اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير سورة سبأ

المشاركات التي تم ترشيحها


71106056_931906200496000_106659875651584





الآية 1، والآية 2: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ أي الثناء على اللهِ تعالى بصفاته التي كلّها كمال، والشكر له على نِعَمِهِ الظاهرة والباطنة، فهو سبحانه ﴿ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ مُلكًا وتدبيرًا وتصَرُّفاً وإحاطة، ﴿ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ: أي له سبحانه الشكر في الآخرة (على إدخاله المؤمنين جنته)، إذ يَحمده أهل الجنة بقولهم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)، وبقولهم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ)، ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ ﴾ في فِعله، ﴿ الْخَبِيرُ ﴾ بشؤون خلقه، الذي ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ﴾ أي يعلم كل ما يدخل في الأرض من الماء والأموات والكنوز وغير ذلك، ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ من النبات والمعادنوالمياه، ﴿ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ من الأمطار والملائكة والكتب، ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ يعني: وما يصعد إليها منالملائكة وأعمال الخلق، ﴿ وَهُوَ ﴾سبحانه﴿ الرَّحِيمُ ﴾ الذي لا يعاجل مَن عَصاهُ بالعقوبة، ﴿ الْغَفُورُ ﴾ لذنوب التائبين إليه.



الآية 3، والآية 4: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾: ﴿ لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ: يعني لن تأتينا القيامة، ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾، وهذا إخبارٌ من اللهِ ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ ﴾أي الذي يعلم ما غاب عن حَوَاسّ الناس، و﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ ﴾ أي لايغيب عن علمه ﴿ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾ ﴿ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا ﴾ مُثبَت ﴿ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ أي في كتابٍ واضح، وهو اللوح المحفوظ،وسوف تأتيكم الساعة﴿ لِيَجْزِيَ ﴾ اللهُ ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ أي آمَنوا باللهِ وبرسوله وبكل ما أخبر به رسوله من الغيب ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ (فأدَّوا الفرائض والواجبات، وسارَعوا في النوافل والخيرات)، ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ وهوالجنة.



الآية 5: ﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا ﴾ يعني: وأما الذين اجتهدوا في إبعاد الناس عن الإيمان بآياتنا ﴿ مُعَاجِزِينَ ﴾ أي ظانّين أنهم يُعجزوننا، وأننا لن نَقدر على أخْذهم بالعذاب: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ أي لهم عذابٌ من أسوأ أنواع العذاب وأشَدّه ألمًا.



الآية 6: ﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ يعني: ويَعلم العلماء الراسخونَ من أهل الكتاب - كعبد الله ابن سَلام وأصحابه - أنّ ﴿ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ أي القرآن ﴿ هُوَ الْحَقَّ ﴾ ﴿ وَيَهْدِي ﴾ أي يُرشد الناس ﴿ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ: يعني إلى الإسلام، الذي هو طريقُ اللهِ العزيز (والعزيز هو الغالب الذي لا يَمنعه أحد مِن فِعل ما يريد) ﴿ الْحَمِيدِ ﴾ الذي يَستحق الحمد والثناء في كل حال، لِكَثرة نِعَمِه على مخلوقاته.



الآية 7، والآية 8: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فيما بينهم - وهم يتحدثون في استهزاءٍ وسُخرية -: ﴿ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ ﴾ (يقصدون محمدًا صلىالله عليه وسلم) ﴿ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يعني يُخبركم أنكم إذا مِتُّم وتفرقتْ أجسامكم كُلَّ تفرُّق ﴿ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ أي ستُحيون وتُبعثون من قبوركم؟! ﴿ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾؟ ﴿ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ يعني أم هو مجنون لا يدري ما يقول؟ ﴿ بَلِ ﴾ يعني ليس الأمر كما يقولون، فمحمد أصدق الصادقين، وأعقل أهل الأرض، فقد كانوا يَشهدونَ له بالصدق والأمانة، ورَضوا بحُكمه عندما أرادوا إعادة بناء الكعبة - وذلك قبل بعْثَتِهِ -، ولكنّ ﴿ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ ﴾ الدائم في الآخرة (بسبب عِنادهم واستهزائهم)، ﴿ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ﴾ عن الصواب في الدنيا.



