اذهبي الى المحتوى

المشاركات التي تم ترشيحها



post-97672-0-30492000-1327730223.png



أُمّ الصغار


(1)

وكأنها بالأمس القريب.. حينما كانت الريح تعصف والغيوم تذرف، والأشجار تكاد تُقتَلَع من أرضها التي تعرف.

وفي تلك الليلة الحالكة كان لزاماً على "إيمان" أن تذهب لبيت أختها من أجل الاطمئنان على الصغار هناك.

في لحظة ظهور حافة العمارة التي تقصد، حدقت النظر نحوها، ففزعت حين رأت شباك الطابق العلوي مفتوحًا وستائره تتأرجح يَمنة ويَسرة.

لم تدرِ إيمان كيف أوقفت سيارتها، بل كيف استولت على مكان اصطفافها. خرجت من سيارتها بسرعة الملهوف ورفعت رأسها صوب النافذة فأيقنت أن ذاك الشيش العالي قد أُزيل من موقعه تمامًا، ولربما سمعت همهمات بعيدة... لم تقف طويلاً، إنما أطلقت قدميها للريح بعدما دوّت صفارات الإنذار في قلبها المكلوم، وأخذت تصعد السلم بسرعة قياسية - غير مسبوقة من قِبَلها على الأقل - متجاهلة صوت صفير أنفاسها المتتابعة مع احتجاجات ساكن أحشائها الذي لم ير بعد فرحاً ولا ترحاً... رغم كل ذلك... ورغم إدراكها لخطورة ذاك الإعياء على جنينها الذي تنتظره بفارغ الصبر، إلا أنها لم تسمح لنفسها أن تقف هنيهة لالتقاط نفَس عميق واحد، وقد تقافزت أمام ناظريها صور مخيفة شتى لعل منها بعض صور حالات «انتحار» ساخنة وحديثة. لكن لا... إنهم صغار الأحجام وكبار الأحلام... ما بال هواجسها تسارع خَطْوها؟ إنها تكاد تقع على الأرض من شدّة الإرهاق الجسمي والنفسي أيضاً؛ فإرهاقها الجسديّ لم يحجز إرهاقها النفسي، بل لعل أحدهما صعّد الآخر، إذ إن مطارق ذكرياتها تؤجج أحزانها... وكيف تنسى أُمَّ الصغار هؤلاء وقد كانت مِلء السمع والبصر؟ كان شريط ذكرياتها يمر أسرع من أنفاسها..

لم يهدأ لها بال إلا بعد احتضانها للأطفال، وأخذت دموعها تتدحرج من مآقيها وهي تحدث نفسها قائلة: بالأمس القريب كان هؤلاء الصبية ينامون نومة الملوك وهم يستمعون ويستمتعون بما كانت تسكب ست الحبايب من قصص وأذكار وآيات يتذاكرونها قبل نومهم، ثم تساءلت: ترى كيف قضى هؤلاء الأطفال يومهم وأياديهم المثلجة وثيابهم المبللة تشهد على إهمالهم؟ والَهْف نفسي عليهم... ومن فورها قامت بإغلاق النافذة وتبديل ملابسهم وتدفئتهم, ثم سألتهم ما إذا تناولوا العشاء على موعده فأجابوا بالنفي، فهم لا يشعرون بالجوع! ثم سألتهم عن واجباتهم المدرسية وأحوالهم الدراسية فطمأنوها، فأمهم كانت تغرس فيهم حب القراءة منذ نعومة أظفارهم لأنها كانت تعتقد أن القارئ منذ الصغر هو المتفوق مدى الحياة!

post-97672-0-44325600-1327730217.png

حاولت إيمان أن تروي لهم القصص، وقدّمت لهم كتباً جديدة علّها تستطيع تخفيف أحزانهم... لكن عبثاً حاولت؛ إذ لم تعد القصص المصورة تُفرحهم، ولم يعُد شيء يمكنه أن يُدخل البهجة على قلوبهم... يبدو أنهم لا يدركون ما هو المستحيل، لذا تراهم يُصرّون على طلبه.. فقد دُفنت أمهم منذ يومين ولم يفهموا بعد معنى الموت، وعلّلت ذلك بأنهم ما زالوا صغاراً... لكن في الحقيقة، لا هي ولا كل الذين تراهم قد صدّقوا أن أمهم تحت التراب... فوالهف أنفسنا ويا حسرتنا على ضعف اليقين لدينا!!

