اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

سلسلة كلمات في القرآن الكريم / الدكتور عثمان قدري مكانسي​

المشاركات التي تم ترشيحها

كثيراً ما أقف معجباً ومتذوقاً – والتذوق نتيجة الإعجاب – كلمات في القرآن الكريم ، لها وقع معنوي ولفظي يأسر الألباب ويتملك العقول . إن شئت قلتَ : هي عطر يتعشق الحواس ، أو قلت : روض يأخذ بالأبصار ، أو قلتَ: موسيقا تحرك العواطف ، أو قلت : هي هذه وتلكُما وأولئك . وحق لها أن تشمل كل ما ذكرت ، فهي كلمات المليك العليم العلاّم سبحانه

ونقف في هذه السويعة في حضرة كلمات قوية الجرس سريعة الحركة :

{ اثَّاقَلْتُمْ } :
في قوله تعالى في سورة التوبة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}
وأصلها " تثاقل " على وزن " تفاعل " , أُدْغِمَتْ التاء فِي الثاء لِقربِهَا مِنهَا , وَاحتَاجَتْ إِلَى أَلف الْوَصْل لِتَصِل إِلَى النّطق بالسّاكِنِ .

إن الوزن " تفاعل " في الفعل " تثاقل " يفيد المشاركة والتتابع وتوسّط الحركة ، أما " اثاقل" فيفيد سرعة الهبوط إلى الأرض الدالة َعلى شدّة الخوف من الموت والرغبة في الركون إلى الدنيا، وكأن جاذبية الآرض تشدهم أن يلتصقوا بها ، وكأننا نسمع صوت ارتطام الأَعجاز بالأرض . إنه تعبير تصويري جليّ للنفوس الهالعة الخائفة من القتال ، المتمسكة بحطام الدنيا !! فكانت صورة الفعل هكذا أقوى في تصوير التصاقهم بالحياة الفانية من الفعل " تثاقل "

وَكَانَتْ تَبُوك - وَدَعَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّاس إِلَيهَا لحرب الروم - فِي حَرَارَة الْقَيْظ وَطِيب الثمَار وَبَرْد الظلال ، فَاسْتَوْلَى عَلَى النَّاس الْكَسَل ،فَتقَاعَدُوا وَتَثاقَلوا ، فَوَبَّخَهُم اللَّه بِقَوله هذا ، وَعَابَ عَلَيهِمْ الإيثار لِلدّنْيَا عَلَى الآخِرَة . مع أنه لاتُنال راحة اللآخرة إلا بنصَب الدنيا ، وما عِظَم الآخرة على الدنيا إلا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " مَا الدُّنيا فِي الآخِرَة إِلآ كَمَا يَجْعَل أَحَدكُمْ أُصْبُعه هَذِهِ فِي الْيَمّ فَلِيَنْظُر بِمَا تَرْجِع ؟ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ " .

وعَن أَبِي عثْمَان قَالَ : قُلْت يَا أَبَا هُرَيْرَة سَمِعْت مِنْ إِخوَانِي بِالْبَصْرَةِ أنك تَقُول : سَمِعْت نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول إِنَّ اللَّه يَجْزي بِالْحَسَنَةِ أَلفَ أَلف ِحَسَنَة
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : بَلْ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقول :
" إِنَّ اللَّه يَجْزِي بِالْحَسَنَة أَلْفَيْ أَلْف ِحَسَنَة " ثُمَّ تلا هَذِهِ الآية :
{ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ } فَالدنيا مَا مَضَى مِنهَا وَمَا بَقِيَ مِنْهَا عِند اللَّه قَلِيل . وَقَالَ الثوريّ عَنْ الأعمش فِي الآية : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ } هي كَزَادِ الرَّاكِب .

 

وَقَالَ عَبْد العَزِيز بْن أَبِي حَازِم عَنْ أَبِيهِ لَمَّا حَضَرَتْ عبدَ الْعَزِيز بْن مروَان الْوَفَاة قَالَ : ائتوني بِكَفنِي الَّذِي أُكفن فِيهِ أَنْظر إِلَيْهِ ، فَلَمَّا وُضِعَ بَيْن يَدَيهِ نَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ : أَمَا لِي مِنْ كَبِير مَا أُخَلِّف مِنْ الدُّنْيَا إلا هذا ؟ ثم ولّى ظَهْره فَبَكَى وهو يَقول أُفّ لَك مِنْ دَار إِنْ كَانَ كَثِيرك لَقَلِيل ، وَإِنْ كَانَ طويلُك لَقَصِير وَإِنْ كنا منكِ لفي غرور .
 
...........
 

{ ادَّارَكُوا } :
قال تعالى في سورة الأعراف :
{ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَـٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ (38)} .

فالأولون هم المتبوعون ، والآخِرون هم التابعون ، ودخل المتبوعون ـ السادة والقادة - النارَ أوّلاً لأنهم أشد جُرماً وتبعهم جنودهم وأُجراؤهم الذين كانوا يُطيعونهم ويأتمرون بأمرهم بعدهم ، وعذاب السادة أشد لقوله تعالى:
{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وأثقالاً مَعَ أَثْقَالهمْ ... (13)}(العنكبوت وَقَوْله سبحانه :
{ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)}(النحل)

والأصل " تداركوا " أنْ تبعَ بعضهم بعضاً " أما { ادَّارَكُوا } فقد أعطت مع التتابع السرعة في الوصول وكأن بعضهم يزحم بعضاً ، وهو تصوير بديع لسرعة دخولهم النار وانحشارهم فيها – والعياذ بالله من هذا المصير المخيف – فما إن يستقرون في العذاب حتى تظهر الشحناء والبغضاء ، وتتعالى الاتهامات وتشتد العداوة وترتفع الأصوات ويجأر الضعفاء بالشكوى والكبراء بالرد ، فإذا هم أعداء متخاصمون أشد الخصام ، متساوون في العذاب . ولا ننس أن االفعل يشير - كذلك - إلى دركات جهنم تُؤصد عليهم فيُحبسون فيها .
 
...........
 
{ادَّارَكَ } :
قال تعالى في سورة النمل الآية السادسة والستين :
{ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ۖ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ }

وأصل الفعل " تدارك " ثم حذفت التاء وقلبت التاء دال وأدغمت في أختها . والمعنى أنهم لم يدركوا الحقيقة إلا في الآخرة حين عاينوها ، فلم ينفعهم علمهم هذا إذ الآخرة دار حساب ، وقد كانوا في الدنيا مكذبين . وهذا الإسراع في معرفة الحقيقة لا يدل على رغبة في أن يعلموه إلا أنه أمر اضطروا إليه اضطراراً حين اصطدموا بالواقع المرير الذي وقعوا فيه فجأة ، فرأوا أنفسهم يعاينون ما كذّبوه في الدنيا ، ولا فكاك عنه أبداً .
وقيل: إن { ادَّارَكَ } هنا بمعنى ضلوا وغاب عنهم في الدنيا علم الآخرة فأنكروها . يدل على ذلك مجيء كلمة { عَمُون } بعدها .. وإنكار الكافرين حقيقة اليوم الآخر رد انفعالي سريع يدل على عدم التفكير والروية في اتخاذ القرار ، إنهم – ابتداء- يرفضون ترك آلهتهم ، فيأتي هذا الوزن للفعل يدل على عدم التفكير المنطقي وعلى الجنوح إلى الأهواء والرغبات .
 
,,,,,,,,,,,,,,,,,
 
 
{ فَادَّارَأْتُمْ } :
قال تعالى في سورة البقرة الآية الثانية والسبعين :
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّـهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }
فقد قتل من بني إسرائيل صبي ، فاتهَمَ بعضهم بعضاً وتخاصموا . والدريئة ما يختبئ الإنسان وراءها مدافعاً عن نفسه ومهاجماً غيره . والأصل" تدارأتم ، تفاعلتم " لكن حين يتقاذف الناس الاتهامات تقلب التاء دالاً وتدغم بأختها ،وتحتاج همزةَ وصل فتصير " ادّارأتم ، ويحاول من يُشار إليه بالبنان أن ينفي عنه التهمة بالإسراع باتهام غيره دون دليل ومنازعته . فأَصِخِ السمعَ ، وارْنُ ببصرك إليهم وهم يتراشقون التهم دون جزافاً ،همّ كل منهم أن يسلم برأسه وينجو من العقاب .
كما أن الدرء : العِوَج ، وهو يوحي بأن الظلم أعوج ، وما يسلكه إلا المبطلون ، ولا بد من ظهور الحق الذي يفضح الظالمين .

ومما يوضح معنى الاختلاف والمنازعة في الفعل " ادّارأ " ما رواه السائب , قَالَ : جَاءَنِي عُثمَان وَزُهَيْر ابْنَا أُمَيَّة , فَاسْتَأْذنا لِي عَلَى رَسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ رَسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" أَنَا أَعْلَم بِهِ مِنْكُمَا , أَلَمْ تَكُنْ شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّة ؟ "
قُلْت : بلى بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي , فَنِعْمَ الشَّرِيك كُنْت لا تُمَارِي ولا تُدَارِي " يَعْنِي بِقَوْلِهِ : لا تُدَارِي – بتسهيل الهمزة - : لا تُخَالِف رَفِيقك وشَرِيكك وَلا تُنَازعهُ وَلا تُشَارِهِ .

كما أن من معاني " المدارأة " المدافعة . فقد قال تعالى في سورة النور :
{ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّـهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّـهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} والمعنى : ويدفع عنها العذابَ ...
 
يتبع

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
{ اطَّيَّرْنَا } :
قال تعالى في سورة النمل ، الآية السابعة والأربعين :
{ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ۚ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّـهِ ۖ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ }
وأصلها " تطيّر " على وزن " تفعل " فقلبت التاء طاء وأُدغمت في أختها ، وزيدت همزة الوصل .. وتفيد " اطّيّر" الشؤم بانفعال وسرعة يدلان على النزق والجهل ، ، إن من يتطير مريض النفس قليل العقل أصلاً ، فكيف إذا اطيّر " إنه يكون أكثر سفهاً وطيشاً . ولا شيْء أَضَرّ بِالرَّأْيِ ولا أَفْسَد لِلتَّدْبِير مِنْ اِعْتِقَاد الطِّيَرَة . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ خُوَار بَقَرَة أَوْ نَعِيق غُرَاب يَرُدّ قَضَاء , أَوْ يَدْفَع مَقْدُورًا فَقَدْ جَهِلَ . وَقَالَ الشَّاعِر :
طِيرَة الدَّهْرلا تَرُدّ قَضَاء * فَاعْذُرِ الدَّهْر لا تَشُبْهُ بلَومِ
أَيّ يَوْم يَخُصّهُ بِسُـعُودٍ * وَالْمَنَايَا يَنْزِلْنَ فِي كُلّ يَوْم
لَيْسَ يَوْم إلا وَفِيهِ سُعُود * وَنُحُوس تَجْرِي لِقَوْمٍ فقَوْم

وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَب أَكْثَر النَّاس طِيَرَة , وَكَانَتْ إِذَا أَرَادَتْ سَفَرًا نَفّرَتْ طَائِرًا , فَإِذَا طَارَ يَمْنَة سَارَتْ وَتَيَمَّنَتْ , وَإِنْ طَارَ شِمَالاً رَجَعَتْ وَتَشَاءَمَتْ , فَنَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ :
( أَقِرُّوا الطَّيْر عَلَى وَكْنَاتهَا )
والفرْق بَيْن الْفَأْل وَالطِّيَرَة أَنَّ الْفأْل إِنَّمَا هُوَ مِنْ طَريق حُسْن الظَّنّ بِاَللّهِ , وَالطِّيَرَة إِنَّمَا هِيَ مِنْ طَرِيق الاتكال عَلَى شيء سِوَاهُ ,
وَقَالَ الآصْمَعِيّ : سَأَلْت ابن عَون عن الْفأْل فقالَ : هُوَ أَن يَكُون مَرِيضًا فَيَسْمَع يَا سَالِم , أَوْ يَكُون بَاغِيًا فَيَسْمَع يَا وَاجد
وَفِي صَحِيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول :
( لا طِيَرَة ، وَخَيْرهَا الْفَأْل ) ,
قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه وَمَا الْفأْل ؟
قَالَ : ( الْكَلِمَة الصَّالِحَة يَسْمَعهَا أَحَدكُمْ ) ,
و رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّردَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا الْعِلْم بِالتَّعَلُّمِ وَالْحِلْم بِالتَّحَلُّمِ , وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخير يُعْطَهُ , وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرّ يُوقَهُ , وثلاثة لاينالون الدرجات العلا ; مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ اِسْتَقْسَمَ أَوْ رَجَعَ مِنْ سفر مِنْ طِيَرَة .
 
>>>>>>>>
 

{ وَازَّيَّنَتْ } :
قال تعالى في سورة يونس الآية الرابعة والعشرين :
{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
والفعل" ازّيّن " من " تزيّن " حيث قلبت التاء زيناً وأدغمت في أختها واحتاج الفعل همزة وصل . وفي معنى ازّينت كثرة الزينة ووفرتها من غلة وزرع وخضرة وأزهار وخير كثير يملأ الأرض فيعجب أهلها ثم يذهب سريعاً كما جاء حين يريد الله تعالى ذلك . واقتران الزينة بالزخرف - وهو اللذي لا يدوم – دليل على تفاهتها ، إذ كل شيء مهما كثر وغلا إذا لم يستمر زخرفٌ فانٍ . وقد جاء في الحديث:
( يُؤْتَى بِأَنْعَم أَهْل الدُّنْيَا فَيُغْمَس فِي النَّار غَمْسَة فَيُقَال لَهُ هَلْ رَأَيْت خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِك نَعِيم قَطُّ ؟ فَيَقُول لا وَيُؤْتَى بِأَشَدّ النَّاس عَذَابًا فِي الدُّنْيَا فَيُغْمَس فِي النَّعِيم غَمْسَة ثُمَّ يُقَال لَهُ هَلْ رَأَيْت بُؤْسًا قَطُّ ؟ فَيَقُول لا ) .
إن النعيم الدائم هو الحيوان لو كنا نعلم :
فما من عاقل يرضى زوالاً * بباقية ! فذاك من المحـال
ومن يشري خلوداً من فناء * لعمر الله ، ذاك من الخبال
 
>>>>>>>>>>
 
{ يَهِدّي } :
قال تعالى في سورة يونس الآية الخامسة والثلاثين :
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّـهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }
أصلها : يهتدي " يفتعل " ثم قلبت التاء دالاً وأدغمت في إختها ، وحركت الهاء بالكسر تبعاً لحركة الداء المكسورة المشددة .

توحي إليّ هذه الكلمة { يَهِدّي } بانفلات كابح العربة في طريق نازل تكاد تهوي بمن تحمله في أعماق الوادي ، أو بالناقة التي تسير على غير هدى بعد أن فقدت صاحبها ، أو بمن يتعاطى التجارة وهو لا يحسنها فتكاد حيتان السوق تبتلعه ... يجمع هذه الصور الثلاث انفلات راعن وسفه مدمر ...... وصور أخرى لعربة متينة يقودها سائق ماهر، أو ناقة تسير في القافلة إلى الهدف المنشود آمنة ، أو تاجر صدوق عالم بأصول التجارة .. أمن وأمان وهدى ورشاد .

لا شك أن الله تعالى الذي خلق الكون فأبدعه ، وخلق الإنسان وشرع له طريق النجاة وسبيل السعادة أحق أن نلزم نهجه فهو الخالق العالم ببواطن الأمور وظواهرها فمن أسلم قياده له سبحانه نجا وأفلح ، ومن اتبع هواه ضاع وتبّر
اشـهدْ لـذات الله بالتوحيـد * واترك مقالـة فاسـق زنديـق
واعلم بأن الكون من صنع الذي * إن قال كن فالقـول في التحقيق
ولمن يؤوب الحـر إن حاقت به * محن الحياة فعـاش في تضييق
ألمثله يأوي تـرى أم يرتجـي * ربّ البريـة خالصَ التوفيـق
فمن العبيـد ترى صنوف مذلة * ومن العزيز كرامة الصدّيـق
 


شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{ الْبُشْرَىٰ }
في لسان العرب : " من أحب القرآنَ فـَلْيـَبْشَر: أي فليفرحْ ولـْيـُسَرّ . أراد أن محبة القرآن دليل على محْض الإيمان " " وبشّرَه : فرّحه " . وفي معجم الصحاح " البشارة المطلقة لا تكون إلا بالخير ، وإنما تكون بالشر إذا كانت مقيدة كقوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم ." وفي القاموس المحيط " البُشرى ما يناله المُبَشـِّر " .

- لا يُذكر البشير – عادة – إلا ويذكر في المقابل النذير كما في قوله تعالى في سورة الفرقان الآية 56 وفي سورة الإسراء الآية 105 باللفظ نفسه مخاطباً نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام :
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } .

- بشر الله تعالى المؤمنين في القرآن الكريم بإيمانهم وتقواهم ، وجعل رضاه سبحانه ، والجنة جزاءهم ، وصرح بوجود الأنهار والرزق الوافر المتعدد والزوجات الطاهرات مع الخلود في هذه الجنان ، فقال – سبحانه - في الآية 25 من سورة البقرة :
{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَـٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وهذه البشرى تكررت في القرآن الكريم عشرات المرات .

- ونجد من أنواع المؤمنين الذين نالتهم البشرى في القرآن الكريم :
أ- الصابرين على السراء والضراء :
منحهم الله تعالى الرحمة والبركات وختم لهم بالهداية ، فقال في سورة البقرة :
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿155﴾ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿156﴾ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴿157﴾} .

ب- المخبتين :
وهم المطمئمون إلى الله المتواضعون له فوصفهم بأنهم يهابونه ويحبونه ، ويصبرون على ما ابتلاهم به ، ويقيمون الصلاة ويكثرون الإنفاق من مال الله الذي في أيديهم . فقال في سورة الحج :
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴿34﴾ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (35)} .

ج- المحسنين :
وهم أهل التقوى الذين يعبدون الله كأنهم يرونه فقال تعالى في سورة الحج :
{ ... وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} ، وقال سبحانه في سورة الأحقاف :
{ ... وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ (12)} كما صرح المولى تعالى في آيات كثيرة :
{ وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }
{ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
{ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }
{ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّـهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } .

د- عبادَ الله :
وهم الواعون لما يُتلى عليهم ، يفهمونه ويعملون به ، فكانوا مهتدين لأنهم أصحاب العقول والأفهام ، يقول تعالى في سورة الزمر الآية 17 :
{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّـهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿17﴾ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿18﴾} .
ويقول الله تعالى في أول سورة " يس " مادحاً عباده الذين يخشونه بالغيب فيعملون بما أمر مبشراً إياهم بالغفران الواسع والأجر العظيم :
{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَـٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴿11﴾} .

هـ- المجاهدين :
وهم الذين باعوا أنفسهم لله تعلى فجاهدوا في سبيله ، وباعوا الدنيا بالآخرة ففازوا بالجنة ورضاء الله تعالى . يقول الله سبحانه في سورة التوبة :
{ إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّـهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿111﴾} .

و- الدعاة إلى الله :
وهم الذين جهروا بالدعوة ، وأعلنوها ، وأعلنوا العبودية لله وحده ، وكانوا قدوة في قولهم وعملهم ، هؤلاء لا يخافون حين يخاف الناس ، ولا يحزنون حين يحزن الناس ، فالجنة جزاؤهم ، والله تعالى وليـّهم ، والملائكة تبشرهم . كل هذا لأنهم آمنوا بالله رباً واحداً وأعلنوا دعوتهم على الملأ ، واستقاموا في حياتهم ، ودعوا إلى الله فكانوا نبراساً ونوراً ، يقول الله تعالى في سورة فصلت :

{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴿30﴾ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴿31﴾ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ﴿32﴾ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿33﴾} .
 

 


- أما الذين غضب الله تعالى عليهم لكفرهم وفسادهم ، فهؤلاء ينذرهم بالويل والثبور والعذاب الشديد ، ويستعمل القرآن كلمة البشرى مكان الإنذار لما فيها – حين تخرج عن معناها الأصلي – من تهكم وسخرية وتوبيخ . وهؤلاء الذين بشرهم القرآن بالعذاب أنواع ، منهم :

أ - الكفار :
يقول تعالى في سورة التوبة :
{ ... وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)} ،
ويقول سبحانه في سورة الانشقاق :
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)}
وتصور معي البشرى بما يكره الإنسان ويخاف . إنها لسخرية ما بعدها سخرية ، واحتقار ما وراءه احتقار . ويندرج تحت هذا المسمّى أهل الكتاب ممن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته ، ومن الذين أشركوا مع الله آلهاً غيره ، ومن الذين كفروا به وعبدوا آلهة أخرى ، أو أنكروا وجود الخالق ، أو ادّعَوُا الألوهية .

ب - المنافقون :
هؤلاء دخل الإيمان قلوبهم ثم خرج ، { آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } فطبع الله على قلوبهم . وهؤلاء في الدرك الأسفل من النار لغضب الله الشديد عليهم ، اقرأ معي قوله تعالى في سورة النساء يصور حالهم وتذبذبهم بين الإيمان والكفر ، ثم خلودهم إلى الكفر والبعد عن الهداية :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّـهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} ، ثم يقرر في الآية التالية أنهم أصحاب النار وسيذوقون فيها العذاب الأليم :
{ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)}
لماذا ؟ وما سبب ذلك؟! إنهم انحازوا إلى الكفار أمثالهم ، ورغبوا عن الله والمؤمنين ظانّين أن العزة عند أولئك الكفار ، فخابوا وخسروا ، يقول سبحانه وتعالى بعد ذلك:
{ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا (139)}

ت - المستكبر :
قد تتوقع خيراً من كثير من المجرمين والمفسدين أما المستكبر فلا خير فيه لأنه يرى نفسه فوق الآخرين ، بل يجد الآخرين خدماً وخَولاً ، وجودهم لوجوده فقط وحياتهم مسخرة لخدمته . هذا الصنف لا يرى إلا نفسه ، ولا يسمع سوى ما يهواه . أما كلمة الحق فبعيدة عنه ، بل الحق في نظره ما يريده ويهواه ... فهل تراه بعد هذا يستجيب للدعوة أو يعطيها ظهره ويسد أذنيه ؟! اقرأ معي سمات المستكبر في سورة لقمان تصوره صورة واضحة تبين عجرفته وصدوده :
{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}
ألا يستحق هذا المستكبر هذه الصفعة القوية والتهديد القوي ؟ كما نجد مثاله أيضاً في سورة الجاثية وقد زاد لؤمه في الصفتين الجديدتين فهو أفاك وأثيم ، قال سبحانه :
{ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّـهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)}
فهو يسمع كلمة الحق ويتجاهلها سخرية وترفعاً وكبرياء، فكانت العقوبة سخرية به واستهزاء بما يناسب جرمه.

