورثته، ويَتوارى هو في التراب، ولن ينفعه إلا عمله الصالح، ﴿ وَالْآَخِرَةُ ﴾ وما فيها مِن نعيمٍ ﴿ خَيْرٌ ﴾ وأبقى ﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ ربه، فعمل ما أُمره به، وانتهى عمَّا نُهاه عنه، ﴿ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾: يعني ولا يَظلِمُ ربك أحدًا شيئًا، ولو كان مقدار الخيط الذي يكون في شق نَواة التمرة.

    الآية 78، والآية 79: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ ﴾ عند حلول آجالكم، ﴿ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾: يعني ولو كنتم في حصون مَنيعة، بعيدة عن ساحة المعارك والقتال، ﴿ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ﴾: يعني وإن يَحصل لهم ما يَسُرُّهم من متاع هذه الحياة: يَنسبوا حُصوله إلى الله تعالى، فـ ﴿ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾، ﴿ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ﴾: يعني وإن وقع لهم ما يكرهونه: ينسبوه إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم جهلاً وتشاؤمًا، فـ ﴿ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ﴾ ﴿ قُلْ كُلٌّ ﴾ مُقَدَّرٌ ﴿ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ وحده (بخيره وشَرِّهِ وحُلوِهِ ومُرِّه)، فأقدارُهُ تعالى تدورُ بين الفضل والعدل، ﴿ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾؟ ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾: يعني ما أصابك أيها الإنسان مِن خيرٍ ونعمةٍ: فهو من الله تعالى وحده (فضلا وإحسانًا)، ﴿ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾: يعني وما أصابك من شدةٍ وبلاء: فبسبب عملك السيئ، وما اقترفتْه يداك من الخطايا (عدلاً وحِكمة)، ﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ ﴾ يا محمد ﴿ لِلنَّاسِ ﴾: يعني لعموم الناس ﴿ رَسُولًا ﴾ تُبَلِّغُهم رسالة ربك، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ على صِدق رسالتك.

     واعلم أنَّ قوله تعالى: ﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾: فيه تَسلِيَة وتصبيرٌ من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم عمَّا يُلاقيه من أذى الناس وسوء أخلاقهم؛ كالذين يَنسبون إليه السيئة تشاؤمًا به، فيُخبره سبحانه بأنَّ مهمته أداء الرسالة، وقد أدَّاها والله شاهدٌ على ذلك، وسيَجزيه عليه بما هو أهله، وسيَجزي مَن رَدَّ رسالته وخرج عن طاعته.
     
    الآية 80: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ ﴾ ويتبع سُنَّتَه ﴿ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾، ﴿ وَمَنْ تَوَلَّى ﴾: يعني ومَن أعرض عن طاعة الله ورسوله: ﴿ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾: يعني فما بعثناك رقيبًا على هؤلاء المعترضين لتحفظ أعمالهم وتحاسبهم عليها، وإنما إلينا مَرجعهم، ثم علينا حسابهم.

    الآية 81: ﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ﴾: يعني ويُظْهر هؤلاء المُعرضون طاعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهم في مجلسه، (﴿ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ ﴾): يعني فإذا ابتعدوا عن الرسول وانصرفوا عن مجلسه: ﴿ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ﴾: يعني بَدَّلَ جماعةٌ منهم ليلاً غيرَ ما أعلنتْه من الطاعة، (والتبييت: هو تدبير الأمر بالليل، حيث اتساع الوقت، والفراغ من العمل، وقلة العيون)، ﴿ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ﴾: يعني واللهُ يكتب ما يُبَيتونه من الشر والباطل (بواسطة ملائكته الكِرام الكاتبين)، وسيُجازيهم عليه أتمّ الجزاء، ﴿ (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾، ولا تُبالِ بهم، فإنهم لن يَضروك، ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ وحده، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾: يعني وكفى به وليّاً يتولى أحوال عباده ويَلطف بهم في جميع أمورهم، ويُيسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم، وَكَفَى بِهِ نَصِيرًا ينصرهم على أعدائهم ويُبين لهم ما يَحذرونه منهم، ويَكفيهم ما يدبرونه لهم من الشر، (فوِلايته تعالى فيها حصول الخير، ونُصرته فيها زوال الشر).
     
    الآية 83: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ ﴾: يعني وإذا جاء هؤلاء الذين لم يَستقر الإيمان في قلوبهم ﴿ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ﴾: يعني أمْرٌ يجب كتمانه متعلقًا بالأمن الذي يعود بالخير على الإسلام والمسلمين، أو بالخوف الذي يلقي في قلوبهم عدم الاطمئنان: ﴿ أَذَاعُوا بِهِ ﴾: يعني أفشَوه وأذاعوا به في الناس دونَ التثبُّت من صحته، ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ﴾: يعني ولو ردَّ هؤلاء ذلك الخبر الذي جاءهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أهل العلم والفقُه والخبرة: ﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾: يعني لَعَلِمَ حقيقة معناه أهل الاستنباط منهم (وهم الذين يستخرجون معناه الصحيح) ويعرفون ما يترتب عليه، فإن كان نافعاً أذاعوه، وإن كان ضاراً كتموه)، ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾: يعني ولولا أنْ تَفَضَّلَ الله عليكم ورَحِمكم ﴿ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ ﴾ ووساوسه في قبول تلك الشائعات الضارة ﴿ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ منكم من ذوي الآراء الصائبة والعقول السليمة، إذ مِثلُهُم لا تُثيرهم تلك الشائعات، كَكِبار الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين، (وفي الآية دليل على حُرمة الشائعات، ونَشْرها بين الناس قبلَ التثبُّت من صحتها والرجوع إلى أهل العلم والخبرة).
     
    الآية 85: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ﴾: يعني من يَسْعَ - شافعاً - لإيصال الخير إلى غيره: يكن له بشفاعته نصيبٌ من الثواب، ﴿ وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ﴾: يعني ومن يَسْعَ لإيصال الشر إلى غيره: يكن له نصيب من الإثم، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾: يعني شاهدًا وحفيظًا.

    الآية 86: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا ﴾: يعني فرُدُّوا على قائلها بأفضل مما سَلَّمَ لفظًاً وبَشاشةً، ﴿ أَوْ رُدُّوهَا ﴾: يعني أو رُدُّوا عليه بمثل ما سَلَّم، ولكلٍ ثوابه وجزاؤه ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴾: يعني يَحسب أعمال عباده ويُجازيهم عليها، ولو كانَ مثقال ذرةٍ، فاحرص على فِعل الخير دائماً فأنت لا تدري أيَّ عملٍ سيكونُ سبب دخولك الجنة.
     



  20. الربع الثالث من سورة النساء

    الآية 23: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾: يعني حَرَّم الله عليكم نكاحَ أمّهاتكم (ويدخل في ذلك الجدَّات مِن جهة الأب والأم)، ﴿ وَبَنَاتُكُمْ ﴾ (ويدخل في ذلك الحفيدات مِن جهة الابن والابنة)، ﴿ وَأَخَوَاتُكُمْ ﴾ (سواء الشقيقات أو اللاتي من جهة الأب أو اللاتي من جهة الأم)، ﴿ وَعَمَّاتُكُمْ ﴾ وهُم: أخوات آبائكم وأخوات أجدادكم أيضاً، ﴿ وَخَالَاتُكُمْ ﴾ وهُم: أخوات أمهاتكم وأخوات جدّاتكم أيضاً، ﴿ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ ﴾ (ويدخل في ذلك حَفِيدات الإخوة والأخوات)، ﴿ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ﴾ ﴿ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾، واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه (يَحرُمُ من الرِّضاع ما يَحرُمُ منالنَسب)، فكُل امرأة حُرِّمَتْ مِنالأقارب: حُرِّمَ مثلها مِن الرضاعة، بمعنى أنه كما حُرِّمَتْ عليه أمه التي ولدته، فإنّ أمه التي أرضعته حرامٌ عليه.

     وكذلك أيّ بنت رَضَعتْ من زوجته فهي حرامٌ عليه (لأنها أصبحت ابنته من الرضاعة)، واعلم أن ابنته من الرضاعة هذه تَحْرُمُ أيضاً على أخيه (لأنه أصبح عَمَّها من الرضاعة)، وكذلك يَحرُم على هذه البنت أخو أمها من الرضاعة (لأنه أصبح خالها من الرضاعة).

     وكذلك يَحْرُم على الرجل أخواته من الرضاعة (وهُم: بنات هذه المرأة التي رضع منها)، لكنهنّ لا يَحرُمْنَ على إخوته من النسب، وكذلك يَحرُم عليه خالاته من الرضاعة (وهُم: أخوات أمه التي أرضعته)، وكذلك يَحرُم عليه عمّاته من الرضاعة (وهُم: أخوات زوج المُرضِعة)، وكذلك يَحرُم عليه بنات إخوته من الرضاعة، وكذلك يَحرُم عليه بنات أخواته من الرضاعة، وبالنسبة لزوج المُرضِعة: فإنّ أخوات الطفل (الذي رضع من زوجته) لا يَحْرُمْنَ عليه.

     ولكن اعلم أنه يُشترَط لهذا التحريم السابق أن يكون الطفل قد رضع منها خمس رضعات فأكثر (كما ثبت ذلك في السُنَّة)، وكذلك أن يكون عُمره لا يزيد عن سنتين (وهما الحَوْلان الكاملان)، أما إذا كانَ عدد الرضعات أقل من خمس، أو كانَ الطفل حينها أكبر من سنتين: فلا يَحرُم عليه أحد بسبب هذه الرضاعة، ويُلاحَظ أنّ الأخ من الرضاعة لا يَرث.


     وحُرَّمَ عليكم كذلك: ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ﴾ سواء دخلتم بنسائكم، أم لم تدخلوا بهنّ ﴿ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾: يعني ويَحرُم عليكم بنات نسائكم(من غيركم) اللاتي يتربَّيْنَ غالبًا في بيوتكم وتحت رعايتكم، ولكنْ بشرط الدخول بأمهاتهنّ، ﴿ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾: يعني فإن لم تكونوا دخلتم بأمهاتهنّ وطلقتموهنّ أو مُتْنَ قبل الدخول: فلا جناح عليكم أن تنكحوهنّ، ﴿ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ﴾: يعني ويَحرُم عليكم زوجات أبنائكم الذين من أصلابكم (إذا فارقوهم أو ماتوا عنهم، سواء دخل الابن بها أو لميدخل)، وكذلك يَحرُم على زوج المرضعة أن يتزوج امرأة ابنه من الرضاعة.

     وحُرَّمَ عليكم كذلك: ﴿ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ﴾ بنسبٍ أو رِضاع ﴿ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ ومضى منكم في الجاهلية فإنه مَعفو عنه، بشرط عدم الإقامة عليه (وحينئذٍ يختار الزوج منهما مَن كانت تطيعه وتصاحبه بالمعروف، ويُفارق الأخرى بعد أن يُعطيَها حقها)، واعلم أنه لا يجوز كذلك الجَمع بين المرأة وعمتها أوالمرأة وخالتها (كما ثَبَتَ ذلك في السُنَّة)، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾: يعني: وقد كتبَ اللهُ على نفسهِ أنه غفورٌ رحيم.

    الآية 24: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ﴾: يعني ويَحرُمُ عليكم كذلك نكاح المتزوجات من النساء ﴿ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾: يعني إلا مَنْ أسَرتُم منهنّ في الجهاد،فإنه يَحِلّ لكم نكاحهنّ، ﴿ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾: يعني كتب الله عليكم تحريم نكاح هؤلاء ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾: يعني وأجاز لكم نكاح أيّ امرأة (غير هذه المُحَرَّمات) ممَّا أحَلَّهُ الله لكم، بشرط ﴿ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾: يعني أن تطلبوا بأموالكم العفة عن اقتراف الحرام، ﴿ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ﴾: أي فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ مِن نسائكم بالنكاح الصحيح (لأنّ هذه الآية - والتي قبلها - كانت تتحدث عن النكاح، وعن ذِكر مَن يَحرُم نكاحُها ومَن تَحِلّ)، وذلك بدءاً من قوله تعالى: ( ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾)، إلى قوله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾، وفي هذا رَدٌّ واضح على مَن يتجرأون على دين رب العالمين، ويَستحِلُّون ما يُسَمُّونه بـ (نِكاح المُتعة)، وهو في أصلِهِ زنا، وإنما أوقعَهم في هذا الإثم العظيم: سُوءُ فَهمِهم، واتباعُ أهوائهم.

    ﴿ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾: يعني فأعطوا نسائكم مهورهنّ، التي فرض اللهُ لهنّ عليكم، كما قال تعالى: ﴿ وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾، ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ﴾: يعني ولا إثم عليكم فيما تمَّ التراضي به بينكم - أيها الأزواج- من الزيادة أو النقصان في المهر، بشرط الاتفاق على مهرٍ محدد في البداية، وذلك ضماناً لحق الزوجة، بحيثُ يَرجع الأمر إليها، فترى: هل هذا الزوج يتقي اللهَ فيها ويعاملها معاملةً طيبةً يَستحق بسببها أن تتنازل له عن المهر (كله أو بعضه)، أو لا يستحق ذلك، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾.

    الآية 25: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾: يعني ومَن لا قدرة له على مهور الحرائر المؤمنات: ﴿ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾: يعني فله أن يَنكح غيرهنّ، من فتياتكم المؤمنات المملوكات ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ﴾: يعني بحقيقة إيمانكم ﴿ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ ﴿ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ﴾: يعني فتزوجوهنّ بموافقة أهلهنّ، ﴿ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾: يعني وأعطوهنّ مُهورهنّ على ما تراضيتم به عن طِيب نفسٍ منكم، بشرط أن يَكُنَّ ﴿ مُحْصَنَاتٍ ﴾: يعني أن يَكُنّ بزواجهنّ هذا طالباتٍ للعِفة عن الحرام، ﴿ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ﴾: يعني وعليكم أن تجتنبوا اختيار الإماء المُجاهرات بالزنى، ﴿ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ﴾: يعني واجتنِبوا أيضاً اختيار مَن يتخذون أصدقاء (للزنى) سِرَّاً ﴿ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ﴾: يعني فإذاتزوجْنَ وأتيْنَ بفاحشة الزنى ﴿ فَعَلَيْهِنَّ ﴾ مِن الحدِّ ﴿ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ ﴾: يعني نصف ما على الحرائر ﴿ مِنَ الْعَذَابِ  وذلك في الشيء الذي يمكن تنصيفه، وهو جلد خمسين جلدة للأمَة البِكر (لأنّ البِكر الحُرّة تُجلَد مائة) وتغريبها (يعني إخراجها من قريتها) لمدة ستة أشهر فقط (بدلاً من سَنَة للبِكر الحُرّة)، أما الرَّجْم (الذي هو الموت) فإنه لا يمكن تنصيفه، فلذلك ليس على الإماء المتزوجات رَجْم، إنما عليهنّ تعزير (يعني تأديب وعقاب يَرْدَعُهُنّ عن فعل الفاحشة، وذلك بحسب ما يراه ولي الأمر مناسباً لذلك).

