اذهبي الى المحتوى
بسمَة

|[.. دُرُوسٌ في ( الطَّهَـارَة ) ..~

المشاركات التي تم ترشيحها

المُؤلِّفُ بعد ذلك نبَّه على مسألةٍ من مسائل الوضوءِ؛

وهِيَ مسألة ما إذا كان على القدم جَوْرَبٌ أو خُفٌّ أو نحو ذلك،

وهِيَ المسألةُ التي تُعرَفُ عند أهل العِلم بالمَسْح على الخُفَّيْن.

 

# مَسألةُ المَسْح على الخُفَّيْن:

المُسلِمُ إذا كانت قدماه ليس فيها خُفٌّ ولا جَوْرَبٌ ولا نحو ذلك،

فيَجِبُ عليه غَسْلُهما، لكنْ إذا كان عليهما خُفَّان فهُناك رُخصةٌ في دِيننا

بجَواز مَسْح الخُفَّيْن، بالضوابط الشَّرعيَّةِ التي شَرَعها اللهُ سُبحانه وتعالى،

وبيَّنَها لنا نبيُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

 

يقولُ المُؤلِّفُ: [ إذا كان عليه خُفَّان ونحوُهما، مَسَحَ عليها إن شاء

يومًا وليلةً للمُقيم، وثلاثةَ أيَّامٍ بلَيالِيهِنَّ للمُسافِر، بشَرطِ أن يلبَسَهما

على طَهارةٍ، ولا يَمْسَحهما إلَّا في الحَدَثِ الأصغر ].

 

ثُمَّ قال: [ عن أنس مرفوعًا: ‹‹ إذا توضَّأ أحدُكم ولَبِسَ خُفَّيْه، فليُصَلِّ فيهما،

وليَمْسَح عليهما، ثُمَّ لا يَخلعهما إن شاء إلَّا من جَنابةٍ ›› رواه الحاكم وصَحَّحه ].

 

إذًا، المُؤلِّفُ ذَكَرَ لنا في هذه الجُملةِ مِن كلامِهِ مَسائِلَ تتعلَّقُ بالمَسْح على الخُفَّيْن،

نتعرَّضُ لبَعضِها.

 

يقولُ العُلماءُ: الخُفُّ هو ما يُلْبَسُ في الرِّجْلِ مِن جِلْدٍ رَقيقٍ، وجَمْعُه: خِفَاف.

 

الذي يُلْبَسُ في الرِّجْل للتَّدفِئَةِ، ويكونُ مصنوعًا من الجِلدِ، هذا يُسَمَّى خُفًّا.

وإذا كان مصنوعًا من غير الجِلْدِ يُسمَّى الجَوْرِب، أو بأيِّ تسميةٍ يَعرفُها الناسُ.

 

فكُلُّ ما يُلْبَسُ في الرِّجْل على هيئةِ الخُفِّ مِن غير الجِلْدِ يُقالُ له الجَوْرَب،

وإذا كان مصنوعًا مِن الجِلْدِ يُقالُ له الخُفّ، ولهما نَفْسُ الحُكم،

سواءً كان مصنوعًا من جِلْدٍ أو من غيره.

 

يقولُ العُلماءُ: والمَسْحُ على الخُفَّيْن ثابِتٌ بالتَّواتُر؛ يعني جاءت أحاديثُ كثيرةٌ

عن النبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بجَواز المَسْح على الخُفَّيْن. فمِن ذلك:

حَديثُ جَرير بن عبد الله البَجَلِيِّ- رَضِيَ اللهُ عنه- أنَّه بالَ ثُمَّ توضَّأ

ومَسَحَ على خُفَّيْه، ثُمَّ قام فصَلَّى. فسُئِلَ، فقال:

رأيتُ النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- صَنَعَ مِثلَ هذا.

 

قال إبراهيمُ- وهو النَّخَعِيّ- أحَدُ رُواة الحَديثِ: فكان يُعجِبُهم هذا الحَديثُ؛

لأنَّ جَريرًا كان مِن آخِر مَن أسْلَمَ.

 

حَديثُ جَرير يقولُ: لَمَّا أسْلَمَ، رأى النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- توضَّأ

ومَسَحَ على خُفَّيْه.

 

وجَرير أسْلَمَ قبل وفاةِ النبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بزَمَنٍ يسيرٍ.

فكان التَّابِعون يفرحون بهذا الحَديثِ؛ لأنَّ المَسْحَ على الخُفَّيْن لم يُنْسَخ

وهو باقٍ.

 

وفَرَحُهم بذلك لأنَّ بعضَ أهل البِدَع يَرَوْنَ أنَّ المَسْحَ على الخُفَّيْن لا يَجوز.

 

ولهذا أجْمَعَ أهلُ السُّنَّةِ على جَواز المَسْح على الخُفَّيْن، وكانوا يذكرون المَسْحَ

على الخُفَّيْن في باب العَقيدة؛ لِيُبَيِّنَ العُلماءُ في ذلك أنَّ المَسْحَ على الخُفَّيْن

من الأمور التي أجْمَعَ أهلُ السُّنَّةِ عليها، خِلافًا لبعض أهل البِدَع- كالرَّافِضةِ

وغيرهم- الذين لا يَرَوْنَ جَوازَ المَسْح على الخُفَّيْن أصلًا.

 

 

والمَسْحُ على الخُفَّيْن مُؤَقَّتٌ بوَقتٍ، كما جاءت الأحاديثُ عن النبيِّ- صلَّى اللهُ

عليه وسلَّم- بذلك. فيَجوزُ للمُسلِم أن يَمْسَحَ على الخُفَّيْن في سَفَره وفي حَضَرِه،

ولكنْ ذلك مُؤَقَّتٌ بوَقتٍ عَلَّمَناه رسولُ الله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.

 

جاء في حَديثِ عائشةَ- رَضِيَ اللهُ عنها- أنَّها سُئِلَت عن المَسْح على الخُفَّيْن،

فقالت للسائِل: ( عليكَ بابن أبي طالبٍ، فسَلْه؛ فإنَّه كان يُسافِرُ مع رسول الله

صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). قال: فسألناه، فقال: جَعَلَ رسولُ اللهِ ثلاثةَ أيَّامٍ

ولَيَالِيَهُنَّ للمُسافِر، ويَومًا ولَيلةً للمُقيم.

 

 

متى يَبدأ الحِسابَ؟ (متى يَبدأ يَحسِبُ 24 ساعة؟)

يَبدأ الحِسابَ مِن أوَّل ما يَبدأ المَسْحَ، ولا يَبدأ الحِسابَ مِن أوَّل لبس الخُفِّ.

 

فمثلًا: لو أنَّ إنسانًا توضَّأ لصلاةِ الفَجر، ثُمَّ لَبِسَ الخُفَّ، ثُمَّ مَكَثَ على وضوئِهِ،

ثُمَّ أحْدَثَ، ولَمَّا أرادَ أن يُصلِّيَ الظُّهْرَ توضَّأ ومَسْحَ على الخُفَّيْن.

إذًا، هو لَبِسَ الخُفَّ عند صلاة الفَجر، ولكنَّ أوَّلَ مَسْحٍ له كان عند صلاةِ الظُّهْر.

 

فنقولُ له: الحِسابُ يَبدأ مِن صلاة الظُّهْر. فيَجوزُ له أن يَمْسَحَ يومًا ولَيلةً

إذا كان مُقيمًا، مِنَ الظُّهْر إلى الظُّهْر، فإذا انتهَت المُدَّةُ خَلَعَ الخُفَّيْن.

 

إذًا، الرَّاجِحُ في أقوال أهل العِلم في باب التَّوقيتِ: أنَّ المَسْحَ على الخُفَّيْن مُؤَقَّتٌ،

ومُؤَقَّتٌ للمُسافِر ثلاثةَ أيَّامٍ بليالِيهِنَّ، وللمُقيم يَومًا ولَيلةً. ولا يَجوزُ للمُسلِم

أن يتجاوَزَ المُدَّةَ المُحَدَّدةَ في المَسْح.

 

لكنْ هُنا مَسألةٌ: إذا مَسَحَ على الخُفِّ يَومًا ولَيلةً، ثُمَّ انتهَى الوَقتُ؛

يعني جاء صلاةُ الظُّهْر من اليوم الثاني. إذا جاء صلاةُ الظُّهْر من اليوم الثاني

وهو ما يَزالُ على طَهارةٍ، فهل نقولُ له: إنَّ نهايةَ المُدَّةِ تُبْطِلُ الوضوءَ

أو تُبْطِلُ المَسْحَ على الخُفَّيْن؟

 

الجَوابُ: أنَّها تُبْطِلُ المَسْحَ على الخُفَّيْن؛ يعني: يَجوزُ له أن يُصلِّيَ إلى أن يُحْدِثَ،

ثُمَّ يَنزِعُ الخُفَّ بعد ذلك ويتوضَّأ. أمَّا نهايةُ المُدَّةِ فليست من نواقِض الوضوءِ.

  • معجبة 1

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وللمَسْح على الخُفَّيْن شُرُوطٌ بيَّنها العُلماءُ:

 

- الشَّرطُ الأوَّلُ: أن يكونَ قد لَبِسَ الخُفَّ على طَهارةٍ؛

لِحَديثِ المُغيرة بن شُعْبَة- رَضِيَ اللهُ عنه- قال: كُنتُ مع النبيِّ- صلَّى اللهُ

عليه وسلَّم- في سَفَرٍ، فأَهْوَيْتُ لأنْزِعَ خُفَّيْهِ، فقال:

(( دَعْهُما، فإنِّي أدْخَلْتُهما طاهِرَتَيْن )) مُتَّفَقٌ عليه.

يَدُلُّ على أنَّه يَجِبُ في المَسْح على الخُفَّيْن أنَّه يكونُ قد لَبِسَهما على طَهارةٍ.

 

وبهذا استَدَلَّ العُلماءُ على وجوبِ إدخالِهما على طَهارةٍ ؛

بهذا الحَديثِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

 

قال المُؤلِّفُ في هذه المَسألةِ:

[ بشَرطِ أن يَلبَسَهما على طَهارةٍ ولا يَمْسَحهما إلَّا في الحَدَثِ الأصغر ].

 

ثُمَّ ذَكَرَ حَديثًا لأنس، وذَكَرَ لنا مسألتين:

 

- أنَّه يُشترَطُ أن يكونَ قد أدْخَلَهما على طَهارةٍ.

 

- الشَّرطُ الثاني: أن يكونَ ذلك في الحَدَثِ الأصغر.

أمَّا إذا أحْدَثَ حَدَثًا أكبرَ- كأن يكونَ جُنُبًا مثلًا أو نحوَ ذلك- فإنَّه

في هذه الحالةِ لا يَمْسَح على الخُفَّيْن.

 

المُحْدِثُ حَدَثًا أكبرُ يَجِبُ عليه أن يَغتسِلَ، وإذا وَجَبَ عليه الاغتسالُ،

وَجَبَ عليه أن يَنزِعَ الخُفَّيْن، ودَليلُ ذلك حَديثُ صَفْوان بن عَسَّال- رَضِيَ اللهُ

عنه- قال: (( كان رسولُ الله- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يأمُرُنا إذا كُنَّا سَفْرًا

ألَّا نَنْزِعَ خِفافًا ثلاثةَ أيَّامٍ ولَيَالِيَهُنَّ )) قال: (( إلَّا مِن جَنابة )).

 

الشَّاهِدُ منه: (( إلَّا مِن جَنابة، ولكنْ مِن غائِطٍ وبَوْلٍ ونَوْمٍ )) حَسَّنه الألبانيُّ.

فهذا يُفيدُ أنَّ المَسْحَ على الخُفَّيْن يكونُ في الحَدَثِ الأصغر.

أمَّا الحَدَثُ الأكبرُ فيَجِبُ معه نَزعُ الخُفَّيْن والاغتسالُ.

 

المُؤلِّفُ استَدَلَّ في هذه المسألةِ بحَديثِ أنس؛ وهو قوله:

(( إذا توضَّأ أحدُكم ولَبِسَ خُفَّيْه، فليُصَلِّ فيهما ... )) إلى أخِر الحَديثِ.

 

وهذا الحَديثُ في الحقيقةِ لا يَصِحُّ الاستدلالُ به.

لماذا؟ لأنَّه حَديثٌ مُخْتَلَفٌ في صِحَّتِهِ، والرَّاجِحُ عند العُلماءِ أنَّه حَديثٌ لا يَصِحُّ،

فهو حَديثٌ ضَعيفٌ، ولا يَصِحُّ الاستدلالُ بالحَديثِ الضَّعيفِ.

ثُمَّ هذا الحَديثُ يَدُلُّ على خِلافِ ما استَدَلَّ به المُؤلِّفُ.

 

هذا الحَديثُ لو تأمَّلناهُ في آخِره، يقولُ: (( ثُمَّ لا يَخلعهما إن شاء إلَّا مِن جَنابة )).

فهذا يُفيدُ أنَّ المَسْحَ على الخُفَّيْن ليس مُؤقَّتًا، يَجوزُ له أن يَمْسَحَ على الخُفَّيْن

أكثرَ من يومٍ وليلةٍ إذا كان مُقيمًا، أو أكثرَ من ثلاثةِ أيَّامٍ إذا كان مُسافِرًا.

فهذا الحَديثُ يَدُلُّ على ذلك، فهو حَديثٌ مُخالفٌ للأحاديثِ الصَّحيحةِ

التي فيها التَّوقيتُ في المَسْح على الخُفَّيْن.

 

يقولُ العُلماءُ: لا يُشترَطُ في المَسْح على الخُفَّيْن أن يكونَ الخُفُّ سليمًا من الأخراق.

فلو كان فيه خَرْقٌ يسيرٌ، لكنْ مع هذا يُسَمَّى خُفًّا ويلبَسُه المُسلِمُ،

فإنَّه يَجوزُ المَسْحُ عليه.

 

يقولُ سُفيان الثَّوْريُّ: ‹‹ امْسَح عليها ما تعلَّقَت به رِجْلُكَ.

وهل كانت خِفافُ المُهاجِرينَ والأنصار إلَّا مُخَرَّقةً مُشَقَّقَةً مُرَقَّعَةً؟! ››.

إذًا، لم تكُن الخِفافُ كذلك، فمعناه أنَّه يَجوزُ المَسْحُ عليها

إذا كان فيها الخَرْقُ يسيرًا وهِيَ مُتعلِّقةٌ بالقَدم.

 

بعد ذلك ذَكَرَ المُؤلِّفُ- رَحِمَه الله- صِفةَ المَسْح على الخُفَّيْن

وصِفةَ المَسْح على الجَبِيرة.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

لتحميل الدَّرس الرَّابع مسموعًا ، اضغطن [ هُنا ] .

 

استمعنَ للدَّرس، فهو جميلٌ، ويَحوي فوائِد لم أذكُرها في التَّفريغ.

 

نفعني اللهُ وإيَّاكُنَّ به (":

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

:: الدَّرسُ الخَامِسُ ::

. . . . . . .

 

 

وفي بيان صِفةِ المَسْح على الخُفَّيْن والكلام عن أحكام الجَبيرة،

يقولُ المُؤلِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: [ فإن كان على أعضاءِ وُضوئِهِ جَبيرةٌ

على كَسْرٍ أو دَواءٌ على جُرْحٍ، ويَضُرُّهُ الغُسْلُ، مَسَحَه بالماءِ في الحَدَثِ الأكبر

والأصغر حتى يَبرأ ]. قال: [ وصِفةُ مَسْح الخُفَّيْن أن يَمْسَحَ أكثرَ ظاهِرهما،

وأمَّا الجَبيرةُ فيَمْسَحُ على جَميعِها ].

 

فأفادَنا- رَحِمَهُ اللهُ تعالى- جُمْلَةً من المسائل:

أوَّلها، وهِيَ خاتِمة المَسْح على الخُفَّيْن: أنَّ صِفةَ المَسْح على الخُفِّ

أن يَمْسَحَ المُسلِمُ على ظاهِر خُفِّهِ، ولا يَمْسَح على أسفل الخُفِّ.

