اذهبي الى المحتوى
أم منةوعمر

مدارسة كتاب "الرحيق المختوم" فى السيرة النبوية

المشاركات التي تم ترشيحها

غـزوة بني قينقـاع قدمنا بنود المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود،

 

وقد كان حريصاً كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة، وفعلاً لم يأت

 

من المسلمين ما يخالف حرفاً واحداً من نصوصها‏.‏

 

ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود، لم يلبثوا أن تمشوا

 

مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق

 

والاضطراب في صفوف المسلمين‏.

 

وهاك مثلاً من ذلك‏:‏

 

نموذج من مكيدة اليهود‏‏ قال ابن إسحاق‏:‏ مر شاس بن قيس ـ وكان شيخاً ‏[‏يهودياً‏]‏ قد عسا ، عظيم الكفر،

 

شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله

 

صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه

 

ما رأي من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم

 

من العداوة في الجاهلية، فقال‏:‏ قد اجتمع ملأ بني قَيْلَةَ بهذه البلاد، لا والله ما لنا

 

معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار،

 

فأمر فتي شاباً من يهود كان معه، فقال‏:‏ اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم

 

بُعَاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل،

 

فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب

 

فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه‏:‏ إن شئتم رددناها الآن جَذَعَة ـ يعني الاستعداد

 

لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم ـ وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا‏:‏ قد فعلنا،

 

موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة‏:‏ الحَرَّة ـ السلاح السلاح، فخرجوا إليها

 

‏[‏وكادت تنشب الحرب‏]‏‏.‏ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه

 

المهاجرين حتى جاءهم فقال‏:‏ ‏‏(‏يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوي الجاهلية وأنا

 

بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية،

 

واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم‏)‏ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس

 

والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين،

 

قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس‏.‏ هذا نموذج مما كان اليهود يفعلونه ويحاولونه من إثارة القلاقل والفتن في

 

المسلمين، وإقامة العراقيل في سبيل الدعوة الإسلامية،

 

وقد كانت لهم خطط شتي في هذا السبيل‏.‏ فكانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون

 

وجه النهار، ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشك في قلوب الضعفاء، وكانوا يضيقون

 

سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مإلى، فإن كان لهم عليه يتقاضونه

 

صباح مساء، وإن كان له عليهم يأكلونـه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه

 

وكانوا يقولون‏:‏ إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت فليس

 

لك علينا من سبيل‏.‏ كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر على رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول الله صلى

 

الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصبرون على كل ذلك؛

 

حرصاً على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة‏.‏

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بنو قَينُقَاع ينقضون العهد‏

 

12-11.gif

 

لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في ميدان بدر، وأنهم قد صارت لهم

 

عزة وشوكة وهيبة في قلوب القاصي والداني‏.‏ تميزت قدر غيظهم، وكاشفوا بالشر

 

والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذي‏.‏

 

12-11.gif

 

وكان أعظمهم حقداً وأكبرهم شراً كعب بن الأشرف ـ وسيأتي ذكره ـ

 

كما أن شر طائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع،

 

كانوا يسكنون داخل المدينة ـ في حي باسمهم ـ وكانوا صاغة وحدادين وصناع

 

الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحرب،

 

وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث

 

العهد والميثاق من اليهود‏.‏

 

فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم

 

، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذي كل من ورد سوقهم

 

من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم‏.‏

 

وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،

 

فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدي، وحـذرهم مغـبة البغـي والـعدوان، ولكنهم

 

ازدادوا في شرهم وغطرستهم‏.‏

 

12-11.gif

 

روي أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ لما أصاب رسول الله صلى

 

الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع‏.

 

فقال‏:‏ ‏‏(‏يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً‏)‏‏.‏

 

قالوا‏:‏يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون

 

القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا،

 

فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏ قَدْ

 

كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ

 

رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ‏}‏ ‏آل عمران 12، 13‏.

كان في معني ما أجاب به بنو قينقاع هو الإعلان السافر عن الحرب، ولكن كظم

 

النبي صلى الله عليه وسلم غيظه، وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخض

 

عنه الليإلى والأيام‏.‏

 

وازداد اليهود ـ من بني قينقاع ـ جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقاً واضطراباً،

 

وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبواب الحياة‏.‏

 

12-11.gif

 

روي ابن هشام عن أبي عون‏:‏ أن امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعته في سوق

 

بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فَعَمَد

 

الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ـ وهي غافلة ـ فلما قامت انكشفت

 

سوأتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ـ وكان

 

يهودياً ـ فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين

 

على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع‏.‏

 

12-22.gif

 

الحصار ثم التسليم ثم الجلاء

 

12-21.jpg‏‏

 

وحينئذ عِيلَ صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم،

 

فاستخلف على المدينة أبا لُبَابة بن عبد المنذر،

 

وأعطي لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب

 

، وسار بجنود الله إلى بني قينقاع، ولما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد

 

الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2 هـ، ودام الحصار خمس

 

عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف الله في قلوبهم الرعب ـ فهو إذا أرادوا خذلان

 

قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم ـ فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله

 

عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا‏.‏

 

وحينئذ قام عبد الله بن أبي بن سلول بدور نفاقه، فألح على رسول الله صلى الله

 

عليه وسلم أن يصدر عنهم العفو، فقال‏:‏ يا محمد، أحسن فـي موإلى ـ

 

وكـان بنـو قينـقاع حلفـاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرر

 

ابن أبي مقالته فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله صلى

 

الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏(‏أرسلني‏)‏، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً ، ثم قال‏:‏ ‏‏(‏ويحك، أرسلني‏)‏‏.‏

 

ولكن المنافق مضى على إصراره وقال‏:‏ لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالى

 

أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟

 

إني والله امرؤ أخشي الدوائر‏.‏

 

وعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنافق ـ الذي لم يكن مضي على

 

إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب ـ عامله بالحسنى‏.‏ فوهبهم له، وأمرهم أن

 

يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذْرُعَات الشام، فقل أن لبثوا فيها

 

حتى هلك أكثرهم‏.‏

 

وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أموالهم، فأخذ منها ثلاث قِسِي ودرعين

 

وثلاثة أسياف وثلاثة رماح، وخمس غنائمهم،

 

وكان الذي تولي جمع الغنائم محمد بن مسلمة‏.‏

 

12-22.gif

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

غزوة السَّوِيق

 

بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراتهم وعملياتهم،

 

كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغارم ظاهر الأثر، يتعجل به؛ ليحفظ مكانة

 

قومه، ويبرز ما لديهم من قوة، وكان قد نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو

 

محمداً، فخرج في مائتي راكب ليبِرَّ يمينه،

 

حتى نزل بصدْر قَناة إلى جبل يقال له‏:‏ ثَيبٌ، من المدينة على بَرِيد أو نحوه،

 

ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهاراً، فقام بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة،

 

فإنه دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفياً تحت جنح الظلام،

 

فأتي حيي بن أخطب، فاستفتح بابه، فأبي وخاف، فانصرف إلى سَلاَّم بن مِشْكَم سيد

 

بنِي النضير، وصاحب كنزهم إذ ذاك، فاستأذن عليه فأذن، فَقَرَاه وسقاه الخمر، وبَطَن

 

له من خبر الناس، ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتي أصحابه، فبعث

 

مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها‏:‏ ‏[‏العُرَيض‏]‏، فقطعوا وأحرقوا

 

هناك أصْوَارًا من النخل، ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما،

 

وفروا راجعين إلى مكة‏.‏

 

وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيان وأصحابه،

 

ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سويقاً كثيراً من أزوادهم وتمويناتهم، يتخففون به،

 

فتمكنوا من الإفلات، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قَرْقَرَةِ الكُدْر،

 

ثم انصرف راجعاً‏.‏ وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذه

 

المناوشة بغزوة السويق‏.