    ﴿ ذَلِكَ  الذي أبيحَ لكم مِن نكاح الإماء إنما أبيحَ (﴿ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ﴾: يعني لمَن خاف على نفسه الوقوع فيالزنى، وشَقَّ عليه الصبر عن الجماع، ﴿ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾: يعني: والصبر عن نكاح الإماء مع العِفة أوْلَى وأفضل ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لكم ﴿ رَحِيمٌ ﴾ بكم إذ أذِنَ لكم في نكاحهنّ عند العجز عن نكاح الحرائر.

    الآية 27: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ ويتجاوز عن خطاياكم، ﴿ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ ﴾: يعني وأما الذين يَنقادون لشهواتهم ومَلذاتهم فيريدون لكم ﴿ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾: يعني أن تنحرفوا عن الدين انحرافًا كبيرًا.

    الآية 28: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ﴾: يعني يريد الله تعالى - بما شرعه لكم مِن أحكام - أن يُيَسِّر عليكم،فقد ثبتَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ إذا خُيِّرَ بين أمرَين: يَختارُ أيْسَرَهما (ما لم يكن إثماً)، فليس معنى أنّ الدينَ يُسر، أنْ يفعل الإنسان ما حرمه الله، وإنما الدين يُسر في أحكامه وتكاليفه، فعلى سبيل المثال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري - : (ليكونَنَّ من أمّتي أقوامٌ يَستحِلّون الحِرَ - (والمقصود به الزنى) - والحرير - (أي يَستحِلون لِبْسَهُ للرجال) - ، والخمر، والمَعازف - (وهي الآلات الموسيقية))، فالذي أخبر بأن (الموسيقى) حرام، هو نفسه - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: (إن الدين يُسر).

    ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾: يعني وذلك التيسير في الأحكام - وخصوصاً في أمر النكاح - لأنكم قد خُلِقتمضعفاء.

    الآية 31: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ (وهو الجنة)، وبهذا قد ضمن الله تعالى لمن اجتنب الكبائر أن يُكفر عنه الصغائر من السيئات، وأن يُدخله الجنة، فلذلك وَجَبَ علينا البحث عن هذه الكبائر لكي يجتنبها المسلمون، وقد قال بعض العلماء أنّ عددها سَبع، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (هي إلى السبعين أقرب منها إلى السَبع).

     هذا، وقد عرَّفها العلماء بأنها: كل ما وَرَدَ فيه حَدّ في الدنيا (كالقتل والزنا والسرقة)، أو جاء فيه وعيد في الآخرة (مِن عذابٍ أو غضبٍ أو تهديد أو لعْن فاعله)، مع التسليم بأنّ بعض الكبائر أكبر من بعض، علماً بأن صاحب الكبيرة لا يُكَفَّر.

     هذا، وقد جمعها الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه: (الكبائر)، وقد رأيتُ - إتماماً للفائدة - أن أسوقها إليك مُختصَرة ومُبسَّطة:
    (الشرك بالله (ومنه الذبح لغيرهِ تعالى) - قتل النفس - السحر - ترْك الصلاة - مَنْع الزكاة - إفطار يوم من رمضان بلا عذر - ترْك الحج مع القدرة عليه - عقوق الوالدين - هَجْر الأقارب - الزنا - اللُّواط (وهو فِعل قوم لوط) - أكْل الربا - أكْل مال اليتيم وظلمه - الكذب على الله عز وجل وعلى رسوله - الفرار من القتال - غش الإمام للرَعِيَّة وظلمه لهم - الكِبر والفخر والعُجْب والغرور - شهادة الزُّور (يعني يشهد على شيءٍ غير صحيح وهو يعلم أنه كاذبٌ، وكذلك مَن يحتفل بأعياد غير المسلمين، أو يَحضر مجالس الباطل (كالغيبة والنميمة والكذب) وهو موافقٌ لهم) - شُرب الخمر - القِمار - قذف المحصنات (يعني اتّهام نساء المسلمين بالزنا أو مقدماته، ومنه قول القائل: (يا ابن الزانية) أو ما شابَهَ ذلك) - الغُلول (وهو سرقة شيء مِن الغنِيمة قبلَ توزيعِها) - السرقة - قطع الطريق).

    وكذلك من الكبائر: (اليمين الغَموس (وهو الحلف الكاذب الذي يغمس صاحبه في النار) - الظلم - المَكَّاس (وهو الذي يجمع الضرائب قهراً وظلماً، ولا يدخل في ذلك ما يراهُ ولي الأمر في مصلحة الدولة، أو في مصلحة المسلمين) - أكْل الحرام بأيّ وجهٍ كان - أن يَقتل الإنسانُ نفسه - الكذب في غالب أقواله - القاضي السوء - أخذ الرِّشوة على الحُكم - تَشَبُّه النساء بالرجال وتَشَبُّه الرجال بالنساء - الدَّيُّوث (وهوالمُستحسِن على أهلِهِ التَبَرُّج والفاحشة) - القوَّاد (وهو الساعي بين الاثنين بالفاحشة) - المُحَلِّل (وهو مَن يتزوج امرأة مُطلقة (ثلاث طلقات) بِنِيَّةِ تحليلها لزوجها الأول)، والمُحَلَّل له (وهو الزوج المُطلِق، الذي يعطي للمُحلِل أجراً ليفعل ذلك)).

    وكذلك من الكبائر: (عدم الاستنجاء من البول (وعدم الاحتراز مِن رَذاذه أثناء التبول) - الرياء - تعَلُّم العِلم الشرعي طلباً للدنيا (إلا مَن كان ليس له مصدر رزق إلا ذلك، كإمام المسجد والخطيب والمُحَفِّظ، مع مراعاة أن ينوي بذلك العلم: الدعوة مع طلب الرزق) - كِتمان العلم - الخيانة - المَنَّان (الذي لا يُعطِي شيئاً إلا وتَفَضَّلَ به على مَن أعطَاه، سواء كانَ هذا التفضُّل باللسان أو بالقلب) - التكذيب بالقدَر - التجَسُّس على الناس - النَمَّام (وهو الذي ينقل الكلام بين الناس بغرض التوقيع بينهم) - اللَّعَّان (وهو الذي يُكثِر من لعْن الناس ولعْن الأشياء) - الغدْر وعدم الوفاء بالعهد - تصديق الكاهن والمُنَجِّم - نشوز المرأة على زوجها (يعني تمَرُّدها عليه، ومُعانَدَتِه وإسخاطه وعدم طاعته) - تصوير التماثيل).

    وكذلك من الكبائر: (اللَّطْم والنِياحة - الاستطالة على الضعيف - أذى الجار - أذى المسلمين وَشَتْمهم - أذيَّة عباد الله والتطاول عليهم - تطويل الثوب للرجال (فخرا وكِبراً) - لبْس الحرير والذهب للرجال - هروب العبْد من سيده - فيمَن يُدْعَى (نَسَباً) إلى غير أبيه وهو يعلم أنه ليس أبيه (وكان راضياً بذلك) - الجدال بالباطل (يعني يجادل وهو يعلم أنه على باطل، ولكنه يفعل ذلك اتّبَاعاً لهواه) - مَنْع الماء (الزائد عن حاجته) عن الآخرين - الغش ونقص الميزان - الأمْن من مَكْر الله - الإصرار على ترك صلاة الجمعة والجماعة من غير عذر - الإضرار في الوصية (وقد تقدم ذلك في آيات المواريث) - المكر والخديعة - مَن دَلَّ الأعداء على المسلمين - سَبّ أحد الصحابة رضوان الله عليهم).

    الآية 32: ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ في المواهب والأرزاق وغير ذلك، وإنما انظروا إلى مَن هو أقلّ منكم في النِعَم، وذلك حتى لا تحتقروا نعمة الله عليكم،واحرصوا على فِعل ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقد جُعِلَ ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ﴾: يعني نصيبٌ من الرزق (وذلك بحسب ما اكتسبوه من السَعي والأخذ بالأسباب)، ونصيبٌ من الثواب (بحسب ما اكتسبوه من الطاعة)، ونصيبٌ من العقاب (بحسب ما اكتسبوه من المعصية)، ﴿ وَلِلنِّسَاءِ ﴾ كذلك ﴿ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ﴾ من الأعمال، فبذلك رَدَّ سبحانه القضية إلى سُنَّتِهِ فيها وهي: (كَسْب الإنسان)، ونهَى عن التمني والحسد وترْك العمل.

     ثم بَيَّنَ تعالى سُنَّةً أخرى في الحصول على المرغوب، ألاَ وهي الدعاء، فقال: ﴿ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ﴾: يعني وادعوا اللهَ أن يُعطيكم من فضله مثلما أعطى غيركم (إن كانَ ذلك خيراً لكم)، (وذلك مع الدعاء لهم بالبركة)، فمَن سألَ ربه وألَحَّ عليه مُوقناً بإجابته سبحانه (لِمَا فيه الخير له): فإن الله يوفقه للإتيان بالأسباب الصالحة، ويَصرف عنه الموانع والابتلاء، ويُعطيه بغير سببٍ إن شاء، فهو على كل شيءٍ قدير، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ إذ هو سبحانه أعلم بما يُصلِحُ حالَ عبادِهِ فيما قسَمَه لهم، وأنه وَزَّعَ المواهب والقُدرات في خَلقه (بين الرجل والمرأة)، وذلك حتى يتكامل المجتمع، ويتضح ذلك في أننا نجد الرجلعندما تَمْرَض امرأته أو تغضب - ويكون عنده طفلٌ رضيع - فهل يستطيع هو أن يُرضِعالطفل؟ طبعًا لا؛ لأنَّ لِكُلّ واحدٍ منهما مهمة معينة، فالعاقل هو مَن يَحترم مواهبَ اللهِ فيخَلقه.

     واعلم أن سبب نزول هذه الآية: ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أنَّ النساء قُلْنَ: (إننا لم يُكتَبْ علينا الجهاد، وأعطانا ربُّنا نصف الرجل منالميراث)، وقد أوضحَ اللهُ تعالى للمرأة أنها أخذتْ نصف الرجل لأنها محسوبةعليه، فهي لن تنفِق على نفسها، بل سيُنفق عليها الرجل،والمسألة بذلك تكون عادلة.

    الآية 33: ﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴾ هذه الآية منسوخة بآيات المواريث.

    الآية 34: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ﴾ توجيه ﴿ النِّسَاءِ ﴾ ورعايتهنّ، وذلك ﴿ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾: يعني بسبب ما خَصَّهم الله به من خصائص القوامة والتكليف، ﴿ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾: يعني وبسبب ما أعطوهنّ من المهور، وكذلك بالإنفاق عليهنّ، ﴿ فَالصَّالِحَاتُ ﴾ المستقيماتعلى شرع الله لابد أن يَكُنّ: ﴿ قَانِتَاتٌ ﴾: يعني مطيعات لله تعالى ولأزواجهنّ (في غير معصية الله)، و﴿ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ ﴾: يعني حافظاتٌ لكل ما يُؤتمَنَّ عليه (وذلك في غياب أزواجهنّ)، ﴿ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾: يعني وذلك بحفظ الله تعالى لهنّ وإعانتهنّ على ذلك، لا مِن أنفسهنّ، فإنّ النفس أمارة بالسوء، ولو وُكِلَت المرأة إلى نفسها لا تستطيع حِفظ شيء وإنْ قَلّ، وإنما مَن ينوي فِعل الخير يُعطَهُ، وَمَن توَكَّلْ على الله كفاهُ ما أهَمَّهُ مِن أمْر دينه ودنياه، واعلم أنه يُفهَم من ثناء الله تعالى على هؤلاء الصالحات أنه يَجب على الرجل إكرام المرأة الصالحة والإحسان إليها والرفق بها لضعفها.

    ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ﴾: يعني واللاتي تخشون تكَبُّرهنّ عنطاعتكم: ﴿ فَعِظُوهُنَّ ﴾ بالكلمة الطيبة والمَوعِظة الحَسَنة، وبإعلامِهنّ الأشياءَ التي تُغضِبكم منهنّ، وبتخويفهنّ من العِصيان حتى لا يَقَعنَ في غضب الله ولعنتِه وعدم قبول أعمالهنّ، وحتى لا تضطروا إلى فِعل الأشياء التي تغضبهنّ، ﴿ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ﴾: يعني فإن لم تنفع معهنّ النصيحة الطيبة، وأصرَرنَ على مَعصيتكم ومعاندتكم: فاهجروهنّفي الفِراش، ولا تُكلِموهنّ (إلاَّ لِضرورة)، وذلك حتى يَنتهيْنَ عن ذلك، ويَندمنَ على مُخالفتكم، فإن لم يُؤثر الهَجْر فيهنّ: ﴿ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾ ضربًا لاضرر فيه، فلا تضربوهنّ على الوجه، ولا ضرباً يؤثر في عظمٍ أو جِلد، ﴿ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ ﴾، وتُبْنَ عن عِصيانكم: ﴿ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ﴾: يعني فاحذروا ظلمهنّ فـ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾: أي فإنّ الله العليَّ الكبير هو وليُّهن، وسوف ينتقمُ مِمَّن ظلمهنَّ.

    الآية 35: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ يا أولياء الزوجين ﴿ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ﴾: يعني إِنْ خِفْتُمْ حدوث خِلاف بين الزوجين يؤدي إلى فراقهما (بعد اتباع جميع الوسائل السابقة): ﴿ فَابْعَثُوا ﴾ إليهما ﴿ حَكَمًا ﴾ عدلا ﴿ مِنْ أَهْلِهِ ﴾: يعني من أهل الزوج، ﴿ وَحَكَمًا ﴾ عدلاً ﴿ مِنْ أَهْلِهَا ﴾: يعني من أهل الزوجة; لينظرا ويَحكمابما فيه المصلحة لهما، فـ﴿ إِنْ يُرِيدَا ﴾ أي هذان الحَكمان ﴿ إِصْلَاحًا ﴾ بين الزوجين، ويستعملا الأسلوبالطيب في الصُلح، ويُخَوِّفوهم من هَدم البيت وتشريد الأولاد: ﴿ يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾: يعني بين الزوجين ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا ﴾ لا يَخفى عليه شيءٌ من أمرعباده ﴿ خَبِيرًا ﴾ بما تنطوي عليه نفوسهم.