الآية 9: ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ: يعني ألم يروا أن السماء والأرض مُحيطتان بهم من جميع الجهات، فـ﴿ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ ﴾ كما فَعَلنا بقارون (بسبب تكذيبهم واستهزاءهم برسولنا)، ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ﴾ أي نُنزل عليهم قطعًا من العذاب(كما فَعَلنا بقوم شعيب)، فقد أمطرتْ السماء عليهم نارًا فأحرقتهم، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ الذيذكرناه ﴿ لَآَيَةً ﴾ ظاهرة على قدرتنا عليهم ﴿ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ اي راجعٌ إلى ربه بالتوبة، مُقِرٌّ له بتوحيده، مُخلِصٌ له في عبادته (فهذا هو الذي يَنتفع بآيات ربه).



الآية 10، والآية 11: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ﴾ (وهي النُبُوّة والمُلك، وكتاب الزَبور)، وقلنا للجبال: ﴿ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ﴾ أي سَبِّحي معه إذا سبَّح اللهَ تعالى،﴿ وَالطَّيْرَ ﴾ أيضاً أمَرناها أن تُسَبِّح معه،﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ (فكان كالعجين في يده، يتصرف فيه كيف يشاء)، وهذا تسخيرٌ لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسماء، وأوحينا إليه ﴿ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ ﴾ أي اعمل دروعًا طويلة بهذا الحديد (تَستر المقاتل وتحميه من ضربة السيف)، ﴿ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ أي قدِّر المسامير في حِلَق الدروع (يعني اجعل المسمار على قدر الحلقة)، فلا تجعل الحلقة صغيرة، فتَضْعُف الدروع عن الدفاع، ولا تجعلها كبيرة فتثقُل على لابسها، ﴿ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ أي اعمل يا داوود أنت وأهلك بطاعتي ﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ لايخفى عليَّ شيء من أعمالكم، وستجدون جزاءها في جنتي.



الآية 12: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ ﴾ أي سَخَّرنا لسليمان الريحَ، فكانَ ﴿ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ﴾ أي جريانها من أول النهار إلى منتصفه مسيرة شهر بالسير المعتاد، ﴿ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ: أي جريانها من منتصفالنهار إلى الليل مسيرة شهر (فبذلك كانت تقطع مسيرة شهرين في يوم واحد) ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ: أي جعلنا النحاس يسيل في يديه كما يسيلالماء، ليعمل به ما يشاء ﴿ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي سَخّرنا له بعض الجن، يعملون أمامه وتحت رقابته، فكانوا يعملون له ما يشاء ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ القادر على تسخير ما يشاء لمن يشاء، ﴿ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ﴾ يعني: ومَن يَضِلّ من هؤلاء الجن عمّا أمرناه به من طاعة سليمان: ﴿ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ: أي نُذِقه من عذاب النارالمُستعِرة (أي الموقدة).



الآية 13: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ: أي يعمل الجن لسليمان ما يشاء من مساجد للعبادة ﴿ وَتَمَاثِيلَ ﴾ من نحاس وزجاج (إذ لم تكن مُحَرَّمة في شريعتهم، ولكنها حُرِّمَتْ في شريعتنا سداً لباب الشرك، حتى لا تُعبَد كما عُبِدَت الأصنام)، ﴿ وَجِفَانٍ: أي قِصَاع (جمع قَصعة، وهي الإناء الذي يتسع لعدد من الأشخاص ليأكلوا فيه)، فكانوا يصنعون له قِصاع كبيرة﴿ كَالْجَوَابِ ﴾ يعني بحجم الأحواض الكبيرة التي يُجبَى إليها الماء (أي يَجتمع فيها الماء)، ﴿ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ: أي قدور ثابتات (لا تتحرك من أماكنهالعِظَمهنّ)، (والقدور جمع قِدر، وهو الوعاء الذي يُطبَخُ فيه)، فكانَ يُطبَخ فيها في أماكنها (لضخامة حجمها)، وقلنا لآل داوود: ﴿ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا: أي اعملوا بطاعة ربكم،شُكرًا له على ما أعطاكم من النعم، ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ أي قليلٌ مِن عبادي مَن يَشكرني كثيراً ولا يغفلون عن شُكري (وكان داوود وآله من هذا القليل).



الآية 14: ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ﴾ يعني: فلمّا قضينا على سليمان بالموت: ﴿ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ﴾ أي: ما دَلَّ الجنُ على موته إلا "الأرَضَةُ" وهي تأكل عصاهالتي كان متكئًا عليها ﴿ فَلَمَّا خَرَّ ﴾ يعني: فلما سقط جسده الميت على الأرض: ﴿ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ ﴾ أي علمتْ الجن حينئذٍ ﴿ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ: يعني إنهم لو كانوا يعلمون الغيب - كما يكذبون على الناس - لَعَلموا بموت سليمان، و﴿ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ أي ما أقاموا في الأعمال الشاقة في خدمة سليمان؛ ظنا منهم أنه من الأحياء.