 

وقد وقعت في ذي الحجة سنة 2 هـ بعد بدر بشهرين،

 

واستعمل على المدينة في هذه الغزوة أبا لبابة بن عبد المنذر‏.‏

 

12-22.gif

 

غزوة ذي أمر

 

وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد،

 

قادها في المحرم سنة 3 هـ‏.‏

 

وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعاً

 

كبيراً من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فندب رسول

 

الله صلى الله عليه وسلم المسلمين،

 

وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل،

 

واستخلف على المدينة عثمان بن عفان‏.‏

 

وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له‏:‏ جُبَار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول

 

الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال، وصار دليلاً

 

لجيش المسلمين إلى أرض العدو‏.‏

 

وتفرق الأعداء في رءوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة‏.‏

 

أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم،

 

وهو الماء المسمي ‏[‏بذي أمر‏]‏ فأقام هناك صفراً كله ـ من سنة 3 هـ ـ أو قريباً من ذلك،

 

ليشعر الأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجع إلى المدينة‏.‏

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

قتل كعب بن الأشرف

 

12-11.gif

 

كان كعب بن الأشرف من أشد اليهود حنقاً على الإسلام والمسلمين، وإيذاء لرسول

 

الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرا بالدعـوة إلى حربه‏.‏

 

كان من قبيلة طيئ ـ من بني نَبْهان ـ وأمه من بني النضير، وكان غنياً مترفاً معروفاً

 

بجماله في العرب، شاعراً من شعرائها‏.‏ وكان حصنه في شرق جنوب المدينة خلف

 

ديار بني النضير‏.‏

 

ولما بلغه أول خبر عن انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال‏:‏ أحق هذا؟

 

هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض

 

خير من ظهرها‏.‏

 

ولما تأكد لديه الخبر، انبعث عدو الله يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم و

 

المسلمين، ويمدح عدوهم ويحرضهم عليهم، ولم يرض بهذا القدر حتى ركب إلى

 

قريش، فنزل على المطلب بن أبي وَدَاعة السهمي، وجعل ينشد الأشعار يبكي

 

فيها على أصحاب القَلِيب من قتلى المشركين، يثير بذلك حفائظهم، ويذكي

 

حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعوهم إلى حربه،

 

وعندما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون‏:

 

أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه‏؟‏ وأي الفريقين أهدي سبيلاً‏؟‏

 

فقال‏:‏ أنتم أهدي منهم سبيلا، وأفضل، وفي ذلك أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

 

أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى

 

مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏ 51‏]‏‏.‏

 

ثم رجع كعب إلى المدينة على تلك الحال، وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة،

 

ويؤذيهم بسلاطة لسانه أشد الإيذاء‏.‏

 

وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏(‏من لكعب بن الأشرف ‏؟‏ فإنه آذى الله

 

ورسوله‏)‏، فانتدب له محمد بن مسلمة، وعَبَّاد بن بشر، وأبو نائلة ـ واسمه سِلْكَان

 

بن سلامة، وهو أخو كعب من الرضاعة ـ والحارث بن أوس، وأبو عَبْس بن جبر،

 

وكان قائد هذه المفرزة محمد بن مسلمة‏.‏

 

وتفيد الروايات في قتل كعب بن الأشرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال‏:‏

 

‏‏(‏من لكعب بن الأشرف ‏؟‏ فإنه قد آذى الله ورسوله‏)‏، قام محمد بن مسلمة

 

فقال‏:‏ أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏(‏نعم‏)‏‏.‏

 

قال‏:‏ فائذن لي أن أقول شيئاً‏.‏ قال‏:‏ ‏‏(‏قل‏)‏‏.‏

فأتاه محمد بن مسلمة، فقال‏:‏ إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عَنَّانا‏.‏

 

قال كعب‏:‏ والله لَتَمَلُّنَّهُ‏.‏

 

قال محمد بن مسلمة‏:‏ فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء

 

يصير شأنه ‏؟‏ وقد أردنا أن تسلفنا وَسْقـًا أو وَسْقَين‏.‏

 

قال كعب‏:‏ نعم، أرهنوني‏.‏

 

قال ابن مسلمة‏:‏ أي شيء تريد ‏؟‏

 

قال‏:‏ أرهنوني نساءكم‏.‏

 

قال‏:‏ كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ‏؟‏

 

قال‏:‏ فترهنوني أبناءكم‏.‏

 

قال‏:‏ كيف نرهنك أبناءنا فيُسَبُّ أحَدُهم فيقال‏:‏ رُهِن بوسق أو وسقين هذا عار علينا‏.

 

ولكنا نرهنك الَّلأْمَة، يعني السلاح‏.‏

 

فواعده أن يأتيه‏.‏

 

وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة، فقد جاء كعباً فتناشد معه أطراف

 

الأشعار سويعة، ثم قال له‏:‏ ويحك يا بن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها

 

لك فاكتم عني‏.‏

 

قال كعب‏:‏ أفعل‏.‏

قال أبو نائلة‏:‏ كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عن قَوْسٍ واحدة،

 

وقطعتْ عنا السبل، حتى ضاع العيال، وجُهِدَت الأنفس، وأصبحنا قد جُهِدْنا وجُهِد

 

عيالنا، ودار الحوار على نحو ما دار مع ابن مسلمة‏.‏

 

وقال أبو نائلة أثناء حديثه‏:‏ إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك

 

بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك‏.‏

 

وقد نجح ابن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قصد، فإن كعباً لن ينكر معهما

 

السلاح والأصحاب بعد هذا الحوار‏.‏

 

وفي ليلة مُقْمِرَة ـ ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 3 هـ

 

اجتمعت هذه المفرزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشيعهم إلى بَقِيع الغَرْقَد

 

، ثم وجههم قائلاً‏:‏ ‏‏(‏انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم‏)‏، ثم رجع إلى بيته، وطفق

 

يصلى ويناجي ربه‏.‏

 

وانتهت المفرزة إلى حصن كعب بن الأشرف، فهتف به أبو نائلة، فقام لينزل إليهم،

 

فقالت له امرأته ـ وكان حديث العهد بها‏:‏ أين تخرج هذه الساعة ‏؟‏ أسمع صوتاً كأنه

 

يقطر منه الدم‏.‏

 

قال كعب‏:‏ إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي

 

إلى طعنة أجاب، ثم خرج إليهم وهو متطيب ينفح رأسه‏.‏

 

وقد كان أبو نائلة قال لأصحـابـه‏:‏ إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني

 

استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، فلما نزل كعب إليهم تحدث معهم ساعة،

 

ثم قال أبو نائلة‏:‏ هل لك يا بن الاشرف أن نتماشى إلى شِعْب العجوز فنتحدث بقية

 

ليلتنا ‏؟‏ قال‏:‏ إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فقال أبو نائلة وهو في الطريق ‏:‏ ما رأيت

 

كالليلة طيباً أعطر ، وزهي كعب بما سمع ، فقال‏:‏ عندي أعطر نساء العرب ،

 

قال أبو نائلة ‏:‏ أتأذن لي أن أشم رأسك ‏؟‏ قال‏:‏ نعم ، فأدخل يده في رأسه فشمه

 

وأشم أصحابه ‏.‏

 

ثم مشى ساعـة ثم قال ‏:‏ أعود ‏؟‏ قال كعب‏:‏ نعم ، فعاد لمثلها ‏.‏ حتى اطمأن ‏.‏

 

ثم مشى ساعة ثم قال‏:‏ أعود ‏؟‏ قال‏:‏ نعم ، فأدخل يده في رأسه،

 

فلما استمكن منه قال‏:‏ دونكم عدو الله ، فاختلفت عليه أسيافهم، لكنها لم تغن شيئاً،

 

فأخذ محمد بن مسلمة مِغْوَلاً فوضعه في ثُنَّتِهِ، ثم تحامل عليه حتي بلغ عانته، فوقع

 

عدو الله قتيلاً، وكان قد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله، فلم يبق حصن إلا أوقدت

 

عليه النيران‏.‏

 

ورجعت المفرزة وقد أصيب الحارث بن أوس بذُبَاب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزف

 

الدم، فلما بلغت المفرزة حَرَّة العُرَيْض رأت أن الحارث ليس معهم، فوقفت ساعة

 

حتي أتاهم يتبع آثارهم، فاحتملوه، حتي إذا بلغوا بَقِيع الغَرْقَد كبروا، وسمع رسول

 

الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر،

 

فلما انتهوا إليه قال‏:‏ ‏‏(‏أفلحت الوجوه‏)‏،

 

قالوا‏:‏ ووجهك يا رسول الله، ورموا برأس الطاغية بين يديه، فحمد الله على قتله،

 

وتفل علي جرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده‏.‏

 

ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهم العنيدة،

 

وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوة حين يري أن

 

النصح لا يجدي نفعاً لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطرابات وعدم احترام المواثيق،

 

فلم يحركوا ساكناً لقتل طاغيتهم، بل لزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، واستكانوا،

 

وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبئ فيها ‏.‏

 

وهكذا تفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إلي حين ـ لمواجهة الأخطار التي كان

 

يتوقع حدوثها من خارج المدينة، وأصبح المسلمون وقد تخفف عنهم كثير من المتاعب

 

الداخلية التي كانوا يتوجسونها، ويشمون رائحتها بين آونة وأخري ‏.‏

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

غزوة بُحْران

 

18_205.gif

 

وهي دورية قتال كبيرة، قوامها ثلاثمائة مقاتل،

 

قادها الرسول صلى الله عليه وسلم

 

في شهر ربيع الآخر سنة 3 هـ

 

إلى أرض يقال لها‏:‏ بحران ـ وهي مَعْدِن بالحجاز من ناحية الفُرْع ـ

 

فأقام بها شهر ربيع الآخر ثم جمادى الأولى ـ من السنة الثالثة من الهجرة ـ ثم رجع

 

إلى المدينة، ولم يلق حرباً‏.‏

 

12-3.gif

 

سرية زيد بن حارثة

 

18_205.gif

 

وهي آخر وأنجح دورية للقتال قام بها المسلمون قبل أحد،

 

وقعت في جمادي الآخرة سنة 3 هـ‏.