ث - أما الذين يأكلون الدنيا بالدين :
فهؤلاء لصوص يدّعون الإيمان بالله ويجمعون باسمه المال ويكنزونه ،ويحاربون الدين في الوقت نفسه فلا يصرفون المال في وجوهه الصحيحة بل يسلبونه بكل طرق الباطل والدجل ، قال تعالى في سورة التوبة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)}،
هؤلاء يعذبهم الله بالمال نفسه ، يحسبونه نعمة فإذا هو عليهم نقمة حيث يصبح ناراً تكوى بها أجسادهم وجباههم التي رفعوها تفاخراً على العباد بالغنى ، وجنوبهم التي مالوا بها عن الفقير حين سألهم فتغافلوا عنه ، ثم أدارو للفقير ظهورهم التي تًكوى يوم القيامة بالكنز نفسه والعياذ بالله ،
قال عز و جل بعدها :
{ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}.
فالعقوبة من جنس العمل . قال سبحانه في سورة إبراهيم :
{ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)}.

ج - والنوع الآخير مما نذكر قتـَلة الأنبياء والدعاة :
وهؤلاء المجرمون يريدون بقتل الأنبياء والدعاة تجفيف منابع الخير والدعوة ، ليغرق الناس في جاهلية جهلاء ويسعون لوأد النور والضياء ونشر الظلم والفساد .. قال عز وجل :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)}(آل عمران) .
إنهم موجودون في كل زمان ومكان ، وتراهم منبثين في الشوارع والنوادي ويدخلون البيوت والمخادع ويبثون سمومهم بكل أطياف الفكر المنحرف والثقافة المنحطة والأهواء البهيمية ، ويدسون السم في الدسم والردّة في العلم المادّي ، قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّـهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)}(الأنفال) ،
وهذا من فضل الله علينا معشر المسلمين أن الأعداء يمكرون ، ولكن الله تعالى يبطل مكرهم .

- ومن الجدير بالذكر أن الملائكة الكرام بشرى للمسلمين :
أ - إنهم يبشرون زكريا بولده يحيى (عليهما السلام) قال سبحانه :
{ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)}(آل عمران)
{ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7)}(مريم) .

ب - ويبشرون إبراهيم بولده الحليم إسماعيل عليهما السلام ، قال عز وجل في سورة الصافات :
{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} ،
ويبشرونه بولده العليم إسحاق عليه السلام في السورة نفسها ، قال جل ثناؤه :
{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (112)} ،
ونجد وصف العلم في سورة الذاريات ، قال عز من قائل :
{ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)}

ت - ويبشرون سارة بابنها إسحاق وحفيدها يعقوب عليهم السلام ، قال تعالى:
{ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)}(هود) .

ث - كما نجد أثر الملائكة الإيجابي في معركة بدر حين قاتلت مع المسلمين أعداءهم بأمر الله ، وقتالهم بشرى بالنصر عظيمة قال سبحانه في سورة الأنفال :
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} .

والملائكة نفسها شؤم على الكافرين :
أ - فالكفار يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا ربهم أو رأوا الملائكة ، فيخيب الله تعالى زعمهم حين يخبرهم أنهم لن يروا الملائكة إلا حين ينتهي الأمر ويكونون من أصحاب النار :
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا (23)}(الفرقان) .

ب - وكانت العرب تكره البنت وترغب بالصبي ، فقد كانوا يجدونها عبئاً ، ويرون نصرها بكاء وعويلاً وصراخاً ، أما الفتى فيحمل السلاح ويقاتل ، لقد كان المجتمع ذكورياً أدى بهم إلى وأد البنت في كثير من الأحيان ، وقد وثـّق القرآن وأدهم بقوله تعالى في سورة التكوير :
{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)}
كما نعى على هؤلاء أنهم يجعلون لله - سبحانه - البنات (الملائكة) على زعمهم ويرتضون لأنفسهم الذكور ، قال تعالى في سورة النحل :
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّـهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)}،
فكيف يرتضون لربهم البنات ، ويطلبون لأنفسهم الذكور ؟! قال سبحانه في سورة الزخرف :
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)} .

 

بشرى الإله على التقوى منازل لا * يرقى إليها سوى المحفوف بالنعَم
من بات يسعى إلى مرضاة خالقه * ببذل معروفه بالفعل والـكـَلـِم
يُـقال أبـشِـرْ بجـنات ومغفرة * أعظِم بعفو مليك الكـون من غُنُم
يارب إني ضعيف فاحْبـُني مدداً * وسدد الخطوَ في الناجيـن بالكرم

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
كيف أنجو من أهوال يوم القيـــامة؟

لقد أخبرنا الله عزَّ وجلَّ كيف ننجو من أهوال ذلك اليوم في سورة الفاتحة .. فإذا ما قرأت الآية التي تلي قوله تعالى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] .. لوجدت سبيل النجـــاة في قوله تبارك وتعالى:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]
فعبادة الله وحده هي النجــــاة ..

كما قال نوح عليه السلام لقومه {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] .. وكذا كان قول الأنبيـــاء من بعده ..
أما الإعراض عن الله تعالى وعصيانه فهو الهلاك يوم القيــــامة ..
تابعوا معنا المزيد من أسرار الفاتحة وكيفية النجـــاة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى،،
 
دواء الريـــــاء والعُجب
لازلنا مع عجائب وأسرار الفاتحة، ووصلنا إلى قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كلامًا عجيبًا في شأن تلك الآية العظيمة، قال “رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ مَعَانِيَهَا فِي الْقُرْآنِ وَمَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ، وَمَعَانِيَ الْمُفَصَّلِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَمَعَانِيَ أُمِّ الْكِتَابِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }” [مجموع الفتاوي (2:455)]
إيَّاكَ نَعْبُدُ .. أي لا أعبد أحدًا سواك
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .. أي لا أستعين إلا بك

———-


لكن، لماذا قَدَّم العبادة على الاستعانة؟

أولاً: من باب تقديم الغايــــات على الوسائل .. فالغاية: هي العبادة، والوسيلة التي توصل إليها: هي الاستعـــانة .. فأنا أستعين بك؛ لكي أعبدك يــــا ربَّ.
ثانيًا: العبادة لله والاستعانة من الله للعبد، فما كان لله أولى مما كان للعبد لا شك.
ولذا كانت أهم عبادات القلب:: الإخلاص، وأسوء ذنوبه:: الشرك ..
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه” وفي رواية “فأنا منه بريء هو للذي عمله” [رواه مسلم]
يقول ابن القيم ” العمل بغير إخلاص ولا اقتداء، كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه” [الفوائد (1:48)]
———-

فأول سبيل للإخلاص:: ألا يرى القلب في العبادة إلا الله ..
إذا أردت أن يكون عملك خالصًا لله، يجب ألا تلتفت إلى البشر .. لا تهتم وأنت تتصدق من الذي سيعلم عنك .. لا تهتم وأنت تصلي من الذي يسمعك .. لا تهتم بالانتصار إذا ناقشت مسألة ما، بل اهتم بأن تجد الحق فتتبعه سواءً كنت مصيبًا أم مخطئًا .. فغاية همَّك هو رضا الله عز وجل عنك ولا أهمية لأي شيءٍ آخر أبدًا ..

———
فَلَيْتَكَ تَحْلُوْ وَالْحَيَاةُ مَرِيْرَةٌ … وَلَيْتَكَ تَرْضَىَ وَالْأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الَّذِيْ بَيْنِيْ وَبَيْنَكَ عَامِرٌ … وَبَيْنِيْ وَبَيْنَ الْعَالَمِيْنَ خَرَابُ
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدِّ فَالكُلُّ هَيّنٌ … وَكُلُّ الَّذِيْ فَوْقَ الْتُّرَابِ تُرَابُ

———-
وعلاج حب المدح، يتلخص في معرفتك بأنه ليس أحد ينفعك مدحه أو ذمه إلا الله عز وجل.. فلو أنك كُتِبت عند الله صديقًا، ووصفك جميع الناس بأنك كاذب .. هل يضرك وصفهم؟
ولو أنك – والعياذ بالله – كُتِبت عند الله منافقًا، ووصفك جميع الناس بالصدق والصلاح .. هل سيدخلونك الجنة حينها؟!
فالناس لا ينفعونك بشيء إذا أراد الله عز وجل خلافه، فلا تُضيِع آخرتك لأجل لا شيء!
قال بعض السلف “جاهد نفسك في دفع أسباب الرياء عنك، وأحرص على أن يكون الناس عندك كالبهائم والصبيان، ولا تفرق في عبادتك بين وجودهم من عدمه واقنع بعلم الله وحده”
ولو عَلِم الناس أنك ترائي وتفعل العبادة لأجلهم، لَكَرِهوك ولسقطت من أعينهم ..
فكيف تعمل لمن لو عَلِمَ أنك ترائي له لأبغضك؟! .. وتترك من لو عَلِمَ أنك تعمل له لأحبك ؟؟!!
كن مع الله .. واجعل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} في قلبك وقصدك الوحيد،،
———


وشر أنواع الريـــاء::

أن يرائي الإنسان بما لا يعمل .. فيوحي للناس أنه صلى الفجر في المسجد وهو لم يصلي، أو يفرح بمدح الناس له على عملٍ لم يفعله ولا يُنكر ذلك.
وهؤلاء الذين قال الله تعالى عنهم {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188]

———–


والحل:: أن تُصحح النيــــة ..
فقبل أن تشرع في أي عبادة، عليك أن تتوقف وتسل نفسك: لماذا تفعل هذا العمل؟
لأجل أن ترضى يــــــا ربِّ وفقط .. ليس لأجل أي شيءٍ آخر.
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}:: تشفيـــك من مرض الريــــاء ومرض العُجب ..
يقول ابن القيم ” وكثيرًا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إياك نعبد تدفع الرياء، وإياك نستعين تدفع الكبرياء” [مدارج السالكين (1:54)]

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

اعتذر عن الخطا السابق

موضوع كيف أنجو من أهوال يوم القيـــامة؟

منقول من موضوع (كيف تتلذذ بالصلاة للشيخ مشاري الخراز)

وليس من موضوع

 

سلسلة كلمات في القرآن الكريم / الدكتور عثمان قدري مكانسي

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

:{ هَلْ أَتَاكَ }

كلما قرأت الآيات الني تتصدرها هذا الكلمة مسبوقة بالاستفهام { هَلْ أَتَاكَ } عشت التحدي القرآني العجيب في سـَوق الخبر الذي ينبئ عن الغيب الذي يحمله إلى القارئ أو السامع في حقيقته وصدقه ، واقتطاعه من الماضي السحيق صورة تثـبُت أمام العين حركة ولوناً وحَدثاً ، وتجاويف الأذن صوتاً وجلبة . وفي القلب انطباعاً وثباتاً ، والعقلِ تفكيراً وتحليلاً ودروساً وعِبَراً . فإذا بهذا النبأ الغيبي حقيقة واقعة في حواس الإنسان يعيشه وجداناً وعواطف ، وتأملاً وتدبراً .

هَلْ أَتَاكَ ... تنقل الماضي المنسيّ حاضراً حيـّاً تتلمسه لوحة ً متحركة تعرض الحدث نابضاً بالحياة ، فتتفاعل معه كأنك أحد عناصره وهذا الشعور لحظة تربوية إيجابية لا تنمحي من الذاكرة .وهذا ما يمتاز به النص القرآني الرائع

وردت هذه الكلمة { هَلْ أَتَاكَ } ست مرات في القرآن ، وهي أسلوب إنشائي استفهامي سبقته { هَلْ } الاستفهامية التي لا تحتاج جواباً ، فما بعدها الجواب الشافي بكل أبعاده . إنه أسلوب لجذب الانتباه ، فتترك كل ما في يديك لتخلـُص للحدث ، وتندمج فيه .

وترى بعد { هَلْ أَتَاكَ } كلمة { حَدِيث } خمس مرات وهي بمعنى الحدث والقصة أو قل مايراد من الحديث نفسه ، فتتهيأ لتسمع وترى وتتابع . أما في المرة السادسة فقد ذُكر كلمة { نَبَأ} فالأمر فتنة واختبار لدواوود عليه السلام كما سيمر

وبعد كلمة { حَدِيث } – وهي كلمة عامة – يُذكرالهدف الذي سيق له { هَلْ أَتَاكَ .. } موسى ، وضيف إبراهيم ، والجنود ، والخصم ، والغاشية .. ثم تبدأ القصة

تلا أربعاً منها كلمةُ { إذْ } وهي ظرف يختص بنقل الماضي إليك ، فيضعه أمامك من بدايته ، ثم يبدأ بالقصة تتوالى بدقائقها فيلماً سينمائياً يقتنص اهتمامك ، فتتابعه بشغف ورغبة . و { إذْ } نقلة سريعة للموقف ، حيث يبدأ فوراً بزخم صوره الحية

- ـ في سورة طه يقول تعالى
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ ؟ فتلتفت نحو مصدر السؤال لترى الجواب يتحدر بسلاسة قائلاً

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (9) إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى 10

من الآية التاسعة إلى غاية الآية الثامنة والتسعين يفصل سبحانه القول منذ أن شد موسى عليه السلام الرحال من مدين إلى مصر مع أسرته فرأى النور عند الشجرة المباركة وكلمه ربه ، فجعله من المرسلين ، إلى إشراك أخيه هارون في الرسالة مع التفاتة إلى فضل الله تعالى عليه منذ أن أرضعته أمه ، ثم ألقته في النهر ، وتبعته أخته تدل أهل فرعون على الأم ، فيعود إليها بفضل الله تعالى . ثم نجد الأخوين يحاججان فرعون ويحاورانه ، ونراهما يعظان السحرة قبل المباراة التي انتهت بإيمان السحرة . ثم انتقام فرعون المتأله من المؤمنين الجدد الذين ثبتوا على الإيمان بالله رغم التعذيب ثم الصلب والقتل . كما نرى المؤمنين بقيادة نبيهم موسى يجتازون البحر ، ثم يتبعهم فرعون فيغرق فيه ، وتنطوي صفحة الظلم فيرى اليهود أنفسهم أحراراً ، إلا أنهم سرعان ما ينتكسون فيطلبون إلهاً حين يرون بعض المشركين يسجدون للأصنام ، ويمضي الحدث مصوراً اتخاذ اليهود عجلَ السامري إلهاً على الرغم من وجود هارون بينهم – وقد استضعفوه - ، ثم تكون محاورة بين موسى والسامري تنتهي بحرق الإله المزيف وعقوبة السامري المنحرف لنصل إلى النهاية الأصيلة في عقيدة المسلم
{(إِنَّمَا إِلَـٰهُكُمُ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98 }


ـ أما في سورة " النازعات " فإننا نعيش قصة موسى نفسها مختصرة في دعوة موسى فرعون إلى التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ 20

فيأبى المجرم تلك الحقيقة ويدّعي الألوهية ، ويصرح بها كما ذكرها سبحانه وتعالى : { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24)} فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وينتهي المشهد بالقاعدة الأصيلة ، قال عز وجل
{(فَأَخَذَهُ اللَّـهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ (25) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (2 }
فهل من معتبر؟

ـ فإذا وقفنا بتأنّ في حضرة سورة الذاريات وجدنا قصة سيدنا إبراهيم حين استقبل الملائكة الكرام ، قال تعالى

{ ...(25) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ }
وعرّج على قصص موسى وفرعون ، وقوم هود وقوم صالح وقوم نوح باختصار شديد ، وبيـّن نهاية الكفار المدبرين عن الإيمان ، ثم أمرنا بالفرار إلى الله تعالى وتوحيده سبحانه ، فهذا الأصل الذي على المؤمن أن يسعى إليه ، قال جل ثناؤه
{(فَفِرُّوا إِلَى اللَّـهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51 }



أفر إليك منك ، وأين إلا * إليك يفر منك المستجير


ـ أما في سورة البروج فإننا لا نجد " إذْ " ونجد الهدف : فرعون وثمود ، وسبب حذف " إذْ " وهي - كما قلنا سابقاً - استحضار الصورة – ولا حاجة لاستحضارها فقد ذكرت بالتفصيل في أول السورة
.... قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) ......} فكان المعنى واضحاً والصورة جلية }


ـ كذلك رأينا في سورة الغاشية ما رأيناه في سورة البروج من الاستغناء عن " إذْ " لأن الصورة جاءت مسرعة تتجاوز التهيئة ، وانفتحت تصور حياة الكفار في نار جهنم والعياذ بالله ، فتخلع القلوب وتهز الصدور

ـ ثم نجد قوله تعالى في سورة ص
{(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21 }

فاحتلت كلمة { نَبَأ } مكان " حديث " فالأمر خطير ، إنه اختبارٌ لجـَلـَد نبي من أنبياء الله مشهور بالإنابة والتوبة وكثرة الذكر ، تسبح الجبال والطير معه ، تكررت في قصته { إذ } مرتين ، قال تعالى
{(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ... (22 }
لقد كان دخولهم فجأة دون إذن فخافهم ، فأخبروه بسبب دخولهم ، ولم يعرف أنهم ملائكة إلا حين اختفوا فجأة كما ظهروا فجأة . وهنا نعيش الامتحان في القضاء الذي ينبغي أن يستمع فيه القاضي لحجة الطرفين ، لا أن يحكم بمجرد أنه سمع اتهام الأول فهـُيـّئ له أنه مظلوم تجب مساعدته ، فأسرع يحكم له ، ثم أحس بخطئه الفادح فخر ساجداً يستغفر الله ويتوب إليه

بقي أن نقول : رأينا في سورة الدهر (الإنسان) قال سبحانه
{(هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1 }

فكان هذا التساؤل بمعنى ( قد أتى على الإنسان حين من الدهر ...) وهي معنى آخر غير معنى يصب في التقرير والتأكيد

نسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا
إنه ضياء النفوس وكنز الإيمان ، وقوت القلوب

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{ يَسْأَلُونَكَ } / القسم الأول :

وصف أمير المؤمنين عمرُ بن الخطاب عبد َالله بن عباسٍ رضي الله عنهم جميعاً بكلمة ذهبت في الأجيال مثلاً ، قال : " إنه فتى الكهول ، له لسان سؤول ، وقلب عقول " . ولم يبلغ ابن عباس مرتبة الصدارة في العلم لولا السؤال .
والسؤال له بالإضافة إلى الاستعلام والاستفهام فوائد كثيرة نذكر بعضها – من القرآن الكريم - على سبيل المثال لا الحصر

أ‌- التأكد من المعلومة :
فهذا يوسف عليه السلام حين أرسل إليه الملك ساقيه ليخرج من السجن وقد عفا الملك عنه ، رغب يوسف عليه السلام أن يخرج بريئاً من التهمة الشنيعة ، ليكون قدوة في الطهر والشرف ، أما العفو فللمذنبين ، ويوسف بريء مما اتهموه به ، فرد المراسل قائلاً له كما في سورة يوسف :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)}.
حيث قبل أن تظهر براءته : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ }
وبعد البراءه ارتفعت مكانته وعظُم في عين الملك كما ورد في نفس السورة :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)} .

ب‌- طرح الشك :
لقد أذن الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الأنبياء قبله حين التقاهم في مسجد بيت المقدس وصلى بهم قبل أن يصعد للسماء ليطمئن قلبه – إن خالجه شك ، وحاشاه أن يشك ، فهو صاحب الدعوة – ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المؤمنين وأكثرهم يقيناً بالله ، ولكن السؤال مشروع لكل من يشك في أمر ما قال تعالى في سورة يونس :
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)}
وفي تفسير قوله تعالى في سورة الزخرف :
{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} ؟ .
يقول القرطبي رحمه الله تعالى فيما يرويه عن ابن عباس رضي الله عنهما : لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسجِد الأقصى - وَهُوَ مَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس - بَعَثَ اللَّه لَهُ آدَم والمرسلين جميعاً , وَجِبْرِيل مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ;فأذّن جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَقَامَ الصلاة , ثُمَّ قَالَ :
يَا مُحَمَّد تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِهِمْ ;
فَلَمَّا فَرَغَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَ لَهُ جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
[ سَلْ يَا مُحَمَّد مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رُسُلنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُون الرَّحْمَن آلِهَة يُعْبَدُونَ ] . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لا أَسْأَل قَدْ اِكْتَفَيْت ] . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَكَانُوا سَبْعِينَ نَبِيًّا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيم وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمْ السلام ; فَلَمْ يَسْأَلهُمْ لأنه كَانَ أَعْلَم بِاَللَّهِ مِنْهُمْ .

ت‌- تقوية الموقف بالدليل :
كان يعقوب عليه السلام – لِما رأى من أبنائه الكذب – لا يصدقهم ، فلما حصل مع أخيهم بنيامين ما حصل من سرقة ، وهم لا يدرون أن أخاهم يوسف (عليه السلام) خطط للاحتفاظ بأخيه اعتذروا لعودتهم دون أخيهم – وقد وعدوا أباهم أن يعودوا به إلا أن يُحاط بهم ، فطلبوا إلى أبيهم أن يسأل المسافرين معهم الذين حضروا الواقعة ، قال سبحانه في سورة يوسف :
{ ارْجِعُوا إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)} .

ث‌- التحدّي :
فهذا سيدنا إبراهيم يكسر الأصنام الصغيرة حين خرج قومه إلى احتفال كبير مبتعدين عن المعبد الوثني ، وترك كبير الأصنام فلم يكسره ، إنما علق عليه آلة الكسر ، ليبين لقومه سفاهة معتقدهم . فلما عادوا ، ورأوا أصنامهم مكسورة محطمة علموا أن الفتى إبراهيم هو وحده الذي يجرؤ على فعل ذلك . فلما سألوه أنكر ما فعل وأشار إلى كبير الآلهة المزعومة يتهمه على سبيل التحدى ، قال عز وجل في سورة الأنبياء :
{ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)} .
ولن تنطق الأصنام ، ولو كانت تنطق ابتداءً لدافعت عن نفسها ! والقصة معروفة فقد تحرك باعث الخير في أنفسهم ثم نكسوا على رؤوسهم . فقد عشعش إبليس في عقولهم وأفئدتهم ، وسكن الضلال في صدورهم ، وثبت الفساد في كيانهم ... عرفوا الحق ، ورضوا بالانتكاس فحاولوا إحراقه لكن الله تعالى نجّاه . وحين تطاول الكفار على الداعية الأول صلى الله عليه وسلم فقالوا : لا جنة ولا نار ، ولا حياة بعد الموت ، ولئن كانت حياة فنحن في الجنة لا النار !! جاء التحدي والتسفيه لأقوالهم في سورة القلم :
{ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40)}؟!
وليس هناك من ضامن ولا كفيل ، إن هم إلا يخرصون .