أرادت إيمان أن تبذل قصارى جهدها علّها تستطيع مسح شيء من نظراتهم الموغلة في الحزن... لكنها لم تجد لذلك سبيلاً. لملمت بقايا ذرات شجاعتها الهاربة فخنقت دموعها ورسمت شبه ابتسامة على وجهها وسألتهم بصوتٍ ناعم مفتعَل - طبعاً- لماذا تريدون فتح النافذة؟ وهي تكاد تجزم أنهم يعيشون خيالات طفولية، فلربما تأتي إليهم أمهم من المساء كما في قصص الأطفال... وقبل أن تسترسل في خيالاتها الطفولية شدّتها ابنة الأعوام الخمسة حيث الواقع فقالت: نحن نريد أن نرى ماما في الجنة، اتركونا ندعو لها... فأكملت ابنة الأعوام السبعة: لقد علّمتنا ماما أن الدعاء حين نزول المطر مستجاب... بينما توجه ابن الأعوام الثمانية نحو النافذة ففتحها فطارت كل الأوراق والشعور في شتى الاتجاهات... وسارت قشعريرة في أوصال إيمان... ثم امتدت ثماني أيادٍ متضرعة خاشعة... ونظرت إيمان عبر النافذة، ولكأنها تستقطب موجات لقائها الأول مع أُم الصغار، وتكاد تصيخ السمع لسؤال الفقيدة الغالية: كيف تغرسين العقيدة السليمة عند أطفالك؟؟؟

(يتبع)



تُنشر بالتعاون مع مجلة (منبرالداعيات)



post-97672-0-44325600-1327730217.png

  • معجبة 5

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

جزاكِ الله خيرا معلمتي الغالية ، فعلا أهم شيء في تربية الأبناء غرس العقيدة السليمة ،نفع بكِ الله

حقيقة أفتقدتك في الأيام الماضيه ،ادعِ لي :) .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بارك الله فيكِ حبيبتي

كم هي مؤثرة حقا تلك المقدمة ووتخيلت نفسي مكان الأم ... ترى سيتذكرني أولادى؟

تصدقيني إن قلت لك يالأمس كنت أرضع صغيرى وألاعبه واحكي معه كعادتي فقلت كلام غريب -تعجبت نفسي منه- قلت إن رأيتني مت وسرت بي نحو القبر لا تضعني وتتركني بل انتظر مقدار ساعة وحث الجميع علي الإنتظار وقل أمي في حاجة ماسة لدعوات صادقات ...

تعجبت بعدها من قولي هذا لرضيعي وقلت في نفسي إن كنت أريد منه ذلك فماذا قدمت له ؟

 

أتابعك بإذن الله يا حبيبة يبدوأنه موضوعا شيقا نافعا

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

يا الله!!

يا لها من كلمات محزنةٍ ورآآآئعة في ذات الوقت !!

هؤلاء هم من سمت نفوسهم وعلت في حياتهم فأعلى الله ذكرهم بعد موتهم،،

اللهم إنا نسألكَ من فضلكَ الجزيل ،،

 

 

جزاكِ الله خيرًا حبيبتي على تلكَ الكلمات المؤثرة النافعة

أتابعُ معكِ بإذن الله

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

حياكنّ الله يا فاضلات ~

أنرتنّ الموضوع بردودكنّ الجميلة فجزاكنّ الله خيرا

 

أم عبد الرحمن 5 الحبيبة..

وأنا مشتاقة لكِ أكثر.. إن شاء الله تعالى لن أنساكِ

 

بنت أم عبد الحبيبة..

معكِ حق.. إن كنا ذَوُو أثر طيب في حياتهم فسيتذكروننا حتما

سبحان الله! احيانا ترد إلى خواطرنا أفكار لا ندري من أين تأتي هكذا فجأة

أسأل الله أن يعينكِ على تربية أبنائك وأن تكوني نعمَ الأم الصالحة.