ودَليلُ ذلك قولُ عليِّ بن أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (( لو كان الدِّينُ بالرأي،

لكَانَ أسفلُ الخُفِّ أَوْلَى بالمَسْح من أعلاه، وقد رأيتُ رسولَ اللهِ- صلَّى اللهُ

عليه وآلِهِ وسلَّم- يَمْسَحُ على ظاهِر خُفَّيْه )).

هذا الأثرُ أخرجه الإمامُ ابو داوود رَحِمَه اللهُ تعالى،

وصَحَّحه العَلَّامةُ الألبانيُّ رَحِمَه اللهُ تعالى.

 

فيَدُلُّ هذا على مسائل وعلى فوائِد:

أوَّلها: أنَّ المَسْحَ على الخُفِّ يكونُ على الأعلى ( الجُزء الأعلى،

الذي هو ظاهِرُ القَدم )، وأنَّ الإنسانَ لا يَمْسَحُ باطِنَ القَدم،

وباطِلًا إذا كان قد لَبِسَ الخُفَّيْن عليهما.

 

وفي قول عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه: (( لو كان الدِّينُ بالرأي، لكَانَ كذا وكذا ))

بيانُه إلى أنَّ المُسلِمَ يَستقي تعاليمَ هذا الدِّين مِن كتاب اللهِ ومِن سُنَّةِ

رسول الله صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم، وأنَّ العقلَ السليمَ هو الذي يتبعُ

شَرعَ الله جَلَّ وعَلا.

 

لا يَجوزُ للمُسلِم أن يُحَكِّمَ في دِين الله سُبحانه وتعالى عَقلَه.

فكَم مِن أُناسٍ حَكَّموا عُقولَهم وأهواءَهم، فضَلُّوا عن سَواءِ السَّبيل!

الشيءُ الحَسَنُ نقولُ عنه حَسَنًا إذا أثْبَتَ الشَّرعُ الحَنيفُ المُطَهَّرُ أنَّه حَسَنٌ،

ونقولُ عن الشيءِ إنَّه غيرُ حَسَنٍ وقبيحٌ إذا دَلَّ شَرعُ اللهِ جَلَّ وعَلا على قُبْحِهِ،

أمَّا أن نُحَكِّمَ عُقولَنا، فهذا هو الضَّلالُ المُبينُ.

 

ولو تأمَّلنا في الحَديثِ الذي أخرجه البُخاريُّ ومُسلِمٌ في صحيحيهما

عن أنسٍ- رضِيَ اللهُ عنه- أنَّ ثلاثةً جاءوا إلى بُيُوتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه

وآلِهِ وسلَّم، فسألوا عن عِبادةِ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم،

فكأنَّهم تقالُّوها.

 

سألوا أزواجَ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كيف هِيَ عِبادةُ رسول الله

صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم؟ فأُخْبِروا بذلك، فكأنَّهم تقالُّوها. فقالوا:

إنَّه رسولُ الله، وإنَّ اللهَ قد غَفَر له ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأخَّر.

 

قال أحدُهم: أمَّا أنا فأقومُ ولا أنامُ.

وقال الثاني: وأمَا أنا فأصومُ ولا أُفطِر.

وقال الثالثُ: وأمَّا أنا فلا أتزوَّجُ النِّساءَ.

 

هذه الأعمالُ التي ذَكَرَها هؤلاءِ الصَّحابةِ رضوانُ الله عليهم،

أوَّلًا: لا شَكَّ ولا رَيْبَ أنَّهم قالوا هذا الكلامَ عن حُسن قَصْدٍ، وعن حُسْن نِيَّةٍ،

وساقَهم إليه حِرْصُهم على طاعةِ اللهِ جَلَّ وعَلا وعلى عِبادةِ اللهِ سُبحانه وتعالى.

 

وثانيًا: لو نَظَرَ الإنسانُ إلى هذه الأعمال وحَكَّمَ عَقلَه، لَقَالَ إنَّها أعمالٌ جليلةٌ عظيمةٌ.

أحَدُهم يَصومُ كُلَّ يومٍ، والثاني يتبتَّلُ ويَعتزلُ الدُّنيا ولا يتزوَّجُ ولا يأكُلُ اللَّحمَ

(كما في بعض الرواياتِ)، وأمَّا الثالثُ فيقومُ الليلَ كُلَّه. قِيامُ الليل مِن أَجَلِّ الأعمال

وأفضلِها.

 

هذا إذا حَكَّمنا عُقولُنا، ولكنَّ النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم- لَمَّا

رَجَعَ إلى بيتِهِ أُخْبِرَ بما قال هؤلاءِ الثلاثة، فغَضِبَ صلَّى اللهُ عليه

وعلى آلِهِ وسلَّم، وصَعِدَ المِنبر، وخَطَبَ الناسَ، فقال:

(( ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا ))، ثُمَّ ذَكَرَ مقالَتَهم، (( لكنِّي أُصلِّي وأنامُ،

وأصومُ وأُفْطِرُ، وأتزوَّجُ النِّساءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي )) مُتَّفَقٌ عليه.

 

فدَلَّ هذا الحَديثُ عن رسول اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم- على أنَّ

العِبرة هِيَ اتِّباعُ السُّنَّةِ.

 

هكذا الإنسانُ لو حَكَّمَ عقلَه في باب المَسْح على الخُفَّيْن،

فإنَّ القَدمَ وأسفلَ القَدم هو الذي يَلْقَى الأرضَ وهو الذي يُقابِلُ الأرضَ.

فلو حَكَّمَ الإنسانُ عقلَه لَقَالَ: أسفلُ الخُفِّ أوْلَى بالمَسْح من أعلاه.

ولكنَّها السُّنَّةُ. كان النبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يَمْسَحُ أعلَى الخُفِّ

ولا يَمْسَحُ أسفلَه. هذا هو الثَّابِتُ الصَّحيحُ عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وصِفةُ المَسْح على الخُفَّيْن كما يقولُ العُلماءُ: أن يُمَرِّرَ يَدَيْهِ على أعلى الخُفِّ مرَّةً واحدةً.

ويَجوزُ أن يَمْسَحَ الرِّجْلَ اليُمنَى باليَدين معًا، وأن يَمْسَحَ اليُسرى باليَدين معًا،

وإذا مَسَحَ بكُلِّ يَدٍ خُفًّا أجْزَأهُ ذلك؛ لأنَّه لم يَرِد تحديدُ شيءٍ من ذلك

عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم. فهذه هِيَ السُّنَّةُ.

 

فما أجْمَلَ بالإنسان أن يَحرِصَ على اتِّباع سُنَّةِ رسول الله صلَّى اللهُ عليه

وعلى آلِهِ وسلَّم، وعلى تَقَفِّي الأثَر؛ لِيَكونَ مِن رَهْطِ رسول الله صلَّى اللهُ عليه

وعلى آلِهِ وسلَّم!

 

ذَكَرَ المُؤلِّفُ بعد هذا المَبْحَثِ مَبْحَثَ المَسْح على الجَبيرة.

 

والجَبيرةُ- كما يقولُ العُلماءُ-: هِيَ أعْوادٌ ونحوُها- كالجِبْس- مِمَّا يُرْبَطُ على الكَسْر

لِيُجْبَرَ ويلتَئِمَ.

 

والسُّنَّةُ المَسْحُ عليها، بل الواجِبُ هو المَسْحُ عليها إذا كان الإنسانُ

يَجِدُ ضَررًا من استعمال الماءِ.

 

فإذا كان على عُضوٍ من أعضاءِ الوضوءٍ جُرْحٌ أو نحو ذلك مِن كَسْرٍ ونحوه

ويَضُرُّ استعمالُ الماءِ معه، ورَبَطَه الإنسانُ بجَبيرةٍ أو بجِبْسٍ- كما هو الحالُ

في هذه الأيَّامِ- أو وَضَعَ عليها لِفافةً أو وَضَعَ عليها بعضَ اللَّصقاتِ ونحوَ ذلك،

فما الحُكمُ إذا أرادَ أن يتوضَّأ؟ وما الحُكمُ إذا أرادَ أن يَغتسِلَ؟

 

الحُكمُ كما قال المُؤلِّفُ- رَحِمَهُ الله- أنَّه يَمْسَحُ على هذا العُضو،

يتوضَّأ وضوءَه الكامِلَ، فيَغسِلُ أعضاءَه، فإذا جاء عند هذا العُضو المَجروح

أو المكسور الذي عليه جَبيرةٌ، فإنَّه لا يَغسِلُه ما دام أنَّ الماءَ يَضُرُّه،

وإنَّما يَمْسَحُ عليه، ويُعَمِّمُ المَسْحَ على كُلِّ الجَبيرة.

وهذا فَرْقٌ من الفروق بين المَسْح على الجَبيرة وبين المَسْح على الخُفَّيْن.

 

والمَسْحُ على الجَبيرة جاءت فيه أحاديثُ كثيرةٌ عن النبيِّ- صلَّى اللهُ عليه

وآلِهِ وسلَّم- فيها مشروعيَّةُ المَسْح على الجَبيرة، ولكنْ قال المُحَدِّثونَ:

هذه الأحادِيثُ لا تَصِحُّ، وهِيَ أحاديثُ ضعيفةٌ لا تثبُتُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

 

إذًا، ما الدليلُ على جَواز المَسْح على الجَبيرة؟

الدليلُ على ذلك: فِعْلُ عبد الله بن عُمَر رَضِيَ اللهُ عنهما؛

فقد ثَبَتَ عن عبد الله بن عُمَر- رَضِيَ اللهُ عنهما- أنَّه مَسَحَ على الجَبيرة.

 

والعُلماءُ استَدَلُّوا بفِعلهِ- رَضِيَ اللهُ عنه- على وجوب المَسْح

على الجَبيرة إذا عَجِزَ الإنسانُ عن استعمال الماءِ.

 

 

إذًا، يتلخَّصُ من هذا الأمر أنَّ المُسلِمَ إذا توضَّأ، فإنَّه يَغسِلُ قَدمَيْه إذا كانتا مكشوفتين،

فإن كان على القَدمين الخُفُّ، فيُشرَعُ له أن يَمْسَحَ على الخُفّيْن،

كما تقدَّمَ معنا في الأحاديثِ المُتقدِّمةِ.

 

ومِن أحكام المَسْح على الخُفَّيْن أيضًا: المَسْح على الجَبيرة؛

وهِيَ اللَّفائِفُ ونحو ذلك، التي تُوضَعُ على الجُرُوح.

 

يقولُ العُلماءُ: لا بُدَّ في المَسْح على الجَبيرة أن تكونَ موضوعةً

على مِقدار الجُرْح أو على مِقدار الكَسْر، فلا تتعدَّى قَدْرَ الحاجةِ.

فإذا كان الكَسْرُ في المِفْصَل، فإنَّه يُوضَعُ جَبيرةٌ على هذا القَدْر،

لا يتعدَّاها إلى المرفق. فإنَّه إذا تعدَّاها، يَجِبُ على هذا أن يَنزِعَ

ما زاد عن قَدْر الحاجةِ.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

ومن باب الفائدةِ، فإنَّ العُلماءَ يذكرونَ بعضَ الفوارِق التي يَختلِفُ فيها

المَسْحُ على الخُفَّيْن عن المَسْح على الجَبيرة، فيقولون:

 

1- المَسْحُ على الجَبيرة واجِبٌ، وأمَّا المَسْحُ على الخُفَّيْن فجائِزٌ؛

لأنَّ المَسْحَ على الجَبيرة يقومُ مقامَ غَسْل العُضو الذي عَجِزنا عن غَسْلِهِ،

بخِلافِ المَسْح على الخُفَّيْن. فمَن كان لابِسًا للخُفَّيْن، يَجوزُ أن يَمْسَحَ عليهما

كما هِيَ السُّنَّةُ، كما أنَّه يَجوزُ له أن يَخلَعَ الخُفَّيْن وأن يَغسِلَ القَدمَيْن.

 

2- المَسْحُ على الجَبيرة يكونُ في الطَّهارتَيْن الصُّغرى والكُبرَى؛

لأنَّه لا يُمكِنُ المَريض إلَّا ذلك. المَريضُ إذا وَضَعَ الجَبيرةَ لا يَدري متى يَنزِعُها،

فرُبَّما أحْدَثَ حَدَثًا أكبر، فيَمْسَحُ على الجَبيرة في الطَّهارتَيْن الصُّغرى والكُبرى،

بخِلافِ المَسْح على الخُفِّ. المَسْحُ على الخُفِّ لا يَجوزُ إلَّا في الطَّهارة الصُّغرى،

كما تقدَّمَ معنا.

 

3- المَسْحُ على الجَبيرة يَمْسَحُ عليها إلى أن يَنزِعَها بدُون توقيتٍ،

حتى يُشفَى من ذلك ويزولَ العُذرُ الذي كان لأجلِهِ يَمْسَحُ عليها،

بخِلافِ المَسْح على الخُفَّيْن، فإنَّه مُؤقَّتٌ بوَقتٍ مُعيَّنٍ مُحَدَّدٍ؛ المُقيمُ يَومٌ وليلةٌ،

والمُسافِرُ ثلاثة أيَّامٍ بلَيالِيهِنَّ.

 

4- الجَبيرةُ يَمْسَحُ المَريضُ عليها مَسْحًا كامِلًا يَستوعِبُ أعلاها وأسفلَها،

يَبُلُّ يَدَه ويُمرِّرُها على الجَبيرة بالكامِل كما نَصَّ على ذلك العُلماءُ،

بخِلافِ المَسْح على الخُفَّيْن؛ فإنَّ المَسْحَ على الخُفِّ يكونُ على أعلاه،

يَبُلُّ يَدَه ويَمْسَحُ ظاهِرَ القَدم كما تقدَّمَ معنا.

 

5- المَسْحُ على الخُفَّيْن لا يكونُ إلَّا لِمَن لَبِسَ الخُفَّ على طَهارةٍ،

أمَّا مَن لَبِسَ الخُفَّ على غير طَهارةٍ مُتقدِّمةٍ، فإنَّه يَجِبُ عليه أن يَنزِعَ الخُفَّ

وأن يَغسِلَ القَدمين، ثُمَّ يستأنِفُ بعد ذلك إنْ أراد المَسْحَ على الخُفِّ

من الوقتِ الآخِر. أمَّا المَسْحُ على الجَبيرة فالصحيحُ أنَّه لا يُشترَطُ

أن يكونَ قد وَضَعها على طَهارةٍ، بل إنَّ المَريضَ لا يَدري متى يقعُ له هذا،

فرُبَّما وَقَعَ حادِثٌ مُفاجِئٌ استلزمَ معه وَضْعُ الجَبيرة على الفَوْر،

ويكونُ الإنسانُ غيرَ مُتَهَيِّئٍ أو غير مُتوضِّئٍ.

ولذا كان الصَّحيحُ من أقوال أهل العِلم أنَّ الجَبيرةَ

يُمْسَحُ عليها وإنْ شَدَّها على غير طَهارةٍ.

 

 

وإذا تأمَّلنا، يكونُ عندنا ( المَسْحُ ) في باب الوضوءِ على ثلاثةِ أشياء:

 

1- المَسْح على الرأس في الوضوءِ، وهو يُمْسَحُ مرَّةً واحدةً

كما جاءت بذلك الأحاديثُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم.

 

2- المَسْحُ على الخُفَّيْن.

 

3- المَسْحُ على الجَبيرة.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

= نواقِضُ الوضــوءِ =

 

يقولُ المُؤلِّفُ رَحِمَهُ الله:

[ بابُ نواقِض الوضوءِ: وهِيَ الخَارِجُ مِنَ السَّبيلَيْن مُطْلَقًا ].

 

هذا هو النَّاقِضُ الأوَّل مِن نواقِض الوضوءِ.

 

والمُرادُ بقولِهِ [ السَّبيلَيْن ] : الخَارِج مِنَ القُبُلِ أو الدُّبُرِ.

فالسَّبيلان هُما: القُبُلُ والدُّبُرُ.