♦ وفي هذا إبطالٌ لِمَا يعتقده بعض الناس من أن الجن يعلمون الغيب ثم يُخبرون به الساحر ليُخبر به الناس، وهذا خطأ، وإنما الذي يَحدث أن القرين الذي مع الساحر يعرف المعلومات من قرين الشخص الذي أتى إلى الساحر، ثم يخبره بها، فيقول الساحر لهذا الشخص: (إن اسمك كذا، واسم أمك كذا، وقد أتيتَ إليَّ بسبب كذا وكذا).



من الآية 15 إلى الآية 19: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ ﴾ بـ "اليمن" ﴿ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ ﴾ عظيمة تدل على قدرة الله تعالى، وإنعامه على عباده، وهي: ﴿ جَنَّتَانِ ﴾ أي بُستانان عظيمان ﴿ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾ يعني: جنة عن يمين الوادي، وأخرى عن شماله (كلها فواكه وخُضَر، تسقى بماء سَدّ "مأرِب")، وقالت لهم رُسُلهم: ﴿ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ ﴾ ﴿ وَاشْكُرُوا لَهُ ﴾ نعمه عليكم، فهذه بلدتكم ﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ﴾ أي كريمة التربة،حَسَنة الهواء، بعيدة عن الأوباء ﴿ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ يَغفر ذنوبكم متى تُبتم إليه من ذنوبكم واستغفرتم، ﴿ فَأَعْرَضُوا ﴾ عن أمْر الله وشُكره وكذَّبوا رُسُله ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ﴾ (وهو السيل الجارف الشديد الذي خرَّب السَدّ وأغرق البُستانين) ﴿ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ ﴾ المُثمرتين: ﴿ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ ﴾ يعني صاحبتَي ﴿ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ (وهو الثمر المُرّ الكريه الطعم)، ﴿ وَأَثْلٍ ﴾ (وهو نوع من الشجر لاثمر له)، ﴿ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ يعني: وقليل من شجر النَّبْق (كثير الشوك)،﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا: يعني ذلك التبديل من الخير إلى الشر بسبب كُفرهم، وعدم شكرهم لنِعَم ربهم، ﴿ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ يعني: وهل نُعاقب بهذا العقاب الشديد إلا الجَحودالمُبالِغ في الكفر؟! والجواب: نعم، فإنه يُجازَى بمِثل فِعله.



♦ ثم ذَكَرَ سبحانه بعض النعم الأخرى التي أعطاها لأهل سبأ قبل هَدْم السد وتفرقهم في البلاد، فقال: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ أي جعلنا بين قبيلة سبأ وبين قرى الشام: ﴿ قُرًى ظَاهِرَةً ﴾ أي مُدنًا متصلة يَرى بعضها بعضاً من على المرتفعات، ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ: أي جعلنا المسافات بين كل مدينة وأخرى متقاربة (بحيث يخرج المسافر بلا ماء أو طعام، فيستريح أثناء سفره في مدينةٍ ما (يأكل فيها ويشرب)، ثم يُكمِل سَفَره، فإذا جاء الليل، فإنه ينام في مدينة أخرى، حتى يصل إلى الشام أو إلى المدينة التي يريدها)، وقلنا لهم: ﴿ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ: يعني سيروا في تلك القرى في أيِّ وقتٍ شئتم مِن ليلٍ أو نهار، آمنينَ لا تخافونَ عدوًّا ولا جوعًا ولا عطشًا.



♦ ولكنهم طَغَوا، ومَلُّوا من الراحة والأمن وطِيب العيش﴿ فَقَالُوا ﴾: ﴿ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا: أي اجعل قُرانا متباعدة، ليَبعُد سفرنا بينها، فلا نجد قرى عامرة في طريقنا، ﴿ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ بكفرهم، فأهلكناهم بإرسال السيل وتخريب السد، ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ: أي قصصاً يَحكيها مَن بعدهم لتكون عبرةً لهم، ﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ: أي شَرّدناهم وفَرَّقناهم كلتفريق بعد أن خُرِّبتْ بلادهم، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ أي فيما حدث لأهل "سبأ" ﴿ لَآَيَاتٍ ﴾ أي عِبَر عظيمة (على إعطاء النعم وسَلْبها)، وقوله تعالى: ﴿ لِكُلِّ صَبَّارٍ ﴾ أي كثير الصبر علىطاعة الله، وعن مَعاصِيه، وعلى أقداره، ﴿ شَكُورٍ ﴾ أي قائم بحقوق الله تعالى، يَشكره على نِعَمِه حتى لا تُسلَبَ منه، (وقد خَصَّ اللهُ الصابرينَ الشاكرينَ بالذِكر؛ لأنهم هم الذين يَعتبرون بآياته ولا يَغْفُلون عنها).



