اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير سورة الإسراء بأسلوب بسيط جدًّا

المشاركات التي تم ترشيحها

سلسلة كيف نفهم القرآن؟ 1

تفسير الربع الأول من سورة الإسراء

• الآية 1، والآية 2، والآية 3: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ (يُمَجِّد اللهُ تعالى نفسه ويُعَظِّم شأنه، لقدرته على ما لا يَقدر عليه غيره)، إذ هو الذي أسرَى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ لَيْلًا أي جُزءاً مِن الليل - برُوحه وجسده - ﴿ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بـ "مكة" ﴿ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ أي الذي باركَ اللهُ حوله في الزروع والثمار وغير ذلك، وجعله مَحِلاًّ لكثير من الأنبياء.

واعلم أنَّ الإسراء هو السير ليلاً بشكل خاص، وقد أُسرِيَ بالنبي صلى الله عليه وسلم بالبُراق، وهي دابة بيضاء، أطول من الحمار، وأقصر من البغل (انظر حديث رقم: 127 في صحيح الجامع).

وقد كانت هذه الرحلة ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا ﴾: أي ليُشاهد محمد صلى الله عليه وسلم قدرة اللهِ تعالى وعجائب صُنعِهِ في الملكوت الأعلى، وليَرى بعَينيه ما كانَ قد آمَنَ به عن طريق الوحي، فيُصبح الغيب عنده مُشاهَدة، ﴿ إِنَّه سبحانه ﴿ هُوَ السَّمِيعُ لجميع الأصوات، ﴿ الْبَصِيرُ بأعمال عباده وأحوالهم، ولذلك اقتضتْ حِكْمته حدوث هذا الإسراء العجيب، ليَرى ويَسمع ما سيَصدر مِن تكذيب الكفار وتصديق المؤمنين - وهو سبحانه أعلم بهم - ثم يَجزي كُلّاً بما يَستحق.

والدليل على أنّ رحلة الإسراء والمعراج كانت رحلة حقيقية ولم تكن رؤيا: أنّ مُشرِكي قريش كانوا يُجادلونَ النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة ويُكَذِّبونه فيها، فلو أنها كانت حُلماً: لَمَا كَذَّبوه، لأنه ليس للنائم تَحَكُّم فيما يَحلم به، ولا يُعقَلُ أبداً أن يأتي إليك رجلٌ ويُخبِرك أنه قد ذهب إلى "الصين" وهو نائم وفَعَلَ كذا وكذا، ثم تُجادله أو تُكَذِبه، إنما تجادل فقط مَن يُخبرُك أنه فعل ذلك في ساعةٍ واحدةٍ مِن الليل، فدَلَّ ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبرهم أنه أُسرِيَ به بالروح والجسد معاً.

وحتى يُثبِتَ النبي صلى الله عليه وسلم صِدقه للمشركين، فإنه قد أخبرهم أنه - وهو ذاهبٌ إلى بيت المَقدس - رأى قافلة قادمة إلى مكة، وأنّه قد ضاعَ منهم أحد الإبل في هذه الليلة، وأنهم كانوا يَبحثون عنه، فلما وصلتْ القافلة إلى مكة، سألهم المشركون عن ذلك، فأخبروهم أنه قد حدث ما أخبَرَ به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حينما طَلَبَ منه المشركون أن يَصِفَ لهم بيت المقدس - وكانَ بعضهم قد زاره - فأخبَرَهم صلى الله عليه وسلم بوَصْفه، وهنا كانَ أبو بكر رضي الله عنه يقول له: (صدقتَ، صدقتَ)، وكانَ يقول: (إنْ كانَ قالَ فقد صَدَق)، فسُمِّيَ ساعتها بالصِدِّيق.

وكما كَرَّم اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم بالإسراء، فقد كَرَّم موسى عليه السلام بإعطائه التوراة، قال تعالى: ﴿ وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وهو التوراة ﴿ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى أي جعلنا التوراة بيانًا للحق وإرشادًا ﴿ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِمَا فيه سعادتهم ونَجاتهم، وألزمناهم فيها ﴿ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي ‎وَكِيلًا: أي نَهاهم اللهُ أن يَتخذوا نصيراً أو معبودًا يَعتمدون عليه ويُفوضون إليه أمورهم غيره تعالى، وقال لهم: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾: يعني يا سُلالة الذين حَمَلْناهم مع نوح في السفينة ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا أي كثير الشُكر لنعم اللهِ عليه، لِذا فاقتدوا به، وكونوا شاكرينَ لنعم ربكم (بعبادته وحده ودوام طاعته).

واعلم أنَّ الشُكر يكونُ حَمداً باللسان واعترافاً بالقلب، وبأنْ تُستخدَم هذه النِعَم في طاعة اللهِ وتعالى، وألاّ تُستخدَم في مَعْصِيَتِهِ، كما قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾، وقال أيضاً: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.

• من الآية 4 إلى الآية 8: ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ يعني أخبرناهم في التوراة بقضاءنا فيهم، وهو أنكم ﴿ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ﴾: أي سوف يَقع منكم إفسادٌ مرتين في أرض "فلسطين" ﴿ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا أي لَتَظلِمُنّ ظلماً عظيماً (بالمعاصي وقَتْل الأنبياء، والتكبر والطغيان)، ﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا ﴾: يعني فإذا وقع منكم الإفساد الأول: ﴿ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ أي سَلَّطْنا عليكم ﴿ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي يَمتلكونَ شجاعة وقوة شديدة ﴿ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ﴾: أي فطافوا بين دياركم، يقتلونكم ويُشَرِّدونكم ويُفسدونَ أرضكم، ﴿ وَكَانَ ذلك ﴿ وَعْدًا مَفْعُولًا ﴾: أي وعدًا لابدَّ مِن وقوعه (لوجود سببه منكم)، (وقد تحقق هذا الوعد عندما أعرض بنو إسرائيل عن طاعة ربهم، وانتهكوا حدود شَرْعهم، حتى قتلوا نبِيّهم "أرميا" عليه السلام، فسَلَّطَ اللهُ عليهم الطاغية "جالوت" الذي ذَكَرَ اللهُ قصته في سورة البقرة).

واعلم أنّ الله تعالى قال: ﴿ عِبَادًا لَنَا ﴾ ولم يقل: (عبادي) لأنهم كانوا أهلَ كُفرٍ وشِرك، فلم يُشَرِّفهم سبحانه بإضافتهم إليه، ولكنه وَصَفهم بأنهم مِن مُلكه، وأنه سَخرّهم لتأديب عباده الذين ظلموا الناسَ وخرجوا عن طاعته.

﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أي: ثم أعَدْنا لكم الانتصار على أعدائكم - وذلك بعد سنين طويلة من الاضطهاد والتشريد - عندما طالبتْ جماعة مؤمنة مِن بني إسرائيل أن يُعَيِّنَ لهم نبيُّهم مَلِكاً يقودهم إلى الجهاد، فجاهَدوا أعدائهم حتى قتل داودُ جالوتَ (كما تقدم في سورة البقرة)، ﴿ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾: أي كَثَّرْنا أرزاقكم وأولادكم، وقَوَّيناكم ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴾: أي جعلناكم أكثر عددًا من أعدائكم، حتى تَكوَّنت لكم دولة عظيمة، سادت العالم على عهد داود وسليمان عليهما السلام (وذلك بسبب رجوعكم إلى اللهِ تعالى بالعمل بكتابه والتزام شريعته).

وهنا قال تعالى لهم: ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ يعني إن أدَّيتم الطاعة بإخلاصٍ للهِ تعالى، وعلى الوجه الذي شَرَعه لكم، واجتنبتم ما نَهاكم عنه، وأحسنتم معاملة خَلقه: فقد ﴿ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لأنّ ثواب ذلك عائدٌ إليكم، ﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ بالانغماس في المَلَذَّات والشهوات، والإعراض عن طاعة رب الأرض والسماوات: ﴿ فَلَهَا ﴾: أي فعِقابُ ذلك سيَرجع إلى أنفسكم أيضاً.

﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ ﴾: يعني فإذا حانَ موعد إفسادكم الثاني: سَلَّطْنا عليكم أعداءكم مرة أخرى - وهم هنا "بُختُنصُر" وجنوده (وذلك على الراجح من أقوال العلماء) - ﴿ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ﴾: أي ليَغلبوكم ويُذِلُّوكم، فتظهر آثار الذل والإهانة على وجوهكم ﴿ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾: يعني وليَدخلوا عليكم المسجد الأقصى، فيُخرِّبوه كما خرَّبوه أول مرة (وفي هذا ذُلٌّ وإهانةٌ لهم، لأنه كانَ مكان عبادتهم، قبل أن يَنسخ الإسلام شريعتهم)، ﴿ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا : يعني ولِيُدمروا كل ما وقع تحت أيديهم تدميرًا كاملاً، (وقد حصل هذا عندما قتل اليهودُ زكريا ويحيى عليهما السلام، وبعد أن ظهر فيهم التبرج والفجور، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم).

﴿ عَسَى رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل ﴿ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد انتقامه (إن تبتم وأصلحتم)، ﴿ وَإِنْ عُدْتُمْ إلى الإفساد والظلم والفجور: ﴿ عُدْنَا إلى عقابكم ومَذلَّتكم بتسليط مَن نشاء مِن عِبادنا (كما سَلَّطَ اللهُ عليهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم فقتل بعضهم، وأسَرَ بعضهم وأخرج الباقين من المدينة)، فهذا بعض عقابهم في الدنيا، لأنهم لم يَتعظوا من المرتين السابقتين، بل كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوا صفاته في التوراة، ﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ - في الآخرة - ﴿ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا أي سجنًاً يَحصرهم لا يَخرجونَ منه أبداً (واعلم أنّ هذه الآيات تحمل تحذيراً لأُمّة محمد صلى الله عليه وسلم من المعاصي؛ حتى لا يُصيبها ما أصابَ بني إسرائيل، لأنّ سَنَن اللهِ ثابتة لا تتبدل ولا تتغير).

• الآية 9، والآية 10: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي يُرشد الناس لأحسن الطرق وأصَحّها، وهي الإسلام (بما فيه من الدلائل والحُجَج والشرائع والمواعظ) ﴿ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أي الذين يَعملون الأعمال الصالحة (بإخلاصٍ للهِ تعالى، وعلى النحو الذي شَرَعه اللهُ لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم)، فأولئك يُبَشِّرهم القرآن بـ ﴿ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا في جنات النعيم، ﴿ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ أي أعْدَدنا لهم ﴿ عَذَابًا أَلِيمًا في نار جهنم.

الآية 11: ﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ يعني: وأحيانًا يُسارِع الإنسان - عند الغضب - بالدعاء على نفسه وأهله بالشر، مِثلما يُسارِع بالدعاء بالخير (وهذا مِن عَجَلة الإنسان وجَهْله بعواقب الأمور)، ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ بطبعه ﴿ عَجُولًا أي كثير العَجَلة بما يَخطر على باله، فلا يَتمهل ولا يَتفكر (هذا ما لم يَتأدب بآداب القرآن، وأما إذا استقام على منهج القرآن وتَخلَّقَ بالأخلاق النبوية: تبَدَّلَ طَبْعُهُ وأصبح صابراً حليماً).