    الربع الرابع من سورة النساء




    الآية 36: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ وحده، وانقادوا له في جميع أوامره، واعلم أنّ العبادة قد عرَّفها ابن تَيْمِيَة رحمه الله بأنها: (هي اسمٌ جامع لكل ما يُحبه اللهُ ويَرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة)، وعَرَّفها ابن القَيِّم رحمه الله بأنها: (هي كمال الحب مع كمال الذل)، وحتى تحقق ذلك بإذن الله تعالى: لا بد أن تتذكر نعم الله عليك حتى تحب اللهَ تعالى، ثم تتذكر أنك تقابل هذه النعم بالمعاصي، فتكره نفسك الأمَّارة بالسوء، فحينها تذِلّ لله تعالى وتنكسر بين يديه قائلاً: (أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، هذه هي بداية الطريق إلى الله، لأنّ رؤية النعم ورؤية الذنوب تستوجبُ الذلَّ والانكسار والفقر التام بين يدي الله تعالى، والتوبة إليه سبحانه في كل وقت، فلا ترى نفسك إلا مٌفلساً، وأنه لو تخلى عنك سبحانه طرفة عين: لهَلَكْتَ وخَسِرتَ خسارةً لا تُجبَرُ إلا أن يَتداركك الله برحمته.

     هذا، وقد جَمَعَ النبي صلى الله عليه وسلم بين رؤية النعم ورؤية الذنوب حينما كان يقول: (سبحان الله وبِحَمدِه أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه)، عِلماً بأن (سبحان الله وبحمده) تعادل في المعنى (سبحان الله والحمد لله)، وقد كان أحد السلف دائماً يقول: (الحمد لله أستغفر الله)، فقال له أحد جُلَسائِه: (ألاَ تُحسِنُ غيرَ هذا؟)، فقال له: (بل أُحسِنُ الكثير، ولكنني رأيتُني أتقلبُ بين نعمةٍ وذنب)، فهو بذلك يُعِدُّ حمداً كثيراً ليساعده في سؤال النعم، كما يُعِدُّ استغفاراً كثيراً ليساعده في سؤال الذنوب.

    ﴿ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا  لا شِركاً أصغر (كالرياء والحلف بغير الله)، ولا شركاً أكبر (كَشِرك العبادة)، فلا يُشركون معه مَلَكاً ولا نبياً ولا ولياً ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً (والنشور هو البعث بعد الموت)، واعلم أن الله لا يَغفر أن يُشرَكَ به (إلا إذا تاب العبد من الشرك قبلَ موتِه).

    ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾: يعني: وعليكم بتأدية حقوق الوالدين (وذلك بالقول الكريم اللَيِّن، وبطاعة أمْرهما - في غير معصية الله - وبالإنفاق عليهما، وإكرام صديقهما ومَن له تعلق بهما، وصلة رَحِمِهما، والدعاء لهما، وطلب رِضاهما)، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 3507)، فاعلم أنه لن يَرضى عنك الله سبحانه وتعالى حتى يَرضى عنك والداك (ولو كنتَ أعبَد أهل الأرض)، ﴿ وَبِذِي الْقُرْبَى ﴾ إِحْسَانًا ﴿ وَالْيَتَامَى ﴾ ﴿ وَالْمَسَاكِينِ وهم مَن لا مالَ لهم ولا كَسْب، وكذلك مَن لهم مالٌ وَكَسْب (ولكنهم لا يَسُدُّون كفايتهم وكفاية مَن يَعُولُونهُم)، ﴿ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى  وهو الجار القريب منكم، واعلم أن الجار إذا كان من الأقارب، فإن له حق الجُوار، وحق القرابة، ﴿ وَالْجَارِ الْجُنُبِ ﴾ وهو الجار البعيد عنكم، وكذلك الجار الذي ليس له قرابة، واعلم أنه كلما كان الجار أقربُ بابًا، كلما كان أأكد حقًّاً، فينبغي للمسلم أن يتعاهد جاره بالهدية والدعوة، واللطف في الأقوال والأفعال، وعدم أذيَّتِه بقولٍ أو فِعل، ﴿ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ﴾ وهو الصاحب المُلازم الذي لا يُفارَق؛ كالزوجة، والمرافق في السفر والحَضَر والعمل وطلب العلم، ﴿ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ وهو المسافر المحتاج، ﴿ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ وهم المماليك من فِتيانكم وفَتياتكم.

     فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لأمر ربه، المتواضع لعباد الله، الذي يحبه الله، ومَن لم يقم بذلك فإنه عبدٌ مُعرضٌ عن ربه، غيرُ متواضعٍ للخَلق، ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا ﴾: أي مُعجَباً بنفسه متكبرًا على الخلق ﴿ فَخُورًا ﴾: أي يمدح نفسه على سبيل الفخر، فهذا الكِبر والفخر يمنع هؤلاء من القيام بحقوق الله وحقوق الآخرين، ولهذا قال تعالى بعدها: ﴿ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾: أي من المال والعِلم وغير ذلك.


    الآية 41، والآية 42: ﴿ فَكَيْفَ ﴾ يكون حال الناس يوم القيامة ﴿ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾ وهو رسولها ليشهد عليها بما عملتْ، ﴿ وَجِئْنَا بِكَ ﴾ أيها الرسول لتكونَ ﴿ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ أنك قد أبلغتَهم رسالة ربِّك، فـ ﴿ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ﴾: يعني يتمنون لو أنّ اللهَ يجعلهم والأرض سواء، فيَصيرون ترابًا، حتى لا يُبعَثوا ﴿ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ﴾: يعني وهم لا يستطيعون أن يُخفوا عن الله شيئًا مما في أنفسهم، إذ ختم اللهُ على أفواههم، وشَهِدَتْ عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون.

     واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بكى عندما قرأ عليه عبد الله بن مسعود هذه الآية، ولِذا يَحضرني هنا قول أحد الدُعاة: (فإذا كان الشاهدُ قد بَكى، فما بالُ المشهودِ عليهِ لا يَبكي؟).

    الآية 44: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ﴾ وهم اليهود الذين أُعطاهم الله علماً من التوراة ﴿ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ ﴾: يعني يستبدلون الضلالة بالهدى، ويتركون ما لديهم من الحجج والبراهين الدالة على صِدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ﴾: يعني ويتمنون لكم - أيها المؤمنون المهتدون - أن تنحرفوا عن الطريق المستقيم; لتكونوا ضالين مثلهم.

    الآية 46: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا ﴾: يعني: من اليهود فريقٌ ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾: يعني اعتادوا على تبديل كلام الله وتغييره عمَّا هو عليه (افتراءً على الله)، ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ سَمِعْنَا ﴾ قولك ﴿ وَعَصَيْنَا ﴾ أمرك ﴿ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ﴾: يعني واسمع منَّا لا استطعتَ السماع، ﴿ وَرَاعِنَا ﴾ سَمْعَك، أي: افهم عنا وأفهِمنا، ولكنهم يقولونها ﴿ لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّين ﴾:ِ يعني يَلوون ألسنتهم بذلك، وهم يريدون الدعاء عليه بالرُعُونة (وهي الحُمق والطَيش)، ويريدون بذلك الطعن في دين الإسلام مِن خلال شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا  بدلاً من "سمعنا عصينا"، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿ وَاسْمَعْ ﴾ دونَ "غير مُسمَع"، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿ وَانْظُرْنَا ﴾ بدلاً من "راعنا" ﴿ لَكَانَ ﴾ ذلك ﴿ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ ﴾: يعني وأعدل قولاً ﴿ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾: أي ولكنَّ اللهَ طردهم من رحمته، بسبب جحودهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا ﴾ إيماناً ﴿ قَلِيلًا ﴾ لا ينفعهم (كإيمانهم بموسى وهارون، والتوراة (التي أنزِلَت على موسى)، والزَبور (الذي أنزِل على داوود))، ولكنَّ كفرَهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أضاع هذا الإيمان، لأنّ مَن كفر برسولٍ من الرسل فقد كفر بسائر الرُسُل، كما قال تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾، ولم يقل: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ رسولهم ﴾.

    الآية 47: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ  وهذه صِفةُ مَن كان عالما بجميع التوراة ﴿ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا  من القرآن ﴿ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ﴾ من الكتب، لأنه يجب عليكم أن تكونوا مُبادرين إليه قبلَ غيركم، بسبب ما أنعم الله به عليكم من العلم والكتاب، ولهذا تَوَعَّدَهم اللهُ على عدم الإيمان فقال: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ﴾: يعني من قبل أن نمحو وجوهكم، ثم نجعل الوجه مكان القَفا، والقَفا مكان الوجه، ﴿ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ﴾: يعني أو نلعنهم - بِمَسخِهِم قِردَةً وخنازير - كما لعنَّا اليهود مِن أصحاب السبت، الذين نُهُوا عن الصيد فيه فلم ينتهوا، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾: يعني نافذًا في كل حال، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾.

     واعلم أنَّ قولَه تعالى: ﴿ من قبل أن نطمسَ وجوهاً ﴾ فيه إشارة إلى أنه متى وقع منهم إيمانٌ قبل الطَمْس: أخَّرَهُ عنهم، وقد آمَنَ بعضهم كَعَبدِ الله بن سَلَام وأصحابه، فرُفِعَتْ عنهم هذه العقوبة بسبب إيمانِ بعض علمائهم.

    الآية 49: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ وهم اليهود يُثنون على أنفسهم وأعمالهم،ويَصفونها بالطُهر والبعد عن السُوء؟ ﴿ بَلِ اللَّهُ ﴾ تعالى هو الذي ﴿ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ﴾ مِن عباده، لِعِلمِهِ بحقيقة أعمالهم، ﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾: يعني ولا يُنقَصون من أعمالهم شيئًا، ولو كان مقدار الخيط الذي يكون في شق نَواة التمرة.

    الآية 51: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ﴾ وهم اليهود، فإنهم ﴿ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ﴾: يعني يُصدقون ويُقِرُّون بصِحة عبادة كل ما يُعبَدُ من دون الله - من الأصنام والكَهَنة والسَّحَرة وشياطين الإنس والجن - تصديقاً يَحمِلهم على تحكيم غير شرع الله، ﴿ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾: يعني وهؤلاء اليهود يقولون لِمُشرِكي العرب (الذين لم ينزل عليهم أيّ كتاب): ﴿ هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ﴾: يعني دينكم - يا مُشرِكي العرب - خيرٌ من دين محمد، وأنتم أفضلُ طريقاً وأكثر هِداية - في سلوككم وحياتكم والاجتماعية - من أولئك الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

     مع أنَّ في كتابهم إبطالَ الشِرك وَهَدْمه، ولكنْ ما حَمَلهم على ذلك القول إلا الكفر والحسد وبُغض النبي محمد، فما أشدّ عنادهم وأقلّ عقولهم! فهل يُفَضَّلُ دينٌ قام على (عبادة الأصنام، وتحريم الطيِّبات، وإباحة الخبائث، وإقامة الظلم بين الخلق، وتسوية الخالق بالمخلوقين)، على دينٍ قام على (عبادة الرحمن وحده لا شريك له، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق، حتى البهائم، وإقامة العدل بين الناس، وتحريم الظلم والخبائث، والصدق في جميع الأقوال والأعمال)؟

     ويُلاحَظ هنا أن الله تعالى قال: ﴿ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ﴾، رَغمَ أنه كانَ مِن المُتوَقَّع أن يقول: ﴿ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أنتم أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ﴾، أي بصيغة الخطاب، اتفاقاً مع سِياق الآية، ولكنه سبحانه أراد أن يُوضح أن اليهود يقولون ذلك القول أمام مشركي العرب وفي غيبتهم، وهو ما يُسَمَّى: (حكايةً لِمعنى القوْل)، فكأنه تعالى حكى أن اليهود - حين تناجَوا فيما بينهم - قال بعضهم لبعض في شأن أهل مكة: (هؤلاء العابدون للأصنام أهدَى مِنمحمدٍ وأصحابه).

    الآية 52: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ﴾: يعني طردهم من رحمته ﴿ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ﴾ ينصره، ويدفع عنه سوء العذاب.

     واعلم أنه لا يجوز أن يقول الرجل لأخيه: (يا ملعون)، أو: (اللهم العن فلاناً) - طالما أنه مسلم ناطقٌ بالشهادتين -، لأن اللعن هو الطرد من رحمة الله، وأنت - بِقوْلك هذا - قد حَكمتَ عليه بالطرْد من الرحمة، فاحذر أن تقول ذلك حتى لا تُرَدّ الكلمة عليك فتُطرَد أنت من الرحمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خرجتْ اللعنة مِن فِي - (يعني مِن فم) - صاحبها: نظرتْ، فإن وَجَدَتْ مَسلكاً في الذي وُجِّهَتْ إليه، وإلاَّ عادت إلى الذي خرجتْ منه) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 502)، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة: ألاَّ نلعنَ شخصاً بعينه، وألاَّ نَحكم عليه بالرحمة أو الشهادة أو الجنة أو النار، إلا مَن شهد له الله ورسوله بذلك.

    الآية 53: ﴿ أَمْ لَهُمْ ﴾: يعني أم لهؤلاء اليهود ﴿ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ﴾؟ فيفضِّلون مَن شاءوا على مَن شاءوا بمجرد أهوائهم؟ وهذا استفهام استنكاري (يعني ليس لهم ذلك) ﴿ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ﴾: يعني ولو أنه قُدِّرَ أنَّ لهم نصيباً من المُلك لَمَا أعطوا أحدًا منه شيئًا، ولو كان مقدارالنُّقرةالتي تكون في ظهر نَواة التمرة، (وهي عبارة عن ثقب صغير يُضرَب به المثل في صِغَرِه)، وذلك لِشدة بُخلهم.

