اذهبي الى المحتوى
ملكة الجنان

من نماذج السلوك الحضاري في الإسلام أدب الاستئذان (2)

المشاركات التي تم ترشيحها

كنت قد ادرجت الموضوع الاول وها الجزءالتاني أسفةعلى التاخير

الامتحانات لاترحم

من نماذج السلوك الحضاري في الإسلام

أدب الاستئذان (2)

الشيخ محمد زحل

استئذان المرء على زوجه:

 

واختلفوا في الاستئذان على الزوجة فكان عطاء لا يذهب إليه ولا يوصي به، فعن ابن جريح قال: «قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا». لكن الحافظ أبا الفداء إسماعيل بن كثير حمل فتوى عطاء على عدم الوجوب، واستحب الاستئذان على الزوجة ورغب فيه، ولذلك عقب على فتوى عطاء الآنفة الذكر بقوله: «وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله، ولا يفاجئها به لاحتمال أن تكون على هيأة لا تحب أن يراها عليه» وقوى ابن كثير مذهبه في أفضلية الاستئذان على الزوجة مستدلا بما رواه أبو جعفر الطبري بسنده عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها قالت: «كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه» وإسناده صحيح. وفي رواية لابن أبي حاتم بسنده عن عمر بن مرة عن أبي هبيرة قال: «كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس، تكلم ورفع صوته» وهذا الأثر يدل على أن الاستئناس من إشعار صاحب البيت بوجود المستأذن بأي حركة أو صوت حتى يعلم بمكانه ويأنس به ولا يستوحش. ويؤيده الأثر الآخر عن مجاهد الذي قال فيه «حتى تستأنسوا، تنحنحوا أو تنخموا» – والمراد بعبد الله في الرواية هو ابن مسعود، والأمر فيه كذلك كلما جاء مجردا عن النسبة في آخر السند – وقد تبع ابن مسعود في هديه هذا من الأئمة أحمد بن حنبل فقد صح عنه قوله: «إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه» وعمدته في ذلك الحديث الصحيح «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله طروقا ليلا يتخونهم» وفي الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم «قدم المدينة نهارا فأناخ بظاهرها وقال: انتظروا حتى ندخل عشاءا – يعني آخر النهار حتى تمتشط الشعثة، و تستحد المغيبة» ومعناه: حتى تصلح شعر رأسها؛ وتحلق شعر عانتها، استعدادا للقاء زوجها.

 

 

قتادة ومقاتل بن حيان يبرزان الحكمة من الاستئذان:

 

ويتجلى لنا ما كان عليه السلف من علم وفضل وفقه وإدراك واستيعاب لأسرار الشريعة حين نتأمل قول قتادة مثلا: «هو الاستئذان ثلاثا فمن لم يؤذن له منهم فليرجع، أما الأولى فليسمع الحي، وأما الثانية فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا، ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم فإن للناس حاجات ولهم أشغال، والله أولى بالعذر» فتأمل – فتح الله علي وعليك – كيف فسر التكرار في الاستئذان وعلله، ثم أعقبه بوعظ لطيف، وتوجيه برأي حصيف، وصدق ابن مالك الأندلسي إذ قال «ما كان أصح علم من تقدما». وهذا مقاتل بن حيان يقارن بين تحايا الجاهلية ورعونتها وسمة الإسلام وأدبه الرفيع، فيقول في معرض تفسير الآية: «كان الرجل في الجاهلية إذ لقي صاحبه لا يسلم عليه، ويقول حييت صباحا وحييت مساء، وكان ذلك تحية القوم بينهم، وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم ويقول: قد دخلت ونحو ذلك فيشق ذلك على الرجل ولعله يكون مع أهله، فغير الله ذلك كله في ستر وعفة، وجعله نقيا نزها من الدنس والقذر و الدرن، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾».

 

ومما يدل على سلامة صدور السلف، وقوة إذعانهم للحق، وتحاشيهم لأخذ العزة بالإثم، وكون هواهم تبعا للشريعة يميل معها حيث مالت ما رواه قتادة بن دعامة أن بعض المهاجرين قال: «لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي: «ارجع فارجع وأنا مغتبط» فقارن بين اهتماماتهم و تفاهاتنا لتعلم الثرى من الثريا!

 

 

 

الرجل يدعى فيجيب مرافقا من دعاه:

 

قد يدعى الإنسان إلى وليمة أو حفل بواسطة مبعوث فيجيب الدعوة مرافقا من بعث إليه فلا يحتاج في هذه الحالة إلى إذن أو إلى استئذان لأن صحبة الرسول تغني عن ذلك كما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن».