واعلم أنّ كلمة (يَدْعُ) كانَ أصلها: (يَدعُوْ)، ولكنْ حُذِفَتْ الواو الساكنة بسبب التقاءها بالألِف الساكنة (التي في بداية كلمة: الإنسان) وهو ما يُعرَف بـ (التقاء الساكنين)، فحُذِفَ الساكن الأول (وهو هنا الواو)، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾ ومِثل قوله تعالى:  ﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ .

الآية 12: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ أي علامتين دالَّتين على قدرتنا وتدبيرنا لمصالح العباد، ثم وَضَّحَ سبحانه ذلك بقوله: ﴿ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ ﴾: أي طَمَسْنا نور الليل بالظلام (لتستريحوا فيه مِن طَلَب الرزق بالنهار)، ﴿ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً أي وجعلنا النهار مُضيئاً، وذلك ﴿ لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾: أي لتُبصروا - في ضوء النهار - كيف تتصرفون في شئون مَعاشكم ﴿ وَلِتَعْلَمُوا من ساعات الليل والنهار ﴿ عَدَدَ السِّنِينَ وذلك بحساب الأيام والشهور، ﴿ وَالْحِسَابَ أي: ولتَعلموا أيضاً حساب الأوقات المتعلقة بمعاملاتكم الدينية والدنيوية، فتُرَتِّبوا على ذلك ما تشاؤون مِن مَصالحكم، ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾: أي ولقد بَيَّنا كل شيءٍ - يَحتاجه العباد - تَبْيِيناً كافيًا.

واعلم أنّ بعض العلماء قد فسَّروا قوله تعالى: ﴿ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً أي جعلنا القمر مُظلماً، وجعلنا الشمس مُضيئة، فاستفاد القمر مِن ضيائها فأصبح مُنيراً، واللهُ أعلم.

• الآية 13، والآية 14، والآية 15: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ يعني: وكُلّ إنسان جعلنا عَمَلَه - الصادر عنه باختياره - مُلازمًا له (كأنه مربوط بعُنُقه) ليُحاسَب به، ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا قد سُجِّلتْ فيه جميع أعماله ﴿ يَلْقَاهُ مَنْشُورًا أي يَرى هذا الكتاب مفتوحًا أمامه،ويُقال له: ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ ﴾: أي اقرأ كتاب أعمالك، (فيَقرؤه وإنْ لم يكن يعرف القراءة في الدنيا)، ويُقال له: ﴿ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا أي يَكفيك اليوم أنّ نفسك هي التي تُحصي عليك أعمالك، فتعرف ما عليها مِن جزاء (وهذا مِن أعظم العدل أن يُقال للعبد: حاسِبْ نفسك، كفى بها حسيبًا عليك).

واعلم أنّ اللهَ سبحانه عَبَّرَ عن عمل الإنسان بكلمة (طائره)، لأنّ العرب كانوا يَتفاءلون بالطير، فإذا سافروا ومَرَّ بهم الطير من جهة الشمال إلى اليمين تفاءلوا، وإنْ مَرّ بهم من جهة اليمين الى الشمال تشاءموا، فلما نَسَبوا الخير والشر إلى الطائر، شَبَّهَ اللهُ لهم أعمالهم بالطائر (لأنّ العمل هو سبب الخير والشر)، واللهُ أعلم.

وبعد هذا الإنذار أخبَرَ اللهُ تعالى أنه ﴿ مَنِ اهْتَدَى أي اتَّبع طريق الهداية: ﴿ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأنّ ثواب ذلك سيعود عليه وحده، ﴿ وَمَنْ ضَلَّ عن طريق الحق واتَّبع طريق الباطل: ﴿ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾: يعني فإنما عقاب ذلك سيعود عليه وحده، ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى أي: ولا تَحمل نفسٌ ذنبَ نفسٍ أخرى، إلا إذا كانت سبباً في إضلالها (ولم تَتُب عن ذلك الإضلال)، ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾: أي لم يكن مِن شأن اللهِ تعالى - وهو العدل الرحيم - أن يُعَذِّبَ أحدًا أو يُهلك قريةً إلا بعد إقامة الحُجَّة عليهم (وذلك بأن يُرسِلَ إليهم رسولاً - ويؤيده بالمُعجِزات - ليُعَلِّمهم ما يُحبه اللهُ تعالى وما يُغضبه).

• الآية 16: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ظالمةً - بعد إرسال رُسُلنا إليها -: ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا وهم المُنَعَّمين (من الأغنياء والرؤساء والأشراف)، فأمَرَهم سبحانه بتوحيده وطاعته وتصديق رُسُله، كما قال تعالى:  ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾، ولكنهم: ﴿ فَفَسَقُوا فِيهَا ﴾: أي فعلوا الجرائم والمُنكَرات في هذه القرية، وكَذَّبوا الرُسل ﴿ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ: أي فحَقَّ عليهم حُكمُ اللهِ تعالى بالعذاب الذي لا مَرَدَّ له (والمعنى أنهم استحقوا العذاب بتكذيبهم وعِصيانهم) ﴿ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا أي فأهلكناها إهلاكاً كاملاً.

• الآية 17: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ أي: ولقد أهلكنا الكثير من الأمم المُكَذِّبة ﴿ مِنْ بَعْدِ عهد ﴿ نُوحٍ لأنّ قومه كانوا أول مَن أصابهم الهلاك الجماعي، ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا أي: ويَكفيك أيها الرسول أنّ ربك عالمٌ بذنوب عباده، لا يَخفى عليه شيئٌ منها، وهو قادرٌ على العقاب بها، ولكنه يُمهِل، ثم يأخذ أخْذَ عزيزٍ مُقتدِر، (وفي هذا تصبيرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يَلقاهُ مِن أذى قومه وتكذيبهم، وفي هذا أيضاً تهديدٌ عظيم لهم بالهلاك كما أهلك سبحانه هذه الأمم المُكَذِّبة).

• الآية 18، والآية 19: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ ﴾: يعني: مَن كان طَلَبُه الدنيا، وسَعَى لها وحدها، ولم يُصَدِّق بالآخرة: ﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ﴾: أي عَجَّل اللهُ له في الدنيا - مِن الرزق - ما يَشاؤه سبحانه (مِمّا كَتبه له في اللوح المحفوظ)، وقوله تعالى: ﴿ لِمَنْ نُرِيدُ أي يُعطي سبحانه للذي يريده (إذ الأمر كله راجعٌ إليه وحده)، ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ في الآخرة ﴿ يَصْلَاهَا أي يَدخلها ليُقاسي حَرَّها، ﴿ مَذْمُومًا أي يَذمُّه الناس ويَلومونه، ﴿ مَدْحُورًا أي مطرودًا مِن رحمة اللهِ تعالى (وذلك لأنه أراد الدنيا وسعى لها دونَ الآخرة) (واعلم أنّ اللهَ تعالى سَمَّى الدنيا بـ (العاجلة) لسرعة انتهائها).

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ يعني: ومَن قَصَدَ بعمله الصالح: ثوابَ الدار الآخرة الباقية ﴿ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا أي سَعْيها المطلوب لدخولها (بطاعة اللهِ تعالى واجتناب مَعاصيه، والتوبة إليه في كل وقت) ﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ باللهِ وبرسوله وبما أخبر به رسوله من الغيب: ﴿ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾: أي فأولئك كانَ عملهم مقبولاً مُدَّخرًا لهم عند ربهم، ليأخذوه يوم القيامة في جنات النعيم.

• الآية 20، والآية 21: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ﴾: يعني كلُّ فريق - من العاملين للدنيا الفانية، والعاملين للآخرة الباقية - نَرزقه في الدنيا؛ فإنّ الرزق ﴿ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ تفضُّلاً منه سبحانه، ﴿ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا أي: وما كان عطاء ربك ممنوعاً عن أحد (مؤمنًا كانَ أم كافرًا)، فالكل يأكل ويَشرب ويَلبس (بحسب ما قدَّرَ اللهُ له).

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾: أي تأمل - أيها الرسول - كيف فضَّلَ اللهُ بعض الناس على بعض في الدنيا في الرزق، فإذا علمتَ هذا، فاعلم أنّ الدنيا ليست مِقياساً عن رضى اللهِ عن العبد، فإنّ اللهَ يُعطي الدنيا لمن يُحب ولمن لا يُحب؛ لأنها لا تساوي عنده جناح بَعوضة، ﴿ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ للمؤمنين ﴿ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا من تفضيل الدنيا في العطاء والنعيم، وذلك عائدٌ إلى فضل اللهِ تعالى، ثم إلى عمل الإنسان (كثرةً وإتقاناً).

• الآية 22: ﴿ لَا تَجْعَلْ أيها الرسول ﴿ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ في عبادته ﴿ فَتَقْعُدَ أي فتصير ﴿ مَذْمُومًا من الملائكة والمؤمنين، ﴿ مَخْذُولًا مِن اللهِ تعالى، لا ناصرَ لك مِن عذابه (وهذا - وإنْ كانَ خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم - فإنه مُوَجَّه لجميع الأُمَّة).
 
تفسير الربع الثاني من سورة الإسراء

الآية 23، والآية 24، والآية 25:  ﴿وَقَضَى رَبُّكَ يعني: ولقد أمَرَ ربك - أيها الرسول - ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ فلا تُشرِكوا به أحداً مِن خَلقه في عبادته، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا: أي وكذلك أمَرَكم سبحانه بالإحسان إلى الأب والأم (وذلك بتأدية حقوقهما، وبطاعة أمْرهما - في غير معصية الله - وبالإنفاق عليهما، وإكرام صديقهما، وصلة رَحِمِهما، والدعاء لهما، وطلب رِضاهما)، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 3507)، وخُصوصاً: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾ - أي حال الشيخوخة - إذا بلغ ﴿أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ سن الكِبَر وهم عندك (أي في بيتك أو في حال وجودك بينهما) ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ: أي فلا تُسمِعهما قولاً سيئًا، حتى ولو كانَ كلمة (أف) (التي هي أقل مراتب القول السيئ)، ولا يَضِق صدرك مِن أيّ شيئٍ تراه منهما في هذا السن، بل يَجب عليك أن تَخدمهما كما كانا يَخدمانك وأنت طفل (حِينما كانا يَغسلان ويُنَظِّفان ولا يَتضايقان أو يَتأففان)، ﴿وَلَا تَنْهَرْهُمَا أي لا ترفع صوتك عليهما، ولكن ارفق بهما ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ أي قولا لطيفًا لَيِّنًا يُسعِدهما، ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾ يعني كُنْ لأمك وأبيك ذليلاً متواضعًا.

وقوله تعالى: ﴿مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ أي تواضُعاً ناشئاً مِن رحمتك بهما، ﴿وَقُلْ﴾ - داعياً ربك -: ﴿رَبِّ ارْحَمْهُمَا﴾ أحياءً وأمواتًا ﴿كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا: يعني كما صَبَرا على تربيتي وأنا صغير، ضعيف الحول والقوة.

واعلم أنّ الفعل (قَضَى) يأتي بأكثر مِن مَعنى، فهنا قد أتى بمعنى (أمَرَ وَوَصَّى)، وأحياناً يأتي بمعنى: (انتهى)، كقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ ، وأحياناً يأتي بمعنى: (حَكَمَ وقدَّر)، كقوله تعالى: ﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ، وأحياناً يأتي بمعنى: (خَلَقَ)، كقوله تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ .

واعلم أيضاً أنّ قوله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنّ) مَعناه: إنْ يَبلغ، و(ما) تُسَمّى (ما الزائدة لتقوية الكلام)، والنون في ﴿ يَبْلُغَنّ ﴾ هي نون التوكيد.

ثم أخبَرَ تعالى أنه أعلم بما في نفوس العباد، فمَن كان يَكتم بداخله السخط على والديه والضِيق من خِدمتهما، فإنّ اللهَ يُعاقبه على ذلك، ومَن كان يَكتم حُبّهما واحترامهما ويَتذكر جَميلهما، فإنّ اللهَ يَجزيه بالإحسان، قال تعالى: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ﴾ - سواء كانَ خيراً أو شراً - فـ﴿إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ﴾ يعني إن تنووا بأعمالكم الصالحة: رضا اللهِ عنكم ودخول جنته ﴿فَإِنَّهُ﴾ سبحانه ﴿كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا :أي كتبَ تعالى على نفسهِ أنه غفورٌ للتائبينَ إليه بصِدق، الراجعينَ إليه في كل وقت، (واعلم أنّ الأوّاب: هو الذي كلما أذنبَ تاب، وكلما ذَكَرَ ذنبه استغفر).

ولعل اللهَ تعالى ذَكَرَ مَغفرته للتائبين بعد أنْ أمَرَ ببِرّ الوالدين، لأنه سبحانه يَعلم انّ الإنسان قد يَضعف مَرّة ويَكتم بداخله الضِيق مِن خدمة والديه (وهما في هذا السن) أو قد يَعلو صوته عليهما مَرّة - وهو في الأصل صالح، مُؤَدٍّ لحقوق اللهِ تعالى وحقوق والديه وحقوق الناس - فهذا العبد الصالح يَغفر اللهُ له متى رَجَعَ إليه مُستغفراً نادماً.

الآية 26: ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ: يعني وأعطِ الأقرباء حقوقهم من الصلة والبِرّ، وكذلك أعطِ الفقير المُحتاج مِن مالك، وكذلك المسافر الذي فَقَدَ ماله - أو نَفَذ ماله - واحتاجَ للنفقة، ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ أي: ولا تُنفِق مالك في غير ما يُحبه الله، أو على وَجْه الإسراف والتبذير، (وقد ذَكَرَ سبحانه كلمة ﴿ تَبْذِيرًا لتأكيد النهي، يعني كأنه قيل: (لا تبذر، لا تبذر)، وذلك لكثرة ما في التبذير من المفاسد).

الآية 27:  ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ أي هُم أشباه الشياطين في هذا الفعل القبيح (لأنهم بتبذيرهم للمال في المعاصي، كانوا خارجينَ عن أمْر ربهم مِثل الشياطين)، وقد كان العرب يُسَمُّونَ المُواظب على الشيء: أخاً له، فيقولون مَثَلاً: (فلان أخو الكرم)، وغير ذلك، ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا أي كثير الكُفران، شديدَ الجحود لنعمة ربه (فكذلك المُبَذِّر للمال في المعاصي: لم يَشكر نعمة ربه عليه، وضَيَّعَ المال).

واعلم أنّ الفعل (كان) إذا جاء مع صفة معينة، فإنه يدل على أنّ هذه الصفة مُلازِمة لصاحبها، كقوله تعالى - واصفاً نفسه بالرحمة والمغفرة -: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا أي كانَ - أزَلاً وأبَداً - غفوراً رحيماً.

الآية 28:  ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ: يعني وإن أعرضتَ عن إعطاء هؤلاء (الذين أمَرَكَ اللهُ بإعطائهم، لعدم وجود ما تعطيهم منه)، فتباعدتَ عن لقائهم حياءً منهم، و﴿ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا: أي انتظاراً لرزقٍ ترجوه مِن اللهِ تعالى ﴿فَقُلْ لَهُمْ﴾ يعني وأنتَ تُعرِض عنهم قل لهم ﴿قَوْلًا مَيْسُورًا: أي قولا ليِّنًا لطيفًا سهلاً (كالدعاء لهم بسعة الرزق، وبأنْ تَعِدهم أنّ اللهَ إذا يَسَّرَ مِن فضله رزقًاً أن تعطيهم منه)، فيكون ذلك أشبه بالعطاء العاجل لهم (فيَفرحوا به ولا يَحزنوا).

الآية 29: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ: أي لا تُمسِك يدك عن الإنفاق في وجوه الخير - مُضَيِّقًا على نفسك وعلى أهلك وعلى المحتاجين - كأنّ يدك مربوطة إلى عنقك (لا تستطيع أن تعطي بها شيئاً)،  ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ أي: ولا تنفق كل ما بيدك ﴿فَتَقْعُدَ﴾ أي فتصير ﴿مَلُومًا يَلومك الناس على ما فعلتَ، ويَلومك مَن حَرَمتهم من الإنفاق، ﴿مَحْسُورًا﴾ أي نادمًا على ضياع مالك.

الآية 30، والآية 31:  ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ أي يُوَسِّع الرزق على مَن يشاءُ مِن عباده ويُضَيِّقه على مَن يَشاءُ منهم (وذلك بحسب حِكْمته البالغة؛ إذ هو سبحانه الأعلمُ بما يُصلِح عباده مِن الفقر والغنى)، ﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا: أي هوالمُطَّلِع على خَفايا عباده، لا يَغيب عن عِلمه شيءٌ من أحوالهم.

فإذا علمتم أنّ الرزق بيَد اللهِ سبحانه، إذاً: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ: أي لا تقتلوا أولادكم خوفًا من الفقر، فـ ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ: يعني إنّ اللهَ سبحانه هو الرزاق لعباده، فيَرزق الأبناء كما يَرزق الآباء،  ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا:  يعني إنَّ قَتْلَ الأولاد كانَ ذنباً عظيماً عند اللهِ تعالى.

الآية 32:  ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا أي ابتعدوا عن أسبابه وعن الطرق المُوصلة إليه حتى لا تقعوا فيه، ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ يعني إنّ الزنا شيئٌ بالغ القبح ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ أي: وبئس الطريق طريقه (لأنه يؤدي بصاحبه إلى النار).

الآية 33: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلها﴿إِلَّا بِالْحَقِّ: يعني إلا بالحق الشرعي (كالقِصاص، ورَجْم الزاني المتزوج، وقتل المُرتَدّ)، واعلم أنّ تنفيذ هذا القِصاص يكون عن طريق وَلِيِّ الأمر (وهو حاكِمُ البلد).

﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا: يعني ومَن قُتِلَ بغير حقٍّ شرعي: ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ﴾ أي جعلنا لِوَرَثَة المقتول ﴿سُلْطَانًا﴾ أي حُجَّة في أن يَطلبوا من الحاكم قَتْلَ القاتل أو يَطلبوا منه الدِيَة (وهي مائة من الإبل، أو ألف دينار ذهب، أو اثنا عشر ألف درهم فضة) يَدفعها القاتل إلى أهل المقتول، ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ: أي فلا يَصِحّ لِوَلِيّ المقتول أن يَتجاوز حَدَّ اللهِ في القِصاص (كأن يُشَوِّه جُثَّة القاتل، أو أن يَقتل - مقابل الواحد - اثنين أو جماعة، أو أن يَقتل غير القاتل)، ﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا: أي قد وَعَدَ اللهُ وليّ المقتول أن يُعِينه على القاتل حتى يَتمكن مِن قَتْله (بالقِصاص عن طريق الحاكم) أو بأخْذ الدِيَة.

الآية 34: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ - الذي صارَ في أمانتكم وكَفالتكم - ﴿إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: يعني إلا بما يُصلِح أمواله  لِيَنتفِع بها (وذلك باستثمارها له) والإنفاق عليه منها ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ: أي حتى يصل إلى سنَّ البلوغ وحُسن التصرف في المال، فعندئذٍ أعطوه ماله، ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ: يعني وأوفوا بكل عهدٍ عاهدتم اللهَ عليه أو عاهدتم عليه العباد ﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ أي مسئولاً عنه، بمعنى أنّ الله سيَسأل صاحب العهد يوم القيامة: (لماذا نقضتَ عهدك؟)، ثم يُثِيبه إذا أتَمَّهُ ووَفَّاه، ويعاقبه إذا غَدَرَ وخان.

الآية 35:  ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أي لا تُنقِصوا الكيلَ ﴿إِذَا كِلْتُمْ﴾ للناس، ولو كانَ شيئاً يسيراً (ما دامَ في الإمكان عدم نَقصه)، أما ما يَصعب الاحتراس منه: فهو مَعفو عنه، لقوله تعالى: ﴿ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ، ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ: أي زِنوا بالميزان العادل، ﴿ذَلِكَ﴾ أي العدل في الكيل والوزن، هو ﴿خَيْرٌ﴾ لكم في الدنيا (إذ يُبارك اللهُ في ذلك المال الحلال بأنواعٍ من البركات لا يَعلمها إلا هو سبحانه)، ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي: وذلك أحسنُ عاقبةً في الآخرة، (فإنّ مَن تَرَكَ المعصية وهو قادرٌ على فِعلها: أثابهُ اللهُ تعالى بأحسن الثواب في الجنة).

الآية 36: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تَتَّبِع الظن في أمورك - وهذا كقوله تعالى:  ﴿ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾ - فلا تَحكم على شيءٍ بمجرد الظن، ولا تَشهد إلا بما رأيته بعينك وسَمِعْته بأذنك وفهِمْته بقلبك، فـ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا: يعني إنّ الإنسان مسؤولٌ عما استعمَل فيه سَمْعه وبصره وقلبه، فإذا استعمَلهم في الخير نالَ الثواب،  وإذا استعملهم في الشر نالَ العقاب.

واعلم أنّ مِن الأعمال القلبية التي يُعاقب اللهُ عليها: (سُوء الظن بغير دليل، ومَيْل القلب إلى الحُكم بالهوى (أي مِن غير بيِّنة)، وكِتمان الشهادة، وتَبْييت الشر للمسلمين، والفرح بما يَحدث لهم مِن مكروهٍ أو خِصام، والغل، والحسد، والإعجاب والغرور بالعمل الصالح، والرياء، والكِبر، والنية السيئة التي يَترتب عليها العمل الفاسد).

واعلم أيضاً أنّ هذا النهي: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ قد وَضَعَ حَدّاً لكثير مِن المَفاسد التي تقع بسبب القول بدون عِلم (كالكَذب، وشهادة الزور، واتّهام الناس بالفاحشة لمجرد الظن، وغير ذلك)، فللهِ الحمدُ على تشريعه الحكيم.

الآية 37: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا أي مُختالاً مُتكبراً، فـ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ﴾ بالمشي عليها (لأنّ المُتكبر يَضرب الأرض برجليه اعتزازاً واهتزازاً)، ﴿وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ مَهما تعاليتَ وتطاولتَ على الناس، إذاً فلماذا التكبر عليهم وأنت بَشَرٌ مثلهم؟!، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم -: (لا يَدخل الجنة مَن كانَ في قلبه مِثقال ذرةٍ مِن كِبْر)، فقال رجل: (إنّ الرجل يُحب أن يكون ثوبه حَسَناً ونَعْله حسناً)، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنّ اللهَ تعالى جميلٌ يُحب الجمال، الكِبْر: بَطَر الحق - (أي التكبر على الحق وعدم قبوله) - وغَمْط الناس - أي: احتقارهم).