    الآية 54، والآية 55: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾: يعني أم يحسدون محمدًا صلى الله عليه وسلم على ما أعطاه الله من نعمة النُبُوَّة والرسالة، ويحسدون أصحابه على نعمة التوفيق إلى الإيمان،واتِّباع الرسول، والتمكين في الأرض، ويتمنون زوال هذا الفضل عنهم؟، بلِ اللهُ يَختص برحمته من يشاء، وذلك ليس بغريبٍ على فضل الله تعالى ﴿ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾: يعني فقد أعطينا إبراهيم وذريته الكتاب (كَصُحُف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل)، وأعطيناهم الحكمة (وهي السُنَّة التي كانت لأولئك الأنبياء يَتلقونها وَحياً من الله تعالى، وكلها عِلمٌ نافع وحُكمٌ صائبٌ سديد)، وكذلك أعطينا المُلك الواسع لبعضهم (كَداوودَ وسليمانَ عليهما السلام)، فإنعامُهُ تعالى لم يَزَلْ مستمرًا على عباده المؤمنين، كل هذا يَعرفه اليهود، فكيف يُنكِرون إنعامَهُ تعالى بالنُبُوَّة والنصر والمُلك لمحمد صلى الله عليه وسلم (أفضل الخلق، وأعظمهم مَعرفةً بالله وأخشاهم له)، ويحسدونه على ذلك؟، ﴿ فَمِنْهُمْ ﴾: أي فمِن هؤلاء اليهود ﴿ مَنْ آَمَنَ بِهِ ﴾: أي آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعمل بشرعه، كعبد الله بن سلام وأصحابه، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ﴾: يعني ومنهم مَن أعرض عنه ولم يستجب لدعوته، ومَنَعَ الناس مِن اتِّباعِه، ﴿ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ﴾: يعني وحسبكم - أيها المكذبون - نار جهنم تُسَعَّر بكم (يعني تُوقَدُ عليكم وتفورُ بكم) يوم القيامة.

     


  21. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].

    أَيُّهَا المُسلِمُونَ، نَحنُ في دَارٍ قَصِيرَةٍ، قَدَّرَ اللهُ أَن تَكُونَ دَارَ عَنَاءٍ وَامتِحَانٍ وَابتِلاءٍ، لا دَارَ رَاحَةٍ وَاستِقرَارٍ وَصَفَاءٍ، أَيَّامُ الفَرَحِ فِيهَا مَتلُوَّةٌ بِتَرَحٍ، وَرَخَاؤُهَا يَعقُبُهُ شِدَّةُ، وَسَاعَاتُ السُّرُورِ فِيهَا مَمزُوجَةٌ بِحُزنٍ، وَصَفوُهَا مَشُوبٌ بِكَدَرٍ، وَالمُرتَاحُ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنهَا، إِمَّا بِنِعمَةٍ يَخَافُ زَوَالَهَا، أَو بَلِيَّةٍ يَتَوَقَّعُ نُزُولَهَا، أَو مَرَضٍ مُقعِدٍ يَخشَى حُصُولَهُ، أَو كِبَرٍ مُفْنِدٍ يَخَافُ حُلُولَهُ، أَو مَوتٍ مُجهِزٍ يَقطَعُ لَذَّتَهُ...
     
     
     
    أَلا إِنَّمَا الدُّنيَا نَضَارَةُ أَيكَةٍ البلايا, العطايا, كم
     
    إِذَا اخضَرَّ مِنهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ البلايا, العطايا, كم
     
    هِيَ الدَّارُ مَا الآمَالُ إِلاَّ فَجَائِعٌ البلايا, العطايا, كم
     
    عَلَيهَا وَمَا اللَّذَّاتُ إِلاَّ مَصَائِبُ البلايا, العطايا, كم
     
    فَكَم سَخَنَت بِالأَمسِ عَينٌ قَرِيرَةٌ البلايا, العطايا, كم
     
    وَقَرَّت عُيُونٌ دَمعُهَا الآنَ سَاكِبُ البلايا, العطايا, كم
     
    فَلا تَكتَحِلْ عَينَاكَ مِنهَا بِعَبرَةٍ البلايا, العطايا, كم
     
     
    عَلَى ذَاهِبٍ مِنهَا فَإِنَّكَ ذَاهِبُ البلايا, العطايا, كم


    إِذَا عُلِمَت هَذِهِ الحَقِيقَةُ - أَيُّهَا المُؤمِنُونَ - وَتَيَقَّنَ العَاقِلُ أَنَّ الدُّنيَا مَرحَلَةُ ابتِلاءٍ وَاختِبَارٍ، وَأَنَّهَا دَارُ مَمَرٍّ وَلَيسَت بِدَارِ قَرارٍ، فَإِنَّهُ لا يَغتَرُّ بِهَا وَلا يَركَنُ إِلَيهَا، وَلَكِنَّهُ يَتَلَمَّسُ شَيئًا مِن أَسرَارِ بَلائِهَا؛ لِيَزدَادَ بِذَلِكَ يَقِينًا بِلِقَاءِ اللهِ الكَرِيمِ، وَتَعَلُّقًا بِدَارِ النَّعِيمِ المُقِيمِ، ذَلِكُم أَنَّ لِلمُؤمِنِ مَعَ رَبِّهِ عُبُودِيَّةً في الضَّرَّاءِ وَالعُسرِ، كَمَا أَنَّ لَهُ عُبُودِيَّةً في السَّرَّاءِ وَاليُسرِ، وَاللهُ - تَعَالى - لا يُقَدِّرُ شَرًّا مَحضًا، بَل مَا مِن شَرٍّ إِلا وَفِيهِ خَيرٌ، وَلا مَكرُوهٍ إِلاَّ وَفي ثَنَايَاهُ مَحبُوبٌ، قَالَ - تَعَالى -: ﴿ وَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُم وَاللهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216] وَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَيَجعَلَ اللهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19] وَمِن ذَلِكَ البَلاءُ، فَإِنَّ اللهَ لم يُنزِلِهُ بِعِبَادِهِ إِلاَّ لِحِكمَةٍ بَل لِحِكَمٍ عَدِيدَةٍ، مَن غَفَلَ عَنهَا ضَلَّ وَهَلَكَ، وَمَن عَرَفَهَا وَوَطَّنَ نَفسَهُ عَلَيهَا وَاستَحضَرَهَا، هَانَ عَلَيهِ مَا يَلقَاهُ في دُنيَاهُ مِن بَلاءٍ، وَسَهُلَ عَلَيهِ مَا يَجِدُهُ فِيهَا مِن عَنَاءٍ، وَمِن ذَلِكَ أَنَّ في البِلاءِ استِخرَاجًا لأَنوَاعٍ مِنَ العُبُودِيَّةِ لم تَكُنْ لِتَخرُجَ لَولا البَلاءُ، فَلَولا النَّوَازِلُ وَالابتِلاءَاتُ، مَا رَجَعَ بَعضُ الشَّارِدِينَ إِلى رَبِّهِ، وَلَولا المَصَائِبُ وَالرَّزَايَا مَا تَابَ بَعضُ العَاصِينَ مِن ذَنبِهِ، وَلَولا المِحَنُ وَالمَكَارِهُ لاغتَرَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَتَكَبَّرَ، وَلَكِنَّ اللهَ يَبتَلِي العِبَادَ لِيَعُودُوا إِلى رُشدِهِم وَلا يَنحَرِفُوا عَن طَرِيقِهِم، وَلِئَلاَّ تَخفَى عَلَيهِم حَقِيقَةُ أَنفُسِهِم وَضَعفُ تَصَرُّفِهِم وَقِلَّةُ حِيلَتِهِم، وَلِيَلجَؤُوا بِذَلِكَ إِلَيهِ وَيَنطَرِحُوا بَينَ يَدَيهِ، وَيُفَوِّضُوا أُمُورَهُم إِلَيهِ وَيَتَوَكَّلُوا عَلَيهِ، قَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مصِيبَةٍ في الأَرضِ وَلا في أَنفُسِكُم إِلاَّ في كِتَابٍ مِن قَبلِ أَن نَبرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيلا تَأسَوا عَلَى مَا فَاتَكُم وَلا تَفرَحُوا بِمَا آتَاكُم وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُختَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22، 23].

    وَمِنَ الحِكَمِ في البَلاءِ، أَنَّ اللهَ - تَعَالى - حِينَ يَبتَلِي عَبدَهُ المُؤمِنَ، فَإِنَّمَا يَبتَلِيهِ لِيُهَذِّبَهُ لا لِيُعَذِّبَهُ، وَلِيُطَهِّرَهُ وَيُكَفِّرَ عَنهُ ذُنُوبَهُ، وَإِلاَّ فَلَو شَاءَ لَتَرَكَهُ دُونَ تَمحِيصٍ وَتَطهِيرٍ مِنهَا؛ لِيُوَافِيَ بِهَا يَومَ القِيَامَةِ وَيُعَذَّبَ بِسَبَبِهَا، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبدِهِ الخَيرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ في الدُّنيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبدِهِ الشَّرَّ أَمسَكَ عَنهُ بِذَنبِهِ حَتى يُوَافِيَهُ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ" رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. 

    وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "مَا يُصِيبُ المُسلِمَ مِن نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حَزَنٍ، وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوكَةُ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِن خَطَايَاهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: "مَا يَزَالُ البَلاءُ بِالمُؤمِنِ وَالمُؤمِنَةِ في نَفسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَلقَى اللهَ وَمَا عَلَيهِ خَطِيئَةٌ" رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. بَل إِنَّ البَلاءَ عَلَى خِلافِ مَا يَظُنُّ بَعضُ النَّاسِ دَلِيلُ حُبِّ اللهِ لِلعَبدِ وَإِرَادَتِهِ لَهُ المَنزِلَةَ العَالِيَةَ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَومًا ابتَلاهُم، فَمَن رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَن سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ" رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ. وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ عِندَ اللهِ المَنزِلَةُ، فَمَا يَبلُغُهَا بِعَمَلٍ، فَمَا يَزَالُ يَبتَلِيهِ بِمَا يَكرَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ إِيَّاهَا" رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَقَالَ الأَلبَانيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.


    وَمَعَ هَذَا - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - فَإِنَّ ثَمَّةَ أُمُورًا كُلَّمَا ذَكَرَهَا المُبتَلَى سُرِّيَ عَنهُ وَخَفَّ عَلَيهِ البَلاءُ، مِن ذَلِكَ أَن يَعلَمَ أَنَّ الابتِلاءَ لا يَدَعُ أَحَدًا مِنَ الخَلقِ إِلاَّ أَصَابَهُ، وَلَو سَلِمَ مِنهُ أَحَدٌ لَسَلِمَ مِنهُ المُرسَلُونَ وَالأَنبِيَاءُ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالى -   يُنَوِّعُهُ عَلَى عِبَادِهِ وَيَقسِمُ لِكُلٍّ مِنهُ نَصِيبًا، فَمِنهُم مَن يُبتَلَى بِالسَّرَّاءِ، وَمِنهُم مَن يُبتَلَى بِالضَّرَّاءِ، وَمِنهُم مَن يُبتَلَى بِالغِنى، وَمِنهُم مَن يُبتَلَى بِالفَقَرِ، وَمِنهُم مَن يُبتَلَى بِالصِّحَّةِ، وَمِنهُم مَن يُبتَلَى بِالمَرَضِ، وَآخَرُونَ بِفَقدِ الأَحِبَّةِ، وَغَيرُهُم بِالسِّجنِ أَوِ القَتلِ أَوِ الطَّردِ.


    وَمِمَّا يُسَلِّي المُؤمِنَ عِندَ المَصَائِبِ، أَن يَتَذَكَّرَ كَم عَاشَ مِن عُمُرِهِ مِن أَيَّامٍ وَهُوَ في عَافِيَةٍ، وَكَم صُرِفَ عَنهُ مِنَ البَلاءِ والنِّقمِ، وَكَم للهِ عَلَيهِ مِنَ العَطَايَا وَالنِّعَمِ، وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَنهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنَّهُ قَالَ: "اُنظُرُوا إِلى مَن هُوَ أَسفَلَ مِنكُم، وَلا تَنظُرُوا إِلى مَن هُوَ فَوقَكُم، فَهُوَ أَجدَرُ أَلاَّ تَزدَرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم" وَيَا لَهُ مِن عِلاجٍ نَاجِعٍ وَدَوَاءٍ نَافِعٍ؛ فَإِنَّ المَرءَ مَهمَا بَلَغَت بِهِ الحَالُ مِن فَقرٍ أَو مَرَضٍ أَو عُسرٍ أَو بَلاءٍ، فَإِنَّ فِيمَن حَولَهُ مَن هُوَ أَفقَرُ مِنهُ وَأَشَدُّ عُسرًا وَأَكثَرُ بَلاءً وَأَقوَى مَرَضًا، وَكُلَّمَا طَالَ تَأَمُّلُهُ في نِعَمِ اللهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، رَأَى رَبَّهُ قَد أَعطَاهُ خَيرًا كَثِيرًا، وَدَفَعَ عَنهُ شُرُورًا مُتَعَدِّدَةً، وَلا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَدفَعُ عَنهُ جُزءًا مِنَ الهَمِّ والغمِّ، وَيُوجِبُ لَهُ شَيئًا مِنَ الفَرَحَ وَالسُّرورِ.

    وَمِن أَعظَمِ مَا يُسَلِّي المُبتَلَى، أَن يَعلَمَ أَنَّ البَلاءَ لَهُ أَمَدٌ يَنتَهِي إِلَيهِ وَوَقتٌ يَنقَضِي عِندَهُ، قَالَ - تَعَالى -: ﴿ فَإِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا * إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا ﴾ [الشرح: 5، 6].
     
     
     
    وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الفَتَى البلايا, العطايا, كم
     
    ذَرعًا وَعِندَ اللهِ مِنهَا المَخرَجُ البلايا, العطايا, كم
     
    ضَاقَت فَلَمَّا استَحكَمَت حَلَقَاتُهَا البلايا, العطايا, كم
     
    فُرِجَت وَكَانَ يَظُنُّها لا تُفرَجُ البلايا, العطايا, كم



    وَمِن أَعظَمِ مَا يُسَلِّي المُبتَلَى، أَن يَستَعِينَ بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ وَالدُّعَاءِ، قَالَ - تَعَالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153] وَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 155، 156] وَمَن جَمَعَ هَذِهِ الأَنوَاعَ مِنَ العِلاجِ: العِلاجَ النَّفسِيَّ بِالتَّصبُّرِ، وَالعِلاجَ القَوليَّ بِالاستِرجَاعِ، وَالعِلاجَ البَدَنيَّ القَلبيَّ بِالصَّلاةِ، فَقَد جَمَعَ العِلاجَ الرَّبَّانيَّ كُلَّهُ، وَمَا أَحرَاهُ أَن يُسكَبَ في قَلبِهِ مِنَ اليَقِينِ وَالرِّضَا مَا لا يَخطُرُ لَهُ عَلَى بَالٍ، قَالَ - تَعَالى -: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذنِ اللهِ وَمَن يُؤمِن بِاللهِ يَهدِ قَلبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11] اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ العَافِيَةَ في الدِّينِ وَالدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ لي وَلَكُم فَاستَغفِرُوهُ، إنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفَّارًا...



    فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - حَقَّ تَقوَاهُ، وَاصبِرُوا عَلَى أَقدَارِهِ وَارضَوا عَنهُ تَنَالُوا رِضَاهُ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ - تَعَالى - يُرَبِّي عَبدَهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، ويُقَلِّبُهُ في العَافِيَةِ وَالبَلاءِ، وَيُنَوِّعَ لَهُ العَيشَ مَا بَينَ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ؛ لِيَستَخرِجَ مِنهُ عُبُودِيَّتَهُ في جَمِيعِ الأَحوَالِ، وَعَبدُاللهِ عَلَى الحَقِيقَةِ، مَن قَامَ بِعُبُودِيَّتِهِ - تَعَالى - عَلَى اختِلافِ الأَحوَالِ، وَالإِيمَانُ الصَّادِقُ النَّافِعُ، هُوَ الإِيمَانُ الَّذِي يَثبُتُ في حَالِ الابتِلاءِ كَمَا هُوَ في العَافِيَةِ، وَأَمَّا الإِيمَانُ الَّذِي لا يَكُونُ إِلاَّ في العَافِيَةِ، فَإِنَّهُ لا يَكَادُ يَصحَبُ العَبدَ وَلا يُبَلِّغُهُ مَنَازِلَ المُؤمِنِينَ الصَّادِقِينَ، قَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيرٌ اطمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتهُ فِتنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجهِهِ خَسِرَ الدُّنيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ ﴾ [الحج: 11] وَإِنَّهُ إِذَا سَلِمَ لِلعَبدِ دِينُهُ، وَثَبَتَ عَلَى أَمرِ رَبِّهِ وَنَهيِهِ، وَسَارَ عَلَى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ وَلم يَلتَفِتْ عَنهُ رَغبَةً عَنهُ، فَلا عَلَيهِ وَلَو نَزَلَت بِهِ ابتِلاءَاتُ الدُّنيَا كُلُّهَا، وَإِنَّمَا البَلاءُ الحَقِيقِيُّ مَا شَغَلَ العَبدَ عَن رَبِّهِ وَأَنسَاهُ لِقَاءَهُ، وَأَمَّا مَا أَقَامَهُ بَينَ يَدَيهِ وَرَدَّهُ إِلَيهِ، فَرَقَّ قَلبُهُ وَصَفَت نَفسُهُ وَدَمَعَت عَينُهُ، وَخَشَعَت جَوَارِحُهُ وَارتَفَعَ صَوتُهُ بِالدُّعَاءِ، وَتَوَاضَعَ وَتَطَامَنَ وَأَقلَعَ عَن كِبرِهِ، فَهَذَا غَايَةُ كَمَالِهِ وَمُنتَهَى جَمَالِهِ، وَاللهُ - تَعَالى - هُوَ اللَّطِيفُ، وَمِن لُطفِهِ بِعَبدِهِ أَن يَبتَلِيَهُ بِبَعضِ المَصَائِبِ، فَيُوَفِّقَهُ لِلصَّبرِ عَلَيهَا، فَيُنِيلَهُ بِذَلِكَ دَرَجَاتٍ عَالِيَةً مَا كَانَ لَهُ أَن يُدرِكَهَا بِعَمَلِهِ" وَ ﴿ إِنَّمَا يُوَفىَّ الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10] أَلا فَكُونُوا مَعَ اللهِ في كُلِّ حِينٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكُونُوا مَعَهُ في حَالِ العَافِيَةِ وَالسَّلامَةِ وَالرَّخَاءِ، يَكُنْ مَعَكُم عِندَ المُصِيبَةِ وَالشِّدَّةِ وَالبَلاءِ، قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: "احفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ، احفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيهِ في الرَّخَاءِ يَعرِفْكَ في الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلتَ فَاسأَلِ اللهَ، وَإِذَا استَعَنتَ فَاستَعِنْ بِاللهِ، قَد جَفَّ القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَو أَنَّ الخَلقَ كُلَّهُم جَمِيعًا أَرَادُوا أَن يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ لم يَكتُبْهُ اللهُ عَلَيكَ لم يَقدِرُوا عَلَيهِ، وَإِن أَرَادُوا أَن يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لم يَكتُبْهُ اللهُ عَلَيكَ لم يَقدِرُوا عَلَيهِ، وَاعلَمْ أَنَّ في الصَّبرِ عَلَى مَا تَكرَهُ خَيرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَربِ، وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا" رَوَاهُ الإِمَامُ أَحمَدُ.

    الشيخ عبد الله البصري
    شبكة الألوكة 
     
     
     
     
     
     

  22.  Image may contain: cloud, sky, ocean, text, water and outdoor


    الربع الأول من سورة النساء


    الآية 1: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ وهي نفس آدم عليه السلام، ﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾: يعني وخلق حواء عليها السلام من ضلع آدم ﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا ﴾ يعني: وخلق من آدم وحواء بالتناسل: ﴿ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ في أنحاء الأرض، ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ ﴾: أي: الذي يَسْأل به بعضكم بعضًا، فيقول العبد لأخيه: (باللهِ عليكَ افعَل كذا)، (﴿ وَالْأَرْحَامَ ﴾): يعني واحذروا أن تقطعوا الأرحام ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾.

    الآية 2: ﴿ وَآَتُوا الْيَتَامَى ﴾ (وهم الذين مات آباؤهم وهم قبل سن البلوغ)، فإذا كنتم أوصياء عليهم فآتوهم ﴿ أَمْوَالَهُمْ ﴾ التي لهم عندكم (هذا إذا وصلوا سن البلوغ، ورأيتم منهم قدرة على حفظ أموالهم)، ﴿ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ﴾: يعني ولا تأخذوا الجيِّد من أموالهم، وتجعلوا مكانه الرديء من أموالكم، كأن تعطوهم شاة نحيفة وتأخذوا مكانها شاة سمينة، وغير ذلك ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾: يعني ولا تخلطوا أموالهم بأموالكم بقصد أن تحتالوا بذلك على أكل أموالهم ﴿ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴾: يعني إنَّ مَن فعَلَ ذلك فقد ارتكب إثمًا عظيمًا.

    الآية 3: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ﴾: يعني وإن أردتم الزواج من البنات اليتامَى (اللاتي كنتم أوصياء عليهم)، وخِفتم ألا تَعدِلوا فيهنّ، وذلك بألا تعطوهنّ مُهورهنّ كغيرهنّ: ﴿ فَانْكِحُوا ﴾: يعني فاتركوهنّ وانكحوا غيرهنّ مِن ﴿ مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا ﴾ بينهنّ: ﴿ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾: يعني فاكتفوا بواحدة، أو بما عندكم من الجَوَاري المملوكة لكم شرعاً (إن وُجِدْنَ)، ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي شَرَعتُهُ لكم في اليَتيمات والزواج من واحدة إلى أربع، أو الاقتصار على واحدة أو الجَوَاري هو ﴿ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾: يعني أقرب إلى عدم ظلم الزوجات (بترك العدل بينهنّ في العطاء).

    الآية 4: ﴿ وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ ﴾: يعني وأعطوا النساء مُهورهنّ، (واعلم أن صَدُقات: جمع صَدُقة (بضَمّ الدال) وهو الصَداق الذي يُعرَفُ بالمَهر)، ﴿ نِحْلَةً ﴾: يعني عَطِيَّة واجبة وفريضة لازمة، عن طِيب نفسٍ منكم، ﴿ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا ﴾: يعني فإن طابَتْ أنفسهنّ لكم عن شيءٍ من المهر فوهَبْنَهُ لكم، ﴿ فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴾: أي فخذوه، وتصرَّفوا فيه، فهو حلالٌ طيب.

    الآية 5: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ ﴾ وهم اليتامى الذين لا يُحسِنون التصرف في المال ﴿ أَمْوَالَكُمُ ﴾: يعني ولا تعطوهم أموالهم التي تحت أيديكم، حتى لا يضعوها في غير وجهها، لأن هذه الأموال هي ﴿ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ﴾: يعني: التي عليها قيام حياة الناس، ﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ﴾: أي وأنفقوا عليهم منها، وَاكْسُوهُمْ، واعلم أنه تعالى قال: (وارزقوهم فيها)، ولم يقل: (وارزقوهم منها) إشارةً إلى أن المال ينبغي أن يُستثمَر لهم في تجارة أو صناعة أو زراعة، بحيث يَبقى رأس المال محفوظاً، وتكون النفقة والكِسوة عليهم من الربح فقط، ﴿ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾: يعني قولاً تَطِيبُ به نفس اليتيم، فلا يغضب ولا يحزن إذا لم يُعطَ من المال، كأن تقولوا له: (هذا مالكم نحفظه لكم لتأخذوه يوم ترشدون).

    الآية 6: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ﴾: يعني واختبروا مَن تحت أيديكم مِن اليتامَى لمعرفة قدرتهم على حُسن التصرف في أموالهم، ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ﴾ وهو سن البلوغ ﴿ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا ﴾: يعني فإذا عَلمتم منهم صلاحًا في دينهم، وقدرة على حفظ أموالهم: ﴿ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ ﴿ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ﴾: يعني ولا تعتدوا على أموالهم بإنفاقها في غير موضعها (إسرافًا ومُسارَعةً بأكلها قبل أن يكبروا فيأخذوها منكم، ﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾ بغِناه ولا يأخذ من مال اليتيم شيئًا، ﴿ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾: يعني فليأخذ من مال اليتيم (الذي تحت يديه) بقدر حاجته عند الضرورة، ويَرُدُّهُ إليه متى تَيَسَّرَ له ذلك، ﴿ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا ﴾ أحد الناس ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾، وذلك ضمانًا لوصول حقهم كاملاً إليهم لئلا يُنكِروا ذلك، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾: يعني ويكفيكم أن الله شاهدٌ عليكم، ومُحاسِبُكم على ما فعلتم في أموالهم.

    الآية 7: ﴿ لِلرِّجَالِ ﴾: يعني للذكور (صغارًا أو كبارًا) ﴿ نَصِيبٌ ﴾ شرعه الله لهم ﴿ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ﴾: يعني فيما تركه الوالدان والأقربون من المال، ﴿ وَلِلنِّسَاءِ ﴾ كذلك ﴿ نَصِيبٌ ﴾ شرعه الله لهنّ ﴿ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ﴾ ﴿ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾: يعني وذلك في أنصِبَةٍ محددة فرضها الله عز وجل، سواء كان المال قليلا أو كثيرًا.

    وقد كان العرب في الجاهلية - مِن جبروتهم وقسوتهم - لا يورثون النساء والصبيان، ويجعلون الميراث كله للرجال الأقوياء، فأراد الرب الرحيم الحكيم أن يُشَرِّع لعباده شرعًا، يستوي فيه رجالهم ونساؤهم، وأقوياؤهم وضعفاؤهم.

     واعلم أن الميت إذا ترك شيئاً لا يَقبل التقسيم (كالدار الصغيرة، والجوهرة الواحدة، وغير ذلك)، فالراجح أن هذا الشيء يُباع ويُقسَّم ثمَنَهُ على الوَرَثة، وذلك لتَعَذُّر قِسمتِه.

    الآية 8﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ ﴾: يعني وإذا حضر قسمةَ الميراث أقاربُ الميت (مِمَّن لا حقَّ لهم في التَرِكة)، أو حضرها مَن مات آباؤهم وهم صِغار، أو حضرها مَن ليس لهم مال: ﴿ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ﴾: يعني فأعطوهم شيئًا من المال (على وجه الاستحباب) قبل تقسيم التَرِكة على أصحابها، ﴿ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾: يعني وإن تَعَذَّرَ إعطاؤهم من المال: فقولوا لهم قولا حَسنًا، كاعتذارٍ جميل تَطِيبُ به نفوسهم، ولا تُهِينوهم ولا تطردوهم.

    الآية 9: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ﴾: يعني ولْيَخَف الذين لو ماتوا وتركوا من خلفهم أبناء صغارًا ﴿ ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ ﴾ من الظلم والضياع، ﴿ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ﴾ فيمن تحت أيديهم من اليتامى وغيرهم، وذلك بحفظ أموالهم، وحُسن تربيتهم، ودَفْع الأذى عنهم، ﴿ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾: يعني قولاً موافقا للعدل والمعروف (لأنه كما تَفعلُ معهم: سَيُفعَلُ مع أبنائك بعدَ موتك، وكما تدين تدان).

    الآية 11: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ ﴾ ويأمركم ﴿ فِي ﴾ شأن ﴿ أَوْلَادِكُمْ ﴾ أنه إذا مات أحدٌ منكم (ذكراً كانَ أو أنثى)، وترك أولادًا (ذكورًا وإناثًا)، ولم يكن هناك وارثٌ غيرهم، فإنّ ميراثه كله يكون لهم، بحيث يكونُ ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ﴾: يعني مثل نصيب ﴿ الأُنْثَيَيْن ﴾.

     فعلى سبيل المثال: لو أنّ المَيِّت ترك ولدين وثلاث بنات، وترك لهم أربعة عشر ديناراً، فإننا سنفترض أن هذه التَرِكة عبارة عن مجموعة من الأسهُم، ثم نوزع هذه الأسهم على أولاد المَيِّت، بحيث يأخذ الولد سهمين، والبنت تأخذ سهماً واحداً، فبالتالي يكون نصيب الولدين كالآتي: (2 (وهو عدد الأولاد) × 2 (وهو عدد الأسهم لكل ولد منهم)) = 4 أسهم، ويكون نصيب البنات كالآتي: (3 (وهو عدد البنات) × 1 (وهو عدد الأسهم لكل بنت منهن)) = 3 أسهم، وبهذا يكون مجموع هذه التَرِكة المفترَضة: (4 أسهم للأولاد + 3 أسهم للبنات) = 7 أسهم.

    ثم نقسم الأربعة عشر ديناراً (وهي التَرِكة الحقيقية) على السبعة أسهم (وهي التَرِكة المفترَضة)، فبالتالي يكون نصيب السهم الواحد كالآتي: (14 دينار ÷ 7 أسهم) = دينارين ، وبما أن الولد له سهمان، إذن يكون نصيب الولد الواحد: (2 × 2 دينار) = أربعة دنانير، ويكون نصيب البنت سهماً واحداً (يعني: ديناران).

