اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير سورة الأحزاب

المشاركات التي تم ترشيحها

الآية 1، والآية 2، والآية 3: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ أي استمِرّ على تقوى الله تعالى (بتنفيذ أوامره واجتناب نَوَاهيه)، وليَقتدِ بك المؤمنون في ذلك؛ لأنهم أحوج إليه منك، ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ فيما يقترحونه عليك مِن عدم إظهار عيوب آلهتهم، وَالْمُنَافِقِينَ لا تُطِعهم أيضًا فيما يُخَوِّفونك منه (لأنهم جُبناء)، وفيما يَنصحونك به (لأنهم أعداء)، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا بخَلقه وبما يفعلونه في السر والعلن، ﴿ حَكِيمًا في أمْره وتدبيره (فلذلك لن يأمرك سبحانه إلا بما فيه الخير لك)، ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن والسُنّة، ولا تترك تبليغ شيءٍ من شريعة ربك، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا أي لا يَخفى عليه شيءٌ من أعمالكم وسيُجازيكم عليها، ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي اعتمد على ربك وفَوِّضْ أمورك إليه، وثِق بنصره وحِفظه، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي حافظًا ونصيرًا لمن توكل عليه.

وقد بَلَّغَ الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة ربه كاملة، تقول السيدة عائشة رضي اللهُ عنها: (لو كانَ النبي صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي، لَكَتَمَ هذه الآية: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)).


واعلم أنّ الفعل (كان) إذا جاء مع صفة معينة، فإنه يدل على أنّ هذه الصفة مُلازِمة لصاحبها، كقوله تعالى - واصفًا نفسه بالرحمة والمغفرة -: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) أي كانَ - أزَلًا وأبَدًا - غفورًا رحيمًا.

الآية 4: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ: أي لم يجعل سبحانه لأحدٍ من البَشَر قلبين في صدره (كما ادّعى بعض المشركين)، ﴿ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ (والظِهار هو أن يقول الرجل لامرأته: (أنتِ عليَّ كظَهر أمي)، أي مُحَرَّمة عليّ كحُرمة أمي التي ولدتني، فلا أقرَبُكِ ولا تَحِلِّين لي، (وقد كان هذا القول يُعتبر طلاقًا في الجاهلية، فبيَّنَ اللهُ أن الزوجة لا تصير أُمًّا بحال)، ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ (والأدعياء هم الأولاد الذين تبَنَّيتموهم وادَّعيتم أنهم أبناءكم)، فلم يجعلهم سبحانه ﴿ أَبْنَاءَكُمْ في الحقيقة والنَسَب والشرع كما ادّعيتم، ﴿ ذَلِكُمْ - أي ادّعاؤكم الظِهار والتَبَنّي - هو ﴿ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ أي هو كلامٌ بالفم لا حقيقة له، ولا يؤخَذ به في الشرع، ﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ فاتَّبعوه واعملوا به،﴿ وَهُوَ سبحانه ﴿ يَهْدِي السَّبِيلَ أي يُرشد عباده إلى طريق الحق والرشاد.

الآية 5: ﴿ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ: أي انسبوا مَن تبنّيتموهم لآبائهم الحقيقيين (الذين كانوا سببًا في إنجابهم)، فـ ﴿ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ: أي هذا أعدل في حُكم الله وشَرْعه ﴿ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ الحقيقيين: ﴿ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهُم إخوانكم في الإسلام ﴿ وَمَوَالِيكُمْ يعني هم نُصراؤكم وأحِبّاؤكم، وأنتم أيضًا مُكَلَّفون بحمايتهم ونُصرَتهم، ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أي ليس عليكم إثمٌ ﴿ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي فيما وقعتم فيه خطأً بغير تعَمُّد، ﴿ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ: يعني إنما يؤاخذكم الله إذا تعمدتم ذلك، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا لمن أخطأ بغير عَمْد، ﴿ رَحِيمًا لمن تاب من ذنبه.

الآية 6: ﴿ النَّبِيُّ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني أقرب وأحَبّ إليهم من أنفسهم، ﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ: يعني إنّ حُرمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على أُمَّته، كحُرمة أمّهاتهم عليهم، فلا يجوز نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده، (وفي هذا إشارة للمؤمن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من نفسه، وأن يُقدِّم ما يريده صلى الله عليه وسلم على ما تريده نفسه، وفي الآية أيضًا وجوب احترام زوجاته صلى الله عليه وسلم، لأنهنّ أمّهات المؤمنين، ومَن سَبَّهن فقد استحق الخُسران المبين).

♦ وقد كان المسلمون في أول الإسلام يتوارثون بالهجرة (يعني كان يَتوارث المهاجرون والأنصار، ولا يَرِث الأقرباء شيئًا)، فنسَخَ اللّهُ ذلك بقوله: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ أي أصحابُ القَرابة، والمقصود: (الأقرباء المسلمون) ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ يعني بعضهم أحق بميراث بعض ﴿ فِي كِتَابِ اللَّهِ أي في حُكمِ اللهِ وشَرْعِه (كما وَضَّحَ سبحانه ذلك في آيات المواريث)، فهُم أوْلى بالتوارث ﴿ مِنَ عامَّة ﴿ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴿ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا: يعني إلا أن تُقدِّموا معروفًا لأحدٍ من نُصرائكم وأحِبّائكم المؤمنين (بأن توصوا له بما لا يَتعدى ثلث التَرِكة)، فلا حرج عليكم في ذلك، ﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا: أي كان هذا الحكم المذكور: مُقَدَّرًا مكتوبًا في اللوح المحفوظ، فيجب عليكم العمل به.

الآية 7، والآية 8: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ: أي اذكر أيها النبي حين أخذنا من النبيّين العهد المؤكد بتبليغ الرسالة،﴿ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ: يعني: وكذلك أخذنا هذا العهد - بصفة خاصة - منك ومن نوحٍ ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (وهؤلاء الخمسة هم أولو العَزم من الرُسُل، على المشهور من أقوال العلماء)، ﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا أي عهدًا مؤكدًا بأن يُصَدِّق بعضهم بعضًا، ويُبَشِّر بعضهم ببعض، وقد أخذ الله ذلك العهد من الرُسُل ﴿ لِيَسْأَلَ - يوم القيامة - ﴿ الصَّادِقِينَ وهُم الأنبياء ﴿ عَنْ صِدْقِهِمْ في تبلغيهم رسالة ربهم، ووفائهم بما عَهِدَه إليهم، وعمَّا أجابتهم به أُمَمُهم، فحينئذٍ يَجزي سبحانه المؤمنين منهم بالجنة ﴿ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا في نارجهنم، (ويُحتمَل أن يكون المقصود بالصادقين هنا: مَن آمن بهؤلاء الأنبياء، واللهُ أعلم).