الآية 38:  ﴿كُلُّ ذَلِكَ أي جميع ما تقدَّم ذِكْرُه مِن أوامر ونَوَاهٍ: ﴿كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ (واعلم أنّ المقصود بكلمة ﴿ سَيِّئُهُ ﴾ أي الأفعال القبيحة التي ذُكِرَتْ في الآيات السابقة (كالتبذير، والبُخل، وقتْل الأولاد، والزنا، وقتْل النفس، وأكْل مال اليتيم، ونقص الكيل والميزان، والقول بلا عِلم، والتكبر)، فكل هذه الأشياء مَكروهة عند اللهِ تعالى، ويُعاقب عليها في نار جهنم).

وأمّا ما كانَ حَسَناً في الآيات السابقة (كعبادة اللهِ تعالى وحده، وبِرّ الوالدين، والإحسان إلى الأقرباء والمساكين وابن السبيل، والوعد الحَسَن بإعطائهم متى تيَسَّر)، فكل هذه الأشياء يُحبُّها اللهُ ويَرضاها، ويُعطي ثوابها في جنات النعيم.

الآية 39: ﴿ذَلِكَ أي الأمر بمَحاسن الأعمال، والنهي عن سَيّئ الأخلاق، هو ﴿مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ يعني: هو مِن الحِكَم التي وَصَّى اللهُ بها عباده ليَهتدوا بها، ويَسعَدوا في الدنيا والآخرة، ﴿وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ (هذه هي أُمّ الحِكَم، حيثُ بدأ بها سبحانه الآيات السابقة عندما قال: ﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ﴾، ثم خَتَمَها بها تأكيداً للتوحيد)، إذاً فلا تُشرك أيها الإنسان بعبادة ربك شيئاً ﴿فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا أي تَلومك نفسك على شِرْكك بربك، وتَصيرُ ﴿مَدْحُورًا﴾ أي مَطرودًا مُبعدًا من الجنة.

الآية 40:  ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ: يعني أفخَصَّكم ربكم أيها المشركون بإعطائكم البنين ﴿وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا: أي واتّخذ سبحانه الملائكة بناتٍ لنفسه؟! (والاستفهام غرضه التوبيخ والإنكار على الكفار الذين قالوا: الملائكة بنات الله) ﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا:  يعني إنّ قولكم هذا بالغ القُبح والبَشاعة، إذ تَكرهون لأنفسكم البنات وتَنسبونها كَذِباً وافتراءً للهِ تعالى.

الآية 41: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ أي وَضّحنا فيه الأحكام والحُجج، ونَوَّعْنا فيه المَواعظ والأمثال والوعد والوعيد ﴿لِيَذَّكَّرُوا أي ليَتّعظ الناس ويَتدبروا (فيَأخذوا ما يَنفعهم، ويَتركوا ما يَضُرّهم)، ﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ أي: ولكنّ هذا البَيان والتوضيح لا يَزيدُ الظالمين إلا تَباعُدًا عن الحق، وغفلةً عن التأمل والاعتبار (وذلك لِعِنادهم وتقليدهم الأعمى بغير دليل).

الآية 42، والآية 43، والآية 44:  ﴿قُلْ - أيها الرسول - لهؤلاء المُشركين: ﴿لَوْ كَانَ مَعَهُ﴾ سبحانه ﴿آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ﴾ - افتراءً وكذباً على اللهِ تعالى -: ﴿إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا: أي لَطَلبَتْ تلك الآلهة طريقًا إلى مُغالَبة اللهِ ذي العرش العظيم ليُزِيلوا مُلْكَه (كما يَفعل ملوك الدنيا)، ثم بَرَّأَ تعالى نفسه مِن أن يكون معه آلهة فقال: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، (واعلم أنّ بعض المُفسرين قد قالوا في قوله تعالى: ﴿ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ﴾ أي لَطَلَبوا طريقاً إلى اللهِ تعالى ليَلتمسوا رضاه، ويَطلبوا التقرب إليه، وذلك لجَلاله وكَماله، وغِناه عنهم وحاجتهم إليه، واللهُ أعلم).
وهو سبحانه ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ - مِن الملائكة والجنّ والإنس - ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ: أي: وما مِن شيءٍ مِن سائر المخلوقات ﴿إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ أي يُسَبِّحُ اللهَ تعالى تسبيحاً مَقرونًا بالثناء والحمد ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ: أي ولكنكم أيها الناس لا تفهمونَ تسبيحهم.

واعلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تَستقل الشمس - أي ما ترتفع الشمس في يومٍ ما - فيَبقى شيءٌ مِن خَلق اللهِ إلا سَبَّحَ اللهَ بحمده، إلا ما كانَ مِن الشياطين وأغبياء بني آدم) (أي قَليلِي الفِطنة، فهؤلاء لا يُسَبّحونَ ربهم) (انظر حديث رقم: 5599 في صحيح الجامع)، (واعلم أنّ أتْباع إبليس - وإن لم يُسَبّحوا اللهَ بلسانهم - فإنهم يُسَبّحونه بحالهم (إذ يَشهدون بفِطرتهم أنّ اللهَ سبحانه هو الخالق القادر)، ﴿إِنَّهُ سبحانه ﴿كَانَ حَلِيمًا﴾ بعباده، فلا يُعاجل مَن عَصاهُ بالعقوبة، ﴿غَفُورًا﴾ لمَن تابَ إليه منهم (إذ لو لم يَكن سبحانه حَليماً: لَعَجَّلَ عقوبة مُشركي مكة، ولكنه أَمْهَلهم حتى تابَ أكثرهم)
.
(1) وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
 
رامى  حنفى محمود
 
شبكة الالوكة


يتبع

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
تفسير الربع الثالث من سورة الإسراء

الآية 45، والآية 46: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ يا محمد، فسَمِعَه هؤلاء المشركون: ﴿ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا أي حاجزًا يَحجُب عقولهم عن فَهْم القرآن (عقابًا لهم على كُفرهم واستهزائهم)، وقد جعل اللهُ هذا الحجابَ ﴿ مَسْتُورًا أي لا يُرَى، ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً يعني أغطيةً ﴿ أَنْ يَفْقَهُوهُ ﴾: أي حتى لا يَفهموا القرآن، ﴿ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾: أي وجعلنا في آذانهم ما يُشبه الصَّمَم، حتى لا يَسمعوا القرآن سماعَ تدبُّر وانتفاع، (وهذا كله عقوبةٌ لهم مِن اللهِ تعالى، بسبب إيذائهم للرسول صلى الله عليه وسلم وكَراهيتهم لِمَا جاءَ به من الحق).
 
﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ يعني إذا ذَكَرْته سبحانه - داعيًا إلى توحيده، ناهيًا عن الشِرك به -: ﴿ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴾: أي يَجْرونَ نافرينَ مِن قولك، مُستكبرينَ أنْ يُوَحِّدوا اللهَ في عبادته (بسبب تَعلُّق قلوبهم بالشِرك).
 
الآية 47، والآية 48: ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ ﴾: أي نحن أعلم بالغرض الحقيقي الذي بسببه يَستمع رؤساء قريش لقراءتك (وهو السُخرية منك ومِمّا تَتلوه) ﴿ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ومَقاصدهم سيئة (فليس استماعهم لأجل الاسترشاد وطلب الوصول إلى الحق)،  ﴿ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ﴾: أي وكذلك نَعلم ما يَقولونه سِرًّا فيما بينهم ﴿ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا أي يقول السادة لِمَتبُوعيهم: (ما تَتَّبعونَ إلا رَجُلًا قد أصابه السِحر فأصبح مَخدوعًا به، فلا تتأثروا بكلامه ولا تلتفتوا إليه).
 
﴿ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ﴾: أي تأمَّل أيها الرسول، وتعجَّب مِن قولهم عنك بأنك ساحر شاعر مجنون!! وذلك حتى يُلقوا الشُكوك حولك، باحثينَ بذلك عن طريقٍ يُخَلِّصهم مِن دعوة التوحيد، ولكنهم لم يستطيعوا، ولذلك قال تعالى: ﴿ فَضَلُّوا أي ضَلُّوا عن طريق الحق والصواب بسبب هذه الأقوال الكاذبة ﴿ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي فلا يَجدونَ طريقًا يَرجعونَ به إلى الحق الذي تَرَكوه، أو يَتمكنوا به مِن صَرْف الناس عن دَعْوَتك (والذي أَوْقعهم في ذلك تَكَبُّرهم وعِنادهم).
 
من الآية 49 إلى الآية 52: ﴿ وَقَالُوا أي وقال المُشركونَ المُنكِرونَ للبعث: ﴿ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا مُتَحللة ﴿ وَرُفَاتًا أي ترابًا وأجزاءً مُفتتة: ﴿ أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بعد ذلك ﴿ خَلْقًا جَدِيدًا بعد الموت؟، ﴿ قُلْ لهم أيها الرسول - على سبيل التعجيز -: ﴿ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أي كونوا كالحجارة في شِدَّتها، أو كالحديد في قوَّته، فإنّ اللهَ سيُعيدكم كما بدأكم، وذلك يسيرٌ عليه سبحانه، ﴿ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾: يعني أو كونوا خلقًا تَستعظمه نفوسكم، وتَستبعده عقولكم أن يُبعَث مَرّة أخرى (كالسموات والأرض والجبال)، فإنّ اللهَ تعالى قادرٌ على إعادتكم وبَعْثكم، ﴿ فَسَيَقُولُونَ - مُنكِرين -: ﴿ مَنْ يُعِيدُنَا ﴾: يعني مَن يَرُدُّنا إلى الحياة بعد الموت؟ ﴿ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾: أي يُعيدكم اللهُ الذي أنشأكم مِن العدم أول مَرّة.
 
فإذا سَمِعوا هذا الرد، وقامت عليهم الحُجّة: ﴿ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ﴾: أي فسوف يَهُزُّون رؤوسهم ساخرينَ ﴿ وَيَقُولُونَ - مُستبعِدين -: ﴿ مَتَى هُوَ يعني متى يقع هذا البعث؟ ﴿ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا أي هو قريب؛ فإنّ كل آتٍ قريب، ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ سبحانه للخروج من قبوركم ﴿ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ﴾: أي فتستجيبونَ له مُنقادينَ لأمْره، قائلينَ: (سبحانك اللهم وبحمدك)، كما قال سعيد بن جبير رحمه الله: (يَخرج الكفار مِن قبورهم وهم يقولون: سبحانك وبحمدك) ﴿ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ﴾: أي وتظنون - لهَول يوم القيامة وطُوله - أنكم ما أقمتم في الدنيا (وأنتم أحياء)، ولا في قبوركم (وأنتم أموات) إلا زمنًا قليلًا.
فكأنهم قد نَسوا في تلك اللحظة كل ما مَرّ بهم في الدنيا، وكُلّ ما مَرَّ بهم في القبر، وذلك لِمَا شاهَدوه من أهوال القيامة، ولطُول وقوفهم في حر الشمس، ولتغطية العَرَق لجميع جسدهم، وبسبب رؤيتهم لجهنم التي سيُعَذَّبونَ فيها (والإنسانُ إذا اشتدّ خَوْفه: نَسِيَ كل ما مَرَّ به مِن نعيمٍ أو عذاب، خاصةً إذا قارنَ ذلك بعذاب الآخرة الأبدي).
 