 

 

 

وانتظار صاحب البيت جائز:

 

وإذا لم يكن الزائر عجلا، وكان في فسحة من أمره، وبدا له أن لا يستأذن بل ينتظر بالباب غير مواجه له جاز ذلك، ويستحب إذا كان في طلب العلم خاصة، لما فيه من تبذل الطالب وإكرام المطلوب «وقد كان ابن عباس رضي الله عنه يأتي دور الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه الرجل فإذا خرج ورآه قال: يابن عم رسول الله لو أخبرتني بمكانك فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم» فقد تضمن هذا الأثر الطيب ما كان عليه السلف الصالح من لزوم الأدب مع العلماء وتوقيرهم وامتهان النفس في سبيل الطلب مهما كان قدر صاحبها، وما أحسن ما قال بعضهم:

 

و من لم يدق ذل التعلم ساعة تجرع كأس الجهل طول حياته

وأما قوله تعالى: ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ فإنه استثنى من حكم الاستئذان البيوت العامة التي يرتادها الناس لحاجاتهم كالدكاكين والمكاتب الإدارية والفنادق والمقاهي وغيرها مما تدعو الضرورة إلى ارتيادها وقد دل على هذا التفسير ما ذكره العلامة أبو السعود محمد بن محمد العمادي من علماء القرن العاشر المتوفى سنة إحدى وخمسين وتسعمائة 951 هـ في سبب نزول الآية قال «ويروى أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن الله تعالى قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن فنزلت» قال الحافظ بن كثير: «هذه الآية أخص من التي قبلها وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد إذا كان له متاع فيها بغير إذن كالبيت المعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة كفى» وهذا تفسير ابن عباس وعكرمة والحسن البصري. وقال آخرون هي بيوت التجار كالخانات ومنازل الأسفار وبيوت مكة. وقوله تعالى ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ فيه وعيد شديد للذين يدخلون هذه الأماكن العامة كالمقاهي والفنادق والأندية للفساد والسكر والعربدة والزنى والدعارة كما هو واقع الفنادق في عصرنا الحاضر، فيالله ما أعظم هذا القرآن وأقوى إعجازه!

 

 

 

استئذان أهل البيت الواحد بعضهم على بعض:

 

الآيات السابقة التي أفضنا القول في تفسيرها وبحثنا معانيها ومضامينها مستدلين عليها بالآثار النبوية وأقوال السلف وآرائهم في فهمها والتي تبتدئ بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ...﴾ شرعت الاستئذان العام استئذان الأجانب والغرباء عن البيت، وهو استئذان يعم كل الأحوال ويشمل جميع الأوقات، وهناك استئذان خاص شرعه الله سبحانه وتعالى لأهل البيت أنفسهم ومن يختلط بهم من أطفالهم وخدمهم في أوقات معينة هي مظنة التحرر من قيود الوقار والاحتشام التي يلتزم بها المسلمون في غالب الأحيان، وهذه الأوقات التي أوجب الله سبحانه وتعالى فيها الاستئذان على أفراد الأسرة أنفسهم بعضهم على بعض هي ثلاثة: 1- قبل الفجر عند الاستيقاظ من النوم استعدادا للصلاة لأنهم يكونون في ثياب النوم أو يستعدون لخلعها واستبدالها بغيرها. 2- في وقت الظهيرة عند الاستعداد للقيلولة. 3- بعد صلاة العشاء وهو الوقت الذي يتهيأون فيه للنوم.وسماها الله سبحانه وتعالى: «العورات الثلاث» لأن الناس يخلون فيها بأنفسهم ويتحررون من نواميس الاجتماع وقيوده، وإلزام الكبار من أهل البيت بالاستئذان في هذه الأوقات أمر واضح بين لا غبار عليه ولا لبس فيه، لأن الحكمة فيه جلية، والحكم بين العلة صريح الدلالة أما الصغار والخدم فجاء التأكيد عليهما في هذا النص لأن كثيرا من الناس يتساهلون في شأنهم، ظنا منهم أن الخدم لا يجرؤون على التطلع إلى عورات ساداتهم وأن الصغار لا يعبثون بهذه الأمور ولا يفهمون من أحوالها شيئا. قال الأستاذ «سيد قطب» رحمة الله عليه في هذا المعنى «وفي هذه الأوقات الثلاث، لا بد أن يستأذن الخدم وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم، وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر بينما يقرر النفسيون اليوم بعد تقدم العلوم النفسية أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها، وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها، والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب وهو يريد أن يبني أمة سليمة الأعصاب، سليمة الصدور، مهذبة المشاعر، طاهرة القلوب نظيفة التصورات» الظلال ج 4 ص: 2532.

