اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تأملات تربوية في سورة الأنبياء - د. عثمان مكناسي

المشاركات التي تم ترشيحها

تأملات تربوية في سورة الأنبياء - د. عثمان مكناسي
 ( قصة أبي الأنبياء إبراهيم ) 
الدكتور عثمان قدري مكانسي


هذه السورة المباركة تتحدث عن غفلة المشركين عن الساعة الوشيك حدوثها ، وقد زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يكون رسولاً لأنه بشر ونسوا أن الأنبياء كلهم بشر ، وقالوا عن القرآن كما قال الأولون : سحرٌ ، وشعر وأضغاث أحلام ، فقصم الله الأولين ، ولئن استمر أهل قريش على ضلالهم ليفعلنّ الله بهم كما فعل بالهالكين قبلهم . ويطيب الله تعالى في هذه السورة قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء الصالحين قبله ، فقد أصابهم ما أصابه من عنت المشركين وضلالهم ، وعلى رأسهم أبو الأنبياء إبراهيم عليهم السلام جميعاً . حين يريد الله تعالى بعبد من عباده الخير ، ويجعله من سعداء الدارين يكرمه بالهداية منذ الصغر ويحيطه برعايته ويربيه التربية التي تليق به داعياً ومرشداً . وعلى راس هؤلاء السعداء أبونا إبراهيم عليه السلام حيث يقول سبحانه " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ، وكنا به عالمين " فقد أخبرنا المولى تعالى أنه آتاه الفهم الثاقب والنظر المتأمل والتفكير الصائب مذ كان صغيراً فألهمه الحق والحجة علَى قَومه كَما قَال تعالَى " وتلك حجتنا آتيناها إِبراهِيم عَلَى قَومه " . 

فبدأ يعيب على أبيه وقومه قومه عبادة أصنام لا تعي ولا تعقل ، والأنكى من ذلك أنهم يصنعونها بأيديهم ثم يعكفون على عبادتها ، فهل يعبد العاقل ما يصنعه بيديه أم تراهم يعبدون بذلك أهواءهم ورغباتهم ؟ وكأنهم يكرّسون عبادة الإنسان وشهواته ويشرّعون سطوة القوي منهم على الضعيف المغلوب على أمره . وهنا يأتي دور النبي والداعية الذكي الذي عليه أن يحاورهم ويعلمهم ثم ينقذهم مما هم فيه ، فيسائلهم " ... ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟!" فلا يجد من جواب سوى أنهم ألفـَوا آباءهم كذلك يفعلون " قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين " وكأنهم بهذا التقليد لآبائهم قد أراحوا أنفسهم من عناء التفكير ، والبحث عن الحقيقة ، ولعلهم يجدون التعليل المناسب لاستمرارهم في غيهم وضلالهم ، بل يظنون أنهم يفعلون عين الصواب حين يسيرون على هدي أسلافهم . وهم بهذا يريدونه أن يدعهم وما يعبدون فلا يسفـّه ما يعتقدون . الداعية الشاب إبراهيم يرى جوابهم يحط من قدر الإنسان . إذ كيف يرضى ذو العقل والفهم أن يقلد غيره دون فهم ولا روية ؟ لقد سألهم محفـّزاً عقولهم وقلوبهم أن يتدبروا ما هم عليه ، فما وجد سوى التبعية لخطإ آبائهم ، وهو حين سأل الناس كان أبوه أول المسؤولين " إذ قال لأبيه وقومه ... ، فالولد يحب أباه ويجله . ومن تمام الإجلال أن ينبهه إن أخطأ ، وليس عيباً أن ينبه الصغير الكبير وأن يحذره ، ثم يهديه . وإبراهيم حريص على هداية الناس وهو أحرص على هداية والده وأقربائه ، ألم يقل الله تعالى مخاطباً نبيه الكريم " وأنذر عشيرتك الأقربين " ؟ .

لا بد من الصدع بالحقيقة ولو كانت مُرّة وصعبة القبول عند قوم كان الضلال رائدهم وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً ، وكانوا يعتزون بما ورثوا عن آبائهم واعتقدوه صحيحاً لا يرقى الشك إليه فقال لهم بصريح العبارة " لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين " وهذه قمة الشجاعة في الداعية حين يصدع بالحق دون خوف ولا وجل ، ويقول ما يعتقده بقوة دون مواربة . فالرجال يُعرفون بالحق ، ولا يُعرف الحق بالرجال ؟ .. أنتم وآباؤكم ضالّون عن الطريق الواضح البيـّن . وحين يختلط الأمر عليهم ويستنكرون ما يقول يسألونه بلسان منعقد من المفاجأة التي وقعت عليهم " أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ؟ " ولِمَ سألوه هذا السؤال ؟ أفعلوا ذلك ليصلوا إلى الحق الحقيق أم يستنكرون ما أتاهم به ؟ أم يسخرون منه ويهزأون ؟ أم إن الأمر خليط بين هذا وذاك ؟ إنه أعلن ذلك على الملأ ، لا يخاف سطوتهم  ولا يخشى عقابهم . وعرّفهم بربهم المعبود الحق الذي يستحق العبادة وحده " قال بل ربكم ربُّ السموات والأرض الذي فطرهنّ " فهو الخالق لكل شيء ، وسبب الوجود . ثم رفع الوتيرة حين شهد لله الحق بالوحدانية المطلقة " وأنا على ذلكم من الشاهدين " ..