الآية 53: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي المؤمنين ﴿ يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾: أي يقولوا الكلمة التي هي أحسن مِن غيرها (وذلك أثناء حديثهم مع الناس)؛ فإنهم إنْ لم يَفعلوا ذلك، فـ ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾: يعني فإنّ الشيطان يُلقى بينهم العداوة والإفساد ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا أي عداوته ظاهرة للإنسان.
والمقصود أن يَتفكَّروا في كلامهم قبل أن يقولوه للناس، وذلك حتى لا يُؤذوهم به، ولأنّ ذلك سوف يؤدي إلى دخول الشيطان في صَدر مَن تأذَّى بكلامهم، فيَنشأ عنده الغِلّ والغضب والكَراهية لهم.
 
الآية 54، والآية 55: ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْيعني هو سبحانه أعلم بمَن يَستحق الرحمة منكم، ومَن يَستحق العذاب، فـ ﴿ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بفَضله، ﴿ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بعَدله، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًاأي: وما أرسلناك - أيها الرسول - عليهم وكيلًا تُجبِرُهم على الإيمان أو تُجازيهم على أفعالهم، وإنما عليك فقط: (تبليغ ما أُرْسلتَ به، وبيان الطريق المستقيم)،  ﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فهو سبحانه أعلم بمَن يَستحق الهِداية ومَن يَستحق الضلال، فلذلك فَوِّض أمْرَ الهِداية إليه.
 
﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ (هذه الجُملة لبَيان أنّ اللهَ تعالى أعلم بخَلقه، وأنه سبحانه يُعطي كل عبد ما يَستحقه، حتى إنه فضَّلَ بعض أنبيائه على بعض، في الخصائص والفضائل والكتب وغير ذلك) ﴿ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾: أي وأعطينا داود كتابًا اسمه الزَبور، وهو كتابٌ لم يُذكَر فيه الحلال والحرام والفرائض والحدود (لعدم الحاجة إلى ذلك لوجود التوراة بين اليهود)، وإنما هو كتابُ دعاءٍ وأذكار ومَواعظ (وهذا نوع من أنواع التفضيل).
 
الآية 56: ﴿ قُلِ - أيها الرسول - لمُشرِكي قومك: ﴿ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ﴾: أي ادعوا مَن تعبدونهم من دون اللهِ إذا مَسَّكم الضرِّ: ﴿ فَلَا يَمْلِكُونَ ﴾: أي فإنهم لا يستطيعونَ ﴿ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ أي إزالته عنكم (بشفاء المريض مَثَلًا) ﴿ وَلَا تَحْوِيلًا أي ولا يَقدرون على تحويل هذا الضر مِن حالٍ إلى حال، أو مِن شخصٍ إلى شخص (كأن يُحَوِّلوا المرض مَثَلًا مِن الشخص المريض إلى شخصٍ آخر - عدو له - ليَمرض به)، فالقادر على ذلك هو اللهُ وحده.
واعلم أنّ هذه الآية عامة في كل ما يُدْعَى مِن دون اللهِ تعالى - من الأنبياء والصالحين وغيرهم - مِمّن يَتقرب الناس إليهم، أو يُنادونهم بلفظ الاستغاثة أو الدعاء (إذ لا يَكشف الضر إلا الله).
وهنا يَنبغي أن نَعرف معنى كلمة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها كنز من كنوز الجنة، وذلك حتى نقولها بخشوعٍ للهِ تعالى - ونحن نَستشعر معناها - فتكون أدعَى للقبول عند الله.
- فأمّا معنى (لا حَول): أي لا تَحوُّل عن مَعصية اللهِ إلى طاعته إلاّ بإعانته سبحانه، وأمّا معنى (لا قوة) أي لا قوة على أداء الطاعة - كما يُحب ربنا ويَرضى ويَقبل - إلا بإعانته سبحانه، (وبالجُملة فإنه لا تحوُّل عن شيئٍ إلا بالله، ولا قوة على شيئٍ إلا بالله، واللهُ أعلم).
 
الآية 57: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ﴾: يعني أولئك الذين يُناديهم المشركون - مِن الصالحين وغيرهم - هم أنفسهم ﴿ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾: أي يَطلبون القُربَ من ربهم بالطاعات وأنواع القُرُبات، ويَتنافسون في الحصول على رضاه عنهم بما يَقدرون عليه، ﴿ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ سبحانه ﴿ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾.

واعلم أنّ سبب نزول قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُون يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ﴾ - كما ثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه - أنّ أُناسًا من العرب كانوا يَعبدونَ بعض الجنّ، فأَسْلَمَ الجِنيّون، ولم يَشعر الذين يَعبدونهم بإسلامهم، فبَقوا يَعبدونهم.
وفي الآية بيان حقيقة عقلية وهي أنّ دعاء الأولياء والاستغاثة بهم والتقرب إليهم: هو أمْرٌ باطل، لأنّ الأولياء كانوا قبل مَوتهم يَطلبون القُرب مِن ربهم بأنواع الطاعات والقُرُبات، ومَن كان يَعبُد لا يُعبَد، ومَن كان يَتَقرّب لا يُتقَرَّب إليه، ومَن كان يَتَوَسَّل لا يُتَوسَّل به، بل يُعبَد الذي كانَ يَعْبُدُه الأولياء، ويُتَقرَّب إلى الذي كانوا يَتَقرَّبونَ إليه، وهو اللهُ سبحانه وتعالى.
واعلم أنّ هذه الآية قد جمعتْ بين الخوف والرجاء، وهُما كَجِناحَي الطائر، إذا انكسر أحدهما: لم يَطِر الآخر، ولذلك لابد للمؤمن منهما، فالخوف يَدفعه إلى أداء الفرائض واجتناب المُحَرَّمات، والرجاء يَدفعه إلى المسابقة في الخيرات، وبذلك تتم ولايته لربه ويأمَن عاقبة أمْره (وأمّا رأس الطائر - كما يقول العلماء - فهو حُبّ اللهِ تعالى).
 
﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾: يعني إنّ عذابَ ربك هو الذي يَجب أن يَحذره العباد - بتَرك المعاصي - لأنّ عذابه تعالى لا يُطاق ولا يُحتمَل.
 
الآية 58: ﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ﴾: يعني وما مِن قريةٍ ظالمة مُكَذِّبة للرُسُل ﴿ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴿ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ببلاءٍ شديدٍ يُصِيبُ أهلها الكفار، ﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾: يعني وهذا قضاءٌ كَتَبَهُ اللهُ في اللوح المحفوظ، ولابد مِن وقوعه.
 
الآية 59: ﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ ﴾: يعني وما مَنَعَنا مِن إنزال المُعجزات التي طلبها كفار مكة ﴿ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ يعني إلا تكذيب مَن سَبَقهم من الأمم (فقد أجابهم اللهُ إلى ما طلبوا، فكَذَّبوا، فأهلكهم الله)، فلو أعطى اللهُ كفارَ قريش تلك المعجزات التي طلبوها، ثم كَذَّبوا بها لأََهلكهم، وهو سبحانه لا يريد إهلاكهم، بل يريد هدايتهم، ليَهتدي على أيديهم خلقًا كثيرًا من العرب وغيرهم، ﴿ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ﴾: أي ولقد أعطينا ثمود - وهم قوم صالح - مُعجزةً واضحة (وهي الناقة) ﴿ فَظَلَمُوا بِهَا أي كَذَّبوا بها وذبحوها، فظلموا بذلك أنفسهم (واعلم أنّ ظُلم النفس هو تعريضها لعذاب اللهِ تعالى)، ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾: يعني وما نُرسِلُ الرُسُل بالمعجزات إلا لنُخَوِّف العباد مِن التكذيب بها حتى يؤمنوا ويطيعوا.
 
الآية 60: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ أي اذكر - أيها الرسول - حين قلنا لك: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ أي إنه سبحانه مُحيطٌ بعباده، قادرٌ عليهم، وهم تحت قهره وسلطانه، فلا تَخَف منهم أحدًا، فإنّ اللهَ سيَنصرك على مَن استمر منهم في الظلم والعناد، ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ ﴾: يعني وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها بعَينك - من عجائب المخلوقات - ليلة الإسراء والمعراج ﴿ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أي اختبارًا لهم، ليَتميز الكافر مِن المُؤمن، (واعلم أنّ لفظ الرؤيا يُطلق على الرؤيا في المنام، وكذلك يُطلق على رؤية العين، وقد قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما - كما في صحيح البخاري -: (هي رؤيا عين - أي: رؤيا حقيقية بالعين - أُرِيَها النبي صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسْرِيَ به إلى بيت المقدس).
 
﴿ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ أي: وكذلك شجرة الزقوم الملعونة، التي ذُكِرَتْ ﴿ فِي الْقُرْآَنِ جعلناها فتنةً لأهل مكة، إذ أخبر تعالى أنها شجرةٌ تخرج في أصل الجحيم، فقالوا: (كيف يَصِحّ وجود نخلة في وسط النار، والنار لا تحرقها)؟، (وقد قيل إنها (ملعونة) لأنّ العرب كانوا يقولون في كل طعامٍ مَكروه: (إنه ملعون)، ويُحتمَل أن يكون المقصود باللعن هنا: (لَعْن آكِلها)، أي: الشجرةُ الملعون آكلها، واللهُ أعلم)، ﴿ وَنُخَوِّفُهُمْ بهذه الشجرة، وأنها تغلي في البطون كغَلي الحميم (وهو الماء الساخن)، وكذلك نُخَوِّفهم بمختلف أنواع العذاب ﴿ فَمَا يَزِيدُهُمْ ذلك التخويف ﴿ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا أي لا يَزيدهم إلا استمرارًا في الكفر والتكبر عن قبول الحق.
 
الآية 61، والآية 62: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ أي اذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين - الذين أطاعوا عدوهم وعدو أبيهم، وعصوا ربهم مِن أجْله - اذكر لهم حين قلنا للملائكة: ﴿ اسْجُدُوا لِآَدَمَ (سجود تحيةٍ وتكريم، وليس سجود عبادةٍ وخضوع)، ﴿ فَسَجَدُوا جميعًا ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ الذي كان يَعبد اللهَ معهم،فإنه ﴿ قَالَ للهِ تعالى - مُظهِرًا كِبْره وحسده -: ﴿ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا يعني أأسجد لهذا الضعيف، المخلوق من الطين؟، و ﴿ قَالَ إبليس للهِ تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ﴾: يعني أرأيتَ هذا المخلوق الذي فضَّلتَهُ عليَّ بالأمر بالسجود له: ﴿ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ يعني لئن أبقيتَني حيًا ﴿ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ يعني لأستولينَّ على ذريته، فأقودهم إلى الضَلال والإفساد، (كالدابّة التي يقودها راكبها وهو يضع اللجام في حَنَكها، أي في فمها) ﴿ إِلَّا قَلِيلًا منهم، وهم الذين أخلصوا عبادتهم لك (كما جاء ذلك في آيةٍ أخرى)، (واعلم أنّ قول إبليس: (إلا قليلًا) كانَ ظنًّا منه فقط، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .
 