 

وتفصيلها‏:‏ أن قريشاً بقيت بعد بدر يساورها القلق والاضطراب، وجاء الصيف،

 

واقترب موسم رحلتها إلى الشام، فأخذها هَمٌّ آخر‏.‏

 

قال صفوان بن أمية لقريش ـ وهو الذي نخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتها

 

إلى الشام‏:‏ إن محمداً وصحبه عَوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه،

 

وهم لا يبرحون الساحل ‏؟‏ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري

 

أين نسلك ‏؟‏ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء‏.‏ وإنما

 

حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء‏.‏

 

ودارت المناقشة حول هذا الموضوع،

 

فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان‏:‏ تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق

 

ـ وهي طريق طويلة جداً تخترق نجداً إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد

 

كبير منها، وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل ـ فأشار الأسود بن عبد المطلب

 

على صفوان أن يتخذ فُرَات بن حَيَّان ـ من بني بكر بن وائل ـ دليلاً له، ويكون رائده في

 

هذه الرحلة‏.‏

 

وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديدة، إلا أن أنباء هذه

 

القافلة وخطة سيرها طارت إلى المدينة‏.

 

وذلك أن سَلِيط بن النعمان ـ كان قد أسلم ـ اجتمع في مجلس شرب ـ وذلك قبل

 

تحريم الخمر ـ مع نعيم بن مسعود الأشجعي ـ ولم يكن أسلم إذ ذاك ـ فلما أخذت

 

الخمر من نعيم تحدث بالتفصيل عن قضية العير وخطة سيرها،فأسرع سليط إلى

 

النبي صلى الله عليه وسلم يروي له القصة‏.‏

 

وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لوقته حملة قوامها مائة راكب

 

في قيادة زيد بن حارثة الكلبي،

 

وأسرع زيد حتى دهم القافلة بغتة ـ على حين غرة ـ وهي تنزل على ماء في أرض

 

نجد يقال له‏:‏ قَرْدَة ـ بالفتح فالسكون ـ فاستولي عليها كلها، ولم يكن من صفوان و

 

من معه من حرس القافلة إلا الفرار بدون أي مقاومة‏.‏

 

وأسر المسلمون دليل القافلة ـ فرات بن حيان، وقيل‏:‏ ورجلين غيره ـ وحملوا غنيمة

 

كبيرة من الأواني والفضة كانت تحملها القافلة، قدرت قيمتها بمائة ألف، وقسم رسول

 

الله صلى الله عليه وسلم هذه الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس، وأسلم

 

فرات بن حيان على يديه صلى الله عليه وسلم‏.‏

 

18_205.gif

 

وكانت مأساة شديدة ونكبة كبيرة أصابت قريشاً بعد بدر، اشتد لها قلق قريش

 

وزادتها هما وحزناً‏.‏ ولم يبق أمامها إلا طريقان،إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها،

 

وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع المسلمين، أو تقوم بحرب شاملة تعيد لها

 

مجدها التليد، وعزها القديم، وتقضي على قوات المسلمين بحيث لا يبقي لهم

 

سيطرة على هذا ولا ذاك، وقد اختارت مكة الطريق الثانية، فازداد إصرارها على

 

المطالبة بالثأر، والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، وتصميمها على الغزو

 

في ديارهم، فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيد القوي لمعركة أحد‏.‏

 

12-3.gif

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

غـزوة أحـد

استعداد قريش لمعركة ناقمة‏

كانت مكة تحترق غيظاً على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساة الهزيمة

وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ الثأر، حتى إن قريشاً

كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من الاستعجال في فداء الأساري

حتى لا يتفطن المسلمون مدي مأساتهم وحزنهم‏.‏

 

وعلى أثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي

غيظها وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة‏.‏

 

وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن

أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحمساً لخوض المعركة‏.‏

وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان، والتي

كانت سبباً لمعركة بدر، وقالوا للذين كانت فيها أموالهم‏:‏ يا معشر قريش، إن محمداً

قد وَتَرَكُم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه ؛ لعلنا أن ندرك منه ثأراً،

فأجابوا لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار،

وفي ذلك أنزل الله تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ

فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏

 

ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش و

كنانة وأهل تهامة، وأخذوا لذلك أنواعا من طرق التحريض، حتى إن صفوان بن أمية

أغري أبا عزة الشاعر ـ الذي كان قد أسر في بدر، فَمَنَّ عليه رسول الله صلى الله

عليه وسلم وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه العهد بألا يقوم ضده ـ أغراه على أن

يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حياً يغنيه، وإلا

يكفل بناته، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم، كما

اختاروا شاعراً آخر ـ مُسَافع بن عبد مناف الجمحي ـ لنفس المهمة‏.‏

 

وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعدما رجع من غزوة السَّوِيق خائباً لم

ينل ما في نفسه، بل أضاع مقدارًا كبيراً من تمويناته في هذه الغزوة‏.‏

 

وزاد الطينة بلة ـ أو زاد النار إذكاء، إن صح هذا التعبير ـ ما أصاب قريشاً أخيراً في سرية

زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها، وزودها من الحزن والهم

ما لا يقادر قدره، وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل

بينهم وبين المسلمين‏.‏

12-3.gif

قوام جيش قريش وقيادته‏‏

ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين

ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، ورأي قادة قريش أن يستصحبوا

معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم

وأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة‏.‏

 

وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير،

ومن سلاح الفرسان مائتا فرس جنبوها طول الطريق،

وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع‏.‏

وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب،

وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل‏.

أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار‏.‏

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

غـزوة أحـد

استعداد قريش لمعركة ناقمة‏

كانت مكة تحترق غيظاً على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساة الهزيمة

وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ الثأر، حتى إن قريشاً

كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من الاستعجال في فداء الأساري

حتى لا يتفطن المسلمون مدي مأساتهم وحزنهم‏.‏

 

وعلى أثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي

غيظها وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة‏.‏

 

وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن

أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحمساً لخوض المعركة‏.‏

وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان، والتي

كانت سبباً لمعركة بدر، وقالوا للذين كانت فيها أموالهم‏:‏ يا معشر قريش، إن محمداً

قد وَتَرَكُم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه ؛ لعلنا أن ندرك منه ثأراً،

فأجابوا لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار،

وفي ذلك أنزل الله تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ

فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏

 

ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش و

كنانة وأهل تهامة، وأخذوا لذلك أنواعا من طرق التحريض، حتى إن صفوان بن أمية

أغري أبا عزة الشاعر ـ الذي كان قد أسر في بدر، فَمَنَّ عليه رسول الله صلى الله

عليه وسلم وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه العهد بألا يقوم ضده ـ أغراه على أن

يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حياً يغنيه، وإلا

يكفل بناته، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم، كما

اختاروا شاعراً آخر ـ مُسَافع بن عبد مناف الجمحي ـ لنفس المهمة‏.‏

 

وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعدما رجع من غزوة السَّوِيق خائباً لم

ينل ما في نفسه، بل أضاع مقدارًا كبيراً من تمويناته في هذه الغزوة‏.‏

 

وزاد الطينة بلة ـ أو زاد النار إذكاء، إن صح هذا التعبير ـ ما أصاب قريشاً أخيراً في سرية

زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها، وزودها من الحزن والهم

ما لا يقادر قدره، وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل

بينهم وبين المسلمين‏.‏

12-3.gif

قوام جيش قريش وقيادته‏‏

ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين

ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، ورأي قادة قريش أن يستصحبوا

معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم

وأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة‏.‏

 

وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير،

ومن سلاح الفرسان مائتا فرس جنبوها طول الطريق،

وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع‏.‏

وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب،

وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل‏.

أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار‏.‏

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

جيش مكة يتحرك‏

 

تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة، وكانت التارات القديمة والغيظ

 

الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال مرير‏.‏

 

12-3.gif

 

الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو‏

 

وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك

 

هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمنها

 

جميع تفاصيل الجيش‏.‏

 

وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة

 

والمدينة ـ التي تبلغ مسافتها إلى نحو خمسمائة كيلو متر ـ في ثلاثة أيام، وسلم

 

الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء‏.‏

 

قرأ الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فأمره بالكتمان، وعاد

 

مسرعاً إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار‏.‏

 

12-3.gif

 

استعداد المسلمين للطوارئ‏‏

 

وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح حتى وهم في الصلاة،

 

استعداداً للطوارئ‏.‏

 

وقامت مفرزة من الأنصار ـ فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة ـ

 

بحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح‏.

 

وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها ؛ خوفا من أن يؤخذوا على غرة‏.‏

 

وقامت دوريات من المسلمين ـ لاكتشاف تحركات العدو ـ تتجول حول الطرق التي

 

يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين‏.‏

 

12-3.gif

 

الجيش المكي إلى أسوار المدينة‏‏

 

وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلى الأبْوَاء

 

اقترحت هند بنت عتبة ـ زوج أبي سفيان ـ بنبش قبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

، بَيدَ أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب،وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو

 

فتحو هذا الباب‏.‏

 

ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العَقيق، ثم انحرف

 

منه إلى ذات اليمين حتى نزل قريباً بجبل أحد، في مكان يقال له‏:‏ عَينَيْن، في بطن

 

السَّبْخَة من قناة على شفير الوادي ـ الذي يقع شمإلى المدينة بجنب أحـد،

 

فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة‏.‏

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

المجلس الاستشاري لأخذ خطة الدفاع‏

 

18_205.gif

 

ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خبراً بعد خبر حتى الخبر الأخير عن

 

معسكره، وحينئذ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً استشارياً عسكرياً

 

أعلى ، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف، وأخبرهم عن رؤيا رآها،

 

قال‏:‏ ‏‏(‏إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً يذبح، ورأيت في ذُبَاب سيفي ثُلْماً،

 

ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة‏)‏

 

، وتأوّل البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل

 

بيته، وتأول الدرع بالمدينة‏.‏

 

ثم قدم رأيه إلى صحابته ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها،فإن أقام المشركون

 

بمعسكرهم أقاموا بِشَرِّ مُقَام وبغير جدوي، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون

 

على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان هذا هو الرأي‏.

 

ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول ـ رأس المنافقين ـ وكان قد حضر

 

المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج‏.‏

 

ويبدو أن موافقته لهذا الرأي لم تكن لأجل أن هذا هو الموقف الصحيح من حيث

 

الوجهة العسكرية، بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد،

 

وشاء الله أن يفتضح هو وأصحابه ـ لأول مرة ـ أمام المسلمين وينكشف عنهم الغطاء

 

الذي كان كفرهم ونفاقهم يكمن وراءه، ويتعرف المسلمون في أحرج ساعاتهم على

 

تلك الأفاعي التي كانت تتحرك تحت ملابسهم وأكمامهم‏.‏

 

فقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ومن غيرهم، فأشاروا

 

على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، وألحوا عليه في ذلك

 

حتى قال قائلهم‏:‏ يا رسول الله،كنا نتمني هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا

 

وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم‏.‏

 

وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله

 

عليه وسلم ـ الذي كان قد أبلي أحسن بلاء في معركة بدر ـ

 

فقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً

 

حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة ‏.‏

 

وتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه مراعاة لهؤلاء المتحمسين،

 

واستقر الرأي على الخروج من المدينة، واللقاء في الميدان السافر‏.‏

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

تكتيب الجيش الإسلامي وخروجه إلى ساحة القتال‏

 

12-60.gif

 

ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد

 

والاجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك‏.‏

 

ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العَوَإلى ، ثم دخل بيته، ومعه صاحباه

 

أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين ‏[‏أي لبس درعا

 

فوق درع‏]‏ وتقلد السيف، ثم خرج على الناس‏.‏

 

 

وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير:

 

استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه،فندموا

 

جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له‏:‏ يا رسول الله،ما كان لنا أن نخالفك فاصنع

 

ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل‏.‏

 

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏(‏ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه ـ وهي الدرع ـ

 

أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه‏)‏ ‏.‏

 

12-60.gif

 

وقسم النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب‏:‏

 

1‏.‏ كتيبة المهاجرين، وأعطي لواءها مصعب بن عمير العبدري‏.‏

 

2‏.‏ كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطي لواءها أسيد بن حضير‏.‏

 

3‏.‏ كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطي لواءها الحُبَاب بن المنذر‏.‏

 

وكان الجيش متألفاً من ألف مقاتل فيهم مائة دارع،

 

ولم يكن فيهم من الفرسان أحد ،

 

واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة،وآذن بالرحيل،

 

فتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان أمام النبي صلى الله عليه وسلم

 

يعدوان دارعين‏.‏

 

12-60.gif

 

ولما جاوز ثنية الوداع رأي كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش، فسأل عنها،

 

فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضد المشركين،

 

فسأل‏:‏ ‏‏(‏هل أسلموا ‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏لا، فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك‏.‏

 

12-60.gif

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

استعراض الجيش‏‏

 

12-60.gif

 

وعندما وصل إلى مقام يقال له‏:‏ ‏[‏الشيخان‏]‏ استعرض جيشه، فرد من استصغره ولم يره

 

مطيقاً للقتال، وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظُهَير،

 

وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعَرَابَة بن أوْس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري،

 

وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن حَبَّة، ويذكر في هؤلاء البراء بن عازب، لكن حديثه

 

في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم‏.‏

 

 

وأجاز رافع بن خَدِيج، وسَمُرَة بن جُنْدَب على صغر سنهما،

 

وذلك أن رافع بن خديج كان ماهراً في رماية النبل فأجازه، فقال سمرة‏:‏ أنا أقوي من رافع،

 

أنا أصرعه، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه

 

فتصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه أيضاً‏.‏

 

 

 

المبيت بين أحد والمدينة‏‏

 

12-60.gif

 

وفي هذا المكان أدركهم المساء، فصلى المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك، واختار

 

خمسين رجلاً لحراسة المعسكر يتجولون حوله،

 

وكان قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري، بطل سرية كعب بن الأشرف،

 

وتولي ذَكْوَان بن عبد قيس حراسة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة‏.‏

 

 

 

تمرد عبد الله بن أبي وأصحابه‏

 

12-60.gif

 

وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج، حتى إذا كان بالشَّوْط صلى الفجر، وكان بمقربة جداً من

 

العدو، فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد الله بن أبي المنافق، فانسحب بنحو ثلث

 

العسكر ـ ثلاثمائة مقاتل ـ قائلاً‏:‏ ما ندري علام نقتل أنفسنا ‏؟‏ ومتظاهراً بالاحتجاج بأن

 

الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره‏.‏

 

ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول الله

 

صلى الله عليه وسلم رأيه، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معني‏.‏

 

ولو كان هذا هو السبب لا نعزل عن الجيش منذ بداية سيره، بل كان هدفه الرئيسي من

 

هذا التمرد ـ في ذلك الظرف الدقيق ـ أن يحدث البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين

 

على مرأي ومسمع من عدوهم،حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي صلى الله عليه وسلم

 

، وتنهار معنويات من يبقي معه، بينما يتشجع العدو، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر،

 

فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المخلصين،

 

ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه‏.‏

 

12-60.gif

 

وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه، فقد همت طائفتان ـ بنو حارثة

 

من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج ـ أن تفشلا، ولكن الله تولاهما، فثبتتا بعدما سري

 

فيهما الاضطراب، وهمتا بالرجوع والانسحاب،

 

وعنهما يقول الله تعالي‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ

 

فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 122‏]‏‏.‏

 

 

وحاول عبد الله بن حَرَام ـ والد جابر بن عبد الله ـ تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا

 

الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول‏:‏ تعالوا قاتلوا في سبيل

 

الله أو ادفعوا، قالوا‏:‏ لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع،

 

فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلاً‏:‏ أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه‏.‏

 

 

وفي هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي

 

سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ

 

يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏‏.‏

 

12-60.gif

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بقية الجيش الإسلامي إلى أحد‏‏

وبعد هذا التمرد والانسحاب قام النبي صلى الله عليه وسلم ببقية الجيش ـ وهم

 

سبعمائة مقاتل ـ ليواصل سيره نحو العدو، وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد

 

