هكذا كان العلماء في الرجوع عن الخطأ
د.عبد الحكيم الأنيس
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
فإنَّ من إكرامِ الله تعالى لهذه الأمة، وحفظهِ كتابَه وسُنَّة نبيه عليها، أنْ هيأ فيها علماء أجلاء. وهبهم عقولاً راجحة، وعلوماً جمة، ورَجعهم إلى ورعٍ مكين، وخوفٍ منه متين، فحملوا هذه الأمانة وقاموا بها خير قيام، حتى وصل إلينا هذا العلمُ - علم الإسلام - صافيًا مصفىً، خاليًا من الشوائب، محفوظًا من الكدورات، سالمًا من الهوى والخطأ المتوارث.
وكان مِنْ رجاحة هذه العقول، وسُموِّ تلك النفوس، وجميلِ ذاك الورع، وعظيمِ ذلك الخوف: منهجٌ علميٌّ رفيعٌ، أسَّسوه على تقوى من الله ورضوانٍ، يقومُ على التزامِ الحقِّ في الأقوال والأفعال، وطلبِ الحق في الصدور والورود، والتنبيه على الحق في الصغر والكبر، والعودة إلى الحق في السر والعلن.
وعلِمَ اللهُ منهم صدقَهم في كل هذا فرفعهم ورفعَ بهم، وأجرى ذكرَهم بالتبجيل والتقدير على مرِّ الزمان واختلاف المكان.
وإنك لتبحثُ عن أمثالهم في الأمم فلا تجد، وتنظرُ في سيرهم وما دُوِّن من أخبارهم ووقائعهم فتعجب، ويهزك منهم مواقفُ رائعة، وتأسرك صورٌ خلابة، وتُدهش لصفاء تلك النفوس، ونقاء هاتيك الصدور، وتشكر الله على دينٍ صنع أناساً كهؤلاء، طلبوا الكمال من بابه، ولم يتخذوا سوى الحق والصدق مأوى لهم.
نعم، كان الحقُّ شعارهم ودثارهم مدى أعمارهم، إنْ أخطأوه عادوا إليه، وإنْ أخطأه بعضهم دلوه عليه، ومِن المفيد أن نقتبس هذه اللمحات الدالة:
♦ روى سعيد بن منصور في «السُّنن» عن سعد بن إياس عن رجلٍ تزوَّج امرأة من بني شمخ [في الكوفة]، ثم أبصر أمَّها فأعجبته، فذهب إلى ابن مسعود فقال: إني تزوجتُ بامرأة فلم أدخل بها، ثم أعجبتني أمُّها فأطلق المرأة وأتزوج أمها؟
قال: نعم.
فطلقها وتزوَّج أمها.
فأتى عبدُ الله المدينة. فسأل أصحابَ رسول الله [ذُكِر منهم في بعض الطرق: عمر وعلي رضي الله عنهما]. فقالوا: لا يصلح.
ثم قدم فأتى بني شمخ فقال: أين الرجل الذي تزوَّج أمَّ المرأة التي كانت عنده؟
قالوا: ههنا.
قال: فليفارقها.
قالوا: كيف وقد نثرتْ له بطنها؟!
قال: وإن كانتْ فعلتْ فليفارقها، فإنها حرامٌ من الله عز وجل.
وهكذا يعلمنا الصحابيُّ الجليل عبد الله بن مسعود - وهو مَنْ هو في جلالة القدر وسعة العلم - ألا نأنف من الرجوع عن الخطأ إذا تبيَّن لنا، ويعلمنا دوام الاهتمام بالوصول إلى الصواب وإن طال المدى.
يتبع ~