 

إيماني عنواني الحبيبة..

صدقتِ.. نسأل الله آن يجعلنا مثلهم

آمين..

 

وفيكنّ بارك الرحمن وجزانا وإياكنّ خيرا يا حبيبات

نتابع إن شاء الله تعالى ~

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

 

post-97672-0-44325600-1327730217.png

 

أم الصغار (2)

سؤال في العمق

 

... ولكن كيف تغرسين العقيدة السليمة في قلوب صغارك؟

سؤال وقع على قلب إيمان فمزّق أغطية الغفلة التي كانت ترتديها. إحساس عميق بالتقصير الشديد - تجاه أبنائها بل وتجاه نفسها أيضًا - سكنها، وقفزت إلى ذهنها تساؤلات؛ إذ كيف ينجز المرء أمرًا ناجحًا دون رسم خطة عمل؟

 

يبدو أن أُم الصغار سمعت إيمان تنتقد وبشدّة مَن يعتمد العشوائية أسلوبًا تربويًا؛ إذ قالت:

 

إن مَن يتخذ العشوائية أسلوبًا له ومنهاجًا تراه يهدم اليوم ما بناه بالأمس؛ فهو مشتت الذهن ممزّق القوى، وإنْ كان هذا حاله فكيف يحقِّق أهدافه، إن استطاع أن يحدِّد لنفسه هدفًا؟ بل كيف يتم له البناء وهو على هذه الحال؟

 

ولعلّ المسلم الحصيف هو الذي يرسم خططه ويبين منهاجه لتربية إنسان كريم على الله، كبير بين عباده.

 

لذلك ولغيره ظنت "أم الصغار" بإيمان علمًا غزيرًا وخيرًا وفيرًا، فبسطت بين يديها ذاك السؤال الذي يستحق البحث الممنهج كما وصفته إيمان - وهي الناظرة في كتب التربية والباحثة عن الأفضل أسلوبًا والأحسن أداءً والأعمق أثرًا - من أجل ذلك وصفت إيمان نقطة انطلاقها التربوية فأجابت:

 

• في واقع الأمر أنا أربي العقيدة لدى أبنائي أثناء تعليمهم للسورة من القرآن الكريم... ثم تحدثَتْ عن التوحيد الخالص في سورة "الإخلاص" العظيمة، ثم ذكرت أنها علّمتْ صغارها "مبدأ " كل ما خطر ببالك فالله سبحانه بخلاف ذلك"... وكانت "أم الصغار" تصيخ السمع لحديث إيمان التي أنهته بسؤال: "فماذا ترَيْن يا حضرة الدكتورة؟" - باعتبار أن أم الصغار طبيبة - رفعت الطبيبة رأسها وأسندتْ ظهرها، وبثقة بالغة قالت:

 

نحن يا أختي الكريمة أمة مسلمة ومجاهدة، وعليه يتحتم على الأمناء منا أن يغرسوا في قلوب الناشئة معنى الإسلام الحقيقي ويعلِّموهم أركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان الستة.

 

• ولكن كيف وهذه مبادئ عظيمة يَعْسرُ فهم العقول الصغيرة لها؟" تساءلت إيمان، فأجابتها الطبيبة:

 

يمكننا تبسيط الأمور للصغار، فمثلًا: نعلِّمهم ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده"، فكم تحجّمت مشاكل الصغار عندي وقَلّت بفضل هذا التوجيه النبوي الرائع! وإني أحاول جاهدة أن أبتعد عن صيغة الأمر عند توجيه صغاري، لأني أرى في التوجيهات الإلهية والنبوية ما يحقق أهدافي وأهداف البشريّة قاطبة.

 

• فنظرت إيمان لمحدثتها قائلة: وكأنك تقصدين بذلك أن نوجّه الصغار بذكر الأوامر والنواهي الإلهية والنبوية، لعمري هذا عمل جليل يحتاج إلى دراسات معمَّقة واجتهادات موّثقة، فأجابت الطبيبة:

 

أجل هو ذاك، ولعلّ إحياء التربية الإسلامية الغائبة والمغيّبة معًا هو غاية الأمنيات بالنسبة لي.