الآية 20، والآية 21: ﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ أي صَدَقَ ظن إبليس فيهم أنه يستطيع إضلالهم ﴿ فَاتَّبَعُوهُ ﴾ أي أطاعوه وعصوا ربهم ﴿ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (فإنهم ثَبَتوا على طاعة الله تعالى، واعتصموا بالله منه)،﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ: أي لم يكن لإبليس قهر على هؤلاء الكفار ليكفروا، ﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ ﴾ يعني: لكننا أذنّا له في إضلالهم بالتزيين والوسواس، لنعلم علماً ظاهراً للخلق مَن يؤمن بالآخرة (فيَصبر على الطاعات ويَجتنب الشهوات)، فينجو من النار ويدخل الجنة ﴿ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ﴾ (فيكفر بها رغم قوة الأدلة) ﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ إذ يعلم سبحانه ما تخفيه صدور الخلق من الإيمان والشك، ثم يُجازي كُلاً بما يستحق.



الآية 22: ﴿ قُلِ ﴾ أيها الرسول لمُشرِكي قومك: ﴿ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ (من الأصنام والملائكة والبشر)، واقصدوهم في قضاء حوائجكم، فإنهم لن يجيبوكم،لأنهم ﴿ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾ (والمقصود أنهم لا يَملكون شيئاً من ذلك ملكاً تاماً دونَ أن يشاركهم فيها أحد)، ﴿ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ ﴾ يعني: ولا يشتركون معه سبحانه في ملك شيء في السماوات والأرض، لأن الكون كله ملكٌ لله وحده، ﴿ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ: يعني ليس هناك مُعِينٌ لله تعالى من معبوداتكم الباطلة على خَلْق شيء (حتى لا يُقال: إنه سبحانه يَحتاج إليهم، فلذلك سيَقبل شفاعتهم لكم)، بل اللهُ سبحانه هو المتفرد بالخلق، فلذلك لا يستحق العبادة غيره.



الآية 23: ﴿ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ ﴾: أي لا تنفع شفاعة الشافع عند الله تعالى ﴿ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ في الشفاعة (ولمن ارتضى سبحانه أن يُشفَع له من أهل التوحيد).



♦ ثم بيَّنَ سبحانه كيفية الشفاعة يوم القيامة، وهي أن الشافع المأذون له في الشفاعة، عندما يسأل ربه الشفاعة، يُجيبه الله تعالى، فيُصاب الشافع بخوفٍ شديد من عظمة الله وجلاله وسماع كلامه، حتى يصيبه ما يُشبه الإغماء، ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ: يعني إذا زال الخوف عن قلوبهم، سألوا الملائكة، فـ ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ﴾ عندما طلبنا منه الشفاعة؟، ﴿ قَالُوا ﴾ أي قالت الملائكة لهم: ﴿ الْحَقَّ ﴾ أي قَبِلَ شفاعتكم، ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ ﴾ بذاته وقهره وعلوِّ قدْره،﴿ الْكَبِيرُ ﴾في ذاته وصفاته (فهو أكبر وأعظم من كلِّ شيء).


الآية 24، والآية 25: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لمُشرِكي قومك: ﴿ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ ﴾ (بالمطر)، ﴿ وَالْأَرْضِ ﴾ (بالنباتوالمعادن والمياه)؟ ﴿ قُلِ اللَّهُ ﴾ هو الرزاق (وهم يعترفون بذلك)، ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ ﴾ يعني: وقل لهم: (إنَّ أحد الفريقين منا ومنكم) ﴿ لَعَلَى هُدًى ﴾ متمكنمنه، ﴿ أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ منغمس فيه، (ومعلومٌ بالدليل والحُجَّة أن المُوَحِّدين هم الذين على الهدى، وأن المشركين في ضلالٍ واضح، وإنما شَكَّكهم تلطُّفًا بهم لَعَلَّهم يتفكرون فيَهتدوا)، و﴿ قُلْ ﴾ لهم: ﴿ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا ﴾ أي لا تُسألون عن ذنوبنا ﴿ وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (وهذا أيضًا تلطُّف بهم ليراجعوا أمْرهم، ولا يحملهم الكلام على العناد).