لم يكتف الداعية بالمحاجة باللسان بل وطن نفسه على مكابدة المكروه وماساته في الذب عن الدين ، فقرر كسر أصنامهم ليعاينوا ضعفها وهوانها علّ الغشاوة تنجلي عن أعينهم فيكفرون بها ويؤمنون بالله وحده . وأقسم بالله ليفعلنّ ذلك في غفلة منهم ليُفاجؤوا بما فعل فيهتزوا هزة قوية يفكرون بعدها بما هم عليه من إفك وزور وضلال . قال ذلك في نفسه ، فما ينبغي لمن عزم على أمر أن يُفشيه قبل إتمامه ، والتمس يوماً يخرجون فيه إلى عيد لهم بعيداً عن المدينة فيغتنم فرصة خلوّ المعبد منهم ، ويحطم أصنامهم . ولا بد من كتم السر فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان. " . دخل المعبد يحمل الفأس يضرب في الأصنام بقوة ففتتها وجعلها قطعاً صغيرة " فراغ عليهم ضرباً باليمين " إلا كبيرها لم يكسره ، وعلّق في عنقه الفأس ليحتج به عليهم . ويبين ضعف معتقداتهم بآلهتم المفتراة ، لعلهم يسألون هذا الإله الكبير عمّن فعل بصغاره هذا الفعل المهين ، ورآه هذا الإله فلم يتحرك مدافعاً عنهم ، بل قبل الإهانة حين عُلّق الفأس على عنقه مقهوراً . ولكنّهم لم يسألوا هذا الربّ فهم يعرفون أنه حجر أصم لا يعي ولا يعقل ، فتساءلوا فزعين مما رأوا " قالوا : من فعل هذا بآلهتنا ؟! " وكان أولى بهم أن يسألوا كبير الآلهة " من فعل هذا بصغارك وأنت أعمى أخرس ! " وكان أولى بهم أن يكسّروه ويفتتوه ويُلحقوه بالآخرين – لو كانت لهم عقول – ولكن تساءلوا فيما بينهم ليصلوا إلى الفاعل الذي حطّم معتقداتهم وذرّاها في الهوان والمذلة . " إنه لمن الظالمين " ولنتساءل : من الذي ظـُلِم؟ إن كانت الآلهة فهي – على زعمهم - قادرة على الدفاع عن نفسها ومعاقبة من يسيء إليها ، بله أن يفكر في ذلك ! وإن كان عـُبـّادها المظلومين ، فقد ظلموا أنفسهم – ابتداء – بعبادة آلهة ذليلة ، وإن كان الفاعل ظلم نفسه بتحطيمها وكسرها فقد أحسن إلى نفسه حقيقة ولم يظلمها ، وهل القضاء على الخبث والفساد ظلم ؟! ويبحثون ويسألون ، ثم يتذكرون أن الفتى إبراهيم ذكر آلهتهم بسوء وخفـّضها وحقـّرها ، فلم لا يكون هو الفاعل ؟ " قالوا سمعنا فتى يُقال له إبراهيم " فجاءوا به على أعين الناس ليقرروه ويحاسبوه ويعاقبوه إن ثبت أنه الفاعل الأثيم !! . جاءوا به على أعين الناس ليظهروا أنهم حماة العقيدة ورجالها ! ، وليخاف من تسوّل له نفسه أن يفعل هذه الفعلة في قابل الأيام !! ويسألونه أمام الجميع " أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ " 

لم يكن يريد الكذب حين أشار إلى الفأس معلّقة بعنق كبير الآلهة وزعيمها قائلاً " بل فعله كبيرهم هذا ، فاسألوهم إن كانوا ينطقون ؟! " ولم لا يكون كبيرهم قد قتلهم كي لا يشاركوه ألوهيّته ؟ والدليل قائم فالفأس يشهد على إجرام كبير الآلهة ، ولن يستطيع الدفاع عن نفسه فأداة الجريمة موجودة ، وهو قائم في مكانها لم يبرحه ، وهؤلاء القتلى المثخنون بجراحهم ما زالوا في أرض المذبحة ، ولعل أحدهم لم يلفظ أنفاسه بعد ، فاسألوهم يخبروكم ! 


