اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير القرآن العظيم ( أَحمد شريف النَّعسان)

المشاركات التي تم ترشيحها

 
 
 1-أهمية علم التفسير

لذي يُهِمُّنَا أَنْ نَعْلَمَ أَهَمِّيَّةَ العِلْمِ في دِينِنَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقَاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمَاً سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقَاً إِلَى الجَنَّةِ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

 لَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تعالى عَلَى الأُمَّةِ تَدَبٌّرَ القُرْآنَ العَظِيمَ، قَالَ تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾.
بَلْ أَوْضَحَ اللهُ تعالى للمُرْتَابِينَ مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَيَهْدِيهِمْ سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَيُقْنِعُهُمْ إِذَا أَرَادُوا النَّجَاةَ وَالسَّعَادَةَ الحَقَّةَ الأَبَدِيَّةَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَقَالَ تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافَاً كَثِيرَاً﴾. وَقَالَ: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟



2ـ الاستعاذة

﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ﴾:
 ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾. فَالاسْتِعَاذَةُ عِنْدَ تِلَاوَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ مَطْلُوبَةٌ شَرْعَاً، وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ أَغْلَبِ الفُقَهَاءِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ بِوُجُوبِهَا عِنْدَ تِلَاوَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، فَاللهُ تَبَارَكَ وتعالى طَلَبَ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَسْتَعِيذُوا بِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ عِنْدَ تِلَاوَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ حَتَّى لَا يُشَوِّشَ عَلَيْهِمْ أَثْنَاءَ التِّلَاوَةِ، وَلَا يُوَسْوِسَ لَهُمْ فَيَصْرِفَهُمْ عَنْ تِلَاوَتِهِ، أَو يُشَكِّكَهُمْ في آيَاتِهِ.



مَحَلُّ الاسْتِعَاذَةِ مِنَ القِرَاءَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اخْتَلَفَ القُرَّاءُ وَالفُقَهَاءُ في مَحَلِّ الاسْتِعَاذَةِ؛ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ القِرَاءَةِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ قَبْلَ القِرَاءَةِ: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ». فَدَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الاسْتِعَاذَةِ قَبْلَ القِرَاءَةِ هُوَ السُّنَّةُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ القُرَّاءِ وَالفُقَهَاءِ إلى أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ القِرَاءَةِ عَمَلَاً بِظَاهِرِ الآيَةِ: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾. وَقَالُوا: الفَاءُ هُنَا للتَّعْقِيبِ.

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلى أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ القِرَاءَةِ وَبَعْدَهَا.


الجَهْرُ وَالإِسْرَارُ بِهَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَالاسْتِعَاذَةُ قَبْلَ القِرَاءَةِ سُنَّةٌ، وَلَكِنْ هَل يَجْهَرُ بِهَا القَارِئُ أَمْ يُسِرُّ؟

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلى اسْتِحْبَابِ الجَهْرِ بِهَا، وَهُوَ المُخْتَارُ عِنْدَ أَئِمَّةِ القُرَّاءِ؛ وَقَالَ الحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو في جَامِعِهِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافَاً في الجَهْرِ بِالاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ افْتِتَاحِ القُرْآنِ.

وَذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ إلى أَنَّ القَارِئَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الجَهْرِ وَالإِسْرَارِ؛ وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لَكِنَّهُ يَتْبَعُ إِمَامَهُ مِنَ القُرَّاءِ، وَهُمْ يَجْهَرُونَ بِهَا إِلَّا حَمْزَةُ فَإِنَّهُ يُخْفِيهَا.


صِيَغُ الاسْتِعَاذَةِ وَأَفْضَلُهَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَرَدَتْ صِيغَتَانِ للاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ القُرَّاءِ وَالفُقَهَاءِ؛ إِحْدَاهَا: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ كَمَا وَرَدَ في سُورَةِ النَّمْلِ: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾. وَهَذَا رَأْيُ الجُمْهُورِ، وَقَدْ تَوَاتَرَ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في سَائِرِ تَعَوُّذَاتِهِ.فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ».

الثَّانِيَةُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، حُكِيَ هَذَا عَنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.

الثَّالِثَةُ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ في النَّشْرِ.

الرَّابِعَةُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَهَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ» هَمْزُهُ: المُوتَةُ (يَعْنِي الجُنُونَ) وَنَفْثُهُ: الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ: الْكِبْرُ.
 
 
3ـ البسملة

لَقَدْ أَدَّبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِتَعْلِيمِهِ ذِكْرَ أَسْمَائِهِ أَمَامَ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بِهَا، وَسَبِيلَاً يَتَّبِعُونَهُ عَلَيْهَا، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ كَلَامٍ، أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللهِ، فَهُوَ أَبْتَرُ ـ أَوْ قَالَ: أَقْطَعُ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَقَوْلُ القَائِلِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عِنْدَ افْتِتَاحِ التِّلَاوَةِ يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ مُرَادَهُ: أَقْرَأُ بِسْمِ اللهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَفْعَالِ.



البَسْمَلَةُ جُزْءٌ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ:

اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ البَسْمَلَةَ جُزْءٌ مِنْ آيَةٍ في قَوْلِهِ تعالى، كَمَا قَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْ كَلَامِ بَلْقِيسَ عِنْدمَا خَاطَبَتْ قَوْمَهَا بِقَوْلِهَا: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
وَاخْتَلَفُوا في أَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الفَاتِحَةِ، وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ، أَمْ لَا؟
المَشْهُورُ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ، وَالأَصَحُّ عِنْدَ الحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الفُقَهَاءِ: أَنَّ البَسْمَلَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الفَاتِحَةِ، وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ، بَلْ هِيَ آيَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ القُرْآنِ كُلِّهِ، أُنْزِلَتْ للفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ، وَذُكِرَتْ في أَوَّلِ سُورَةِ الفَاتِحَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» ثَلَاثَاً غَيْرُ تَمَامٍ.
فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟
فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي ـ وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي ـ فَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ.
فَالبَدَاءَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ البَسْمَلَةَ لَيْسَتْ أَوَّلَ آيَةٍ مِنَ الفَاتِحَةِ.
وَخَالَفَ في ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَالُوا: البَسْمَلَةُ آيَةٌ كَامِلَةٌ مِنَ الفَاتِحَةِ، وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. فَعَدَّهَا آيَةً ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ آيَتَيْنِ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ثَلَاثُ آيَاتٍ ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أَرْبَعُ آيَاتٍ، وَقَالَ: هَكَذَا ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وَجَمَعَ خَمْسَ أَصَابِعِهِ. رواه الحاكم.
وروى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَرَأْتُمِ: الْحَمْدُ للهِ فَاقْرَؤُوا: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ، وَأُمُّ الْكِتَابِ، وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، وَ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إِحْدَاهَا.



حُكْمُ البَسْمَلَةِ في الصَّلَاةِ:

أَمَّا حُكْمُ البَسْمَلَةِ في الصَّلَاةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ فِيهَا:
1ـ ذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ إلى أَنَّ البَسْمَلَةَ تُسَنُّ قِرَاءَتُهَا سِرَّاً لِلإِمَامِ وَالمُنْفَرِدِ مِنْ كُل رَكْعَةٍ.
2ـ وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِمَامِ وَالمَأْمُومِ وَالمُنْفَرِدِ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ فِي كُل رَكْعَةٍ مِنْ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ قَبْل فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصَّلَاةُ فَرْضَاً أَمْ نَفْلَاً، سِرِّيَّةً أَوْ جَهْرِيَّةً، كَمَا تُقْرَأُ البَسْمَلَةُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ كُلِّ سُورَةٍ في رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، وَيَجْهَرُ بِهَا في حَالَةِ الجَهْرِ بِالفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، وَكَذَا يُسِرُّ بِهَا في الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ.



حُكْمُ البَسْمَلَةِ عِنْدَ دُخُولِ الخَلَاءِ:

أَمَّا حُكْمُ البَسْمَلَةِ عِنْدَ دُخُولِ الخَلَاءِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْمِيَةِ عَلَى سَبِيل النَّدْبِ، وَذَلِكَ قَبْل دُخُول الْخَلاَءِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُول إِذَا دَخَل الْخَلَاءَ: «بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» رواه ابن أبي شيبة عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.


 البَسْمَلَةُ عِنْدَ الْوُضُوءِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ، روى الدارقطني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللهِ تَطَهَّرَ جَسَدُهُ كُلُّهُ، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ لَمْ يَتَطَهَّرْ إِلَّا مَوْضِعُ الْوُضُوءِ».
وَإِنْ نَسِيَ المُتَوَضِّئُ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّل الوُضُوءِ، وَذَكَرَهَا فِي أَثْنَائِهِ، أَتَى بِهَا، حَتَّى لَا يَخْلُوَ الْوُضُوءُ مِنِ اسْمِ اللهِ تَعَالَى.


ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الذَّبْحِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾ وَلَا تَجِبُ التَّسْمِيَةُ عَلَى نَاسٍ، وَلَا أَخْرَسَ، وَلَا مُكْرَهٍ، وَيَكْفِي مِنَ الأَخْرَسِ أَنْ يُومِئَ إِلَى السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ إِشَارَتَهُ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِ النَّاطِقِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَصِيغَتُهَا أَنْ يَقُول: (بِاسْمِ اللهِ) عِنْدَ الْفِعْل؛ لِمَا رَوَى البَيْهَقِيُّ فِي صِفَةِ ذَبْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأُضْحِيَّتِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ عَظِيمَيْنِ مَوْجُوأَيْنِ، فَأَضْجَعَ أَحَدَهُمَا فَقَال: «بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ» ثُمَّ أَضْجَعَ الآخَرَ فَقَال: «بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ مِمَّنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ» رواه أبو يعلى عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَعَمُّدُ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ، وَلَكِنْ لَوْ تَرَكَهَا عَمْدَاً يَحِلُّ مَا ذَبَحَهُ وَيُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبَاحَ ذَبَائِحَ أَهْل الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ وَهُمْ لَا يَذْكُرُونَهَا (التَّسْمِيَةَ)



 البَسْمَلَةُ عِنْدَ الأَكْلِ:

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الْبَدْءِ فِي الأَكْلِ مِنَ السُّنَنِ، وَصِيغَتُهَا: بِسْمِ اللهِ، وَبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَإِنْ نَسِيَهَا فِي أَوَّلِهِ سَمَّى فِي بَاقِيهِ، وَيَقُول: بِاسْمِ اللهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَال: «إِذَا أَكَل أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللهِ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُل: بِاسْمِ اللهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» رواه أبو داود.


 البَسْمَلَةُ عِنْدَ التَّيَمُّمِ:

التَّسْمِيَةُ عِنْدَ التَّيَمُّمِ مَشْرُوعَةٌ: سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَصِيغَتُهَا: بِسْمِ اللهِ، وَالأَكْمَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَإِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّل التَّيَمُّمِ وَذَكَرَهَا فِي أَثْنَائِهِ أَتَى بِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدَاً لَا يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ فَعَلَهَا يُثَابُ.


البَسْمَلَةُ لِكُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ:

اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَشْرُوعَةٌ لِكُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ، عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَتُقَال عِنْدَ الْبَدْءِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالأَذْكَارِ، وَرُكُوبِ سَفِينَةٍ وَدَابَّةٍ، وَدُخُول الْمَنْزِل وَمَسْجِدٍ، أَوْ خُرُوجٍ مِنْهُ، وَعِنْدَ إِيقَادِ مِصْبَاحٍ أَوْ إِطْفَائِهِ، وَقَبْل وَطْءٍ مُبَاحٍ، وَصُعُودِ خَطِيبٍ مِنْبَرَاً، وَنَوْمٍ، وَالدُّخُول فِي صَلَاةِ النَّفْل، وَتَغْطِيَةِ الإِنَاءِ، وَفِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ، وَعِنْدَ تَغْمِيضِ مَيِّتٍ وَلَحْدِهِ فِي قَبْرِهِ، وَوَضْعِ الْيَدِ عَلَى مَوْضِعِ أَلَمٍ بِالْجَسَدِ، وَصِيغَتُهَا (بِاسْمِ اللهِ) وَالأَكْمَلُ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَإِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ أَوْ تَرَكَهَا عَمْدَاً فَلَا شَيْءَ، وَيُثَابُ إِنْ فَعَلَ.
وَمِمَّا وَرَدَ: حَدِيثُ: «كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِاسْمِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَهُوَ أَقْطَعُ» وَفِي أُخْرَى: «فَهُوَ أَجْذَمُ» رواه الإمام أحمد وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.



بَرَكَةُ البَسْمَلَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: البَسْمَلَةُ فِيهَا مِنَ البَرَكَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تعالى، يَشْعُرُ بِبَرَكَتِهَا أَيُّ إِنْسَانٍ، فَلَو أَكَلَ العَبْدُ وَقَالَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حُرِمَ الشَّيْطَانُ الطَّعَامَ، وَلَو دَخَلَ العَبْدُ بَيْتَهُ وَقَالَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حُرِمَ الشَّيْطَانُ المَبِيتَ في ذَاكَ البَيْتِ، وَلَو جَامَعَ العَبْدُ زَوْجَتَهُ وَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، يُصْرَفُ الشَّيْطَانُ عَنْهُ وَعَنْ زَوْجَتِهِ، وَإِنْ رُزِقَا وَلَدَاً بَرِئَ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلَو دَخَلَ العَبْدُ الخَلَاءَ وَقَالَ: بِسْمِ اللهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبْثِ وَالخَبَائِثِ حُفِظَ بِإِذْنِ اللهِ تعالى، وَإِنْ نَزَعَ العَبْدُ الثِّيَابَ وَقَالَ: بِسْمِ اللهِ؛ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْيُنِ الشَّيْطَانِ سِتْرٌ وَحِجَابٌ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنَ الزَّبَانِيَةِ التِّسْعَةَ عَشَرَ فَلْيَقْرَأْ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.


خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿بِسْمِ اللهِ﴾: إِنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَعَوْنٌ عَلَى كُلِّ دَوَاءٍ. / كذا في تفسير القرطبي
فَلْنُحَافِظْ عَلَى التَّسْمِيَةِ في جَمِيعِ شُؤُونِنَا، وَخَاصَّةً عِنْدَ تِلَاوَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.


موقع
 ( أَحمد شريف النَّعسان)
 
يتبع

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
سورة العلق

هِيَ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ بِالاتِّفَاقِ، نَزَلَتْ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، وَقَدْ نَزَلَ صَدْرُهَا أَوَّلَاً، مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾. إلى قَوْلِهِ تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ الخَمْسُ مَعَ بَدْءِ الوَحْيِ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حِينَمَا كَانَ يَتَعَبَّدُ اللهَ تعالى في غَارِ حِرَاءَ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ دِيَانَةِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَبَعْدُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَاتِ الخَمْسِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ، فَتَرَ الوَحْيُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ، قِيلَ: أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً، وَقِيلَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: سَنَتَيْنِ، وَلَا يُوجَدُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ يُثْبِتُ قَوْلَاً مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ، وَلَكِنْ فَتْرَةُ الوَحْيِ حَصَلَتْ وَوَقَعَتْ بِالاتِّفَاقِ دُونَ نَكِيرٍ.


هَذِهِ الآيَاتُ الكَرِيمَةُ مِنْ صَدْرِ سُورَةِ العَلَقِ تُعَلِّمُنَا بِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِّيَّاً، لَمْ يَتَعَلَّمِ القِرَاءَةَ وَلَا الكِتَابَةَ.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ». لِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿اقْرَأْ﴾. تِلَاوَةَ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلٍ: لَكَانَ الجَوَابُ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا أَقْرَأُ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَتِ الأُمِّيَّةُ في حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَمَالَاً لَا نَقْصَاً، وَكَانَتْ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ، وَخُصُوصِيَّةً مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ، لِأَنَّهَا إِحْدَى عَنَاصِرِ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَدَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا الأُمِّيَّةُ فِينَا فَهِيَ صِفَةُ نَقْصٍ لَا صِفَةُ كَمَالٍ، لِذَلِكَ كَانَتْ أُمَّتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورَةً بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تعالى:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.
هُوَ خِطَابٌ مُوَجَّهٌ لِكُلِّ العَالَمِينَ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا للعَاجِزِ عَنْ تَعَلُّمِ القِرَاءَةِ وَالكِتَابَةِ.


﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾:

وَالعَلَقُ هُوَ دَمٌ جَامِدٌ رَطْبٌ، غَلِيظٌ، مِنْ هَذَا الدَّمِ خَلَقَ اللهُ تعالى هَذَا الإِنْسَانَ وَجَعَلَ فِيهِ عَقْلَاً وَإِدْرَاكَاً.
وَهَذِهِ الآيَةُ لَا تُشِيرُ إلى خَلْقِ سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ، قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمَاً، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكَاً فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ: بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ ـ أَوْ: الرَّجُلَ ـ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا»


﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾

هَذَا الخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَتْ الصِّيغَةُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ فَهُنَاكَ كَرِيمٌ وَأَكْرَمُ، فَعِنْدَمَا يَتَعَلَّمُ الإِنْسَانُ مِنْ بَشَرٍ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَرَمِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ، لِأَنَّهُ يَسَّرَ للإِنْسَانِ العِلْمَ عَنْ طَرِيقِ البَشَرِ، أَمَّا إِذَا كَانَ اللهُ هُوَ الذي سَيُعَلِّمُكَ فَيَكُونُ هُوَ الأَكْرَمُ، فَاللهُ تعالى هُوَ الذي رَفَعَ قَدْرَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ الذي تَوَلَّى تَعْلِيمَكَ ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمَاً﴾.
فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتعالى هُوَ الأَكْرَمُ مِنْ كُلِّ كَرِيمٍ، فَلَا يَقْتَصِرُ عَطَاؤُهُ عَلَى حُدُودِ مَا يَطْلُبُ القَارِئُ الوُصُولَ إِلَيْهِ مِنَ المَعَانِي وَالمَعَارِفِ التي تَدُلُّ عَلَيْهَا الأَلْفَاظُ المَكْتُوبَةُ، بَلْ يَزِيدُهُ مِنْ كَرَمِهِ العَظِيمِ فُيُوضَاً مِنَ المَعَارِفِ فَوْقَهَا ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾.



 ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾:

مِنْ وَسَائِلِ التَّعَلُّمِ وَسِيلَةُ القَلَمِ، فَاللهُ تعالى عَلَّمَ بِالقَلَمِ كَمَا عَلَّمَ الإِنْسَانَ النُّطْقَ، قَالَ تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾.
روى أبو داود عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ؛ قَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ».


 ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾:

فَمِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقِهِ أَنَّهُ عَلَّمَهُمْ مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَنَقَلَهُمْ مِنْ ظُلْمَةِ الجَهْلِ إلى نُورِ العِلْمِ، وَنَبَّهَ عَلَى فَضْلِ عِلْمِ الكِتَابَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنَافِعَ عَظِيمَةٍ التي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا هُوَ.
وَبَعْضُ العُلَمَاءِ يَقُولُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ﴾. هُوَ آَدَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾.
فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إِلَّا وَعَلَّمَ اللهُ تعالى اسْمَهُ لِسَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ أَنْبَأَ المَلَائِكَةَ الكِرَامَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ تعالى، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ فَضْلُهُ.
وَبَعْضُهُمْ قَالَ: الإِنْسَانُ هُنَا هُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي قَالَ لَهُ تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمَاً﴾.
وَبَعْضُهُمْ قَالَ: هُوَ عَامٌّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئَاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
وَجَمِيعُ هَذِهِ الأَقْوَالِ صَحِيحَةٌ، فَاللهُ تعالى عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَعَلَّمَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَعَلَّمَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِفَضْلِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ.



﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾

  المَقْصُودُ بِالإِنْسَانِ هُنَا هُوَ أَبُو جَهْلٍ، وَمِنْ ثَمَّ مَنْ سَارَ عَلَى سَيْرِهِ وَسَلَكَ نَهْجَهُ.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿كَلَّا﴾ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِمَنْ كَفَرَ بِنِعْمَةِ اللهِ تعالى بِطُغْيَانِهِ، وَالطُّغْيَانُ هُوَ التَّكَبُّرُ وَالتَّمَرُّدُ بِسَبَبِ حُبِّ الدُّنْيَا وَالاشْتِغَالِ بِالمَالِ وَالجَاهِ وَالثَّرْوَةِ، وَلَا سَبَبَ لِعَمَى القَلْبِ إِلَّا هَذَا، لِذَلِكَ طَغَى أَبُو جَهْلٍ كَمَا طَغَى فِرْعَوْنُ مِنْ قَبْلِهِ حَتَّى ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، فَقَالَ تعالى في حَقِّهِ لِسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾.

الفَارِقُ بَيْنَ الفِرْعَوْنَيْنِ:

الفَارِقُ كَبِيرٌ بَيْنَ فِرْعَوْنِ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِرْعَوْنِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فِرْعَوْنُ سَيِّدِنَا مُوسَى أَحْسَنَ إلى سَيِّدِنَا مُوسَى ابْتِدَاءً، وَفي الخَاتِمَةِ السَّيِّئَةِ قَالَ: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾؟
أَمَّا فِرْعَوْنُ سَيِّدِنَا مُحَمَدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَاقِدَاً حَاسِدَاً النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في صِبَاهُ، وَفي آخِرِ رَمَقٍ لَهُ قَالَ: بَلِّغُوا عَنِّي مُحَمَّدَاً أَنِّي أَمُوتُ وَلَا أَحَدَ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْهُ. /كذا في تفسير الرازي.

فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾. هَذَا النَّصُّ قَدْ جَاءَ بِمَثَابَةِ التَّعْلِيلِ للحِكْمَةِ مِنْ إِرْسَالِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْلَا هَذِهِ الرِّسَالَةِ التي تُعَرِّفُ النَّاسَ بِالحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَالخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَتُعَرِّفُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، لَطَغَى الإِنْسَانُ، وَلَمْ يَجِدْ رَادِعَاً يَرْدَعُهُ عَنْ طُغْيَانِهِ.



﴿أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾.

هَذَا الاسْتِغْنَاءُ قَدْ يَكُونُ بِالمَالِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالقُوَّةِ وَالجَاهِ وَالسُّلْطَانِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالأَتْبَاعِ وَالأَنْصَارِ، وَقَدْ يَكُونُ بِكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.
الاسْتِغْنَاءُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيَّاً، وَهَذَا للهِ تعالى وَحْدَهُ، فَاللهُ تعالى هُوَ الغَنِيُّ عَنِ العَالَمِينَ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾. فَهُوَ غَنِيٌّ بِذَاتِهِ، وَغَنِيٌّ بِصِفَاتِهِ، وَغَنِيٌّ بِأَفْعَالِهِ، وَهُوَ المَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ.
وَقَدْ يَكُونُ الاسْتِغْنَاءُ شُعُورَاً نَفْسِيَّاً كَاذِبَاً، وَهَذَا وَصْفُ العَبْدِ الغَافِلِ عَنِ اللهِ تعالى، النَّاسِي لِحَقِيقَةِ نَفْسِهِ، حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ اللهِ تعالى، فَهُوَ يَعِيشُ في شُعُورٍ فَاسِدٍ، وَيَسْتَنِدُ إلى وَهْمٍ كَاذِبٍ.
نَعَمْ السُّكْرُ بِالدُّنْيَا أَشَدُّ مِنْ سُكْرِ الخَمْرِ، لِأَنَّ شَارِبَ الخَمْرِ يَصْحُو بَعْدَ سَاعَاتٍ، أَمَّا مَنْ شَرِبَ حُبَّ المَالِ وَالجَاهِ وَالسِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ، فَإِنَّهُ لَا تُرْجَى إِفَاقَتُهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرَ القَلْبِ مَعَ اللهِ تعالى.
نَعَمْ العَبْدُ الحَاضِرُ مَعَ اللهِ تعالى لَا تُنْسِيهِ هَذِهِ النِّعَمُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ بَلْ تَزِيدُهُ تَوَاضُعَاً وَعُبُودِيَّةً للهِ تعالى، كَمَا حَصَلَ لِسَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
لَو أَنْصفَ العَاقِلُ لَرَدَّ النِّعْمَةَ إلى صَاحِبِهَا ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾. وَلَكِنَّ الغَفْلَةَ عَنِ اللهِ تعالى مِنْ أَدْهَى المُصِيبَاتِ.


 
 
﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾
 
 
﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ هُوَ في الحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّهْدِيدِ لِفِرْعَوْنِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَلِكُلِّ مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ، لِأَنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
كَأَنَّ الحَقَّ تَبَارَكَ وتعالى يَقُولُ لِهَذَا الطَّاغِيَةِ وَلِأَمْثَالِهِ: مَهْمَا طَغَيْتَ وَعَلَوْتَ وَاسْتَكْبَرْتَ وَعُثْتَ في الأَرْضِ فَسَادَاً، وَمَهْمَا اسْتَغْنَيْتَ بِمَا آتَاكَ اللهُ تعالى، فَإِنَّ مَرْجِعَكَ إلى اللهِ تعالى بِالقَهْرِ لَا بِالاخْتِيَارِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾.
وَإِذَا كَانَ المَرْجِعُ إلى اللهِ تعالى في كُلِّ الأُمُورِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَفِرَّ مِنْ قَضَاءِ اللهِ تعالى أَبَدَاً، وَلَا مِنْ حِسَابِهِ وَعَرْضِهِ عَلَى اللهِ تعالى.

هَذِهِ الآيَةُ تَتَضَمَّنُ الوَعْدَ وَالوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ، فَمَنْ أَيْقَنَ بِذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلى اللهِ تعالى بِالقَهْرِ فَأَعْلَنَ تَوْبَتَهُ إلى اللهِ تعالى، وَرَجَعَ بِالاخْتِيَارِ إلى اللهِ تعالى قَبْلَ مَوْتِهِ، فَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، وَيَجْعَلُهُ مَحْبُوبَاً عِنْدَهُ، وَيَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا، بَلْ وَيَجْعَلُهَا حَسَنَاتٍ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.

﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ تُفِيدُ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ إلى اللهِ تعالى المَرْجِعُ في كُلِّ الأُمُورِ.
لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَرْجِعَ إلى اللهِ تعالى في جَمِيعِ أُمُورِهِ، فَلَا يُحَكِّمُ في نَفْسِهِ وَلَا عِنْدَ خِلَافِهِ مَعَ الآخَرِينَ إِلَّا شَرْعَ اللهِ تعالى، وَيَلْتَزِمُ قَوْلَهُ تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ﴾. وَيَلْتَزِمُ قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرَاً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالَاً مُبِينَاً﴾. وَيَلْتَزِمُ قَوْلَهُ تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلَاً﴾.