 

ثم انتهت زيارة الطبيبة ولم يتوقف أثر كلماتها أو تغب أبعاد رؤيتها عن ذهن إيمان، حتى وَدَّتْ إيمان أن تكون على مقاعد الدراسة لتنهل يوميًا من علم محدِّثتها، لكنها وعدت نفسها خيرًا، لأن الطبيبة أخبرتها بأنها ستتوجه إلى المشاعر المقدسة لأداء فريضة الحج ومعها والدتها، وكانت قد قدّمت لوالدتها الكريمة هديّة رائعة، وهي تذكرة سفر لحج بيت الله الحرام، معلّلة ذلك بقولها:

لئن غابت أو غُيِّبت التربية الإسلامية عن آبائنا ولم يربّونا كما يحبّ الله، فسوف نبرّهم كما طلب منّا الله ونقرّبهم إليه، فهذا هو البر الحقيقي كما أرى والله أعلم.

 

وبعد أيام غادرت الدكتورة بصحبة والدتها وقلبها يرقص فرحًا لأنها - حسب تعبيرها - تَشعر بالامتنان العظيم لبارئها سبحانه، فقد أكرمها بخدمة والدتها في أطهر البقاع وأفضل الأيام، ولم تنسَ أن تطلب من إيمان الدعاءَ لها بظهر الغيب والاستعداد لمفاجأة ما بعد الحجّ.

(يتبع)

تُنشر بالتعاون مع مجلة (منبر الداعيات)

 

 

post-97672-0-44325600-1327730217.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

 

post-97672-0-44325600-1327730217.png

أم الصغار (3)

لبيك اللهم لبيك

إن إحياء التربية الإسلامية الغائبة والمغيَّبة معًا هو غاية الأمنيات بالنسبة لي.

 

عبارة سكنت ذهن (إيمان) حين سافرتْ قائلتُها متجهة إلى البيت الحرام، قاصدة أداء فريضة الحج، لم تكن تلك عبارة عابرة، تُرى ما المقصود من تلك العبارة؟ وهل قصدت الدكتورة - كما يظهر لي على الأقل - أنه يتحتم علينا أن نعلِّم صغارنا القرآن الكريم تلاوةً وحفظًا وتفسيرًا أيضًا، أم أن علينا أن نُعلِّمهم الآداب الإسلامية؛ مثل آداب الشرب والأكل، و...، و...، مما يذكر في كتب الآداب والأذكار، أم نعلِّمهم السيرة المحمدية مع سِيَر الصالحين؟ أم أنها قصدت كل ذلك ومثله معه؟ ثم قالت لنفسها: مهما كان قصدها، فكل التفسيرات تعني أن علينا نحن الأمهات المعاصرات أن نحمل أمانة عظيمة الأجر جليلة الهدف، مستدامة المراقبة دون تعب أو مللٍ.

 

ثم ذكرت مثالاً علميًّا عمليًّا، كانت قد استفاضت به الدكتورة، ألا وهو تعليم الصلاة، يا ألله، ما أروع ما تحدثت به عن هذا الركن من أركان الإسلام، الذي فُرض في السماء، فلعل من حكمة ذلك أنه يرتفع بالإنسان ويتسامى به، ثم عرجت على التوجيه النبوي الشريف؛ إذ مُنح الولي فترة ثلاثة أعوام - من السابعة إلى العاشرة - لتدريب الأولاد على عمود الإسلام هذا، وطلبت من جليساتها أن يحسبن عدد الأوامر التي يؤمر بها الصبي لأداء الصلوات الخمس طيلة هذه المدة، فكانت معادلتها كالتالي: خمس صلوات، ثلاث أعوام، ثلاثمائة وخمس وستين يومًا، فكانت النتيجة المذهلة لعدد يقارب خمسة آلاف مرة لأمر عظيم كهذا مع الحفاظ طبعًا على هدوء المربي واتِّزان كلامه وأوامره، ثم تُتبع حديثها بابتسامة قائلة: "يبدو أن في تعليم الصلاة دورة تدريبية للمربي قبل المتربي.