 

وقولُ المُؤلِّفِ: [ الخَارِجُ مُطْلَقًا ] يعني سواءٌ كان هذا الخَارِجُ طاهِرًا أو كان نَجِسًا،

سواءٌ كان الخَارِجُ مِنَ السَّبيلَيْن قليلًا أو كثيرًا، سواءٌ كان الخَارِجُ مِنَ السَّبيلَيْن

نادِرًا أو مُعتادًا. فكُلُّ ما خَرَجَ مِن أحدِ السَّبيلَيْن هو ناقِضٌ من نواقِض الوضوءِ.

 

وإذا تأمَّلَ الإنسانُ في الخَارِجِ مِنَ السَّبيلَيْن أو مِن أحدِ السَّبيلَيْن- مِن ذلك المَنِيّ-

فخُرُوجِ المَنِيِّ يُعتَبَرُ معه الإنسانُ مُحْدِثًا حَدَثًا أكبرَ، فتنتقِضُ طَهارتُه، ويَلزَمُه أن يَغتسِلَ.

وكذلك الرِّيحُ، وكذلك البَوْلُ والغائِطُ والمَذْيُ والوَدْيُ.

هذه الأشياءُ كُلُّ ما خَرَجَ مِنَ السَّبيلَيْن، فيُعتَبَرُ ناقِضًا من نواقِض الوضوءِ.

 

ولو تأمَّلناه، فالمَنِيُّ طاهِرٌ، والرِّيحُ طاهِرٌ، ومع هذا فهِيَ من نواقِض الوضوءِ.

كذلك البَوْلُ والغائِطُ والمَذْيُ والوَدْيُ، هذه مِنَ النَّجاساتِ،

والخَارِجُ منها يكونُ أيضًا من نواقِض الوضوءِ.

 

كذلك قال العُلماءُ: لو خَرَجَ مِنَ القُبُلِ أو مِنَ الدُّبُرِ حَصاةٌ أو حَجَرٌ أو نحوُ ذلك،

فإنَّ هذا أيضًا يُعتَبَرُ من نواقِض الوضوءِ. وهذا معنى قولِهِ رَحِمَهُ اللهُ:

[ وهِيَ الخَارِجُ مِنَ السَّبيلَيْن مُطْلَقًا ].

 

دَلَّ على ذلك قولُ اللهِ سُبحانه وتعالى: (( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )) المائدة/6،

وكذلك حَديثُ صَفوان بنُ عَسَّال رَضِيَ اللهُ عنه، وقد تقدَّمَ معنا في باب:

المَسْح على الخُفَّيْن. قال: (( كان رسولُ الله- صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم-

يأمُرُنا إذا كُنَّا سَفْرًا- يعني مُسافرين- ألَّا ننزِعَ خِفافَنا ثلاثةَ أيَّامٍ ولَيالِيَهُنَّ

إلَّا مِن جَنابةٍ، ولكنْ مِن غائِطٍ وبَوْلٍ ونَوْمٍ )) حَسَّنه الألبانيُّ.

فدَلَّ قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (( ولكنْ مِن غائِطٍ وبَوْلٍ ونَوْمٍ ))

دَلَّ على أنَّ هذه من أسباب الحَدَثِ، ومن أسباب نَقْض الوضوءِ، الغائِط والبَوْل والنَّوْم.

 

كذلك جاء في الصَّحيح عن أبي هُريرة- رَضِيَ اللهُ عنه- أنَّ النبيَّ- صلَّى اللهُ

عليه وسلَّم- قال: (( لا تُقْبَلُ صلاةُ مَن أحْدَثَ حتى يتوضَّأ ))،

فقال رَجُلٌ مِن حضرموت لأبي هُريرة: ما الحَدَثُ يا أبا هُريرة؟

فقال: فُسَاءٌ أو ضُراط.

 

يعني: الصَّوتُ أو الرِّيحُ هو من أنواع الحَدَثِ التي يَنتقِضُ معها الوضوءُ.

 

وقال عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه: (( كُنتُ رَجُلًا مَذَّاءُ، فأَمَرْتُ المِقدادَ ))- استحياءً منه

رَضِيَ اللهُ عنه أن يسألَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكَلَّفَ بعضَ الصَّحابةِ

بذلك- قال: (( فأَمَرْتُ المِقدادَ أن يَسألَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسألَه،

فقال: فيه الوضوءُ )) رواه البُخاريُّ. فقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:

(( فيه الوضوءُ )) دليلٌ على أنَّ خُرُوجَ هذا السائِل يُعتَبَرُ من نواقِض الوضوءِ.

تم تعديل بواسطة بسمَة

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

النَّاقِضُ الثَّاني من نواقِض الوضوءِ: قولُ المُؤلِّفِ: [ والدَّمُ الكثيرُ ونحوُه ].

 

ومعنى ذلك أنَّه الدَّمُ الخَارِجُ من غير السَّبيلَيْن؛

لأنَّ الدَّمَ لو خَرَجَ من أحدِ السَّبيلَيْن- كَدَم الحَيْض أو دَم النِّفاس

أو الاستحاضةِ- فإنَّ هذا يُعتَبَرُ من نواقِض الوضوءِ عند أهل العِلم،

على خِلافٍ في دَم المُستحاضةِ. لكنْ دَمُ الحَيْض يُعتَبَرُ من النَّواقِض،

ويَلزَمُ معه الغُسْلُ؛ لأنَّ صاحِبَتَه تكونُ مُحْدِثةً حَدَثًا أكبر.

فالمُؤلِّفُ يقولُ: [ والدَّمُ الكثيرُ ونحوُه ] يَقصِدُ بذلك الدَّم الذي يَخرُجُ

من غير السَّبيلَيْن، أمَّا الخَارِجُ من أحد السَّبيلَيْن فإنَّه نَجِسٌ، ويُعتَبَرُ من النَّواقِض.

 

فهُنا قولُه: [ والدَّمُ الكثيرُ ] أيْ: الدَّمُ الخَارِجُ من غير السَّبيلَيْن،

[ ونَحوُه ] أيْ: مِثل القَيْء، ومِثل الصَّديد، يُعتَبَرُ ذلك من نواقِض الوضوءِ.

والذي دَلَّ على ذلك جُمْلَةٌ من الأدِلَّةِ يذكُرُها العُلماءُ، ولكنْ فيها ضَعفٌ.

 

جاء في بعض الأحادِيثِ أنَّه يتوضَّأ من القَيءِ ونحوه،

وكذلك يتوضَّأ من كذا وكذا، لكنَّها أدِلَّةٌ ضعيفةٌ لا تَصِحُّ

عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم.

 

والأصلُ أنَّه لا نُثبِتُ شيئًا أنَّه من نواقِض الوضوءِ إلَّا بدليلٍ صحيحٍ.

وبذلك كان الرَّاجِحُ من أقوال أهل العِلم أنَّ خُرُوجَ هذه الأشياءِ

لا يُعَدُّ من نواقِض الوضوءِ؛ لأنَّه لم يَرِد دليلٌ على نقض الوضوءِ بها،

والأصلُ بقاءُ الطَّهارة.

 

وعلى هذا فلو توضَّأ الإنسانُ ثُمَّ جُرِحَ، فخَرَجَ منه دَمٌ كثيرٌ من يَدِه

أو من قَدَمِهِ أو من نحو ذلك، فإنَّ هذا لا يُعَدُّ من نواقِض الوضوءِ،

وإنَّما يَغسِلُ مَوضِعَ هذا الدَّمِ، وليس عليه شيءٌ غير ذلك.

 

كذلك لو استقاء الإنسانُ، فإنَّ القَيْءَ لا يُعَدُّ من نواقِض الوضوءِ.

نعم جاء حَديثٌ عن النبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يُصَحِّحُه العُلماءُ؛

وهو أنَّ النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- (( قاء فأفْطَرَ )) ،

وفي روايةٍ: (( قاء فتوضَّا )).

فقال بعضُ أهل العِلم: يَدُلُّ هذا الحَديثُ- وهو حَديثُ أبي الدرداء

رَضِيَ اللهُ عنه- على أنَّ مَن استقاءَ أو مَن قاءَ يَجِبُ عليه أن يتوضَّأ.

 

وفي الحقيقةِ هذا الحَديثُ لا يُفيدُ ذلك، إنَّما يُفيدُ استحبابَ الوضوءِ

من القَيْءِ ونحو هذا، أمَّا أنَّه يَدُلُّ على الوجوب وأنَّ القَيْءَ من النَّواقِض،

فإنَّ هذا الحَديثِ لا يَدُلُّ على ذلك، كما ذَكَرَ المُحَقِّقونَ من أهل العِلم.

 

 

النَّاقِضُ الثالثُ الذي ذَكَرَه المُؤلِّفُ في هذا الباب هو:

[ زَوالُ العَقل بالنَّوْم أو غيره ]. وهذا يَدُلُّ عليه حَديثُ صَفوان المُتقدِّم،

لَمَّا قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (( ولكنْ مِن غائِطٍ وبَوْلٍ ونَوْمٍ ))،

فقولُه: (( مِن غائِطٍ وبَوْلٍ ونَوْمٍ )) دليلٌ على أنَّ النَّوْمَ يكونُ من نواقِض الوضوءِ.

والمُرادُ به: النَّوْمُ الذي يَذهبُ معه الإحساسُ، أمَّا مُجرَّد النُّعاس

فلا يُعَدُّ من نواقِض الوضوءِ. ويَعرِفُ الإنسانُ ذلك بأنَّه إذا غَفَلَ

أو غَفَت عينُه يكونُ شاعِرًا بمَن حولَه. وإنَّما إذا زال عقلُه بالكُلِّيَّةِ بالنَّوْم

وأصبح لا يَشعُرُ بمَن حولَه، فهذا هو النَّوْمُ الذي يُعَدُّ من نواقِض الوضوءِ.

 

وقولُ المُؤلِّفِ: [ زَوالُ العَقل بغير النَّوْم ] المُرادُ به: زَوالُ العَقل بالجُنون مثلًا

أو بالإغماءِ أو بالصَّرَعِ أو بالسُّكْرِ، عِياذًا بالله. كُلُّ ذلك يُعَدُّ من نواقِض الوضوءِ.

ودَليلُه الحَديثُ الذي ذكرناه آنِفًا.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

كذلك من نواقِض الوضوءِ: [ أكلُ لَحم الجَزور ].

 

والجَزُورُ: المُرادُ به لَحْم الإبِل.

 

ودليلُ ذلك: حَديثُ جابر بن سَمُرة- رَضِيَ اللهُ عنه- أنَّ رَجُلًا سأل رسولَ اللهِ

صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أأتوضَّأُ من لَحم الغَنَم؟ قال: (( إنْ شِئتَ فتوضَّأ،

وإنْ شِئتَ فلا تتوضَّأ )). يعني الأمرُ بالخِيار. قال: أتوضَّأُ من لُحوم الإبل؟

قال: (( نعم، فتوضَّأ من لُحوم الإبل )) رواه مُسلِم.

 

كذلك في حَديثِ البَراءِ بن عازِبٍ- رَضِيَ اللهُ عنهما- قال: سُئِلَ رسولُ الله-

صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم- عن الوضوءِ من لُحوم الإبل، قال:

(( توضَّأوا منها )) صَحَّحه الألبانيُّ.

فهذا أمرٌ من النبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم- بالوضوءِ من لَحم الإبل،

فمَن أكَلَ لَحمًا من لَحم الإبل، فإنَّه يَنتقِضُ وضوءُه، ويَجِبُ عليه أن يتوضَّأ.

 

جاء في بعض الأحاديثِ تعليلُ ذلك؛ وهو أنَّ الإبلَ خُلِقَت مَنَ الشَّياطين،

وفي بعضِها أنَّ النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال:

(( إنَّ وراءَ كُلِّ بعيرٍ شيْطانًا )) صحيح الجامع، إلى غير ذلك.

لكنْ يبقى أنَّ المُسلِمَ إذا أُمِرَ بأمرٍ يُبادِرُ إلى تطبيقِهِ والعَمل به،

سواءٌ عرف الحِكمةَ من ذلك أو لم يَعرِف.

 

والقَولُ بأنَّ أكْلَ لَحم الإبل من نواقِض الوضوءِ هو القَولُ الصَّحيح،

وقد ذَهَبَ إليه الإمامُ أحمد- رَحِمَهُ اللهُ تعالى- خِلافًا للأئمةِ الثلاثةِ.

ودليلُ الإمام أحمد على ذلك: هذان الحَديثان الصَّحيحان؛ حَديثُ جابر بن سَمُرة،

وهو في صحيح الإمام مُسلِم، وحَديثُ البَراء بن عازِبٍ، وهو في سُنَن أبي داوود

والتِّرمِذِيِّ وابن ماجه وفي مُسْنَدِ الإمام أحمد، وهما حَديثان ثابتان

عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم.

 

 

النَّاقِضُ الخامِسُ الذي ذَكَرَه المُؤلِّفُ- رَحِمَهُ اللهُ تعالى- من نواقِض الوضوءِ:

[ مَسُّ المَرأةِ بشَهْوَةٍ ].

 

ذَكَرَ المُؤلِّفُ أنَّ من نواقِض الوضوءِ [ مَسّ المَرأة بشَهْوَةٍ ].

ودليلُ ذلك قولُ اللهِ سُبحانه وتعالى: (( أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ )) المائدة/6.

وهذا في الآيةِ: (( وَإِن كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ

أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ... )) المائدة/6، إلى آخِر الآيةِ.

 

قالوا: هذه الآيةُ تَدُلُّ على أنَّ مَسَّ المَرأةِ ناقِضٌ للوضوءِ مُطْلَقًا،

سواءٌ كان بشَهْوَةٍ أو بغير شَهْوَةٍ؛ لأنَّ مَجَرَّد لَمْس المَرأةِ يكونُ

من نواقِض الوضوءِ. هكذا قال بعضُ العُلماءِ.

 

والمُؤلِّفُ يقولُ: المَسُّ الذي يَنقُضُ الوضوءَ هو المَسُّ الذي يكونُ بشَهْوَةٍ.

 

لماذا قَيَّدَهُ المُؤلٍّفُ بهذا؟

قَيَّدَهُ المُؤلِّفُ بذلك لأنَّه جاءت أحاديث عن النبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم-

أنَّه مَسَّ المَرأةَ وهو يُصلِّي، فهو جَمَعَ بين الآيةِ وبين الأحاديثِ

أنَّ المَسَّ للمَرأةِ الوارد في الآيةِ هو الذي يكونُ مع الشَّهْوَةِ،

وأنَّ المَسَّ الذي جاءت به الأحاديثُ هو الذي يكونُ بدُون شَهْوَةٍ.

 

هكذا يُمكِنُ أن يُعلّلَ لقولِ مَن قال إنَّ مَسَّ المَرأةِ يَنقُضُ الوضوءَ.

لكن الرَّاجحُ عند العُلماءِ أنَّ مَسَّ المَرأةِ ليس من نواقِض الوضوءِ،

وهذا على الرَّاجِح.

 

ماذا نقولُ في الآيةِ: (( أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ... )) الآية؟

(( أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ )) المُرادُ بالمُلامَسةِ هُنا: الجِمَاع.

فليس فيها دليلٌ على أنَّ مَسَّ المَرأةِ مُطْلَقًا يكونُ من نواقِض الوضوءِ،

بل مُلامَسةُ المَرأةِ الوارد في الآيةِ المُراد بها : الجِمَاع، كما نَصَّ على ذلك

المُحَقِّقون من المُفَسِّرين. وبهذا فَسَّرَها عبد الله بن عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما.

 

قال الحافِظُ ابنُ كثيرٍ: صَحَّ من غير وَجهٍ عن عبد الله بن عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ

عنهما- أنَّه قال ذلك.

 

وهذا هو ترجيحُ الحافِظُ ابنُ كثير، ومِن قبله ترجيحُ شيخُ المُفَسِّرينَ

الحافِظُ ابنُ جَريرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

 

فيَبقى أنَّه ليس هناك دليلٌ يُمكنُ أن يُستدَلَّ به على أنَّ مَسَّ المَرأةِ

يُعتَبَرُ من نواقِض الوضوءِ.