فَيَا مَنْ أَيْقَنَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ اسْتَعِدَّ لِهَذِهِ الرَّجْعَةِ، تُبْ إلى اللهِ تعالى قَبْلَ المَمَاتِ، وَحَكِّمْ شَرْعَ اللهِ تعالى فِيكَ وَفي الآخَرِينَ، وَارْضَ بِمَا قَضَى اللهُ تعالى وَقَدَّرَ مِنْ قَضَاءٍ شَرْعِيٍّ وَمِنْ قَضَاءٍ كَوْنِيٍّ، وَسَلِّمْ للهِ عَزَّ وَجَلَّ في جَمِيعِ شُؤُونِكَ، وَارْضَ بِمَا قَضَى اللهُ تعالى وَقَدَّرَ، وَالْتَزِمْ حِكْمَةَ ابْنِ عَطَاءِ اللهِ السَّكَنْدَرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى إِذْ يَقُولُ فِيهَا: مِنْ عَلَامَاتِ النُّجْحِ في النِّهَايَاتِ الرُّجُوعُ إلى اللهِ في البِدَايَاتِ.
فَارْجِعْ إلى اللهِ تعالى في جَمِيعِ أُمُورِكَ بِاخْتِيَارِكَ قَبْلَ أَنْ تَرْجِعَ إلى اللهِ تعالى بِالقَهْرِ بِالمَوْتِ، وَعِنْدَهَا يَنْدَمُ العَبْدُ وَلَا يَنْفَعُ النَّدَمُ.
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.
 
يتبع



ملخص تفسير سورة العلق
من موقع
 ( أَحمد شريف النَّعسان)

 

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
 
 ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدَاً إِذَا صَلَّى﴾.
 
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُخْبِرُ عَنْ وَاقِعَةٍ أَلِيمَةٍ حَصَلَتْ، رواها الإمام مسلم وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ ـ أَي يَسْجُدُ ـ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟
قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ.
قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ.
قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ.
قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟
فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقَاً مِنْ نَارٍ وَهَوْلَاً وَأَجْنِحَةً.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوَاً عُضْوَاً».
قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ـ لَا نَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ شَيْءٌ بَلَغَهُ ـ: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدَاً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ ـ يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ ـ ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ﴾.
 
أَرَأَيْتَ هَذَا الطَّاغِيَةَ كَيْفَ يَنْهَى عَبْدَاً يُصَلِّي للهِ تعالى، مَعَ أَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ المَنْهِيَّ هُوَ عَلَى الهُدَى، وَهُوَ يَأْمُرُ بِالتَّقْوَى؟
نَعَمْ، لَقَدْ كَانَ الطَّاغِيَةُ أَبُو جَهْلٍ يَنْهَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ، التي هِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ بِأَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى هُدَىً، وَأَنَّهُ يَأْمُرُ بِالتَّقْوَى.

 
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾.

هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَهْدِيدٌ للطَّاغِي الذي كَانَ يَنْهَى العَبْدَ إِذَا صَلَّى، وَهُوَ في ظَاهِرِهِ خِطَابٌ لِأَبِي جَهْلٍ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ العُلَمَاءُ: العِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؛ فَهُوَ خِطَابٌ لِكُلِّ ظَالِمٍ وَلِكُلِّ جَبَّارٍ يُحَارِبُ دِينَ اللهِ تعالى، وَيَنْهَى العِبَادَ عَنِ الالْتِزَامِ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
فَاللهُ تعالى يَعْلَمُ حَالَ النَّاهِي وَالمَنْهِيِّ، وَسَوْفَ يُجَازِي كُلَّاً مِنْهُمَا بِمَا يَسْتَحِقُّ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتعالى يَرَى كُلَّ شَيْءٍ مَهْمَا خَفِيَ وَدَقَّ، وَيَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ مَهْمَا بَعُدَ أَو قَرُبَ، وَمَهْمَا كَثُرَ أَو قَلَّ، فَهُوَ تَبَارَكَ وتعالى يَرَى النَّمْلَة السَّوْدَاءَ في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَاءِ ﴿لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ يَعْلَمُ الظَّاهِرَ وَالبَاطِنَ وَيَرَاهُ.

قَوْلُهُ تعالى:
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾.

لَهُ مَعْنَيَانِ:
المَعْنَى الأَوَّلُ: العِلْمُ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدَاً * وَنَرَاهُ قَرِيبَاً﴾. فَالرُّؤْيَةُ هُنَا رُؤْيَةُ العِلْمِ، لِأَنَّ اليَوْمَ لَيْسَ جِسْمَاً يُرَى.
المَعْنَى الثًّانِي: رُؤْيَةُ المُبْصَرَاتِ، يَعْنِي إِدْرَاكَهَا بِالبَصَرِ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾.
وَهُنَا في سُورَةِ العَلَقِ هِيَ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى العِلْمِ، وَبِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ البَصَرِيَّةِ.

آثَارُ هَذِهِ الآيَةِ في الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ لَهَا أَثَرٌ عَظِيمٌ في الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ، فَهِيَ:
تَجْعَلُهُ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، وَيَسْتَشْعِرُ مُرَاقَبَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ مِنَّا شَرْعَاً، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
وَيَقُولُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا. رواه الترمذي.
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَجْعَلُ العَبْدَ المُؤْمِنَ مُسْتَحْضِرَاً قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرَاً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً﴾. لَا يُغَادِرُ شَيْئَاً، كُلُّ نَظْرَةٍ، وَكُلُّ كَلِمَةٍ، وَكُلُّ لَحْظَةٍ مَكْتُوبَةٌ.
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾. تُدْخِلُ العَبْدَ المُؤْمِنَ في مَقَامِ العُبُودِيَّةِ للهِ تعالى، في مَقَامِ المُرَاقَبَةِ؛ وَمَنْ دَخَلَ مَقَامَ المُرَاقَبَةِ للهِ تعالى لَا يَجْتَرِئُ عَلَى فِعْلِ المَعْصِيَةِ عَامِدَاً.
 
﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾.
 
إِنَّهُ لَمِنَ العَجِيبِ أَنْ تَسْمَعَ وَتَرَى عَبْدَاً ضَعِيفَاً مُحْتَاجَاً إلى اللهِ تعالى في سَائِرِ أَحْوَالِهِ، يُحَاوِلُ أَنْ يُنَادَّ اللهَ وَيُحَادَّهُ في مُلْكِهِ، فَيَأْمُرُ بِمَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللهِ تعالى، وَيَسْعَى لِإِظْهَارِ البَاطِلِ وَإِزْهَاقِ الحَقِّ بِلِسَانِهِ الذي هُوَ مِنْ خَلْقِ اللهِ تعالى، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَرَّكَ حَرَكَةً يَمِينَاً وَلَا شِمَالَاً، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِقَوْلٍ إِلَّا بِأَمْرِ اللهِ تعالى، وَهُوَ مَعَ هَذَا يُحَاوِلُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللهِ تعالى كَذِبَاً، وَيُحَاوِلُ أَنْ يَأْمُرَ الآخَرِينَ بِذَلِكَ، كَمَا فَعَلَ أَبُو جَهْلٍ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَبَعْدَ أَنْ قَالَ تعالى مُسْتَنْكِرَاً فِعْلَ هَذَا الطَّاغِيَةِ: ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾. اشْتَدَّ في الخِطَابِ، فَقَالَ مُحَذِّرَاً وَمُهَدِّدَاً وَزَاجِرَاً هَذَا الطَّاغِيَ المُجْرِمَ: ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾.

﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾:
 
﴿كَلَّا﴾ أَدَاةُ زَجْرٍ وَرَدْعٍ مُوَجَّهَةً للطَّاغِي البَاغِي الضَّالِّ المُضِلِّ أَبِي جَهْلٍ الذي كَانَ يُحَارِبُ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيَصُدُّ النَّاسَ عَنِ اللهِ تعالى، وَيُحَاوِلُ إِيذَاءَهُمْ وَمَنْعَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ بِالإِكْرَاهِ.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ إِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْفَعَهُ اللهُ تعالى عَلَى نَاصِيَتِهِ.
يُقَالُ: سَفَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ إِذَا لَطَمَهُ بِرَاحَتِهِ، وَسَفَعَهُ بِالعَصَا إِذَا ضَرَبَهُ بِهَا، وَسَفَعَهُ بِنَاصِيَتِهِ وَرِجْلِهِ إِذَا قَبَضَ عَلَيْهِمَا قَبْضَاً شَدِيدَاً بِعُنْفٍ، وَجَذَبَهُ مِنْهُمَا وَأَخَذَهُ.
النَّاصِيَةُ: مُقَدَّمُ الرَّأْسِ، وَشَعْرُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ إِذَا طَالَ.

فَالحَقُّ سُبْحَانَهُ وتعالى يُقْسِمُ بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ هَذَا المُجْرِمُ بِأَنْ يَسْفَعَهُ عَلَى نَاصِيَتِهِ الكَاذِبَةِ الخَاطِئَةِ، فَهُوَ كَاذِبٌ في هُوِيَّتِهِ مُتَنَاقِضٌ في دَاخِلِهِ، يَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ صِدْقَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ في تَكْذِيبِهِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ الحِقْدَ وَالاسْتِكْبَارَ وَالاسْتِعْلَاءَ يَمْنَعُهُ مِنْ مُتَابَعَتِهِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَلْ دَفَعَهُ ذَلِكَ لِمُحَارَبَةِ اللهِ تعالى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ كَاذِبٌ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَهُوَ خَاطِئٌ، مُتَقَصِّدٌ مَا يَفْعَلُ، وَلَيْسَ مُخْطِئَاً.
هَذَا الطَّاغِي المُجْرِمُ ـ وَأَمْثَالُهُ ـ سَيُؤْخَذُ بِنَاصِيَتِهِ وَقَدَمِهِ لِيُلْقَى في نَارِ جَهَنَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾ حَتَّى يُلْقَوا في نَارِ جَهَنَّمَ جَزَاءً وِفَاقَاً.

 
﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾
 
ثُمَّ قَالَ تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى هَذَا الطَّاغِي، عِنْدَمَا قَالَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: فَوَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا بِهَا رَجُلٌ أَكْثَرُ نَادِيَاً مِنِّي.
روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ.
فَانْتَهَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: لِمَ تَنْتَهِرُنِي يَا مُحَمَّدُ؟ فَوَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا بِهَا رَجُلٌ أَكْثَرُ نَادِيًا مِنِّي.
قَالَ: فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾.
قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ، لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ.
"فليدع ناديه" أي قومه وعشيرته أي ليدعهم يستنصر بهم.
( سندع الزبانية ) وهم ملائكة العذاب ، حتى يعلم من يغلب : أحزبنا أو حزبه

 
﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾:
 
بَعْدَ هَذَا التَّهْدِيدِ وَالوَعِيدِ للطَّاغِيَةِ، تَوَجَّهَ الخِطَابُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَللمُؤْمِنِينَ ﴿كَلَّا﴾ يَعْنِي: لَا تُوَافِقْ هَذَا الطَّاغِيَ المَخْذُولَ، وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَلَا تَسْمَعْ لِكَلَامِهِ، وَلَا تُنْصِتْ لِمَقَالِهِ، بَلِ اسْجُدْ وَاقْتَرِبْ مِنْ حَضْرَةِ مَوْلَاكَ، فَإِنَّ سُجُودَكَ للهِ تعالى عِزٌّ لَكَ، وَخُضُوعَكَ للهِ شَرَفٌ لَكَ.
وَهَذَا الخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيَجِدُ مَنْ يَنْهَاهُ عَنْ إِيمَانِهِ وَعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَيَضْطَهِدُهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَىَاةِ الدُّنْيَا وَفي الآخِرَةِ. آمين.

ملخص تفسير سورة العلق

من موقع
 ( أَحمد شريف النَّعسان)

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

سُورَةُ المُدَّثِرِ

سُورَةُ المُدَّثِرِ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ التي نَزَلَتْ في العَهْدِ المَكِّيِّ بِالاتِّفَاقِ.
روى الإمام البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ: «فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتَاً مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجُـئِـثْتُ ـأَيْ خِفْتُ ـ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿فَاهْجُرْ﴾ ـ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرِّجْزُ الأَوْثَانُ ـ  ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وَتَتَابَعَ».
وفي رِوَايَةٍ للإمام مسلم أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَدِّثُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ ـ قَالَ فِي حَدِيثِهِ ـ: «فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتَاً مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسَاً عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقَاً، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ ـ وَهِيَ الْأَوْثَانُ ـ قَالَ: «ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ».

**    **    **


﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾:
قَوْلُهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ يَعْنِي: يَا أَيُّهَا المُتَدَثِّرُ بِثِيَابِهِ المُتَغَطِّي بِهَا، قُمْ نَاهِضَاً لِتَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّكَ، هَذَا الخِطَابُ في ظَاهِرِهِ بَسِيطٌ، وَلَكِنَّهُ في الحَقِيقَةِ بَعِيدُ المَدَى وَالغَايَةِ، قَوِيُّ الأَثَرِ وَالفِعْلِ في الحَقِيقَةِ، فَغَايَةُ القِيَامِ بِالإِنْذَارِ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدَاً مِمَّنْ يُخَالِفُ اللهَ تعالى وَيَعْصِيهِ إِلَّا وَيُنْذِرُهُ بِالعَوَاقِبِ الوَخِيمَةِ غَيْرِ السَّارَّةِ.
وَالإِنْذَارُ بِعِقَابِ اللهِ تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ بَعْدَ تَبْلِيغِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْرِيفِهِ لَهُمْ بِأَرْكَانِ هَذَا الدِّينِ، وَدَعْوَتِهِمْ للإِيمَانِ بِاللهِ تعالى بِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.



﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾:
قَوْلُهُ تعالى: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ يَتَضَمَّنُ في دَاخِلِهِ أُمُورَاً عِدَّةً، تَجِبُ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُومَ بِهَا قَبْلَ الإِنْذَارِ، مِنْ هَذِهِ الوَاجِبَاتِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ وَشَرْحُهَا، مَعَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهَا وَصِحَّتِهَا، وَأَنْ يُبَيِّنَ للنَّاسِ وَاجِبَهُمْ تُجَاهَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِالأَجْرِ العَظِيمِ الذي أَعَدَّهُ اللهُ تعالى لِمَنِ اسْتَجَابَ للهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ جَنَّاتٌ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ثُمَّ يُنْذِرُهُمُ العَذَابَ الأَلِيمَ الخَالِدَ المُقِيمَ في نَارِ جَهَنَّمَ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا للهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
مِنْ هَذَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا عُقُوبَةَ إِلَّا بِتَجْرِيمٍ، وَلَا تَجْرِيمَ إِلَّا بِنَصٍّ، وَلَا نَصَّ إِلَّا بِإِعْلَامٍ، وَهَذَا هُوَ الإِنْصَافُ الذي جَاءَ بِهِ شَرْعُنَا الحَنِيفُ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولَاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾.
فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ، فَحَتَّى لَا يَحْتَجَّ قَائِلٌ: ﴿رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولَاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
فَهَا هُوَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ مِنْ قِبَلِ رَبِّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾. بَلِّغْ وَبَشِّرْ وَأَنْذِرْ وَأَمْهِلْ حَتَّى يَعْلَمَ الجَمِيعُ ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.
فَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولَاً﴾. وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾. يَعْنِي: قُمْ يَا رَسُولَ اللهِ إلى أَدَاءِ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ التي اصْطَفَاكَ اللهُ تعالى لَهَا، وَحَمَّلَكَ مَهَمَّاتِهَا، وَمَنَحَكَ شَرَفَهَا، وَخَصَّكَ مِنْ قَوْمِكَ بِالوَحْيِ إِلَيْكَ، قُمْ يَا رَسُولَ اللهِ مُبَشِّرَاً وَدَاعِيَاً إلى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجَاً مُنِيرَاً.



﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾
أَيْ: وَخُصَّ رَبَّكَ وَحْدَهُ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّعْظِيمِ، وَاسْتَحْضِرْ دَائِمَاً وَأَبَدَاً أَنَّ رَبَّكَ الذي تَوَلَّى أَمْرَكَ وَتَرْبِيَتَكَ وَأَصْلَحَ أَمْرَكَ، وَجَعَلَكَ أَهْلَاً لِتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ هُوَ الأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ كَبِيرٍ، وَهُوَ الأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ عَظِيمٍ، هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُوجِدُهُ وَمُمِدُّهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ حَصْرَاً وَقَصْرَاً، فَلَا كَبِيرَ عَلَى الحَقِيقَةِ سِوَاهُ، وَالفَاءُ في كَلِمَةِ ﴿فَكَبِّرْ﴾ جِيءَ بِهَا للإِشْعَارِ بِأَنَّ الجُمْلَةَ وَاقِعَةٌ جَوَابَاً لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ أَمْرٍ وَشَأْنٍ وَشَيْءٍ فَكَبِّرْ رَبَّكَ حَصْرَاً لَا سِوَاهُ.
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَضْمَنُ تَوْحِيدَ اللهِ تعالى، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ في ذَاتِهِ، وَوَاحِدٌ في صِفَاتِهِ، وَوَاحِدٌ في أَمْثَالِهِ، فَلَا شَبِيهَ، وَلَا مَثِيلَ، وَلَا نَظِيرَ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ عَظِّمْ قَدْرَ رَبِّكَ عَنِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْكَ في تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، فَإِنَّ المُسْتَجِيبَ لِدَعْوَتِكَ هُوَ مِمَّن سَبَقَتْ لَهُ الهِدَايَةُ مِنْ رَبِّكَ ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾. وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ.
فَكُلُّ أَحَدٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ مِنَ المَخْلُوقَاتِ صَغِيرٌ، وَاللهُ وَحْدَهُ هُوَ الكَبِيرُ، وَتَتَوَارَى الأَجْرَامُ وَالأَحْجَامُ، وَالقِوَى وَالقِيَمُ، وَالأَحْدَاثُ وَالأَحْوَالُ، وَالمَعَانِي وَالأَشْكَالُ، وَتَنْحَنِي كُلُّهَا في ظِلَالِ الجَلَالِ وَالكَمَالِ للهِ الوَاحِدِ الكَبِيرِ المُتَعَالِ.



﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾:
ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾. وَالمُرَادُ بِذَلِكَ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ، تَطْهِيرُ الظَّاهِرِ مِنَ الثِّيَابِ، مَعَ طَهَارَةِ البَاطِنِ، لِأَنَّ العَرَبَ يُرِيدُونَ بِطَهَارَةِ الثَّوْبِ النَّزَاهَةَ وَالعِفَّةَ، فَتَقُولُ: فُلَانٌ ذَيْلُهُ طَاهِرٌ، أَو طَاهِرُ الذَّيْلِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ رَجُلٌ عَفِيفٌ، وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ ذَيْلُهُ نَجِسٌ، أَو نَجِسُ ذَيْلُهُ، يَعْنِي: لَطَّخَ نَفْسَهُ بِإِلْقَاءِ القَاذُورَاتِ وَالفَوَاحِشِ.
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾. المَقْصُودُ طَهِّرْ قَلْبَكَ، وَطَهِّرْ نِيَّتَكَ، وَطَهِّرْ صَدْرَكَ، وَطَهِّرْ أَعْمَالَكَ مِنْ كُلِّ وَصْفٍ نَاقِصٍ وَمُخَالِفٍ وَلَا يُرْضِي مَوْلَاكَ.
وَلَا يَمْنَعُ هَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِالآيَةِ الطَّهَارَةَ الحِسِّيَّةَ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ المَعْنَى: مَهْمَا اسْتَطَعْتَ في كُلِّ أَحْوَالِكَ فَطَهِّرْ ثِيَابَكَ، وَخُصَّهَا بِالعِنَايَةِ بِالطَّهَارَةِ، لِأَنَّهَا مُصَاحِبَةٌ لَكَ، وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ إِذَا كَانَ العَبْدُ مَأْمُورَاً بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ فَالأَمْرُ بِطَهَارَةِ لَابِسِهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى، لِأَنَّ طَهَارَةَ البَدَنِ أَوْلَى مِنْ طَهَارَةِ الثِّيَابِ، وَطَهَارَةَ القَلْبِ أَوْلَى مِنْ طَهَارَةِ البَدَنِ.
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُعْتَبَرُ عُنْوَانَاً للطَّهَارَةِ المَادِّيَّةِ مِنْ كُلِّ النَّجَاسَاتِ، وَعُنْوَانَاً للطَّهَارَةِ المَعْنَوِيَّةِ مِنْ كُلِّ المُخَالَفَاتِ، وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ، وَهُوَ أَوَّلُهُمْ تَكْلِيفَاً، وَأَوَّلُهُمْ حِرْصَاً عَلَى تَطْبِيقِ مَا أَمَرَ اللهُ تعالى بِهِ أَو نَهَى عَنْهُ إِلْزَامَاً أَو تَرْغِيبَاً.
وَهَذَا مَا أَكَّدَ عَلَيْهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَهَذَا الحَدِيثُ يَشْمَلُ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَاتِ المَادِّيَّةِ، وَالنَّجَاسَاتِ المَعْنَوِيَّةِ، كَالشِّرْكِ وَارْتِكَابِ الكَبَائِرِ، التي هِيَ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.



 ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾.
وَالمَقْصُودُ بِالرُّجْزِ هُنَا الأَصْنَامُ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: «فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتَاً مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ رُعْبَاً، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ﴾ إِلَى ﴿وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ﴾. قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ؛ وَهِيَ الأَوْثَانُ.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾. فِيهِ قِرَاءَتَانِ، بِالضَّمِّ وَالكَسْرِ، وَكُلُّهَا مِنَ القِرَاءَاتِ المُتَوَاتِرَةِ؛ فَإِذَا قُرِئَتْ بِالضَّمِّ عَنَتِ الأَمْرَ بِهَجْرِ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَإِذَا قُرِئَتْ بِالكَسْرِ عَنَتِ الأَمْرَ بِهَجْرِ مَا فِيهِ العَذَابُ.
روى الإمام مسلم عَنْ أُسَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْزٌ سُلِّطَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَوْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارَاً مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا».

مَعْنَى قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾:
هَذَا الخِطَابُ في ظَاهِرِهِ مُوَجَّهٌ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ في الحَقِيقَةِ مُوَجَّهٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الأُمَّةِ التي جَاءَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِتَبْلِيغِ دَعْوَتِهِ.
وَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا رَيْبَ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ عَنِ المَعَاصِي وَالمُخَالَفَاتِ، فَضْلَاً عَنِ الشِّرْكِ، فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ بِعْثَتِهِ مَا كَانَ يَعْبُدُ صَنَمَاً ـ حَاشَاهُ ـ بَل كَانَ يَكْرَهُ الأَصْنَامَ وَيُبْغِضُهَا، وَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ بِعْثَتِهِ فَعَلَ مَعْصِيَةً ـ حَاشَاهُ ـ.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:
مَا كَانَ في القُرْآنِ مِنْ نِذَارَة   ***   إلى الـــنَّبِيِّ صَاحِبِ البِشَارَة
فَـكُنْ لَبِيبَاً وَافْهَمِ الإِشَارَة   ***   إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَة

فَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا في القُرْآنِ العَظِيمِ كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾. وَكَقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرَاً لِلْكَافِرِينَ﴾. وَكَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمَاً﴾. وَكَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. وَكَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
كُلُّ هَذِهِ الآيَاتِ وَأَمْثَالُهَا، ظَاهِرُهَا خِطَابٌ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَضْمُونُهَا خِطَابٌ لِأُمَّتِهِ التي قَامَ بِإِنْذَارِهَا بَعْدَ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهَا.

فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾. بِالضّمِّ أَمْرٌ بِهَجْرِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَبِالكَسْرِ أَمْرٌ بِهَجْرِ كُلِّ اعْتِقَادٍ أَو قَوْلٍ أَو سُلُوكٍ أَو فِعْلٍ أَو نِيَّةٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفْضِيَ إلى سَخَطِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَذَابِهِ، لِأَنَّ عَدَمَ هَجْرِ المَعَاصِي سَبَبٌ لِسَخَطِ اللهِ تعالى، وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ: اهْجُرِ الرُّجْزَ لِتَسْلَمَ مِنَ الرِّجْزِ، أَيْ: مِنَ العَذَابِ.



﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾:
وَهَذَا تَوْجِيهٌ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ في الحَقِيقَةِ تَوْجِيهٌ للأُمَّةِ، أَنْ لَا يُعْطِيَ الإِنْسَانُ العَطِيَّةَ مُلْتَمِسَاً مِمَّنْ أَعْطَاهُ أُعْطِيَةً مِثْلَهَا أَو أَكْثَرَ مِنْهَا وَأَفْضَلَ، لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ العَطَاءُ للهِ تعالى، روى الإمام أحمد عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾، قَالَ: لَا تُعْطِي شَيْئَاً تَطْلُبُ أَكْثَرَ مِنْهُ.
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَتَضَمَّنُ أَصْلَاً عَظِيمَاً مِنْ أُصُولِ الأَخْلَاقِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، التي جَاءَ بِهَا دِينُنَا الحَنِيفُ، إِذِ المَطْلُوبُ مِنَ المُسْلِمِ أَنْ يُعَامِلَ رَبَّهُ مِنْ خِلَالِ مُعَامَلَتِهِ عِبَادَهُ، فَلَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ شَيْئَاً، بَلْ يَطْلُبُ مِنَ اللهِ تعالى: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ﴾. لَا أَنْ يُعَامِلَ العِبَادَ بِالمَعْرُوفِ طَالِبَاً مِنْهُمُ المُكَافَأَةَ، فَذَلِكَ يُحْبِطُ عِنْدَ اللهِ عَمَلَهُ، وَيُخَيِّبُ أَمَلَهُ.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾. تَرْبِيَةٌ مِنَ اللهِ تعالى، لِأَنْ يَسْلُكَ العَبْدُ أَشْرَفَ الآدَابِ وَأَجَلَّ الأَخْلَاقِ في عَطَائِهِ للنَّاسِ، وَهَذَا الأَمْرُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى العَطَاءِ المَادِّيِّ، بَلْ عَلَى كُلِّ عَطَاءٍ مَادِّيَّاً كَانَ أَو مَعْنَوِيَّاً، فَالدَّاعِي إلى اللهِ تعالى يُعْطِي وَلَا يَأْخُذُ، وَيَصْبِرُ وَيَتَحَمَّلُ المَشَاقَّ في سَبِيلِ اللهِ تعالى، لِأَنَّ اللهَ تعالى أَسْبَغَ عَلَيْهِ نِعَمَاً لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَعَ مَا ادَّخَرَهُ اللهُ تعالى لَهُ في الآخِرَةِ، فَهُوَ يَعْمَلُ وَيُعْطِي وَيَطْلُبُ مِنَ اللهِ تعالى المُكَافَأَةَ.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾. يَشْمَلُ كَذَلِكَ عِبَادَةَ العَبْدِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَنْ يَمُنَّ بِعَمَلِهِ عَلَى رَبِّهِ وَيَسْتَكْثِرَهُ، كَمَا قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لَا تَمْنُنْ بِعَمَلِكَ عَلَى رَبِّكَ فَتَسْتَكْثِرُهُ.
وَلَو تَدَبَّرَ العَبْدُ آيَاتِ اللهِ تعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ، لَوَجَدَ هَذَا المَعْنَى جَلِيَّاً وَاضِحَاً، فَهَذَا سَيِّدُنَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ العَابِدُ الشَّاكِرُ للهِ تعالى حِينَ رَأَى عَرْشَ بِلْقِيسَ أَمَامَهُ في طَرْفَةِ عَيْنٍ ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾. مَا كَانَ يَسْتَكْثِرُ الشُّكْرَ حَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَهَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذي ابْتَلَاهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِبَلَاءٍ عَظِيمٍ، في نَفْسِهِ، وَفي زَوْجَتِهِ، وَفي وَلَدِهِ، قَالَ: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾. مَا كَانَ يَسْتَكْثِرُ في صَبْرِهِ وَبَلَائِهِ حَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى العَلِيَّ القَدِيرَ، أَنْ يُوَفِّقَنَا لِهَجْرِ المَعَاصِي الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، وَأَنْ نُقَدِّمَ الخَيْرَ للنَّاسِ دُونَ النَّظَرِ لِمَا في أَيْدِيهِمْ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِطَاعَتِهِ، وَيُجِيرَنَا مِنْ عَذَابِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ. آمين.