     فإن ترك المَيِّت ولداً ذكراً فقط: فإن الولد يأخذ التَرِكة كلها، وأما إن ترك أولاداً ذكوراً فقط: فإن التَرِكة كلها تُقسَّم على الأولاد الذكور بالتساوي، (ويُلاحَظ في كل الحالات السابقة أن المَيِّت إذا ترك زوجته مع الأولاد، فإن الزوجة تأخذ ثُمُن التَرِكة (كما سيأتي)، ثم يُقسَّم الباقي على الأولاد).

    • واعلم أن الجَنين (الذي مات أبوه وهو في بطن أمه) فإنه يشترك مع الأبناء في تقسيم الميراث (يعني يعتبرونه ضمن القِسمة، ويحفظون له حقه)، فإن عُلِمَ بالوسائل الحديثة أن الجنين أنثى: فإنهم يحفظون لها سهماً واحداً، وإن عُلِمَ أنه ذكر: فإنهم يحفظون له سهمين، وإن لم يُعلَم: (فإنه يُحفَظ له نصيب ذكر (يعني سهمين)، فإذا اتضح بعد ذلك أنه أنثى: فإن السهم الآخر يُوَزَّع على جميع الأولاد كأنه تَرِكة منفصلة)، فإذا كانا (توأم)، ولم يُعلَم: (هل هم ذكور أو إناث؟)، فإنهم يحفظون لهما نصيب ذكرين (يعني أربعة أسهم)، فإذا اتضح بعد ذلك أنهما (أنثَيان، أو أنثى وذكر): فإن الأسهم الزائدة تُوَزَّع على جميع الأولاد كأنها تَرِكة منفصلة.

     وأما إن ترك المَيِّت بناتٍ فقط فقد قال تعالى: ﴿ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ﴾: يعني: فإن مات وترك بناتٍ فقط، وكانت هذه البنات (اثنتين فأكثر): ﴿ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ﴾: يعني: فيكون لهن ثُلُثَي التَرِكة، ثم تأخذ زوجة المَيِّت ثُمُن التَرِكة (إن كانت موجودة)، والباقي يأخذه العَصَبَة، والعَصَبَة: هم أقرباء الرجُل من أَبيه، وهم - في أحَقيَّتِهِم للميراث - على الترتيب التالي: (بُنُوَّة - أُبُوَّة - أُخُوَّة - عُمومة).

     والمقصود بالبُنُوَّة: (أبناء المَيِّت، ويليهم في الترتيب: أولاد (أبناءه الذكور)، وهم أحفاد الميت (وهؤلاء لا يأخذون إلا إذا كان أبوهم مَيِّتاً، فيأخذون نصيبه).

     والمقصود بالأُبُوَّة: (أبو المَيِّت، ويليه في الترتيب جدّه (وهو أبو والد الميت)).

     والمقصود بالأُخُوَّة: (إخوة المَيِّت وأخواته الأشِقَّاء، ويليهم في الترتيب: إخوة المَيِّت وأخواته (الذين من جهة أبيه)، ويليهم: الأبناء الذكور (لإخوته الذكور الأشِقّاء)، ويليهم: الأبناء الذكور (لإخوته الذكور الذين من جهة أبيه) (واعلم أن أولاد الإخوة (سواء الأشِقّاء أو الذين من جهة أبيه) لا يأخذون إلا إذا كان أبوهم مَيِّتاً فيأخذون نصيبه)).

     والمقصود بالعُمومة: (أعمام المَيِّت الذكور، ويليهم في الترتيب: الأبناء الذكور لأعمام المَيِّت (وهؤلاء لا يأخذون إلا إذا كان أبوهم مَيِّتاً فيأخذون نصيبه)).

     ومعنى (ترتيبهم في أحَقيَّتِهِم للميراث) أنه إذا وُجِدَ أحد هؤلاء (على الترتيب السابق) فإنه يَحجُب مَن بَعدَهُ في الترتيب، بمعنى أنَّ مَن بَعدَهُ في الترتيب لا يكون له حق في الميراث طالما أنَّ مَن قبله موجود، (باستثناء والد المَيِّت، فإنّ له نصيباً مفروضاً وهو السدس، سواء كان أبناء المَيِّت موجودين أو لا، كما سيأتي).

     واعلم أيضاً أنه ليس لهؤلاء العَصَبة قدْرٌ مُحَدَّد في الميراث، وإِنَّما يأْخذون ما تبَقى من الورثة الذين لهم قدر مُحَدَّد في الشرع، بحيث يُقسَّم عليهم هذا المتبقي على أساس: (للذكر مثل نصيب الأُنْثَيَيْن).

    ﴿ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً ﴾: يعني وإن ترك المَيِّت بنتاً واحدة: ﴿ فَلَهَا النِّصْفُ ﴾: أي فلها نصف التَرِكة، والباقي يأخذه العَصَبة، وكذلك الحال إذا مات وترك (بنت ابنِهِ) وعَصَبة: فإنّ بنت الابن هنا تأخذ النصف (مثلما تأخذ بنت الميت إذا كانت موجودة)، والباقي يأخذه العَصَبة، وأما إنْ ترك (بنات ابنِهِ) وعَصَبة: فإنّ بنات الابن هنا يأخذنَ الثلثين (مثلما تأخذ بنات الميت إذا كُنّ موجودات)، والباقي يأخذه العَصَبة.

    واعلم أن المَيِّت إذا ترك (أمه وأباه، وترك أيضاً أولاداً (ذكوراً وإناثاً، أو ذكوراً فقط)): فإنَّ لكل واحد مِن أبويه سدس التَرِكة، والباقي للأولاد، كما قال تعالى: ﴿ وَلِأَبَوَيْهِ ﴾: يعني ولوالِدَي المَيِّت: ﴿ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ﴾: يعني هذا إذا كان عند المَيِّت أولاد (ذكوراً وإناثاً، أو ذكوراً فقط).

     أما إن مات وترك (أمه وأباه وزوجته، وترك معهم بناتٍ فقط (أو بنتاً واحدة)): فإنَّ البنات يَأخذنَ نصيبهنّ (كما سبق)، ويأخذ أبوه السدس، وأمه السدس، وزوجته الثُمُن، والباقي يَرِثُهُ أبوه (بالتعصيب)، لأنه يَحجُبُ مَن بَعدَهُ في ترتيب العَصَبة، ﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ﴾: يعني وإن لم يكن له أولاد نهائياً، وورثه أبواه فقط: فلأمه ثلث التركة، ولأبيه الباقي، ﴿ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ﴾: يعني فإن كان للمَيِّت إخوة (اثنان فأكثر) (ذكورًا كانوا أو إناثًا): فلأمه السدس فقط، وللأب الباقي ولا شيء لإخوته، لأن الأب يَحجُبُ مَن بَعدَهُ في ترتيب العَصَبة، (ولَعَلَّ الحِكمة من ذلك - واللهُ أعلم - أنّ والدهم هو الذي توَلَّى نِكاحَهُم، وكذلك يَتولى نكاح مَن لم يتزوج منهم، وهو الذي يُنفِقُ عليهم دونَ أمّهم)، وأما إذا كانَ للميت أخ واحد فقط، أو أخت واحدة فقط: فإنَّ لأمه الثلث (كما هو الحال لو لم يكن له إخوة أصلاً)، ولأبيه الباقي.

     واعلم أنه إذا كانت أم المَيِّت مَيِّتة، وكان للمَيِّت جدَّة، فإنَّ جدَّة المَيِّت ترث السدس فقط (سواء كان له إخوة أو لا)، أما لو كانت أم المَيِّت موجودة: فلا شيء لِجدَّة المَيِّت، وكذلك الحال إذا كان والد المَيِّت مَيِّتاً، وكان للمَيِّت جدّ، فإن جدّ المَيِّت يَرث ما يَرثه والد المَيِّت، أما إذا كان والد المَيِّت موجوداً: فلا شيء لجدّ المَيِّت.

    (﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾): يعني وهذا التقسيم للتَرِكة إنما يكون بعد إخراج وَصِيّة المَيِّت (كأن يُوصي قبل مَوتِه ببناء مسجد أو غير ذلك، بشرط أن تكون هذه الوصية لا تزيد على ثلث التَرِكة، فإن زادت على الثلث، فإن الورثة لا يُخرجون من الميراث إلا الثلث)، وكذلك بعد إخراج ما على المَيِّت مِن دَيْن، واعلم أن الراجح من أقوال العلماء: أنَّ مَن مات وعليه (زكاة أو حَجّ أو كان لم يَعتمِر أو كان عليه كفارة أو نذر)، فإن ذلك يُؤخَذ مِن تَرِكَتِه قبل تقسيم المِيراث (سواء أوصَى المَيِّت بذلك أو لم يُوصِ)، لأنَّ دَيْن الله أحق بالوفاء، وعندئذٍ يختار أهلُهُ مَن يَحُجّ عنه من هذا المال بالإنابة.

     فنَفِّذوا هذه الوصية المفروضة كما عَلَّمَكُم الله، ولا تُفَضِّلوا أحداً على أحد، فإنّ هؤلاء الوارثين هم ﴿ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ﴾ و (لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) في دُنياكم وأخراكم، وقد كانت هذه الوصية ﴿ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ﴾ عليكم ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا ﴾ بخلقه وبما ينفعهم ﴿ حَكِيمًا ﴾ في شرعه، وفي تدبيره لشؤونهم، فارضوا بقسمته، فإنها قسمة عليم حكيم.

     واعلم أن الولد الكافر قد خرج مِن قوله تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أَوْلَادِكُمْ ﴾، لأنه لا حَقّ له في الميراث، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين - : (لا يَرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ)، وهذا يدل على أهمية السُنَّة، فهي - ليست فقط تُفَصِّل القرآن - وإنما هي أيضاً تُقَيِّد مُطْلَق القرآن، بمعنى أن القرآن هنا قد أطلقَ لفظ (أولادكم)، بحيث يَشمل (المسلم منهم والكافر)، ولكنْ جاءت السُنَّة فقيَّدت الولد بأنه المسلم فقط وليس الكافر.

     وفي هذا رَدٌّ واضح على مَن يأخذون القرآن ويتركون السُنَّة، ومع ذلك فنحن نتلطف بهم، ونقول لهم: (هل تأكلون السمك مذبوحاً (قبل أن يموت)؟، أم تأكلونه (مَيْتَةً) بدون ذبْح؟)، فإذا كانوا يأكلونه بدون ذبح، فليأتونا بآيةٍ من القرآن تبيح أكْل السمك مَيتاً بدون ذبح!، ومع ذلك فهم يأكلونه مَيتاً على الرغم مِن أنّ القرآن لم يَحِلّ مَيْتَتُه، فقد قال تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾، ولم يَستثنَ منها شيئاً، وإنما جاءت السُنَّة فأحَلَّتْ مَيْتَة السمك.

     فالسُنَّة توضح القرآن وتُكَمِّله، فهي مُنَزَّلة مثل القرآن سواءٌ بسواء، قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ يعني: القرآن والسُنَّة، والدليل على أنّ الحِكمة هي السُنَّة: قوْلُ الله تعالى لنساءِ النبي: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ﴾، وإلاّ، فماذا كانَ يُتلَى في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن والسُنَّة؟

     وعندما تطاول بعض الخلق على السُّنَّة ووضعوا فيها أحاديث مكذوبة، قيَّضَ الله للسُنَّةِ رجالاً، وسَخَّرَ لها علماءً ليتتبعوا الأسانيد، وليُظهِروا للناس الأحاديث الصحيحة من غيرها، أليس هذا التوفيق دليلاً على أن الله قد حفظ السُنَّة الصحيحة كما حفظ القرآن؟، وبما أنكم تقِرُّون بقول الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾، إذن فدعونا نسأل: (أين وَرَدَ في القرآن عدد ركعات الصلوات وكيفية أدائها؟! وأين ورد كيفية أداء مناسك الحج؟!، وأين ورد مقدار الزكاة المفروضة؟!) (فتبيَّنَ مِن ذلك أنه لا استغناء عن السُنَّة مُطلقاً بأي وَجْهٍ من الوجوه).

     واعلم أن هؤلاء قد أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهورهم حينَ قال: ((ألاَ إني أوتِيتُ الكتاب - (وهو القرآن) - ومِثله معه - (وهي السُنَّة) - ألاَ يُوشِكُ رجلٌ شبعان على أريكَتِه يقول: (عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه مِن حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه مِن حرامٍ فحَرِّموه)، ألاَ لاَ يَحِلّ لكم لحم الحِمار الأهلي - (وهو الحمار المُستأنَس الذي يعيش بين الناس، ويَحمل أثقالهم)) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 2643)، فعلى مَن يفعل ذلك أن يرجع إلى ربه الكريم الغفار بالتوبة، وليَحذر مِن تهميش السُنَّة، وذلك حتى لا يُحرَم من الشُرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم عند اشتداد الحر والعطش يوم القيامة.
     

    الربع الثاني من سورة النساء


     
    الآية 12: ﴿ وَلَكُمْ ﴾ أيها الرجال ﴿ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ﴾ بعد وفاتِهنّ ﴿ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ﴾: يعني هذا إذا لم يكن لهنّ أولاد (ذكورًا كانوا أو إناثاً)، ثم يُقسَّم النصف الآخر على عَصَبة الزوجة (إن وُجِدوا)، فإن قُدِّرَ أنها ماتت وتركَتْ (زوجها وأباها وأمّها): فيكون للزوج النصف، وأما النصف الآخر فيكون (ثلثه للأم، وثُلُثاهُ للأب) (وهذه حالة استثنائية)، فإن ماتت وتركَتْ (زوجها وإخوتها الأشِقاء): فيكون للزوج النصف، وأما النصف الآخر فيُقَسَّم بين الإخوة على أساس: (للذكر مثل حظ الأُنْثَيَيْن)، فإن لم يكن لها عَصَبة نهائياً: فإن النصف الآخر يُقسَّم على ذوي أرحامها، عِلماً بأنّ ذوي الأرحام هم كل أقارب الميت الذين (ليس لهم قدر مُحَدَّد في الميراث، وكذلك ليسوا مِن العَصَبة) (مثل أخوال الميت وخالاته وعَمَّاته وأولادهم، وغيرهم).

    (﴿ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ ﴾): يعني فإن كان للزوجة أولاد (ذكورًا كانوا أو إناثاً) منكم أو مِن غيركم: ﴿ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ﴾ والباقي للأولاد، وذلك (﴿ مِنْ بَعْدِ ﴾) إنفاذ ﴿ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا ﴾ ﴿ أَوْ دَيْنٍ ﴾ عليهن يُؤدَّى لمُستحِقّيه.