 

ثم تطلب من الحاضرات أن يقِسنَ أمر التدريب على الحجاب على أمر التدريب على الصلاة، فالصغيرة ستصلي محجبة طبعًا؛ وبذلك يغدو التدريب على الحجاب تلقائيًّا.

 

ذكاء ودهاء، وحكمة وصبر، تلك الصفات بعض من سمات تلك الدكتورة الفاضلة التي عادت لتوِّها من رحلة الحج المباركة، التي قضت خلالها جُلَّ وقتها في خدمة أمها، ووصفت تلك الأيام بغاية الروعة، فقد وُفِّقت لعدة أعمال صالحة في الوقت نفسه، وعادت وكل ذَرة فيها تبتهل إلى الله وتسأله القَبول.

 

انتظرت إيمان بضعة أيام ثم حدَّدت موعدًا مع الدكتورة وأُسرتها، وأعدَّت برنامجًا ثَريًّا ليوم اجتماعهم الموعود، فالعائلتان الآن صديقتان - وهذه من الأمور التي كانت تدعو إليها الدكتورة - وهما ستكونان يدًا واحدة للتعاون والتناصح والارتقاء، وتحدِّي الباطل، وتقديم كل ما هو مفيد وجديد لهم ولأُمَّتهم، لم تبق سوى أيام قلائل ويتم الاجتماع الموعود، وقلب إيمان يضطرب كلما ذكرت موعدهما، وورقة برنامج لقائهما تهتزُّ أمام ناظريها، وتتساءل عن سبب ذلك؛ فلا يبدو في أفقها ما يدعو لشيءٍ من التوتر، وبعد أن رتَّبت إيمان كل الأمور للقائهما المنشود، قرَّرت مهاتفة الدكتورة لعرض الأمر عليها، وكانت المفاجأة.

 

يتبع،،

تُنشر بالتعاون مع مجلة (منبرالداعيات)

 

 

post-97672-0-44325600-1327730217.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

 

post-97672-0-44325600-1327730217.png

 

أم الصغار (4)

وداعٌ قبل الوداع

 

في قلب إيمان مزيج غريب من المشاعر المبهمة التي لا تستطيع لها وصفاً: أهو القلق أم الخوف أم الاضطراب؟ إنما ما يجمع هذه المشاعر هو أنها غير مرتاحة، فأسرعت لأختها في الله وهاتفتها ناشدة الراحة لقلبها، فأُخبرتْ أنها في المستشفى، فتساءلت إيمان: هل ذهبت لتزور مريضاً؟ فكادت تجزم أن زميلتهما المريضة التي تشتكي من التهاب كبد وبائي حادّ في حالة حَرِجة إنْ لم تكن قد فارقت الحياة - حسب آخر تقرير طبي - وقد تأتينا الدكتورة بالخبر اليقين بعد قليل، وما علينا سوى الانتظار!!

 

وما هي إلا هنيهة حتى جاءت إحدى النساء تنعي الدكتورة... خبر يكاد لا يصدّق... أمر يدعو للذهول... بل الشلل!! استسلمتْ إيمان لموجة حزن جارف أذهلها عما حولها، فنسيت إعادة سماعة هاتفها وبقيت حرارته معلقة بين الشك واليقين تماماً كما قلبها..

 

وبعد ثلاث ساعات تقريباً... وبعد تسلل شيء من التوازن لإيمان... هاتفتْها إحدى زميلاتِها وأخبرتْها بأنها عادت لتوّها من السوق؛ إذ كانت تشتري جهازاً لابنتها العروس، وبعد أن دخل وقت الصلاة عرجت على المسجد فرأت جمعاً من المصلّين يحملون ميتاً، والغريب الذي أدهشها وأثار تساؤلاتها أنها رأت ابن الدكتورة ذا الثماني سنوات في المقدمة... ثم أردفت: هل حدث مكروه لجدّتهم؟.. اختنقت الكلمات في حلق إيمان الجاف... ثم تمالكت نفسها، ومن بين الدموع والآهات نعت الحبيبة الغالية. فذُهلت المتصلة وانهارت وقالت: ما أعجبك يا دنيا! بدأت يومي بتجهيز عروس حبيبة قريبة وأنهيتُه بتجهيز ميتة حبيبة غريبة. هكذا هي دنيانا: موت وحياة.