يتبع

ملخص تفسير سورة المدثر
من موقع
 ( أَحمد شريف النَّعسان)

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
ـ ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾

هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَتَضَمَّنُ بَيَانَ أَصْلٍ عَظِيمٍ مِنْ أُصُولِ الأَخْلَاقِ في الإِسْلَامِ، وَهُوَ الصَّبْرُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
لَقَدْ كَلَّفَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالقِيَامِ بِأَعْبَاءِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، فَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾. ثُمَّ قَالَ لَهُ: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾.

لَقَدْ أَمَرَهُ تَبَارَكَ وتعالى بِالصَّبْرِ بَعْدَ التَّبْلِيغِ، لِأَنَّهُ تَبَارَكَ وتعالى يَعْلَمُ بِأَنَّ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ سَوْفَ يُكَذِّبُونَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُكَذِّبُونَهُ في إِنْذَارِهِ، وَيُكَذِّبُونَهُ في رِسَالَتِهِ؛ وَهَذَا مَا حَصَلَ فِعْلَاً، لَقَدْ قَابَلَ القَوْمُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ وَالإِعْرَاضِ وَالإِدْبَارِ، وَوَجَّهُوا لَهُ الاتِّهَامَاتِ وَالشَّتَائِمَ وَأَنْوَاعَ العَذَابِ.
لِذَلِكَ كَانَتِ الحِكْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ أَنْ يُوَجِّهَ اللهُ تعالى مَعَ بِدَايَاتِ تَكْلِيفِهِ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ الأَمْرَ بِأَنْ يَصْبِرَ لِأَجْلِ مَرْضَاةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، غَيْرَ مُبَالٍ بِالنَّاسِ، وَلَا مُكْتَرِثٍ لِمَا يَنَالُهُ مِنْ جِهَتِهِمْ مِنْ مَكْرُوهٍ وَأَنْوَاعٍ مِنَ الأَذَى المَعْنَوِيِّ وَالمَادِّيِّ.


وُجُوبُ مُرَاقَبَةِ النَّفْسِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾. دَرْسٌ عَظِيمٌ في الأَخْلَاقِ التي يَجِبُ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ وَخَاصَّةً الدَّاعِيَ إلى اللِه تعالى، الإِسْلَامُ أَمَانَةٌ في أَعْنَاقِنَا، يَجِبُ تَبْلِيغُهُ للآخَرِينَ، وَتَبْلِيغُهُ للآخَرِينَ يَحْتَاجُ إلى شَخْصِيَّاتٍ عَظِيمَةٍ تَحْمِلُ أَخْلَاقَاً سَامِيَةً رَاقِيَةً تَتَحَلَّى بِخُلُقِ الصَّبْرِ، وَأَنْ يَكُونَ الصَّبْرُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، الإِسْلَامُ لَا يَرْضَى مِنَّا مُجَرَّدَ الادِّعَاءِ وَمُجَرَّدَ الانْتِسَابِ، الإِسْلَامُ عَمَلِيَّةُ تَهْذِيبٍ وَتَعْلِيمٍ طَوِيلَةُ الأَمَدِ شَاقَّةُ المَرَاحِلِ.
الإِسْلَامُ يُرِيدُ مِنَّا ضَبْطَ النَّوَازِعِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالشُّعُورِ الدَّاخِلِيِّ الذي لَا يُرْضِي اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، الإِسْلَامُ يَطْلُبُ مِنَّا مُرَاقَبَةً مُسْتَمِرَّةً لِأَنْفُسِنَا، وَخَاصَّةً حِينَ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الإِسْلَامُ يُرِيدُ أَنْ نَتَخَلَّى عَنْ كُلِّ نَازِعٍ وَشُعُورٍ دَاخِلِيٍّ لَا يَرْضَاهُ اللهُ تعالى لِعَبْدِهِ، الإِسْلَامُ يُرِيدُ طَرْدَ كُلِّ رَغْبَةٍ وَشَهْوَةٍ لَا تَلِيقُ بِالمُسْلِمِ الدَّاعِي إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الإِسْلَامُ يُرِيدُ أَنْ تَظْهَرَ آثَارُ الطَّاعَاتِ وَالعِبَادَاتِ عَلَى جَوَارِحِنَا الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، تَدَبَّرُوا صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ التي هِيَ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ نُزُولَاً: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾.
أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ، وَبَعْدَ تَكْبِيرِ اللهِ تعالى، وَبَعْدَ الأَمْرِ بِالتَّطْهِيرِ ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، وَهَجْرِ الأَوْثَانِ، وَهَجْرِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، بَعْدَ كُلِّ هَذَا جَاءَ الأَمْرُ بِالصَّبْرِ للهِ تعالى.


صَبْرٌ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَصَبْرٌ عَنِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَصَبْرٌ عَلَى إِيذَاءِ الخَلْقِ وَخَاصَّةً عِنْدَ دَعْوَتِهِمْ إلى اللهِ تعالى
وَهَذَا التَّكْلِيفُ بِوُسْعِ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ الصَّادِقِ، لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلَّا وُسْعَهَا﴾. فَإِذَا لَمْ يَتَخَلَّقِ الإِنْسَانُ بِخُلُقِ الصَّبْرِ فَمَا مَعْنَى إِسْلَامِهِ؟

في الخِتَامِ: الصَّبْرُ للهِ تعالى هُوَ الزَّادُ الثَّمِيْنُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالمُؤْمِنُ بِدُونِ صَبْرٍ ضَائِعٌ تَائِهٌ، الصَّبْرُ هُوَ الزَّادُ للوُصُولِ إلى مَرْضَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِلوُصُولِ إلى جَنَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِلوُصُولِ إلى مَعِيَّةِ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقَاً، وَلِلوُصُولِ إلى اللِّقَاءِ مَعَ الأُصُولِ وَالفُرُوعِ وَالأَزْوَاجِ يَوْمَ القِيَامَةِ، بِالصَّبْرِ يَنْدَرِجُ العَبْدُ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى:
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الصَّابِرِينَ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَالصَّابِرِينَ عَنِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَالصَّابِرِينَ عَلَى الابْتِلَاءَاتِ، وَلَا تُحَمِّلْنَا يَا رَبَّنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. آمين.

,,,,,,,,,,,,,,,


 ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾

﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾:
النَّاقُورُ: هُوَ الصُّورُ، وَهُوَ بُوقٌ عَظِيمٌ يُشْبِهُ القَرْنَ المُجَوَّفَ، وَالنَّقْرُ في الصُّورِ يَعْنِي إِطْلَاقَ الصَّوْتِ فِيهِ، وَيَكُونُ هَذَا الإِطْلَاقُ بِالنَّفْخِ.
روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسَّمَّعُ مَتَى يُؤْمَرُ، فَيَنْفُخُ؟».
فَقَالَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: كَيْفَ نَقُولُ؟
قَالَ: «قُولُوا: حَسْبُنَا اللهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا».
هَذِهِ الآيَاتُ الكَرِيمَةُ جَاءَتْ بَعْدَ إِرْشَادِ اللهِ تعالى قُدْوَةَ الأَنْبيَاءِ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى الكَمَالَاتِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾.
حَيْثُ عَدَلَ عَنْهُ إلى شَرْحِ وَعِيدِ الأَشْقِيَاءِ، فَقَالَ: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾. جَاءَتِ الفَاءُ بَعْدَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾. كَأَنَّهُ قَالَ تعالى: اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ، وَاحْتَسِبِ الأَمْرَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَوْمٌ عَسِيرٌ، يَلْقَوْنَ فِيهِ عَاقِبَةَ أَذَاهُمْ، وَتَلْقَى فِيهِ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ عَاقِبَةَ صَبْرِكَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الجَمِيعَ مَيِّتٌ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾.


النَّاقُورُ وَالصُّورُ:

النَّاقُورُ هُوَ عَالَمٌ غَيْبِيٌّ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا اللهُ تعالى، وَقَدْ جَاءَتْ تَسْمِيَتُهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ بِالصُّورِ، قَالَ تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾.
وَهُنَاكَ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالصُّورِ يَنْفُخُ فِيهِ بِأَمْرِ اللهِ تعالى، روى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي طَائِفَةٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلَقَ الصُّورَ، فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِصَاً بَصَرَهُ إِلَى الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ».

وَقَدْ نُقِلَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الصُّورِ هُوَ سَيِّدُنَا إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صَاحِبَ الصُّورِ مُسْتَعِدٌّ للنَّفْخِ فِيهِ مُنْذُ أَنْ خَلَقَهُ اللهُ تعالى، روى الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ طَرْفَ صَاحِبِ الصُّورِ مُذْ وُكِّلَ بِهِ مُسْتَعِدٌّ يَنْظُرُ نَحْوَ الْعَرْشِ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْمَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِ طَرْفُهُ، كَأَنَّ عَيْنَيْهِ كَوْكَبَانِ دُرِّيَّانِ».
هَلِ النَّقْرُ في النَّفْخَةِ الأُولَى أَمِ الثَّانِيَةِ؟


لَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ في الوَقْتِ الذي يُنْقَرُ في النَّاقُورِ، أَهُوَ النَّفْخَةُ الأُولَى أَمِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ؟

وَأَصَحُّ الأَقْوَالِ أَنَّ النَّقْرَ في النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾.
وروى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الآخِرَةِ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى مُتَعَلِّقٌ بِالعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَذَلِكَ كَانَ أَمْ بَعْدَ النَّفْخَةِ».
فَعِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ يُبْعَثُ الخَلَائِقُ إلى الحَيَاةِ مَرَّةً أُخْرَى، للعَرْضِ وَالحِسَابِ في دَارِ السُّؤَالِ، وَفَصْلِ القَضَاءِ، وَتَنْفِيذِ الجَزَاءِ.
﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾:
قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَذَلِكَ﴾ إِشَارَةٌ إلى اليَوْمِ الذي يُنْقَرُ فِيهِ في النَّاقُورِ؛ وَالتَّقْدِيرُ: فَذَلِكَ اليَوْمُ يَوْمُ عُسْرٍ عَلَى الكَافِرِينَ، لِأَنَّهُمْ يُنَاقَشُونَ الحِسَابَ، وَيُعْطَوْنَ كِتَابَهُمْ بِشِمَالِهِمْ، فَيَقُولُ الوَاحِدُ مِنْهُمْ: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعَاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾. أَجَارَنَا اللهُ تعالى في ذَلِكَ اليَوْمِ.

يَوْمُ عُسْرٍ عَلَى الكَافِرِينَ، لِأَنَّ وُجُوهَهُمْ مُسْوَدَّةٌ بِسَبَبِ إِيذَائِهِمْ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
يَوْمُ عُسْرٍ عَلَى الكَافِرِينَ، لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ زُرْقَاً، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقَاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَـشْرَاً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمَاً﴾.
يَوْمُ عُسْرٍ عَلَى الكَافِرِينَ، لِأَنَّ جَوَارِحَهُمْ تَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، قَالَ تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
يَوْمُ عُسْرٍ عَلَى الكَافِرِينَ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ لَا يُنَاقَشُونَ الحِسَابَ، وَيُحْشَرُونَ بِيضَ الوُجُوهِ، وَيُسَاقُونَ إلى الرَّحْمَنِ وَفْدَاً، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدَاً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدَاً﴾.

وروى الإمام أحمد عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسَاً عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدَاً﴾.
قَالَ: لَا وَاللهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشَرُونَ، وَلَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَكِنْ عَلَى نُوقٍ لَمْ تَرَ الْخَلائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ.
أَمَّا الكَافِرُونَ فَكَمَا قَالَ تعالى في حَقِّهِمْ: ﴿وَنَسُوقُ الْـمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدَاً﴾. عِطَاشَاً لَا يَسْكُنُ عَطَشُهُمْ كَمَا سَكَنَ عَطَشُ المُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّهُمْ يَزْدَادُونَ عَطَشَاً حَتَّى يُورَدُونَ إلى النَّارِ فَـيَشْرَبُونَ الحَمِيمَ شُرْبَ الهِيمِ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَاكَ اليَوْمِ.
يَوْمُ عُسْرٍ عَلَى الكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلَاً * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانَاً خَلِيلَاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولَاً﴾.
فَيَا حَسْرَةً عَلَى مَنْ عَادَى اللهَ تعالى وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفي الآخِرَةِ. آمين.

 
يتبع

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا

﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾.

هَذَا الوَعِيدُ الرَّبَانِيُّ جَاءَ في حَقِّ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، وَهُوَ في الحَقِيقَةِ خِطَابٌ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ وَالعِنَادِ، الذينَ يُخَالِفُونَ قَنَاعَاتِهِمْ، وَيُصِرُّونَ عَلَى البَاطِلِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ وُضُوحِ الحَقِّ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: العِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
فَهَذِهِ الآيَاتُ الكَرِيمَاتُ وَإِنْ نَزَلَتْ في حَقِّ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، فَهِيَ شَامِلَةٌ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ.



نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ الكَرِيمَةُ في حَقِّ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، الذي آذَى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِيذَاءً شَدِيدًا.
كَانَ رَجُلًاً عَنِيدًا، وَكَانَ عِنْدَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الوَلَدِ، وَكَانَ تَاجِرًا، ذَا مَالٍ كَبِيرٍ في مَكَّةَ، كَانَ يَكْسُو الكَعْبَةَ سَنَةً، وَكَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَجْتَمِعُونَ في كِسْوَتِهَا سَنَةً.
كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الذَّهَبِ مَا يُقْسَمُ بِالفُؤُوسِ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْضُرَ نَوَادِيَ مَكَّةَ، أَو وَلَائِمَ المُشْرِكِينَ، جَعَلَ خَمْسَةً مِنْ أَبْنَائِهِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَمْسَةً عَنْ يَسَارِهِ؛ وَلَكِنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، إِذْ كَانَ يُتْلَى القُرْآنُ الكَرِيمُ عَلَى مَسَامِعِهِ ولم يُؤْمِنْ، وَسَيَبْقَى عِبْرَةً لِغَيْرِهِ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ، إِذْ قَالَ تعالى في حَقِّهِ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾.

قَوْلُ اللهِ تعالى:
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾:
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ فِيهَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنَ اللهِ تعالى، لَا مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّ الحَقَّ تعالى يُسَلِّي فُؤَادَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا آذَاهُ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، فَيَقُولُ لَهُ: دَعْنِي مَعَ مَنْ خَلَقْتُهُ وَحِيدًا، لَا أَنْصَارَ لَهُ، وَلَا أَبْنَاءَ، وَلَا أَعْوَانَ، وَلَا مَالَ، وَلَا قُوَّةَ ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ﴾.

دَعْنِي مَعَ هَذَا العَبْدِ الذي أَمْدَدْتُهُ بِالمَالِ وَالوَلَدِ وَالأَصْحَابِ وَالأَعْوَانِ، وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى تَجْرِيدِهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَيَّ كَمَا خَلَقْتُهُ ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلِمَنْ تَبِعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَلِكُلِّ دَاعٍ إلى اللهِ تعالى، إِذَا وَاجَهَ مَنْ يُعَانِدُ وَيُكَابِرُ وَيَقِفُ في سَبِيلِ الدَّعْوَةِ صَادًّا مُعَارِضًا مُحَارِبًا لَهَا، أَنْ يَدَعَ مُوَاجَهَةَ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الجَاحِدِينَ المُعَانِدِينَ ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾.
فَالحَقُّ تَبَارَكَ وتعالى يَأْمُرُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالإِعْرَاضِ عَنْ هَذَا الجَاحِدِ المُعَانِدِ، وَأَنْ يَدَعَهُ للهِ تعالى، وَأَنْ يَصْبِرَ عَلَى أَذَاهُ، كَمَا قَالَ لَهُ تعالى في سُورَةِ المُزَّمِّلِ: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا﴾.
وَكَمَا قَالَ تعالى في سُورَةِ القَلَمِ: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾.


هَذِهِ الآيَاتُ الكَرِيمَةُ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ أَخَذَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ نَتِيجَتَهُ في الآخِرَةِ وَهُوَ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ بِقَرَارٍ مِنَ اللهِ تعالى سَوْفَ يَصْلَى سَقَرَ، وَأَنَّهُ مِنَ الخَالِدِينَ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ.
هَذِهِ الآيَاتُ هِيَ مِنْ أَوَائِلِ الآيَاتِ وَالسُّوَرِ التي نَزَلَتْ، وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ سَيِّدِنَا مُحَمَدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَنَّ اللهَ تعالى نَاصِرٌ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَو نِفَاقًا، كَمَا أَنَّ أَبَا لَهَبٍ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ نِفَاقًا، مَعَ مُحَاوَلَتِهِمَا تَكْذِيبَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.


﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ يَعْنِي: دَعْنِي وَاتْرُكْنِي مَعَ مَنْ خَلَقْتُهُ وَحِيدًا، لَا نَصِيرَ لَهُ، وَلَا مُعِينَ، وَلَا شَيْءَ يَعْتَزُّ بِهِ؛ هَذَا هُوَ أَصْلُ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَالأَصْلُ في كُلِّ ذِي حَيَاةٍ، وَكُلِّ مَخْلُوقٍ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَدَّهُ اللهُ تعالى بِالأَبْنَاءِ، وَالأَمْوَالِ، وَالأَعْوَانِ، وَالأَنْصَارِ، وَالذي أَمَدَّ بَعْدَ إِيجَادٍ قَادِرٌ عَلَى أَخْذِ مَا أَمَدَّ بِهِ، وَقَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِ.
جَاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ في حَقِّ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، فَهُوَ المَقْصُودُ الأَوَّلُ مِنْهَا، فَكُلُّ مَخْلُوقٍ مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ وَغَيْرِهِمَا قَدْ خَلَقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَاجِزًا فَقِيرًا وَحِيدًا، لَا نَصِيرَ لَهُ، وَلَا مُعِينَ، مُحْتَاجًا في أَسْبَابِ حَيَاتِهِ وَبَقَائِهِ مَدَدًا مِنْ مُوجِدِهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُمِدَّهُ إِلَّا الذي أَوْجَدَهُ.
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾. أُسْلُوبٌ يَتَضَمَّنُ التَّهْدِيدَ وَالوَعِيدَ الشَّدِيدَ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ، وَهُوَ وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِ مُوَاجَهَتِهِمْ، وَخَاصَّةً في المَرْحَلَةِ الأُولَى مِنْ دَعْوَتِهِ.
وَقَدْ أَكَّدَ اللهُ تعالى عَلَى هَذَا المَعْنَى بِآيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾.
وَكَقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا﴾: أَيْ: جَعَلْتُ لَهُ مَالًا كَثِيرًا، يَزْدَادُ بِالمَدَدِ حِينًا فَحِينًا، وَقَدْ كَانَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ مِنْ أَغْنَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَدْ كَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الإِبِلِ وَالغَنَمِ وَالعَبِيدِ وَالجِنَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَمْوَالِ.

قَوْلُهُ تعالى:
﴿وَبَنِينَ شُهُودًا﴾ أَيْ: وَجَعَلْتُ لَهُ بَنِينَ شَاهِدِينَ حَاضِرِينَ لَيْسُوا غَائِبِينَ عَنْ مَكَانَ إِقَامَتِهِ، فَهُمْ أَعْوَانُهُ وَأَنْصَارُهُ، يَسْتَعِينُ بِهِمْ، وَيَسْتَدْعِيهِمْ لِنُصْرَتِهِ في كُلِّ وَقْتٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلى النُّصْرَةِ، وَيَعْتَزُّ بِهِمْ، وَيَفْتَخِرُ إِذْ هُمْ شُهُودُ مَجَالِسِهِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ مِنَ الوَلَدِ عَشَرَةٌ أَو أَكْثَرَ.

قَوْلُهُ تعالى:
﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا﴾ أَيْ: بَسَطْتُ لَهُ في العَيْشِ بَسْطًا حَتَّى أَقَامَ حَيْثُ أَقَامَ مُطْمَئِنًّا مُتَرَفِّهًا، وَصَارَ بِذَلِكَ سَيِّدًا يُرْجَعُ إلى رَأْيِهِ.
التَّمْهِيدُ: البَسْطُ، وَالتَّسْوِيَةُ، وَالتَّسْهِيلُ، وَالعِنَايَةُ بِهِ، كُلُّ هَذَا مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى عَبْدِهِ، فَإِنْ شَكَرَ العَبْدُ هَذِهِ النِّعَمَ كَانَتْ بِحَقٍّ نِعَمًا وَدَامَتْ، وَإِنْ كَفَرَ بِهَا وَطَغَى كَانَتْ بِحَقٍّ نِقَمًا.
قَالَ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.
وَقَالَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
هَذِهِ نِعَمٌ، وَتَبْقَى نِعَمًا مَوْصُولَةً مَا دَامَ العَبْدُ شَاكِرًا.
وَلَكِنْ بِالمُقَابِلِ، قَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾.
فَعَطَاءُ اللهِ تعالى للعَبْدِ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا اخْتِبَارٌ وَابْتِلَاءٌ، فَإِنْ شَكَرَ نَجَحَ وَأَفْلَحَ وَزَادَهُ اللهُ تعالى مِنْ فَضْلِهِ، وَإِلَّا خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا﴾.
الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ آتَاهُ اللهُ تعالى نِعْمَةَ الإِيجَادِ وَالإِمْدَادِ، فَمَا شَكَرَ، بَلْ كَفَرَ، وَظَنَّ أَنَّهُ وَرِثَ هَذَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، أَو ظَنَّ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ هَذَا، مَعَ أَنَّ اللهَ تعالى يُعْطِي هَذِهِ الدُّنْيَا لِمَنْ أَحَبَّ وَلِمَنْ لَا يُحِبُّ، لِأَنَّهَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ.

قَوْلُهُ تعالى:
﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾ يَعْنِي: كَانَ يَطْمَعُ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ بِأَنْ يَزْدَادَ مَا لَدَيْهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ وَأَنْصَارٍ، وَسَائِرِ مَحَابِّهِ مِنَ الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ مَطَالِبَهُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا مُيَسَّرَةً وَمُسَهَّلَةً، لَا عُـسْرَ عَلَيْهِ في تَحْصِيلِهَا، لِأَنَّ اللهَ تعالى مَهَّدَ لَهُ الأُمُورَ تَمْهِيدًا زَائِدًا عَنْ أَقْرَانِهِ.
وَهَذَا الطَّمَعُ مَوْجُودٌ في الإِنْسَانِ، وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.


أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَن يُشَرِّفَنَا بِخِدْمَةِ دِينِ اللهِ تعالى، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الإِخْلَاصَ وَالقَبُول، وَحُسْنَ الخِتَامِ. آمين.

يتبع

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾
 

التَّفْكِيرُ هُوَ العَمَلُ البَدَهِيُّ للعَقْلِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ مِنْ وُجُودِ عَقْلٍ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ، لِأَنَّ العَقْلَ المَشْلُولَ لَيْسَ بِعَقْلٍ، بَلْ هُوَ جِهَازٌ مُعَطَّلٌ، وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
فَإِذَا فَكَّرَ العَقْلُ في أَمْرٍ مَا فَسَيَنْتُجُ عَنْ تَفْكِيرِهِ تَقْدِيرٌ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ قَدْ يَكُونُ صَوَابًا، وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ حُكْمٌ عَلَى ذَلِكَ الأَمْرِ، قَدْ يَكُونُ صَوَابًا، وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً، تَبَعًا للتَّقْدِيرِ، هَذِهِ العَمَلِيَّةُ تُسَمَّى عَمَلَ العَقْلِ، وَهَذَا وَجَدْنَاهُ صَرِيحًا في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.


﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾:
يَقُولُ اللهُ تعالى في حَقِّ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾. هَذَا تَفْكِيرٌ وَتَقْدِيرٌ ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾. هَذَا تَوْبِيخٌ لَهُ عَلَى سُوءِ التَّفْكِيرِ، وَفَسَادِ التَّقْدِيرِ ﴿ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ﴾. وَهَذَا بَيَانُ حَالِ المُتَكَبِّرِ إِذَا جُوبِهَ بِالحَقِّ، فَإِنَّهُ يَرْفُضُهُ وَيُعْرِضُ عَنْهُ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَكَمَ هَذَا الكَافِرُ عَلَى القُرْآنِ العَظِيمِ: ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾.
فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ وَعِيدًا مِنَ اللهِ تعالى لَهُ بِالعَذَابِ: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾.

في هَذِهِ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ وَصْفٌ دَقِيقٌ لِمَا كَانَ مِنَ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَ عَظَمَةَ مَا سَمِعَ مِنْ آيَاتِ القُرْآنِ المَجِيدِ، مِنْ حَضْرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْلِ البَشَرِ، بَلْ هِيَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَلَكِنَّهُ جَحَدَهَا وَعَانَدَهَا، وَرَفَضَ أَنْ يُؤْمِنَ بِهَا مُسْتَكْبِرًا عَنِ اتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذَ يُفَكِّرُ وَيُقَدِّرُ، وَيُجْهِدُ نَفْسَهُ في اسْتِدْعَاءِ الاحْتِمَالَاتِ التي يُزَيِّفُ بِهَا الحَقِيقَةَ، لِتَقْدِيمِ المَقُولَةِ التي يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَبَّلَهَا عَوَامُّ النَّاسِ البُسَطَاءُ، ويُرَوِّجُهَا لِتَصُدَّ النَّاسَ عَنِ التَّأَثُّرِ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ، وَاتِّبَاعِ الحَبِيبِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالإِيمَانِ بِهَذَا الدِّينِ.

لَقَدْ صَوَّرَ اللهُ تعالى حَالَ هَذَا الشَّقِيِّ تَصْوِيرًا بَدِيعًا يُثِيرُ السُّخْرِيَةَ مِنْهُ، وَمِنْ تَفْكِيرِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾. أَيْ: إِنَّ هَذَا الشَّقِيَّ رَدَّدَ فِكْرَهُ وَأَدَارَهُ في ذِهْنِهِ وَقَدَّرَ وَهَيَّأَ في نَفْسِهِ كَلَامًا شَنِيعًا يَقُولُهُ في حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَفي حَقِّ القُرْآنِ الكَرِيمِ.


﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾:
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ فِيهَا تَعَجُّبٌ مِنْ تَفْكِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَذَمٌّ شَدِيدٌ لَهُ عَلَى هَذَا التَّفْكِيرِ  الطَّوِيلِ السَّيِّئِ ، وَقَدْ هَيَّأَ نَفْسَهُ طَوِيلًا للنُّطْقِ بِمَا يَقُولُهُ في حَقِّ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَفي حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ﴿فَقُتِلَ﴾ أَيْ: لُعِنَ وَعُذِّبَ، وَطُرِدَ طَرْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى، لِأَنَّهُ صَمَّمَ عَلَى تَسْخِيرِ مَا وَهَبَهُ اللهُ تعالى لَهُ مِنْ قُدْرَةِ العَقْلِ لِتَزْيِينِ الكُفْرِ بِآيَاتِ اللهِ تعالى.
لَقَدْ كَرَّرَ الحَقُّ جَلَّ جَلَالُهُ ذَمَّهُ، وَالتَّعَجُّبَ مِنْ سُوءِ تَقْدِيرِهِ، وَتَأْكِيدَ وَتَكْرِيرَ اللَّعْنِ وَالطَّرْدِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى.