ج‌- التقريع والتوبيخ :
يريد بنو إسرائيل من النبي صلى الله عليه وسلم معجزات تدل على نبوّته وحركوا كفار مكة أن يطلبوا ذلك ، فجاء القرآن يوبخهم لأنهم أساءوا إلى نبيهم موسى عليه السلام وقد جاءهم بكثير من الآيات ، وما طلبهم هذا إلا التمادي في الكفر والضلال ، قال جل ثناؤه في سورة البقرة :
{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)} .
لقد شاهد بنو إسرائيل مَعَ مُوسَى آيات بينات واضحات وحججاً قَاطِعَة بِصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ من آيات كعَصَاهُ التي انقلبت حية ، وَفَلْقه الْبَحْر وَضَرْبه الْحَجَر وَمَا كَانَ مِنْ تَظلِيل الْغَمَام علَيهِم فِي شِدّة الْحَرّ وَمِنْ إِنزَال الْمَنّ وَالسَّلوَى وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الآيات الدالّة عَلَى وُجُود الْفَاعِل وَصِدْق مَنْ جَرَتْ هَذِهِ الْخَوَارِق عَلَى يَدَيْهِ ، ومع هَذا أَعْرَضَ كَثِير مِنهُم عَنهَا وبدَّلُوا نِعْمَة اللَّه كفرًا .

أما إن كان في الأسئلة – أياً كانت - إلحاف وخروج عن المألوف فإن الأمر ينقلب إلى ضده ، ويصبح عبئاً لا لزوم له ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة :
( لا يحب الله إضاعة المال ولا كثرة السؤال ولا قيل وقال )
هذا إذا فهمنا أن السؤال غير طلب العطاء .

سئل النبي صلى الله عليه وسلم – كما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه - عن أشياء كرهها ، فلما أكثروا عليه غضب ، ثم قال للناس :
سلوني عما شئتم .
قال رجل : من أبي ؟
قال : أبوك حذافة .
فقام آخر فقال : من أبي يا رسول الله ؟ فقال :
أبوك سالم مولى شيبة .
فلما رأى عمر ما في وجهه قال : يا رسول الله ، إنا نتوب إلى الله عز وجل . ولعل هذا سبب نزول الآية الكريمة في سورة المائدة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّـهُ عَنْهَا وَاللَّـهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} .

 

{ يَسْأَلُونَكَ } / القسم الثاني والأخير :

ذُكِرتْ { يَسْأَلُونَكَ } في القرآن الكريم خمس عشرة مرة تدل على أن السؤال مفتاح العلم والسبيل إلى الوضوح والحياة الأمثل . فماذا نفهم من { يَسْأَلُونَكَ } ؟

1 - الفعل جاء في صيغة المضارع الذي يفيد الاستمرار ، فلا بد من السؤال الموصل إلى الجواب ، وأعتقد أنه يستحسن طرح السؤال على العالم كي يتحدث في مواضيع يحتاجها الناس ، وهذا أفضل – في ظني - من موضوعات يختارها العلماء والمحاضرون قد تكون مفيدة ، وقد يكون غيرها أولى منها وأكثر فائدة . والسؤال دليل على أن صاحبه يود معرفة الحقيقة ليلتزمها ، ويعمل بها ، وهذه إيجابية لو كثرتً في الأمة فهي بخير .

2 - والمسؤول " ك ( الكاف ) تنبيه إلى أنّ على السائل أن يسأل العالم البصير ، لا الرجل الغرير ، فذلك البصير الحاذق يدله على الخير ، ويوضح له المسألة ويأخذ بيده إلى موطن النجاة ومسلك الصواب . كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد العلماء . وعليهم – من بعده – أن يسألوا من يسير على خطاه ، ويهتدي بهديه . أما الجاهل فيَضل ويُضِل .

3 - ولا بد من تحديد السؤال ليكون الجواب محدداً : يَسْأَلُونَكَ ... ( عن الشهر الحرام ، قتال فيه ، عن الخمر والميسر ، عن اليتامى ، عن المحيض ، عن الساعة ، عن الأنفال ، عن الروح ، عن ذي القرنين ، عن الجبال ، ماذا ينفقون ) ولو كان السؤال عاماً فلن يشبع المتلقي ، وستكون الفائدة أقل مما ينبغي وما يسأل الإنسان إلا عن شيء يشغل باله ، فإذا سمعه تلقفه فلم ينسَه .

4 - فإذا سئل العالم أمراً وهو يعرفه وقت السؤال أو بعد الدراسة والتمحيص فلا بد أن يجيب عنه ، إن ذلك أمانة في عنقه يحاسب عنها يوم القيامة ، ويشكر عليها في الدنيا والآخرة . لذا جاء الأمر الإلهي : { قُلْ } فالساكت عن الحق شيطان أخرس ضيع الأمانة وترك السائل في ضلال ، " والمسلم أخو المسلم " . والأمر بالإجابة { قُلْ } جاء في كل الآيات غير الغيبية المبذولة للتعلـّم أو التي لا تتحملها العقول ، كقوله تعالى في بعض الإجابات : { قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّـهِ وَالرَّسُولِ ... (1)} ، وحين سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر قيل له كما في سورة البقرة : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ...(219)} ، وحين سئل على الحل أجاب كما في سورة المائدة { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ (4)} وحين سئل عن القتال في الشهر الحرام كان الجواب كما في سورة البقرة :
{ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّـهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ... (217)} ،
أما في السؤال عن الغيب { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } (الأعراف والنازعات) ، فمرة نجد الإجابة دون { قُلْ } كما في سورة النازعات :
{ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} ، فكان الجواب من الله تعالى مباشرة ،
ومرة ذكر الفعل { قُلْ } كما في سورة الأعراف :
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّـهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) ،
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن علمها عند الله سبحانه .
وأما السؤال فيما لا تتحمله عقول الناس على عهده صلى الله عليه وسلم وتـُرك للزمن اكتشافه فكان الجواب بأسلوب الحكيم وهذا الغرض البلاغي في سورة البقرة يفيد أن عليكم أن تعرفوا الفائدة من الأهلـّة :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ..(189)} ، وتصور معي أخي القارئ لو أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجيب العلم عن كروية الأرض ودورانها حول الشمس، ودوران القمر حول الأرض ، وما ينتج من حجب الأرض لضوء الشمس عن القمر حين تتوسط بينهما ..لقد كان الجواب الحكيم ذكر الفائدة من القمر فقط . ولا ننسَ أن الأجوبة كانت شافية ودقيقة . تفي بالغرض من طرح الأسئلة ، ولا ننس كذلك أن الجواب حين يكون قاصراً يضطر السائل أن يعيد طرحه مرة أخرى على علماء آخرين حتى يجد بغيته ، فينبغي على العالم أن يكون جوابه شافياً مريحاً يفهمه المتلقي ويستوعبه .

5 - ثم نجد بعد الجواب الشافي تنبيهاً إلى التقوى والطاعة في قوله تعالى بعد الإجابة عن الأنفال :
{ فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1)} ،
ونجد بعد السؤال عن الشهر الحرام في سورة البقرة التوضيح الهام الذي يؤكد أن أعداء الله لن يقر لهم قرار حتى يؤذوا المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً : { ... وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ..... (217)} ،
ونجد بعد السؤال عن المحيض والإجابة عنه في سورة البقرة أمراً بالتوبة والتطهّر لإرضاء الله تعالى ونيل حبه سبحانه :{ ... إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} .

ولو عدت أخي القارئ إلى أواخر هذه الآيات التي نتحدث عنها لوجدت التربية القرآنية تتجلى في تزكية النفس وبناء المجتمع المسلم الطاهر الذي يحبه الله تعالى ويرضاه ، فاحرص على العودة إليها والتخلق بأخلاقها .
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علـّمنا ، فهو ولينا ومولانا ، ونعم المولى ونعم النصير .

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
{ أمـّة }
قال ابن منظور – رحمه الله – في معجمه لسان العرب : أمّ : مِن أمَمَ . وأم : قـَصَد . أمـَّه يؤُمّه أمّاً ، إذا قصده وتوخـّاه.
ولن نتناول مشتقات هذه الكلمة ، وهي كثيرة ، فمن رغب بذلك أمّ كتب معاجم اللغة وتزوّد . إنما نريد معانيها التي وردَتْ في القرآن الكريم . ولعلنا نحاول الإحاطة – على ضعفنا – بالكثير من المعاني اللطيفة الرائعة :

1- تأتي بمعنى السلف الماضين من الآباء الصالحين كالأنبياء :
وذلك في قوله تعالى في الآية 134 من سورة البقرة :
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
لا ينفعنا انتسابنا إليهم ما لم نعمل بعملهم الصالح ، كما قال سبحانه :
{ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) } (الطور) ، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه .

2- وتأتي بمعنى الشريعة الواحدة والدين الواحد :
مثال ذلك في الآية 213 من سورة البقرة :
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ... }
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . وكانوا على هدى الله جميعاً فلما طال عليهم الزمن اتبعوا أهواءهم وأضلتهم الشياطين . فأنزل الله جبريل على الأنبياء بكتبهم ليهدوا الناس إلى طريق الحق والسلام .

3- وتأتي بمعنى العلماء والدعاة والمصلحين :
مثال ذلك الآية 104 من سورة آل عمران :
{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
وهؤلاء أتباع القرآن والسنة النبوية التي تتصدى لإقامة المعوج وإصلاح الخلل في البشرية ، وقد قَالَ فيهم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَف الإيمان) وَفِي رِوَايَة : (وَلَيْسَ وَرَاء ذَلِكَ مِن الإيمان حَبَّة خَرْدَل) .
هذه هي الأمة الداعية إلى إسعاد البشرية والنهوض بها في درب الهناء والأمان . وفي قوله تعالى في الآية 181 من سورة الأعراف :
{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ }
يقول صلى الله عليه وسلم مدحاً لعلماء أمته ودعاتها العاملين بما يرضي الله تعالى يوم يضعف الناس ويتخاذلون ، ويستكينون لعدوهم ويتراجعون :
(إِنَّ مِنْ أُمَّتِي قَومًا عَلَى الْحقّ حَتَّى يَنزِل عِيسَى اِبن مريم مَتَى مَا نَزَلَ )
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعاوية بْن أَبِي سُفيَان قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(لا تَزَال طَائِفَة مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ لا يَضُرّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ولا مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى تَقوم السَّاعَة) وَفِي رِوَايَة : (حَتَّى يأتي أمر اللَّه وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ) ، وَفِي روايةٍ : (وَهُمْ بِالشَّام) .

4- وتأتي بمعنى ذي طريقة حسنة وهدىً مستقيم :
مثل ذلك الآية الكريمة 113 من سورة آل عمران :
{ لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّـهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } ،
والتقدير: مِنْ أَهل الْكِتَاب أُمَّة قَائمة وَأُخرى غَير قَائمة , فَتَرَكَ الأخرى اكتفاء بالأولى والمعنى : لا يَستوِي أُمَّة من أَهل الْكِتَاب قَائمَة يتلون آيَات اللَّه وَأُمَّة كَافرَة. قال ابن عَبَّاس : لما أسلم عبد الله بن سلام , وثعلبة بن سعية وغيرهما من يهود ; فَآمَنُوا وصدّقوا وَرَغِبُوا فِي الإسلام وَرَسَخُوا فِيهِ , قَالَتْ أَحبار يَهُود وأهل الكفر منهم : مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ ولا تبعه إلا شرارُنا , وَلَوْ كَانُوا مِنْ خِيَارنَا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ، فنزلت هذه الآية تكذبهم وتمدح من أسلم والتزم عبادة ربه وقـنت له .

5- وتأتي بمعنى القـِسْم من الشيء لا يبلغ الشطر بل هم قليل :
قالوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ما يليق بهما ، فقصدوا القول الحق ولم يتعدّوه . مثال ذلك الآية 66 من سورة المائدة في قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ }
وأراد بالقصد الاعتدالَ والحقيقة أناساً من أهل الكتاب آمنوا واتقـَوا كالنجاشي وسلمان وابن سلام وغيرهم ، فكان تقواهم لله سبباً في توسيع الله تعالى عليهم الرزق والخيرات ألم يقل الله تعالى في سورة الجن يؤكد الرزق الوافر لمن آمن به وعمل بمقتضى الإيمان :
{ وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا (16)} ؟ . وقال كذلك في سورة الطلاق :
{ وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ... (3)} ؟ ثم وعد – في سورة إبراهيم - بالمزيد لمن اتقى وشكر ربه :
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ (7)} .
وكذلك نجد الثلث أو القسم الثالث الذي على الصواب من قصة اليهود في يوم السبت في قوله تعالى في الآية 164 من سورة الأعراف :
{ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّـهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }
فهؤلاء هم الصالحون الذين نبهوا وحذّروا ، ثم لم يخالطوا المفسدين وتميّزوا عنهم ، بينما كانت فئة ثانية نبّهت وحذّرت إلا أن ذلك لم يمنعها أن تخالط المفسدين وتؤاكلهم وتسامرهم . هؤلاء الصالحون لم يتوانَوا عن إسداء النصح والتذكير بالله حتى اللحظة الأخيرة علّ المخطئ يرعوي ويتقي الله ، ويقلع عن المعصية قبل حلول العذاب ، فينجو . وما يفعل ذلك إلا العطوف من المسلمين المحب للناس جميعاً ، الذي يأمل بالناس أن يتوبوا ويثوبوا ، ويرجعوا عن غيهم ، والمؤمن لا ييئس ويظل داعية يصدق في دعوته ، ويسعى لها بما أوتي وما استطاع.

6- وتأتي بمعنى قرن وجيل :
كما في قوله تعالى في الآية 34 من سورة الأعراف :
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } وسيأتيهم ميقاتهم المقدّر . وقد وضح القرطبي سبب النزول فقال : إن الكفار كَانُوا (كما قال سبحانه في نفس السورة) : { وَإِذَا فَعلوا فَاحشَة قالوا وجدنا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاَللَّه أَمَرَنَا بِهَا ... (28)} ,
وَوَعيدًا منه – سبحانه - لَهُمْ عَلَى كَذِبهمْ عَلَيهِ وَعَلَى إِصرارهم عَلَى الشِّرك بِهِ وَالمُقام عَلَى كُفرهمْ , ومذكراً لَهم مَا أَحَلَّ بأمثالهم من الأمم الَّذِينَ كَانُوا قَبلهم . ولكل جَمَاعَة اجْتَمَعَت عَلَى تكذيب رُسُل اللَّه وَرَدّ نَصَائِحهمْ , والشرك بالله مَعَ مُتَابَعَة رَبّهم حُجَجه عليهم وَقتٌ لحلول العقوبات بساحتهم , ونزول المثـُلات بهم على شركهم . ولن يؤخرهم ربهم عما قدّر لهم من عقوبات في الأجل الذي حتـّمه لهم .


7 - وتأتي الأمة بمعنى الشبيه والمثيل في الصفات والعاقبة :
كقوله تعالى في الآية 38 من سورة الأعراف :
{ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَـٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ } .
فالله تعالى يَقول لهؤلاء الْمُشْرِكِينَ بِهِ الْمُفتَرِينَ عَلَيْهِ المكذبين بِآيَاتِهِ : { اُدْخُلُوا فِي أُمَم } مِنْ أمثالكم وَعَلَى صفاتكم { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم } مِنْ الأمم السالفة الْكَافِرَة { مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ } إنهم يلتقون مغضبين سابين شاتمين من كان سبب دخولهم في النار واجتماعهِم فيها { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } ، وقد قال الله تعالى على لسان خليله إبراهيم عليه السلام : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا (25)} (العنكبوت) ، ويتبرأ بعضهم من بعض كما قال جل ثناؤه في الآية 166 من سورة البقرة : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اِتَّبَعُوا } ، فإذا التقى هؤلاء في النار جميعاً واجتمع بعضهم إلى بعض شكا الآخرون الأولين إلى الله لأنهم كانوا سبب ضلالهم فيقولون { رَبّنَا هؤلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّار } فيجيبهم بأنه جازاهم جميعاً بما يستحقون من عذاب شديد : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ } .
نسأل الله العافية وحسن الختام .

8 - وتأتي بمعنى الأجل المعدود والأمد المحصور والمدة المضروبة :
مثال ذلك قوله تعالى في الآية الثامنة من سورة هود :
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ... } ؟ " فالكفار يستعجلون العذاب كما قال سبحانه في سورة الأنفال : { وَإِذْ قَالُوا اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} ، وفي قوله سبحانه يسخر من الكفار : { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) } (العنكبوت) ، كما أننا نجد معنى الزمن في كلمة { أُمَّة } في قوله تعالى في الآية 45 من سورة يوسف : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } ، وما تذكر إلا بعد بضع سنين قضاها يوسف في السجن .

9 - وتأتي بمعنى الإمام الذي يُقتدى به :
مثاله قوله عز وجل يمدح إبراهيم عليه السلام :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّـهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)} (النحل) ،
فَهُوَ الإمام الَّذِي يُقتدى بِهِ وَالْقَانِت هُوَ الْخَاشِع الْمُطِيع وَالْحَنِيف المتجه قَصْدًا عَنْ الشِّرْك إِلَى التوحيد ، وهو معلم الخير والجامع له ، الذي يعلم الناس دينهم ويدلهم على ربهم . وقد كان إبراهيم وحده مؤمناً والناس كلهم كفار ، فكان أمة وحده .

10 - معنى جماعة من الجماعات :

أ - قد تكون الجماعة صغيرة قليلة، فهذا موسى عليه السلام يصل إلى مدين فيمر على جماعة من الرعاة قد لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين يسقون أنعامهم وشاءَهم :
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ... (23)} (القصص) .

ب - وقد تكون الأمة ضخمة كثيرة العدد تعيش الحواضر والبوادي . يُرسل إليها الرسول ليهديهم طريق الرشاد ، ونجد ذلك في قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ... (36)} (النحل) ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) }(يونس) ، فالرسول يُبْعث في جماعة أو جماعات ويدعوهم إلى الله تعالى ، ويقيم عليهم الحجة كما قال سبحانه في الآية 75 من سورة القصص : { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } ، نبياً يشهد على العباد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وشهيد كل أمة رسولها كما قال جل ثناؤه :
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} (النساء) .

جـ - وقد تكون الأمة بمعنى الناس جميعاً لقوله عز وجل :
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ (110)} (آل عمران) بمعنى خير الأمم . وكقوله صلى الله عليه وسلم:
(وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسْمَع بِي أَحَد مِنْ هَذِهِ الأمة يَهُودِيّ وَلا نَصْرَانِيّ ثُمَّ لا يُؤْمِن بِي إلا دَخَلَ النَّار) .

11 - وقد تأتي بمعنى الدين والملة لقوله تعالى في الآية 23 من سورة الزخرف :
{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } ، أي على طريقة ودين ، وهم يريدون أن لا يخالفوهم

12 - وقد تأتي كلمة أمة بمعنى التساوي والتشابه في الحياة والعطاء ، مثاله قوله تعالى في الاية 33 من سورة الزخرف : { وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } خوفاً على المؤمنين من الفساد والفتنة حين يرون الكفار يعيشون في الدنيا حياة الرفاهية والرغد ، وهم – على الرغم من إيمانهم – أقل منهم مستوى في الراحة والهناء والرفاهية وقد أعطى الله تعالى الكفار في هذه الدنيا الكثير من المتع العظيمة ، فهم على كفرهم وسوئهم وضلالهم - كونهم بشراً - يفعلون مع بعضهم الخير ويساعد بعضهم بعضاً فلا بد للعدل الإلهي أن يثيبهم بما فعلوه من خير في دنياهم فقط ،فليس لهم في الآخرة نصيب .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

العَرْض

عـَرَض الأمر عليه : أظهره وأبداه له ، كما في القاموس المحيط .
وللعرض ومشتقاته معان كثيرة جداً ، لا نقصدها في حديثنا هذا ، ونحن إذ نتوقف عند المعنى الذي أردناه نرجو أن نثبت في أنفسنا بعض المعاني الإيمانية ، ونسأل الله أن يهدينا سواء السبيل .

- عرض الله تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال قبل أن يعرضها على آدم عليه السلام ، والأمانة المعروضة كما قال العلماء : العبادة والطاعة لله تعالى والقيام بالفروض وأداء الواجبات ، فإن التزمنـَها وأدّينها فقد نجحن ، وإن لم يفعلن ذلك فقد فشلن وعوقبن ، فأبين ذلك وعلِمْنَ أن حمل الأمانة ثقيل لا يستطعن أداءه ، ثم عُرضت الأمانة على آدم ، وقيل له : إن أحسنت أُثبت ، وإن أسأت عوقِبْت َ ، فرضي حملها ، ولم يلبث قليلاً حتى أخلّ بها . وظلم نفسه ، يقول تعالى في الآية 72 من سورة الأحزاب :
{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} ،
فظلم الإنسان نفسه حين حمّلها الأمانة ، ثم لم يَرْعها حق رعايتها ، ومن سأل الله المعونة أعانه ، ولكنّ الغالبية الغالبة والكثرة الكاثرة من البشر ضيّعوا هذه الأمانة.

- من العرض الدال على مكانة آدم عليه السلام عند ربه سبحانه أنه تعالى :
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)} (البقرة) ،
وذلك حين استنكروا أن يخلق الله في الأرض من يفسدها ويسفك الدماء . فسألهم الله تعالى أن يخبروه بأسماء المسمّيات التي علمها آدم ، فاعترفوا بعجزهم ، وهنا أظهر الله تعالى مكانة آدم إذ أمره أن يعلمهم بعض ما علمه الله عز وجل ، { قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ... (33)} (البقرة) ففعل ذلك .