الآية 9: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (أيام غزوة الأحزاب) - وهي غزوة الخَندق - ﴿ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ: أي حين اجتمع عليكم المُشركون (من خارج "المدينة")، واليهود والمنافقون (من داخل "المدينة" وما حولها)، فأحاطوا بكم وحاصَروكم، ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الكفار ﴿ رِيحًا شديدة (اقتلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، وألقتْ آنِيَتهم بما فيها مِن طعامٍ وشراب)، حتى اضطروا إلى الرحيل، ﴿ وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا يعني: وكذلك أرسلنا عليهم ملائكة من السماء لم تروها، فوقع الرعب في قلوبهم، حتى فقدوا رُشدهم وصوابهم، وقرروا العودة إلى بلادهم، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ- مِن حَفْر الخَندق والاستعداد للمعركة - ﴿ بَصِيرًا لا يَخفى عليه شيء من تلك الأحداث، وسيجزي المحسن منكم بالإحسان والمُسيء بالإساءة، (واعلم أنّ المقصود بلفظ "الأحزاب": أي الذين تَحَزَّبوا - أي اجتمعوا - لقتال المسلمين).

الآية 10، والآية 11: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ: أي اذكروا حين جاءكم هؤلاء الكفار مِن فوقكم (أي من أعلى الوادي الذي كنتم فيه، من جهة المَشرق) ﴿ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي من أسفل الوادي (من جهة المغرب)، ﴿ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ أي ضَلَّتْ الأبصار عن كل شيءٍ حولها، وصارت لا تنظر إلا لهؤلاء الأعداء من شدة الخوف منهم ﴿ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ أي قاربَتْ قلوبكم أن تصل إلى حَناجركم من شدة الرعب ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا يعني: وفي هذا الموقف الشديد كنتم تظنون بالله الظنون المختلفة (مِن نَصرٍ وهزيمة، ونجاةٍ وهلاك)، ومنهم مَن ظن أن الله لن ينصر دينه، ولن يُعلي كلمته (وهذا كله من وساوس الشيطان)، ﴿ هُنَالِكَ أي في ذلك الموقف العصيب: ﴿ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ: أي اختُبر إيمان المؤمنين، وعُرف المؤمن من المنافق ﴿ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا أي اضطرب المؤمنون اضطرابًا شديدًا بالخوف والقلق، ليتبيّن إيمانهم ويزداد يقينهم.

♦ واعلم أنّ الألِف - التي في نهاية كلمة ﴿الظُّنُونَا - تُسَمَّى: (ألِف زائدة) لرعاية الفواصل في الوقف، ومِثلها في هذه السورة: (وأطعنا الرسولا)، (وأضلونا السبيلا).

الآية 12: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي في قلوبهم شك (وهم ضِعاف الإيمان)، فهؤلاء قالوا لبعضهم - عندما رأوا هذا البلاء نازلًا بالمؤمنين -: ﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من النصر والتمكين ﴿ إِلَّا غُرُورًا أي خِداعًا فلا تصدقوه.

الآية 13: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أي اذكر أيها النبي قول طائفة من المنافقين - يوم الأحزاب - وهم ينادونَ المؤمنين من أهل "المدينة": ﴿ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ (وهو الاسم القديم للمدينة المنورة) ﴿ لَا مُقَامَ لَكُمْ: أي لا إقامة لكم في معركة خاسرة، ولا فائدة من البقاء هنا دونَ قتال، ﴿ فَارْجِعُوا إلى منازلكم، (وما قالوا ذلك إلا خوفًا من القتال وهروبًا من المواجهة)، ﴿ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يعني: وهناك فريق آخر من المنافقين يستأذنون النبي في العودة إلى منازلهم، فـ ﴿ يَقُولُونَ له: ﴿ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ أي مكشوفة أمام العدو، ونحن نخاف عليها ﴿ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ يعني: والحَقُّ أنها ليست كذلك، إذ بيوتهم مُحَصَّنة، و﴿ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا: أي ما قصدوا بذلك الاستئذان إلا الفرار من القتال.

الآية 14، والآية 15: ﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا يعني: ولو دَخَلتْ جيوش الأحزاب إلى "المدينةَ" من جوانبها على هؤلاء المنافقين، ﴿ ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ أي: ثم طُلِبَ مِنهم أن يُشركوا بالله ويَرجعوا عن الإسلام: ﴿ لَآَتَوْهَا: أي لأَجابوا تلك الفتنة (وهي الشرك) ﴿ وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا أي ما تمهلوا بالإجابة إلا وقتًا قليلًا، (والمعنى أنهم لم يتفكروا قبل أن يُشركوا، بل سارَعوا إلى الشرك حين طَلَبَ منهم المُشركون ذلك)، وذلك لشدة نفاقهم، ﴿ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي عاهدوا اللهَ على يد رسوله من قبل هذه الغزوة أنهم ﴿ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ أي لا يَفرُّون إنْ حضروا الحرب، ولا يتأخرون إذا دُعُوا إلى الجهاد، ولكنهم خانوا عهدهم ﴿ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا أي يسأل سبحانه صاحب العهد عن الوفاء بعهده، ويحاسبه عليه.

الآية 16: ﴿ قُلْ - أيها النبي - لهؤلاء المنافقين: ﴿ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ من المعركة ﴿ إِنْ فَرَرْتُمْ خوفًا ﴿ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ (فإنّ ذلك الفرار لن يؤخر آجالكم المكتوبة، وسيأتيكم الموت في المعركة أو في غيرها)، ﴿ وَإِذًا يعني: وإنْ فررتم ﴿ لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي لن تتمتعوا في هذه الدنيا إلا قليلًا، ثم تموتون عند نهاية أعماركم، وهو زمن قليل جدًا بالنسبة إلى الآخرة.

الآية 17: ﴿ قُلْ لهم - أيها النبي -: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ ويَمنعكم من عذابه ﴿ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً؟! لا أحد، ﴿ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينفعهم ويتولى أمورهم ﴿ وَلَا نَصِيرًا ينصرهم من عذاب ربهم.
 
 

الآية 18، والآية 19، والآية 20: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ﴾: يعني إنَّ الله يعلم المنافقين المُثَبِّطين للمؤمنين عن القتال (والمقصود أنهم يُلقون في نفوسهم الرغبة في القعود عن القتال، ويخوفونهم من العدو) ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾ المنافقين: ﴿ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾: أي تعالوا وانضموا إلينا، واتركوا محمدًا وأصحابه يقاتلون وحدهم، فإننا نخاف عليكم الموت، ﴿ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ يعني: وهم مع تخذيلهم هذا لا يأتون القتال إلا نادرًا (إذ يتخلفون في أكثر الغزوات، وإنْ حضروا قتالًا، فإنهم يقاتلونَ دفعًا لتُهمة النفاق عن أنفسهم وخوفًا من الفضيحة).