 

الذي يَنقُضُ الوضوءَ حِينَ مَسِّ المَرأةِ: إذا خَرَجَ من الإنسان شيءٌ.

إذا مَسَّ المَرأةَ بشَهْوَةٍ وخَرَجَ منه خَارِجٌ من مَنِيٍّ أو مَذْي أو نحو ذلك،

حينئِذٍ تَنتقِضُ طَهارتُه، أمَّا مَسُّها فإنَّ هذا لا يُعتَبَرُ من نواقِض الوضوءِ،

بل جاء في بعض الأحاديثِ والرواياتِ أنَّ النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-

كان رُبَّما قَبَّلَ عائشةَ ثُمَّ صلَّى ولم يتوضَّأ. وهذه إنْ صَحَّت تَدُلُّ على أنَّه

لا يُعتَبَرُ هذا النَّاقِضُ من نواقِض الوضوءِ.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

النَّاقِضُ السَّادِسُ الذي ذَكَرَه المُؤلِّفُ- رَحِمَهُ اللهُ- من نواقِض الوضوءِ: [ مَسُّ الفَرْجِ ].

 

والمُرادُ بالفَرْجِ: هِيَ كلمةٌ يُعَبَّرُ بها عن القُبُلِ والدُّبُرِ.

 

والمَسُّ: المُرادُ به ما كان مِن دُون حائِلٍ. فمَسُّ الفَرْجِ يُعتَبَرُ من نواقِض الوضوءِ،

سواءٌ كان المَسُّ للقُبُلِ أو للدُّبُرِ.

 

والمُرادُ بقَولنا: الدُّبُر؛ أيْ حَلقَةُ الدُّبُر.

 

ودليلُ ذلك: حَديثُ بُسْرة بنت صَفوان- رَضِيَ اللهُ عنها- أنَّها سَمِعَت النبيَّ-

صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يقولُ: (( مَن مَسَّ ذَكَرَه فليتوضَّأ )) صحيح الجامع،

وفي روايةٍ: (( إذا أفْضَى أحَدُكم بيَدِهِ إلى فَرْجِهِ فليَتوضَّأ )) صحيح الجامع.

 

فهذا الحَديثُ الصَّحيحُ يَدُلُّ على أنَّ مَسَّ الفَرْجِ من نواقِض الوضوءِ.

والمُرادُ بالمَسِّ- كما ذَكَرنا- هو أن يَمَسَّه بدُون حائِلٍ.

أمَّا إذا مَسَّه مِن فوق الثِّياب، فإنَّ هذا لا يُعتَبَرُ من نواقِض الوضوءِ.

 

فإذا قال قائِلٌ: جاء حَديثٌ عن النبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم-

وهو أنَّه سُئِلَ عن مَسِّ الذَّكَر، فقال: (( وهل هُوَ إلَّا بَضْعَةٌ مِنك؟ )).

قالوا: هذا حَديثٌ صريحٌ يَدُلُّ على أنَّ مَسَّ الذَّكَر أو مَسَّ الفَرْجِ

لا يُعَدُّ من نواقِض الوضوءِ.

 

فالجَوابُ عن ذلك: أنَّ هذا الحَديثَ حَديثٌ ضعيفٌ جاء بأسانيدَ ضعيفةٍ،

وأنَّ حَديثَ بُسْرَة بنت صَفوان- رَضِيَ اللهُ عنها- هو أَصَحُّ الأحاديثِ

الواردة في الباب.

 

وعلى هذا، فالصَّحيحُ من أقوال العُلماءِ أنَّ مَسَّ الفَرْجِ يُعَدُّ من نواقِض الوضوءِ،

أمَّا مَسُّ ما دُون الذَّكَر من الأُنْثَيَيْن ونحو ذلك أو بين الفَخذين،

وكذلك مَسُّ الأَلْيَتَيْن، فإنَّ هذا لا يُعَدُّ من نواقِض الوضوءِ؛

لأنَّه لم يأتِ ما يَدُلُّ على ذلك من السُّنَّةِ المُطَهَّرةِ.

إنَّما النَّاقِضُ هو مَسُّ الذَّكَر أو مَسُّ الفَرْج، كما تقدَّمَ بيانُه.

 

 

ذَكَرَ المُؤلِّفُ- رَحِمَهُ اللهُ تعالى- أنَّ من نواقِض الوضوءِ أيضًا: [ تَغسيلُ المًيِّتِ ].

وهذا هو النَّاقِضُ السَّابِعُ على ترتيب المُؤلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

 

وفي الحقيقةِ القَولُ بأنَّ تغسيلَ المَيِّتِ من نواقِضِ الوضوءِ استُدلُّ له ببعض الآثار

الواردة عن الصَّحابةِ؛ كقَول عُبيد الله بن عبَّاسٍ حين سُئِلَ:

أَعَلَى مَن غَسَّلَ مَيِّتًا غُسْلٌ؟ فقال: ‹‹ لا، قد إذًا نَجَّسَ صاحِبَه، ولكنَّه وضوءٌ ›› .

يعني لا يَغتسِل، وإنَّما عليه أن يتوضَّأ.

 

فبَعضُهم استَدَلَّ بمِثل هذه الآثار على أنَّ تغسيلَ المَيِّتِ من نواقِضِ الوضوءِ،

ولكنِ الصَّحيحُ الرَّاجِحُ أنَّ غَسْلَ المَيِّتِ لا يُعَدُّ من نواقِض الوضوءِ؛

لأنَّ النَّقْضَ يَحتاجُ إلى دليلٍ شَرعيٍّ يَرتفِعُ به الوضوءُ السَّابِغُ، بدليلٍ شَرعيٍّ.

وليس هُناك دليلٌ مِن كتاب الله ولا مِن سُنَّةِ رسول الله- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-

ولا مِن إجماع العُلماءِ يَدُلُّ على ذلك. لكنْ يُمكنُ أن يُستفادَ من أثَرِ ابن عبَّاسٍ

أو من قَول ابن عبَّاسٍ، يُمكنُ أن يُستفادَ منه أنَّ ذلك على وَجهِ الاستحباب،

فيُستَحَبُّ له أن يتوضَّأ. لكنْ إنْ لم يَفعَل، فطَهارتُه والحالةُ هذه صَحيحةٌ.

وقد صَحَّ عن عبد الله بن عُمَر- رَضِيَ اللهُ عنهما- أنَّه قال:

( كُنَّا نُغَسِّلُ المَيِّتَ، فمِنَّا مَن يَغتسِلُ، ومِنَّا مَن لا يَغتسِلُ ) صَحَّحَ الألبانيُّ إسنادَه.

فدَلَّ هذا على أنَّ الأمرَ واسِعٌ عندهم.

 

 

كذلك ذَكَرَ المُؤلِّفُ النَّاقِضَ الثامِنَ من نواقِض الوضوءِ،

وهو [ الرِّدَّة ]، عِياذًا باللهِ من ذلك.

 

والرِّدَّةُ: هِيَ تركُ الإسلام، أو أن يأتِيَ المُسلِمُ بأيِّ ناقِضٍ من نواقِض الدِّين

يكونُ معه كافِرًا.

 

والرِّدَّةُ تُحبِطُ الأعمالَ كُلَّها كما قال المُؤلِّفُ: [ الرِّدَّةُ، وهِيَ تُحبِطُ الأعمالَ كُلَّها ].

وتُحبِطُ الأعمالَ إذا مات الإنسانُ على ذلك. قال اللهُ تعالى:

(( وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ )) البقرة/217،

وقال تعالى: (( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ )) المائدة/5،

وقال تعالى: (( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ )) الزمر/65.

 

فدَلَّت هذه الآياتُ على أنَّ الرِّدَّةَ مُحبِطَةٌ للعَمل، لكن الآيةُ التي في سورة البقرة-

وهِيَ الآية الأولى التي ذكرناها (( وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ

فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ))- يُستَدَلُّ بها على أنَّ العَملَ من المُرتَدِّ لا يكونُ لاغيًا

ومُحْبَطًا عند الله إلَّا إذا مات على الكُفِر؛ يعني إذا لم يَرجِع إلى الإسلام.

 

وعلى هذا، لو أنَّ إنسانًا حَجَّ أو اعتَمَرَ، وبعد ذلك ارتَدَّ عِياذًا باللهِ،

ثُمَّ بعد رِدَّتِهِ ونُصح الناس له، رَجَعَ إلى الإسلام، فهل يُقالُ له:

أَعِد الحَجَّ لأنَّ الرِّدَّةَ أحْبَطَت عَملَكَ أم لا يُقالُ له ذلك، ويُقالُ إنَّ حَجَّه

قبل الرِّدَّةِ حَجٌّ صَحيحٌ؟ وكذلك الوضوءُ؟ وكذلك نحو هذا؟

 

يُقالُ على الرَّاجِح وعلى ما هو مفهومٌ من هذه الآيةِ: إنَّ حَجَّه يَصِحُّ منه،

وإنَّ حَجَّه لا يُلْغَى، ولا يَجِبُ عليه أن يُعيدَ الحَجَّ.

وهذا على ما دَلَّت عليه الآيةُ الواردةُ. لكنْ بالنسبةِ للوضوءِ،

فسيأتي معنا أنَّ من أسباب الاغتسال ومن الأشياءِ التي تُوجِبُ الاغتسالَ:

الكُفر. فالكافِرُ إذا أسْلَمَ وَجَبَ عليه أن يَغتسِلَ كما سيأتي معنا إن شاء اللهُ

في باب الغُسْل. والكافِرُ الذي يُسْلِمُ سواءٌ كان كافِرًا أصلِيًّا أو كافِرًا مُرْتَدًّا.

ولهذا سيأتي معنا أنَّ ذلك يُعتَبَرُ من أسباب الاغتسال.

ومن باب أَوْلَى أنَّه يُعيدُ وضوءَه.

ولذلك ذَكَرَه المُؤلِّفُ من أسباب نواقِض الوضوءِ.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إذًا، المؤلِّفُ ذَكَرَ ثمانيةَ أشياء تُعتَبَرُ من نواقِض الوضوءِ،

ذَكَرنا أنَّه يَصِحُّ منها خَمْسَةٌ، وهِيَ:

- الخَارِجُ من السَّبيلَيْن مُطْلَقًا.

- زَوالُ العَقل.

- أكْلُ لَحم الإبِل.

- مَسُّ الفَرْجِ.

- الرِّدَّةُ ( تُوجِبُ على صاحِبِها إذا رَجَعَ إلى الإسلام أن يُعيدَ اغتسالَه ووضُوءَه ).

 

أمَّا تغسيلُ المَيِّتِ ومَسُّ المَرأةِ والدَّمُ الكثيرُ الخارجُ ونحوُه،

فإنَّ هذه الأمورَ مِمَّا اختلف فيه العُلماءُ.

مَّا يترجَّحُ فيها- واللهُ أعلَمُ- أنَّها لا تُعَدُّ من نواقِض الوضوءِ.

 

 

المُؤلِّفُ خَتَمَ هذا البابَ بذِكر بعض الأدِلَّةِ، فقال رَحِمَه الله:

[ لقولِهِ تعالى: (( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ )) المائدة/6 ].

فذَكَرَ هذه الآيةَ مُستدِلًّا بها على ناقِضَيْن من نواقِض الوضوءِ:

- النَّاقِض الأوَّل: هو الخَارِجُ من أحد السَّبيلَيْن.

- والنَّاقِض الثَّاني: مُلامَسةُ النِّساءِ.

 

وذَكَرنا أنَّ الاستدلالَ الأوَّلَ صَحيحٌ، وأمَّا الاستدلالُ الثَّاني فإنَّه لا يَصِحُّ؛

لأنَّ مُلامَسةَ النِّساءِ المُرادُ بها في الآيةِ: الجِمَاعُ، على الصَّحيح من أقوال المُفَسِّرين.

 

كذلك ذَكَرَ المُؤلِّفُ الحَديثَ، قال: [ وسُئِلُ النبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-

أنتوضا من لُحوم الإبل؟ فقال: ( نعم ) رواه مُسلِم ].

وهذا ذَكَرَه المُؤلِّفُ- رَحِمَه اللهُ- لِيَستَدِلَّ به أنَّ من نواقِض الوضوءِ

( أكْل لَحم الإبِل )، وهذا الاستدلالُ استدلالٌ صَحيحٌ، كما تقدَّمَ معنا.

 

كذلك قال: [ وقال في الخُفَّيْن: ( ولَكِنْ مِن غائِطٍ وبَوْلٍ ونَوْمٍ ) رواه النّسائِيُّ

والتِّرمِذِيُّ وصَحَّحَه ]. وأراد المُؤلِّفُ بذِكر هذا الحَديثِ- وهو حَديثُ صَفوان

بن عَسَّال رَضِيَ اللهُ عنه- أراد به الاستدلالَ على أنَّ الغائِطَ،

وكذلك البَوْلَ، وكذلك النَّوْمَ، تُعتَبَرُ من نواقِض الوضوءِ.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

لتحميل الدَّرس الخامِس مسموعًا ، اضغطن [ هُنا ] أو [ هُنا ].

 

استمعنَ للدَّرس، فهو جميلٌ، ويَحوي فوائِد لم أذكُرها في التَّفريغ.

 

نفعني اللهُ وإيَّاكُنَّ به (":

تم تعديل بواسطة بسمَة

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

:: الدَّرسُ السَّادِسُ ::

. . . . . . .

 

 

شَرَعَ المُؤلِّفُ بعد ذلك في بيان أحكام الغُسْل.

يقولُ العُلماءُ رَحِمَهم اللهُ: الغُسْلُ هو استعمالُ مَاءٍ طَهورٍ

في جميع البَدَنِ على صِفةٍ مَخصوصةٍ، على وَجهِ التَّعَبُّدِ للهِ

سُبحانه وتعالى.

 

فالغُسْلُ بهذه الصِّفةِ الشَّرعيَّةِ التي جاءت بها السُّنَّةُ المُطَهَّرةُ

يَفتقِرُ إلى النِّيَّةِ ( نِيَّة التَّعَبُّدِ للهِ جَلَّ وعَلا ).

ومعنى ذلك أنَّ الإنسانَ لو غَسَلَ جَسَدَهُ بنِيَّةِ التَّبَرُّدِ،

أو انْغَمَسَ في الماءِ سِباحةً، أو نحو ذلك،

وهو لا يُريدُ الغُسْلَ الشَّرعِيَّ،

فإنَّه لا يكونُ مُغتسِلًا غُسلًا شَرعِيًّا.

 

لهذا قالوا: هو استعمالُ الماءِ الطَّهُور في جميع البَدَنِ

على صِفةٍ مَخصوصةٍ؛ يعني على الصِّفةِ الشَّرعيَّةِ

التي جاءت بها الأحاديثُ، على وَجهِ التَّعَبُّدِ للهِ سُبحانه.

 

والغُسْلُ واجِبٌ إذا وُجِدَ سَبَبٌ من أسبابه التي دَلَّت عليها الآياتُ

والأحاديثُ الثابتةُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم.

ومِمَّا يَدُلُّ على ذلك: قَوْلُ اللهِ جَلَّ وعَلا

(( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )) المائدة/6.

فأَمَرَ اللهُ سُبحانه وتعالى بالطَّهارةِ في حال حُصُول الجَنابةِ

عند المُسلِم، رَجُلًا كان أو امرأةً.

 

وهذه الطَّهارةُ جاء بيانُها في كتاب الله وفي سُنَّةِ رسول الله-

صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أنَّ المُرادَ بها الاغتسال،

كما قال اللهُ جَلَّ وعَلا في الآيةِ الأُخرى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ

وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا )) النساء/43.

فذَكَرَ اللهُ في هذه الآيةِ مكانَ التَّطهير أو الطَّهارة ( الاغتسال ).

 

وقد جاءت السُّنَّةُ ببيان أنَّ طَهارة الجُنُب المُراد بها الاغتسال.

 

والمُؤلِّفُ- رَحِمَهُ اللهُ تعالى- في هذا الفَصل ذَكَرَ مُوجِباتِ الغُسْل

( الأسباب التي إذا وُجِدَت، وَجَبَ لأجلِها أن يَغتسِلَ المُسلِمُ ).