الآية 63، والآية 64، والآية 65: ﴿ قَالَ اللهُ تعالى مُهَدِّدًا إبليس وأتْباعه: ﴿ اذْهَبْ مَطرودًا من الجنة، مُمهَلًا إلى وقت النفخة الأولى، ﴿ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي فمَن أطاعك مِن ذرية آدم: ﴿ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ﴾: يعني فإنّ عقابكم سيكون وافرًا كاملًا في نار جهنم، ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ﴾: أي اخدع كل مَن تستطيع خداعه منهم ﴿ بِصَوْتِكَ أي بدعوتك لهم إلى المعاصي، ﴿ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ﴾: أي اجمع عليهم مَن استطعتَ مِن جنودك (مِن كل راكبٍ وماشي) لإضلالهم، (واعلم أنّ الإجلاب هو الصياح بصوت مسموع للتحريض على فِعل شيئ)، ﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ ﴾: أي كُن شريكًا لهم في أموالهم (بتزيين الكسب الحرام لهم)، وشريكًا لهم في أولادهم (بتزيين الزنا لهم)، ﴿ وَعِدْهُمْ بالوعود الكاذبة (بأنهم لن يُعذَّبوا، أو بأنه سيُغفَر لهم، حتى وإن استمروا على المعاصي ولم يتوبوا) ﴿ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أي خِداعًا لا صِحَّة له، ولا دليلَ عليه.
وقال تعالى له: ﴿ إِنَّ عِبَادِي أي المُخلَصين، الذين أطاعوني واعتصموا بي منك ﴿ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ أي ليس لك قدرةٌ على إضلالهم، وليس لك قوة تتسلط بها على قلوبهم ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾: أي كفى بربك حافظًا للمؤمنين مِن كَيدك وإضلالك.
 
الآية 66: ﴿ رَبُّكُمُ - أيها الناس - هو ﴿ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ﴾: أي يُسَيِّر لكم السفن في البحر بواسطة الرياح ﴿ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي لتطلبوا رِزقَ اللهِ في أسفاركم وتجاراتكم، ﴿ إِنَّهُ سبحانه ﴿ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا أي كتبَ على نفسهِ أنه رحيمٌ بكم (ومِن رحمته بكم أنْ سَخَّرَ لكم البحر ليَحمل السفن رغم ثِقَلها).
 
الآية 67: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ﴾: يعني إذا أصابتكم شِدَّةٌ في البحر، حتى أشرفتم على الغرق والهلاك، فحينئذٍ: ﴿ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ﴾: أي غابَ عن عقولكم كل مَن تعبدونهم مِن دون الله، وتذكَّرتم اللهَ وحده ليُنقذكم، فأخلصتم له الدعاء والاستغاثة، ﴿ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ سبحانه ﴿ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن الإيمان والعمل الصالح، وهذا مِن جَهْل الإنسان وكُفْره ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا أي جَحودًا لنعم اللهِ تعالى، مُعرِضًا عن شُكره (إلا مَن عَصَمَه اللهُ تعالى، وعَلَّمَه أن الذي يُنَجِّي من الشدائد والأهوال، هو الذي يَستحق أن تُخلَص له سائر الأعمال، في الشدة والرخاء).
 
الآية 68، والآية 69: ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ ﴾: يعني هل أَمِنتم - أيها الناس - إنْ كَفرتم بربكم وعَصيتموه ﴿ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ﴾: أي يَخسف بكم الأرض كما فعل بقارون ﴿ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ﴾: يعني أو يُمْطركم بحجارةٍ من السماء فتقتلكم ﴿ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي: ثم لا تجدوا أحدًا يَحفظكم مِن عذابه؟ ﴿ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى ﴾: يعني أم أمِنتم أن يُعيدكم في البحر مَرَّةً أخرى؟ ﴿ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ أي يُرسل عليكم ريحًا شديدة تُكَسِّر كل ما جاءت عليه ﴿ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ أي بسبب كُفركم ﴿ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا أي: ثم لا تجدوا لكم أحدًا ينصركم علينا، أو يُطالبنا بحقٍ لكم علينا بسبب إغراقنا لكم، فإنّ الله لم يَظلمكم مِثقالَ ذرة.

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

تفسير الربع الرابع من سورة الإسراء

 

 

 

الآية 70: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ بالعقل والعِلم والنُطق واعتدال الخلق، وسَخَّرنا لهم جميع ما في الكون ﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾: أي وسَخَّرنا لهم الدَوَابَّ (في البر) والسفن (في البحر) لتحملهم، ﴿ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أي مِن طيبات المَطاعم والمَشارب (وفي هذا دليل على إبطال الزُهد في لذيد الطعام - كالعسل واللحوم والفواكه -، والاكتفاء بالخبز بالملح ونَحْوه (مع توفر طيِّب الطعام والشراب)، فهذا مُخالِفٌ لمَنهج السَلَف)، ﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا أي تفضيلاً كبيراً، (فالآدميون أفضل من الجن والحيوانات، والصالحون المُتَّقون - مِن بني آدم - أفضل من الملائكة).

 

 

 

أفلا يقوم بنو آدم بشُكر ربهم على ذلك التفضيل بتوحيده وطاعته، وألاَّ يَنشغلوا بهذه النعم عن عبادة المُنعِم سبحانه، وألاَّ يَستعينوا بها على مَعاصيه!

 

 

 

الآية 71، والآية 72: ﴿ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾: أي اذكر - أيها الرسول - يوم القيامة، يوم يَدعو اللهُ كل جماعة من الناس مع إمامهم الذي كانوا يَقتدون به (في الخير أو الشر)، فيَتقدم ذلك الإمام ووراءه أتْباعه وتُوَزَّع الكتب عليهم واحداً واحداً، ﴿ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾: أي فمَن كان منهم صالحًا، وأُعطِيَ كتاب أعماله بيمينه: ﴿ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ فَرِحين مُستبشِرين ﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾: أي ولا يُنْقَصونَ مِن ثواب أعمالهم الصالحة شيئًا (ولو كان مقدارَ الخيط الذي يكون في شَقِّ نواة التمرة).

 

 

 

وأما الذين يأخذون كتابهم بشمالهم فقال سبحانه عنهم: ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدنيا ﴿ أَعْمَى يعني أعمى القلب عن آيات اللهِ تعالى، فلم يؤمن بها رغم وضوحها: ﴿ فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى عن سلوك طريق الجنة، ﴿ وَأَضَلُّ سَبِيلًا مِن ضلال الدنيا (لأنّ ضَلال الآخرة ليس له مَخرج).

 

 

 

من الآية 73 إلى الآية 77: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أي: ولقد قارَبَ المشركون أن يَصرفوك - أيها الرسول - عن القرآن الذي أنزلناه إليك ﴿ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ﴾: أي لتقول علينا غير الذي أوحيناه إليك، فتَجيء لهم بما يُوافق أهواءهم، وتترك ما أنزل اللهُ إليك (وذلك حين طلبوا منه أن يَترك تبليغ ما فيهِ سَبٌّ لآلهتهم، وأن يَتصالح معهم ولو مؤقتاً)، وهذا مَكْرٌ منهم وخديعة، إذ لو وافقهم على شيءٍ لَطالَبوه بآخر، ولقالوا: (إنه لا يُوحَى إليه، بدليل قبوله مِنَّا كذا، وتنازُله عن كذا)، ﴿ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا يعني ولو فعلتَ ما أرادوه: لاتَّخذوكَ حبيبًا خالصًا، ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴾: يعني ولولا أنْ ثبَّتناك على الحق، وعصمناك عن مُوافقتهم، لَقاربْتَ أن تميل إليهم مَيْلاً قليلاً (لِكثرة رغبتك في هدايتهم)، ﴿ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ﴾: يعني ولو رَكَنت إليهم ركونًاً قليلاً، ووافقتَهم على بعض اقتراحاتهم: لأذقناكَ ﴿ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ أي لَضاعَفنا عليك العذابَ في الدنيا والآخرة (وذلك لِعَظيم نعمة اللهِ عليك وكمال مَعرفتك)، (ويُحتمَل أن يكون المقصود بعذاب الدنيا: تراكم المصائب أثناء مُدّة الحياة)، ﴿ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا أي: ثم لا تجد أحدًا ينصرك ويَدفع عنك عذابنا.

 

 

 

وفي هذه الآيات دليلٌ على أنه بحَسَب عِلم العبد ومَكانته: يَتضاعف عقابه (إذا فعل ما يُلامُ عليه)، كما قال تعالى لنساء النبي: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾.

 

 

 

وفي الآيات أيضاً دليلٌ على شدة افتقار العبد إلى تثبيت اللهِ له، وأنه يَنبغي أن يَظل مُتذللاً لربه أن يُثبته على الإيمان، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم - وهو أكمل الخلق -، قال الله ُله: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ فكيف بغيره؟

 

 

 

ولمّا فشلوا في المحاولات السِلمية مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أرادوا استعمال القوة، فقرروا إخراجه من مكة بالموت أو الطرد، فأخبره تعالى بذلك إعلاماً وإنذاراً فقال: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا أي: ولقد قارَبَ الكفار أن يُخرجوك من "مكة" بإزعاجهم لك، ﴿ وَإِذًا ﴾: يعني ولو أخرجوك منها كَرهاً: ﴿ لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا يعني ما أقاموا فيها خَلفك - أي بعدك - إلا زمنًا قليلاً حتى تَحِلّ بهم العقوبة العاجلة، ولكنَّ اللهَ صَرَفهم عنك حتى خرجتَ أنتَ باختيارك (عِلماً بأنّ اللهَ تعالى قد أوقع بهم يوم بدر، وقَتَلَ زعمائهم، وذلك بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فللهِ الحمد)، ﴿ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا ﴾: أي تلك هي سُنَّة اللهِ تعالى في إهلاك الأُمّة التي تُخرِجُ رسولها مِن بلده، ﴿ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾: يعني ولن تجد - أيها الرسول - لسُنَّتنا تغييرًا ولا تبديلاً، فوَعْدنا ثابتٌ لا يَتخلف.

 

 

 

من الآية 78 إلى الآية 81: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ (هذا أمْرٌ من اللهِ لرسوله بأداء الصلاة بشروطها وأركانها، في خشوعٍ واطمئنان (فإنها مَأمن الخائفين، ومَنار السالكين، ومِعراج الأرواح إلى ساحة الأفراح)، وكذلك أمَرَهُ سبحانه أن يؤديها ﴿ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي ابتداءً من وقت تَحَرُّك الشمس عن وسط السماء (وهو وقت الظهر) ﴿ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ﴾: يعني إلى وقت اشتداد ظلام الليل (ويدخل في هذا صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء)، ﴿ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ (والمقصود بقرآن الفجر هنا: أداء صلاة الفجر والقراءة فيها، لأنّ هذا عطفٌ على مواقيت صلاة الفريضة (من الظهر إلى العشاء))، (وقد يأتي لفظ "الصلاة" ويُراد به القراءة، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ ﴾ أي لا تَجهر بقراءتك في الصلاة)، (واعلم أنّ اللام التي في كلمة (لِدُلُوكِ) تسمى (لام التوقيت)، وهي بمعنى: عِندَ).