وترونهم أيها المؤمنون ﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ﴾: أي بُخَلاء عليكم بالمال والنفس والجهد (لِمَا في نفوسهممن العداوة والحقد، وحب الحياة وكراهية الموت)، ﴿ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ ﴾ بسبب هجوم العدو: ﴿ رَأَيْتَهُمْ ﴾ أيها النبي ﴿ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ﴾ بخوفٍ شديد ﴿ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ﴾ أي يَنظرون بأعينهم يمينًا وشمالًا(خوفًا من أن يأتيهم العدو من أيِّ جهة) ﴿ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾: يعني كحال مَن تدور عينه إذا حَضَرَه الموت من شدة الخوف (وهو المُحتضِر الذي لا يستطيع الكلام، مِن شدة الآلام التي يَشعر بها، حتى يُصاب بالإغماء)، ﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ ﴾ وانتهت الحرب: ﴿ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾: يعني آذوكم بألسنةٍ حادة كالحديد، وبالَغوا في عِتابكم ولَوْمكم وإسماعكم ما لا يُرضيكم، وَوَصفوا أنفسهم بالشجاعة والنجدة، (واعلم أن السَّلقفي اللغة هو بَسْط العضو للأذى،سواء أكان هذا العضو يدًا أو لسانًا).

وتجدونهم ﴿ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ﴾: أي بُخَلاء على مشاريع الخير وما يُنفَق في سبيل الله (لأنهم لا يؤمنون بالثواب في الآخرة)، ﴿أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ بقلوبهم (فلذلك هم جُبناء عند اللقاء، بُخلاء عند العطاء)، ﴿فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي أبطل ثواب أعمالهم (لأنه لم يكن عن إيمان، ولم يكن خالصًا لوجهه)، ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ ﴾ أي إحباط أعمالهم ﴿ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾.


وهؤلاء المنافقون ﴿ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا ﴾: أي لم يُصَدِّقوا أن الأحزاب قد هَزَمهم الله تعالى وأنهم عادوا إلى بلادهم (وذلك لضعف يقينهم في وعد الله بالنصر)، ﴿ وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ ﴾ مرة أخرى إلى "المدينة" - على سبيل الفرض -: ﴿ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ﴾: أي سيَتمنَّى أولئك المنافقون أنهم كانوا يعيشون بين أعراب البادية (الصحراء)، حتى لا يقاتلوا الأحزابَ معكم، بل يَكتفونَ بأن ﴿ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ ﴾ أي يسألون الناس عن أخباركم: (هل انهزمتم أو انتصرتم؟)، (وبالطبع يتمنون هزيمتكم)، ﴿ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ ﴾ أي يعيشون معكم في المدينة: ﴿ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ﴾ (وذلك لكثرة جُبنه موضعف يقينهم).

وفي الآيات السابقة إشارة إلى وجوب الوفاء بالعهد، لأنَّ نقض العهد من علامات النفاق، واعلم أيضًا أنَّ كلمة: (قد) المذكورة في قوله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾، جاءت هنا للتأكيد والتقرير، إذ هي تأتي أحيانًا للتقليل، وتأتي أحيانًا للتكثير.

الآية 21: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ ﴾ - أيها المؤمنون - ﴿ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ أي قدوة حسنة في أقواله وأفعالهوصبره وثباته، وهذه القدوه الحسنة تكونُ ﴿ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ ﴾ (إذ يَقتدي به صلى الله عليه وسلم ويَتَّبع سُنَّته مَنكان يرجو ثواب ربه، وينتظر مَجيء اليوم الآخر وما فيه مِن نعيمٍ مقيم أو عذابٍ أليم)، ﴿ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ يعني: ويَقتدي به مَن أكثرَ مِن ذِكر الله تعالى واستغفاره وحَمْدِه في كلحال.

الآية 22: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ ﴾ قد حاصروا "المدينة"،تذكَّروا أنَّ موعد النصر قد اقترب، لأن الله تعالى قد وَعَدَهم في القرآن أن النصر يأتي بعد الشدة، وذلك في قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، كما أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرهم بقدوم الأحزاب عليهم، وأن الله ناصرهم عليهم، فـ ﴿ قَالُوا ﴾: ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ من الابتلاءوالمِحنة والنصر ﴿ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ ﴿ وَمَا زَادَهُمْ ﴾ أي: ما زادتهم رؤيتهم للأحزاب ﴿ إِلَّا إِيمَانًا ﴾ أي تصديقًا بوعد الله لهم ﴿ وَتَسْلِيمًا ﴾ لقضائه وأمْره.

الآية 23، والآية 24: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ (وصبروا على البلاء والشدائد): ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ﴾ أي وَفَّى بعهده، فقاتل حتى استُشهِد (والمقصود بهم: الصحابة الذين تخلفوا عن غزوة بدر، فحزنوا لِمَا فاتهم من الأجر، فعاهَدوا اللهَ لئن حضروا قتالًا مع رسوله صلى الله عليه وسلم ليُقاتلُنّ حتى الاستشهاد)، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ﴾ أي ينتظر إحدى الحُسنَيَيْن: (النصر أو الشهادة)، ﴿وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾: أي لم يُغيِّروا عهد الله ولم ينقضوه كما فعل المنافقون (الذين عاهدوا الله أنهم لا يُوَلُّونَ الأدبار، ثم عادوا إلى بيوتهم تاركينَ الرسول والمؤمنين في مواجهة الأعداء).

♦ واعلم أنّ كلمة (تَبْدِيلًا) تشير إلى أنهم لم يُبَدِّلوا في مَوقفهم ولو تبديلًا قليلًا، بل إنهم ثَبَتوا على عهدهم وصبروا، حتى وَفَّوا به حق الوفاء، فهَنيئًا لهم الأجر والجزاء.

وقد قَدَّرَ سبحانه حدوث تلك الأحداث - من الوفاء والغدر والصبر واليأس - ﴿ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ ﴾ وهم المؤمنون، إذ يَجزيهم الجَنَّة ﴿ بِصِدْقِهِمْ ﴾ أي بسبب صِدقهم في إيمانهم وصبرهم على البلاء، ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ ﴾ يعني إنْشاءَ تعذيبهم، بألَّا يوفقهم للتوبة النصوح قبل الموت فيموتوا على الكفر، فيدخلوا النار، ﴿ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ بأن يوفقهم للتوبة قبل الموت، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا ﴾ لذنوب التائبين، ﴿ رَحِيمًا ﴾ بهم، حيث جعل التوبة نجاةً لهم.

الآية 25، والآية 26، والآية 27: ﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ ﴾: أي رَدَّ اللهُ أحزاب الكفر عن "المدينة" خائبينَ خاسرينَ مُغتاظين ﴿ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ﴾ في الدنيا ولا في الآخرة، ﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ﴾ بإرسال الريح والملائكة على الأحزاب، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا ﴾ لا يُقْهَر، ﴿ عَزِيزًا ﴾ في انتقامه من أعدائه.

﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ﴾ يعني: وأنزل الله يهود بني قُرَيظة مِن حصونهم (عقوبةً لهم لإعانتهم للأحزاب على قتال المسلمين)﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾: أي ألقى في قلوب اليهود الخوف، وبذلك مَكَّنكم أيها المؤمنون منهم، فـ ﴿ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ﴾ ﴿ وَأَوْرَثَكُمْ ﴾ - أيها المؤمنون - ﴿ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾ ﴿ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُوهَا ﴾ يعني: وأورثكم سبحانهأرضًا لم تتمكنوا مِن دخولها من قبل (لكثرة حصونها وحماية أهلها لها)، وهي أرض خَيبر (وذلك على الراجح من أقوال العلماء)، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ لا يُعجزه شيء.



الآية 28، والآية 29: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ﴾ اللاتي اجتمعنَ عليك، يَطلُبنَ منك زيادة النفقة، ولم يكن عندك ما تُوَسِّع به عليهنَّ: ﴿ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾ - من لذيذ الطعام والشراب، وحُلِيِّ الزينة وغير ذلك -: ﴿ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ﴾ يعني أُعطيكنَّ شيئًا مما عندي منالدنيا (بقدر استطاعتي) ﴿ وَأُسَرِّحْكُنَّ ﴾ يعني: أطلِّقكن ﴿ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ أي أُفارقكُنَّ دونَ إيذاءٍ بالقول أو الفِعل، ﴿ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ: يعني إن كنتنَّ تُرِدْنَ رضا الله ورضا رسوله والجنة: فاصبِرْنَ ولا تنظرنَ إلى ما عند غيركنَّ من النساء ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ - اللاتي يُطِعنَ اللهَ ويُحسنونَ عِشرة رسوله -﴿ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ (وهو المقامات العالية مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة) (وقد اخترنَ اللهَ ورسوله وما أعدَّ اللهُ لهنَّ في الدارالآخرة، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم)، ولهذا أكرمهنَّ الله تعالى وأنزل على رسوله: ﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ [الأحزاب: 52].

الآية 30، والآية 31: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ أي بمعصيةٍ ظاهرة (ومِن ذلك عدم طاعة الرسول الله صلى الله عليه وسلم أو سُوء خُلُق يَتأذى به): ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ أي عذابًا مُضاعَفًا على عذاب غَيركنَّ مِمَّن آذَينَ أزواجهنَّ (وذلك لمكانتكنَّ الرفيعة عند الناس، ولأنكنَّ قدوة لسائر النساء، فإنَّ صاحب العِلم والمنزلة العالية يُستقبَح منه الذنب أكثر من غيره، ويُضاعَف له العذاب عليه)، ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ ﴾ - أي مضاعفة العذاب - ﴿ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾، ﴿ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ يعني: ومَن تُطِع منكنَّ اللهَ ورسوله (بفعل الأوامر وتَرْك النَواهي) ﴿ وَتَعْمَلْ صَالِحًا ﴾ من النوافل والخَيرات: ﴿ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾ يعني نُعْطها جزاءَ عملها الصالح ضِعف ثواب غيرها من سائر النساء، ﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾ وهو الجنة، (وهذه بشارة بالجنة لنساء النبي، أمَّهات المؤمنين، اللاتي نزلتْ هذه الآيات بشأنهنَّ).

الآية 32، والآية 33، والآية 34: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ - في الفضل والمنزلة - ولكنْ بشرط: ﴿ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ: يعني إنْعملتنَّ بطاعة الله وابتعدتنَّ عن معاصيه، ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ: أي لا تتحدثنَ مع غير المحارم بصوتٍ رقيق﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ: أي حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض الشهوة الحرام، (وهذا أدب واجب على كل امرأة مؤمنة)، ﴿ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ يعني إذا اضطرتْ المرأة للحديث مع غير المحارم، فعليها أن تتحدث بصوت منخفض، أقرب إلى الغِلظة (ليس فيه رِقَّة)، ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ يعني: والْزَمْنَ بيوتكنَّ (فلا تخرجنَ منها إلا لحاجة)، ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى: أي لا تُظهرنَ مَحاسنكن، كما كانيفعل نساء الجاهلية الأولى في الأزمنة السابقة على الإسلام، (وهذا خطاب للنساءالمؤمنات في كل عصر)، ﴿ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ ﴾ بأركانها وفي أوقاتها،﴿ وَآتِينَ الزَّكَاةَ ﴾ لمُستحِقِّيها، ﴿ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ في كل أمْرٍ ونهي، ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ﴾ بهذه الوصايا التي وصاكنَّ بها ﴿ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ أي ليُبعد عنكنَّ الأذى والسوء والشر يا أهل بيتالنبي (وهم زوجاته عليه الصلاة والسلام وذريته) ﴿ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ يعني: وليُطهِّر نفوسكم وقلوبكم غايةالطهارة،﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ: أي اذكُرنَ ما يُقرأ في بيوتكنَّ من القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، واعملنَبه، واقدُرْنه حقَّ قَدْره، فهو من نِعَم الله عليكنَّ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا ﴾ بكُنَّ؛ إذ جعلكنَّ في البيوت التي يُقرأ فيها القرآن والسُنَّة، ﴿ خَبِيرًا ﴾ بكُنَّ،حيثُ اختاركنَّ أزواجًا لرسوله.

الآية 35: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ﴾ (وهم المُنقادون والمُنقادات لأوامر ربهم)، ﴿ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ (وهم المُصَدِّقونَ العاملونَ بشرع الله تعالى)، ﴿ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ﴾ (وهم المُطيعون والمُطيعاتلله ورسوله)، ﴿ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ﴾ في أقوالهم وأفعالهم ونيَّاتهم وتوبتهم، ﴿ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ ﴾ عن المعاصيوعلى الطاعات، وعلى ما يُصيبهم مِن مِحَنٍ وبَلاءٍ، لتكفير ذنوبهم أو رفع درجاتهم، ﴿ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ ﴾ (وهم الخائفون والخائفات من عذاب ربهم)،﴿ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ ﴾ بإخراج الزكاة المفروضة والصدقات المُستحَبَّة، ﴿ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ ﴾ في الفرض والنَّفْل، ﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ ﴾ ﴿ وَالْحَافِظَاتِ ﴾ لفروجهنَّ (عن الزنى ومُقدِّماته، وعن كشف العورات)، ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ﴾ (بقلوبهم وألسنتهم) في غالب أوقاتهم: ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ أي لهؤلاء - المذكور صفاتهم - ﴿ مَغْفِرَةً ﴾ لذنوبهم ﴿ وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ وهو الجنة.

الآية 36: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ﴾ يعني إذا حَكَمَ الله ورسوله فيهم حُكمًا ﴿ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ أي: ما كانَ لهم أن يُخالفوا أمْرَ ربهم ورسوله (بأنيختاروا غير الذي حُكِمَ فيهم)، (ومِن ذلك قول بعض الفتيات إذا أُمِرْنَ بالحجاب: سوف أرتدي الحجاب عندما أقتنع)!! تقتنعينَ بماذا؟!، تقتنعينَ بأمر الله تعالى؟! ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ أي بَعُدَ عن طريق الصواببُعْدًا ظاهرًا.