الآية 26: ﴿ قُلْ ﴾ لهم: ﴿ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ﴾ يوم القيامة، ﴿ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ﴾ أي يَقضي بيننا بالعدل، ﴿ وَهُوَ الْفَتَّاحُ ﴾ أي الحاكم بين خلقه، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بأحوال خلقه وبما يَنبغي أن يُقْضَى به، فلذلك لن يكون جزاءه إلا عادلًا.

الآية 27: ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ: يعني أروني بالحُجَّة والدليل استحقاق مَن ألحقتموهم بالله تعالى، وجعلتموهم شركاء له فيالعبادة، هل خَلقوا شيئًا؟! ﴿ كَلَّا ﴾ ﴿ بَلْ ﴾ الذي يَستحق العبادة ﴿ هُوَ اللَّهُ ﴾ ﴿ الْعَزِيزُ ﴾ في انتقامه ممن أشرك به، ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ في أفعاله وتدبيرأمور خلقه.

الآية 28: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ ﴾ أيها الرسول ﴿ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ﴾ يعني: أرسلناك للناس أجمعين، ﴿ بَشِيرًا ﴾ أي مُبَشِّرًا لهم بثواب الله إن أطاعوه ﴿ وَنَذِيرًا ﴾ لهم من عقابه إن عصوه ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (إذ جَهلهم بمَعرفة ربهم الحق هو الذي جَعَلهم يَعبدونَ ما يَصنعون) (عِلمًا بأنهم لا يُعذَرونَ بهذا الجهل، لأنهم يشهدونَ بفِطرتهم أنه سبحانه هو الخالق الرازق، إذًا فعليهم أن يتفكروا بعقولهم ليعلموا أنه سبحانه المستحق وحده للعبادة، لأنَّ غيره لم يَخلق شيئًا ولم يُنعِم بشيء).

الآية 29، والآية 30: ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ - مُستهزئين -: ﴿ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ﴾ الذي تَعِدوننا أن يَجمعنا اللهفيه، ثم يقضي بيننا وبينكم بعذابنا ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أنت ومَن اتَّبعك؟ ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ ﴾ (آتيكم لا مَحالة)، وهو يوم القيامة الذي﴿ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً ﴾ للتوبة، ﴿ وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ﴾ ساعةً قبله للعذاب، (فاحذروا ذلك اليوم، وأَعِدُّوا له عُدَّته).

الآية 31، والآية 32، والآية 33: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: يعني: لن نُصَدِّق بهذا القرآن ولا بالذي تَقَدَّمَه من التوراةوالإنجيل وغيرهما، ﴿ وَلَوْ تَرَى ﴾ - أيها الرسول - يوم القيامة لرأيتَ أمرًا عظيمًا ﴿ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ للحساب، ﴿ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ: أي: يتراجعون الكلام فيما بينهم (كلٌّ يُلْقي باللوم على الآخر)، فـ ﴿ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ﴾ وهم الأتْباع الضعفاء ﴿ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ﴾ - وهم القادة والرؤساء المُضِلُّون -: ﴿ لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ يعني: لولا أنكم أضللتمونا عن الهدى، لكُنَّا مؤمنين بالله ورسوله، فـ ﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ﴾: ﴿ أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ ﴾ أي: منعناكم ﴿ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ ﴾؟! ﴿ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ﴾ إذ دخلتم في الكفر بإرادتكم واختياركم، ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ﴾: ﴿ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ يعني: بل تدبيركم الشرَّ لنا في الليل والنهار، وخِداعكم لناهو الذي أوقعنا في الهلاك ﴿ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا ﴾ أي: نجعل له شركاءفي العبادة، ﴿ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ ﴾ يعني: أخفى كُلٌّ من الفريقين الحسرة ﴿ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ الذي أُعدَّلهم (إذ علموا ساعتها أنَّ حوارهم لبعضهم لا ينفعهم)، ﴿ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ ﴾ - وهي سلاسل من نار - تُوضَعُ ﴿ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ من الشرك والمعاصي؟ (والسؤال للتقرير، وجوابه: نعم).