 

 

 

﴿ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾: يعني إنّ صلاة الفجر تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين -: (يَتعاقبون فيكم - أي يَتناوبون فيكم - ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يَعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: (كيف تركتم عبادي؟)، فيقولون: (تركناهم وهم يُصَلًّون، وأتيناهم وهم يُصَلًّون).

 

 

 

﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ يعني: وقم مِن نومك - أيها النبي - بعض الليل، لتتجهد بالقرآن (والمعنى أن تؤدي صلاة "قيام الليل" وتقرأ القرآن فيها)، حتى تكون صلاة الليل ﴿ نَافِلَةً لَكَ أي زيادةً لك في عُلُوّ القدر ورَفع الدرجات.

 

وبهذا قد جعل اللهُ قيام الليل واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة (زيادةً له في الثواب والتشريف)، ولهذا وَعَدَهُ بعدها أن يَبعثه مَقاماً محموداً، فقال: ﴿ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا أي: وسوف يأتي بك اللهُ شافعًا للناس يوم القيامة؛ ليَرحمهم سبحانه مِمّا يكونون فيه، (واعلم أنّ كلمة (عسى) إذا جاءت من اللهِ تعالى، فإنها تفيد الوجوب وتأكيد الوقوع)، ولِذا فقد بَشَّرَ اللهُ رسوله في هذه الآية بأن يُقِيمه يوم القيامة (مقاماً محموداً) يعني يَحمده عليه الأولون والآخرون (أي يُثنون عليه في ذلك الموقف)، فكما ثَبَتَ في الصحيحين أنّ آدم عليه السلام يَتخلى عن الشفاعة، وكذلك سائر الأنبياء، حتى تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أنا لها، أنا لها)، فيستأذن ربه في الشفاعة، فيَأذن اللهُ له، فيَشفع للخلائق في فصل القضاء، حتى يَستريحوا مِن شدة الموقف وطُوله وحَرِّه.

 

 

 

﴿ وَقُلْ - أيها الرسولُ في دعائك -: ﴿ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ﴾: أي ربِّ أدخِلني المدينة - دارَ هِجرتي - إدخالاً مَرضياً لا أرى فيه مكروهاً، ﴿ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ أي: وأخرِجني من مكة إخراجاً يَجعلني لا ألتفت إليها بقلبي شوقاً وحَنيناً (وهذه بشارةٌ من اللهِ تعالى لرسوله بأنه قد أَذِنَ له بالهجرة)، ﴿ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾: أي اجعل لي مِن عندك حُجّة ثابتة، تنصرني بها على جميع مَن خالفني (وقد استجاب اللهُ دعائه فأيَّده بأعظم حُجّة، حيثُ حَفَظَ القرآن إلى قيام الساعة، وأَوْصَلَ الإسلام إلى جميع الناس، ليكون ذلك شاهداً على نُبُوّته صلى الله عليه وسلم).

 

 

 

﴿ وَقُلْ - أيها الرسول -: ﴿ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ﴾: أي جاء الإسلام وذهب الشرك، ﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾: يعني إنّ الباطل لا بقاءَ له ولا ثبات، والحق هو الثابت الباقي الذي لا يزول، (وهذه بشارةٌ أخرى بأنّ اللهَ تعالى سيَفتح له مكة، ويُدخِله فيها منتصراً).‍

 

 

 

الآية 82: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ﴾: أي ونُنَزِّل من آيات القرآن ما يَشفي القلوبَ مِنَ الأمراض (كالشَكّ والنفاق والجهل)، وما يَشفي الأبدان (برُقْيتها به)، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول صلى الله عليه وسلم بَعَثهم - وكانوا ثلاثين راكباً - فنزلوا على قومٍ من العرب، فسألوهم أن يُضَيفوهم، فرفضوا، فلُدِغَ سيِّد الحَيّ (يعني إنّ سيد القوم قد لَدَغَه عقرب)، فجاء رجلٌ إلى الصحابة وقال لهم: (فِيكم مَن يَرقي من العقرب؟)، قالوا: (نعم، لكنْ حتى تُعطونا)، فقال: (إنّا نعطيكم ثلاثين شاة)، فرَقاهُ أحد الصحابة بفاتحة الكتاب، قرأها عليه سبع مرات، فشفاه الله.

 

 

 

﴿ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يعني إنّ هذا القرآن رحمة للمؤمنين بصفة خاصة، وذلك لأنهم يَعملون به، فيَرحمهم اللهُ تعالى بسببه، ﴿ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾: أي ولكنّ الكفار لا يَزيدهم القرآن إلا هلاكاً، لأنه قد أقام عليهم الحُجّة.

 

 

 

الآية 83، والآية 84: ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ بمالٍ وصحةٍ وغير ذلك: ﴿ أَعْرَضَ عن الشكر فلم يَشكر، ﴿ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾: أي تباعَدَ عن طاعة ربه، وتكَبَّرَ على الناس، ﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ﴾: يعني وإذا أصابته شِدَّةٌ - مِن فقر أو مرض أو غير ذلك - فإنه يكون شديد اليأس مِن رحمة اللهِ تعالى وفَرَجه، ساخطٌاً على قضائه (إلا مَن عَصَمه اللهُ في حالتَي الرخاء والشدة)، كما قال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي على ما أصابهم من الضُرّ (احتسابًا للأجر عند اللهِ تعالى)، ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ شُكراً للهِ على نِعَمِه ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾.

 

 

 

﴿ قُلْ - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين: ﴿ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ﴾: يعني كُلُّ واحدٍ منا ومنكم يَعمل على طريقته التي تليق بحاله من الهدى والضلال والشكر والكفر ﴿ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ﴾: أي فرَبُّكم أعلم بمَن هو أهدى منا ومنكم إلى طريق الحق فيُعطيه الثواب، ومَن هو أضَلّ سبيلاً فيُنزِل به العقاب.

 

 

 

الآية 85: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ﴾: يعني ويَسألك الكفار عن حقيقة الروح التي يَحيا بها الجسد، ﴿ قُلِ لهم: ﴿ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾: يعني إنّ حقيقة الروح من الأمور التي اختَصَّ اللهُ بها نفسه وانفرد بعِلمها، ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾: يعني وما أُعطِيتم من العلم - أنتم وجميع الناس - إلا شيئًا قليلاً.

 

 

 

واعلم أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ المشركين بَعَثوا النَضر بن الحارث وعُقبة بن أبي مُعَيْط إلى علماء اليهود في المدينة، ليَسألاهم عن أمْر النبي صلى الله عليه وسلم، فطلب اليهود منهما أن يسألوه عن ثلاثة أشياء (عن أهل الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح)، وقالوا لهم: (إنْ أَخْبَرَكم عن اثنين وأمْسَكَ - أي امتنع - عن واحدة فهو نبي)، فأنزل اللهُ سورة الكهف (وفيها الجواب عن أصحاب الكهف وذي القرنين)، وأنزل هذه الآية: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾، (ولمَّا كانَ سؤالهم هذا دالٌ على ادِّعائهم العلم، أخبرهم سبحانه أنَّ ما عندهم من العلم قليلٌ بجانب عِلم اللهِ تعالى).

 

 

 

الآية 86، والآية 87: ﴿ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ (وهو القرآن الذي حاولوا فِتنتك عنه)، فإنْ شِئنا أنْ نمحوه من قلبك - أيها الرسول - لَفَعَلنا ذلك (عقوبةً لهم على رَفْضهم للقرآن، وهو أعظم النعم)، ﴿ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا أي: ثم لا تجد لنفسك ناصرًا يَمنعنا مِن محو القرآن، أو يأتيك به مرة أخرى إذا مَحوناه ﴿ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يعني: لكنْ أبقَيناه في قلبك (رحمةً من ربك)، إذ جعله سبحانه شاهداً على صِدق نُبُوّتك إلى قيام الساعة ﴿ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا فقد أعطاك هذا القرآن العظيم، والمقام المحمود، وجَعَلَ رسالتك عامة لجميع الإنس والجن، وعَرَجَ بك إلى الملكوت الأعلى، ونَصَرَكَ بقذف الرعب في قلوب أعدائك، وغير ذلك مما لم يُعطه أحدًا من العالمين.

 

 

 

الآية 88: ﴿ قُلْ أيها الرسول للناس: ﴿ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ المُعجِز في الفصاحة والبلاغة، وما احتوى عليه من الغيوب والشرائع والأحكام: ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾: أي لا يَستطيعون الإتيان به، لأنه وَحْي اللهِ وكتابه، وحُجَّته على خَلقه إلى قيام الساعة، ﴿ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾: يعني ولو تعاونوا جميعاً على ذلك.

 

 

 

من الآية 89 إلى الآية 93: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا يعني بَيَّنَّا ونَوَّعنا ﴿ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لِنُقيم عليهم الحُجّة، ولِيَعتبروا به ويؤمنوا ﴿ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾: أي فلم يَقبل أكثر الناس إلا الجحود بحُجَج اللهِ رغم وضوحها.

 

 

 

ولمّا أعجَزَ القرآنُ مُشركي قريش وغَلَبهم، أخذوا يَطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم مُعجزات بحسب أهوائهم، قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أي حتى تُفجِّر لنا من أرض "مكة" عَيْنًا جارية من الماء لا تَجِفّ،﴿ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ أي حديقة ﴿ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ (وقد خَصُّوا العنب والتمر لمكانتهما عند العرب وكثرة فوائدهما)، ﴿ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ﴾: أي فتجعل الأنهار تجري في وسط هذه الحديقة بغزارة، ﴿ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أي قِطعًا من العذاب كما زعمتَ (يقصدون بذلك قوله تعالى: ﴿ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ))، ﴿ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا يعني لنُشاهدهم مُقابَلةً وعِيانًاً بالبصر، ﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي مِن ذهب، ﴿ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ ﴾: يعني أو تصعد بسلم إلى السماء، ﴿ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ﴾: يعني ولن نُصَدِّقك في صعودك ﴿ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ أي حتى تعود ومعك كتابٌ من اللهِ نقرأ فيه أنك رسول الله حقا، ﴿ قُلْ لهم - أيها الرسول - مُتَعَجبًا مِن عِنادهم: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّي !! ﴿ هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾: يعني هل أنا إلا عبدٌ من عباد اللهِ مُبَلِّغٌ لرسالته؟ فكيف أقدر على فِعل ما تطلبون؟!

 

 

 

الآية 94، والآية 95: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى ﴾: يعني وما مَنَعَ الكفارَ من الإيمان باللهِ ورسوله، حينَ جاءهم هذا البيان الكافي من عند اللهِ ﴿ إِلَّا أَنْ قَالُوا - جَهلا واستكبارًا -: ﴿ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ؟﴿ قُلْ لهم - أيها الرسول -: ﴿ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ عليها ﴿ مُطْمَئِنِّينَ أي ساكنينَ في الأرض لا يُغادرونها: ﴿ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا مِن جِنسهم، ولكنَّ أهل الأرض بَشَر، ولذلك لابد أن يكون رسولهم بَشَر مِثلهم، حتى يَتمكنوا من مُخاطبته وفَهْم كلامه.