في مناطق كثيرة، فقال‏:‏ ‏‏(‏من رجل يخرج بنا على القوم من كَثَبٍ ـ أي من قريب ـ من

 

طريق لا يمر بنا عليهم ‏؟‏‏)‏‏.‏ فقال أبو خَيثَمةَ‏:‏ أنا يارسول الله، ثم اختار طريقاً قصيراً إلى أحد يمر بحَرَّةِ بني حارثة

 

وبمزارعهم، تاركاً جيش المشركين إلى الغرب‏.‏ ومر الجيش في هذا الطريق بحائط مِرْبَع بن قَيظِي ـ وكان منافقاً ضرير البصر ـ فلما

 

أحس بالجيش قام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول‏:‏ لا أحل لك أن تدخل حائطي

 

إن كنت رسول الله‏.‏ فابتدره القوم ليقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏‏(‏لا تقتلوه، فهذا

 

الأعْمَى أعمى القلب أعمى البصر‏)‏‏.‏ ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي،

 

فعسكر بجيشه مستقبلاً المدينة، وجاعلا ظهره إلى هضاب جبل أحد، وعلى هذا صار

 

جيش العدو فاصلاً بين المسلمين وبين المدينة‏.‏ خطة الدفاع‏ وهناك عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه، وهيأهم صفوفاً للقتال،فاختار منهم

 

فصيلة من الرماة الماهرين، قوامها خمسون مقاتلاً، وأعطي قيادتها لعبد الله بن جبير بن

 

النعمان الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الشمالية

 

من وادي قناة ـ وعرف فيما بعد بجبل الرماة ـ جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد

 

حوالى مائة وخمسين متراً من مقر الجيش الإسلامي‏.‏ والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلماته التي ألقاها

 

إلى هؤلاء الرماة، فقد قال لقائدهم‏:‏ ‏‏(‏انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت

 

لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك‏)

 

وقال للرماة‏:‏ ‏‏(‏احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا

 

تشركونا‏)‏، وفي رواية البخاري أنه قال‏:‏ ‏‏(‏إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا

 

حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم‏)‏‏.‏ بتعين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول الله صلى

 

الله عليه وسلم الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها

 

إلى صفوف المسلمين، ويقوموا بحركات الالتفاف وعملية التطويق‏.‏ أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام

 

، يسانده المقداد بن الأسود، وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن

 

الوليد،وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم

 

المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف ‏.‏ ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جداً، تتجلي فيها عبقرية قيادة النبي صلى الله عليه و

 

سلم لعسكرية، وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من

 

هذا؛ فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه بعد العدو، فإنه حمي

 

ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمي ميسرته وظهره ـ حين يحتدم القتال ـ بسد الثلمة

 

الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي، واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً

 

يحتمي به ـ إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين ـ ولا يلتجئ إلى الفرار، حتى يتعرض للوقوع

 

في قبضة الأعداء المطاردين وأسرهم، ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا

 

احتلال معسكره وتقدموا إليه،وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جداً

 

أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات

 

من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين، كما أنه عوض النقص العددي

 

في رجاله باختيار نخبة ممتازة من أصحابه الشجعان البارزين‏.‏ وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ‏.‏

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

الرسول صلى الله عليه وسلم ينفث روح البسالة في الجيش‏‏

 

12-60.gif

 

ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم، وظاهر

 

بين درعين، وحرض أصحابه على القتال، وحضهم على المصابرة والجلاد عند اللقاء،

 

وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه حتى جرد سيفاً باتراً ونادي أصحابه‏:‏

 

(‏من يأخذ هذا السيف بحقه‏؟‏‏)‏، فقام إليه رجال ليأخذوه ـ منهم على بن أبي طالب،

 

والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب ـ حتى قام إليه أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة،

 

فقال‏:‏ وما حقه يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏(‏أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني‏)‏‏.‏

 

قال‏:‏ أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه‏.‏

 

وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم

 

الناس أنه سيقاتل حتى الموت‏.‏ فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة، وجعل يتبختر

 

بين الصفين، وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏(‏إنها لمشية يبغضها الله إلا في

 

مثل هذا الموطن‏)‏‏.‏

 

 

 

 

تعبئـة الجيش المكي‏

 

12-60.gif

 

أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف،

 

فكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان صخر بن حرب الذي تمركز في قلب الجيش،

 

وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد ـ وكان إذ ذاك مشركاً ـ

 

وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل،

 

وعلى المشاة صفوان ابن أمية،

 

وعلى رماة النبل عبد الله بن أبي ربيعة‏.‏

 

أما اللواء فكان إلى مفرزة من بني عبد الدار،

 

وقد كان ذلك منصبهم منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف المناصب التي ورثوها من قصي

 

بن كلاب ـ كما أسلفنا في أوائل الكتاب ـ وكان لا يمكن لأحد أن ينازعهم في ذلك؛

 

تقيداً بالتقاليد التي ورثوها كابراً عن كابر، بيد أن القائد العام ـ أبا سفيان ـ ذكرهم بما

 

أصاب قريشاً يوم بدر حين أسر حامل لوائهم النضر بن الحارث، وقال لهم ـ ليستفز

 

غضبهم ويثير حميتهم‏:‏ يا بني عبد الدار، قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما

 

يؤتي الناس من قبل راياتهم، وإذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا و

 

بينه فنكفيكموه‏.‏

 

ونجح أبو سفيان في هدفه، فقد غضب بنو عبد الدار لقول أبي سفيان أشد الغضب،

 

وهموا به وتواعدوه وقالوا له‏:‏ نحن نسلم إليك لواءنا ‏؟‏ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع‏.

 

وقد ثبتوا عند احتدام المعركة حتى أبيدوا عن بكرة أبيهم‏.‏

 

12-60.gif

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

مناورات سياسية من قبل قريش‏ وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين‏.‏

 

فقد أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم‏:‏ خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم،

 

فلا حاجة لنا إلى قتالكم‏.‏ ولكن أين هذه المحاولة أمام الإيمان الذي لا تقوم له الجبال،

 

فقد رد عليه الأنصار رداً عنيفاً، وأسمعوه ما يكره‏.‏ واقتربت ساعة الصفر، وتدانت الفئتان، فقامت قريش بمحاولة أخري لنفس الغرض،

 

فقد خرج إلى الأنصار عميل خائن يسمي أبا عامر الفاسق ـ واسمه عبد عمرو ابن صَيفِي،

 

وكان يسمي الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وكان رأس الأوس

 

في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شَرِق به، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة،

 

فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم و

 

يحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه، ومالوا معه ـ

 

فكان أول من خرج إلى المسلمين في الأحابيش وعُبْدَان أهل مكة‏.‏ فنادي قومه وتعرف

 

عليهم، وقال‏:‏ يا معشر الأوس، أنا أبو عامر‏.‏ فقالوا‏:‏ لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق‏.

 

فقال‏:‏ لقد أصاب قومي بعدي شر‏.‏ ـ ولما بدأ القتال قاتلهم قتالاً شديداً وراضخهم بالحجارة‏.‏ وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل الإيمان‏.‏

 

ويدل عملهم هذا على ما كان يسيطر عليهم من خوف المسلمين وهيبتهم، مع كثرتهم

 

وتفوقهم في العدد والعدة‏.‏ جهود نسوة قريش في التحميس‏‏ وقامت نسوة قريش بنصيبهن من المشاركة في المعركة، تقودهن هند بنت عتبة

 

زوجة أبي سفيان، فكن يتجولن في الصفوف، ويضربن بالدفوف؛ يستنهضن الرجال،

 

ويحرضن على القتال، ويثرن حفائظ الأبطال، ويحركن مشاعر أهل الطعان والضراب والنضال،

 

فتارة يخاطبن أهل اللواء فيقلن‏:‏ وَيْها بني عبد الــدار **

ويـها حُمَاة الأدبـــار **

ضـرباً بكـل بتـــــار ** وتارة يأززن قومهن على القتال وينشدن‏:‏ إن تُـقْبلُـوا نُعَانـِــق **

ونَفــْرِشُ النمـــارق **

أو تُـدْبِـرُوا نُفـَــارِق **

فــراق غيـر وَامـِق ** أول وقود المعركة‏‏ وتقارب الجمعان وتدانت الفئتان، وآنت مرحلة القتال، وكان أول وقود المعركة حامل لواء

 

المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من أشجع فرسان قريش، يسميه

 

المسلمون كبش الكتيبة‏.‏

 

خرج وهو راكب على جمل يدعو إلى المبارزة، فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته، ولكن

 

تقدم إليه الزبير ولم يمهله، بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم

 