من الآية 34 إلى الآية 38: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ ﴾ أي نبي يدعو قومه الى توحيد الله ويخوفهم من عذابه ﴿ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا ﴾ وهم المُنغمسون في اللذات والشهوات: ﴿ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ ﴾- أيها الرُسُل- ﴿ كَافِرُونَ ﴾ ﴿ وَقَالُوا ﴾ لرُسُلهم: ﴿ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا ﴾ منكم، واللهُ لم يُعطِنا هذه النعم إلا لرضاه عنا، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ.


﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول للمُغتَرِّين بالأموال والأولاد: ﴿ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ ﴾ أي يُوَسِّع الرزق ﴿ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ من عباده، ﴿وَيَقْدِرُ﴾ أي: ويُضَيِّقه سبحانه على مَن يَشاءُ منهم (لا لمَحَبَّةٍ ولا لبُغض)، ولكنه يفعل ذلك اختبارًا لعباده ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ﴾ يعني: ليست أموالكم ولا أولادكم هي التي تقربكم عندنا وترفع درجاتكم ﴿ إِلَّا مَنْ آمَنَ: يعني لكنَّ الذي يَتقرب إلينا هو مَن آمن بالله ورُسُله ﴿ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ - بإخلاصٍ للهِ تعالى، وعلى النحو الذي شَرَعه - ﴿ فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ ﴾ أي: لهم ثوابٌ مُضاعَف ﴿ بِمَا عَمِلُوا ﴾ من الحسنات، فالحسنة بعشرأمثالها إلى ما يشاء الله من الزيادة، ﴿ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ ﴾ يعني: في أعالي الجَنَّة ﴿ آمِنُونَ ﴾ من العذابوالموت والأحزان والأمراض، ومِن كل ما يُفسد سعادتهم ومُتعتهم، ﴿ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا ﴾ يعني: وأما الذين يجتهدون في إبعاد الناس عن الإيمان بآياتنا ﴿ مُعَاجِزِينَ ﴾ أي ظانِّين أنهم يُعجزوننا، وأننا لن نَقدر على أخْذهم بالعذاب: ﴿ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ أي: يُحضرهم الله ليقيموا فيعذاب جهنم، فلا يخرجون منها.

الآية 39: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول - مؤكدًا على هذه الحقيقة التي خَفِيَتْ على كثير من الناس: ﴿ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ﴾ أي: يُوَسِّع الرزق على مَن يشاءُ امتحانًا: (هل يشكر أو يكفر؟)، (فإنْ شَكَر: زدناه وأكرمناه، وإنْ كَفَر: سَلَبنا ما أعطيناه وعذبناه)،ويضيِّقه سبحانه على مَن يشاء اختبارًا: (هل يَصبر أو يَسخط؟) (فإنْ صَبَر: أعطيناه أجره بغير حساب، وإنْ سَخط: زدنا في بلائه وشقائه)، (فليست التوسعة دليلًا على حب الله للعبد ورضاه عنه، وليس التضييق دليلًا على كُره الله للعبد وغضبه عليه)، ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ ﴾ أيها المؤمنون ﴿ مِنْ شَيْءٍ ﴾ - في سبيل الله وطلبًا لرضاه - ﴿ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ أي: يُعَوِّضه لكم في الدنيا بالبدل والبَرَكة، وفي الآخرةبالثواب والنعيم ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ أي: هو سبحانه خير مَن أعطى عباده.

الآية 40، والآية 41، والآية 42: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ﴾ أي: اذكر أيها الرسول يوم يَجمع الله المشركين مع الملائكة (الذين عَبَدهم المُشركون في الدنيا)،﴿ ثُمَّ يَقُولُ ﴾ اللهُ ﴿ لِلْمَلَائِكَةِ ﴾: ﴿ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴾؟ ﴿ قَالُوا ﴾ أي: قالت الملائكة: ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ أي نُنَزِّهك يا ربنا عن أن يكون لك شريك في العبادة، ونتبرأ إليك مما فَعَلَ هؤلاء، فـ ﴿ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ: يعني: أنت وليُّناالذي نطيعه ونعبده وحده، فلايجوزُ لنا أن نأمرهم بعبادتنا وترْك عبادتك، ﴿ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ﴾ أي: كان هؤلاء يعبدون الشياطين (إذ كانت الشياطين تأمرهم بعبادة غيرك فأطاعوهم)، وكانَ ﴿ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ﴾ أي: يُصَدِّقونَ مَا يقوله الشياطين ويُطِيعونَ أمْرهم، (واعلم أنَّ هذا الاستفهام للملائكة غرضه التقرير والشهادة على المشركين، لأنَّ الله تعالى يعلم أن الملائكة لم تكن راضية عن عبادة المشركين لهم).