- يقف الناس يوم العرض – وكلهم يرون ويسمعون ما يجري إلا ما شاء الله تعالى أن يستره – فيستر الله تعالى المؤمنين حين تُعرض عليهم أفعالهم ، ويفضح الكافرين والمنافقين فيحاسبهم على رؤوس الخلائق . يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير الآيتين الكريمتين من سورة هود :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا أُولَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَـٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)}،
يُبَيِّن تَعَالَى حَال الْمُفترِينَ عَلَيْهِ وَفَضِيحَتهمْ فِي الدَّار الآخرة عَلَى رُءُوس الخلائق من الملائكة وَالرُّسُل والأنبياء وَسَائِر البشر والجانّ . ويقول صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْوَى يَوْم الْقِيَامَة :
إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُدْنِي المؤمن فَيَضَع عَلَيْهِ كَنَفه وَيَسْتُرهُ مِنْ النَّاس ويقرره بذنوبه وَيَقُول لَهُ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بذنوبه وَرَأَى فِي نَفْسه أنه قَدْ هَلَكَ قَالَ فإني قَدْ سَتَرْتهَا عَلَيك فِي الدنيا وَإِنِّي أغفرها لَك اليَوم ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاته . وَأَمَّا الكفار والمنافقون فَيَقُول { ... الأشهاد هؤلاء الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبّهمْ ألا لَعْنَة اللَّه عَلَى الظالمين (18)} .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث قَتَادَة .
هكذا عَرْضُ عمل المؤمن عليه وهكذا حسابُ الكافر والمنافق يفضحهم الله أمام الخلائق جميعاً.

- وقد يكون عرض العذاب بعد الموت وقبل يوم القيامة ، أي في البرزخ كما في قصة فرعون وجنده في سورة غافر في قوله تعالى :
{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}،
فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ تـُعرض عَلَى النَّار صَبَاحًا وَمَسَاء إِلَى قِيَام السَّاعَة فَإِذَا كَانَ يَوْم القيامة اجتمعت أَرْوَاحهم وَأَجْسَادهم فِي النَّار . لأن عذاب الروح والجسد أشدّه أَلَمًا وَأَعظَمه نكالاً . وهذه الآية أَصل كَبِير فِي استدلال أَهل السـّنة عَلَى عذاب البرزخ فِي القبور .

- والعرض في الآيات القرآنية الشريفة دنوّ من الشيء ، لا دخول فيه ، وهذا الدنوّ تعذيب للكافر قبل أن يُعذب ، وقد قيل : " التخويف من الضرب والعقاب والتلويح بهما أجدى -في التربية - من استعمالهما " . وقد خوّف الله الناس من عقابه في الدنيا ، فإذا جاء اليوم الآخر كان لا بد من العقاب جزاء وفاقاً لمن كفر . ومن هنا نفهم الآيات القرآنية التي وردت في عرض العذاب على الكافرين وتيئيسهم من النجاة بعد موتهم كافرين : فالمراد في قوله تعالى - والله أعلم - :
{ وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا (48)} (الكهف) ،
أَنَّ جَمِيع الخلائق يقومون بين يدي اللَّه صفاً واحدًا كَمَا قَالَ جل ثناؤه :
{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} (النبأ) ،
وَيَحْتَمِل أنهم يَقومونَ صفوفًا كَمَا قَالَ سبحانه :
{ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (الفجر) ، وقوله عز وجل :
{ ... لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... (48)} (الكهف) ،
هَذَا تقريع للمنكرين للمعاد وَتَوبِيخ لَهُم عَلَى رُءُوس الأشهاد . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا إياهم لعدم إعتقادهم أَنَّ هذا وَاقِع بهم ولا أَنَّ هذا كَائن :
{ وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (23)} (فصلت) .
وهل يستطيع أحد أن يكذب على الله أو يخفي عنه شيئاً وهو سبحانه يعلم السر وأخفى ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؟ لا ، لا، فالله تعالى هو العليم بكل شيء، الخبير بكل ما خلقه . اقرأ معي بتمعن قوله تعالى في سورة الحاقّة :
{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18)} ،
فالخافية لا تخفى على الله ، أليس هو سبحانه الذي يقول في سورة الأنعام :
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)} ؟

سبحانه من إله عظيم لا تخفى عليه خافية ، ولا يضيع منه شيء .


- وانظر معي إلى الموقف الرهيب في ظهور النار لهم قبل أن يدخلوها ، وهم خائفون أن يُلقـَوا فيها – وسيُلقـَون فيها – فترتعد فرائصهم ويخافون النظر إليها ، وهم يعلمون أنهم وقودها – والعياذ بالله أن نكون من أهلها – وينظرون إليها بطرف أعينهم يستفظعون المصير الذي لا بد أن يصيروا إليه ، في سورة الشورى { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ... (45)} ، { فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ (14)} (الليل)، ترسل لهيبها نحوهم ، وتُسمعهم زفيرها ، وتتراءى لهم متشفـّية متوعّدة ، وهم لا يجرؤون على النظر إليها ، ويخافون أن يُلقوا فيها بين لحظة وأخرى .. لحظات عصيبة تقطع الأنفاس وتحرق المشاعر . واقرأ في سورة الكهف { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} فجاء المصدر المؤكد يبرز جهنم رأي العين كما قال ابن كثير : لِيَرَوا مَا فِيهَا مِن العَذَاب وَالنَّكَال قَبل دخولها ليكون ذلك أبلغَ فِي تعجِيل الهَمّ وَالحَزَن لَهم . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ :
يُؤْتَى بجَهَنَّمَ يَومَئذٍ لها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ، مع كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها ، ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ : { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنهمْ فِي غِطَاء عَنْ ذِكْرِي ...(101)} (الكهف) ، فتغافَلوا وَتعَامَوا وَتَصَامَمُوا عَنْ قَبُول الهدى واتباع الحق .

- وفي سورة الأحقاف الآيتان (20) و (34) تبدءان بداية واحدة بجملة واحدة : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ... } وكانت الثانية نتيجة وتتويجاً للأولى ففي الأولى يقول تعالى موبخاً الكافرين الذين رضوا بالحياة الدنيا على الآخرة ، واستكبروا على الإيمان وأهله ففجروا وفسقوا : { ... أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} ، فما عذاب الهون يا رب ؟ وإلى أين مصير هؤلاء المستكبرين الذي فضلوا الدنيا على الآخرة ؟ يأتي التوبيخ أولاً فقد كفروا بالحق الذي جاءهم به الأنبياء والدعاة . ويقرون بخطئهم ، ويندمون ، ولات ساعة مندم . ويقرون بالحقيقة التي كانت تنفعهم في الدنيا لو أقرّوها ، أما حين يعاينون الأمر ويرونه رأي العين وهم بين يدي الله تعالى فلا فائدة ، لقد أضاعوا الفرصة الذهبية التي لا يمكن أن تُعوّض . ثم يأتي العذاب الأليم جزاء وفاقاً بقوله سبحانه : { ... أَلَيْسَ هَـٰذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (34)} .

- أما قوله تعالى في سورة ( ص) : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)} ، في معرض قصة سيدنا سليمان فقد أفسدت الروايات الإسرائيلية معناها الجهادي الرائع ، وأساءوا إلى سليمان كما أساءوا إلى أبيه داوود عليهما السلام – وهما عند اليهود ملِكان وليسا نبيين – فتفسير القصة كما يلي :
إنه مجاهد في سبيل الله تعالى يحب كل ما يعينه على القتال في سبيله وإعلاء رايته . ومن ذلك أنه يحب الخيول الأصيلة – سلاح الفرسان ، وهي القوة الضاربة في قتال العدو ، فأمر أن تعرض عليه الخيول ليستمتع بها ويطمئن إليها ، فعرضت أمامه وهو يتابعها شغوفاً بها حتى غابت عنه { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)} فلم يبرد شوقه لها ، فأمر أن يعيدوها إليه ، ثم نزل إلى ساحة العرض يتلمّس الخيول ويمسح أعناقها وسوقها ، ويتحبب إليها ، والمقصود بقوله تعالى : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي .. (32)} أن حبه للخيل صادر عن أمر الله تعالى . وهذا هو المعنى الحقيقي لهذه الآية .أما الرواية الإسرائيلية فتدليس واستخفاف بعقول الناس لأسباب عدة هي :
أ - إن التأويل عادة يتبع الكلام الذي بين أيدينا ، فما التي توارت بالحجاب ؟ إنها الخيول التي غابت عن ناظريه إذ مرت أمامه وهو يستعرضها حتى غابت عن عينيه ، لا الشمس التي تعسفتها التأويلات الإسرائيلية ، إذ قالوا : أنه انشغل بالخيول حتى غابت الشمس ففاتته صلاة العصر .

ب – إن سليمان عليه السلام شعر أنه لم يفِ الخيول حقها بالاستعراض السريع ، فأمر أن يردوها إليه ليلمسها بيديه ويكرمها بالتربيت على أعناقها وسوقها ، لأنه لو جاز أن يكون الضمير في { تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } عائداً على الشمس لوجب أن يكون الضمير في { رُدُّوهَا عَلَيَّ ...(33)} عائداً على الشمس نفسها ، أما القفز هنا وهناك للوصول إلى الشمس فلا يليق بنص رزين ، ناهيك عن كتاب الله الكريم .

ج – وهل تتصور عاقلاً كان يَعُد ماله ، فانشغل به حتى ضيع صلاته ، فأحرق المال يعاقب بذلك نفسه؟! فإذا كان ما يفعله سفهاً وطيشاً فالنبي سليمان منزه عن قطع أعناق الخيول وسـُوقها لأنها – على زعم الإسرائيليات – شغلته عن الصلاة !! ما ذنب الخيول المسكينة لتذبح وتقتل ، والخطأ ليس خطأَها ؟!

- روت السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بعض صلاته : اللهم حاسبني حسابا يسيرا ،
قلت : يا نبي الله ! ما الحساب اليسير ؟
قال : أن ينظر في كتابه ، فيتجاوز عنه ؛ إنه من نوقش الحساب يومئذ يا عائشة هلك .

اللهم ؛ إن تَعرض علينا أعمالنا فارفق بنا وتجاوز عن سيئاتنا ، وارحمنا يوم العرض عليك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الكرماء .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
الوفاة*

التفت إليّ أحد المصلين بعد انتهائنا من أداء صلاة الفجر – وكان رجلاً من عوام الناس – يقول متلهفاً : فاجأني جاري النصراني أمس بسؤال لا أعرف جوابه ، حين قال : كيف تقولون – معشر المسلمين – إن عيسى حيّ في السماء عند ربه ، والقرآن يعلن أنه ميت ؟ وقرأ علي قوله تعالى في سورة آل عمران :

{ إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)} ، وما دمنا أتباعه – كما يقول النصراني - فنحن ظاهرون فوقكم إلى يوم القيامة ، وأنتم الكافرون . إن الآية في قرآنكم تقول هذا .

ونظر صاحبي إليّ متحسراً متألماً قائلاً : لم أستطع الرد ، فأنا لا أعرف إلا أساسيات الدين ، وإيماني بالله راسخ ، لكنني أجهل كثيراً من الأحكام والمعاني الإسلامية .

قلت يا أخي ؛ أحسنت صنعاً حين سألتني فلم تترك للشيطان مسرباً يصل منه إليك ،

فأولا : لا يكون الرسوخ في الشيء إلا بالعلم به علماً تاماً يمنع الشك أن يأتيه . ويطرد الشيطان وأعوانه أن ينفذ إليك بأسئلة ومعانٍ تثير الشكوك والشبهات ،

وثانياً : فنحن أتباع عيسى الحقيقيون ، فهو عليه السلام يعلن بملء فيه أنه عبد لله ، وبشر رسول وكما قال سبحانه :

{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) ...} ،

وهم يؤلهونه ويفترون عليه وعلى أمه حين يجعلونه إلهاً وابن إله ، ويجعلون أمه مريم زوجة الإله – سبحان الله أن يكون له وزجة أو ولد ـ قال عز وجل : { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} (الجن) ،

وثالثاً : فعودتنا إلى ديننا والتزامنا به يجعلنا سادة البشر ، وما استعلاء النصارى وغيرهم إلا ببعدنا عن هدي الإسلام وشرعته .

ورابعاً : فالوفاة لا تعني الموت إلا بقرينة تؤكده .


المعنى اللغوي لكلمة توفـّاه الله :

استوفى مدته التي كتبها له ، عدد أيامه وشهوره وأعوامه في الدنيا . وفي القرآن آيات تدل على أن الوفاة غيرُ الموت إلا بقرينة – كما ذكرنا قبل قليل – وسنأتي ببراهين كثيرة وأدلة توضح المعنى وتوثـّقه .

ـ ففي قوله جل ثناؤه في سورة الأنعام : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60)} فالنوم كل ليلة غيبة مؤقتة تستريح الروح فيها لتعاود النفس نشاطها في النهار ، يقبض فيها الروح ثم يبعثها إلى اكتمال الأجل . إن الوفاة هنا - إذاً- غيبة للروح مؤقتة تعود حين يستيقظ المرء .

ـ وفي قوله تقدست أسماؤه في سورة الزمر :

{ اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} ففي الحالتين – الموت والنوم - قبض للروح ووفاة ( استيفاء ) وللموت أجل معدود . يقول ابن منظور في معجمه لسان العرب : " وأما توفي النائم فهو استيفاء وقت عقله وتمييزه إلى أنْ نام .

وعلى هذا نفهم الآية التي لوى النصراني معناها ، وفسرها كما يريد ، نفهمها بلغة العرب التي نزل القرآن بها أنه قبْضٌ دون موت . ولا بد من ملاحظة قوله تعالى : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد أنقذه الله تعالى حين رفعه إلى السماء إذ دخل اليهود عليه يريدون قتله ، فنجّاه الله منهم . إن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يمت وهو في السماء ، دليل ذلك أسماءُ الفاعلين : ( رَافِعُكَ ، مُطَهِّرُكَ ، جَاعِلُ ) المضافة إلى الضمير الكاف للدلالة على الاستمرارية حين ينزل إلى الأرض ويقاتل المشركين ويكسر الصليب ويقتل الخنزير كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة :

ليهبطن الله عيسى بن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا ، يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، حتى لا يجد من يأخذه ، وليسلكن الروحاء حاجا أو معتمرا ، أو ليثنـّيـَنّ بهما جميعا " ويحكم بالإسلام ويحج بيت الله الحرام ويعتمر.

وتكون الوفاة موتاً بقرائن دالة عليه ، في القرآن الكريم أمثلة كثيرة نذكر بعضها :

1 - قوله سبحانه في سورة النساء :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ... (97)} ؟... والقرينة هنا حديث الملائكة مع الكفار الذين ظلموا أنفسهم وماتوا وهم كافرون ، فلا تكلم الملائكة البشر ولا سيما الكفار إلا بعد الموت ....

2 - قوله عز وجلّ في سورة الأنعام :
{ ... حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)}
فالقرينة هنا الموت نفسه ، والملائكة التي تقبض الأرواح .

3 - قوله جل ثناؤه في سورة يوسف :
{ ... تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}

فالقرينة في هذه الآية الرغبة في الموت على الإسلام وأن يلحق يوسف عليه السلام يالأنبياء قبله على ملتهم ودينهم .

4 - قوله تقدست أسماؤه في سورة الحج :
{ ... وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ... (5)}
فالدليل على أن الوفاة هنا موت أن البعض تطول أعمارهم حتى يصيبهم الخرف .

5 - وقوله تعالى في الآيات 27- 32 من سورة النحل ففيها تصوير بديع مخيف في استقبال زبانية العذاب للمشركين الذين ظلموا أنفسهم في جهنم مع التوبيخ والسخرية ، وتصوير بديع مفرح لاستقبال الملائكة مَن آمن استقبالاً طيباً فيدخلونهم الجنة معززين مكرمين :
{ .. إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ۚ بَلَىٰ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَـٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّـهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} .

نسأل الله أن يكتبنا في عباده الطيبين الذين يكرمهم في الفردوس وجنات النعيم .

6 - وقوله سبحانه في سورة البقرة في عدة الأرامل ، ولا تكون المرأة إرملة إلا حين يموت زوجها وتجب عليها العدة :
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ... (234)} .

وتُذكر كلمة الموت حين لا تكون قرينة دالة عليه ، والدليل على ذلك :

1 - قوله عز وجلّ في سورة سبأ حول حادثة موت سيدنا سليمان عليه السلام :
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ... (14)}
ولم يقل : فلما قضينا عليه الوفاة .. ما دلهم على وفاته ،

2 - وقوله جل ثناؤه في سورة الزمر :
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)}
حين أخبرنا أنه لا بد من الموت ، وأن كل نفس ستذوقه , ولم يقل إنك متوفّى وإنهم متوفـَّون .

3 - في أواخر سورة المائدة تصوير لحوار جرى بين صاحب العزة سبحانه وبين عيسى عليه السلام يسمعه الخلائق كلها تثبيتاً لوحدانية الله وتبرئة لعيسى عليه السلام من دعوى الألوهية له ولأمه ، قال تقدست أسماؤه :
{ وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} .
وذكرت كلمة { تَوَفَّيْتَنِي } لأن الحديث عن الزمن الذي كان فيه عيسى في السماء قبل أن ينزل على الأرض ، وبمعنى آخر لم يكن قد مات بل كان حياً في السماء ، وما يموت إلا بعد نزوله إلى الرض ، ومحاربته الدجال ، وقتله في باب لد ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( ... أنه إذا خرج مسيح الضلالة الأعور الكذاب نزل عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ، واضعا يديه على منكبي ملكين ، فإذا رآه الدجال انماع كما ينماع الملح في الماء ، فيدركه فيقتله بالحربة عند باب لد الشرقي على بضع عشرة خطوات منه )
من موقع الدرر السنية ( الحديث صحيح )

والأمثلة كثيرة يمكن الرجوع إليها والاستيثاق منها ... والله أعلم .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
{ الْبَلَاء }

قال تعالى في سورة الصافات : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} .
قال ابن منظور في لسان العرب : بلوت الرجل بَلْواً وبلاء ، وابتليته : اختبرته . وكذلك قال الفيروزآبادي في قاموسه المحيط .
نجد هذا المعنى في قوله تعالى في سورة القلم :
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)} ،
فاختبرهم الله تعالى بعد موت أبيهم الصالح . ونراه في قوله سبحانه في سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) :
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} .
وقد تأتي هذه الكلمة في القرآن الكريم تتضمن معاني أخرى بالإضافة إلى المعنى الأصيل فيها (الاختبار) فيها تفصيل وتنويع وتوضيح . من ذلك :

- أن الابتلاء يكون بالخير والشر كما في قوله عز وجلّ في سورة الأنبياء :
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}
قال ابن كثير في تفسيره : نختبركم بِالْمَصَائِبِ تَارَة وَبِالنِّعَمِ أُخْرَى فَنَنْظُر مَنْ يَشْكُر وَمَنْ يَكْفُر وَمَنْ يَصْبِر وَمَنْ يقنط كَمَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : نبلوكم بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاء وَالصِّحَّة وَالسَّقَم وَالْغِنَى والفقر والحلال وَالْحَرَام وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة وَالْهُدَى والضلال فإذا رجعتم إلينا – يوم القيامة - جازيناكم بأعمالكم .
وكذلك في قوله جل ثناؤه في سورة الأعراف :
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}
والرجوع هنا التوبةُ والإقلاعُ عن الذنب والاستغفار .

- ومن فضل الله تعالى علينا أنه حين يختبرنا يحملنا ما نطيقه . يدل على ذلك قوله في سورة البقرة :
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}
والابتلاء القليل ينبه برفق ولا يصيب صاحبه بالفزع ، فإن كان الابتلاء شديداً كما في قوله سبحانه في سورة النحل :
{ وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)}
فإنه يفزع القلب ويضيّع العقل وهو علامة الهلاك والدمار .وليس للإنسان طاقة بذلك ، أذاق الله الكفار من أهل مكة لباس الجوع حين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم واِسْتَعْصَوْا عليه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَوْا إلا خلافه فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُف ، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَة أَذْهَبَتْ كُلّ شَيْء لَهُمْ ، فَأَكَلُوا وَبَر الْبَعِير يُخْلَط بِدَمِهِ إِذَا نَحَرُوهُ وخافوا لأنهم بُدِّلُوا بِأَمْنِهِمْ خَوْفًا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه حِين قاتلهم ونصره الله عليهم .

- ويكون الابتلاء بمعنى العلم والمعرفة كما في قوله عز وجلّ في سورة الطارق :
{ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} ،
تُبلى يَوْم الْقِيَامَة فيظْهَر ما كان الإنسان يخفيه من سر ويبقى السِّرّ علانية والمكنون مشهوراً ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
يُرْفَع لكل غَادِر لِوَاء عند اِسْته يُقَال : هذه غَدْرَة فلان ابن فلان .
ومثلها قوله تقدست أسماؤه في سورة يونس :
{ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ۚ وَرُدُّوا إِلَى اللَّـهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۖ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)}
فتعلم ما سلف من عملها ، ألا يقول جل ثناؤه في سورة القيامة :
{ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} ، فالصحف تنشر كما بقوله تعالى في سورة التكوير :
{ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)} ، كما يقول سبحانه في سورة الإسراء :
{ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} ...
وفي قوله عز وجلّ في سورة آل عمران :
{ ... وَلِيَبْتَلِيَ اللَّـهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}
إظهار المخبوء إلى العلن وكشفه للجميع في ذلك اليوم العصيب .
نسأل الله العافية وحسن الختام .