به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه‏.‏ ورأي النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراع الرائع فكبر، وكبر المسلمون وأثنى على

 

الزبير، وقال في حقه‏:‏ ‏‏(‏إن لكل نبي حوارياً، وحواري الزبير‏)‏ ‏.‏

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته‏

 

ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان،

 

وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين، فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل

 

قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة، وتقدم للقتال

 

وهو يقول‏:‏

إنَّ على أهْل اللوَاء حقــاً ** أن تُخْضَبَ الصَّعْدَة أو تَنْدَقَّا

فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه، حتى

 

وصلت إلى سرته، فبانت رئته‏.‏

 

ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته،

 

فأُدْلِعَ لسانُهُ ومات لحينه‏.‏ وقيل‏:‏ بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز، فتقدم إليه

 

على بن أبي طالب، فاختلفا ضربتين، فضربه على فقتله‏.‏

 

ثم رفع اللواء مُسَافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفْلَح

 

بسهم فقتله،

 

فحمل اللواء بعده أخوه كِلاَب بن طلحة بن أبي طلحة، فانقض عليه الزبير بن العوام

 

وقاتله حتى قتله،

 

ثم حمل اللواء أخوهما الجُلاَس بن طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة

 

قضت على حياته‏.‏ وقيل‏:‏ بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضي عليه‏.‏

 

هؤلاء ستة نفر من بيت واحد، بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار،

 

قتلوا جميعاً حول لواء المشركين،

 

ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بن شُرَحْبِيل، فقتله على بن أبي طالب،

 

وقيل‏:‏ حمزة بن عبد المطلب،

 

ثم حمله شُرَيح بن قارظ فقتله قُزْمَان ـ وكان منافقاً قاتل مع المسلمين حمية، لا عن الإسلام

 

ـ ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري، فقتله قزمان أيضاً،

 

ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضاً‏.‏

 

فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار ـ من حمله اللواء ـ أبيدوا عن آخرهم، ولم يبق منهم

 

أحد يحمل اللواء‏.‏

 

فتقدم غلام لـهم حبشي ـ اسمه صُؤَاب ـ فحمل اللواء، وأبدي من صنوف الشجاعة و

 

الثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله، فقد قاتل حتى قطعت يداه،

 

فبرك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئلا يسقط، حتى قتل وهو يقول‏:‏ اللهم هل أعزرت ‏؟‏

 

يعني هل أعذرت‏؟‏‏.‏

 

وبعد أن قتل هذا الغلام ـ صُؤاب ـ سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله،

 

فبقي ساقطاً‏.‏

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

القتال في بقية النقاط‏‏

 

وبينما كان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين كان القتال المرير يجري في سائر نقاط

 

المعركة، وكانت روح الإيمان قد سادت صفوف المسلمين، فانطلقوا خلال جنود الشرك

 

انطلاق الفيضان تتقطع أمامه السدود، وهم يقولون‏:‏ ‏[‏أمت، أمت‏]‏ كان ذلك شعاراً لهم

 

يوم أحد‏.‏

 

 

أقبل أبو دُجَانة معلماً بعصابته الحمراء، آخذاً بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم،

 

مصمماً على أداء حقه، فقاتل حتى أمعن في الناس، وجعل لا يلقي مشركاً إلا قتله،

 

وأخذ يهد صفوف المشركين هدّا‏.‏

 

قال الزبير بن العوام‏:‏ وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت ـ أي في نفسي‏:‏ أنا ابن صفية عمته، ومن

 

قريش، وقد قمت إليه، فسألته إياه قبله فآتاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع ‏؟‏ فاتبعته،

 

فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار‏:‏ أخرج أبو دجانة عصابة الموت،

 

فخرج وهو يقول‏:‏

 

أنا الذي عاهـدني خليلي ** ونحـن بالسَّفْح لدى النَّخِيل ألا أقوم الدَّهْرَ في الكَيول ** أضْرِبْ بسَيف الله والرسول

 

فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحاً إلا ذَفَّفَ عليه،

 

فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين

 

، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته، فَعَضَّتْ بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله ‏.‏

 

ثم أمعن أبو دجانة في هدِّ الصفوف، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش، وهو لا يدري بها‏.‏

 

قال أبو دجانة‏:‏رأيت إنساناً يخْمِش الناس خمشاً شديداً، فصمدت له، فلما حملت عليه

 

السيف ولَوْلَ، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة‏.‏

 

وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة‏.

 

قال الزبير بن العوام‏:‏ رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة،

 

ثم عدل السيف عنها، فقلت‏:‏الله ورسوله أعلم ‏.‏

 

 

 

وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة، فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين

 

يغامر مغامرة منقطعة النظير، ينكشف عنه الأبطال كما تتطاير الأوراق أمام الرياح الهوجاء،

 

فبالإضافة إلى مشاركته الفعالة في إبادة حاملي لواء المشركين فعل الأفاعيل بأبطالهم

 

الآخرين، حتى صرع وهو في مقدمة المبرزين، ولكن لا كما تصـرع الأبطال وجهاً لوجـه في

 

ميدان القتـال، وإنما كمـا يغتال الكرام في حلك الظـلام‏.‏

 

 

مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب‏

 

يقول قاتل حمزة وحْشِي بن حرب‏:‏ كنت غلاماً لجبير بن مُطْعِم، وكان عمه طُعَيمَة بن عدي

 

قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير‏:‏ إنك إن قتلت حمزة عم محمد

 

بعمي فأنت عتيق‏.‏

 

قال‏:‏ فخرجت مع الناس ـ وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما أخطئ بها

 

شيئاً ـ فلما التقي الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل

 

الجمل الأوْرَق، يهُدُّ الناس هدّا ما يقوم له شيء‏.‏ فوالله إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه

 

بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سِبَاع بن عبد العزي،

 

فلما رآه حمزة قال له‏:‏ هلم إلى يابن مُقَطِّعَة البُظُور ـ وكانت أمه ختانة ـ

 

قال‏:‏ فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه ‏.‏

 

قال‏:‏ وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت في ثُنَّتِه ـ أحشائه ـ حتى

 

خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فَغُلِبَ، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت

 

حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق،

 

فلما قدمت مكة عتقت ‏.‏

 

 

 

السيطرة على الموقف‏‏

 

وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد الله وأسد رسوله حمزة

 

بن عبد المطلب، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله‏.‏ فقد قاتل يومئذ أبو بكر،

 

وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وطلحة بن

 

عبيد الله، وعبد الله بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع،

 

وأنس بن النضر وأمثالهم قتالاً فَلَّ عزائم المشركين، وفتَّ في أعضادهم‏.‏

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

من أحضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرقة‏‏ وكان من الأبطال المغامرين يومئذ حَنْظَلة الغَسِيل ـ وهو حنظلة بن أبي عامر، وأبو عامر

 

هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق، والذي مضي ذكره قريباً ـ كان حنظلة حديث عهد

 

بالعُرْس، فلما سمع هواتف الحرب وهو على امرأته انخلع من أحضانها، وقام من فوره إلى

 

الجهاد، فلما التقي بجيش المشركين في ساحة القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص

 

إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له

 

الشهادة، فقد شد على أبي سفيان، فلما استعلاه وتمكن منه رآه شداد بن الأسود

 

فضربه حتى قتله‏.‏ نصيب فصيلة الرماة في المعركة‏ وكانت للفصيلة التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة يد بيضاء في

 

إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد

 

يسانده أبو عامر الفاسق ثلاث مرات؛ ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر، حتى

 

يتسربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم وينزلوا عليهم هزيمة

 

ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث‏.‏ الهزيمة تنزل بالمشركين‏‏ هكذا دارت رحي الحرب الزَّبُون، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطرًا على الموقف

 

كله حتى خارت عزائم أبطال المشركين، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال و

 

الأمام والخلف، كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم لا بضع مئات قلائل،

 

وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين‏.‏ وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور،

 

وانكسرت همتها ـ حتى لم يجترئ أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتل

 

صُؤاب فيحمله ليدور حوله القتال ـ فأخذت في الانسحاب، ولجأت إلى الفرار، ونسيت ما

 

كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام، وإعادة العز والمجد والوقار‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف

 

حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لاشك فيها‏.‏ روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال‏:‏ والله لقد رأيتني أنظر إلى خَدَم ـ سوق ـ هند

 

بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح‏:‏ فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت

 

النساء يشتددن في الجبل، يرفعن سوقهن قد بدت خلاخيلهن ‏.‏ وتبع المسلمون

 

المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم‏.‏

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

غلطة الرماة الفظيعة‏‏

 

وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخري نصراً ساحقاً على أهل مكة لم

 

يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة

 

فظيعة قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، وكادت تكون

 

سبباً في مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم، وعلى

 

الهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر‏.‏

 

لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى

 

هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة، ولكن على

 

رغم هذه الأوامر المشددة لما رأي هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو غلبت

 

عليهم أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض‏:‏ الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما

 

تنتظرون ‏؟‏

 

أما قائدهم عبد الله بن جبير، فقد ذكرهم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم،

 

وقال‏:‏ أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

 

 

ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً، وقالت‏:‏ والله لنأتين الناس فلنصيبن

 

من الغنيمة ‏.‏

 

ثـم غـادر أربعون رجلاً أو أكثر هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل، والتحقوا بسَوَاد الجيش

 

ليشاركـوه فـي جمع الغنائم‏.‏ وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا

 

ابن جبير وتسعة أو أقل من أصحابه والتزموا مواقفهم مصممين على البقاء حتى يؤذن

 

لهم أو يبادوا‏.‏

 

12-45.gif

 

خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي‏

 

وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فكرَّ بسرعة خاطفة إلى جبل الرماة ليدور

 

من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه

 

إلا البعض الذين لحقوا بالمسلمين، ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه

 

صيحة عرف بها المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت

 

امرأة منهم ـ وهي عمرة بنت علقمة الحارثية ـ فرفعت لواء المشركين المطروح على

 

التراب، فالتف حوله المشركون ولاثوا به، وتنادي بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على

 

المسلمين، وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شِقَّي الرحي‏.

 

12-45.gif

 

موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق‏

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة ـ تسعة نفر من أصحابه ـ

 

في مؤخرة المسلمين ، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين؛ إذ بوغت

 

بفرسان خالد مباغتة كاملة،

 

فكان أمامه طريقان‏:‏ إما أن ينجو ـ بالسرعة ـ بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون،

 

ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور،

 

وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها

 

الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد‏.‏

 

وهناك تجلت عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته المنقطعة النظير،

 

فقد رفع صوته ينادي أصحابه‏:‏ ‏‏(‏إلي عباد الله‏)‏، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون

 

صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف

 

الدقيق‏.‏

 

وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون‏.‏

 

12-45.gif

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

تبدد المسلمين في الموقف‏‏

 

أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها،

 

فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها‏؟‏ وفر من هذه

 

الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل‏.‏

 

ورجعت طائفة أخري فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران فلم يتميزا، فوقع القتل

 

في المسلمين بعضهم من بعض‏.‏

 

روي البخاري عن عائشة قالت‏:‏ لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة،

 

فصاح إبليس‏:‏ أي عباد الله أخراكم ـ أي احترزوا من ورائكم ـ فرجعت أولاهم فاجتلدت

 

هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال‏:‏ أي عباد الله أبي أبي‏.‏

 

قالت‏:‏ فوالله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة‏:‏ يغفر الله لكم‏.

 

قال عروة‏:‏ فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله ‏.‏

 

وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضي، وتاه منها الكثيرون؛

 

لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح‏:‏ إن محمداً قد قتل،

 

فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها،

 

فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقي بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال

 

بعبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان‏.

 

‏ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال‏:‏ ما تنتظرون ‏؟‏ فقالوا‏:‏ قتل رسول الله

 

صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ما تصنعون بالحياة بعده ‏؟‏ قوموا فموتوا على ما مات عليه

 

رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني

 

المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ،

 

فقال‏:‏ أين يا أبا عمر ‏؟‏ فقال أنس‏:‏ واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضي

 

فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته ـ بعد نهاية المعركة ـببنانه، وبه بضع

 

وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم ‏.‏

 

ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال‏:‏ يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي

 

لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم‏.‏ فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل

 

بهم على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه ‏.‏

 

ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتَشَحَّطُ في دمه، فقال‏:‏ يا فلان، أشعرت

 

أن محمداً قد قتل ‏؟‏ فقال الأنصاري‏:‏ إن كان محمد قد قتل فقد بَلَّغ، فقاتلوا عن دينكم ‏.‏

 

وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم

 

رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي، وأخذوا سلاحهم،

 

يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة، وقد بلغهم أن

 

خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مُخْتَلَق، فزادهم ذلك قوة على قوتهم،

 

فنجحوا في الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز منيع، بعد أن باشروا القتال

 

المرير، وجالدوا بضراوة بالغة‏.‏

 

وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقد كرت

 

هذه الطائفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل التطويق فى بدايته،

 

وفى مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب وغيرهم ـ

 

رضي الله عنهم ـ كانوا فى مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة ـ

 

عليه الصلاة والسلام والتحية ـ صاروا فى مقدمة المدافعين‏.‏

 

12-81.gif

 

احتدام القتال حول رسول الله‏‏

 

وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق، وتطحن بين شِقَّي رَحَي المشركين،

 

كان العراك محتدماً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن المشركين لما

 

بدءوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة نفر، فلما نادي

 

المسلمين‏:‏ ‏‏(‏هلموا إلي، أنا رسول الله‏)‏، سمع صوته المشركون وعرفوه، فكروا إليه

 

وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين، فجري بين

 

المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب

 

والتفاني والبسالة والبطولة‏.‏

 

روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في

 

سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال‏:‏ ‏‏(‏من يردهم عنا وله الجنة ‏؟‏ أو هو

 

رفيقي في الجنة ‏؟‏‏)‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال‏:‏ ‏‏(‏من

 

يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏)‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل،

 

فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه ـ أي

 

القرشيين‏:‏ ‏‏(‏ما أنصفنا أصحابنا‏)‏ ‏.‏

 

وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط ‏.‏

 

12-81.gif

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

أحرج ساعة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم‏

 

وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول في القرشيين فقط، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال‏:‏ لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة بن عبيد الله وسعد ـ بن أبي وقاص ـ وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة، فقد ركزوا حملتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وطمعوا في القضاء عليه، رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكُلِمَتْ شفته السفلي، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فَشَجَّه في جبهته، وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قَمِئَة، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه وسلم ضربة أخري عنيفة كالأولي حتى دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجْنَتِه، وقال‏:‏ خذها وأنا ابن قمئة‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهة‏:‏ ‏(‏أقمأك الله‏)‏ ‏.‏

 

وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كسرت رَبَاعِيَته، وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول‏:‏ ‏(‏كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله‏)‏، فأنزل الله عز وجل‏:‏

﴿ ‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾

[‏آل عمران‏:‏128‏]‏ ‏.‏

 

وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ‏:‏ ‏(‏اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله‏)‏، ثم مكث ساعة ثم قال‏:‏ ‏(‏اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏ ، وفي صحيح مسلم أنه قال‏:‏‏(‏رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏ ، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون‏)‏‏.‏

 

ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا ـ وهما اثنان فحسب ـ سبيلا ً إلى نجاح المشركين في هدفهم، وكانا من أمهر رماة العرب فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

 

فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وقال‏:‏‏(‏ارم فداك أبي وأمي‏)‏ ‏.‏ ويدل على مدى كفاءته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد‏.‏

 

وأما طلحة بن عبيد الله فقد روي النسائي عن جابر قصة تَجَمَّع المشركين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، قال جابر‏:فأدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏من للقوم ‏؟‏‏)‏ فقال طلحة‏:‏ أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحداً بعد واحد، بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم، فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة‏.‏ قال جابر‏:‏ ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال‏:‏ حَسِّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو قلت‏:‏ بسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون‏)‏، قال‏:‏ ثم رد الله المشركين ‏.‏ ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعاً وثلاثين أو خمساً وثلاثين، وشلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها ‏.‏

 

وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏.‏

 

وروى الترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ‏:‏ ‏(‏من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله‏)‏ ‏.‏

 

وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت‏:‏ كان أبوبكر إذا ذكر يوم أحد قال‏:‏ ذلك اليوم كله لطلحة‏.‏

 

وقال فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً‏:‏

 

يا طلحة بن عبيد الله قد وَجَبَتْ ** لك الجنان وبُوِّئتَ المَهَا العِينَا

 

وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب، ففي الصحيحين عن سعد، قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد‏.‏ وفي رواية‏:‏ يعني جبريل وميكائيل‏.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى الله عليه وسلم‏

 

وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته صلى الله عليه وسلم ـ الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال ـ لم يكادوا يرون تغير الموقف، أو يسمعوا صوته صلى الله عليه وسلم حتى أسرعوا إليه ؛ لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات ـ وستة من الأنصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو، ورد هجماته‏.‏ وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

 

روي ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت‏:‏ قال أبو بكر الصديق‏:‏ لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه، قلت‏:‏ كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، ‏[‏حيث فاتني ما فاتني، فقلت‏:‏ يكون رجل من قومي أحب إلي‏]‏ فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دونكم أخـاكم فقـد أوجب‏)‏، وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وَجْنَتِهِ حتى غابت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة‏:‏ نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال‏:‏ فأخذ بفيه فجعل ينَضِّـضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استل السهم بفيه، فنَدَرَت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر‏:‏ ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة‏:‏ نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال‏:‏فأخذه فجعل ينضضه حتى اسْتَلَّه، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخري، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏دونكم أخاكم، فقد أوجب‏)‏، قال‏:‏ فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع عشرة ضربة ‏.‏ وفي تهذيب تاريخ دمشق ‏:‏ فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أو أقل أو أكثر، بين طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من شأنه‏.‏

 

وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دُجَانة، ومصعب بن عمير، وعلى بن أبي طالب ، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب المازنية، وقتادة بن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبو طلحة‏.‏

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

تضاعف ضغط المشركين‏

 

كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين، حتى سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجُحِشَتْ ركبته، وأخذه على بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوي قائماً، وقال نافع بن جبير‏:‏ سمعت رجلاً من المهاجرين يقول‏:‏ شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ‏:‏ دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال‏:‏ والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك ‏.‏

 

البطولات النادرة‏

 

وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة، لم يعرف لها التاريخ نظيراً‏.‏ كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع صدره ليقيه سهام العدو‏.‏ قال أنس‏:‏ لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له، وكان رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجَعْبَة من النبل فيقول‏:‏ ‏(‏انثرها لأبي طلحة‏)‏، قال‏:‏ ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة‏:‏ بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نَحْرِي دون نحرك ‏.‏

 

وعنه أيضاً قال‏:‏ كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرَّمْي، فكان إذا رمي تشرف النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر إلى موقع نبله‏.‏

 

وقام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَرَّسَ عليه بظهره‏.‏ والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك‏.‏

 

وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص ـ الذي كسر الرَّباعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه، وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه ـ عتبة هذا ـ إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب‏.‏

 

وكان سهل بن حُنَيف أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين‏.‏

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه، فعن قتادة بن النعمان‏:‏ أن رسول الله رمي عن قوسه حتى اندقت سِيتُها ، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وَجْنَتِه، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحَدَّهُما‏.‏

 

وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهُتِمَ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج‏.‏

 

وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، فقال‏:‏ ‏(‏مُجَّه‏)‏، فقال‏:‏ والله لا أمجه، ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا‏)‏، فقتل شهيداً‏.‏

 

وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً‏.‏

 

وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمني حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسري، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسري، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله ـ لشبهه به ـ فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح‏:‏ إن محمداً قد قتل ‏.‏

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأثره على المعركة‏

 

ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم في المشركين والمسلمين‏.‏ وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضي والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين ؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلي المسلمين‏.‏

 

الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف‏

 

ولما قتل مصعب أعطي رسول الله اللواء على بن أبي طالب، فقاتل قتالاً شديداً، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة، يقاتلون ويدافعون‏.‏

 

وحينئذ استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته‏:‏ يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه أن اصمت ـ وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون ـ إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالى ثلاثين رجلاً من الصحابة‏.‏

 

وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم ؛ لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام ‏.‏

 

تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة ـ أحد فرسان المشركين ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لمواجهته، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصِّمَّة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

 

وعطف عبد الله بن جابر ـ فارس آخر من فرسان مكة ـ على الحارث بن الصِّمَّة، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة ـ البطل المغامر ذو العصابة الحمراء ـ على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه‏.‏

 

وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله، كما تحدث عنه القرآن‏.‏ قال أبو طلحة‏:‏ كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه ‏.‏

 

وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة ـ في انسحاب منظم ـ إلى شعب الجبل، وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

مقتل أبي بن خلف‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول‏:‏ أين محمد ‏؟‏ لا نجوتُ إن نجا‏.‏ فقال القوم‏:‏ يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا ‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏دعوه‏)‏، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله وأبصر تَرْقُوَتَه من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدأدأ ـ تدحرج ـ منها عن فرسه مراراً‏.‏ فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم، قال‏:‏ قتلني والله محمد، قالوا له‏:‏ ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال‏:‏ إنه قد كان قال لي بمكة‏:‏‏(‏أنا أقتلك‏)‏ ، فوالله لو بصق على لقتلني‏.‏ فمات عدو الله بسَرِف وهم قافلون به إلى مكة‏.‏وفي رواية أبي الأسود عن عروة، وكذا في رواية سعيد بن المسيب عن أبيه‏:‏ أنه كان يخور خوار الثور، ويقول‏:‏ والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً ‏.‏

 

طلحة ينهض بالنبي صلى الله عليه وسلم‏‏

 

وفي أثناء انسحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل، فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع ؛ لأنه كان قد بَدَّنَ وظاهر بين الدرعين، وقد أصابه جرح شديد‏.‏فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوي عليها، وقال‏:‏ ‏(‏أوْجَبَ طلحةُ‏)‏ ، أي‏:‏الجنة‏.‏

 

آخر هجوم قام به المشركون‏‏

 

ولما تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل ـ يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللّهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا‏)‏، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل ‏.‏

 

وفي مغازي الأموي‏:‏ أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد‏:‏‏(‏اجْنُبْهُمْ‏)‏ ـ يقول‏:‏ ارددهم ـ فقال‏:‏ كيف أجْنُبُهُمْ وحدي ‏؟‏ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعد سهماً من كنانته، فرمي به رجلاً فقتله، قال‏:‏ ثم أخذت سهمي أعرفه، فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت‏:‏ هذا سهم مبارك، فجعلته في كنانتي‏.‏ فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه ‏.‏

 

تشويه الشهداء‏‏

 

وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً ـ بل كانوا على شبه اليقين من قتله ـ رجعوا إلى مقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة، واشتغل من اشتغل منهم ـ وكذا اشتغلت نساؤهم ـ بقتلي المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون‏.‏ وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خَدَماً ـ خلاخيل ـ وقلائد‏.‏

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة‏‏

 

وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان تدلان على مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال، ومدي استماتتهم في سبيل الله‏:‏

 

1‏.‏ قال كعب بن مالك‏:‏ كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلي المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول‏:‏ استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم‏.‏ وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه، وقال‏:‏ كيف تري يا كعب ‏؟‏ أنا أبو دجانة ‏.‏

 

2‏.‏ جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة، قال أنس‏:‏ لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنهما لمشمرتان ـ أري خَدَم سوقهما ـ تَنْقُزَانِ القِرَبَ على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم ‏.‏ وقال عمر‏:‏ كانت ‏[‏أم سَلِيط من نساء الأنصار‏]‏ تزفر لنا القرب يوم أحد ‏.‏

 

وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن، لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة، أخذت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم‏:‏هاك المغزل، وهلم سيفك‏.‏ ثم سارعت إلى ساحة القتال، فأخذت تسقي الجرحي، فرماها حِبَّان ـ بالكسر ـ بن العَرَقَة بسهم، فوقعت وتكشفت، فأغرق عدو الله في الضحك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع إلى سعد بن بي وقاص سهماً لا نصل له، وقال‏:‏‏(‏ارم به‏)‏، فرمي به سعد، فوقع السهم في نحر حبان، فوقع مستلقياً حتى تكشف، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال‏:‏‏(‏استقاد لها سعد، أجاب الله دعوته‏)‏ ‏.‏

 

بعد انتهاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشعب‏‏

 

ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقره من الشِّعب خرج على أبي طالب حتى ملأ دَرَقَته ماء من المِهْرَاس ـ قيل‏:‏ هو صخرة منقورة تسع كثيراً‏.‏ وقيل‏:‏ اسم ماء بأحد ـ فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول‏:‏ ‏(‏اشتد غضب الله على من دَمَّى وجه نبيه‏)‏ ‏.‏

 

وقال سهل‏:‏ والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء، وبما دُووِي ‏؟‏ كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلى بن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَنِّ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها فاستمسك الدم‏.‏

 

وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ ، فشرب منه النبى صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير‏.‏ وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح ، وصلى المسلمون خلفه قعوداً‏.‏

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×