    ﴿ وَلَهُنَّ ﴾: يعني ولأزواجكم ﴿ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ﴾ بحيث يُقسَّم هذا الرُبع بين الزوجات (إنْ كُنَّ أكثر من واحدة)، فإن كانت زوجة واحدة: كان الرُبع مِيراثًا لها، ويكون الباقي لعَصَبة الرجل، فإن لم يكن له عَصَبة نهائياً: فإن الباقي يُقسَّم على ذوي أرحامه، ﴿ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ ﴾: يعني فإذا كانَ لكم أولاد (ذكورًا كانوا أو إناثاً)، مِنهُنّ أو مِن غيرهِنّ: ﴿ فَلَهُنَّ ﴾: يعني فللزوجات ﴿ الثُمُن مِمَّا تَرَكْتُمْ ﴾ بحيث يُقسَّم هذا الثُمُن بين الزوجات (إن كُنَّ أكثر من واحدة)، فإن كانت زوجة واحدة: كان الثُمُن ميراثًا لها، والباقي للأولاد، وذلك ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾.

    ﴿ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ﴾: يعني وإن مات رجل أو امراة وليس له ولد ولا والد (يعني ليس له ابن ولا ابنة (ولا ابن ابن، ولا ابنة ابن)، وكذلك ليس له أب (ولا والد أب)، وإنما: ﴿ وَلَهُ أَخٌ ﴾ واحد (من جهة أمه، كما ورد ذلك في بعض القراءات الأخرى)، ﴿ أَوْ ﴾ كانت له ﴿ أُخْتٌ ﴾ واحدة من جهة أمه أيضاً: ﴿ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ﴾: يعني فإنّ هذا الأخ يأخذ السُدس، وإن كانت أختاً واحدة: فإنها تأخذ السدس، ويُقسَّم الباقي (وهو الأسداس الخَمس الباقين) على عَصَبَته (بمعنى أنّ الباقي يُقسَّم على إخوته الأشقاء (إن وُجِدوا)، وذلك على أساس: ﴿ للذكر مثل حظ الأُنْثَيَيْن ﴾، وكذلك الحال إذا كان له إخوة من جهة أبيه، فإن الباقي يُقسَّم عليهم على أساس: (للذكر مثل حظ الأُنْثَيَيْن)، وأما إن كان له (إخوة أشقاء، وكان له أيضاً إخوة من جهة أبيه): فإن الإخوة الأشقاء يأخذون الباقي، ولا شيء لإخوته الذين من جهة أبيه، لأن الإخوة الأشقاء أقوى منهم في درجة القرابة) (انظر تفسير الآية السابقة)، فإن لم يكن له إخوة (لا أشقاء ولا من جهة أبيه)، فإن الباقي يُقسَّم على الأعمام بالتساوي (إن وُجِدوا)، فإن لم يكن له عَصَبة نهائياً: فإن الباقي يُرَدّ إلى أخيه من أمه (الذي أخذ السدس (فَرْضاً)).

    ﴿ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ﴾: يعني فإنْ كان الإخوة أو الأخوات (الذين من جهة أمه) أكثر من واحد: فهم شركاء في ثلث تَرِكَتِه، بحيث يُقسَّم بينهم ذلك الثلث بالمساواة، (لا فرق بين الذكر والأنثى)، ويكون الباقي للعَصَبة، فإن لم يكن له عَصَبة نهائياً: فإن الثلثين الباقِيَيْن يُرَدُّون إلى إخوته من أمه، ويُقَسَّم بينهم بالتساوي أيضاً.

     وأما إذا كَانَ - هذا الرَجُل الذي يُورَثُ كَلَالَةً - ليس له إخوة من جهة أمه، وإنما كان له فقط إخوة أشقاء (أو إخوة من جهة أبيه): فحُكمُهُم مذكور في آخر آية من هذه السورة، ومَضمونها أنه إن مات ولم يترك إخوة من أمه، وإنما ترك أختاً شقيقة (أو أختاً من جهة أبيه فقط) فإنها تأخذ نصف تَرِكَتِه، والباقي يُقسَّم على العَصَبَة، فإن لم يكن له عَصَبة نهائياً: فإن الباقي يُرَدّ إليها، فإن كان له أختان (شقيقتان، أو من جهة أبيه فقط): فلهما الثلثان مما ترك، والباقي يُقسَّم على العَصَبة، فإن لم يكن له عَصَبة نهائياً: فإن الباقي يُرَدّ إليهما، وأما إن ترك أخوة (ذكوراً وإناثاً) (أشقاء، أو من جهة أبيه): فإن التَرِكَة كلها تقسم عليهم على أساس: (للذكر مثل نصيب الأُنْثَيَيْن).

     وإذا ماتت امرأة - تُورَثُ كَلَالَةً - ولكنْ لم يكن لها أخوة من جهة أمها، وإنما ترَكَتْ أخاً شقيقاً، (أو أخاً من جهة أبيها فقط): فإنه يَرث جميع مالها، فإن تركتْ أخوة (ذكوراً وإناثاً) (أشقاء، أو من جهة أبيها): فإن التَرِكَة كلها تُقسَّم عليهم على أساس: (للذكر مثل نصيب الأُنْثَيَيْن).

     واعلم أن الميت إذا مات وترك ((أمَّاً أو جدّة)، وكذلك ترك إخوة من جهة أمه، وكذلك ترك إخوة أشقاء): فإن الأم - أو الجدة - تأخذ السدس، ثم يُقسَّم الثلث على الإخوة الذين من جهة أمه بالتساوي (كما سبق)، ويُقسَّم الباقي على الإخوة الأشقاء.

     وأما إن ترك ((أمَّاً أو جدّة)، وكذلك ترك إخوة أشقاء فقط، (أو إخوة من جهة أبيه فقط)): فإن الأم - أو الجدة - تأخذ السدس، ثم يُقسَّم الباقي على الإخوة الأشقاء - أو الإخوة الذين من جهة أبيه - على أساس: (للذكر مثل حظ الأُنْثَيَيْن).

    وذلك ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا ﴾: يعني يُوصَى وارثُ الميت بتنفيذها، ﴿ أَوْ دَيْنٍ ﴾ على الميت يُخرِجُهُ وارثه من التَرِكة، بشرط أن يكون الميت ﴿ غَيْرَ مُضَارٍّ ﴾: يعني (بشرط ألاَّ يكون الميت قد أوْصَى بشيء فيه ضرر على الورثة)، فقد يُوصِي بأكثر من الثلث، أو يَزعم أنّ عليه دَيْن، وهو ليس عليه شيء، وإنما فعل ذلك حسداً للورثة أو بُغضاً لهم لا غير، فإنْ تبَيَّنَ ذلك، فلا تُنَفَّذ الوصية، ولا يُسَدَّد الدَيْن، وتُقَسَّم التَرِكَة كلها على الورثة.

     واعلم أنّ لفظ (مُضارّ): هو اسم فاعل، بمعنى (مُضارِر)، فأُدْغِمَتْ الراء في الراء فصارت: (مُضارّ)، فيكون معنى: (غير مُضارّ): أي وهو غير مُريد الإضرار بالورثة، (ولَعَلَّ الحِكمة من تقديم لفظ الوصية على الدَيْن - مع أنَ الدَيْن يُخرَج قبل الوصية - أنه لا يُوجد مَن يُطالِب بالوصية فقد تُنسَى، وأما الدَيْن فإنّ أهله يُطالِبون به فلا يُنسَى ولا يُترَك).

     بهذا أوصاكم ربكم ﴿ وَصِيَّةً ﴾ نافعة لكم ﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾ ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ بما يُصلِحُ خَلقِه ﴿ حَلِيمٌ ﴾ لا يعاجلهم بالعقوبة، ولكنْ لا يَغُرَّنَّكم حِلمَه فإنّ بَطْشه شديد وعذابه أليم.

    الآية 17: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ ﴾: يعني إنَّما يَقبل اللهُ التوبة من الذين يرتكبون المعاصي والذنوب ﴿ بِجَهَالَةٍ ﴾: يعني بجهلٍ منهم لِسُوء عاقبة هذه الذنوب، وبجهلهم بقدْر ربهم الذي عصوه، ولكنْ بشرط: ﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾ فلا يُؤخرون التوبة ولا يُسَوِّفونها (يعني لا يقول العبد: سوف أتوب، لأنّه لا يَضمَن أن يُمهِلَهُ اللهُ ليتوب)، ﴿ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾: يعني يَقبل توبتهم، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا ﴾ بضَعف عباده ﴿ حَكِيمًا ﴾ يضع كل شيء في موضعه اللائق به، ومِن ذلك قبول توبة مَن عصوه بجهالة (لا بعنادٍ ومُكابرةٍ وتحدٍ)، ثم تابوا من قريب.

    الآية 19: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ﴾: يعني لا يجوز لكم أن تجعلوا نساء آبائكم مِن جُملة تَرِكَتِهم، فتتصرفون فيهنّ بالزواج منهنّ، أو تزويجهنّ للآخرين، وهنّ كارهاتٌ لذلك كله، ﴿ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ ﴾: يعني ولا تمنعوهنّ من الزواج، حتى لا تضطر هذه المرأة المظلومة إلى إعطائكم شيئًا مما وَرِثتْهُ من ميراث آبائكم، حتى تتخلص مِن هذا الظلم والتحكم.

     وكذلك لا يجوز للزوج إذا كره زوجته أن يضايقها حتى تفتدي منه ببعض مهرها ﴿ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ كالزنى، أو أن تتكبَّر الزوجة على طاعة الزوج، وتتمرد عليه، ولا تعطيه حقه في المعاشرة بالمعروف، فحينئذٍ يجوز للزوج أن يضايقها حتى تفتدي منه بمهرها أو بأكثر حتى يُطلقها، وذلك حتى لا يكون قد تضرَّر من الناحيتين: (مِن سُوء عِشرَتها، ومِن دفْع مهرها إذا طلَّقها)، إذ إنها هي البادئة بالضرر وليس هو، ومع ذلك: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾: يعني ولتكن مصاحبتكم لنسائكم مَبنية على التكريم والمحبة واللطف، وأداء ما لهنّ من حقوق.

     واعلم أنَّ مِن المعاشرة بالمعروف: ألاَّ يَعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون ليِّناً ورفيقاً في القول، ليس فظاً ولا غليظاً، ولا مُظهِراً مَيْلاً إلى غيرها، وألاَّ يَقلْ لها على سبيل الاحتقار: (أنتي ناقصة عقل ودين)، فليتق اللهَ ولْيَفهم أنَّ نُقصان العقل عند المرأة إنما يكونُ بسبب تغليبها العاطفة على العقل، وذلك حتى يَتغلَّب على طبْعها صفة الحنان، فيتسِّع بذلك قلبُها لهموم زوجها، لتكونَ خيرَ مُهَوِّنٍ له على مَشقة الحياة، وأما نقصان الدين عندها: فلأنها تمتنع عن الصلاة في أيام حَيْضها، وليس ذلك بإرادتها.

    ﴿ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ ﴾ لِسُوء خُلقهنّ أو بَذاءة لسانهنّ أو غير ذلك: فاصبروا عليهنّ ولا تطلقهوهنّ ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾: يعني فلَعَلَّ اللهَ أن يجعل في بقائها خيراً كثيراً لكم (فبسبب صبركم عليهنّ وتقوى الله تعالى فيهنّ: قد يُذهِبُ اللهُ ذلك الكُره من نفوسكم، ويُحِلّ مَحَلَّهُ الحب والمَوَدَّة، وقد تُرزَقونَ منهنّ بولدٍ ينفعكم).

     واعلم أن هذه الآية قد تضمنتْ إبطال ما كانَ شائعاً بين الناس قبل الإسلام من الظلم اللاحق بالنساء، فقد كان الرجل إذا مات والده وترك زوجته: وَرِثها أكبر أولاده (مِن غيرها)، فإن شاء زَوَّجَها وأخذ مَهرها، وإن شاء أبقاها حتى تعطيه ما يَطلب منها من مال، فجاء الإسلامُ فرفع ذلك الظلم عن المرأة، فكَرَّمها وأعطاها حقوقها.

    الآية 20، والآية 21: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ ﴾: يعني وإن أردتم طلاقَ زوجةٍ واستبدالها بأخرى، ﴿ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ﴾: يعني وكنتم قد أعطيتم مَن تريدون طلاقها مالاً كثيرًا (مهرًا لها): ﴿ فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ﴾ ﴿ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾: يعني أتأخذونه كذبًا وافتراءً واضحًا؟ ، ﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ﴾: يعني وكيف يَحلُّ لكم أن تأخذوا ما أعطيتموهنّ مِن مهرٍ(﴿ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾: يعني وقد استمتع كلٌ منكما بالآخر بالجماع، ﴿ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾: يعني وقد أخذنَ منكم عهداً مؤكَّداً من إمساكهنّ بمعروف أو تسريحهنّ بإحسان؟

     واعلم أن المقصود بالميثاق الغليظ هوعقد النكاح، إذ يقول الزوج: نكحتُها على مبدأ: (إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)، فأين التسريح بإحسان إذا كان يضايقها حتى تتنازل عن مهرها أو عن شيء منه؟!، هذا هو ما أنكَره الله تعالى بقوله: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ)؟ إذ هو استفهام استنكاري لفظاعة هذا الأمر وخروجه عن اللياقة والأدب.

    الآية 22: ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ فبهذه الجُملة حُرِّمَتْ امرأة الأب على الابن (إذا طلقها الأب أو مات عنها، ولو لم يدخل بها)، فبذلك أصبحت زوجة الأب ضِمن المُحَرَّمات المذكورة في الآية التي بعد هذه، ﴿ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾: يعني إلا ما قد مضى منكم في الجاهلية قبل هذا التحريم، فهذا مَعفو عنه بالإسلام (بشرط التخلي عنه وعدم المُقام عليه)، بمعنى أنّ مَن فعل ذلك قبل إسلامه، ثم بلغه التحريم: فعليه أن يفارق زوجة أبيه، فإنها لا تحل له، وعليه أن يُعطِيَها حقها (المؤخَّر)، كما هو الحال في طلاق أيّ امرأة، وأما ما يتعلق بالأولاد الذين وُلِدوا منها فهؤلاء الأولاد مَنسوبون إليه، ومنسوبون إليها أيضاً رغم الفِراق التي حدث.