- وقد يكون في الابتلاء- وقد : هذه للتحقيق- إظهار فضل الله تعالى على المسلمين ، يقول عز من قائل في سورة الأنفال :
{ ... فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} ، وقد قال تقدست أسماؤه في سورة آل عمران :
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)}،
فكان نصره إياهم فضلاً عميماً ، فالله هو الْمَحْمُود عَلَى جَمِيع مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ خَيْر في معركة بدر
ولم يكن ذلك النصر بحول المسلمين وقوتهم ، فقد كانوا قليلين ضعافاً ، وَإِنَّمَا النَّصْر مِنْ عِنْده تَعَالَى ،
روى ابن عباس أن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يَدَيْهِ يَوْم بَدْر فَقَالَ : يَا رَبّ إن تهلك هَذِهِ الْعِصَابَة فَلَنْ تُعْبَد فِي الأرض أَبَدًا فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل خُذْ قَبْضَة مِنْ التُّرَاب فَارْمِ بِهَا فِي وُجُوههمْ فَأَخَذَ قَبْضَة مِنْ التُّرَاب فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوههمْ فَمَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَحَد إلا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمَنْخِرَيْهِ وَفَمَه تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَة فَوَلَّوْا مدبرين ، ثُمَّ رَدَفَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ يقتلونهم ويأسرونهم ، فعرّف الله تعالى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَته عَلَيْهِمْ مِنْ إِظْهَارهمْ عَلَى عَدُوّهُمْ مَعَ كَثرَة عَدُوّهُمْ وَقِلَّة عَدَدهمْ لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ حَقَّهُ وَيَشْكُرُوا بِذَلِكَ نِعْمَته

- ويأتي مع البلاء إسعاد المسلمين ورفع درجاتهم ، فيكون فيه الخير الكثير مما يحفزهم إلى الاجتهاد في البلاء والصبر والتحمل ، يقول الله تعالى في سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) :
{ ... وَلَوْ يَشَاءُ اللَّـهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ...(4)} ،
ففي قتال العدو محامد كثيرة منها الشعور بالعزة والنصر وشفاء قلوب المؤمنين وراحة النفس، قال سبحانه :
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)} ،
وهذه سعادة ما بعدها سعادة نرجو الله أن يحققها فينا فنرى في عدونا ما تقر به العيون . هذا في الدنيا أما الشهيد فله في الآخرة ست خصال : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويُرى مقعده من الجنة ، ويُحَلّى حلة الإيمان ، ويُزَوّج من الحور العِين ، وَيُجَار مِنْ عَذَاب القبر ، وَيَأْمَن مِن الْفَزَع الأكبر، وَيُوضَع عَلَى رَأْسه تَاج الْوَقَار مرصع بالدر والياقوت ، الياقوتة خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زَوْجَة مِن الحُور الْعِين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ وَابْن مَاجَهْ .

,,,,,,,,,,,,,,,,,,
 

{ سَلَكَ } ومشتقاتها

يقول ابن منظور – رحمه الله - في معجمه لسان العرب : سلكت الشيء في الشيء ، فانسلك أي أدخلته فيه فدخل ، وسلَكتُه وأسلكته بمعنى واحد – يقصد أنهما متعديان لمفعول – ويقول قاصداً السرعة والدقة في إيجاد المدخل : السّلْك : إدخال شيء تسلكه فيه كما تطعن الطاعن فتسلك الرمح فيه إذا طعنتَه تلقاء وجهه على سجيحته ( سجيته السهلة ) . ولا يكون الطعن إلا سريعاً ينفذ إلى الداخل بقوة ودقة . وعلى هذا فرجل مُسـَلّك : نحيف . والنحافة تسهل عملية السلْك .

وجاء الفعل { سَلَكَ } بمشتقاته إحدى عشرة مرة تحمل هذه المعاني المتشابهة :


- ففي قوله تعالى في سورة المدثـّر : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر (42)} ، تسأل الملائكة المشركين سبب دخولهم النار ، : وَقِيلَ : إِنَّ المؤمنين يَسْأَلُونَ الملائكة عَن أَقْرِبَائِهِم , فَتَسْأَل الملائكةُ الْمُشْرِكِينَ فيقولون لهم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر } فأدخلكم فيها ؟ وهذا المعنى واضح في الآيات السابقة لهذه الآية حيث يسأل المؤمنون – وهم في الجنة يتنعمون – الكفارَ في النار :
{ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} ،فيجيبونهم بأمرين اثنين كانوا يجتنبونهما :
{ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} ففي أولهما استنكفوا عن عبادة الله تعالى ، وفي ثانيهما لم يكونوا يحسنون إلى عباده . ويجيبونهم بأمرين اثنين آخرين كانوا يخوضون فيهما : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} . أما خوضهم فكان في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اتهموه بالسحر والكهانة والكذب والشعر .وكانوا تبعاً لعتاة المكذبين الضالين . أما المصيبة الأخيرة قاصمة الظهر فكانت في كفرهم بالله وإنكارهم اليوم الآخر .

وأما قوله سبحانه في سورة الشعراء :
{ كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)} ،

فقد أدخل الله عز وجلّ الشرك في قلوبهم لأنهم طلبوه كما في قوله عز وجلّ في سورة مريم :
{ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ مَدًّا ... (75)} [مريم] وقوله جل ثناؤه في سورة الإسراء :

{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18)} ،
فهم – المشركين – لا يؤمنون حتى يقعوا في الواقعة التي لا خلاص منها . ونجد المعنى نفسه في قوله تقدست أسماؤه في سورة الحجر :
{ كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)} ،

فيكذبون بالقرآن العظيم والرسول الكريم ، فيعاقبهم الله تعالى بإدخال الكفر في قلوبهم ليكونوا من أهل النار ، والعياذ بالله أن نكون من أهلها .

ونجد في سورة الجن المعنى نفسه إذ يقول الله تعالى :
{ ... وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} ،

والعذاب الصعد : المشقة التي لا راحة فيها . بل تزداد وتيرته وتتصاعد .
قال القرطبي " يُكَلَّف الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة أَنْ يَصْعَد جبلاً فِي النَّار مِنْ صَخْرَة مَلْسَاء , يُجذب مَن أَمَامه بسلاسل , وَيضرِب مَنْ خَلفه بِمَقَامِع حَتَّى يبلُغ أعلاها , ولا يبلغ فِي أَربعِينَ سَنَة . فَإِذَا بَلَغَ أعلاها أُحدِرَ إِلَى أَسْفَلهَا , ثم يُكَلَّف أَيْضًا صُعُودهَا , فَذَلِكَ دَأْبه أَبَدًا , وَهُوَ قَوْله عز من قائل : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} [الْمُدَّثِّر].


أما قوله سبحانه في سورة الحاقة يصف عذاب المشركين الكافرين :
{ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} .

فمخيف ٌوالله ومخـْزٍ إذ تـُدخَل السلسلة مِنْ فِيهِ وَتـُخرَج مِنْ دُبُره , فَيُنَادِي أَصْحَابه هَلْ تعرفونني ؟ فيقولون : لا , وَلَكِنْ قد نرى مَا بِك مِنْ الخِزْي فَمَنْ أَنْتَ ؟ فَيُنَادِي أَصْحَابَهُ أَنَا فلان بن فلان , لِكُلِّ إِنْسَان منكم مثل هَذا . ولعل هذا التفسير أَصَحّ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الآية , يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله عز وجلّ :
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ... (71)} [الإسراء] .


وأود أن أؤكد أن " السلك " في هذه الايات إدخال الشيء في شيء بعد إيجاد مسلك له لم يكن موجوداً من قبل وبهذا يكون الألم الشديد نسأل الله العافية .

- أما قوله تعالى في سورة الجن :
{ إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} ،

فالمعنى كما قالت العلماء : رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : لَمَّا تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ الْغَيْب واستأثر من البشر من يرضاهم رسله ، وخاب من أشرك به , كَانَ فِيهِ دلِيل عَلَى أَنَّهُ لا يَعلَم الْغَيب أَحدٌ سِوَاهُ , ثمَّ استثنى مَن ارتضاه من الرسل , فَأودعهم مَا شَاءَ مِنْ غَيبه بِطَرِيقِ الْوَحي إِلَيهِم , وَجَعَلَهُ مُعْجِزَة لَهم ودلالة صَادِقَة عَلَى نُبُوَّتهمْ . أما المنجّمون أمثالهم مِمَّنْ يَضْرِب بِالْحَصَى وَيَنْظُر فِي الْكُتُب وَيَزْجُر بِالطَّيْرِ مِمَّن اِرْتَضَاهُ مِنْ رَسُول فَيُطْلِعهُ عَلَى مَا يَشَاء مِنْ غَيْبه , بَلْ هُوَ كَافِر بِاَللَّهِ مُفترٍ عليه بحَدْسِهِ وَتَخمِينه وَكَذِبه . ثم سلك الله ملائكة يَحْفَظُونَهُ عَنْ أَن يقرب مِنهُ شَيْطَان ; فَيَحْفَظ الوَحي مِنْ اِسْتِرَاق الشَّياطِين والإلقاء إِلَى الْكَهَنَة . قَالَ الضَّحَّاك : مَا بَعَثَ اللَّه نَبِيًّا إلاّ وَمَعَهُ ملائكة يَحْرُسُونَهُ مِنْ الشياطين عَنْ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِصُورَةِ الْمَلَك , فَإِذَا جَاءَهُ شَيْطَان فِي صُورَة الْمَلَك قَالُوا : هَذَا شَيْطَان فَاحْذرْهُ . وَإِنْ جَاءَهُ الْمَلَك قَالُوا : هَذَا رَسُول رَبّك. وَقَالَ اِبن عَبَّاس: { رَصَدًا } هم حَفَظَة يَحْفَظُونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمَامه وَوَرَائِهِ مِنْ الْجنّ والشياطين . قَالَ قَتَادَة وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب : هُمْ أَرْبَعَة مِنْ الملائكة حَفَظَة .

ونلحظ بالسلك هنا الإحاطة والحراسة والصون .

- ونرى في قوله عز وجلّ في سورة طه :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا ... (53)} ،

فجعل الله تعالى الأرض قراراً تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا وَتَقُومُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهَا وتسافرون على ظهرها وَسَلَكَ لكم فِيهَا سُبُلا أَيْ و طُرُقًا تَمْشُونَ فِي مَنَاكِبهَا كَمَا قَالَ تقدست أسماؤه :
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)} [الأنبياء] ،

ونلحظ " بالسلك " التنظيم والترتيب ودقة الصنع . يقول القرطبي " هي الطُرُق . نَظِيره قوله جلّ وعلا :
{ وَاَللَّه جَعَلَ لَكُمْ الأرض بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا (20)} [نوح]

، والفج : المسلك بين جبلين .

- وقوله تعالى في سورة القصص :
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... (32)} ،

نرى السهولة واليسر في الإدخال والإخراج ، قال القرطبي " إِذَا أَدخَلْت يَدك فِي جَيب دِرْعك ، ثمَّ أَخرَجتهَا فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر فِي لَمَعَان البرق مِن غير بَرَص " وقال الحسن البصري " لما خرجت يده كأنها المصباح أيقن مُوسَى أَنـّه لَقِيَ رَبّه. "

- كما نجد رحمة الله في الاحتفاظ بالماء العذب النازل من السماء في تجاويف الأرض . يقول الله سبحانه :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ .. (21)} [الزمر] ، فالماء من السماء ابتداءً كما في قوله عز وجلّ :

{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا ... (9)} [ق] ،
فَإِذَا أَنْزَلَ الْمَاء مِنْ السَّمَاء كَمَنَ فِي الأرض ثمَّ يَصْرِفهُ تَعَالَى فِي أجزائها كَمَا يَشَاء ، وَيُنْبِعهُ عُيُونًا مَا بَيْن صِغَار وَكِبَار بِحَسَبِ الْحَاجَة إِلَيْهَا . فهذا الإدخال سهل ميسر يُحفظ بأمر الله في الخزانات الأرضية التي جُهزت للاحتفاظ بالماء في بحار عذبة في تجاويف الأرض .

- أَذِنَ الله تعالى للنحل بقوله : { ... فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ... (69)} [النحل] إِذْنًا قَدَريًّا تَسْخِيريًا أَنْ تأكل من كل الثمَرَات وَأَنْ تسلك الطُّرُق الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى مُذَلَّلَة لَهَا ومُسَهَّلَة عليها حيث شاءت مِنْ هَذَا الْجَوّ الْعَظِيم وَالْبَرَارِيّ الشاسعة وَالأودية وَالْجبال الشاهقة ثمَّ تَعُود كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا إِلَى بَيْتهَا لا تَحيد عنه يَمْنَة ولا يَسرة بَل إِلَى بَيْتهَا وَمَا لَهَا فِيهِ مِنْ صغار وَعَسَل فَتَبْنِي الشَّمْع وتصنع الْعَسَل مِنْ فِيهَا وَتَبِيض الْفِرَاخ ، ثُمَّ تُصبِح إِلَى مَرَاعِيهَا . وَقَالَ قَتَادَة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا } أَيْ مُطِيعَة فجعلاه حالاً مِن السَّالكة.


ونحن ندعو الله تعالى أن يَسلكنا في عباده الصالحين ، دون حساب ولا عقاب ، وأن يسلكنا الجنة فيجعلها مأوانا ، إنه على مايشاء قدير ، وبالإجابة جدير.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{ سَلَكَ } ومشتقاتها

يقول ابن منظور – رحمه الله - في معجمه لسان العرب : سلكت الشيء في الشيء ، فانسلك أي أدخلته فيه فدخل ، وسلَكتُه وأسلكته بمعنى واحد – يقصد أنهما متعديان لمفعول – ويقول قاصداً السرعة والدقة في إيجاد المدخل : السّلْك : إدخال شيء تسلكه فيه كما تطعن الطاعن فتسلك الرمح فيه إذا طعنتَه تلقاء وجهه على سجيحته ( سجيته السهلة ) . ولا يكون الطعن إلا سريعاً ينفذ إلى الداخل بقوة ودقة . وعلى هذا فرجل مُسـَلّك : نحيف . والنحافة تسهل عملية السلْك .

وجاء الفعل { سَلَكَ } بمشتقاته إحدى عشرة مرة تحمل هذه المعاني المتشابهة :


- ففي قوله تعالى في سورة المدثـّر : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر (42)} ، تسأل الملائكة المشركين سبب دخولهم النار ، : وَقِيلَ : إِنَّ المؤمنين يَسْأَلُونَ الملائكة عَن أَقْرِبَائِهِم , فَتَسْأَل الملائكةُ الْمُشْرِكِينَ فيقولون لهم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر } فأدخلكم فيها ؟ وهذا المعنى واضح في الآيات السابقة لهذه الآية حيث يسأل المؤمنون – وهم في الجنة يتنعمون – الكفارَ في النار :
{ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} ،فيجيبونهم بأمرين اثنين كانوا يجتنبونهما :
{ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} ففي أولهما استنكفوا عن عبادة الله تعالى ، وفي ثانيهما لم يكونوا يحسنون إلى عباده . ويجيبونهم بأمرين اثنين آخرين كانوا يخوضون فيهما : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} . أما خوضهم فكان في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اتهموه بالسحر والكهانة والكذب والشعر .وكانوا تبعاً لعتاة المكذبين الضالين . أما المصيبة الأخيرة قاصمة الظهر فكانت في كفرهم بالله وإنكارهم اليوم الآخر .

وأما قوله سبحانه في سورة الشعراء :
{ كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)} ،

فقد أدخل الله عز وجلّ الشرك في قلوبهم لأنهم طلبوه كما في قوله عز وجلّ في سورة مريم :
{ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ مَدًّا ... (75)} [مريم] وقوله جل ثناؤه في سورة الإسراء :

{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18)} ،
فهم – المشركين – لا يؤمنون حتى يقعوا في الواقعة التي لا خلاص منها . ونجد المعنى نفسه في قوله تقدست أسماؤه في سورة الحجر :
{ كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)} ،

فيكذبون بالقرآن العظيم والرسول الكريم ، فيعاقبهم الله تعالى بإدخال الكفر في قلوبهم ليكونوا من أهل النار ، والعياذ بالله أن نكون من أهلها .

ونجد في سورة الجن المعنى نفسه إذ يقول الله تعالى :
{ ... وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} ،

والعذاب الصعد : المشقة التي لا راحة فيها . بل تزداد وتيرته وتتصاعد .
قال القرطبي " يُكَلَّف الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة أَنْ يَصْعَد جبلاً فِي النَّار مِنْ صَخْرَة مَلْسَاء , يُجذب مَن أَمَامه بسلاسل , وَيضرِب مَنْ خَلفه بِمَقَامِع حَتَّى يبلُغ أعلاها , ولا يبلغ فِي أَربعِينَ سَنَة . فَإِذَا بَلَغَ أعلاها أُحدِرَ إِلَى أَسْفَلهَا , ثم يُكَلَّف أَيْضًا صُعُودهَا , فَذَلِكَ دَأْبه أَبَدًا , وَهُوَ قَوْله عز من قائل : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} [الْمُدَّثِّر].


أما قوله سبحانه في سورة الحاقة يصف عذاب المشركين الكافرين :
{ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} .

فمخيف ٌوالله ومخـْزٍ إذ تـُدخَل السلسلة مِنْ فِيهِ وَتـُخرَج مِنْ دُبُره , فَيُنَادِي أَصْحَابه هَلْ تعرفونني ؟ فيقولون : لا , وَلَكِنْ قد نرى مَا بِك مِنْ الخِزْي فَمَنْ أَنْتَ ؟ فَيُنَادِي أَصْحَابَهُ أَنَا فلان بن فلان , لِكُلِّ إِنْسَان منكم مثل هَذا . ولعل هذا التفسير أَصَحّ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الآية , يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله عز وجلّ :
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ... (71)} [الإسراء] .


وأود أن أؤكد أن " السلك " في هذه الايات إدخال الشيء في شيء بعد إيجاد مسلك له لم يكن موجوداً من قبل وبهذا يكون الألم الشديد نسأل الله العافية .

- أما قوله تعالى في سورة الجن :
{ إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} ،

فالمعنى كما قالت العلماء : رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : لَمَّا تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ الْغَيْب واستأثر من البشر من يرضاهم رسله ، وخاب من أشرك به , كَانَ فِيهِ دلِيل عَلَى أَنَّهُ لا يَعلَم الْغَيب أَحدٌ سِوَاهُ , ثمَّ استثنى مَن ارتضاه من الرسل , فَأودعهم مَا شَاءَ مِنْ غَيبه بِطَرِيقِ الْوَحي إِلَيهِم , وَجَعَلَهُ مُعْجِزَة لَهم ودلالة صَادِقَة عَلَى نُبُوَّتهمْ . أما المنجّمون أمثالهم مِمَّنْ يَضْرِب بِالْحَصَى وَيَنْظُر فِي الْكُتُب وَيَزْجُر بِالطَّيْرِ مِمَّن اِرْتَضَاهُ مِنْ رَسُول فَيُطْلِعهُ عَلَى مَا يَشَاء مِنْ غَيْبه , بَلْ هُوَ كَافِر بِاَللَّهِ مُفترٍ عليه بحَدْسِهِ وَتَخمِينه وَكَذِبه . ثم سلك الله ملائكة يَحْفَظُونَهُ عَنْ أَن يقرب مِنهُ شَيْطَان ; فَيَحْفَظ الوَحي مِنْ اِسْتِرَاق الشَّياطِين والإلقاء إِلَى الْكَهَنَة . قَالَ الضَّحَّاك : مَا بَعَثَ اللَّه نَبِيًّا إلاّ وَمَعَهُ ملائكة يَحْرُسُونَهُ مِنْ الشياطين عَنْ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِصُورَةِ الْمَلَك , فَإِذَا جَاءَهُ شَيْطَان فِي صُورَة الْمَلَك قَالُوا : هَذَا شَيْطَان فَاحْذرْهُ . وَإِنْ جَاءَهُ الْمَلَك قَالُوا : هَذَا رَسُول رَبّك. وَقَالَ اِبن عَبَّاس: { رَصَدًا } هم حَفَظَة يَحْفَظُونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمَامه وَوَرَائِهِ مِنْ الْجنّ والشياطين . قَالَ قَتَادَة وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب : هُمْ أَرْبَعَة مِنْ الملائكة حَفَظَة .

ونلحظ بالسلك هنا الإحاطة والحراسة والصون .

- ونرى في قوله عز وجلّ في سورة طه :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا ... (53)} ،

فجعل الله تعالى الأرض قراراً تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا وَتَقُومُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهَا وتسافرون على ظهرها وَسَلَكَ لكم فِيهَا سُبُلا أَيْ و طُرُقًا تَمْشُونَ فِي مَنَاكِبهَا كَمَا قَالَ تقدست أسماؤه :
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)} [الأنبياء] ،

ونلحظ " بالسلك " التنظيم والترتيب ودقة الصنع . يقول القرطبي " هي الطُرُق . نَظِيره قوله جلّ وعلا :
{ وَاَللَّه جَعَلَ لَكُمْ الأرض بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا (20)} [نوح]

، والفج : المسلك بين جبلين .

- وقوله تعالى في سورة القصص :
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... (32)} ،

نرى السهولة واليسر في الإدخال والإخراج ، قال القرطبي " إِذَا أَدخَلْت يَدك فِي جَيب دِرْعك ، ثمَّ أَخرَجتهَا فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر فِي لَمَعَان البرق مِن غير بَرَص " وقال الحسن البصري " لما خرجت يده كأنها المصباح أيقن مُوسَى أَنـّه لَقِيَ رَبّه. "

- كما نجد رحمة الله في الاحتفاظ بالماء العذب النازل من السماء في تجاويف الأرض . يقول الله سبحانه :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ .. (21)} [الزمر] ، فالماء من السماء ابتداءً كما في قوله عز وجلّ :

{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا ... (9)} [ق] ،
فَإِذَا أَنْزَلَ الْمَاء مِنْ السَّمَاء كَمَنَ فِي الأرض ثمَّ يَصْرِفهُ تَعَالَى فِي أجزائها كَمَا يَشَاء ، وَيُنْبِعهُ عُيُونًا مَا بَيْن صِغَار وَكِبَار بِحَسَبِ الْحَاجَة إِلَيْهَا . فهذا الإدخال سهل ميسر يُحفظ بأمر الله في الخزانات الأرضية التي جُهزت للاحتفاظ بالماء في بحار عذبة في تجاويف الأرض .

- أَذِنَ الله تعالى للنحل بقوله : { ... فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ... (69)} [النحل] إِذْنًا قَدَريًّا تَسْخِيريًا أَنْ تأكل من كل الثمَرَات وَأَنْ تسلك الطُّرُق الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى مُذَلَّلَة لَهَا ومُسَهَّلَة عليها حيث شاءت مِنْ هَذَا الْجَوّ الْعَظِيم وَالْبَرَارِيّ الشاسعة وَالأودية وَالْجبال الشاهقة ثمَّ تَعُود كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا إِلَى بَيْتهَا لا تَحيد عنه يَمْنَة ولا يَسرة بَل إِلَى بَيْتهَا وَمَا لَهَا فِيهِ مِنْ صغار وَعَسَل فَتَبْنِي الشَّمْع وتصنع الْعَسَل مِنْ فِيهَا وَتَبِيض الْفِرَاخ ، ثُمَّ تُصبِح إِلَى مَرَاعِيهَا . وَقَالَ قَتَادَة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا } أَيْ مُطِيعَة فجعلاه حالاً مِن السَّالكة.