 

ويرفع الله سبحانه وتعالى الحرج فيما عدا هذه الأوقات الثلاث التي هي مظنة انكشاف العورات، ويلغي الاستئذان فيما سواها تيسيرا للأمر. حفاظا على مصلحة الجميع الكبار والصغار والخدم لضرورة المخالطة والحاجة إلى الخدمة وهو ما دل عليه الحق سبحانه بقوله ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ قال الحافظ ابن كثير «ويغتفر في الطوافين مالا يغتفر في غيرهم لما رواه الإمام مالك وأحمد وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: «إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات» وهذا الاستئذان الخاص الذي ينتظم أهل البيت كلهم كبارا وصغارا وخدما في أوقات معينة هو الذي جاء تفصيله في قوله تعالى في سورة النور: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (سورة النور الآية : 59). قال الحافظ ابن كثير: «وهذه الآية محكمة ولم تنسخ بشيء وإن كان عمل الناس بها قليلا» وكان ابن عباس ينكر على الناس تقصيرهم في العمل بها ويقول كما روى عنه ابن أبي حاتم «ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ والآية التي في سورة النساء ﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ ﴾ والآية التي في الحجرات ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾».

 

 

سبب نزول آية الاستئذان في العورات الثلاث:

 

قال مقاتل بن حيان «بلغنا - والله أعلم- أن رجلا من الأنصار، وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فجعل الناس يدخلون بغير إذن فقالت أسماء: يا رسول الله، ما أقبح هذا إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد غلامهما بغير إذن فأنزل الله في ذلك هذه الآية. وذكر الألوسي في رواية لم ينسبها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاما يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة فوجده نائما قد أغلق عليه الباب فدق عليه الغلام الباب فناداه ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر: «وددت أن الله نهى أبنائنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا شكرا لله تعالى. «قال العلامة الألوسي: «وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضي الله عنه للوحي».

 

 

 

سبب انصراف الناس عن العورات الثلاث:

 

وهذا حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه إدراكا لمعاني كتاب الله يبين الأسباب التي جعلت الناس يتساهلون في أمر الاستئذان في الأوقات الثلاث فيقول في رواية صحيحة أخرجها عنه ابن أبي حاتم «إن الله ستير يحب الستر كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجال في بيوتهم، فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجرة وهو على أهله فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله، ثم جاء الله بعد بالستور فبسط عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال فرأى الناس أن في ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به».

 

أقول ولا بد مع الأبواب والستور من تعليم الصبية والخدم ومن يعيش معنا في البيت أدب الاستئذان بقرع الباب أو التنحنح أو إتيان أي حركة تشعر من بداخل الحجرة أن آتيا قد قدم، فلا ينبغي أن يهجموا على البيوت هجوما فيؤذوا أو يتأذوا فتسقط بذلك حواجز الحياء واللياقة ويرتفع الوقار الذي هو زينة البيت المسلم وأهله.

 

وإذا بلغ الأطفال مبلغ الرجال ووصلوا إلى سن الرشد والتكليف فقد لزمهم الاستئذان على بيوت الأجانب عنهم في كل الأحوال كغيرهم من الراشدين المكلفين بأصول الشريعة وفروعها من عبادات ومعاملات وآداب، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ (سورة النور الآية: 59).

 

 

 

معان لطيفة تدل على حس الإدراك لدى المفسرين:

 

وهذه نكت بديعة، ونوادر لطيفة، اهتدى إليها حس العلامة الشيخ محمد علي الصابوني فغاص عليها في بطون كتب التفسير، وضمنها محاضرته التي طبعها تحت عنوان «تفسير آيات الأحكام» نتحف القارئ ببعض ما ذكره المؤلف على هامش محاضرته «آداب الاستئذان والزيارة» حتى يتفطن لمثل هذه اللطائف فيرقى حسه وذوقه بها، ثم يأخذ عدته بحثا عن غرائبها، وقيدا لأوابدها، فإن لها وقعا طيبا، ورونقا عجيبا ومنزعا لطيفا، ويدل اصطيادها على فهم عميق وذوق راق.

 

النكتة الأولى: تصدير الخطاب بالتركيز على وصف الإيمان في المخاطبين مؤذن بما للمؤمنين من مكانة عالية عند الله حيث اختصهم بالتكليف وأناط بهم التشريع بينما اعتبر الكافر مهملا كالدابة والحيوان لا يتعلق به تكليف ولا يوجه إليه خطاب ﴿ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ وهذا هو السر في توجيه النداء بهذه الصورة" ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

 

النكتة الثانية: قوله تعالى: ﴿ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ﴾ فيه معنى لطيف لأن اللفظ لا يدل على مجرد الإذن فحسب، بل يحمل معه معنى محبة الزائر وإيناس المزور. قال العلامة المودودي رحمه الله: «وقد يخطئ الناس إذ يجعلون كلمة الاستئناس رديفة الاستئذان، مع أن الكلمتين بينهما فرق لطيف لا ينبغي أن يصرف عنه النظر، فكلمة «الاستئناس» أعم وأشمل من كلمة «الاستئذان» كما لا يخفى بأدنى تأمل، والمعنى "حتى تعرفوا أنس أهل البيت بدخولكم عليهم».