 

 

 

الآية 96: ﴿ قُلْ لهم: ﴿ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على صِدْق نُبوَّتي، فشهادته تعالى لي بالنُبُوّة هي ما أعطاه لي من المُعجزات الباهرات (كانشقاق القمر وغيرها)، وكذلك وَحْيُهُ إليّ بهذا القرآن الذي أنذركم به، والذي لا يستطيع أن يقوله بَشَر (وأنتم تعلمون ذلك لأنكم أبْلغ البشر)، ﴿ إِنَّهُ سبحانه ﴿ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا لِذا فهو يَعلم الصادق من الكاذب، وسيَجزي كُلاً بما يَستحق.

 

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

تفسير الربع الأخير من سورة الإسراء

الآية 97، والآية 98، والآية 99: ﴿ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ: يعني ومَن يَهده اللهُ تعالى فهو المهتدي إلى الحق ﴿ وَمَنْ يُضْلِلْ: يعني ومَن يُضلله اللهُ تعالى، فيَخذلْه ويَتركه لنفسه وهواه:﴿ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ: أي فليس لهم أولياء يَهدونهم مِن دون اللهِ تعالى، (وفي هذا الكلام تصبيرٌ للرسول صلى الله عليه وسلم على قومه المُصِرّين على الجحود برسالته)، ﴿ وَنَحْشُرُهُمْ: أي ونَحشرهؤلاء الضالينَ ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فنَجعلهم يَمشونَ ﴿ عَلَى وُجُوهِهِمْ (وذلك عند حَشْرهم إلى جهنم)، فإذا دخلوها: سُحِبُوا على وجوههم، كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وقد ثَبَتَ في صحيح البخاري أنّ رَجُلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف يُحشَرُ الكافر على وجهه يوم القيامة؟)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس الذي أمْشاهُ على الرِّجْلين في الدنيا قادراً على أن يُمشيه على وجهه يوم القيامة؟).

وكذلك يكونون﴿ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا: أي لا يَرون ولا يَنطقون ولا يَسمعون (هذا في حال حَشْرهم إلى جهنم)، ثم إذا دخلوها: عادت إليهم حواسهم، وذلك للآيات القرآنية المُصَرّحة بهذا، فمِن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، وقوله تعالى: ﴿ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا، وقوله تعالى: ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ، ﴿ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ أي مصيرهم إلى نار جهنمالتي ﴿ كُلَّمَا خَبَتْ: أي كلما سَكَنَ لَهيبها، وخَمَدَتْ نارها: ﴿ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا:أي زِدناهم نارًا ملتهبة تشوي جلودهم، ﴿ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم ﴿ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا الواضحة ﴿ وَقَالُوا: ﴿ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا مُتَحللة ﴿ وَرُفَاتًا أي تراباً وأجزاءً مُفتتة: ﴿ أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بعدذلك ﴿ خَلْقًا جَدِيدًابعد الموت؟

فرَدَّ اللهُ عليهم بقوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وما فيهنّ مِن المخلوقات، ألم يَعلموا أنه سبحانه ﴿ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي مِثل هؤلاء المشركين بعد فنائهم؟، والجواب: بلى قد عَلِموا، ﴿ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا: أي وقد جعل سبحانه لهؤلاء المشركين وقتًا مُحَددًا لبَعْثهم ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ أي لاشك فيه، وذلك لوضوح الحق وظهور أدِلَّته، ولكنْ رغم ذلك: ﴿ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًاأي فلم يَقبل الكافرون إلا الجحود بدين اللهِ عزَّوجلَّ.

الآية 100:﴿ قُلْ - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين: ﴿ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي التي لاتنتهي - مِن المطر والأرزاق وغير ذلك - ﴿ إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ: أي لَبَخِلتم بها، ولم تُعطوا منها غيركم ﴿ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ أي خوفًا مِن إنفاقها كلهافتصبحوا فقراء، ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًاأي بخيلاً بما في يده ( إلا مَن عَصَمه اللهُتعالى وأعانه على علاج هذا البخل بالدواء النافع الذي جاء في سورة المعارج، بِدءاً من قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ إلى قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ .

من الآية 101 إلى الآية 104:﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ أي: ولقد أعطينا موسى تسع مُعجزات واضحات، تدل على صِدْق نبوته (وهي العصا واليد،والسنوات الشديدة، ونقص الثمرات، والطوفان والجراد، والقمل والضفادع والدم)، فهل آمَنَ بها فرعون؟! لا، وكذلك لو أعطيناك ما طالَبَكَ به المشركونَ: لم ليؤمنوا، إذاً فلا فائدة مِن إعطائك إياها، حتى لا يُكَذِّبوا بها، فيُهلكهم اللهُ تعالى كما أهلك فرعون وجنوده.

﴿ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ: أي فاسأل - أيها الرسول - اليهود (سؤالَ تقرير)، حينَ جاء موسى لأسلافهم بمُعجزاته الواضحات ﴿ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا أي أظن أنك ساحرٌ مغلوبٌ على عقلك بما تأتيهمن غرائب الأفعال، فـ ﴿ قَالَ له موسى: ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ أي لقد تَيَقَّنتَ يا فرعون أنه ﴿ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ: أي ما أنزل تلك المعجزات التسع﴿ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِلتكون ﴿ بَصَائِرَ أي لتكون دلالاتٍ يَستدِل بها أصحابالبصائر على وحدانية اللهِ تعالى، وعلى صِدق نُبُوَّتي ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا: يعني وإني لَعَلَى يقين بأنك يافرعون هالكٌ مغلوب.

فلمّا أعْجَزَتْ فرعون هذه الحُجَج والآيات: لَجَأ َإلى القوة ﴿ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ: أي فأراد أن يُخرج موسى مع بني إسرائيل مِن أرض "مصر" (بالقتل الجماعي، أو بالنفي والطرد والتشريد﴿ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا،﴿ وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: ﴿ اسْكُنُوا الْأَرْضَ: أي اسكنوا أرض الشام، ﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ: يعني فإذا جاءيوم القيامةِ ﴿ جِئْنَا بِكُمْ مِن قبوركم إلى موقف الحساب ﴿ لَفِيفًا أي جميعًا مِن مختلف البلاد والقبائل.

الآية 105:﴿ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ: يعني وأنزلنا هذا القرآن - على محمد صلى الله عليه وسلم - بالحق الثابت الذي لا شَكَّ فيه، ﴿ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ: أي ونزل مُشتملاً على الحق الواضح، ومحفوظاً من التغيير والتبديل، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ - أيها الرسول - ﴿ إِلَّا مُبَشِّرًا بالجنة لمن أطاع الله، ﴿ وَنَذِيرًا أي مُخَوِّفًا بالنار لمن كَفَرَ به وعصاه، (والمقصود أنّ اللهَ تعالى لم يُرسله لإجبار الناس على الإيمان والتوحيد، وإنما أرسله للدعوة والتبليغ، (وفي هذا تخفيفٌ له صلى الله عليه وسلم على ما يَلقاه من تكذيب قومه).

من الآية 106 إلى الآية 109: ﴿ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ: أي وأنزلنا إليك قرآنًا جعلناهُ فارقًا بينالهدى والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام، وقد أنزلناهُ ﴿ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ أي على مَهل، ليَفهمه المستمع إليه ﴿ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا: أي ونَزَّلْناهشيئًا بعد شيء (على حسب الحوادث الأحوال)، (واعلم أنّ اللفظ ﴿ تَنْزِيلًا للتأكيد على أنّ نزوله كان آية بعد آية، وسورة بعد سورة، حتى اكتمل نزوله).

﴿ قُلْ - أيها الرسول - لهؤلاء المُكذِّبين: ﴿ آَمِنُوا بِهِ أي بالقرآن ﴿ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا فإنّ إيمانكملن يَزيده كمالاً، وتكذيبكم لن يُلْحِق به نَقصًا، و﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ يعني إنّ العلماء الصادقين، الذين أعطاهم اللهُ الكتبالسابقة مِن قبل القرآن ﴿ كعبد الله بن سلام وسَلمان الفارسي والنجاشي)، فهؤلاء ﴿ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يعني إذا قُرِئَ عليهم القرآن: ﴿ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا أي يَخشعون،فيَسجدوا على وجوههم للهِ سبحانه وتعالى، (ومعلومٌ أن السجود على الجبهة والأنف، وإنما ذَكَرَ سبحانه الأذقان هنا، لأنّ اللحية إذا كانت طويلة (كما هي السُنَّة)، فإنها تصل إلى الأرض قبل الجبهة والأنف).

﴿ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا أي تنزيهاً لربنا وتَبرِئَةً له مِن أن يُخلِفَ وعده، فقد أرسل لنا النبي الأُمِيّ الذي وَعَدنا به في التوراة والإنجيل، و﴿ إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا أي: ولقد كانَ وَعْدُ ربنا واقعًا حقًا لا يَتخلف(وهذا إقرارٌ منهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن العظيم)، ﴿ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ: يعني ويَسجد هؤلاء العلماء على وجوههم، باكينَ تأثُّرًا بمواعظ القرآن ﴿ وَيَزِيدُهُمْ سماعالقرآن ﴿ خُشُوعًافي قلوبهم، وخضوعًا لأمْر ربهم.

الآية 110، والآية 111:﴿ قُلِ أيها الرسول - للمُشرِكين الذين أنكروا عليك الدعاء بقولك: (يا الله يارحمن) -: ﴿ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أي سَمُّوهُ بأيِّ اسمٍ منهما (الله أو الرحمن)، ونادُوهُ بأيِّهما، فـ﴿ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى: يعني فبأيّ أسمائه دَعَوتموه فهو حَسَن، لأنه سبحانه له الأسماء الحسنى، وهذان الاسمان منها.

واعلم أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (يا الله، يا رحمن)، فلما سمعه المشركون، قالوا: (انظروا إليه، كيف يدعو إلهين ويَنهانا عن ذلك؟)، فنزلتْ الآية مُبَيّنة أنّ (الله والرحمن) هما اسمان لمُسَمَّى واحد.

﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ أي لا ترفع صوتك بالقراءة في الصلاة، كَرَاهة أن يَسمعك المشركون فيَسُبُّوك ويَسُبُّوا القرآن،﴿ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا أي: ولا تقرأ بصوتٍ غير مسموع، حتى يَنتفع بقراءتك مَن يُصلي وراءك، ﴿ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا: أي وكُن وسطاً بين الجَهر والهَمْس، (وقد كانَ هذا في مكة خوفاً من المشركين، ثم استقرتْ السُنَّة بالجَهر في صلاة الصبح والركعتين الأُولتين من المغرب والعشاء، وبالإسرار في صلاة الظهر والعصر وثالثة المغرب والأخيرتين من العشاء).

﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ: يعني ولم يكن له ناصرٌ يَنصره مِن ذلٍ أصابه (تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوّاً كبيراً) فهو سبحانه العزيز الجبار، القوي الغني، وجميع خَلقه فقراء محتاجونَ إليه، ﴿ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا: أي وعَظِّمه تعظيمًا تامًا بالثناء عليه، وبتنزيهه مِن كل ما لا يليق به، وبعبادته وحده لا شريك له.


 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×