الآية 37: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ: أي اذكر أيها النبي حين قلتَ للذي أنعم الله عليه بالإسلام - وهو زيد بن حارثة الذي تبنَّاه النبي صلى الله عليه وسلم - ﴿ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ﴾ أيها النبي بالعِتق، وقلتَ له حين جاءك يشكو إليك زوجته "زينب بنت جحش": ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ: يعني أَبْقِ زوجكولا تُطلِّقها ﴿ وَاتَّقِ اللَّهَ ﴾ يا زيد، ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ يعني: وتُخفي يا محمد في نفسك ما أوحاهالله إليك (مِن أنّ زَيْدًا سيُطلقها وأنَّ الله سيُزَوِّجها لك)، والله تعالى مُظهِرٌ ما أخفيتَه في نفسك،﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ ﴾ أي تخاف أن يقول المنافقون: (تزوج محمد مُطلَّقة مُتبَنَّاه) ﴿ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا ﴾ يعني: فلمَّا قضى زيدٌ حاجته منها بالزواج، ولم يَبق له رغبة فيها، بل صارت كل رغبته أن يُفارقها، ثم طَلَّقها وانتهت عِدَّتها: ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ أيها النبي ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ: يعني حتى لا يكون على المؤمنينذنبٌ في أن يتزوجوا من زوجات مَن كانوا يتبنَّوْنهم ﴿ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ (أي بعد طلاقهنَّ وانتهاء عِدَّتهنَّ)، ولتكون أيها الرسول قدوة للمؤمنين في إبطال عادة الجاهلية (التي كانت تُحَرِّم الزواج بزوجة المُتبنَّى بعد طلاقها)، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ يعني: إنَّ ما قضاه الله تعالى واقعٌ لا مَحالة.

♦ واعلم أن أمُّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تقول (زَوّجَني اللهُ تعالى من فوق سبع سماوات)، واعلم أيضًا أن زيد بن الحارثة رضي الله عنه هو الصحابي الوحيد المذكور في القرآن، في قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًاولَعَلَّ السبب في ذلك أنه لما تبَنَّاه النبي صلى الله عليه وسلم كان يُدعَى بـ (زيد بن محمد)، ثم عندما أبطل الله التبني أصبح يُدعَى بـ (زيد بن حارثة)، ونُزِعَ منه لقب (زيد بن محمد)، فذَكَرَ الله اسمه في القرآن جَبرًا لخاطره.

الآية 38، والآية 39:﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ﴾ (والمقصود هنا: ما أحلَّه الله له منزواج امرأة مُتبنَّاه بعد طلاقها)، فقد كانت هذه ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ﴾ (إذ أباحَ الله ذلك للأنبياء الذين مضوا قبله)، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ أي قدَرًا مُقدَّرًا لا بد من وقوعه.

ثم أثنى سبحانه على هؤلاء الأنبياء الماضين بأنهم: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ﴾ إلى الناس، ﴿ وَيَخْشَوْنَهُ ﴾ أي يخافون الله تعالى ﴿ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ﴾ (فلا يخافون لومة لائم عند تبليغهم لرسالة ربهم أو فِعل ما أَذِنَ لهم)، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا: أي كفى بهمحاسبًا لأنبياءه على تبليغهم لرسالاته، إذًا فلا يخافوا قول الناس عند تنفيذهم لِما أمَرَهم الله به.

الآية 40: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ (لا زيد ولا غيره)، فلذلك لا يَحرُم عليه أن يتزوج مُطلَّقة زيد، لأنه ليس ابنه، ﴿ وَلَكِنْ ﴾ كانَ محمدٌ ﴿ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ ﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ (إذ لا نُبُوَّةبعده إلى يوم القيامة)، فلو كان له ولدٌ ذَكَر: لكانَ من الممكن أن يكون نبيًّا بعده (كما كان أولاد إبراهيم وإسحق ويعقوب وداوود عليهم السلام)، ولكنْ لمَّا أراد الله أن يختم الرسالات برسالته صلى الله عليه وسلم لم يأذن ببقاء أحد من أولاده، بل توفاهم صغارًا، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ (فما أخبر به سبحانه هو الحق، وما حَكَمَ به هو العدل، وما شَرَعه لكم هو الخير، ألَا فسَلِّموا له في قضائه وحُكمه).

من الآية 41 إلى الآية 44: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ بقلوبكموألسنتكم ﴿ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ في جميع أحوالكم، ﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا: أي اشغلوا أوقاتكم بذكر الله فيالصباح والمساء، وبعد الصلوات المفروضات، وفي غير ذلك من الأوقات (بالأذكار والأدعية التيصَحَّتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم).

واعلم أن الله تعالى قد أمَرَ المؤمنين بذكره ذِكرًا كثيرًا، لأنه قد وصف المنافقين بأنهم ﴿ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾[النساء: 142]، فالذكر الكثير براءةٌ من النفاق، وهو خيرُ مُعِين على إصلاح القلوب وفِعل الطاعات، وكَفِّ اللسان عن الآثام، فإن العَبدَ لا بد له مِن أنْ يتكلم، فإنْ لم يتكلم بذِكر الله تعالى وذِكر أوامره: تكَلَّمَ بالأشياء المُحَرَّمَة (كالغِيبة والنَمِيمة والكَذِب والباطل)، فلا سبيلَ إلى السلامة من هذه المُحَرَّمات إلا بذكر رب الأرض والسماوات، فمَن عَوَّدَ لسانه ذِكرَ الله: صَانَ لسانَهُ عن اللغو والباطل.

♦ واعلم أنّ حقيقةُ الذِكر: أنْ تستشعرَ - وأنت تذكر الله - أن العبدَ الفقير يذكرُ الربَّ الغني، وأن العبدَ الذليل يذكرُ الربَّ العزيز، وأن العبدَ الضعيف يذكرُ الربَّ القوي، وأن العبد الذي لا يَملك لنفسِهِ شيئًا يذكرُ الربَّ القدير الذي بيده ملكوتُ كل شيء، فكأنَّ لسانَ حالِكَ يقول: (أسألُكَ بعِزِّك وذُلِّي، وقوتك وضعفي، وقُدرَتِكَ وعَجزي، وفقري إليك وغناك عني أنْ تعفوَ عني وترحمَني).

﴿ هُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ﴾ أي يَغفر لكم أيها المؤمنون، ﴿ وَمَلَائِكَتُهُ ﴾ تدعو لكم وتستغفر لكم ﴿ لِيُخْرِجَكُمْ ﴾ سبحانه ﴿ مِنَ الظُّلُمَاتِ ﴾ أي ظلمات الجهلوالضلال ﴿ إِلَى النُّورِ ﴾ أي نور العلم والإيمان، ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ في الدنيا والآخرة (فلايُعَذِّبهم ما داموا مطيعينَ لأمره مُخلصينَ له)، ﴿ تَحِيَّتُهُمْ ﴾ من الله تعالى ﴿ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ ﴾ (في الجنة) هي قوله لهم: ﴿ سَلَامٌ ﴾ (أي سَلِمْتم من الخوف والحزن والتعب، ومِن كل سُوء)﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ﴾ وهو الجنة.