ونحن ندعو الله تعالى أن يَسلكنا في عباده الصالحين ، دون حساب ولا عقاب ، وأن يسلكنا الجنة فيجعلها مأوانا ، إنه على مايشاء قدير ، وبالإجابة جدير.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{ الْعَدْل }

في أَسماء الله سبحانه: العدل هو الذي لا يَمِيلُ به الهوى فيَجورَ في الحكم، وهو في الأَصل مصدر سُمِّي به ، فوُضِعَ مَوْضِعَ العادِلِ، وهو أَبلغ منه لأَنه جُعِلَ المُسَمَّى نفسُه عَدْلاً.
قال ابن منظور في معجمه لسان العرب : العدل ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم، وهو ضِدُّ الجَوْر. عَدَل الحاكِمُ في الحكم يَعْدِلُ عَدْلاً وفي صحاح اللغة : العدل :خلاف الجَوَر. يقال: عَدَلَ عليه في القضيّة فهو عادِلٌ .
وفي مقاييس اللغة : العدلُ : العين والدال واللام أصلان صحيحان، لكنَّهما متقابلان كالمتضادَّين: أحدُهما يدلُّ على استواء، والآخر يدلُّ على اعوجاج .
ونجد في القرآن الكريم كلمة { الْعَدْل } بمشتقاتها وردت ثماني وعشرين مرة أدّتْ فيها معاني عدّة . وهذا دأب العربية المطواعة التي مدحها الله تعالى في قرآنه المجيد :
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} (يوسف) ،
وقال سبحانه :
{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)} (الشعراء) .
ومن جمال لغتنا العربية أن كثيراً من كلماتها تحمل التضاد في المعنى إنْ وحدها كقولك : الجون ، السليم ، الزعيم .. أو بحروف جر توضح المعنى كقولك : ذهب إليه ، فأتاه ، وذهب عنه فقلاه . وتقول : رجعت إليه ورجعت عنه . وتقول دخلت فيه ودخلت منه ، فتولدت معان متعددة تساعد على إثراء الأفكار والمعاني، والسياحة فيها بسهولة ، والتعبير عنها بسلاسة .
وقد ورد { الْعَدْل } في الآيات الكريمة يحمل دلالات متعددة – كما ذكرنا – منها :

1 - الاستقامة والمساواة :
كقوله تعالى في سورة الشورى :
{ ... وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ... (15)} ،
فالله أمر نبيه الكريم أن يحكم بالعدل والمساواة بين الناس أحَبهم أم كرههم ، فقد قامت الدنيا على العدل والحياة الطيبة على المساواة ، أما الظلم والجور فموت وقهر . ولو قرأنا الكلمات المضيئة قبل قوله { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } وبعدها ، وهي قوله تعالى :
{ فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ }
{ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }
{ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ }
{ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ }
{ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ }
{ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ }
{ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ }
{ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ }
{ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } ،
لوجدنا الإسلام يدعو أتباعه للحياة في جو رائع من القيم التي تجعل الحياة هانئة سعيدة ، فالدعوة إلى الله أول الطريق والغاية من هذه الحياة ، وعلى الداعية أن يكون الأسوة والقدوة فيستقيم في تصرفاته على هدي ونور من الله ، ويبتعد عن الأهواء { ... وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّـهِ ... (50)} (القصص) ؟ ، والمسلم يؤمن بكل الأنبياء صلوات الله عليهم وكتبهم { ... لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ... (285)} (البقرة) ، وبذلك كانت له الإمامة للناس أجمعين ، فكان أهلاً لقيادتهم والحكم بينهم بالعدل يدعو الناس إلى عبادة الله الواحد ، فهو رب الخلق جميعاً ، وكل إنسان محاسب بما يعمل وسيلقى الله تعالى يوم القيامة فيقرره بكل شيء ، ثم يلقى جزاءه .
وعلى هذا أكد مولانا سبحانه العدلَ في الحكم في سورة النساء:
{ ... وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ... (58)} ،
ويدخل في معنى الناس المسلمُ وغيره ، فالعدل أساس الملك وهو ما دعا إليه الولى سبحانه ، فلا يُحابى مسلمٌ ولا قريبٌ ولا صديق ، فالحق أحق أن يُتّبع ، وهذا نفهمه من قوله عز وجلّ في سورة المائدة :
{ ... اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ... (8)} ،
وميزان الحكم بل الحياة كلها { التَّقْوَىٰ } وقوله تقدست أسماؤه قبلها في نفس الآية الكريمة :
{ ... وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ... } والمسلم وحده الذي يسعى لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، ولو خالف هواه فحكم لمن يكرههم ويبغضهم ويعاديهم إن إرضاء الله تعالى وإقامة الحق هو الهدف المنشود . وتاريخ المسلمين في حربهم وسلمهم يشهد لهم بذلك .

2 - الفدية والمثيل :
يوم القيامة المنعطفُ الخطير الذي نسأل الله تعالى أن ينجينا فيه من غضبه والنار ، هنالك تلهج ألسنة الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم بالدعاء ، فالخوف من العذاب والوقوع في جهنم ديدن المخلوقات كلها – نسأل الله العفو والعافية – أما الكفار والمنافقون فلا خلاص لهم مما يحذرون ، ولا مناص من الخلود في النار وهناك ، قال سبحانه في سورة المعارج :
{ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ (15)... } ،
ولن تقبل من الكافر فدية – وهو في ذلك الوقت لا يملك شيئاً فقد ترك كل ما كان يملكه في الدنيا واقتسمه الورثة ، وقد صور الله تعالى هلع الكفار من النار والرغبة في النجاة منها في آيات عدة نذكر منها آيتين كريمتين في سورة المائدة :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (37)} ،
و ذكر العدل بمعنى الفدية والمثيل فقوله عز وجلّ في سورة البقرة :
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (48)} ،
ألا ترى أن العدل الفدية والمثيل واضحان تماماً في هذه الآية ، ألا أقول لمن تزوج أخت زوجتي : (عديلي ) ؟ فهو عند الحمو مثيلي . يقول الله جل ثناؤه في عدم قبول الفداء من الكافر :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار فَلَنْ يُقْبَل مِنْ أَحَدهمْ مِلْء الأرْض ذَهَبًا وَلَوْ اِفْتَدَى بِهِ ... (91)} (آل عِمران)،
وقال عز من قائل في سورة الأنعام :
{ وَإِنْ تَعْدِل كُلّ عَدْل لا يُؤْخَذ مِنْهَا (70)} ،
على فرض أن معه ما يفتدي به نفسه فهو أمر مرفوض فقد سبق السيف العذل .

3 - الانحراف عن الحق :
نقول : عدل فيه : حكم بالحق ، وعدل عن الحق : تجاوزه فلم يحكم به . وهو الميل إلى الباطل . مثاله قول الله تعالى في فاتحة سورة الأنعام :
{ ... ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} ، فجَعَلُوا لَه شَرِيكًا وَعدلاً ، واتخذوا لَه صَاحِبَة وَوَلَدًا تَعَالَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا . قال القرطبي رحمه الله : ثم الذين كفروا يَجْعَلُونَ لله عدلاً وشريكاً وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الأشياء وحده قَالَ اِبن عَطِيَّة : فـ { ثُمَّ } دالـّة عَلَى قبح فعل الكافرين لأن المعنى : أَنَّ خَلْقه السَّمَوَات والأرض قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاته قَدْ سَطَعَتْ وَإِنْعَامه بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ ، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ كله عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ فَهَذَا كَمَا تَقُول : يَا فلان؛ أَعْطَيْتُك وَأَكْرَمْتُك وَأَحْسَنْت إِلَيْك ، ثُمَّ تَشْتُمنِي ؟! وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْف بالواو فِي هَذَا وَنَحْوه لَمْ يَلْزَم التَّوْبِيخ كَلُزُومِهِ بـ { ثمّ } ، وَاَللَّه أَعْلَم ..
ويقول تقدست أسماؤه للمنحرفين عن الحق الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى في سورة النمل :
{ ... أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} ،
فيجعلون له عِدلاً ونظيراً وهو وحده خَلَقَ تِلْكَ السَّمَوَات فِي اِرْتِفَاعهَا وَصَفَائِهَا وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنْ الْكَوَاكِب النَّيِّرَة وَالنُّجُوم الزَّاهِرَة والأفلاك الدائرة وَخَلَقَ الأرض على هيئتها وَ جَعَلَ فِيهَا مِنْ الْجِبَال وَالسُّهُول وَالْفَيَافِي وَالْقِفَار وَالزُّرُوع وَالأشْجَار وَالثِّمَار وَالْبِحَار وَالْحَيَوَان عَلَى اختلاف الأصناف والأشكال وبث فيها المناظر الخلابة والأشكال البديعة كما قال عز وجل قبله في نفس الأية : { مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرهَا ... (60)} ، ولا يقدر على ذلك إلا الْخَالِق الرَّازِق الْمُسْتَقِلّ بِذَلِكَ ، الْمُتَفَرِّد بِهِ دُون مَا سِوَاهُ مِن َالأنداد كَمَا اِعْتَرَفَ بِهِ ِ المشركون أنفسُهم ، فقد قَالَ سبحانه :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (87)} (الزخرف) ،
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)} (العنكبوت) ،
فهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِل لِجَمِيعِ ذلك وحده لا شَرِيك لَهُ ، ثم هم يعبدون مَعَهُ غَيْره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقّ أَن يُفْرَد بِالْعِبَادَةِ مَنْ هو الْمُتَفَرِّد بِالْخَلْقِ وَالرِّزْق ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { أَإِلَه مَعَ اللَّه } يُعْبَد وَقَدْ تَبَيَّنَ لكل ذِي لُبّ أَنَّه الخالق الرازق ؟ .

4 - البديل :
نجد في سورة المائدة عقوبة قتل الصيد في الحج والعمرة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} ، فمن اصطاد وخالف فعليه عقوبة يفعلها مكفرة عما فعل مناسبة للذنب الذي اقترفه ، فقد يكون هدياً أو أطعاماً لمساكين الحرم أو صدقة تناسب الخطأ الذي ارتكبه ، فكانت كلمة العدل هنا البديل المناسب كي يعلم أنه فعل ما ليس له أن يفعله .

5 - الفهم والعقل :
وهذا ما نجده في الآية السابقة التي توضح عقوبة الصائد في الحج والعمرة فالذي يحكم ويقرر حجم العقوبة وبديلها اثنان من أهل الفهم والدراية وأصحاب العقول الراجحة ، وبهذا يكون معنى { عَدْل } في هذه الآية ما يوضح صفة أهل الحل والعقد . نجد المعنى نفسه في سورة الطلاق :
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)} ،
فإذا طلق أحدهم زوجته ، فقاربت العدة على الانتهاء { فَأَمْسِكُوهُنَّ } بِأَنْ تُرَاجِعُوهُنَّ { بِمَعْرُوفٍ } مِنْ غَيْر ضِرَار { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، فاتركوهنّ حَتَّى تنقضي عدتهنّ ولا تُضارّوهنّ بِالْمُرَاجَعَةِ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ } عَلَى الْمُرَاجَعَة أَوْ الْفِرَاق ، وهذان الشاهدان ينبغي أن تتوفر فيهما التقوى والدين ويشهد الناس لهما بذلك .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
{ الضَّلَال }*

قال الجوهري في صحاحه : الضلال : ضد الرشاد .
وقال ابن منظور في لسان العرب : الضلال والضلالة ضد الهدى والرشاد . ويقول بنو تميم بكسر عين الفعل الماضي : ضلِـلت . ويقول أهل نجد بفتحها : ضلـَلت . والمضارع لكليهما أضِلّ أبعدنا الله عن الضلالة وجعلنا من أهل الهدى والرشاد .

وردت الكلمة بمشتقاتها في القرآن الكريم أكثر من ثلاث مئة وخمس وسبعين مرة ، تحمل المعنى الأساس الذي ذكرناه قبل قليل .
مثال ذلك وهو الأكثر - لأنه الأصل – قوله تعالى في سورة البقرة :
{ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)} فماذا بعد الإيمان إلا الكفر والضلال ؟! . وقوله تعالى في سورة القلم :
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)} ، وفي قوله تعالى في سورة النمل :
{ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (92)} ،
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس جميعاً لعبادة رب واحد ، ويبين للناس الطريق القويم ، ويبشرمن آمن بالخير في الدارين وينذر من تنكب الطريق بعذاب الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
ونضيف إلى هذا المعنى معاني تدور في هذا الفلك ، وتحمل بالإضافة إليها إشراقات يقتضيها سياق كل آية أو قصة ، فهيا إلى تلك المعاني التي تفتح الآفاق وتفتّق الأذهان ، في رياض لغتنا العربية الغناء .

1 - يقولون : أضللتُ الشيء إذا غيّبتُه ، وأضللت الميت إذا دفنتُه . مثاله في القرآن الكريم قوله تعالى في سورة السجدة :
{ وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (10)} ؟ ، فالكفار يستنكرون العودة يوم القيامة بعد أن تُدفن أجسادهم في الأرض وتُغَيّب فيها ، فتتحلل وتذوب . ونسوا أن الله الخالق يفعل ذلك متى شاء . وعودة الشيء أهون عليه سبحانه . والإنشاء والإعادة أمران سهلان يسيران عليه ، فهو يقول للشيء : { كُن فَيَكُونُ } .
ومثاله كذلك قوله سبحانه في سورة الأنعام :
{ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ۚ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} ،
فالمشركون يقسمون – كاذبين – أنهم لم يشركوا بالله في الدنيا ، فقد بحثوا يوم المحشر عن آلهتهم ، فلم يجدوها ، لقد غابت عنهم ومُحيتْ آثارها . بل إن العلاقات الحميمة التي كانت تجمع بعضهم ببعض في عبادتهم لأوثانهم وأصنامهم انقلبت عداوة ، ولم يروا أثراً لما كانوا يعبدون . نجد مثاله في سورة الأنعام نفسها في قوله عز وجلّ :
{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94)} .
ونجد في قوله تقدست أسماؤه في سورة طه :
{ .. لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52)} ، أن الله لا يغيب عنه شيء في السموات ولا في الأرض ، يؤكدها قوله جل ثناؤه في سورة يونس :
{ ... وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ... (61)}
ومتابعة واعية لهذا المعنى يضع بين يدينا الكثير من الآيات .


2 - من معاني { الضَّلَال } : التيه والانحراف . مثال هذا المعنى قوله تعالى في سورة المائدة : { ... وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} ،
فقد انحرفوا وأمالوا عن الحق كثيراً من أتباعم ومن وثق بهم . وفي سورة النجم ينفي الله تعالى الغواية والانحراف عن نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم :
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2)} ، والدليل على ذلك أن كلامه صواب ، وجبريل بأمر الله يسدد عمله ، قال سبحانه :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5)} .
كما أن الشيطان يُغوي الإنسان ويُميله ويحرفه عن جادة الصواب إن ركن إليه وتبعه. مثال ذلك قوله عز من قائل في سورة يس :
{ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} ؟ .

3 - وتعني كلمة { الضَّلَال } بمعنى الوقوع في المتاهة والخطأ : كقوله تعالى ينعى على الكفار تخبطهم في حديثهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولة تيئيسه من الدعوة ، والتضييق عليه ليتركها ، فوقعوا في أخطاء كبيرة :
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)} (الإسراء) وهي نفس الآية (9) من سورة الفرقان .
وهؤلاء (أصحاب الجنة) الذين خالفوا طريقة أبيهم الصالح في العطف على المساكين والإحسان إليهم - في سورة القلم - فقرروا بعد موته ان يمنعوهم الخير الذي كان فمرر الله عليها بعض جنوده فجعلوا الحديقة يباباً ، فلما ذهبوا إليها مصبحين لم يعرفوها وظنوا أنهم – أولاً أخطأوا الطريق ، ثم عرفوا بعد التأكد أنهم أخطأوا التصرف ، فندموا وتابوا إلى الله وعاهدوه سبحانه إن عفا عنهم وغفر لهم أن يكونوا أتقياء كراماً لا يقطعون أحداً من رفدهم ، قال عز وجلّ :
{ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)} .
كذلك نرى المجرمين يسخرون من ضعفاء المسلمين ويأبون أن يساعدوهم ، ويستهزئون من دعوة المصلحين لهم أن يساعدوا فقراءهم وضعفاءهم ، قال جل ثناؤه في سورة يس :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّـهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّـهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47)} ،
فما دام المستضعفون بمنزلة الأغنياء عند الله فليُعِنهم هو سبحانه ، والضعيف – بزعمهم- ليس عند الله كالغني القادر . ولهذا قالوا لنوح عليه السلام ومن جاء بعده من الأنبياء إنهم لن يؤمنوا بدعوته مادام الفقراء البسطاء معه ، قال تقدست أسماؤه في سورة الشعراء :
{ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)} ؟! .


4 - من معاني { الضَّلَال } النسيان : مثاله قول الله تعالى في آية الدّين من سورة البقرة حين يذكر شهادة المرأتين : { .. أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ... (282)} ، ولا يكون التذكير إلا للناسي .


5 - ومن معاني { الضَّلَال } الخسران وإبطال الثواب : ومن أمثلة ذلك المعنى قوله تعالى في سورة محمد :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)} ، فالكافر ليس له في الآخرة نصيب ، وكل عمل لا يقوم على أساس الإيمان ليس لصاحبه خلاق في الأمن والنجاح يوم القيامة ، وأضل أعمالهم ، أحبطها فخسروها . وعلى هذا نرى في قوله سبحانه في السورة نفسها :
{ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)} ، فقوله : { فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } : لن يحبطها ، ولن يبطل ثوابها ، بل { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } فيزيدهم من فضله وكرمه .
ومثال ذلك قوله تعالى في سورة غافر :
{ ... وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)} ، وقوله سبحانه في السورة نفسها : { ... وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)} ، فمكر الكافر وكيده في الدنيا عليه وليس له ، ودعاؤه في في الآخرة لا يُقبل ، إنه لا ينجو هناك إلا المؤمن الموحّد.
ونرى معنى الإبطال والتضييع في قوله تعالى في سورة الفيل :
{ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)} ،
فهذا أبرهة دفع جيشه لهدم الكعبة وجاء مصمماً على ذلك ، فتصدت له ولجيشه جماعات الطير تحمل في قوادمها وأفواهها سلاح الاستئصال ، فدمّرت جيشه وأهلكته .

6 - ويأتي { الضَّلَال } بمعنى الغفلة والجهل بالشيء : فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة يبحث عن الحقيقة ، فهداه الله إليها بعد غفلة عنها وجهل بها ، هذا ما نجده في قوله تعالى في سورة الضحى :
{ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7)} ، إلم يقل له في آية من سورة يوسف توضح المراد من ذلك :
{ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} ؟ " فالضلال هنا الجهل بالشيء والغفلة عنه .
ولما اتهم فرعون سيدنا موسى بالكفر حين قتل القبطي ، فقال له كما في قوله عز من قائل في سورة الشعراء:
{ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)}
، رد عليه موسى نافياً الكفر ومثبتاً الجهل والغفلة إذ ذاك كما في قوله سبحانه بعدها :
{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)} .
وحين ذكر يعقوب عليه السلام ابنه يوسف وابيضت عيناه من الحزن ، فهو كظيم قال له أبناؤه مستنكرين ذلك كما في سورة يوسف :
{ قَالُوا تَاللَّـهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} ، وسبق أن قالوا في آية أخرى معرّضين بحب أبيهم يوسف وأخاه بنيامين :
{ ... إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (8)} وكيف يكون الضلال لنبي سوى التماهي في حب الولد الصغير وشعور الكبار أن أباهم لا يوليهم انتباهه كما ينبغي !! إنهم يعرفونه نبياً ولا يقصدون بالضلال ذلك المعنى المعاكس للهدى والرشاد .

7 - وقد يأتي { الضَّلَال } بمعنى الهلاك . مثال ذلك قوله تعالى في سورة القمر :
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} ،
قال القرطبي إن الضلال هنا الهلاك لمساوقته كلمة { سُعُر } .
وفي قوله سبحانه في سورة الإسراء : { مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ... (15)} ، وقد جاءت الكلمات السابقة نفسها دون تغيير ضمن آية أخرى في سورة يونس مع إضافة حرف الفاء :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108)} } ، ومعنى { يَضِلُّ عَلَيْهَا } : يهلكها ، ويدخلها عذاب جهنم .
وفي قوله عز وجلّ في سورة النساء : { ... يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ... (207)} ، نجد معنى الهلاك واضحاً . فمن لم يتبع البينة ويعمل بها هلك . وكذلك نجده في قوله تقدست أسماؤه في سورة الكهف :
{ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (104)} ، فخاب وهلك .

8 - بقي أن نقول : إن الأصنام لا تضل الناس لأنها لا تعي ولا تعقل ، فكيف تضلهم وتبعدهم عن الطريق القويم ؟ قال تعالى في سورة إبراهيم :
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ... (36)} إنهم ضلوا وافتُتِنوا بسببها فصارت كأنها هي التي أضلتهم .
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضوالّ الإبل ، فنهاه عن أخذها ، وحذّره النار إن تعرّض لها ، ثم قال عليه الصلاة والسلام :
( مالك ولها ، معها حِداؤها وسقاؤها ، ترد الماء ، وتأكل الشجر ) ،
أراد صلى الله عليه وسلم أنها بعيدة المذهب في الأرض طويلة الظمأ ، ترد الماء والرعي دةن راع يحفظها ، فلا تتعرّض لها ، ودعها حتى يأتيها ربها .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

النظر

نجدُ في مختار الصحاح قوله : النَّظَر والنَّظَرَانُ بفتحتين : تَأَمُّل الشَّيْءِ بالعَيْن. وقد نَظَر إلى الشَّيْءِ… والنَّظَر أيضاً : الانتِظار يقال : نَظَره يَنْظُره بالضم نَظَراً. ويقال للعَين النَّاظِرة. والنَّاظِرُ الحافِظُ. والنَّظِرة بكسر الظاء التأخير. وأَنْظَرَه أَخَّرَه. واسْتَنْظَرَه اسْتَمْهَلَه. و تَنَظّره تَنَظُّراً انْتَظَره في مُهْلَةٍ.
وفي لسان العرب قوله : النَّظَر حِسُّ العين . نَظَره يَنْظُره نَظَراً ومَنْظَراً ومَنْظَرة ونَظَر إِليه وتقول نَظَرت إِلى كذا وكذا مِنْ نَظَر العين ونَظَر القلب .
ويقول القائل للمؤمَّل يرجوه إِنما نَنْظُر إِلى الله ثم إِليك أَي إِنما أَتَوَقَّع فضل الله ثم فَضْلك .
والنَّظَر تأَمُّل الشيء بالعين ، وقوله عز وجل في سورة البقرة : { وأَغرقنا آل فرعون وأَنتم تَنظُرون (50)} قال أَبو إِسحق قيل معناه وأَنتم تَرَوْنَهم يغرَقون . والنَّظَرُ الانتظار ويقال نَظَرْتُ فلاناً بمعنى انْتَظَرْتُه . و { انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } : انْتَظِرُونا .