فذَكَرَ في هذا الفَصل خَمسةً من الأمور التي تُوجِبُ الاغتسالَ

على الإنسان.

 

= أمَّا الأمر الأوَّل: فهو الجَنابة.

قال رَحِمَهُ الله: [ ويَجِبُ الغُسْلُ مِنَ الجَنابةِ؛

وهِيَ إنزالُ المَنِيِّ بوَطءٍ أو غيره، أو بالتقاءِ الخِتانَيْن ].

 

والجَنابةُ- يقولُ العُلماءُ- سُمِّيَت بذلك لأنَّه يَحصُلُ فيها مُجانَبةُ الماءِ للإنسان.

 

فالماءُ يُجانِبُ الإنسانَ، ويَخرُجُ منه، وينفصِلُ منه.

ولهذا سُمِّيَ الإنسانُ جُنُبًا لذلك.

 

وتَحصُلُ الجَنابةُ على الإنسان بإنزال المَنِيِّ، إمَّا بالوَطءِ أو بغير الوَطءِ.

 

إمَّا بالوَطءِ؛ الذي هو الجَمَاعُ.

أو بغير الوَطءِ؛ كأن يَخرُجَ المَنِيُّ بتكرار النَّظَر،

أو بمُباشرةِ الزَّوجةِ، أو نحو ذلك.

 

فإذا خَرَجَ المَنِيُّ مُتَدَفِّقًا بشَهْوَةٍ مِنَ الإنسان،

فإنَّه يَجِبُ عليه حِينئذٍ أن يَغتسِلَ غُسْلَهُ مِنَ الجَنابةِ.

 

قال الإمامُ النَّوَويُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

‹‹ أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على وجوب الغُسْل

على الرَّجُل والمَرأة بخُرُوجِ المَنِيِّ ›› .

 

وهذا المَنِيُّ خُرُوجُه مُوجِبٌ للاغتسال، سواءٌ كان في اليقظةِ

أو في النَّوم. وفي النَّوم يُسَمَّى احتلامًا.

فقد جاء في حَديثِ أُمِّ سَلَمَةَ- رَضِيَ اللهُ عنها- أنَّها قالت:

جاءت أُمُّ سُلَيْمٍ امرأة أبي طلحة- رَضِيَ اللهُ عنها- إلى رسول الله

صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ اللهَ لا يَستحيي من الحَقِّ،

هل على المرأةِ مِن غُسْلٍ إذا هِيَ احتلَمَت؟

فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم:

(( نعم، إذا رأَت المَاءَ )) مُتَّفَقٌ عليه.

 

فقولُه صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم: (( إذا رأَت الماءَ )) المُرادُ به المَنِيّ.

وقولُه: (( إذا رأَت )) يعني إذا تيقَّنَت وعَلِمَت أنَّ هذا الماءَ هو المَنِيّ،

فإنَّها حِينئذٍ تُبادِرُ إلى الاغتسال.

 

أمَّا إذا شَكَّ الإنسانُ ولم يَجِد أثرًا للماءِ، وإنَّما هو مُجَرَّد شَكٍّ

هل احتلَمَ أم لم يَحتلِم، فهذا لا يَجِبُ عليه أن يَغتسِلَ.

 

وهذا بابٌ من أبواب الوِسْوَاس يُدخِلُه الشَّيطانُ على المُسلِم.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

= وأمَّا الأمرُ الثَّاني من الأمور التي يكونُ بها الإنسانُ جُنُبًا،

فهِيَ : التقاءُ الخِتانَيْن، لحَديثِ أبي هُريرةَ- رَضِيَ اللهُ عنه وأرضاه- أنَّ النبيَّ-

صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم- قال:

(( إذا جَلَسَ بين شُعَبِها الأربع، ثُمَّ جَهَدَها، فقد وَجَبَ الغُسْلُ )) مُتَّفقٌ عليه،

وفي روايةٍ لمُسلِمٍ: (( وإن لم يُنْزِل )).

 

فدَلَّ هذا الحَديثُ على أنَّ التقاءَ الخِتانَيْن مِنَ الرَّجُل مع زوجتِهِ يُوجِبُ الاغتسالَ.

(( إذا الْتَقَى الخِتانان وَجَبَ الاغتسالُ )) صحيح الجامع،

سواءٌ أنْزَلَ أو لم يُنْزِل، سواءٌ كان معه مَنِيٌّ أم لم يكُن معه مَنِيٌّ.

فمُجَرَّدُ التقاءِ الخِتانَيْن مُوجِبٌ للاغتسال مِنَ الجَنابةِ.

والمُرادُ بالتقاءِ الخِتانَيْن: الجِماع.

 

والأمرُ الثَّاني من الأمور المُوجِبةِ للاغتسال: خُرُوجُ دَم الحَيْض.

 

 

 

= والأمرُ الثَّالِثُ: خُرُوجُ دَم النِّفاس، وقد دَلَّ على ذلك من كتاب اللهِ سُبحانه

قُولُ اللهِ تعالى: (( وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ

مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ )) البقرة/222.

فقولُه سُبحانه: (( حَتَّى يَطْهُرْنَ )) يعني: حتى يَنقَطِعَ الدَّمُ عنهُنَّ.

(( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ )) يعني: فإذا اغْتَسَلْنَ.

 

فدَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ خُرُوجَ دَم الحَيْض أو انقطاعَ دَم الحَيْض- وانقطاعَ دَم النِّفاس

كذلك مُلْحَقٌ بدَم الحَيْض- هذا الانقطاعُ مُوجِبٌ للاغتسال،

وأنَّه لا يَحِلُّ لزَوجِها ولا يَجوزُ له أن يُجامِعَها وأن يأخُذَ منها ما يأخُذُ الرَّجُلُ من أهلِهِ

إلَّا بعد التَّطَهُّر، الذي هو الاغتسالُ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ:

(( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ )).

وفي حَديثِ عائشةَ- رَضِيَ اللهُ عنها- في صَحيح البُخاريِّ، أنَّ فاطمةَ بنت أبي حُبَيْشٍ-

رَضِيَ اللهُ عنها- سألَت النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم- فقالت: إنِّي أُسْتَحاضُ فلا أَطْهُرُ،

أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ فقال: (( لا، إنَّ ذلك عِرْقٌ، ولكنْ دَعِي الصَّلاةَ قَدْرَ الأيَّامِ

التي كُنتِ تحيضينَ فيها، ثُمَّ اغتسِلي وصَلِّي )).

 

فهذا الحَديثُ في شأن المَرأةِ المُستحاضَةِ التي يَجري معها الدَّمُ.

 

فظَنَّت فاطمةُ بنت أبي حُبَيْشِ- رَضِيَ اللهُ عنها- أنَّ المُستحاضةَ لا تُصلِّي كالحائِض.

فقال لها النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (( إنَّ ذلك عِرْقٌ ))، في بعض الرواياتِ:

(( إنَّما هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيطان )). (( ولكنْ دَعِي الصَّلاةَ قَدْرَ الأيَّامِ التي كُنتِ تحيضينَ فيها ))،

ثُمَّ إذا انتَهَت هذه الأيَّامُ التي هِيَ انتهاءٌ لفترةِ الحَيْض، قال: (( اغتسِلي وصَلِّي )).

 

فدَلَّ قولُه: (( ثُمَّ اغتسِلي وصَلِّي )) على أنَّ انقطاعَ دَمِ الحَيْض- إمَّا حقيقةٌ

في شأنِ المَرأةِ الصَّحيحةِ، وإمَّا تقديرًا في شأنِ المَرأةِ المُسْتَحاضةِ-

أنَّ ذلك مُوجِبٌ للاغتسال.

 

وقال ابنُ المُنْذِر رَحِمَهُ الله: ‹‹ أَجْمَعَ أهلُ العِلم لا اختلافَ بينهم أنَّ

على النُّفَسَاءِ الاغتسال عند خُرُوجِها مِنَ النِّفاسِ ›› .

 

وكذلك قال ابنُ قُدامة: ‹‹ حُكمُ النُّفَسَاءِ حُكمُ الحائضِ في جَميع ما يَحْرُمُ عليها

ويَسقُطُ عنها، لا نعلَمُ في هذا خِلافًا ›› .

 

ولهذا ذَكَرَ المُؤلِّفِ- رَحِمَهُ اللهُ- مِنَ الأشياءِ المُوجبةِ للاغتسال:

انقطاع دَم الحَيْض، وانقطاع دَم النِّفاس.

 

هو يقولُ: [ خُرُوجُ دَم الحَيْض والنِّفاس ].

وهذا الخُرُوجُ مُوجِبٌ للاغتسال إذا انقَطَعَ.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

= الأمرُ الرَّابِع: المَوْتُ.

 

قال: [ ومَوْتُ غير الشَّهِيدِ ].

 

المَوتُ مُوجِبٌ للاغتسال. وهذا الوجوبُ ليس على المَيِّتِ،

وإنَّما على المُسلمين، فهو فَرْضُ كِفايةٍ على المُسلمين.

أمَّا المَيِّتُ فإنَّه بمَوتِهِ لا يُصبِحُ مِنَ المُكَلَّفين، يَنقطِعُ عنه التَّكليفُ.

 

وقد وَرَدَ الأمرُ بغَسْل المَيِّتِ في أحاديث، منها:

حَديثُ أُمِّ عَطيَّة الأنصاريَّة- رَضِيَ اللهُ عنها- قالت:

دَخَلَ علينا رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم- حِينَ تُوفِّيَت ابنتُه،

قال: (( اغْسِلْنَها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثرَ مِن ذلك إن رأيتُنَّ ذلك،

بماءٍ وسْدْرٍ )) مُتَّفَقٌ عليه.

 

وكذلك في حَديثِ ابن عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عنهما- أنَّ رَجُلًا

كان مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم، فوَقَصَته ناقتُه

وهو مُحْرِمٌ (سَقَطَ من على ناقتِهِ، ووَطأته بأقدامها، فمات).

فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم: (( اغْسِلُوهُ بماءٍ وسِدْرٍ ))

مُتَّفَقٌ عليه.

 

وهذا الحَديثان في الصَّحيحين.

 

والمُؤلِّفُ- رَحِمَهُ اللهُ- استَثنَى الشَّهيدَ.

والمُرادُ بالشَّهيدِ: شَهيدُ المَعركةِ الذي يُقتَلُ في المَعركةِ

التي تكونُ لإعلاءِ كلمةِ اللهِ سُبحانه وتعالى.

فإنَّ شهيدَ المَعركةِ لا يُغَسَّلُ، ويُدفَنُ في ثِيابِهِ وفي دِمائِهِ،

ولا يُصلَّى عليه؛ لحَديثِ جابر بن عبد الله- رَضِيَ اللهُ عنهما- قال

عن قَتلَى أُحُدٍ : (( وأَمَرَ النبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بدَفنِهم في دِمائِهم،

ولم يُغَسَّلُوا، ولم يُصلَّ عليهم )). وهذا الحَديثُ حَديثٌ صَحيحٌ

خَرَّجَه الإمامُ البُخاريُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

 

فدَلَّ على أنَّ حُكمَ شهيد المَعركةِ يختلفُ عن بقيَّةِ الأمواتِ.

 

أمَّا الشُّهداءُ الآخَرون مِن أُمَّةِ مُحمدٍ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم،

كالغريق، فإنَّ الغريقَ شهيدٌ، وكذلك المَبطون، والمَرأة تموتُ في نِفاسِها،

والرَّجُلُ يُقتَلُ وهو يَذُودُ عن عِرْضِهِ، أو يَذُودُ عن مالِهِ،

فإنَّ هؤلاءِ شُهداءُ، جاءت تسميتُهم بذلك في أحاديث

عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

هؤلاءِ لا يأخُذُونَ حُكمَ شهيد المَعركةِ باتِّفاق العُلماءِ،

بل إنَّ هؤلاءِ لهم حُكمُ سائِر المُسلمين؛

يُغَسَّلُونَ ويُكَفَّنُونَ ويُصلَّى عليهم.

 

 

= الأمرُ الخامِسُ من الأمور التي تُوجِبُ الاغتسالَ: إسلامُ الكافِر.

 

قال المُؤلِّفُ: [ وإسلامُ الكافِر ].

 

أيْ إذا أسْلَمَ الكافِرُ وَجَبَ عليه أن يَغتسِلَ،

سواءٌ كان كُفْرُهُ أصليًّا أو كان هذا الكافِرُ مُرْتَدًّا.

فالأصليُّ: مَن كان في أوَّلِ حياتِهِ على غير دِين الإسلام،

كاليَهُودِيِّ والنَّصرانِيِّ والبُوذِيِّ، وما أشْبَه ذلك.

إذا أسْلَمَ نأمُرُه بالاغتسال.

 

وكذلك المُرْتَدُّ: مَن كان على دِين الإسلام ثُمَّ ارْتَدَّ،

كمَن ترك الصَّلاةَ، أو اعتقد أنَّ للهِ شريكًا،

أو دَعَا النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أن يُغيثَه مِن الشِّدَّةِ،

أو دَعَا غيرَه في أمرٍ لا يُمكنُ فيه الغَوْثُ،

وهو عالِمٌ وأُقيمَت عليه الحُجَّةُ، وعَرَفَ ذلك،

فإنَّ هذا إذا تاب وأناب ورَجَعَ إلى الله سُبحانه وتعالى،

يَجِبُ عليه أن يَغتسِلَ.

 

ودليلُ ذلك: حَديثُ قَيْس بن عاصِمٍ- رَضِيَ اللهُ عنه- لَمَّا أسْلَمَ،

أمَرَه النبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم- أن يَغتسِلَ بماءٍ وسِدْرٍ.

وهذا الأمرُ دَالٌّ على وجوب الاغتسال. وإنْ كان بعضُ العُلماءِ يَرى

أنَّ هذا الأمرَ يُفيدُ الاستحبابَ. قالوا: لأنَّه لم يَرِد

عن النبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أنَّه أمَرَ كُلَّ مَن أسْلَمَ بالغُسْل.

وما أكثَرَ الصَّحابةِ الذين أسْلَمُوا !

ولم يُنقَل أنَّه صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم أمَرَه بالغُسْل.

قالوا: ولو كان واجِبًا لكان مَشهورًا، لِحَاجةِ الناس إليه.

 

ولكنْ هذا الحَديثُ دَلَّ على الأمر بذلك، والأمرُ به أحْوَطُ،

وفِعْلُهُ أحْوَطُ للإنسان إذا تاب، فهو من تمام توبتِهِ إلى الله جَلَّ وعَلا.

 

فهذه خَمسةُ أُمورٍ ذَكَرَها المُؤلِّفُ- رَحِمَه اللهُ تعالى- أنَّها من مُوجِباتِ الاغتسال.

 

 

ثُمَّ خَتَمَ هذا الفَصل بذِكر بعض الأدِلَّةِ على ذلك، فقال رَحِمَهُ اللهُ:

[ قال تعالى: (( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )) المائدة/6، وقال تعالى:

(( وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ))

البقرة/222؛ أيْ: إذا اغتَسَلْنَ ].

 

المُؤلِّفُ لَمَّا فَسَّرَ قولَه: [ إذا اغتَسَلْنَ ] هذا تفسيرٌ لقولِهِ تعالى: (( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ )) .

 

والمُؤلِّفُ أشار بذلك إلى رَدِّ القَول الذي يقولُ إنَّه يَجوزُ للرَّجُل

أن يُجامِعَ امرأتَه إذا انقطَعَ عنها الدَّمُ ولو لم تغتسِل. وهذا قَولٌ مَرجُوحٌ.

والرَّاجِحُ هو أنَّه لا بُدَّ من اغتسالِها حتى وإن انقَطَعَ الدَّمُ.

لا بُدَّ أن تغتسِلَ ثُمَّ يأتيها زَوجُها.

 

ولهذا أشار المُؤلِّفُ- رَحِمَه اللهُ- إلى ذلك، فقال: [ أيْ: إذا اغْتَسَلْنَ ].

(( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ )) أيْ: إذا اغْتَسَلْنَ.