 

وفي مساء اليوم التالي، تجمّعت النساء في بيت العزاء. ومن بين النشيج كنّ يذكرن الفقيدة... مُحاوِلاتٍ مواساة والدة الدكتورة الثكلى، فتنجح محاولاتهن مرّة وتفشل مرات... فقد غَشِي الحاجّة غيبوبة متقطّعة... قالت إحداهن: هنيئاً لفقيدتنا، فقد وافتها المنيّة وهي على رأس عملها وبجوار مسجدنا الحبيب - المسجد النبوي الشريف - أي في حِمى الحرم، وقد حققت شطر الدعاء. اللهم شهادة في سبيلك أو موتة في مدينة رسولك. وأردفت: اللهم بلغنا ما بلّغتها. وقد كنت أشاركها في ركوب الحافلة صباح وفاتها فرأيتها في غاية الجمال والهدوء والطمأنينة. في الواقع كانت تتمتع بجمال مهيب راقٍ بعيداً عن حماقات التزين والتجمل المبتذل أو التعطر.. لا والله لم تكن تقرب هكذا عملاً خارج بيتها... أذكر أنها دعت دعاءها المأثور عندما كانت تخرج من بيتها، فتقول: "اللهم إني لم أخرج أشَراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سُمعة ولكني خرجتُ ابتغاء مرضاتك واتقاء سخطك، اللهم فاكتب لي من الخير أكثر مما أرجو، واصرف عني من الشر أكثر مما أخاف، وصلَّ الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم".

في ذاك الصباح كانت فرحة تنثر البهجة بيننا، أذكر أنها جلست بجوار النافذة متأملة وكأنها تنتظر غائباً، ثم ذهبت لعيادتها وعالجت جميع المرضى الذين كانوا ينتظرونها... ثم... قررت أن تسلّم على جميع زميلاتها المعلمات بصفتها عائدة من العمرة قبيل أيام، ولم تدر أنها ستسافر بعد دقائق.. استراحت على أقرب أريكة ثم طلبت رؤية صغيرتيْها، وبعدها طلبت كأس ماء ثم... نظرت إلى الأفق.. ثم...

 

(يتبع)

تُنشر بالتعاون مع مجلة (منبرالداعيات)

 

 

post-97672-0-44325600-1327730217.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

 

post-97672-0-44325600-1327730217.png

 

أم الصغار (5)

هنيئًا لكِ البقيع وساكنوه

 

ثم... ثم تفوهت بتروٍّ أروع وأصدق عبارة عرفتها البشرية: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله"... وكان أصبعها الشاهد مرفوعًا وقد شَخَصَ بصرها... وبدت كأنها في سُبات عميق؛ بينما سارعت بعض الحاضرات إلى رش الماء على الدكتورة... تسابقت معلمات المدرسة والْتفَفْن حولها، فتقدمت أكثرهنّ شجاعة وغطّتها بالملاءة نفسها التي غطتها بها الدكتورة قبل ساعة أو نحوها... بينما ذهبت أَثبتُهنّ جَنانًا فاتصلت بالطبيب... ثم وقفت على باب المدرسة واصطحبته نحو الدكتورة المسجاة... وقف قلبها ينتظر على جمر الترقب، وكل جوارحها في غاية الاستعداد... وحين أبصرت الطبيب يفكّ سِوار ساعة الدكتورة انطلقت من فيها صرخة مدوّية استقطبت أصوات جميع الذاهلات فضجّت القاعة بالصراخ والعويل والنحيب... ثم توقفت المعلمة عن الوصف لتمسح دموعًا ترقرقت دون إذن وأكملت... وقد كان بعضنا ينتحب وهو غير مصدّق!!!