♦ وحينئذٍ يقول الله للمشركين: ﴿ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ﴾ أي: لا يملك المعبودون للعابدين نفعًا ولا ضرًّا، ﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي:ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي: ﴿ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ .


الآية 43: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ أي: على كفار "مكة" ﴿ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ﴾ أي: واضحات، تشهد لهم بصِدق ما جاء به محمد مِن عند ربه: ﴿ قَالُوا ﴾ لبعضهم: ﴿ مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ ﴾ أي: يمنعكم عن عبادة الآلهة التي كان يعبدها آباؤكم، ﴿ وَقَالُوا ﴾: ﴿ مَا هَذَا ﴾ أي: القرآن الذيتقرأه علينا يا محمد ﴿ إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى ﴾ أي: كذب مُختلَق جئتَ به من عند نفسك، ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ﴾: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ يعني: ما هذا إلا سحرٌ واضح (وهم يَعلمون أنهم كاذبونَ في ذلك، فلقد اعترف لهم أحد رؤسائهم - وهو الوليدُ بن المُغِيرة - أنَّ ما يَقوله السَحَرةُ شيء، وأنَّ هذا القرآن شيءٌ آخر، وأنه ليس بكلامِ بَشَر (وذلك عندما سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أجْبَره المُشركون بعد ذلك أن يقولَ للناس إنه سِحر)، واعلم أنهم عندما يقولون عن القرآن: إنه سِحر، فإنهم في حقيقة الأمر يَعترفون بهزيمتهم في أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فيَضطروا إلى اللجوء إلى هذا القول الباطل.

الآية 44: ﴿ وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ﴾ يعني: ما أنزلنا على الكفار مِن كُتُبٍ يقرؤونها، فتشهد لهم بصحة الشِرك الذي كانوا عليه هم وآبائهم، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ﴾ يُخَوِّفهم مِن ترْك عبادة الأصنام (إذًا فمِن أين أتوا بهذه العقائد الباطلة؟!).

الآية 45: ﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ كعادٍ وثمود ﴿ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ ﴾ يعني: وما بلغ أهل "مكة" عُشرَ ما آتيناالأمم السابقة من القوة، وكثرة المال، وطول العمر وغير ذلك من النعم، ﴿ فَكَذَّبُوا رُسُلِي ﴾ فأهلكتهم، ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ: يعني: فانظر أيها الرسول كيف كان إنكاري على كُفرهم وتكذيبهم؟ (والاستفهام للتقرير) أي: كان إنكاري عليهم عظيمًا بالعذاب والهلاك، (وفي الآية تصبير للرسول صلى الله عليه وسلم على ما يَلقاهُ من التكذيب والعِناد مِن قومه، وفيها تهديدٌ ووعيدٌ لهم أن يُهلكهم الله كما أهلك المُكَذِّبين قبلهم).

الآية 46: ﴿ قُلْ ﴾ - أيها الرسول - لهؤلاء المُكَذِبين المُعانِدين: ﴿ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ﴾ يعني: إنما أنصحكم بنصيحةٍ واحدة وهي ﴿ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ﴾ أي: لأجل الله تعالى (بنيَّة الوصول إلى الحق) - غير مُتَّبعينَ للهوى أو التعصب لآرائكم - فتقوموا لله تعالى ﴿ مَثْنَى ﴾ أي: تكونوا اثنين اثنين (للتفكير بجد وصِدق)، ﴿ وَفُرَادَى ﴾ أي: يتفكر كل واحد بمفرده (لأن الجماعة من شأنها أن تختلف في الآراء)، ﴿ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ﴾ في حياة محمد صلى الله عليه وسلم ومَواقفه معكم، وبُعده عن كل كذب وشر وخيانة، وتتفكروا فيما دعاكم إليه من الهدى، فحينها ستعلمون يَقينا أنه ﴿ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ﴾ أي: ما به صلى الله عليه وسلم من جُنون، ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ يعني: ما هو إل امُخوِّف لكم من عذاب جهنم قبل أن يصيبكم حَرُّها الشديد.