من الآية 45 إلى الآية 48: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ﴾ على أمَّتك بإبلاغهم الرسالة ﴿ وَمُبَشِّرًا ﴾ للمؤمنين بالرحمة والجنة، ﴿ وَنَذِيرًا ﴾ للعُصاة والمُكَذِبين من النار﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ ﴾ (يعني إلى توحيده وطاعته) ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ أي تفعل ذلك بأمره إياك وتكليفه لك، ﴿ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ إذ تُنير الطريق لمن اتَّبع هَدْيك(لأن الحق الذي جئتَ به ظاهرٌ كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يَجحده إلامُعانِد)، ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ﴾ أي ثوابًا عظيمًا (وهو روضاتالجنات)، ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ فيما يطلبونه منك ويقترحونه عليك مما يتناقض مع دَعْوتك ورسالتك ﴿ وَدَعْ أَذَاهُمْ: أي اترك أذاهم (فلا تهتم به، ولا تقابله بأذًى مثله)، بل اصبر عليهم حتى يأمرك ربك بما تقوم به نحوهم، ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ أي اعتمد على ربك وفَوِّضْ أمورك إليه، وثِق بنصره وحِفظه، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ فإنه يكفيك ما أهمَّك منأمور الدنيا والآخرة.

الآية 49: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ يعني إذا عقدتم عليهنَّ ﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ أي مِن قبل أن تُجامعوهن: ﴿ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾ يعني: فليس هناك عِدَّة تعُدُّونها عليهنَّ بعد هذا الطلاق، (إذ العِدَّة تكونُ للمدخول بها لمعرفة ما في الرَّحِم، وأما غير المدخول بها فمعلومٌ أن رَحِمها خالية)، فلها أن تتزوج بعد هذا الطلاق مباشرةً، (وإذا أراد المُطَلِّق أن يَرجع إليها، فيَلزَمه لذلك عقدٌ جديد)، ﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ: أي أعطوهن شيئًا مِن مالكم يَتمتعن به (بحسب غِنَى المُطلِّق وفقره)، ليكون عِوَضًا عمَّا فاتهنَّ من الزواج، ودفعً الوَحشة الطلاق، وإزالةً للأحقاد)، ﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا: أي خلُّوا سبيلهن مع السِتر الجميل (دونَ أن تذكروهنَّ بسوء).


الآية 50: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ﴾ يعني إنَّا أبَحْنا لك الزواج من أزواجك ﴿ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ أي اللاتي أعطيتهنّ مهورهنّ ﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ يعني: وكذلك أبَحْنا لكما مَلَكَتْ يمينك من الإماء (الجواري) ﴿ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ﴾ يعني مما أنعم الله به عليك من أَسْرَى الجهاد (كصَفيّة بنت حُيَيّ، وجُوَيرية بنت الحارث) رضي الله عنهما، ﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ ﴾ يعني: وأبَحْنا لك الزواج منبنات عمك ﴿ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾ (بخِلاف مَن لم تهاجر وبقيتْ في دار الكفر)، ﴿ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً ﴾ يعني: وأبَحْنا لك الزواج منامرأة مؤمنة ﴿ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ ليتزوجها مِن غير مهر ﴿ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا: يعني إن كنت أيها النبي تريد الزواج منها، فهذا حلالٌ لك ﴿ خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ يعني ليس لغَيرك من المؤمنين أن يتزوج امرأة بالهِبَة (من غير مهر)، ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ يعني: قد عَلِمْنا ما أوجبنا على المؤمنين من أحكامٍ ﴿ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ وهو أنهم لا يزيدون على الأربع (بشرط وجود الشهودوالمهر ووَليِّ المرأة)، وأنهم يتزوجون ما شاؤوا من الإماء (بشرط أن تكون المملوكة مسلمة أو من أهل الكتاب)، قد عَلِمْنا كل هذا، ولكننا رَخَّصنا لك في بعض أمور النكاح - كالزيادة على الأربع والزواج من غير مَهر - ﴿ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ﴾ في نكاح مَن شئتَ مِن هؤلاء المذكورات في الآية، لأن الله هو الذي وَسَّعَ عليك، فلا تهتم بقول أحد من الناس ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا ﴾ لك حينَ تحَرَّجتَ مِن نكاح "زينب بنت جحش" خوفاً من كلام المنافقين، ﴿ رَحِيمًا ﴾ بك وبالمؤمنين (حيثُ وَسَّعَ عليكم ما لم يُوَسِّع على غيركم من أهل الشرائع الأخرى).

الآية 51: ﴿ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ ﴾ يعني: إنّ اللهَ قد أذِنَ لك أن تؤخر مَن تشاء مِن نسائك في قسْمتها في المَبيت، ﴿ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾ يعني: وتضم إليك مَن تشاء منهنّ فتَبيت عندها، ﴿ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ﴾ يعني: ومَن طَلَبْتَ المبيت عندها من نسائكَ ﴿ مِمَّنْ عَزَلْتَ ﴾ يعني ممن كنتَ اعتزلتَ المبيت عندها لأمرٍ ما: ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾ أي: فلا إثم عليك في طلبها والمبيت عندها متى شئت، (وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) يعني: ومَن طَلَبْتَها - ممن اعتزلتَ المبيت عندها - فلا إثم عليك في أن ترجع وتَبيت عندها).

﴿ ذَلِكَ ﴾ يعني ذلك التخيير الذي أعطاه الله لك في شأن نسائك هو ﴿ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ: يعني أقربإلى أن تفرح زوجاتك بما تصنعه معهنّ في شأن القسمة والمبيت (لأنه أمْر الله تعالى وهُنّ مؤمنات)، ﴿ وَلَا يَحْزَنَّ ﴾ بل يَقبلنَ ما تفعله برضا نفسٍ وارتياح (بعد أن عَلِمنَ أنّ الله هو الذي أوحى إليك بذلك، وليس اجتهاداً من عند نفسك)، ﴿ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ﴾ يعني: ويَرضَيْنَ كلهنّ بما قسمتَ لهنَّ (مما أنت مُخَيَّر فيه).

ورغم هذا التخيير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَعدل بين نسائه في المبيت، إلا ما كان مِن "سَودة" رضي الله عنها، فإنها وهبتْ ليلتها لعائشة رضي الله عنها، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم هذا قسْمي فيما أملك، فلا تلُمني فيما تملك ولا أملك" (والمقصود أنه كان يحب عائشة رضي الله عنها أكثر من باقي نسائه)، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ أي يعلم ما في قلوبالرجال مِن مَيْلها إلى بعض النساء دونَ بعض، (وإنما خَيَّرَ الله رسوله تيسيراً عليه لعِظَم مَهامّه، التي لا يتحملها أقوى الرجال)، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا ﴾ بما في القلوب ﴿ حَلِيمًا ﴾ لا يُعاجل مَن عَصاه بالعقوبة، ويَقبل التوبة من عباده.