وفي القرآن الكريم من هذه المعاني وغيرها أو مما يُشتق منها الوفر الكثير ، فهلم إلى القرآن .

من ذلك :

1 - الرؤية : في قوله تعالى :
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} (القيامة)
وهي نظرة حب وإجلال وتعظيم .
ومن الرؤية قوله سبحانه في وصف البقرة :
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)} (البقرة) ،
وفي المعنى نفسه في سورتي الأعراف والشورى :
{ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } ،
ومن الرؤية قوله عز وجل على لسان موسى عليه السلام في سورة الأعراف :
{ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ... (143)} .

2 - نظرة الخوف : في قوله تعالى في سورة التوبة :
{ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا ... (127)}
فهم يخافون أن تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم سورة تنبئه بما في قلوب المنافقين فتفضحهم ، وتفضح نفاقهم .
وكذلك في سورة الأحزاب :
{ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ... (19)}
نظر الخائف المستسلم .
وفي سورة الشورى يصور القرآن خوفهم من النار :
{ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ... (45)} ،
ونجد خوف المنافقين من القتال في سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) :
{ ... رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ (20)} .

3 - نظرة الاستسلام والخضوع : في قوله سبحانه في سورة الصافات :
{ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (19)} ،
وفي قوله عز وجلّ في سورة البقرة :
{ ... فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55)} ،
ونرى الاستسلام واضحاً في سورة الواقعة :
{ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84)} ،
ونجد مع الخوف والفزع الاستسلام حين يرون النار من طرف أعينهم ، ولا يجرؤون على النظر إليها ، ويستسلمون لمصيرهم المرعب الذي يقذفهم في النار بين لحظة وأخرى ، إنها لحظات رهيبة والله رهيبة :
{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ... (45)} (الشورى).

4 - نظرة التأمل والتدبر : في قوله جل ثناؤه في سورة الصافات يصف نظرة التفكر والتدبر :
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} ،
وكذلك نجد هذه النظرة في قوله عز من قائل في سورة الحشر :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... (18)}
والعاقل هو الذي يحسب حساب الغد الآتي . ونرى مثاله أيضاً في سورة عبس :
{ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) ... } ،
فمن تأمل وبحث وصل إلى وجود الله ووحدانيته ، وأنه سبحانه الآمر الناهي يفعل ما يشاء .
كذلك في سورة الطارق :
{ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) ... } ،
وهناك دعوات في المسير في الأرض والنظر المتأمل المتفكر في سور الحج ،ويوسف ، والروم ، وفاطر، وغافر ، ومحمد ، تبدأ بقوله تقدست أسماؤه : { أََوَلَمْ يَسِيرُوا } أو { أََفَلَمْ يَسِيرُوا } ؟ مثالها في سورة يوسف:
{ ... أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)} .

5 - نظرة المعاينة : في قوله تعالى في سورة البقرة :
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50)} ،
يرون الأمر ويشاهدونه . ونجد في سورة يونس المعاينة وتقليب الأمر :
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} ،
ونجد المعاينة للأدلة في قوله سبحانه يخاطب موسى عليه السلام :
{ ... قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي .. (143)} (الأعراف) ،
وقول سليمان عليه السلام للهدهد حين بعثه برسالته إلى مملكة سبأ وملكتها :
{ اذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} (النمل) ؟ ،
وكذلك نرى المعاينة في قوله عز وجلّ في سورة يونس :
{ قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...(101)} ،
إنها نظرات ولمسات لا يراها إلا القلب السليم .

6 - نظرة التعجب : وغالب التعجب من كفر الكافرين واستكبارهم عن الحق ،مثال ذلك في سورة الإسراء في قوله جلّ وعلا:
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)} ، فالكفار يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم تارة بالكهانة وتارة بالسحر وأخرى بالكذب ورابعة بالشعر ، وكلامهم عجيب لا ينبغي أن يصدر عن رجال يعقلون .
وفي سورة المائدة تعجب واضح من فسادهم وكفرهم :
{ ... انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (75)} ،
والتعجب من ضرب الأمثال مرة أخرى في سورة الفرقان :
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)} ،
ثم انظر متعجباً من الاستمرار على ضلالهم بعدما رأوا الآيات في سورة الأنعام :
{ ... انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)} ،
{ ... انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) .

7 - نظرة الانتظار : قوله تعالى في سورة الذاريات في نهاية ثمود قوم صالح :
{ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ (44)} ،
وَذَلِكَ أَنَّهُم اِنْتَظَرُوا العَذَاب ثلاثة أَيَّام فَجَاءَهُمْ فِي صَبِيحَة الْيَوم الرَّابِع بُكرَةَ النَّهَار. وكان انتظارهم تحدياً ، فنالوا عقاباً يستحقونه على كفرهم وعنادهم . ونجد هذا المعنى في قوله سبحانه في سورة البقرة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُواَ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} .
بعض المفسرين قالوا هي من الرؤية والانتظار والتأني كذلك . وكقوله عز وجلّ في سورة الحديد على لسان المنافقين يخاطبون المؤمنين :
{ ... انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ... (13)}
ولا نور في ذلك اليوم إلا للمؤمنين ، ونرى معنى الانتظار في قوله تقدست أسماؤه في سورة فاطر :
{ ... فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ... (43)}
وهي عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره .
ومن معنى الانتظار قوله تعالى في سورة الأحزاب :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ... (53)} ،
لا دخول إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا إجابة لدعوة أو وليمة ، ولا بأس أن ينتظر المسلمون في بيته نضج الطعام واستواءه، ثم يأكلون وينصرفون غير منتظرين ، ولا يتأخرون .

8 - نظرة الاختبار : كقوله تعالى في سورة النمل :
{ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)} ،
فسليمان عليه السلام يختبر الهدهد حين جاءه بخبر ملكة سبأ وقومها .
وكذلك نجد معنى الاختبار في السورة نفسها :
{ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)} ،
وسألها سليمان عليه السلام عن عرشها بعد أن أراها إياه وقد جاء به مَن عنده علم من الكتاب يختبر ذاكرتها وذكاءها.
ونجد اختبار الصبر والإيمان لبني إسرائيل على لسان موسى في قوله سبحانه في سورة الأعراف:
{ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} .

9 - نظرة الدهشة والانبهار : نجدها في قوله تعالى في سورة الزمر يصف المشركين حين يُنفخ في الصور :
{ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68)}
فيعلمون الحقيقة إذ ذاك ويندمون حين لا ينفع الندم . ونجد المعنى نفسه في سورة الصافات في قوله سبحانه:
{ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (19)}
وقد عقدت المفاجأة ألسنتهم ، وعلموا أنهم خسروا أنفسهم إذ كذّبوا بآيات الله .

10 - نظرة التهديد والتوبيخ : من أمثلة ذلك قوله تعالى يوبخ الكافرين الصادّين عن سبيل الله في سورة المائدة:
{ ... انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (75)} ،
وقوله سبحانه في سورة الأنعام :
{ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}
وقوله تعالى في السورة نفسها :
{ ... انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)} ،
بيان للآيات وتصريف واضح للأمور ، والكافرون صادون عن سبيل الله كافرون برسالاته . وأشد من ذلك أن الله جلّ وعلا يغضب على الكافرين غضباً شديداً والدليل على هذا في سورة آل عمران أن الجليل يخزيهم :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّـهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَـٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّـهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} .

11 - نظرة التأخير : كما في قوله تعالى في سورة الأحزاب :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ... (53)}
فلا تتأخروا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأكل .
ومن التأخير قوله تعالى في إنظار المعسر في سورة البقرة :
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}
فيؤخر الدائن المدين المعسر في السداد إلى وقت اليسر والمقدرة .

12 - نظرة البهجة والسرور :كما في قوله تعالى في سورة المطففين يصف وجوه المؤمين السعداء في الجنة:
{ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)} ،
وانظر معي إلى المؤمنين يتمتعون وبيتهجون في جنة الرحمن في السورة نفسها :
{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35)} .

13 - نظرة المعرفة واليقين بالأمر : كما في قوله تعالى في سورة النبأ :
{ ... يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ... (45)}
ويعلم علم اليقين أنه هالك لا محالة . ومن نظرة العلم واليقين كذلك قوله سبحانه في سورة البقرة :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّـهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّـهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}
والمعنى نفسه نجده في سورة الأنعام في قوله عز وجلّ :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ... (158)}
فيعلمون أن تكذيبهم للرسل وصدهم عن دعوة الحق قد أرداهم في جهنم ، فلا نجاة ولا محيص عن ذلك ... ونجد نظرة العلم واليقين في سورة الأنفال ، فبعض المسلمين لا يرغبون بالقتال وبجادلون في ذلك ، فعبر القرآن عن هذا بقوله عزّ من قائل :
{ ... كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6)} ،
ولم يكن هذا لائقاً بهم .

14 - نظرة الاحتقار للكفر وأهله : كما في قوله تعالى في سورة طه على لسان موسى عليه السلام للسامري :
{ ... وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)}
وتصور درجة الاحتقار بتحريق الإله المزعوم ونسف رماده في البحر أمام أعين عابديه ، ونجد معنى الاحتقار نفسه في قوله سبحانه يصف إغراق قوم فرعون بكلمة (النبْذ) :
{ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)} (القصص) .
{ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)}(الذاريات) .

15 - وأخيراً نظرة الاستشارة والاستئمار : كما في سورة الصافات بين إبراهيم وولده إسماعيل حين أمره الله تعالى في المنام بذبحه :
{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ... (102)} ؟ .
إنها كلمة قالها لإعلامه فقط ، ولن يأخذ برأيه إن خالف ، فأمر الله لا بد منه .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{ بَلَغَ } ومشتقاتها

يقول صاحب الصحاح في معنى بلغ : بَلَغْتَ المكان بُلوغاً: وصلت إليه، وكذلك إذا شارفتَ عليه. ومنه قوله تعالى : { فإذا بلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي قارَبْنَهُ. وبَلَغَ الغلامُ: أدرك. والإِبْلاغُ: الإيصالُ، وكذلك التَبْليغُ، والاسمُ منه البَلاغُ. والبَلاغُ أيضاً: الكفايةُ ، وبَلَّغْتُ الرسالةَ أوصلتها. وبَلَّغَ الفارسُ، إذا مَدَّ يدَه بعنان فرسه ليزيد في جَرْيه. وشيءٌ بالِغٌ، أي جيِّدٌ. وقد بَلَغَ في الجودة مَبْلَغاً. ويقال: أمرُ اللهِ بَلْغٌ بفتح الباء، أي بالِغٌ من قوله سبحانه في سورة الطلاق : { ... إنّ اللهَ بالِغٌ أَمْرُهُ ... (3)} . وقولهم: أَحْمَقُ بِلْغٌ بكسر الباء، أي هو مع حماقته يَبْلُغُ ما يريد.
والبَلاغَةُ: الفصاحةُ. وبَلُغَ الرجلُ بضم العين ، أي صار بَلِيغاً. والبَلاغاتُ، كالوشاياتِ. والبُِلَغينُ: الداهية.
وفي الحديث أن عائشة قالت لعليّ رضي الله عنهما حين أُخِذَتْ: " بَلَغْتَ مِنَّا البُِلَغينَ " . وبالَغَ فلانٌ في أمري، إذا لم يقصِّر فيه. والبُلْغَةُ: ما يُتَبَلَّغُ به من العَيش. وتَبَلَّغَ بكذا، أي اكتفَى به. وَتَبَلَّغَتْ به العِلَّةُ أي اشتدّتْ. والبالِغاءُ: الأكارعُ في لغة أهل المدينة.

وقد وردت كلمة بلغ ومشتقاتها في القرآن الكريم قريب الثمانين مرة بالمعاني التي ذكرناها وبمعان أخرى لا تبعد عنها ، وهي :

1- الدعوة إلى الله تعالى : كقوله سبحانه في سورة الأعراف :
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} ،
وقوله عز وجلّ في السورة نفسها :
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)}
ففي الآية الأولى يستمر في تقديم النصح لهم ، فهذا دأب المصلحين الذين يريدون الخير للناس جميعا ، وفي الآية الثانية يعلل ما يفعله سوى الناصح المحب الأمين في تبليغ الرسالة .
ونرى الدعوة إلى الله في سورة المائدة في قوله تعالى :
{ ... فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} ،
ثم يقول جل وعلا في السورة نفسها :
{ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ... (99)} ،
ففي الآية الأولى يستعمل أسلوب القصر ـ إنما ـ خشية أن يشكوا فيتولّوا ، وفي الثانية يستعمل أسلوب الاستثناء ليثبت عمل الرسل في البشرية . وجاءت الكلمة بهذا المعنى في القرآن كثيراً .

2 ـ قد تأتي بمعنى شبّ وصار رجلاً : كقوله تعالى يحكي عن يوسف عليه السلام في سورة يوسف :
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)} ،
وكقوله سبحانه يحكي عن موسى عليه السلام في سورة القصص :
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)} .
ونجد الاستواء في الحديث عن موسى لأنه سيتحمل الصعاب غريباً مطارداً وسيعود برسالة ثقيلة إلى فرعون الظالم ، فلا بد أن يكون قوياً متمرساً . وكقوله عز وجلّ في سورة النور :
{ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ... (59)} ،
والحُلم أول مرحلة الشباب وبناء الأسرة ، يعضد هذا قوله جل ثناؤه في سورة النساء :
{ وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ... (6)} ،
وحين يبلغ الرجل النكاح يشعر باستقلاله والرغبة في تحمل المسؤولية . فاليتيم حين يبلغ النكاح لن يعود يتيماً ، وهذا ما نراه واضحاً في قوله تعز من قائل في سورتي الأنعام والإسراء :
{ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ،
فإن شب وبلغ أشده كان أهلاً لتحمل مسؤولية أسرته التي نشأ فيها وليكوّن أسرة تخصه .
والعبد الصالح في سورة الكهف أقام الجدار بأمر الله جل وعلا :
{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ... (82)} .

3 ـ وقد تكون بمعنى الكمال الإنساني : كقوله تعالى في سورة الأحقاف يحكي قصة المؤمن السويّ الذي بلغ سن الأربعين :
{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)} ،
وقد بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم في سن الأربعين وهو سن الكمال البشري .
والدعاء نفسه دعا به سليمان عليه السلام حين سمع قول النملة تحذر قومها من جيشه في سورة النمل :
{ ... وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)} .
تأتي الكلمة كذلك بمعنى التمام والكمال في قوله سبحانه في سورة الأنعام :
{ قُلْ فَلِلَّـهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ... (149)} الكاملة التامة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .

4 ـ وتأتي هذه الكلمة بمعنى الهرم والضعف : كقوله تعالى في سورة آل عمران حكاية على لسان زكريا عليه السلام :
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ... (40)} ؟!
فهو يستغرب أن تحمل زوجته منه وهي عقيم ، وقد صارت عجوزاً وسبقها هو بالضعف وكبر السنّ .
والمعنى نفسه نجده في سورة مريم :
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)} .
ونجد هذا المعنى في سورة الإسراء يرشدنا ربنا تبارك وتعالى إلى توقير الوالدين والرحمة بهما :
{ ... إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)}

5 ـ وتأتي الكلمة ـ بَلَغَ ـ بمعنى التحدي : مثال ذلك في قوله تعالى في سورة الإسراء منبهاً كل من تكبر وتجبر وتعالى على البشر :
{ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)}
فعلام هذه الغطرسة وهذا التفاخر الكاذب؟! ونجد ذلك في قوله سبحانه في سورة الرعد :
{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)}
فإذا كانت الآلهة المزعومة لا تنفع غيرها بله أن تنفع نفسها فلم يعبدها هؤلاء المغفّلون ؟..
ونجد التهديد ظاهراً في الإنذار الدعوي في كثير من الآيات نذكر بعضها في قوله عز وجلّ في سورة آل عمران :
{ ... وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)} ، وفي سورة إبراهيم :
{ هَـٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ ... (52)} ، وفي سورة الشورى :
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ... (48)} ،
فمن لم يستجب للدعوة فقد أساء لنفسه ، وقد أعذر من أنذر .
ونجد ذلك واضحاً في قوله عز من قائل في سورة النساء يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدد الكافرين :
{ ... فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)} .
ونجد ذلك في التقرير الإلهي الذي يجزي المؤمن المتوكل عليه خير الجزاء ، في سورة الطلاق :
{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّـهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} ،
ومن يقف أمام أمر الله وإرادته وقوته – سبحانه - ؟

6 ـ وتأتي بمعنى تمام الأمر وانتهائه : والتبليغ للدعوة يعني لإتمامها كما أمر ربنا ، وهذا نجده كثيراً في القرآن . من أمثلته قوله تعالى في سورة الأحزاب يمدح الرسل وحاملي الدعوة إلى الناس :
{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّـهَ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ حَسِيبًا (39)} .
ومن أمثلة انتهاء الأمر الحديث عن عدة النساء ، مثاله قوله سبحانه في سورة البقرة :
{ ... وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ... (235)} ،
فإذا انتهت عدة الأرملة يبدأ نكاحها من رجل آخر ، ونرى هذا في الطلاق تحكيه بداية سورة الطلاق :
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ... (2)} ،
أما أن يكون الأمر بيد الرجل كما يحب دون رابط ، يعذب زوجته بطلاق ثم إعادة إلى ما شاء فلا يجوز هذا الظلم في دين الله .
ونرى تمام الأمر وانتهاءه في حلق الرؤوس في الحج بعد بلوغ الهدي مكان الأضحية به ، يقول الله جلّ وعلا في سورة البقرة :
{ ... وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ... (196)} .

7 ـ وتأتي الكلمة بلغ بمعنى الوصول إلى الهدف : ففي قصة ذي القرنين في سورة الكهف نجده يبلغ مغرب الشمس ، ومطلعها ، وبين السدين . ونرى قبل هذه الآيات سيدنا موسى يصر على بلوغ مجمع البحرين ، وننبه أن البلوغ أمتن وأوثق من الوصول ، فالبلوغ يعني الثبات والامتزاج والرسوخ . أما الوصول فلا يعني ذلك ، والدليل على ذلك أن القرآن يستعمل البلوغ وليس الوصول كقوله تعالى في سورة الأحقاف :
{ ... بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} ؟! " ولم يقل : وصول . وعلى ذلك فقِسْ .
وفرعون يريد أن يرى الله ، قالها ساخراً من موسى عليه السلام فأشار إلى وزيره هامان يقول له مستهزئاً بموسى :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَى ... (37)} (غافر) ،
والأمثلة في هذا المعنى كثيرة في القرآن .

8 ـ وقد تعني الكلمةُ الخوفَ : ومثاله قوله تعالى في سورة الأحزاب يصف إحاطة المشركين واليهود بالمسلمين والخوف الذي تسرب بقوة بادئ الأمر إلى قلوب المسلمين :
{ ... وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا (10)} ،
ولا تبلغ القلوب الحناجر إلا من شدة الخوف .

9 ـ وقد تعني كلمة ( بَلَغَ ) الأمنَ : في قوله تعالى في سورة التوبة يعلـّم المسلمين أن يبذلوا الجوار لمن يدعونه ، ثم يبلغوه مكاناً آمناً :
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّـهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ... (6)} .

10 ـ وقد تأتي بمعنى الشورى غير الملزمة : فقد أمر الله تعالى إبراهيم في المنام أن يذبح ابنه ، فإبراهيم يخبر ولده بذلك ولا يستأمره ، وإن سأله { فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } فهو يعتقد أن الولد شديد الإيمان ، وسوف يريح أباه حين يذعن لذلك . يقول له في سورة الصافات بعد أن { بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } : { يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ... (102)}
والحقيقة أن هذا الموقف صعب لا يرقى إليه إلا الخُلّصُ من الكرام ،وعلى هذا استحق إبراهيم عليه السلام أن يكون خليل الله.

11 ـ وقد تأتي كلمة { بَلَغَ } بمعنى النقص والإخلاف : نجد مثال ذلك في قوله تعالى في سورة المائدة حين يأمر الله تعالى نبيه الكريم أن يبلغ رسالته إلى البشرية :
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... (67)}.
وقد بلّغ الحبيب المصطفى هذه الرسالة السماوية على أتم وجه وأكمل صورة فاستحق إكرام الله تعالى له صلى الله عليه وسلم وحشرنا في زمرته . ونرى النقص في قوله تعالى في سورة غافر :
{ ... إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ... (56)} ،
فلم يصلوا هدفهم ، وخاب مسعاهم .

ولا شك أن في هذه الكلمة ومشتقاتها العديدَ مما قصر الفهم عن إدراكه

نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما يزيدنا علماً لنكون من أهل القرآن وحافظيه .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
{ الظَّن }

في القاموس المحيط : الظَّنُّ التَّرَدُّدُ الراجِحُ بين طَرَفَي الاعْتِقَادِ الغيرِ الجازِمِ ، جمعه: ظُنونٌ وأظانينُ، وقد يوضَعُ مَوْضِعَ العِلْمِ. والظِّنَّةُ، بالكسر التُّهَمَةُ جمعها ( تِهم) كعِنَبٍ. والظَّنينُ المُتَّهَمُ. وأظَنَّهُ اتَّهَمَهُ. وأظْنَنْتُه عَرَّضْتُهُ للتُّهَمَةِ.
وفي لسان العرب : الظَّنُّ : شك ويقين إلاَّ أَنه ليس بيقينِ عِيانٍ إنما هو يقينُ تَدَبُّرٍ فأَما يقين العِيَانِ فلا يقال فيه إلاَّ علم ، وفي الحديث : (إياكم والظَّنَّ فإنَّ الظَّنِّ أَكذبُ الحديث) ، أَراد الشكَّ يَعْرِضُ لك في الشيء فتحققه وتحكم به ، وقيل أَراد إياكم وسوء الظَّن وتحقيقَه دون مبادي الظُّنُون التي لا تُمْلَكُ، وخواطر القلوب التي لا تُدْفع . ومنه الحديث : (وإِذا ظَنَنْتَ فلا تُحَقِّقْ) ، قال وقد يجيء الظَّن بمعنى العلم وفي حديث أُسَيْد بن حُضَيْر " وظَنَنَّا أَنْ لم يَجُدْ عليهما " : أَي عَلِمْنا.