 

قال: [ وقد أَمَرَ النبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بالغُسْل مِن تغسيل المَيِّتِ ].

كأنَّ المُؤلِّفُ يُشيرُ هُنا إلى أمرٍ سادِسٍ من الأمور التي تُوجِبُ الاغتسالَ،

وهو يُشيرُ إلى الحَديثِ الذي فيه أنَّ النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال:

(( مَن غَسَّلَ مَيِّتًا فليُغتَسِل، ومَن حَمَلَهُ فليتوضَّأ )).

فهذا الحَديثُ يُفيدُ الأمرَ بالاغتسال من تغسيل المَيِّتِ.

فمَن غَسَّلَ مَيِّتًا وَجَبَ عليه أن يَغتسِلَ.

 

ولكنْ هذا الحَديثُ مَحمولٌ عند العُلماءِ على الاستحباب؛

وذلك أنَّه حَديثٌ مُختَلَفٌ في صِحَّتِهِ بين أهل العِلم.

فمِنَ العُلماءِ مَن يُصَحِّحُه، ومِن العُلماءِ مَن يقولُ إنَّ هذا الحَديثَ

من كلام أبي هُريرة، فهو موقوفٌ، وليس من كلام النبيِّ

صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم.

 

وهذا القَولُ الثَّاني- أنَّه من كلام أبي هُريرة- هو القَولُ الصَّحيحُ الرَّاجِحُ.

فقد ذَهَبَ إليه جَماعةٌ من الأئمةِ الكِبار، كالإمام أحمد وعليِّ بن المَدِيني

وابن أبي حاتِم والبَيْهَقِيِّ وغير واحدٍ من العُلماءِ.

 

وقد قال عبد الله بن عُمَر رَضِيَ اللهُ عنهما:

‹‹ كُنَّا نُغَسِّلُ المَيِّتَ، فمِنَّا مَن يَغتسِلُ ومِنَّا مَن لا يَغتسِلُ ›› .

 

فدَلَّ ذلك على أنَّ تغسيلَ المَيِّتِ ليس من مُوجِباتِ الاغتسال.

فمَن غَسَّلَ مَيِّتًا إن شاء اغتَسَلَ أو توضَّأ، وإن شاء لم يَفعَل ذلك.

لا يُعَدُّ ذلك من نواقِض الوضوءِ على الصَّحيح من أقوال العُلماءِ.

 

قال المُؤلِّفُ في آخِر هذا الفَصل:

[ وأَمَرَ- صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم- مَن أسْلَمَ أن يَغتسلَ ].

 

وقد تقدَّمَ بيانُه في الأمر الخامِس من الأمور التي تُوجِبُ الاغتسالَ.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

ثُمَّ ذَكَرَ رَحِمَه اللهُ صِفةَ الاغتسال.

وهذه الصِّفةُ تنقسِمُ إلى قِسمين: صِفةٍ كامِلةٍ، وصِفةٍ مُجزِئةٍ.

 

والمُؤلِّفُ ذَكَرَ الأمرين، فقال:

[ وأمَّا صِفةُ غُسْل النبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مِنَ الجَنابةِ،

فكان يَغْسِلُ فَرْجَهُ أوَّلًا، ثُمَّ يتوضَّأُ وضوءًا كامِلًا،

ثُمَّ يُحْثِي الماءَ على رأسِهِ ثلاثًا، يُرَوِّيهِ بذلك،

ثُمَّ يُفيضُ الماءَ على سائِر جَسَدِهِ، ثُمَّ يَغسِلُ رِجْلَيْه بمَحَلٍّ آخَر.

والفَرْضُ من هذا غَسْلُ جَميع البَدَن،

وما تحت الشُّعور الخفيفةِ والكثيفةِ، واللهُ أعلَمُ ].

 

هذه الصِّفةُ جاءت في حَديثين صَحيحين جامِعَيْن

عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:

 

= أحدهما: حَديثُ ميمونة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت:

(( وَضَعَ رسولُ الله- صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم- وَضُوءًا- يعني ماءً- لِجَنابةٍ،

فأكفَأ بيَمينهِ على شِمالِهِ مرَّتين أو ثلاثًا )). يعني: بدأ فغَسَلَ كَفَّيْه،

وغَسَلَ الكَفَّيْن خارج الإناءِ.

 

(( ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ يَدَهُ بالأرض أو بالحائِطِ، مرَّتين أو ثلاثًا )).

يعني: ليَلتَصِقَ بها شيءٌ مِنَ التُّراب، ويُزيل الرَّائِحةَ،

ويُزيل ما عَلَقَ مِنَ النَّجاسةِ في كَفِّهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم،

ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ.

 

قالت: (( ثُمَّ مَضْمَضَ واستنشَقَ، وغَسَلَ وَجْهَهُ وذِراعَيْه )).

يعني: أنَّه توضَّأ وضوءًا كامِلًا، إلَّا أنَّه لم يَغسِل رِجْلَيْه.

 

قالت: (( ثُمَّ أفاضَ على رأسِهِ الماءَ، ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ،

ثُمَّ تَنَحَّى فغَسَلَ رِجْلَيْه )).

 

وفي روايةٍ أنَّها قالت: (( وغَسَلَ رأسَه ثلاثًا، ثُمَّ أفْرَغَ على جَسَدِهِ )) رواه البُخاريُّ.

 

وفي روايةٍ عنها قالت: (( توضَّأ رسولُ الله- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وُضوءَهُ

للصَّلاةِ غير رِجْلَيْهِ، وغَسَلَ فَرْجَهُ وما أصابَه مِنَ الأذَى، ثُمَّ أفاضَ عليه الماءَ،

ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْه فغَسَلَهما، هذه غُسْلُهُ مِنَ الجنابةِ )) رواه البُخاريُّ.

 

حَديثُ ميمونة- رَضِيَ اللهُ عنها- يُفيدُ أنَّ النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه

وسلَّم- بدأ فغَسَلَ كَفَّيْه خارجَ الإناءِ، ثُمَّ توضَّأ وضوءًا كامِلًا،

إلَّا أنَّه لم يَغسِل رِجْلَيْه، وبَيَّنَت أنَّه غَسَلَ رأسَه ثلاثًا.

وكما سيأتي معنا في حَديثِ عائشةَ أنَّه يُدخِلُ أصابِعَه في أصول الشَّعر؛

لِيَصِلَ الماءُ إلى شَعره، وإلى جِلْدَةِ الشَّعر، فيَغسِلُ ذلك ثلاثًا.

ثُمَّ يُفيضُ الماءَ على سائر جَسَدِهِ.

 

جاء في بعض الرواياتِ- كما سيأتي- أنَّه يبدأ بشِقِّهِ الأيمن،

ثُمَّ يبدأ بشِقِّهِ الأيْسِر، يُفيضُ على سائر جَسَدِهِ.

 

قولُها: (( ثُمَّ أفاض عليه الماءَ )) فيه من الفوائِدِ:

- أنَّه لا يَجِبُ التَّدليكُ.

- وأنَّه يُفيضُ الماءَ على بقيَّةِ الجَسَدِ كما غَسَلَهُ من أعضاءِ الوضوءِ

لا يَجِبُ عليه أن يُمَرِّرَ عليه الماءَ مرَّةً أُخرى.

 

ثُمَّ تقولُ: (( ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْه )). بعد ذلك تَنَحَّى وغَسَلَ رِجْلَيْه.

 

= الحَديثُ الثَّاني: حَديثُ عائشةَ- رَضِيَ اللهُ عنها- قالت:

(( كان رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- إذا اغتسَلَ مِنَ الجَنابةِ

يَبدأ فيَغْسِلُ يَدَيْه )). وهذا مِثْل حَديث ميمونة رَضِيَ اللهُ عنها.

(( ثُمَّ يُفْرِغُ بيَمينهِ على شِمالِهِ، فيَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يتوضَّأ وُضوءَه للصَّلاة )).

وهذا مِثْل حَديثِ ميمونة، إلَّا أنَّه في حَديثِ عائشةَ ظاهِرُهُ أنَّه يتوضَّأ وُضوءَه

كامِلًا بما في ذلك أنَّه يَغْسِلُ القَدمين.

 

قالت: (( ثُمَّ يأخُذُ الماءَ، فيُدخِلُ أصابِعَه في أُصول الشَّعر،

حتى إذا رأى أنَّه قد استبرأ، حَفَنَ على رأسِهِ ثلاثَ حفناتٍ )).

ولهذا يَجِبُ على المُغْتَسِل أن يتأكَّدَ من وصول الماءِ إلى جميع أجزاءِ جَسَدِهِ،

خاصَّةً تلك الأماكن التي قد لا يُصيبُها الماءُ، مِثل: أُصول الشَّعر،

وكذلك تحت الآباطِ، وفي مَوضِع السُّرَّةِ، وبين الألْيَتَيْن، وبين الفَخِذَيْن،

وفي المواضِع التي يُخشَى منها ألَّا يَصِلَ إليها الماءُ. فيَنتبِهُ المُسلِمُ لِكُلِّ ذلك.

 

قالت: (( ثُمَّ أفاض على سائر جَسَدِهِ )).

(( على سائر جَسَدِهِ )) يُفيدُ مِثْلَ ما أفاد حَديثُ ميمونة أنَّه ما دام قد توضَّأ،

فأعضاءُ الوضوءِ لا يَلزَم إمرارُ الماءِ عليها مرَّةً أُخرى.

 

قالت: (( ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْه )) أيْ: بعد ذلك.

 

إذًا، الغُسْلُ الكامِلُ الذي اشتمَلَ عليه هذان الحَديثان هو أنَّ يَبدأ الإنسانُ بالنِّيَّةِ،

وهذا معنى قَول العُلماءِ: أنَّه يَغتسِلُ مُتَعَبِّدًا للهِ سُبحانه.

 

فالطَّهارةُ لا بُدَّ لها مِن نِيَّةٍ، (( إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ ))، وهذا بإجماع أهل العِلم.

 

ومعنى ذلك أنَّه لو انْغَمَسَ في الماءِ واغْتَسَلَ

وهو لا يَذكُرُ الجَنابةَ- اغْتَسَلَ مثلًا للتَّبَرُّدِ، أو اغْتَسَلَ في يوم الجُمُعةِ

غُسْلَ صلاةِ الجُمُعةِ، وهو قد نَسِيَ أنَّه جُنُبٌ- فحِينئذٍ يُقالُ له:

أَعِدْ الاغتسالَ؛ لأنَّ النِّيَّةَ شَرطٌ لصِحَّةِ العِبادةِ.

 

ثُمَّ يَغْسِلُ فَرْجَهُ، ويَدْلُكُ يَدَيْه بعد غَسْل فَرْجِهِ،

ويَغْسِلُ ما لَوَّثَهُ إذا كان على فَخِذَيْهِ شيءٌ مِنَ المَنِيِّ أو نحوه،

وكذلك الوضوءُ الكامِل، ويُرَوِّي شَعرَ الرأس، ويُعَمِّمُ الجَسَدَ،

ويَبدأ بالشِّقِّ الأيمن، ويَغْسِلُ قَدَمَيْه في مكانٍ آخَر.

 

هذه هِيَ الصِّفة الكامِلة التي مَن حافَظَ عليها،

فقد اقتَدَى برسول الله صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم.

 

لكنْ لو اغتسل المُسلِمُ، فعَمَّمَ جَسَدَهُ بالماءِ بدون أن يتوضَّأ،

وبدون أن يَبدأ بغَسْل الكَفَّيْن ونحو ذلك، مُباشرةً دَخَلَ تحت الماءِ

وغَسَلَ جَسَدَه كامِلًا، فهذا يُجزئُه؛ فقد جاء في حَديثِ جابر

بن عبد الله- رَضِيَ اللهُ عنه- أنَّ وَفْدَ ثَقيفٍ سألوا

النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقالوا: إنَّ أرضَنا أرضٌ باردةٌ،

فكيف بالغُسْل؟ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:

(( أمَّا أنا فأُفْرِغُ على رأسي ثلاثًا )) يعني: يُفْرِغُ الماءَ على رأسِهِ،

ثُمَّ يَغْسِلُ سائر جَسَدِهِ. فلَم يذكُر في هذا الحَديث وُضوءًا

أو بَداءةً بيَدَيْن ونحو ذلك، مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ الواجِبَ

هو تعميمُ الجَسَدِ بالماءِ.

 

كذلك لو انْغَمَسَ في البَحر أو في بِرْكَةٍ كامِلًا ونَوَى الغُسْلَ مِنَ الجَنابةِ،

فإنَّه حِينئذٍ يكونُ قد زالت عنه الجَنابةُ وتَمَّ غُسْلُهُ،

لكنَّه خالَفَ الأفضَلَ والأوْلَى مِن صِفةِ غُسْل النبيِّ

صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم.

 

قال العُلماءُ: ولا يَجِبُ على المَرأةِ- وكذلك على الرَّجُل- إذا كان عنده شَعرٌ،

لا يَجِبُ على المرأةِ نَقْضُ شَعرها في الغُسْل مِنَ الجَنابةِ،

ودَلَّ على ذلك حَديثُ أُمِّ سَلَمَة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت:

(( قُلتُ: يا رسولَ الله، إنِّي امرأةٌ أشُدُّ ضُفر رأسي،

أفأنْقُضُهُ لغُسْل الجَنابةِ؟ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:

لا، إنَّما يكفيكِ أن تحثي على رأسِكِ ثلاثَ حَثياتٍ )).

يعني: تضعُ الماءَ على رأسِها، وتُدخِلُ أصابِعَها في ثنايا الشَّعر؛

مِن أجل أن يَصِلَ إلى جِلْدَةِ الشَّعر. ثُمَّ يُفيضُ الماءَ عليها.

 

قال: (( ثُمَّ تُفيضينَ عليكِ الماءَ، فتَطهُرينَ )). ولا يَلزَمُ مع ذلك نَقْضُ الضَّفائِر.

 

وقَوْلُ المُؤلِّفِ رَحِمَهُ الله: [ وما تحت الشُّعور الخفيفةِ والكثيفةِ ]

تنبيهٌ منه- رَحِمَهُ اللهُ- إلى وجوب إيصال الماءِ إلى أصول الشَّعر كما تقدَّمَ.

 

فهذه هِيَ صِفة الاغتسال الواجبة التي إذا أتَى بها الإنسانُ

كان قد جاء بما أمَرَهُ اللهُ سُبحانه وتعالى مِنَ الغُسْل مِنَ الجَنابةِ.

 

بذلك نكونُ قد انتهينا مِنَ الكلام عن الأصل الأوَّل من أصول الطَّهارة؛

وهو الطَّهارةُ بالماءِ.

 

فالمُسلِمُ إذا كان مُحْدِثًا حَدَثًا أصغر، يتوضَّأ الوضوءَ الشَّرعيَّ،

وإذا كان مُحْدِثًا حَدَثًا أكبر، يَغتسِلُ، وكُلُّ ذلك بالماءِ.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

ذَكَرَ المُؤلِّفُ بعد ذلك إذا لم يَستطِع المُسلِمُ استعمالَ الماءِ،

أو إذا فَقَدَ الماءَ، فهل يَنوبُ عنه شيءٌ آخَرُ؟

الجَوابُ: نعم، يَنوبُ عنه التَّيَمُّمُ. ولذلك ذَكَرَهُ المُؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ.

 

والفُقهاءُ يذكرونه بعد التَّطَهُّر بالماءِ،

التَّطَهُّرُ بالصَّعيدِ الطَّاهِر كما أَمَرَ اللهُ جَلَّ وعَلا في الآيةِ الكريمةِ:

(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ

إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا

وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ

فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )) المائدة/6.

 

هذه الآيةُ ذَكَرَ اللهُ جَلَّ وعَلا في مَطْلَعِها الأمرَ بالوضوءِ،

(( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ

وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )) ،

ثُمَّ ذَكَرَ الغُسْلَ مِنَ الجَنابةِ: (( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )) .

ثُمَّ قال تعالى: (( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )) .

ذَكَرَ اللهُ جَلَّ وعَلا الأعذارَ التي قد لا يَستطيعُ معها الإنسانُ استعمالَ الماءِ.

(( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )) .

هذه نواقِضُ الوضوءِ.

(( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ )) .

ذَكَرنا أنَّ المُرادَ بمُلامسةِ النِّساءِ الجِمَاع.

 

إذًا، ذَكَرَ اللهُ في الآيةِ ما يَنقُضُ الوضوءَ،

ثُمَّ ذَكَرَ ما يَنقُضُ الاغتسالَ.

قال اللهُ: (( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا )) .

 

إذًا، إذا حَصَلَ ما يَنقُضُ الوضوءَ أو حَصَلَ ما يَنقُضُ الاغتسالَ،

ما يُوجِبُ الوضوءَ أو ما يُوجِبُ الاغتسالَ، ولم تَجِدُوا الماءَ، فتَيَمَّمُوا.

فهذا أمرٌ من الله جَلَّ وعلا بالتَّيَمُّم، وهو من خصائص هذه الأُمَّةِ؛

فإنَّ اللهَ تعالى لم يَجعَل طَهورًا لغيرها، توسِعةً عليها وإحسانًا إليها،

كما سيأتي في حَديثِ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه.

 

قال أهلُ العِلم: التَّيَمُّمُ في اللُّغةِ: هو القَصْدُ.

تقولُ: يَمَّمْتُ نحو كذا؛ أيْ: قَصَدتُ إليه.

ويَمَّمْتُ نحو البيتِ العتيق؛ أيْ: قَصَدتُه للحَجِّ أو العُمْرة أو الزِّيارة،

ونحو ذلك.

 

وفي الشَّرْع: القَصْدُ إلى الصَّعِيدِ؛ لِمَسْحِ الوَجهِ واليَدَيْن،

على جِهَةٍ مَخصوصةٍ، بنِيَّةِ استباحةِ الصَّلاةِ ونحوها.

 

( القّصْدُ إلى الصَّعِيدِ )، والمُرادُ بالصَّعِيدِ- كما سيأتي معنا- ما على

وَجه الأرض مِمَّا هو مِن جِنْسِها، " لِمَسْحِ الوَجه واليَدَيْن على جِهَةٍ مَخصوصةٍ " .

 

والتَّيَمُّمُ يقومُ مقامَ الماءِ في السَّفَر وفي الحَضَر،

على الصَّحيح مِن أقوال أهل العِلم، في أيِّ وقتٍ،

كما تَدُلُّ عليه ظواهِرُ الأدِلَّةِ، لكنَّ ذلك بشُرُوطٍ كما ذَكَرَ اللهُ:

(( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )) ، عند عَدَم وجودِ الماءِ أو العَجْزِ عن استعمالِهِ

كما ذَكَرَ اللهُ في الآيةِ.

 

يقولُ النبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كما في حَديثِ أبي ذَرٍّ الصَّحيح

المُخَرَّج في سُنَن أبي داوود وغيره:

(( الصَّعيدُ الطَّيِّبُ وَضوءُ المُسلِم، وإن لم يَجِد الماءَ عَشر سِنين )).

فسَمَّى النبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- الصَّعيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءًا.

فهو يقومُ مقامَ الوَضُوءِ؛ أيْ الماء.

 

قال: (( وإن لم يَجِد الماءَ عَشر سِنين )).

ولهذا قال المُؤلِّفُ هَهُنا:

[ وهو النَّوْعُ الثَّاني من الطَّهارة، وهو بَدَلٌ عن الماءِ ] ؛

يعني أنَّ التَّيَمُّمَ بالصَّعيدِ ليس بالأصل.

الأصلُ هو الماءُ، والتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عنه عند فَقْدِ الماءِ أو عندما يَعْذُرُ استعمالُه.

وحِينئذٍ يكونُ حُكمُه حُكمَ الماءِ في كُلِّ الأحوال.

إذا استعمله الإنسانُ بشَرطِهِ، فإنَّه يقومُ مقامَ الماءِ سواءً بسَواءٍ.

ومعنى قولنا: "يقومُ مقامَ الماءِ" أنَّه لا يُشترَطُ له دُخُولُ الوقتِ،

بل له أن يَتَيَمَّمَ قبل دُخُول الوقتِ كما يتوضَّأُ قبل دُخُول الوقتِ.

فإذا لم يَجِد الماءَ أو عَجِزَ عن استعمال الماءِ،

وأراد أن يتطَهَّرَ، فإنَّه يَستعمِلُ التَّيَمُّمَ.

فما دام أنَّه يَغلِبُ على ظَنِّهِ أنَّه لن يَجِدَ الماءَ حتى لو دَخَلَ وقتُ الصَّلاةِ،

يُقالُ له: تَيَمَّم، وأنتَ طاهِرٌ، حتى وإن كان ذلك قبل الأذان

أو قبل دُخُول الوقتِ؛ لأنَّ بعضَ الفُقهاءِ يَشترطُ يقولُ:

لا يَتَيَمَّم المُتَيَمِّمُ إلَّا بعد دُخُول الوقتِ.

 

هذا الشَّرطُ ليس عليه دليلٌ.

لأنَّهم يقولون: قد يَجِدُ الماءَ.

والجَوابُ عن ذلك: أنَّ له أن يَتَيَمَّمَ.

فإذا وَجَدَ الماءَ، فليَتوضَّأ أو فليَغتسِل حِينئذٍ،

أو قَدِرَ على استعمالِهِ فيَستعمِلُه.

لكنْ قبل ذلك لا يُشترَطُ له هذا الشَّرطُ؛ لأنَّه ليس عليه دليلٌ في كتاب الله

ولا في سُنَّةِ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛

لأنَّ اللهَ يقولُ: (( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا )) .

إذًا، أَذِنَ بالتَّيَمُّمِ عند عَدم وجودِ الماءِ، وكذا عند العَجز عن استعمالِهِ.

 

كذلك له أن يُصلِّيَ بالتَّيَمُّم ما شاء من الفُروض والنَّوافِل كما يُصلِّي بالماءِ.

 

إذا تَيَمَّمَ المُسلِمُ صَحَّت طَهارتُه، وصار مُتَطَهِّرًا،

فيَجوزُ له أن يُصلِّيَ الصَّلاةَ الفريضةَ، ويُتبِعها بالنَّوافِل،

فلا يَنقطِع عن ذلك إلَّا إذا أحْدَثَ أو وَجَدَ الماءَ، كما سيأتي معنا.

وذلك لأنَّ بعضَ الفُقهاءِ يقولُ: إذا تَيَمَّمَ، فلا يَجوزُ له أن يُصلِّيَ بالتَّيَمُّم

إلَّا صلاةً واحدةً. وهذا الشَّرطُ ليس عليه دليلٌ.

 

وبعضُهم قالوا: إذا تَيَمَّمَ هل يُصلِّي النَّافلةَ مع الفريضةِ أم لا؟

فقال بعضُهم: يُصلِّي نافِلَةَ الفريضةِ ( يعني السُّنَّة الرَّاتِبة فقط ).

فإذا أراد أن يُصلِّيَ نوافِلَ أُخرى، فإنَّ عليه أن يَتَيَمَّمَ مرَّةً أُخرى.

وكُلُّ ذلك لا دليلُ عليه.

 

كذلك إذا تَيَمَّمَ، فإنَّه لا يَبطُلُ تَيَمُّمُه بخُرُوج الوقتِ.

 

وهذا رَدٌّ على مَن يقولُ مِنَ الفُقهاءِ بأنَّ خُرُوجَ وقتِ الصَّلاةِ يُبطِلُ التَّيَمُّمَ؛

لأنَّهم يقولون: لا بُدَّ عليه أن يَتَيَمَّمَ لدُخُول كُلِّ وقتِ صلاةٍ. وهذا لا دليلَ عليه.

 

كذلك قال بعضُ الفُقهاءِ: المُتَيَمِّمُ لا يُصلِّي بالناس. وهذا أيضًا مِمَّا لا دليلَ عليه؛

لأنَّ القاعدةَ عند العُلماءِ أنَّ مَن صَحَّت صلاتُه بنَفْسِهِ صَحَّت صلاتُه بغيره.

فقولُه تعالى: (( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا )) يَدخُلُ فيه كُلُّ هذه الأمور.

وفيه بيانُ أنَّ التَّيَمُّمَ بالتُّراب أو بالصَّعيد الطَّيِّب يقومُ مقامَ الماءِ سواءً بسواءٍ.

 

والنبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قد سَمَّى التَّيَمُّمَ وُضوءًا كما سبق

في حَديثِ أبي ذَرٍّ، وسَمَّاه طَهُورًا كما في حَديثِ جابرٍ- رَضِيَ اللهُ عنه-

الذي ذَكَرَه المُؤلِّفُ في آخِر هذا الفصل، وسيأتي معنا.

 

فهذا كُلُّه يَدُلُّ على أنَّ له حُكم الماءِ عند فَقْدِهِ للماءِ أو عند تَعَذُّر استعماله.

لكنْ إذا وَجَدَ المُتَيَمِّمُ الماءَ، فإنَّ التَّيَمُّمَ يَبْطُلُ، ويَجِبُ عليه أن يتوضَّأ،

أو يَجِبُ عليه أن يَغتسِلَ إن كان عن جَنابةٍ؛ لأنَّ النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه

وسلَّم- قال في الحَديثِ المُتقدِّم: (( إنَّ الصَّعيدَ الطَّيِّبَ طَهورُ المُسلِم،

وإن لم يَجِد الماءَ عَشر سِنين، فإن وَجَدَ الماءَ فليُمِسَّه بَشرتَه،

فإنَّ ذلك خيرٌ )). وكذلك في حَديثِ عِمران بن حُصَيْن- رَضِيَ اللهُ عنه

وأرضاه- في قِصَّةِ نَوْم النبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عن صلاة الفَجر،

لمَّا صلَّى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وانفَتَلَ من صلاتِهِ،

إذا هو برَجُلٍ مُعتَزِلٍ لم يُصلِّي مع الناس، فقال له النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:

(( ما مَنَعَكَ يا فُلان أن تُصلِّيَ مع القوم؟ )). قال: أصابتني جَنابةٌ ولا ماءَ.

يعني: ما عِندي ماءٌ أغتسِلُ.

فقال: (( عليكَ بالصَّعيدِ، فإنَّه يَكفيكَ )) رواه البُخاريُّ.

وهذا دليلٌ على أنَّ التَّيَمُّمَ يقومُ مقامَ الوضوءٍ ويقومُ مقامَ الاغتسال.

 

ثُمَّ سار النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يعني مَشَى بالقوم- فلَمَّا وَجَدَ الماءَ،

أعطَى الذي أصابته الجَنابةُ إناءً من ماءٍ، قال: (( اذهَبْ، فأَفْرِغْه عليكَ )).

 

إذًا، إذا تَيَمَّمَ الإنسانُ، ثُمَّ وَجَدَ الماءَ، يَجِبُ أن يُبادِرَ إلى الوضوءِ،

وكذلك إذا أجْنَبَ ولم يَجِد الماءَ فتَيَمَّمَ، فيَجِبُ عليه إذا وَجَدَ الماءَ

أن يُبادِرَ إلى الاغتسال، وتَبْطُلُ طَهارتُه بمُجَرَّدِ وجودِ الماءِ.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

قال المُؤلِّفُ رَحِمَه اللهُ:

[ وهو النَّوْعُ الثَّاني مِنَ الطَّهارةِ، وهو بَدَلٌ عن الماءِ

إذا تَعَذَّرَ استعمالُ الماءِ لأعضاءِ الطَّهارةِ أو بعضِها؛

لِعَدَمِهِ أو خَوْفِ ضَرَرٍ باستعمالِهِ ]. وهذا الشَّرْطُ في التَّيَمُّمِ.

 

التَّيَمُّمُ لا يَنتقِلُ إليه المُسلِمُ إلَّا إذا تَعَذَّرَ عليه استعمالُ الماءِ؛

لِعَدَمِ وجودِهِ، أو إنَّه يَجِدُ ماءً قليلًا يكفي لبعض الأعضاءِ،

وكذلك إذا كان واجِدًا للماءِ، لكنْ يَخافُ الضَّرَرَ باستعمالِهِ.

فيَجوزُ لِمَن كان هذا حاله أن يَتَيَمَّمَ.

 

وقد رَخَّصَ العُلماءُ للمريض وأجْمَعَ أهلُ العِلم على جَواز التَّيَمُّم

للمريض إذا كان يَجِدُ حَرَجًا ومَشَقَّةً في استعمال الماءِ.

والطَّبيبُ يُقَدِّرُ ذلك أو هو يُقَدِّرُ ما يُصيبُه بذلك.

فإذا وَجَدَ مَشَقَّةً في استعمال الماءِ أو وَجَدَ حَرَجًا

من استعمالِهِ- قد يَزيدُ في مرضِهِ، أو يُؤخِّرُ شِفاءَه،

أو إذا قام للبَحثِ عنه يُصابُ بالتَّعَبِ والإعياءِ- فحِينئذٍ يَجوزُ له أن يَتَيَمَّمَ،

فإنَّ هذا الدِّينَ يُسْرٌ، واللهُ سُبحانه وتعالى يقولُ:

(( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )) المائدة/6.

فمَتى وَجَدَ الحَرَجَ باستعمال الماءِ، جاز له أن يَتَيَمَّمَ،

وأن يتركَ الماءَ حِينئذٍ؛ لدِلالةِ الآيةِ الكريمةِ على ذلك.

 

وقَوْلُ المُؤلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

[ إذا تَعَذَّرَ استعمالُ الماءِ لأعضاءِ الطَّهارة أو بعضِها؛ لِعَدَمِهِ ]

يُفيدُ أنَّ الإنسانَ إذا وَجَدَ ماءً يكفي بعضَ طُهْرِهِ،

فإنَّه يَجمَعُ بين الطَّهارة بالماءِ والتَّيَمُّم.

مِثل: مَن عنده ماءٌ يكفي لغَسْل الوجه واليَدَيْن،

فإنَّ المُؤلِّفَ يَرَى أنَّه يَغْسِلُ وَجهَه ويَدَيْه،

ثُمَّ يَتَيَمَّمُ للباقي؛ لأنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى يقولُ:

(( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )) التغابن/16.

 

وبعضُ العُلماءِ يقولُ: إذا لم يَجِد إلَّا شيئًا يسيرًا من الماءِ

لا يكفي لوُضوئِهِ أو لا يكفي لاغتسالِهِ،

فإنَّه لا يَجِبُ عليه حِينئذٍ أن يَستعمِلَ هذا الماءَ للبعض

ويَتَيَمَّمَ للبعض الآخَر، بل يَنتقِلُ مُباشرةً إلى التَّيَمُّم.

ودِلالةُ الآيةِ- وهِيَ قولُه تعالى (( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ))- الأظْهَرُ فيها

أنَّ المُرادَ: فلَم تَجِدُوا ماءً يكفيكم.

 

ولذلك هذا القَوْلُ هو الأظْهَرُ؛ أنَّه يَجوزُ له أن ينتقِلَ للتَّيَمُّم مُباشرةً

ولا يَجْمَع بين التَّيَمُّم وبين بعض الوضوءِ، أو بين التَّيَمُّم والاغتسال؛

لأنَّ الآيةَ الكريمةَ ذَكرت وُضوءًا واغتسالًا أو تَيَمُّمًا.

فهو إمَّا أن يتوضَّأ، وإمَّا أن يَتَيَمَّمَ، أمَّا الجَمْعُ بين الأمرين،

فإنَّ هذا- وإن قاله بعضُ العُلماءِ- إلَّا أنَّه خِلافُ الظَّاهِر

الذي دَلَّت عليه هذه الآيةُ الكريمةُ.

 

أمَّا عن صِفةِ التَّيَمُّم، فالمُؤلِّفُ يقولُ:

[ فيقومُ التُّرابُ مقامَ الماءِ؛ بأن يَنْوِيَ رَفْعَ ما عليه مِنَ الأحداثِ،

ثُمَّ يقولُ: بِسْمِ الله، ثُمَّ يَضرِبُ التُّرابَ بيَدِيهِ مَرَّةً واحدةً

يَمْسَحُ بهما جَميعَ وَجْهِهِ وجَميعَ كَفَّيْهِ، فإن ضَرَبَ مَرَّتين، فلا بأس ].