واعلم أن هذه الآيات تحمل تخفيفاً من الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، لِما يلاقيه من إيذاء ومشقة في سبيل الدعوة، وفي الإصلاح والمؤاخاة بين المسلمين، ومِن فرْض قيام الليل عليه بصفة خاصة، وغير ذلك من الأمور الشاقة، فأكرمه سبحانه بهذه الآية، حيثُ أباح له الزواج بأكثر من أربع، وأباح له أن يتزوج الواهبة نفسها بغير مهر ولا وَلِيّ، وخَيَّره في تأخير القسمة بين أزواجه (ولم يُبح تلك الأمور لغيره من المؤمنين).

الآية 52: ﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ﴾ أي لا يجوز لك أن تتزوج بعد نسائك التسع (اللاتي في عِصمتك)، وذلك إكراماً لهن، لأنهنّ اخترنَ اللهَ ورسوله والدار الآخرة، ورَضَينَ بما قَسَمه الله لهنّ، ﴿ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ﴾ يعني: ولا يَحِلّ لك أن تطلِّقهنّ وتأتي بغيرهنّ بدلاًمنهنّ ﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ﴾ ﴿ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ يعني: وأمّا ما ملكتْ يمينك من الإماء، فحلالٌ لك مَن شئت منهنّ، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾ لا يغيب عن علمه شيءٌ، ألاَ فخافوه أيها الناس وراقِبوه، فإنكم ستَرجعون إليه بعد موتكم.

وهنا ينبغي أن نَرُدّ على الشُبهة التي تقول: (لماذا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم تِسعاً مع أن الشرع لم يَحِلّ للرجل إلا أربعاً؟)، فدعونا نُجيبهم ابتداءً أنه لا يُعقَل أبداً من شخص يُخبر الناس أنه نبي ثم يأتي بكل بساطة ليأمرهم بفعل شيء ويفعل هو خِلافه، فإنه بذلك يعطي الفرصة لأعدائه أن يأخذوا ذلك حُجَّةً عليه، فتَبَيّنَ مِن ذلك أنه يستحيل أن يَصدر ذلك الأمر إلا من شخص واثق - تمام الثقة - أنه يفعل ذلك بأمر ربه، وليس مِن عند نفسه، كما قال تعالى له: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)، وقال أيضاً: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ)، إلى أن قال تعالى له: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)، فقوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ) يُفهَم منه أن الله هو الذي أحَلّ له الزواج مِن نسائه التسع (بصفةٍ خاصة ولأسبابٍ معلومة)، منها ما تقدم في الآيات السابقة في قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا).

الآية 53: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ ﴾ يعني إلاأن يَأذن لكم النبي لتناول طعامٍ ﴿ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ﴾ يعني غير منتظرين نُضجه وأنتم في بيته تتحدثون، ﴿ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ ﴾ بعد أن يَنضج الطعام ﴿ فَادْخُلُوا ﴾ ﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ﴾ أي انصرفوا ﴿ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ﴾ يعني: ولا تَمكثوا مستأنسينَ لحديثٍ بينكم في بيت النبي بعد الأكل، ﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ ﴾ أي انتظار نُضج الطعام والحديث بعد الأكل ﴿ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ﴾ أي يستحيي من إخراجكم من بيته مع أنّ له الحق في ذلك، ﴿ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ أي لا يستحيي سبحانه من بيان الحقوإظهاره.

﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا: يعني إذا طلبتم من نساء النبي حاجةً من أواني البيتونحوها: ﴿ فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ: أي اسألوهنّ من وراء سِتر ﴿ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ من الخواطر التيتَعرض للرجال في أمْر النساء، وللنساء في أمْر الرجال؛ إذ الرؤية هي سبب الفتنة، (فسبحان الله العظيم، إذا كان ذلك في حق الصحابة الأخيار، ونساء النبي الأطهار، فما بالُ مَن يجلسون على الطعامِ نساءً ورجالاً - مِن غير المحارم - يأكلون ويتحدثون؟! هل قلوبهم أطهر مِن أولئك الأبرار؟!).

﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ﴾ بأيّ نوع من أنواع الإيذاء ﴿ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا: أي لا يَحِلّ لكم أن تتزوجوا أزواجه من بعد موته (لأنهنّ أمهاتكم، ولا يَحِلُّ للرجل أن يتزوج أمَّه) ﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴾ (وقد امتثلتْ الأمّة لهذا الأمر، فلم يتزوج أحدٌ نساءَ النبي من بعده).

الآية 54: ﴿ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا: يعني إن تُظْهِروا شيئًا على ألسنتكم - أيها الناس - مما يؤذي رسول الله ﴿ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ في نفوسكم (كإخفاء الرغبة في الزواج مِن نسائه مِن بعده): ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ أي يَعلم سبحانه ما في قلوبكم وماأظهرتموه، وسيجازيكم عليه أشد الجزاء إن لم تتوبوا.

الآية 55: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ: يعني لا إثم على النساء في عدم الاحتجاب من آبائهنّ ﴿ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ ﴾ ﴿ وَلَا نِسَائِهِنَّ ﴾ أي نساء أُمَّتِهنّ (والمقصود: النساء المُسلمات، أما النساء الكافرات فلا يَرَونَ منهنّ إلا الوجه والكفين، وأما غير ذلك فيكون إظهاره لهنّ للضرورة)، ﴿ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ يعني أو العبيد المَملوكونَ لهنّ، (فلِلمُسلمة أن تكشف وجهها لخادمها المملوك، لشدة الحاجةإليه في الخدمة)، ﴿ وَاتَّقِينَ اللَّهَ ﴾ أيتها النساء، فلا تُظهِرنَ مِن زينتكنّ ما ليس لكُنَّ أن تُظهِرنَه، ولا تترُكنَ الحجاب أمام مَن يجبعليكنّ الاحتجاب منه) ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴾ أي يَشهد سبحانه على أعمالكنّ - ظاهرها وباطنها - وسيَجزيكُنّ عليها فاتقوه.

الآية 56: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ: أي يُثني سبحانه على النبي صلى الله عليه وسلم عند الملائكة المُقرَّبين،وملائكته يُثنون على النبي ويدعون له، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ (وقد ثبت في الصحيحين أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، قد عَلِمنا كيف نُسَلِّم عليك - يقصدون بذلك قولهم في التشهد: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) - فكيف نصلي عليك؟)، فقال لهم: "قولوا: (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد،اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌمجيد)".

وقد ثبت في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، نذكر منها: "مَن صَلَّى عليَّ مِن أُمَّتي صلاةً مُخلِصاً من قلبه: صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر درجات، وكَتَبَ له بها عشر حسنات، ومَحا عنه بها عشر سيئات" (انظر صحيح الترغيب والترهيب ج: 2).

الآية 57: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ﴾ (بالمعاصي، وزَعْم الشريك والولد له سبحانه)، ﴿ وَرَسُولَهُ ﴾ بالأقوالأو الأفعال، أولئك ﴿ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ﴾ أي طَرَدهم الله مِن كل خيرٍ ورحمة ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ ﴾ ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ ﴾ فيالآخرة ﴿ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ أي عذاباً يُهينهم ويُذِلّهم.