 

إن جمالها، وهي مُسَجّاة، وبهاءها حيّر قلوبنا، وجعل الخشوع يتغلغل في أعماقنا... ومنذ تلك اللحظة أيقنتُ أن في ثنايا حُسْن الخاتمة جميل العزاء، وصمتت... ثم أكملت إحداهن: لقد صحوتُ فجر اليوم وأنا أردِّد الآية الكريمة من سورة «المسد»: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2]... ويدي تشير بالنفي؛ فقد رأيتُ نفسي الليلة طالبة في فصل ومعلمتي هي الدكتورة رحمها الله، وموضوع درسنا سورة المسد، فانبرت إحدى الداعيات وسألت إن كانت المتوفاة قد تركت مالاً فأرجو أن يوهَب لها صدقة، فأكملت مديرتها: إن المتوفاة قد تركت مالاً يتمّم كفالة اليتيم التي ابتدأتها... بل لعلّها بهذه الرؤيا توصي بذلك...

 

كان مجلس العزاء محاذيًا لمكتبة الدكتورة، وكانت إيمان تتأمل عناوين كتب الراحلة؛ إذ كانت قد صنفت الكتب الطبية العلمية في قسم، وأما القسم الآخر فهو القسم العربي والتربوي والأدبي. حينها رأت عناوين كتب لم تسمع عنها من قبل، وكانت تكفي قراءة عنوان الكتاب لتشع في النفس طمأنينة ورضا... بعض العناوين جذبها قلبًا وقالبًا وأثار تساؤلاتها: فعمّ تتحدث مجلدات بعنوان «بهجة النفوس»؟ وأي أمر يُبهج المكلوم؟! ولعل مثل هذه العناوين ينشر حقيقة مفادها أن العلم النافع يُبهج النفوس ويرقّيها ويرتقي بها؛ إذ لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون...

 

كانت عيناها تسقط على الكتاب وذاكرتها تجمع عبارات سكنت قلبها كانت قد سمعتها من في الدكتورة - رحمها الله تعالى -، إلا أن كتب التربية استحوذت على اهتمامها فأخرجت ورقة وقلمًا وأخذت تدوّن أسماء الكتب والأشرطة المرئية والمسموعة في الموضوع نفسه، لحظتها استولى على إيمان شعور أنها تحمل أمانة بثقل الجبال، فكان هذا دافعًا لها لتبحث وتكتب وتحاضر في أمر التربية الإسلامية. ولعلها أمضت سنوات وهي تسير وحدها وتكتشف كنوز الطريق وأشواكه. وبنظرة عميقة مسحت كل ما وقع تحت ناظريها، فأقسمت لنفسها بأن كل صغيرة وكبيرة في بيت المتوفاة وُضع لغاية ورسالة؛ فاللوحات والرسومات والجداريات تكاد تتحدث عن نفسها، والحديث يطول... ولم تتوقف سبحات إيمان وتسبيحاتها إلا حين أنهت الأخت الداعية مجلس العزاء ذاك وخاطبت والدة المتوفاة فقالت: نسأل الله أن يبلِّغنا ما بلّغ أختنا، فقد جُمع لها حُسن الخاتمة من جميع الأقطاب؛ فزوجها الكريم أعلن أنه راضٍ عنها تمام الرضا، ولو لم يكن سوى هذا الأمر لكفى كي نبشِّرك بأنها من أهل الجنة إن شاء الله. فأكملت والدتها: وأُشهد الله أنها كانت بارّة بوالديها واصلة لرحمها، وقالت أخرى: هنيئًا لأختنا فقد عاشت عيشة هنية وماتت ميتة رضية وهذا غاية المنى!!!

 

ثم قالت إيمان: هنيئًا لها سكنى «البقيع»...

 

فيا مسلّمًا على أهل البقيع الكرام سلّم على أختنا الحبيبة الكريمة «الدكتورة علية نصار» المتوفاة في المدينة المنورة عام ألف وتسعمئة وثمانية وثمانين.

 

تمت

تُنشر بالتعاون مع مجلة (منبرالداعيات)

 

 

post-97672-0-44325600-1327730217.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×