    ﴿ إِنَّهُ ﴾: يعني إنّ زواج الأبناء مِن زوجات آبائهم ﴿ كَانَ فَاحِشَةً ﴾: يعني كانَ أمراً قبيحاً يَعظُمُ قبْحه، ﴿ وَمَقْتًا ﴾: يعني وكان أمراً بغيضاً يَمقت الله فاعله، ﴿ وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾: يعني وبئس طريقًا ومنهجًا ما كنتم تفعلونه في جاهليتكم.

     واعلم أن المقصود بلفظ ﴿ آَبَاؤُكُمْ ﴾: (الأب وإن عَلا)، بمعنى أنه تَحْرُم زوجة الجد أيضاً على الابن وعلى ابن الابن.

     

     

     

    من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف أ.د. التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف) واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

    رامى حنفى محمود

    شبكة الألوكه الشرعية


    Image may contain: text

     

  23. ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾[ سورة محمد ]

    (فاعلم أنه لا إله إلا الله)
    في هذه الآية مراكِز ثِقَل  أنَّ الله تعالى قال: فاعْلَم، ولم يَقُل: فَقُلْ، فالشيء الثابتُ في العقيدة الإسلاميَّة أنَّ أيَة عقيدة يَعْـَقِدُها المسلِمُ تقْليدا لا تُقْبَلُ منه، وأنَّ الله عز وجل لو قَبِلَ التَّقليد في العقيدة لكانَت أيَّة فِرْقةٍ ضالَّة على حقّ، فما ذَنبُ أتباعها، سَمِعوا فتَّابوا ‍‍!! لو أمْكَنَ أن يكون التَّقليدُ في العقيدة لكانَتْ أيَّةُ فرقة ضالَّةٍ على حق، فالعقيدة لا تُقْبَلُ إلا تَحقيقًا /راتب النابلسي

    (واستغفر لذنبك) *
    يحتمل وجهين أحدهما:
    أن يكون الخطاب معه والمراد المؤمنون وهو بعيد لإفراد المؤمنين والمؤمنات بالذكر.
    وقال بعض الناس * (لذنبك) * أي لذنب أهل بيتك وللمؤمنين والمؤمنات أي الذين ليسوا منك بأهل بيت
    وثالثهما: المراد هو النبي والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحاشاه من ذلك
    وثالثها: وجه حسن مستنبط وهو أن المراد توفيق العمل الحسن واجتناب العمل السيء، ووجهه أن الاستغفار طلب الغفران، والغفران هو الستر على القبيح ومن عصم فقد ستر عليه قبائح الهوى، ومعنى طلب الغفران أن لا تفضحنا وذلك قد يكون بالعصمة منه فلا يقع فيه كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم وقد يكون بالستر عليه بعد الوجود كما هو في حق المؤمنين والمؤمنات
    وفي هذه الآية لطيفة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم له أحوال ثلاثة حال مع الله وحال مع نفسه وحال مع غيره، فأما مع الله وحده، وأما مع نفسك فاستغفر لذنبك واطلب العصمة من الله، وأما مع المؤمنين فاستغفر لهم واطلب الغفران لهم من الله * (والله يعلم متقلبكم ومثواكم) * يعني حالكم في الدنيا وفي الآخرة وحالكم في الليل والنهار._
    تفسير الرازي


    (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ )
    فيه خمسة أقوال :
    أحدها : يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم .
    الثاني : متقلبكم في أعمالكم نهارا ومثواكم في ليلكم نياما . وقيل : متقلبكم في الدنيا . ومثواكم في الدنيا والآخرة ، قاله ابن عباس والضحاك . وقال عكرمة : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات . ومثواكم مقامكم في الأرض . وقال ابن كيسان : متقلبكم من ظهر إلى بطن الدنيا . ومثواكم في القبور .
    قلت : والعموم يأتي على هذا كله ، فلا يخفى عليه سبحانه شيء من حركات بني آدم وسكناتهم ، وكذا جميع خلقه . فهو عالم بجميع ذلك قبل كونه جملة وتفصيلا أولى وأخرى . سبحانه! لا إله إلا هو .
    تفسير القرطبي

    36674166_234565790479583_3942122594328641536_n.jpg?_nc_cat=109&_nc_ohc=TBIEy0fmk3AAX-hLW8p&_nc_ht=scontent.fcai2-2.fna&oh=8b2a7f2c740899e31944f2bfd97dfc1b&oe=5E91B252

     

  24. وقد يكون أفضل ما تقدمه لإنسان آخر؛ أن تكون صادقا.."وواضحا " معه.. من البداية.. ﴿ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾.. ذلك أحرى لأن يكون أكثر تقبّلا.. وأكثر رضى بالمسار الذي تأخذه الأحداث لاحقا.. ﴿ قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾..
     
     
    وقد يتجلى لطفُ الله في هيئة شخص.. يُخبرك أنك لست في المكان الصحيح..
    ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾
     
     
    تتصالحُ مع الحياة أكثر.. تنظر لها بشكل مختلف.. وتتجاوز كثيرا.. حين تراها من خلال:
    ﴿ وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾
     
     
    القرآن يريد منك أن تكون ثابتا متّسقا؛
    لا تُؤثر في أحكامك العلاقات الشخصية
    ﴿أو الوالدين والأقربين﴾]،
    ولا المظاهر
    ﴿إن يكن غنيا أو فقيرا﴾
     
     
     إخوتك عزوتك.
    ‏﴿قال: ربّ إني لا أمْلكُ إلا نَفسي وأخي﴾ ..
    ‏شُعورُ التَّملّك هذا من أعلى درجاتِ المحبة .. أنْ تمتزجَ الرُّوحان ،، فتصيران شيئا واحدا ..‏
    لاتفرط فيهم
     
     
    ليس شرطا أن تبدو مُتماسكا دائما.
    ﴿ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا ﴾..
    الانكسار تعبير عن حقيقة إنسانيّتنا
    ﴿ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾..
     
     
    كل خيبات الأمل.. كانت لي أدلةً على أنّ هناك حياة أخرى..
    ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) .
     
     
    في العلاقات ••
    الحريصُ عليك حقا .. سيظل يحاولُ من أجلك إلى .. اللحظات الأخيرة ..
    ﴿ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ - وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ - يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا ﴾..
     
     
    وقفة مع آية
    ولا تدري .. قد يكون أعظم ما تُقَدِّمه لإنسان؛ أن تستمع إليه باهتمام .. أن تُطَمْئنَه .. أن تُذْهِبَ عنه الرّوع ..
    ﴿فلما جاءه وقصّ عليه القصصَ؛ قال: لا تَخَفْ﴾ ..
     
     
    •• في الأزمات
    ثم تغلق أمامك أبواب كثيرة.. ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ ﴾..
    من أجل أن يُفتح لك البابُ المناسب.. ﴿ فَقَالَتْ : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾..
     
     
    مهما عظُم قدرُ إنسانٍ ما في نفسك.. ومهما كان مُشْفِقا عليك..وناصحا لك ﴿ تُجادلُك في زوجها ﴾..
    يبقى أن هناك أشياء لا تُبثّ ولا تُحْكى إلا لله ﷻ : ﴿ وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾..
     
     
     علّمني القرآنُ ..
    أن التعليمَ الأكثر تأثيرا: ( هل أتّبعك على أن تُعَلّمنِ مما عُلّمتَ)؛ إنما يتأتى من خلال الصُّحبة: (تُصاحبني) التي تتمثل فيها المواقف الأخلاقي واقعا مشاهَدا.
     
     
    تتصالحُ مع الحياة أكثر.. تنظر لها بشكل مختلف.. وتتجاوز كثيرا.. حين تراها من خلال: قال تعالى ﴿ وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾..
     
     
    •• في الحياة .
    لكل كلمة لم تستطع البوح بها .. لكل إحسان لم تستطع إيصاله .. لكل خطأ لم تقصده .. لكل شخص لم يَفهمك .. . قال تعالى : ﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ. ﴾ .
     
     
    ⁩ أنظرُ للخلف.. ألتفت للوراء.. أتأمل الأحداث.. السنين.. المواقف.. مفترق الطريق.. الذكريات؛ . فلا أجد إلا.. ﴿فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا..﴾.. .ثم يأتيكَ اللّطفُ الخفيّ من .. نفسِ الباب الذي ظننته لا يُفْتح.. ﴿ويرزقْه من حيثُ لا يَحْتسب﴾..

    Image may contain: sky, cloud, outdoor, nature and text

     


  25. الآية 186: ((﴿ لَتُبْلَوُنَّ ﴾): أي: لَتُخْتَبَرُنَّ أيها المؤمنون (﴿ فِي أَمْوَالِكُمْ ﴾) بإخراج النفقات الواجبة والمُستحَبَّة، وبالمصائب التي تصيبها (بالفقدان والسرقة وغير ذلك)،(﴿ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾):أي: وَلَتُخْتَبَرُنَّ في أَنْفُسِكُمْ بما يجب عليكم من الطاعات، وما يَحلُّ بكم مِن جراحٍ أو قتلٍ أو فَقْدٍ للأحباب، وذلك حتى يتميَّز المؤمن الصادق من غيره،(﴿ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ﴾):أي: ما يؤذي أسماعكم من ألفاظ الشرك والطعن في دينكم، (﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا ﴾) على ذلك كله، (﴿ وَتَتَّقُوا ﴾): أي: وتنشغلوا بتقوى الله تعالى، وذلك بلزوم طاعته واجتناب معصيته، (﴿ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾): يعني: إن الصبر والتقوى من الأمور التي يُعزَمُ عليهاعزماً قوياً، ويُنافَسُ فيها، ولا يُوَفَّقُ لها إلا أهل العزائم والهِمَم العالية، وكذلك إن تصبروا وتتقوا لا يَضركم أذى مكرهم وكيدهم لكم، كما أخبر تعالى بذلك في آية أخرى، فجعل الله تعالى (الصبر والتقوى): شرطان اشترطهما على عباده حتى يَكفيهم شر أعداءهم ومكرهم، وكذلك حتى ينصرهم عليهم، قال تعالى: (﴿ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾).

    الآية 187: ((﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾)، فقال لهم: (﴿ لَتُبَيِّنُنَّهُ ﴾) أي: الكتاب (﴿ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾) عنهم، (﴿ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ﴾:أي: فتركوا ذلك العهد ولم يلتزموا به،(﴿ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾): أي: وأخذوا ثمنا قليلاً مقابل كتمانهم الحق وتحريفهم الكتاب،(﴿ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾):أي: فبئس هذا الشراء الذي يُضَيِّعون به ميثاق ربهم).

    الآية 188: ((﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ﴾) مِن أفعالٍ قبيحة كاليهود والمنافقين وغيرهم، (﴿ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا ﴾): أي: يُثني عليهم الناس (﴿ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ﴾): أي: بالخير والإصلاح الذي لم يفعلوه، والحق الذي لم يقولوه، (﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ ﴾) في الدنيا (﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾) في الآخرة).
     
    الآية 193: ((﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا ﴾) وهو نبيك محمد صلى الله عليه وسلم،(﴿ يُنَادِي ﴾) الناس (﴿ لِلْإِيمَانِ ﴾) بك، والإقرار بوحدانيتك، والعمل بشرعك، فأمَرَهُم (﴿ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ ﴾)، (﴿ فَآَمَنَّا ﴾): أي: فأجَبنا دَعْوَتَه، وصدَّقنا رسالته، (﴿ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾) الكبيرة، (﴿ وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا ﴾) الصغيرة (﴿ وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾):أي: وألحِقنا بالصالحين في درجاتهم العالية في الجنة).

    الآية 194: ((﴿ رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى ﴾) ألسنة (﴿ رُسُلِكَ ﴾) مِن نَصرٍ وتمكين وتوفيق وهداية، (﴿ وَلَا تُخْزِنَا ﴾): أي: ولا تفضحنا أمام خلقك بذنوبنا (﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾) (﴿ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾)).

    الآية 195: ((﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ﴾) (﴿ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾): يعني: والذكر والأنثى هم سَواءٌ في أُخُوَّة الدين، وقَبول الأعمال والجزاء عليها، وكذلك في التكليف بالأحكام الشرعية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شَقائق الرجال) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 2333)، (﴿ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي ﴾): أي: أوذوا في عبادتهم لربهم والدعوة إليه،(﴿ وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ﴾) لإعلاء كلمته: (﴿ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾): أي: لأسترنَّ عليهم ما ارتكبوه من المعاصي، كما سترتُها عليهم في الدنيا، فلا أحاسبهم عليها، (﴿ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾) (﴿ ثَوَابًا ﴾): أي: جزاءً(﴿ مِنْ عِنْدِ اللَّه ﴾) (﴿ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾): يعني: خير الجزاء وهي الجنة).
     
    الآية 196: ((﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ﴾): أي: لا يَخدعَنَّك ما عليه أهل الكفر مِن سعةٍ في الرزق والعيش، ومن انتقالهم من مكان إلى مكان للتجارة وطلب الأموال، فإن هذا كلُّه (﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾)، وسوف يزول عنهم عن قريب، (﴿ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد ﴾)).

    الآية 198: ((﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾) (﴿ نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾): يعني: هي منزلهم الدائم لا يخرجون منه، (﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴾) مما يتقلب فيه الكافرون مِن نعيم الدنيا).

    الآية 199: ((﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ﴾) ربًّا واحدًا وإلهًا معبودًا، (﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾): أي: ويؤمنون بما أنزل إليكم وهو القرآن، (﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ ﴾): أي: ويؤمنون بما أنزل إليهم، (﴿ خَاشِعِينَ لِلَّهِ ﴾): يعني: متذللين لله تعالى، خاضعين له،(﴿ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾)مِن حُطام الدنيا، ولا يكتمون ما أنزل الله إليهم، ولا يحرفونه كغيرهم من أهل الكتاب،(﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾)).

    الآية 200: ((﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا ﴾) (﴿ وَصَابِرُوا ﴾): أي: واغلبوا أعدائكم في الصبر، (﴿ وَرَابِطُوا ﴾): أي: وأقيموا على جهاد عدوي وعدوكم، (﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾)).
     
     
    من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف أ.د. التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف) واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

    رامى حنفى محمود

    شبكة الألوكه الشرعية


    83302667_1029169457436340_4151719699907870720_n.jpg?_nc_cat=107&_nc_ohc=zGCEpiijBGkAX-0aXUk&_nc_ht=scontent.fcai2-1.fna&oh=d2315569c330f3a72d42f82a27ab2ec3&oe=5E94E4A0

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×