الآية 58: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ﴾ أي يؤذونهم بقولٍ أو فِعل مِن غير ذنبٍ عملوه: ﴿ فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ أي ارتكبوا أفحَش الكذب، وجاءوا بذنبٍ ظاهرَ القُبح، يَستحقون به العذاب في الآخرة.

الآية 59: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ ﴾ يعني يُسدِلنَ على رؤوسهنّ وصدورهنّ ووجوههنّ ﴿ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ﴾ أي مِنمَلاحفهنّ (وهو ما يُشبه "الإسدال" و"العباءة" وغير ذلك)، ﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ: يعني ذلك أقرب أن يُمَيَّزنَ بالسِتروالصيانة والعِفّة ﴿ فَلَا يُؤْذَيْنَ ﴾ أي: فلا يَتعَرَّض لهنّ أحد بمكروه أو أذى، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ (حيث غفرلكم ما تقدم منكم بسبب توبتكم، ورَحِمَكم بما أوضح لكم من الحلال والحرام).


 
 
الآية 60، والآية 61، والآية 62: ﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ ﴾ (الذين يُخفونَ الكُفر، ويُظهرونَ الإيمان) ﴿ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ أي في قلوبهم شك (وهم ضِعاف الإيمان)، ﴿ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ (وهم الذين يَنشرون الأخبار الكاذبة في "المدينة" لتخويف الناس)، لئن لم يَنتهِ هؤلاء جميعًا عنشرورهم وأفعالهم القبيحة: ﴿ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ﴾ أي: سوف نُسَلِّطك عليهم أيها الرسول بالقتل والإخراج، ﴿ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ﴾ أي لا يَسكنون معك في "المدينة" إلا زمنًا قليلًا، ثم يَخرجون منها أو يَهلكونَ وهم ﴿ مَلْعُونِينَ ﴾ أي: مطرودين من رحمة الله، ﴿ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا ﴾ يعني: في أيِّ مكانٍ وُجِدوا فيه: أُسِروا ﴿ وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ﴾ (ماداموا مقيمينَ على النفاق، ونَشْر الأخبار الكاذبة بين المسلمين، بغَرَض الفتنةوالفساد)، وقد كانت هذه ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ أي: هذه هي طريقته سبحانه في مُنافِقي الأمم السابقة؛ أن يؤسَروا ويُقَتَّلوا أينماكانوا، ﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ يعني: لن يستطيع أحد أن يُغيِّر طريقة الله في خَلْقِهِ وكَوْنه.

الآية 63: ﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ﴾ أي: يسألك كفَّار مكة عن الساعة التي تقوم فيها القيامة (استبعادًا لها وتكذيبًا)، ﴿ قُلْ ﴾ لهم: ﴿ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ ﴾ أيها الرسول ﴿ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾ أي لَعَلَّ زمانها يكون قريبًا، فإنَّ كل آتٍ قريب.

من الآية 64 إلى الآية 68: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ ﴾ أي: طَرَدهم من رحمته في الدنيا والآخرة، ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ ﴾ في الآخرة ﴿ سَعِيرًا ﴾ أي: نارًا مُوقدة شديدة الحرارة ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ ﴿ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا ﴾ يَنفعهمويُدافع عنهم، ﴿ وَلَا نَصِيرًا ﴾ يَنصرهم من عذاب ربهم ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ﴾، فـ ﴿ يَقُولُونَ ﴾ نادمين: ﴿ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ﴾ (لنكون مِن أهل الجَنَّة)، ﴿ وَقَالُوا ﴾: ﴿ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا ﴾ يعني: أطَعْنا أئمَّتنا في الضلال، وقادتَنا فيالشرْك ﴿ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾ أي: أضلونا عن طريق الهُدى والإيمان، ﴿ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ الذي تُعَذِّبنا به، ﴿ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ﴾ أي: اطرُدهم مِن رحمتك طردًا شديدًا، (وفي هذا تحذيرٌ من مصاحبة صَديق السوء، فإنه يؤدِّي بصاحبه إلى النار).

الآية 69: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ﴾ أي: لا تؤذوا رسولَ الله بقولٍ أوفِعل، حتى لا تكونوا مِثل الذين آذَوا نبيَّ الله موسى، ﴿ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ﴾ من الكذب في حقِّه، ﴿ وَكَانَ ﴾ موسى ﴿ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ أي: كان عظيم القَدْر والجاه عند الله تعالى.

الآية 70، والآية 71: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ أي: اعملوا ما يُرضِيه، واجتنِبواما يُغضبه (خوفًا من عذابه) ﴿ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ أي: قولًامستقيمًا موافقًا للصواب، (خاليًا من الكذب والباطل)، فإنكم إنْ تفعلوا ذلك ﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ الدينية والدنيوية، (فيَقْبَل سبحانه أعمالَكم، ويُطَهِّر نفوسَكم، ويُطَمْئِنَ قلوبَكم، ويُيَسِّر أمورَكم) ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ فلا يُعاقبكم عليها؛ (كل ذلك متوقف على التقوى، والصبر على التقوى، والتزام الصدق)، ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ (بدخول الجَنَّة، والنجاة من النار).

الآية 72، والآية 73: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ ﴾ - وهي التكاليف الشرعية كلها - فعَرَضَها سبحانه ﴿ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ﴾(عَرْضَ تخييرٍ لا إلزامَ فيه) ﴿ فَأَبَيْنَ ﴾ أي: رفضْنَ ﴿ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ﴾ (لثِقلها وضخامتها)، ﴿ وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ أي: خِفْنَ مِن عاقبة تضييعها، وألَّايَقُمنَ بأدائها على الوجه الأكمل، ﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾ بعد أن عُرِضَتْ عليه - والمقصود بالإنسان هنا آدم عليه السلام - فحَمَلها بما فيها من ثواب وعقاب، والتزم بها رغم ضَعفه، ﴿ إِنَّهُ ﴾ أي: أكثر بني آدم - وهو الصنف الذي ضَيَّع الأمانة، وأسرَف في المعاصي - ﴿ كَانَ ظَلُومًا ﴾ لنفسه؛ (لأنه يُعَرِّضها للمَهالك)، ﴿ جَهُولًا ﴾ بعواقب الأمور.

♦ وقد حَمَلَها الإنسان - قضاءً وقدرًا منه سبحانه - ﴿ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ﴾ (إنْ أصرُّوا على ما هم فيه من الضلال، ولم يتوبوا من التفريط في الأمانة التي حَمَلوها)، ﴿ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾؛ بستْر ذنوبهم، وتَرْك عقابهم ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا ﴾ لكل مَن تابَ إليه من عباده، ﴿ رَحِيمًا ﴾ بهم، حيثُ جعل التوبة نجاةً لهم من عذاب جهنم.
 
.......
من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف أ.د. التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

رامى حنفى محمود
شبكة الألوكه الشرعية

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×