الآية 47: ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ﴾ يعني: ثواب إنفاقكم في سبيل الله - بعد أن تؤمنوا - عائدٌ عليكم في الآخرة، وأنا لم أطلب منكم أجرًا لنفسي على إنذاري لكم عذابَ ربي ﴿ إِنْ أَجْرِيَ ﴾ يعني: ما أجري الذي أنتظره ﴿ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ وحده ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ أي: لا يَخفى عليه شيء، فهو المُطَّلِع على أعمالي وأعمالكم، وسيُجازي الجميع بما يستحقونه.

الآية 48: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لمَن أنكر التوحيد ورسالة الإسلام: ﴿ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ﴾ (وهو أدلة القرآن) يَقذفها سبحانه على الباطل فيفضحه ويهلكه، وهو سبحانه ﴿ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ أي: الذي يعلم ما غاب عن حواس الناس في الأرض وفي السماء، ومِن ذلك عِلمه سبحانه بقلوب عباده، ولذلك يختار مِنهم مَن يشاء لرسالته (وفي هذا رَدٌّ على المشركين الذين اعترضوا على اختيار الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مِن بينهم).

الآية 49، والآية 50: ﴿ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ ﴾ (وهو هذا الشرع العظيم الواضح من عند الله تعالى)، وذهب الباطل خائبًا، ﴿ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾ أي: لا يستطيع الباطل أن يُبدئ نفسه، ولا أن يُعِيد نفسه بعد أنْ هَلَك.

♦ ولمَّا أقام الله عليهم الحُجَّة ولم يؤمنوا، عُلِمَ أنهم مُعانِدون، ولم يَبقَ فائدة في جدالهم، بل اللائق في هذه الحال: (الإعراض عنهم)، ولهذا أمَرَ الله رسوله أن يُنهي هذا الجدال معهم قائلًا: ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ ﴾ أي: عن الحق بعد وضوحه: ﴿ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي ﴾ يعني: إثم ضلالي على نفسي، ﴿ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾ يعني: وإن استقمت على الحق، فبفضل وَحْي ربي الذي يُوحيه إليَّ، ﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ ﴾ لِمَا أقوله لكم، ﴿ قَرِيبٌ ﴾ ممن دعاه وتاب إليه.

الآية 51: ﴿ وَلَوْ تَرَى ﴾ أيها الرسول ﴿ إِذْ فَزِعُوا ﴾ أي: حين يَفزع الكفار مِن رؤيتهم لعذاب ربهم، لرأيتَ أمرًافظيعًا، ﴿ فَلَا فَوْتَ ﴾ حينئذٍ (أي: لا نجاة لهم ولا مَهرب مِنَّا، بل هم في قبضتنا) ﴿ وَأُخِذُوا ﴾ إلى النار ﴿ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ أي: قريب من موقف الحشر والحساب.

الآية 52: ﴿ وَقَالُوا ﴾ - عندما رأوا العذاب في الآخرة -: ﴿ آمَنَّا بِهِ ﴾ أي: بعذاب الآخرة ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ يعني: وكيفلهم تناول الإيمان ووصولهم إليه، وهم في مكان بعيد عنه؟! فإنهم الآن في الآخرة والإيمان كان في الدنيا، وهم لا يستطيعون العودة.

الآية 53: ﴿ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ﴾ أي: كفروا بالحق في الدنيا (بعد أن عُرِضَ عليهم وهم قادرونَ على الإيمان به)، ولكنهم رفضوه ﴿ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾أي: كانوا يَرمونَ بالظن والتخمين من جهة بعيدة عن إصابة الحق (إذ لم يكن لهم دليل على ظنهم الباطل إلا التقليد الأعمى، فلا سبيلَ لإصابتهم الحق، كمالا سبيل للرامي إلى إصابة الهدف من مكان بعيد).

الآية 54: ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ أي: مُنِعَ بين الكفار وبين ما يشتهونه من التوبة والعودة إلى الدنيا ليؤمنوا ﴿ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ﴾ أي: كما فَعَلَ الله بأمثالهم مِن كَفَرة الأمم السابقة، (إذ جاءهم العذاب فقالوا آمنا، ولكنْ لم ينفعهم إيمانهم حينئذٍ وأُلقوا في الجحيم) ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ ﴾ من أمْرالرُسُل والبعث، ﴿ مُرِيبٍ ﴾ أي: مُوقِع في الحيرة والقلق والتردد.




.......
من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف أ.د. التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

رامى حنفى محمود
شبكة الألوكه الشرعية




71149742_931906063829347_357216005139097

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×