 

فعلى هذا يكونُ المُؤلِّفُ- رَحِمَهُ اللهُ- ذَكَرَ لنا صِفةَ التَّيَمُّم:

أنَّه يَبدأ فيَنوي، مِثْل ما يَبدأ في الوضوءِ أو الاغتسال،

فالنِّيَّةُ شَرطٌ، (( إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ )). ويقولُ: بِسْمِ الله.

وهذا استحبابًا كما سبق معنا في الوضوءِ،

فإنَّ التَّيَمُّمَ يقومُ مقامَ الوضوءِ، وكذلك الاغتسالُ.

ثُمَّ يَضربُ التُّرابَ بيدِه مرَّةً واحدةً، يَفتحُ ( يَبْسُطُ ) كَفَّيْه

ويَضربُ بهما الأرضَ ضربةً واحدةً.

 

المُؤلِّفُ يقولُ: [ يَضربُ التُّرابَ ]،

وبعضُ العُلماءِ يقولُ: يَضربُ الأرضَ.

 

و المُؤلِّفُ يقولُ: [ يَضربُ التُّرابَ ] بِناءً على أنَّ التُّرابَ شَرطٌ في التَّيَمُّم؛

لأنَّ الأرضَ إمَّا أن تكونَ أرضًا تُرابيَّةً، وإمَّا أن تكونَ أرضًا رَمليَّةً،

وإمَّا أن تكونَ أرضًا صَخريَّةً.

 

فمِن العُلماءِ مَن يقولُ: ‹‹ اللهُ سُبحانه وتعالى أَمَرَ بالتَّيَمُّم على الصَّعيدِ الطَّيِّب ››.

فما المُرادُ بالصَّعيد؟

الصَّعيدُ: هو ما تَصَاعَدَ على وَجه الأرض.

 

إذًا، يَدخُلُ فيه الأرضُ التُّرابيَّةُ التي يكونُ معها التُّرابُ له غُبارٌ،

ويَدخُلُ فيها الأرضُ الرَّمليَّةُ التي لا يكونُ فيها غُبارٌ،

ويَدخُلُ فيها الأرضُ الحَجَريَّةُ، وكذلك الطِّينيَّة الرَّطْبَة أو اليابِسة.

كُلُّ ذلك يَدخُلُ في قولِهِ تعالى: (( فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )) .

 

وبعضُ الفُقهاءِ يَرَى أنَّه لا بُدَّ مِنَ التَّيَمُّم على تُرابٍ له غُبارٌ،

وهذا هو الذي نَصَّ عليه المُؤلِّفُ رَحِمَهُ الله.

 

ولكنِ الصَّحيحُ هو أنَّه يَجوزُ للمُسلِم أن يَتَيَمَّمَ على ظاهِر الأرض

مِمَّا هو على جِنْسِها، سواءٌ كانت أرضًا تُرابيَّةً لها غُبارٌ،

أو ليس لها غُبارٌ كالأرض الرَّملِيَّةِ.

 

وكذلك يَجوزُ له أن يَتَيَمَّمَ على الصَّعيدِ إذا كان في الأرض حَجَرٌ

أو صَخرٌ ونحو ذلك. كُلُّ ذلك جائزٌ؛ لأنَّ هذا هو معنى قولِهِ تعالى:

(( فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )). وهكذا فَسَّرَ عُلماءُ اللُّغةِ الصَّعيدَ الطَّيِّبَ بذلك.

 

وقَوْلُه تعالى: (( صَعِيدًا طَيِّبًا )) بَيَّنَ فيه أنَّه لا بُدَّ أن يكونَ

مَوضِعُ التَّيَمُّم مَوضِعًا طاهِرًا غير نَجِسٍ.

 

إذًا، قَوْلُ المُؤلِّفِ رَحِمَه اللهُ: [ يَضرِبُ التُّرابَ بيَدِه ]

الأَصَحُّ أن نقولَ: يَضرِبُ الأرضَ؛ لِيَدخُلَ فيه التُّرابُ الذي له غُبارٌ،

والتُّرابُ الذي ليس له غُبارٌ، وكذلك الأرضُ الصَّخريَّةُ.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وقَوْلُنا: ما كان على وَجه الأرض مِن جِنْسِها،

ليس به ما كان ليس مِن جِنْس الأرض؛

كالأرض إذا كانت مَزروعةً.

 

الأرضُ المَزروعةُ ما يَصلُحُ أن يَتَيَمَّمَ الإنسانُ على الشَّجَر،

ولا يَصلُحُ أن يَضرِبَ على الجِدار إذا كان عليه بعضُ الأشياءِ،

كالأسمنتِ والصّبغ ونحو ذلك.

 

وكذلك على الرُّخام أو على السِّيراميك ونحو ذلك؛

فإنَّ هذه أشياء ليست مِن جِنس الأرض.

 

الأشياءُ التي مِن جِنْس الأرض هِيَ:

ما كان عليها مِنَ التُّراب أو الصَّخر أو الرَّمْل أو نحو ذلك.

 

إذًا، يَضربُ الأرضَ بكَفَّيْه مرَّةً واحدةً،

ثُمَّ يَمْسَحُ بهما جَميع وَجهه وجَميع كَفَّيْه.

هذا هو الذي وَرَدَت به السُّنَّةُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،

كما في حَديثِ عَمَّار بن ياسرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما،

وفيه أنَّ النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال لعَمَّار:

(( إنَّما كان يكفيكَ أن تضرِبَ بيَدَيْكَ الأرضَ، ثُمَّ تنفُخُ،

ثُمَّ تَمْسَحُ بهما وَجهَكَ وكَفَّيْكَ )) رواه مُسلِم.

 

حَديثُ عَمَّار أَصَحُّ الأحادِيثِ التي وَرَدَت في باب التَّيَمُّم،

وفيه قِصَّةٌ وَقعَت لعُمر بن الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه.

وهذا الحَديثُ يُفيدُ أنَّ صِفةَ التَّيَمُّمِ أن يَضرِبَ بكِلتَيْ كَفَّيْه الأرضَ،

ثُمَّ يَنفُخُ فيهما، أو يضرِبُ اليُمنَى باليُسرى مِن أجل أن يَزيلَ

ما عَلَقَ عليهما مَنَ التُّراب، ثُمَّ بعد ذلك يَمْسَحُ الوَجه والكَفَّيْن.

له أن يَبدأ بوَجهِهِ ثُمَّ كَفَّيْه، وله أن يَمْسَحَ الكَفَّيْن أوَّلًا ثُمَّ اليَدَيْن.

هذا الذي دَلَّت عليه السُّنَّةُ مِن جَواز الأمرين.

 

قَوْلُ المُؤلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ: [ فإن ضَرَبَ مرَّتين فلا بأسَ ]

يعني لو ضَرَبَ ضربةً على الأرض، ثُمَّ مَسَحَ وَجهَه،

ثُمَّ ضَرَبَ ضربةً أُخرى، ثُمَّ مَسَحَ كَفَّيْه، فهذا جائزٌ.

هكذا قال المُؤلِّفُ.

 

ولكنِ الصَّحيح أنَّ هُناكَ أحاديث وَرَدَت في أنَّ التَّيَمُّمَ يكونُ ضربتين.

وهذه الأحاديثُ ضعيفةٌ لا تَصِحُّ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،

ولذلك قال الإمامُ الشَّوكانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: ‹‹ جَميعُ ما وَرَدَ في الضَّربتين

أو كَوْن المَسْح إلى المرفقين لا يخلو مِن ضَعفٍ يَسقُطُ به

عن دَرجةِ الاعتبار، ولا يَصلُحُ للعَمل به حتى يُقالَ

إنَّه مُحْتَمَلٌ على زيادةٍ، والزيادةُ يَجِبُ قَبُولُها ›› .

قال: ‹‹ فالواجِبُ الاقتصارُ على ما دَلَّت عليه الأحاديثُ الصَّحيحةُ ›› .

 

هُناكَ أحاديث كثيرة في التَّيَمُّم، أَصَحُّها حَديثُ عَمَّار بن ياسِر.

 

جاء في بعض الرواياتِ أنَّه يَتَيَمَّمُ ثُمَّ يَمْسَحُ كَفَّيْه إلى المرفقين،

وفي بعض الأحاديثِ يَمْسَحُ اليَدَ إلى الإبط، وهذه أحاديث ضعيفة،

إنَّما يَمْسَحُ الكَفَّيْن فقط، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجهَه.

 

هذا أَصَحُّ ما وَرَدَ عن النبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في باب التَّيَمُّم.

 

خَتَمَ المُؤلِّفُ هذا الفَصل بذِكر الآيةِ الكريمةِ،

وبذِكر الحَديثِ الجامِع في هذه المسألةِ، فقال رَحِمَهُ اللهُ:

[ (( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ

مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ

عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )) المائدة/6 ].

 

ثُمَّ قال: [ وعن جابر- رَضِيَ اللهُ عنه- أنَّ النبيَّ- صلَّى اللهُ عليه

وسلَّم- قال: (( أُعْطِيتُ خَمْسًا لم يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنبياءِ قبلي:

نُصِرتُ بالرُّعْبِ مَسيرةَ شَهْرٍ، وجُعِلَت لي الأرضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا،

فأيّما رَجُلٌ أدركَته الصَّلاةُ فليُصَلِّ، وأُحِلِّت لي الغنائِمُ ولم تَحِلّ لأحدٍ قبلي،

وأُعْطِيتُ الشَّفاعةَ، وكان النبيُّ يُبْعَثُ إلى قومِهِ خاصَّةً

وبُعِثْتُ إلى الناس عامَّةً )) مُتَّفَقٌ عليه ].

 

الشَّاهِدُ مِنَ الآيةِ قولُهُ تعالى:

(( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )) ،

هذا هو الشَّاهِدُ؛ أنَّ اللهَ أَمَرَ بالتًّيَمُّمِ.

 

نقولُ هُنا: الشَّاهِدُ أنَّ اللهَ قال: (( فَتَيَمَّمُوا )) .

فهذا فيه بيانُ مشروعيَّةُ التَّيَمُّم، (( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ))،

وأنَّ التَّيَمُّمَ يقومُ مقامَ الماءِ.

 

هُناكَ شاهِدٌ آخَر، هو قولُه تعالى: (( فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )).

وهذا من بيان أنَّ التَّيَمُّمَ يكونُ بالصَّعيدِ، وقد تقدَّمَ معنا تفسيرُ ذلك.

 

كذلك قَوْلُه تعالى: (( طَيِّبًا )) فيه بيانُ أنَّه لا يَصِحُّ أن يَتَيَمَّمَ إلَّا بالصَّعيدِ الطَّيِّب.

 

في قَوْلِهِ: (( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )) بيانٌ لصِفةِ التَّيَمُّم،

وجاء تفسيرُها في حَديثِ عَمَّار بن ياسِر رَضِيَ اللهُ عنهما.

 

وفي قَوْلِهِ: (( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )) فيه فَضْلُ هذه الأُمَّةِ؛

بأنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى يَرفَعُ عنها الحَرَجَ،

وفيه بيانُ ما عليه هذا الدِّينُ مِنَ السَّماحةِ ومِنَ الفضل والإحسان،

وأنَّ هذا مِن يُسْر الشَّريعةِ ومِن مَحاسِن هذا الدِّين.

 

والحَديثُ الشَّاهِدُ منه: قَوْلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:

(( جُعِلَت لي الأرضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا )).

 

إذًا، أيُّ مكانٍ مِنَ الأرض يَصلُحُ للصَّلاةِ فيه معناه أنَّه يَصلُحُ لأن يَتَطَهَّرَ فيه المُسلِمُ.

 

فقَوْلُه: (( طَهُورًا )) فيه بيانُ أنَّ التَّيَمُّمَ طَهُورٌ للمُسلِم،

وأنَّه يقومُ مقامَ الماءِ؛ يعني: يقومُ مقامَ الوضوءِ،

ويقومُ مقامَ الاغتسال، سَواءً بسَواءٍ.

 

وأمَّا الأشياءُ التي تكونُ ناقِضةً للتَّيَمُّم، فإنَّ العُلماءَ يقولون:

يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ بكُلِّ ما يَبْطُلُ به الوضوءُ، وبكُلِّ ما يَبْطُلُ به الاغتسالُ.

فكُلُّ حَدَثٍ يَنقُضُ الوضوءَ، فإنَّه يَنقُضُ التَّيَمُّمَ،

وكُلُّ حَدَثٍ يَنقُضُ الاغتسالَ، فإنَّه يَنقُضُ التَّيَمُّمَ أيضًا.

 

فلو تَيَمَّمَ الإنسانُ ثُمَّ أحْدَثَ، نقولُ له: قد انتقَضَت طَهارتُكَ.

وكذلك لو تَيَمَّمَ ثُمَّ جامَعَ زَوجتَه، نقولُ له: أصبَحتَ جُنُبًا،

فيَجِبُ عليكَ أن تغتسِلَ إن وَجدتَ الماءَ، أو تَتَيَمَّمَ مرَّةً أُخرى.

 

كذلك التَّيَمُّمُ يَنتقِضُ بوجودِ الماءِ أو بالقُدرةِ على استعمالِهِ؛

فإذا تَيَمَّمَ ثُمَّ وَجَدَ الماءَ، بَطَلَت طَهارتُه، ووَجَبَ عليه أن يَستعمِلَ الماءَ.

 

فإذا كان المُتَيَمِّمُ قد دَخَلَ في الصَّلاةِ، وفي أثناءِ الصَّلاةِ وَجَدَ الماءَ،

نقولُ له: اقْطَع صلاتَكَ، ثُمَّ اذهَب فتوضَّا أو اغْتَسِل، ثُمَّ أَعِد الصَّلاةَ.

وإن كان قد تَيَمَّمَ وأرادَ أن يُصلِّيَ، هذا من باب أَوْلَى أن يُقالَ له:

لا تدخُل في الصَّلاةِ حتى تغتسِلَ أو تتوضَّاَ.

وأمَّا إن كان قد انتهَى مِنَ الصَّلاةِ، فإنَّ صلاتَه تكونُ صحيحةً،

لكنْ يَجِبُ عليه أيضًا أن يَغتسِلَ أو أن يتوضَّأ؛

لأنَّه بمُجَرَّدِ ما يَجِدُ الماءَ تكونُ قد انتقضت طَهارتُه.

فإن كان قد فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ، فالصَّلاةُ صحيحةٌ،

لكنْ يكونُ التَّيَمُّمُ قد بَطَلَ وعليه أن يتوضَّاَ أو أن يَغتسِلَ.

 

هذا آخِرُ ما يتعلَّقُ بالأحكام المُتعلِّقةِ بهذه العِبادةِ العظيمةِ؛

التي هِيَ الاغتسالُ والتَّيَمُّم.

 

نسألُ اللهَ جَلَّ وعَلا أن يُوفِّقَنا لِمَا يُحِبُّ ويَرضَى.

واللهُ تعالى أعلَمُ.

وصلَّى اللهُ على مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحبِهِ أجمعين.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

لتحميل الدَّرس السَّادِس مسموعًا ، اضغطن [ هُنا ] أو [ هُنا ].

 

استمعنَ للدَّرس، فهو جميلٌ، ويَحوي فوائِد لم أذكُرها في التَّفريغ.

 

نفعني اللهُ وإيَّاكُنَّ به (":

تم تعديل بواسطة بسمَة

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

:: الدَّرسُ السَّابِعُ ::

. . . . . . .

 

 

لتحميل الدَّرس السَّابِع مسموعًا ، اضغطن [ هُنا ] أو [ هُنا ].

 

 

نفعني اللهُ وإيَّاكُنَّ به (":

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

:: الدَّرسُ الثامِنُ والأخيرُ ::

. . . . . . .

 

 

لتحميل الدَّرس الثامِن والأخير مسموعًا ،

اضغطن [ هُنا ] أو [ هُنا ].

 

 

نفعني اللهُ وإيَّاكُنَّ به (":

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×