وفي آيات القرآن الكريم معان للظنّ دقيقة تجلّي كثيراً من جليل اللَّفتات البيانية الرائعة ، منها :

1- الاعتقاد التام :
مثاله في قوله تعالى في سورة الأنبياء يصور ما فعله يونس عليه السلام حين أنذر قومه ثلاثاً :
{ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ... (87)} ،
ومضى مغاضباً لِقَوْمِهِ ، فاعتقد أن الله سبحانه لن يضَيِّق عَلَيْهِ فِي بَطْن الْحُوت . وهذا من جليل الإيمان بحفظ الله تعالى له .
ومثله : قصة داوود عليه السلام في سورة (ص) :
{ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} ،
وذلك حين جاءته الملائكة بأمر ربهم يختبرونه في طريقة الحكم بين المتخاصمين ، فحكم للأول دون أن يستمع لحجة الخصم الثاني ، وكان رئيسهم قد وصّاه بالحكم السديد ، فلا يشطط ، قال عز وجلّ :
{ ... وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)} .
فعلم أنه أخطأ ، فسجد لله يستغفره ويُنيب إليه سبحانه .
ومثاله - في سورة الأعراف - رفعُ الجبل فوق اليهود تهديداً لهم أن الجبل سوف يسقط عليهم لو أنهم لم يمتثلوا أمر نبيهم ، ورأوا الموت بأعينهم :
{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ... (171)} ،
فالظن هنا يقين واعتقاد ، فقد كان الجبل فوقهم والموت ماثلاً أمامهم . ويوم القيامة يكون الظن يقيناً ، فالمجرمون يقفون أمام النار التي كذّبوا بها في الدنيا ، وسوف يُطرحون فيها حتماً لا شك فيه .
يقول الله تقدست أسماؤه في سورة الكهف :
{ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)} .
وهذا الرجل المؤمن يحمل كتابه بيمينه يوم القيامة فرحاً مسروراً ، ويعلن على الملأ أنه كان مؤمناً باليوم الآخر ، وأنه أعد نفسه في الدنيا لهذا اليوم ، قال جل ثناؤه في سورة الحاقة :
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)} ،
فكان الثواب رائعاً : إنه النجاة من النار ودخول الجنة ، والخلود فيها كما قال جل وعلا :
{ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} .
والأمثلة كثيرة في هذا المعنى تتوارد باطّراد واضح .

2 - الاعتقاد الخاطئ :
ونقصد بذلك أن الكثير يعتقدون أمراً ما وينافحون عنه ، وهو غير ذلك . مثاله في القرآن كثير ،
من ذلك قوله تعالى في سورة فصّلت حين يشهد على الكافر سمعه وبصره وجلدُه :
{ وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (23)} ،
فهم يعتقدون غير الحقيقة ، فوقعوا في شر اعتقادهم وسوء تقديرهم .
ومثاله كذلك في سورة يونس ينعى على الكافرين سوء اعتقادهم الذي لا ينفعهم حين يجِد الجِد،قال سبحانه :
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ... (36)}
ثم نرى الويل والثبور وعظائم الأمور في سورة (ص) - في تهديد القرآن للذين يعتقدون أن الحياة وُجدت دون هدف – فالنار مأوى من يعتقد ذلك ، قال عز وجلّ :
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} ،
ونرى الاعتقاد الناقص الخاطئ – في سورة القصص - يُردي صاحبه الهلاك فهذا فرعون وجنوده استكبروا وظنوا الدنيا نهاية المطاف ، فأغرقهم الله تعالى في الدنيا ولهم في الآخرة النار مدحورين فيها أذلاء ملعونين :
{ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)} .
ونرى القرآن – في سورة الفتح - يخاطب المنافقين الذين اعتقدوا أن المسلمين بقيادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لن يعودوا إلى المدينة حين انطلقوا إلى مكة ليعتمروا ، وأن مشركي قريش سوف يبيدونهم ،فكان ظنهم سيئاً واعتقادهم مخطئاً ، نجد توبيخ القرآن لهؤلاء الذين رغبوا أن ينال السوءُ رسولَ الله والمسلمين ووصفهم بالهالكين البائرين :
{ بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)} .
وعودة إلى القرآن الكريم ترينا الكثير من هذا الظن ذي العاقبة الرديئة المخزية .

3 - تقدير الشيء :
وقد يكون الظن بمعنى التقدير والتفكير . مثال ذلك في سورة النور حين حض القرآن المسلمين - في فرية ابن سلول التي أطلقها على السيدة عائشة وعلى الصحابي الجليل صفوان بن المعطل إذ نفاها وبرّأهما من الفرية – على محاكمة ما يسمعونه ، هل يرضون تلك التهمة لأنفسهم ؟
وهل يمكن للطاهرة زوج أطهر الخلق أن تقع في المحظور الذي يأباه كل ذي خلق ودين ؟ قال تعالى :
{ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)} .
ونرى هذا المعنى في مراجعة الرجل مطلقته ، أو من أرادا الطلاق لمشاكل حدثت بين الزوجين ، ثم استدركا أمرهما بعد تفكير وتمحيص ، فرأيا أن عودة أحدهما إلى الآخر خير لهما ، يقول الله سبحانه في سورة البقرة :
{ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّـهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} ،
ونرى الفكرة نفسها في قول يوسف عليه السلام ، قال عز وجل في سورة يوسف :
{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ ... (42)} ،
فعلى الرغم أنه عليه السلام أوتي التأويل فإنه ليس يقيناً ، فلا يعلم الغيب إلا الله تعالى ، هذا إذا اعتبرنا الأمر فراسة وتفكراً وحسن تقدير للأمور وهبَهُ الله ُتعالى إياها ، أما إذا كانت من باب الوحي والإلهام فإنها تندرج تحت باب الاعتقاد التام – والله أعلم .

4 - قد يكون الظن شكاً :
وله أمثلة عديدة منها قوله تعالى في سورة الجاثية على لسان الكفار للمؤمنين في اليوم الآخر والجنة والنار:
{ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)} ،
قالوها على سبيل الشك والتوهّم ، وأنه لا يصدقون .
أما في سورة آل عمران في الحديث عن غزوة أحد فالقرآن يصف حال المنافقين الخائفين من القتال :
{ ... يَظُنُّونَ بِاللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ... (154)} .
روى أنس أَنَّ أَبَا طَلْحَة قَالَ : غَشِيَنَا النُّعَاس وَنَحْنُ فِي مَصَافّنَا يَوْم أُحُد ، فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُط مِنْ يَدِي وَآخُذهُ ،وَيَسْقُط وَآخُذهُ وَالطَّائِفَة الأخرى الْمُنَافِقُونَ لَيْسَ لَهُمْ هَمّ إِلا أَنْفُسهمْ ، أَجْبَن قَوْم وَأَرْعَبهُ وَأَخْذَله لِلْحَقِّ ، إِنَّمَا هُمْ أَهْل شَكّ وَرَيْب فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هَكَذَا :
وَهُوَ كَمَا قَالَ اللَّه فَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول :
{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْد الْغَمّ أَمَنَة نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَة مِنْكُمْ ... (154)} ،
يَعْنِي أَهْل الإيمَان وَالْيَقِين وَالثَّبَات وَالتَّوَكُّل الصَّادِق وَهُمْ الْجَازِمُونَ بِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ سَيَنْصُرُ رَسُوله وَيُنْجِز لَهُ مَأْمُوله وَلِهَذَا قَالَ :
{ ... وَطَائِفَة قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسهمْ ... (154)} ،
يَعْنِي لا يَغْشَاهُمْ النُّعَاس مِنْ الْقَلِق وَالْجَزَع وَالْخَوْف يظنون بالله ما لا ينبغي .
وأكثر أهل الأرض يحيون حياة الشك ويرضون بالوهم عن الحق هذا ما يذكره جلّ وعلا مخاطباً النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في سورة الأنعام :
{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (116)} .
ومن عاش حياة الوهم ازداد ضلاله ، وكثر افتراؤه .

5 - وقد يكون الظن بمعنى العلم :
ففي سورة يوسف عليه السلام يَذْكُر تَعَالَى أَنَّ نَصْره يَنْزِل عَلَى رُسُله صَلَوَات اللَّه وسلامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عِنْد ضِيق الْحَال وَانْتِظَار الْفَرَج مِنْ اللَّه فِي أَحْوَج الأوقات :
{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} ،
قال المفسرون وعلى رأسهم عائشة رضي الله عنها : إن الرسل حين علموا أَنَّ قَوْمهمْ كَذَّبُوهُمْ ، واِسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ لمّا طَالَ عَلَيْهِمْ البلاء وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْر جَاءَهُمْ نَصْر اللَّه .

6 - ويكون الظن بمعنى الأمر الذي لا أصل له : مثال ذلك قوله تعالى في سورة النجم :
{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ } وأردفها بالأصل والعلم اليقين في قوله سبحانه :
{ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ (23)} ،
فما تهوى أنفسهم باطل لا يرتكز على حق ، وما كان من الله ركن ركين .
ومثاله كذلك في سورة النجم نفسها قولُه عز وجلّ :
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكةَ تَسْمِيَةَ الأنثى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} ،
فمن قال لهم إن الملائكة إناث ؟ وهل رأوا ذلك ؟ أم إنهم يخرصون ويدّعون .
وقد قال جل ثناؤه في سورة الزخرف :
{ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)} .
وتأمل معي في هذه الآية كـُلاً من : الَّذِينَ ، هُمْ ، عِبَادُ ، الضمير في: خَلْقَهُمْ ، وكلها للمذكر ، فكيف يجعلون الملائكة إناثاً ، والملائكة خلق لا ينطبق عليهم ذلك ؟! سبحان الله .

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
{ يَوْم } ( التصويرية )

ودورها في الغالب الأعمّ نقل المشهد الذي سيحدث في المستقبل إلى الحاضر ، فينتصب حياً أمام الرائي نابضاً بالحياة ، يسمعه ويراه ، ويتقرّاه ويلمسه . وقد ذكر في القرآن الكريم عشرات المرات ، يتبعه الفعل المضارع ( جملة المضاف إليها ) بأحد نوعيه ؛ المبنيّ للمعلوم أو المبنيّ للمجهول . من ذلك :

قوله تعالى في سورة النازعات يصف النفختين فنسمعهما ونحسّهما كأن الأمر أمامنا يعرض فلماً سينمائياً : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)} ، فإذا الأرض تهتز في زلزالها الكبير فتستوي جبالها بوديانها كما قال سبحانه في سورة الزلزلة : { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)} ويتحقق قول الله عز وجلّ في سورة طه : { لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)}،ثم تأتي الرجفة الثانية في النفخة الثانية،فيأتي الناس أفواجاً كما في قوله تبارك وتعالى في سورة القمر :
{ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} .

وقوله جل ثناؤه في سورة النبأ يصف حال البشر يسمعون نفخة الصور الثانية ، فينطلقون نحو مصدر الصوت مستجيبين : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)} لا يريم أحدهم ولا يتأخر عن الإجابة ، ولا يلوون على شيء .

وقوله تقدست أسماؤه في سورة عبس يصف حال الفزع بين الناس حيث يطلب كل منهم لنفسه فقط الخلاص والنجاة في هذا اليوم المخيف الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} .
ويود الكافر لو افتدى نفسه بأحب الناس إليه جميعاً النار فهلكوا فيها لينجوَ وحده من العذاب الشديد قال عز من قائل في سورة المعارج :
{ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ (15)} .

وقوله جل وعلا في سورة المرسلات يصف الأمم بين يديه ساكتة لا يتكلم أحد منهم إلا بإذنه ولن يُقبل اعتذارُ من أساء في كفره واستكباره وإنكاره وجحوده ، إن ذلك اليوم الرهيب يومُ حسابٍ لا يومُ عمل :
{ هَـٰذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (37)} ،
وتصورهم مبلسين خائفين ينظرون إلى النار – مصيرهم الخالد – من طرْف خفيّ ، نعوذ بالله من هذا المصير البئيس.

وقوله تعالى في سورة النبأ يصف جلال الموقف بين يديه سبحانه ، فالملائكة الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون يمثلون أمامه دون حركة أو قول ينتظرون أمره سبحانه خائفين من هذا اليوم العظيم وَجـِلين لا يتكلمون إلا بإذنه جل شأنه وعظُم سلطانُه :
{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} .

وقوله سبحانه في سورة الحديد في المؤمنين الموحّدين يكرمهم ، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يهبهم الله نوراً يسعدون به في ظلمة ذلك اليوم المكفهِرّ يمضي معهم حيث ساروا، ويحاول المنافقون وأضرابهم أن يتابعوهم ليقتبسوا من أنوارهم ، فيُمنعون ، ويُفصل بينهم فيعيش أولئك في ظلمات النفاق والعصيان :
{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ ... (13)} .

ومتابعة لكلمة يوم مضافة إلى الفعل المضارع يرينا صور المستقبل بيّنة صافية تجعلنا نحيط بالموقف إحاطة واضحة لا لبس فيها .
 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

{ إِذْ } ( التصويرية )*

{ إِذْ } (التصويرية) التي تنقل المشهد الذي حدث في الماضي إلى الحاضر فإذا به أمامنا نراه ونسمعه ونعيشه وكأنه يحصل بيننا الآن يتبعه الفعل الماضي ( جملة المضاف إليها ) ،من ذلك :

* قوله تعالى في سورة البقرة يصور لنا الحوار الذي دار بينه سبحانه وبين ملائكته في خلق أبينا آدم عليه السلام :
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} .
فقد رأوا – في رواية من قال إن خلقاً في الأرض كانوا قبل آدم - أن أولئك اقتتلوا وأفسدوا ، فأهلكهم الله وأن هذا المخلوق الجديد – آدم – قد يكون مثل سابقيه سوءاً وفساداً ، فتعجبوا أن يتكرر ذلك الأمر في الأرض بآدم وذرّيته .. فكان هذا الحوار...

* وقوله سبحانه يأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم سجود طاعة لله وتكريماً لآدم بتكريم الله له (كما في قوله في سورة الإسراء) :
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)}،
فإذا بنا نرى بأعين قلوبنا الملائكة تسجد لأبينا بأمر الله وفضله : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ... }،(التي تكررت في سور البقرة والإسراء والكهف وطه) ،
فما علينا إلا أن نحافظ على هذا التكريم بطاعة الله سبحانه والتزام أوامره والانتهاء عن نواهيه .

* وقوله جل وعلا في سورة البقرة يعدد فضله على بني إسرائيل في نجاتهم من فرعون وقومه ، فأخرجهم من مصر إلى بلاد فلسطين المباركة ، وجعل في البحر نجاتهم وفيه هلاك فرعون وجنده ، فكان البحر منجّياً ومهلكاً بآن واحد . ورأوا مصارعهم دون أن يكلفهم قتالهم كما أن الله عز وجل أراد كرامتهم حين سمح بفضله أن يكونوا مع موسى عليه السلام إذ يكلمه ، فأشركوا قبل هذا التكريم واتخذوا العجل إلهاً ، بل إنهم طلبوا أن يروا ربهم جهاراً نهاراً فصعقهم الله تعالى عقوبة لتجرئهم على طلب ما ليس لهم ولا يستطيعونه ، وكان من فضل الله تعالى عليهم أن أنزل على موسى التوراة لتكون لبني إسرائيل نبراساً ....
وقد أخذتنا { إذْ } والفعل الماضي بعدها إلى الماضي البعيد أو قرّبتْ هذا الماضي فتصورناه أمامنا بكل تفاصيله وصُوَرِه رأيَ العين :
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ .... (49)}
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50)}
{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (51)}
{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ ... (54)}
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّـهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55)}

ولو تابعنا إذ والفعل معها في آيات القرآن الكريم لوجدناها تربو على العشرات مصوّرة وموضحة ، تضع المنظر أمامنا بكل أبعاده الحركية والصوتية .

* بتصرف بسيط جدا

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

{ وَرَاء }

وردت كلمة { وَرَاَء } بمشتقاتها في القرآن الكريم أربعاً وعشرين مرة ، فما المقصود بكلمة وراء؟

قال ابن منظور في لسان العرب:
وراء : (خَلفَ). قاله لبيد وابن السكِّيت. ولكنْ إذا كان مما تَمُرُّ عليه فهو (قُدّام) كذلك. قال تعالى:
{ مِن وَرائِه جَهَنَّمُ ... (16)} (إبراهيم) أَي بين يديه.
وقال الزجاج: ورَاءُ يكونُ لخَلْفٍ ولقُدّامٍ ومعناها ما تَوارَى عنك فاسْتَتَر. قال: وليس من الاضداد كما زَعَم بعضُ أَهل اللغة، وأَمّا أَمام فلا يكون إِلاَّ قُدَّامَ أَبداً . وقال عز وجلّ :
{ ... وكان وَراءَهُم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينةٍ غَصْباً (79)} (الكهف) ،
قال ابن عبَّاس، رضي اللّه عنهما : كان أَمامهم . وقال لبيد بهذا المعنى:

أَلَيْسَ وَرائي، إِنْ تَراخَتْ مَنِيَّتي * لُزُومُ العصَا تُحْنَى عليها الأَصابِعُ

وقال الفرَّاءُ: لا يجوزُ أَن يقال لرجل ورَاءَكَ: هو بين يَدَيْكَ، ولا لرجل بينَ يدَيْكَ: هو وَراءَكَ، إِنما يجوز ذلك في الـمَواقِيتِ من الليَّالي والأَيَّام والدَّهْرِ. تقول: وَراءَكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وبين يديك بَرْد شديد، لأَنك أَنـْتَ وَرَاءَه، فجاز لأَنه شيءٌ يأْتي، فكأَنه إِذا لَحِقَك صار مِن وَرائِكَ، وكأَنه إِذا بَلَغْتَه كان بين يديك، فلذلك جاز الوَجْهانِ. من ذلك قوله، عز وجل: { وكان وَرَاءَهُم مَلِكٌ }، أَي أَمامَهمْ.
ملاحظة :
قال أَبو الهيثم: الوَرَاءُ، مـمدود: الخَلْفُ، ويكون الأَمامَ. . وكذلك قوله سبحانه: { من وَرائِه جَهَنَّمْ } فهي بين يديه.قال اللحياني: وراءُ مُؤَنَّثة، وإِن ذُكِّرت جاز، قال سيبويه: وقالوا وَراءَكَ إِذا قلت انْظُرْ لِما خَلْفَكَ.
قال ساعِدةُ بن جُؤَيَّةَ:

حَتَّى يُقالَ وَراءَ الدَّارِ مُنْتَبِذاً * قُمْ، لا أَبا لَكَ، سارَ النَّاسُ، فاحْتَزِمِ

وقال الأَصمعي:
قال ورَاءَ الدَّارِ لأَنه مُلْقىً، لا يُحْتاجُ إِليه ، مُتَنَحٍّ مع النساءِ من الكِبَرِ والهَرَمِ

من معاني الفعل (ورأ) الذي اشتُقَّ منه الظرفُ { وَرَاء } :
الدفع: تقول : وَرَأْتُ الرَّجلَ: دَفَعْتُه.
وَرَأَ زيدٌ من الطَّعام : امْتَلأَ.
والوَراءُ : الضَّخْمُ الغَلِيظُ الأَلواحِ، قاله الفارسي.

من معاني { وَرَاء } في القرآن الكريم:

ـ الأمام : ولكنّ الأمامَ البعيد لا يُرى فكأنه وراءُ ، قال تعالى :
{ ... وكان وَراءَهُم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينةٍ غَصْباً (79)} (الكهف) ،
وأقول: إن الحاكم أو الملك حين يطغى فيظلم ويسلب وينهب ،وكان عليه أن يكون رحيماً بالرعية وأبا حنوناً وأخا شفيقاً ، هذا الحاكم لا يستحق أن يكون في الأمام، إنَّ ظُلمَه يجعله خلف الناس جميعاً .

ـ التخلي والاستبدال : قال سبحانه :
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّـهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} (البقرة) ،
تخلّوا عنه وتمسكوا بما تمليه الشياطين عليهم.ومثاله كذلك قوله عز وجل :
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ... (187)}(آل عمران)

ـ والوراءُ ولَدُ الوَلَدِ، وفي التنزيل العزيز :
{ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)} (هود) .
قال الشعبي: الوَراءُ: ولَدُ الوَلَدِ.

ـ ما عدا ذلك : قال جل ثناؤه : { فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } (الآية (7) في المؤمنون ، و الآية (31) في المعارج) ،
قال ابن الأَعرابي في قوله، عز وجل :
{ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ... (91)} (البقرة) أَي بما سِواه. وهو (الإسلام).

ـ أو تدل على الحل بعد التحريم : كقوله جلّ وعلا :
{ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ... (24)} (النساء) ، وقوله تقدست أسماؤه :
{ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } (7)} (المؤمنون) ،
فحرم الزنا والاتصال المحرم

ـ وقد تأتي بمعنى المكان نفسه ، وهذا أصل ما جاءت له : كقوله تعالى :
{ ... فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ ... (102)} (النساء) ،

ـ الموت : كقوله عز من قائل على لسان زكريا عليه السلام :
{ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ... (5)}(مريم) ،
خاف إن مات أن تنقطع الدعوة إلى الله بعده فهو يريد ذرية صالحة تحمل عبء الدعوة بعده.

ـ الإحاطة : قال تعالى :
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّـهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20)} (البروج) ،
وهي القدرة والإحكام وبسط السيطرة.

ـ التهديد والتوبيخ والوعيد : كقوله سبحانه :
{ مِّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا ... (10)} (الجاثية)،
وكذلك في قوله عز وجلّ :
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)} (الانشقاق) .

ـ وقد تأتي بمعنى الغيب : قال جل ثناؤه :
{ ... وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} (المؤمنون) ،وكقوله جل وعلا :
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّـهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ... (51)} (الشورى)

ـ وقد تأتي بمعنى التيئيس : كقوله تقدست أسماؤه عن المنافقين يوم القيامة :
{ ... قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ... (13)} (الحديد) .
وليس لهم يوم القيامة نور ،لقد طمسوه في الحياة الدنيا .

ـ وقد تأتي بمعنى الستر والحجاب : في قوله عز من قائل :
{ ... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ... (53)} (الأحزاب) .
وهذه دعوة إلى الحياء والأدب وصون المرأة.

ـ الرعونة والاستعجال غير المبرر : قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} (الحجرات)،

ـ وقد تأتي بمعنى فجاءة الموت السريعة : قال سبحانه :
( ... وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ... (94)} (الأنعام).

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×