 

النكتة الثالثة: قوله تعالى ﴿ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا ﴾ هذا تعبير دقيق يشير إلى معنى أدق، فربما كان في البيت صاحبه ولم يرد على الزائر أو لم يأذن له فيصدق على المستأذن أنه لم يجد أحدا، ولو قال «فإن لم يكن فيها أحد» لما كان هذا المنزع اللطيف والسر الدقيق، والحاصل أن الآية تنهى عن الدخول في حالتين:

 

أ - في حالة الاعتذار الضمني: ﴿ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا ﴾ وهي إشارة إلى عدم الإذن.

 

ب - في حالة الاعتذار الصريح ﴿ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ﴾ وهي إشارة إلى عدم الإذن.

 

النكتة الرابعة: قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ فيه وعيد شديد لأهل الريبة والنوايا الخبيثة الذين لا يقصدون إلا التطلع على عورات الناس أو غيرها من المقاصد الدنيئة.

 

النكتة الخامسة: قال العلامة الزمخشري رحمه الله : «فإذا نهى الزائر عن الإلحاح لأنه يؤدي إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس». لخصنا لك هذه النكات الفريدة من كتاب «تفسير آيات الأحكام» لمؤلفه الشيخ محمد علي الصابوني حفظه الله ، الجزء الثاني «الصفحات: 130-131-132 بتصرف».

 

أما بعد:

 

فيا أيها القارئ الموفق بمشيئة الله، فهذا نموذج راق من نماذج السلوك الحضاري في شريعتك الإسلامية، وقد رأيت ما فيه من السمو والترقي بالنفس والشعور والتصور والممارسة في البيئة الإسلامية، وما يهدف إليه من نبل وطهر وعفة وصفاء وسد للذرائع محقا للرذيلة، وقضاء مبرما على آثارهم في النفس والصحة والسلوك الاجتماعي، وكم درأ عنا الإسلام من مخاطر ووقانا من أمراض بهذا التشريع الذي لا يمثل إلا لبنة صغيرة في الهيكل التشريعي العام لهذا الدين الحنيف الذي من رأيه في أصوله وفروعه أن يسن التدابير الوقائية التي تأخذ الطريق على الخطر فلا تدعه يحل بساحة المسلمين بحال إذا عملوا بمقتضى تلك التدابير، وفيما شرعه الإسلام لحماية العرض ووأد الرذيلة من تدابير كالاستئذان والحجاب الشرعي والأمر بغض البصر، وإخفاء الزينة عما سوى المحارم والتحذير من الاختلاط. والخلوة بالأجنبية، واعتبار الأحباء من أقارب الزوجين ممن ليسوا محارم أجانب تحرم الخلوة معهم، والأمر بالتفريق بين الصبيان في المضاجع إذا بلغوا سن العشر خنق للفاحشة، وتقليل لفرص الوقوع في الزنى الذي نزه عنه المجتمع الإسلامي فاكتسب العافية، وضمن السلامة من الأوبئة الفتاكة والأمراض الشاذة التي تجتاح المجتمعات المنحلة المائعة التي نبذت التكليف واستهترت بالحرمات.

 

اللهم اسلك بنا مسالك الراشدين، واهد قومنا مناهج الصالحين، ووفقنا لما وفقت إليه العاملين المحسنين، وبلغنا منازل الشهداء والصديقين.

 

و السلام علينا و على عباد الله الصالحين.

 

 

 

 

 

مجلة الفرقان العدد 9 / السنة الثالثة / (رمضان - شوال) 1407 ﮬ / ( ماي – يونيو) 1987م

 

لاتنسوني من الدعاء

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم «قدم المدينة نهارا فأناخ بظاهرها وقال: انتظروا حتى ندخل عشاءا – يعني آخر النهار حتى تمتشط الشعثة، و تستحد المغيبة»

 

ما أروع الأدب والإتيكيت النبوي إن صح استخدام هذا التعبير

فليتأمل من يلهثون وراء تقليد الغرب في سلوكياتهم وآدابهم إن كانوا يعرفون أدباً من أصله-المقصود الغرب-

تمسكوا بسنة نبيكم ففيها الأدب الجم والذوق الرفيع

جزاك الله خيراً أختنا

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×