حين يخلو الإنسان إلى نفسه دون كبرياء ولا استكبار يصل إلى الصواب ويعرف الحقيقة . وهذا ما قاله الجميع ابتداء " فرجعوا إلى أنفسهم ، قالوا : إنكم أنتم الظالمون " وما أجمل أن يعترف المخطئ بخطئه ، ويرجع عن غيه وضلاله ، إذاً فالحياة حلوة جميلة .. لقد اعترف الحاضرون أنهم يعبدون أصناماً هم صانعوها ، وأرباباً هم أوجدوها . لكن الشيطان اللعين والنفس الأمارة بالسوء لا يتركان الإنسان في صفائه الروحي ، إنما يوسوسان له ، ويقلبان الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، والاستكبار غمط للحق والجبروت أسْرٌ له وقتل . هذا ما كان من الكبراء حين رأوا الزعامة قد تطير من بين أيديهم إن وافقوا الفتى فيما يقول ، فسرعان ما عادوا إلى الضلال بعد أن كانوا على أبواب الهدى ، ومشارف سبل السلامة . " ثم نُكسوا على رؤوسهم " واتخذوا موقع الهجوم ليستروا عوراتهم ويُضلوا العوام ّ من حولهم فاتهموه بتكسير الأصنام حين قالوا له : " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " . ويرى الفتى إبراهيم أنهم لن يسلكوا سبل الهداية - فالكبر يُعمي صاحيه ، ويقذفه في مهاوي الفتن والضلال ، فقرّعهم ، وهزئ بهم وبآلهتهم " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ، ولا يضرّكم " ما هذه الآلهة البليدة التي يتحكّم بها عُبـّادُها ؟ ولِمَ يُعبد إله لا يضر ولا ينفع ؟ إنها الردّة البشرية إلى أعماق الجهالة والهمجية ، إلى الطور البهيمي ! أفتعبدون أيها القوم هذه الآلهة البكماء , وقد علمتم أنها لم تمنع نفسها من أرادها بسوء , ولا هي تقدر أن تجيب إن سُئلت عمن يأتيها بخير فتخبر، أفلا تستحون من عبادة مَا كَانَ هكذا ؟ أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ الذي لا يروج إلا على جاهل فاجر ظَالِم . " أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ؟ " نعم ، إنهم وأمثالهم لا يعقلون . فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها ولهذا قال تعالى " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه "

لا يتحمل الظالم المتجبر أن يرفع الراية البيضاء ويستسلم . فهو في هذه الحياة الدنيا يقلب الحقائق ، وويجترح كل المخازي ليكتم الصوت الحر ، ويقطع لسان الحق ، ويطمس نور الهداية . لا بد من القضاء الكامل على من يقف أمامة ويجعل نفسه له ندّاً . ويتداعى الظلمة وأعوانهم إلى تحريق الفتى وأمثاله على مدى التاريخ ليصفو لهم الجو ، " قالوا حرّقوه " والتحريق فوق الإحراق وأشد منه بمراحل . لكنّ الذي نراه في المتجبرين الظالمين يتكرر دائماً ، فهم نسخة واحدة تتجدد . لقد قالوا " حرقوه وانصروا آلهتكم ! " والحقيقة أنهم يريدون نصر أنفسهم فقط ، وما هذه الآلهة إلا صورة يحكم الجبابرة – في كل زمان ومكان – من ورائها ، ما هي إلا ظل لهم ليس غير ، أم يقل فرعون " ذروني أقتل موسى ولْيدْعُ ربه ! إن أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد؟! " وتصور أن فرعون المتغطرس يتهم الداعي الأول في عصره بالفساد ، يتهم أحد الرسل أولي العزم كليم الله تعالى بالفساد ، ويأمر – ديموقراطياً – بقتله ليتخلص من شروره !!! إنها الديكتاتورية في كل آن ومكان تنطق بلسان واحد . 

وينسى الظالمون أن الله تعالى ناصر دعوته ، ناصر رسله ، ناصر دعاته ولو بعد حين . ويُلقى الداعية الأول أبو الأنبياء في النار ، فيأمرها خالقها أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم ، فتكون . وهل تملك غير ذلك ؟ إنه سبحانه الذي وهبها خاصية الإحراق ، وهو الذي يمنعها إياها متى أراد " قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ، وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين " انتصر إبراهيم في الدنيا وكان في صف الأنبياء الأوائل في الآخرة وصلى الله عليه إلى يوم القيامة ، وأمرنا بالصلاة على نبينا كما صلى الله من قبل على أبيه إبراهيم ..



موقع إسلاميات

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×