﴿ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾:
هَذَا تَصْوِيرٌ آخَرُ لِحَالَةِ هَذَا الشَّقِيِّ يَرْسُمُ حَرَكَاتِ جَسَدِهِ، وَخَلَجَاتِ قَلْبِهِ، وَتَقَاطِيعَ وَجْهِهِ، رَسْمًا دقيقاً  يُثِيرُ في النُّفُوسِ السُّخْرِيَةَ مِنْ هَذَا الشَّقِيِّ ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ تَأَمُّلٍ طَوِيلٍ ثَبَّتَ نَظَرَهُ عَلَى فِكْرَةٍ رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ مُقْنِعَةً عَلَى الرُّغْمِ مِنْ ضَعْفِهَا، إِلَّا أَنَّهُ أَدْرَكَ ضَعْفَهَا، وَأَنَّهَا غَيْرُ كَافِيَةٍ للإِقْنَاعِ بِمَا يُرِيدُ اتِّهَامَ القُرْآنِ بِهِ، وَاتِّهَامَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَظَهَرَ هَذَا الذي اعْتَلَجَ في قَلْبِهِ وَنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِهِ ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾. أَيْ: قَطَّبَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَكَلَحَ وَجْهُهُ، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَارْتَعَشَتْ أَطْرَافُهُ، حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُ الحِيَلِ في أَنْ يَجِدَ في القُرْآنِ مَطْعَنًا، وَفي شَخْصِيَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.


﴿ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ﴾
لَمَّا لَمْ يَجِدْ هَذَا الشَّقِيُّ فِكْرَةً مُضَلِّلَةً أَكْثَرَ قَبُولًا مِنَ الفِكْرَةِ التي تَوَصَّلَ إِلَيْهَا أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ عَنِ الإِيمَانِ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ وَبِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عِنْدَئِذٍ أَعْلَنَ مَقُولَتَهُ البَاطِلَةَ التي تَوَصَّلَ إِلَيْهَا.

﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾:
فَقَالَ هَذَا الشَّقِيُّ المَلْعُونُ: مَا هَذَا القُرْآنُ إِلَّا سِحْرٌ مَأْثُورٌ عَنِ السَّابِقِينَ، فَهُوَ مِنْ كَلَامِ البَشَرِ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللهِ تعالى كَمَا يَقُولُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ النِّهَائِيِّ الذي تَوَصَّلَ إِلَيْهِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، وَهُوَ بِقَرَارَةِ نَفْسِهِ يَعْرِفُ أَنَّهُ كَذَّابٌ في هَذَا، اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ تعالى أَنْ يُوَجِّهَ لَهُ وَلِنُظَرَائِهِ الإِنْذَارَ بِالعَذَابِ، وَبَيَّنَ نَتِيجَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لَا يُضِلَّنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا. آمين.
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا، إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا، وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا.


 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾

 بَعْدَ القَرَارِ النِّهَائِيِّ الذي تَوَصَّلَ إِلَيْهِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ في حَقِّ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَفي حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ تَفْكِيرٍ وَتَقْدِيرٍ وَتَرَيُّثٍ وَتَمَهُّلٍ طَوِيلٍ، قَرَّرَ قَرَارًا مُتَنَاقِضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَاخِلِهِ، فَقَالَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذَّابٌ في هَذَا القَرَارِ: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾. مَعَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ قَبْلَ هَذَا القَرَارِ: وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُهُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُوَ وَلَا يُعْلَى. /كذا في البداية والنهاية.
وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ سمعتُ قَوْلًا وَاللهِ مَا سَمِعْتُ مثلَه قطُّ، وَاللهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكَهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ العَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى العَرَبِ فَمُلُكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ؛ قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ؛ قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. / سيرة ابن هشام.
بَعْدَ هَذَا القَرَارِ النِّهَائِيِّ، اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ الإِلَهِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ أَنْ يُظْهِرَ نَتِيجَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَقَالَ تعالى:

﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾.


قَوْلُهُ تعالى:
﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾:
سَأُصْلِيهِ: أَيْ: سَأُعَذِّبُهُ بِالحَرِيقِ، يُقَالُ لُغَةً: صَلِيَ النَّارَ، وَصَلِيَ بِهَا، إِذَا احْتَرَقَ فِيهَا، وَلَامَسَ لَهَبُهَا جَسَدَهُ مُحْرِقًا، وَيُقَالُ أَيْضًا: أَصْلَاهُ في النَّارِ وَأَصْلَاهُ بِهَا، أَيْ: أَدْخَلَهُ فِيهَا لِيَحْتَرِقَ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: صَلَّاهُ، وَمِنْهُ: ﴿ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾.
سَقَرَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ دَارِ العَذَابِ يَوْمَ الدِّينِ، وَسُمِّيَتْ جَهَنَّمُ بِاسْمِ سَقَرَ لِبُعْدِ قَعْرِهَا وَشِدَّةِ حَرِّهَا، فَالسَّقْرُ: البُعْدُ، وَيُقَالُ لُغَةً: سَقَرَتْهُ الشَّمْسُ إِذَا ضَرَبَتْ دِمَاغَهُ بِحَرِّهَا وَأَذَابَتْهُ.
فَمَعْنَى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾. سَأُدْخِلُهُ جَهَنَّمَ لِيَحْتَرِقَ فِيهَا، وَيَذُوقَ عَذَابَ الحَرِيقِ بِالنَّارِ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَقَرَ اسْمٌ للطَّبَقَةِ السَّادِسَةِ مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ: هِيَ الطَّبَقَةُ الخَامِسَةُ.
فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ سَبْعَةٌ: 1ـ جَهَنَّمُ 2ـ لَظَى 3ـ الحُطَمَةُ 4ـ السَّعِيرُ 5ـ سَقَرُ 6ـ الجَحِيمُ 7ـ الهَاوِيَةُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.



﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ﴾.
هَذِهِ العِبَارَةُ وَأَشْبَاهُهَا في القُرْآنِ صِيغَةٌ مِنْ صِيَغِ التَّعْجِيبِ القُرْآنِيَّةِ المُبْتَكَرَةِ ضِمْنَ قَوَاعِدِ اللِّسَانِ العَرَبِيِّ، وَالمَعْنَى: أَعْظِمْ بِأَمْرِ سَقَرَ إِعْظَامًا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ دِرَايَتُكَ مَهْمَا فَكَّرْتَ وَسَبَحْتَ في تَصَوُّرَاتِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ في خِبْرَاتِكَ وَلَا في تَصَوُّرَاتِكَ شَيْءٌ، يَجْعَلُكَ تَقِيسُ هَذَا الأَمْرَ عَلَيْهِ، وَالخِطَابُ في ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ مُوَجَّهٌ بِالإِفْرَادِ لِكُلِّ صَالِحٍ للخِطَابِ.
وَتَحْلِيلُ هَذِهِ العِبَارَةِ وَنَظَائِرُهَا عَلَى الوَجْهِ التَّالِي:
وَأَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ مَا سَقَرُ؟! أَيْ: أَنْتَ لَا تَدْرِي عَظَمَةَ سَقَرَ وَهَوْلَ أَمْرِهَا، إِلَّا إِذَا أَعْلَمْنَاكَ بِذَلِكَ؛ ﴿مَا﴾ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتِهِ، وَهُوَ هُنَا اسْتِفْهَامٌ يُرَادُ بِهِ التَّعَجُّبُ مِنْ شِدَّةِ هَوْلِ سَقَرَ وَعَظَمَتِهَا.



﴿لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾.
مَا المُرَادُ بِأَنَّ سَقَرَ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ؟
هَلِ المُرَادُ: لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ شَيْئًا دَخَلَهَا إِلَّا أَحْرَقَتْهُ وَأَفْنَتْهُ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهَا؟ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ تَعْبِيرٌ يُرَادُ بِهِ بَيَانُ شِدَّةِ حَرَارَتِهَا التي تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ وَتُفْنِي كُلَّ شَيْءٍ دَخَلَ فِيهَا، فَيَزِيدُهَا حَرًّا، وَيُسْتَثْنَى مِنَ الدَّاخِلِ فِيهَا المُعَذَّبُونَ، إِذْ يُجَدِّدُ اللهُ خَلْقَ جُلُودِهِمْ لِيَذُوقُوا العَذَابَ، وَهَذَا الاسْتِثْنَاءُ جَاءَ في بَيَانٍ غَيْرِ هَذَا البَيَانِ مِنَ القُرْآنِ، وَمِنْهُ جَاءَ في الآيَةِ التَّالِيَةِ:


﴿لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾.
أَيْ: مُسْوَدَّةٌ بِحَرِيقِهَا لِجُلُودِ المُعَذَّبِينَ فِيهَا، يُقَالُ لُغَةً: لَوَّحَتِ الشَّمْسُ فُلَانًا إِذَا غَيَّرَتْ لَوْنَ جِلْدِهِ وَسَوَّدَتْهُ، أَيْ: فَهِيَ لَا تُفْنِيهِمْ.
وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.
فَهُمْ داخِلَهَا في مَوْقِعٍ يَمَسُّهُمْ لَهَبُ النَّارِ فَيَذُوقُونَ عَذَابَ الحَرِيقِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَأْكُلُهُمْ، إِنَّمَا تُنْضِجُ جُلُودَهُمْ فَيُبَدِّلُهُمُ اللهُ جُلُودًا ذَاتَ إِحْسَاسٍ لِيَذُوقُوا العَذَابَ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِعِبَارَةِ: ﴿لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾. لَا تُبْقِي فِيهَا أَحَدًا يَحْيَا حَيَاةً سَالِمَةً مِنَ العَذَابِ بِالحَرِيقِ، وَلَا تَذَرُ فِيهَا أَحَدًا يَتَخَلَّصُ بِالمَوْتِ مِنْ هَذَا العَذَابِ، وَهَذَا المَعْنَى يُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ في قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في وَصْفِ عَذَابِ الأَشْقَى، وَهُوَ الكَافِرُ المُكَذِّبُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الأَمِينُ عَنْ رَبِّهِ: ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾.
أَيْ: لَا يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ بِالمَوْتِ مِنَ العَذَابِ، وَلَا يَحْيَا حَيَاةً فِيهَا رَاحَةٌ مِنْ عَذَابِ الحَرِيقِ بِالنَّارِ.

موقع أَحمد شريف النَّعسان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾

 

يَقُولُ اللهُ تعالى في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ إِشَارَةً إلى المُعَذَّبِينَ في نَارِ جَهَنَّمَ، حَيْثُ يُشْرِفُ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ في سَقَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ المَلَائِكَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.

وَقَدْ يَتَسَاءَلُ الإِنْسَانُ: مَا المُرَادُ بِتِسْعَةَ عَشَرَ؟ هَلْ هُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ مَلَكًا، أَمْ هُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ صِنْفًا؟ اللهُ تعالى أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَالإِنْسَانُ المُؤْمِنُ يُصَدِّقُ اللهَ تعالى فِيمَا أَخْبَرَ، وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهُ لَو كُلِفَ مَلَكٌ وَاحِدٌ لَكَانَ كَافِيًا في تَعْذِيبِ المُعَذَّبِينَ.

 

قَوْلُهُ تعالى:

﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً﴾:

قَوْلُهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ أَثَارَ هُزْءَ سُفَهَاءِ الكَافِرِينَ وَسُخْرِيَتَهُمْ، إِذْ تَصَوَّرُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ المُكَلَّفِينَ بِتَعْذِيبِهِمْ في سَقَرَ، هُمْ أَشْبَاهُ البَشَرِ.

جَاءَ في تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: لَمَّا نَزَلَ: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِقُرَيْشٍ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، أَسْمَعُ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَأَنْتُمُ الدُّهْمُ ـ أَيْ العَدَدُ ـ وَالشُّجْعَانُ، فَيَعْجِزُ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْكُمْ أَنْ يَبْطِشُوا بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ.

قَالَ السُّدِّيُّ: فَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ بْنُ كَلَدَةَ الجُمَحِيُّ: لَا يَهُولَنَّكُمُ التِّسْعَةَ عَشَرَ، أَنَا أَدْفَعُ بِمَنْكِبِي الأَيْمَنِ عَشَرَةً مِنَ المَلَائِكَةِ، وَبِمَنْكِبِي الأَيْسَرِ التِّسْعَةَ، ثُمَّ تَمُرُّونَ إلى الجَنَّةِ.

لَقَدْ دَفَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْهَامَ هَؤُلَاءِ المُسْتَهْزِئِينَ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ لَيْسُوا بَشَرًا وَلَا أشْبَاهَ بَشَرٍ، بَلْ هُمْ مَلَائِكَةٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ مِمَّا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ مِيرَاثِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مِنَ المَلَائِكَةِ مَنْ يَنْسِفُ الجِبَالَ، وَيُزَلْزِلُ الأَرْضَ، وَيَكْفِي لِتَعْذِيبِ المُعَذَّبِينَ في نَارِ جَهَنَّمَ.

وَالمُرَادُ بِأَصْحَابِ النَّارِ المَلَائِكَةُ المُشْرِفُونَ عَلَى تَعْذِيبِ المُعَذَّبِينَ فِيهَا، وَالمُلَازِمُونَ لِمَوَاقِعِهِمْ فِيهَا.

 

قَوْلُهُ تعالى:

﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾:

قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فِيهِ حِكَمٌ بَلِيغَةٌ للكَافِرِينَ وَفِتْنَةٌ لَهُمْ وَامْتِحَانٌ لِعُقُولِهِمْ، فَالكَافِرُ عِنْدَمَا يَسْمَعُ أَنَّ عَلَى سَقَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ، يَزِيدُ في غَيِّهِ وَكُفْرِهِ، إِذَا لَمْ يَسْتَخْدِمْ عَقْلَهُ بِمَا كُلِّفَ بِهِ.

فَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ المُسْتَهْزِئُ وَالسَّاخِرُ، وَمِنْهُمُ المُنْكِرُ، فَيَقُولُ: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾؟ أَيْ: لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الكَلَامُ مِنَ اللهِ تعالى، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

 

قَوْلُهُ تعالى:

﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾:

يَعْنِي: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ كَذَلِكَ، إِلَّا لِيَسْتَيْقِنَ أَهْلُ الْكِتَابَ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، بِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْ رَبِّهِ، إِذْ إِنَّ الكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ التي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَدْ ذَكَرَتْ هَذَا العَدَدَ، كَمَا ذُكِرَ في القُرْآنِ الكَرِيمِ.

 

قَوْلُهُ تعالى:

﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾:

يَعْنِي: ذَكَرَ عَدَدَ المَلَائِكَةَ القَائِمِينَ عَلَى تَعْذِيبِ المُعَذَّبِينَ في سَقَرَ بِالنِّسْبَةِ للمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا عَلَى إِيمَانِهِمْ، بِصِدْقِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، إِذْ إِنَّ الإِخْبَارَ عَنِ المُغَيَّبَاتِ عَنْ طَرِيقِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَجْعَلَ الإِيمَانَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ يَزْدَادُ رُسُوخًا وَثَبَاتًا.

 

قَوْلُهُ تعالى:

﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾:

قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تعالى: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ﴾ وَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الاسْتِيقَانِ وَازْدِيَادِ الإِيمَانِ، أَيْ: فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا لِيَكْتَسِبَ أَهْلُ الكِتَابِ اليَقِينَ مِنْ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلِيَزْدَادَ المُؤْمِنُونَ إِيمَانًا عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَلِتَزُولَ كُلُّ رِيبَةٍ أَو شُبْهَةٍ قَدْ تَطْرَأُ عَلَى قُلُوبِهِمْ.

 

﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾:

قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ أَيْ: مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ كَذَلِكَ، إِلَّا فِتْنَةً للذينَ كَفَرُوا، وَللذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (أَيْ: شَكٌّ وَضَعْفٌ) وَلِيَقُولَ الكَافِرُونَ المُصِرُّونَ عَلَى التَّكْذِيبِ: مَا الأَمْرُ الذي أَرَادَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَا المَثَلِ؟ وَسَمَّوُا العَدَدَ تِسْعَةَ عَشَرَ مَثَلًا لِغَرَابَتِهِ عِنْدَهُمْ.

 

اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. آمين.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
(إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر: 35- 37].
( إنها لإحدى الكبر ) يعني أن سقر لإحدى الأمور العظام ، وواحد الكبر : كبرى ، قال مقاتل والكلبي : أراد بالكبر : دركات جهنم ، وهي سبعة : جهنم ، ولظى ، والحطمة ، والسعير ، وسقر ، والجحيم ، والهاوية . ( نذيرا للبشر ) يعني النار نذيرا للبشر(تفسير البغوي)

 
إنَّ التَّخوِيفَ من النَّارِ نَالَ المَلائِكَةَ المُقَرَّبِينَ, والأَنبِيَاءَ والمُرسَلِينَ -عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ-, قَالَ تعالى في شَأنِ المَلائِكَةِ: (وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 29].
وقَالَ تعالى في حَقِّ الأَنبِيَاءِ: (وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا) [الإسراء: 39].
 
يَا عِبَادَ اللهِ: هُنَاكَ شَرَائِحُ من النَّاسِ وَعَدَهُمُ اللهُ -تعالى- بِنَارِ جَهَنَّمَ -والعِيَاذُ باللهِ تعالى-، فالسَّعِيدُ من تَعَرَّفَ على صِفَاتِهِم ثمَّ اجتَنَبَهَا, والشَّقِيُّ من انطَبَقَتْ عَلَيهِ صِفَاتُ هؤلاءِ النَّاسِ, من الأَصنَافِ الذينَ وُعِدُوا بالنَّارِ:
 

أولاً: قَتَلَةُ الأَبرِيَاءِ بَغَيرِ حَقٍّ:
 
يَا عِبَادَ اللهِ: من النَّاسِ الذينَ وُعِدُوا بالنَّارِ قَتَلَةُ الأَبرِيَاءِ, ومن أَعَانَ على قَتْلِهِم, ولو بِشَطْرِ كَلِمَةٍ, قَالَ تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93].
 
ويَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ" [رواه ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-]. ومن كَانَ آيِسَاً من رَحمَةِ اللهِ -تعالى- فإنَّ مَصِيرَهُ إلى نَارِ جَهَنَّمَ -والعِيَاذُ باللهِ تعالى-.
 

ثانياً: أَكَلَةُ أَموَالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ:
 
يَا عِبَادَ اللهِ: من النَّاسِ الذينَ وُعِدُوا بالنَّارِ أَكَلَةُ أَموَالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ, قَالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء: 10].
 
وقَالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 174].
 
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-, أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ, فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ, وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ". فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَإِنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ".
 
وروى الإمام أحمد والترمذي عن كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ".
 
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ شِبْراً مِن الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا طَوَّقَهُ اللهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
 
وفي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ لَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-, أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَن اقْتَطَعَ شِبْراً مِن الْأَرْضِ ظُلْماً طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ".


ثالثاً: الزِّنَا

فالزُّنَاةُ مَوعُودُونَ بِنَارِ جَهَنَّمَ, قَالَ تعالى: (وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [الفرقان: 68 – 69].
الزُّنَاةُ الذينَ استَحَلُّوا هذهِ الجَرِيمَةَ هُم على مَوعِدٍ بِنَارِ جَهَنَّمَ, حَيثُ يُضَاعَفُ عَلَيهِمُ العَذَابُ, مَعَ أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- بَيَّنَ لَنَا في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ بأَنَّ أَخَفَّ النَّاسِ عَذَابَاً رَجَلٌ يُوضَعُ في أَخمَصِ قَدَمَيهِ جَمرَتَانِ من نَارٍ يَغلِي مِنهُمَا دِمَاغُ رَأسِهِ.
 
روى الإمام البخاري عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ".
 
وروى الإمام مسلم عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَاباً مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ, يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ, كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ, مَا يَرَى أَنَّ أَحَداً أَشَدُّ مِنْهُ عَذَاباً, وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَاباً".
 
إذا كَانَ هذا حَالَ أَخَفِّ النَّاسِ عَذَابَاً يَومَ القِيَامَةِ, فَكَيفَ حَالُ العَبدِ الذي يُضَاعَفُ عَلَيهُ العَذَابُ؟
 
يَا عِبَادَ اللهِ: اِستَحْضِرُوا الآخِرَةَ بِقُلُوبِكُم, وتَصَوَّرُوا قَولَ اللهِ -تعالى-: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) [الفجر: 23].
 
واستَحْضِرُوا مُنصَرَفَ العِبَادِ يَومَ القِيَامَةِ, فَرِيقٌ في الجَنَّةِ, وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ, واستَحْضِرُوا تَقَلُّبَ الظَّالِمِينَ بَينَ أَطبَاقِ النِّيرَانِ, قَالَ تعالى: (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر: 16].
 
وقَالَ تعالى: (مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) [الإسراء: 97].
 
وقَالَ تعالى: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 30 – 32].
 
وقَالَ تعالى: (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ) [الواقعة: 42 – 44].
 
هل استَحْضَرَ القَتَلَةُ هذهِ المَشَاهِدَ؟ وهل استَحْضَرَ أَكَلَةُ أَموَالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ هذهِ المَشَاهِدَ؟
 
اللَّهُمَّ ارحَمْنَا بِتَرْكِ المَعَاصِي مَا أَحْيَيْتَنَا، آمين.
 
أقُولُ هَذا القَولَ, وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم, فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ ال
رَّحِيمُ.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

يُعْطِينَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ صُورَةً عَنْ شَرِيحَةٍ مِنَ النَّاسِ كَانُوا في الحَيَاةِ الدُّنْيَا غَافِلِينَ عَنْ يَوْمِ القِيَامَةِ، كَيْفَ كَانُوا في حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَمَا هُوَ مَآلُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى لَا نَسِيرَ سَيْرَهُمْ، وَلَا تَكُونَ نَتِيجَتُنَا في الآخِرَةِ كَنَتِيجَتِهِمْ، قَالَ تعالى: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ المُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفَاً مُنَشَّرَةً * كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ﴾المدثر.


(قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)

يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الـشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ» رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: « «مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الـعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وروى ابن ماجه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ: «لَا تُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئَاً، وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ، وَلَا تَتْرُكْ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدَاً، فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدَاً، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَلَا تَشْرَبِ الخَمْرَ، فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ».

روى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ ـ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ فَقَالَ: «مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْقَبْرِ؟».
فَقَالُوا: فُلَانٌ.
فَقَالَ: «رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ».
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ المُبَارَكِ: «رَكْعَتَانِ خَفِيفَتَانِ مِمَّا تَحْقِرُونَ وَتَنْفِلُونَ يَزِيدُهُمَا هَذَا فِي عَمَلِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ».

المُتَهَاوِنُ في الصَّلَاةِ عَلَى وَعِيدٍ بِالعِقَابِ الشَّدِيدِ إِذَا لَمْ يَتُبْ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ التَّهَاوُنِ فِيهَا، يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيَّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً﴾.


 

(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ)

هل ترضى أن تكون من المجرمين الذين يخوضون مع الخائضين في معصية الله تعالى، وخاصة الخوض في أعراض المسلمين؟

 


الخَوْضُ في أَعْرَاضِ النَّاسِ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، وَحُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ، يَذْهَبُ بِالفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَيَذْهَبُ بِالحَسَنَاتِ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَتَدْرُونَ مَا المُفْلِسُ؟».
قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ.
فَقَالَ: «إِنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.


روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا.
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ فِي النَّارِ».
وروى البيهقي والبزار عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيوبِ النَّاسِ».



فَمَنْ أَرَادَ الهُدَى وَالسَّعَادَةَ وَالتَّوْفِيقَ وَانْشِرَاحَ الصَّدْرِ، فَعَلَيْهِ بِاتِّبَاعِ الهُدَى الذي جَاءَ مِنَ اللهِ تعالى عَنْ طَرِيقِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وَمَنْ أَرَادَ الشَّقَاءَ وَالخِذْلَانَ وَضِيقَ الصَّدْرِ وَحَيَاةَ الشَّقَاءِ فَلْيُعْرِضْ عَنِ الهُدَى ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿كُلَّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورَاً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلَاً * لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهَاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومَاً مَخْذُولَاً﴾.
وَيُؤَكِّدُ هَذَا مَا جَاءَ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعَاً، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعَاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعَاً، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئَاً لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً».

اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُورَنَا للإِسْلَامِ، وَحَبِّبْ إلى قُلُوبِنَا الإِيمَانَ، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الرِّاشِدِينَ. آمين.


موقع احمد شريف النعسان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)المدثر

ليسمع كل مظلوم, إن كان فرداً, أو كان أمة, بأن ظالمه محروم من شفاعة الحبيب -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- إذا مات وهو مصرٌّ على ظلمه, روى الطبراني عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لا تَنَالُهُمَا شَفَاعَتِي: سُلْطَانٌ ظَلُومٌ غَشُومٌ، وغَالٍ فِي الدِّينِ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ فَيَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ".
 
ولو صام هذا الظالم وصلى, ألا يكفي العبدَ المظلوم والأمةَ المظلومة أن خصمه من الظالمين قد حُرم شفاعة سيد المرسلين -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, ومن حُرم هذه الشفاعة -والعياذ بالله تعالى-, فمن سيكون شفيعه يوم القيامة؟

(فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر: 48].

...............

 
يقول الله تبارك وتعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين}
ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ، فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِن النَّارِ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ». فهل يوجد تعارض بين الآية الكريمة والحديث الشريف؟
 
قد أجابَ العُلَماءُ عن ذلكَ بأقوالٍ، منها:
أولاً: هذهِ الشَّفَاعَةُ لِعَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ التي أشارَ إلَيها في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواهُ الشَّيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ فَقَالَ: «لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِن النَّارِ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ». هيَ شَفَاعَةٌ مَجازاً، والآيَةُ الكَريمَةُ: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين﴾. مَحمولَةٌ على شَفَاعَةِ الإخراجِ.
ثانياً: المَشفوعُ لهُ ـ أبو طالِبٍ ـ لم يَجِدْ أثَراً لما خُفِّفَ عنهُ، فَكَأَنَّهُ لم يَنتَفِعْ بذلكَ، لأنَّهُ يَعتَقِدُ أنَّهُ لَيسَ في النَّارِ أشَدُّ عَذاباً منهُ، مَعَ أنَّ عَذابَهُ جَمرَةٌ من جَهَنَّمَ في أخمَصِهِ، وسَبَبُهُ أنَّ القَليلَ من عَذابِ جَهَنَّمَ أعاذَنا اللهُ تعالى منهُ لا تُطيقُهُ الجِبالُ، وخُصوصاً عَذابُ الكَافِرِ. كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَاباً أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ».

وبناء على ذلك:
فالآيَةُ الكَريمَةُ إمَّا أنَّها مَحمولَةٌ على شَفَاعَةِ الإخراجِ، وعِندَ ذلكَ لا تَعَارُضَ بَينَها وبَينَ الحَديثِ الشَّريفِ في حَقِّ عَمِّهِ أبي طالِبٍ.
وإمَّا أنَّ عَمَّهُ أبا طَالِبٍ لم يَجِدْ أثَراً لهذهِ الشَّفَاعَةِ، لأنَّهُ يَظُنُّ أنَّهُ أشَدُّ النَّاسِ عَذاباً يَومَ القِيامَةِ في نارِ جَهَنَّمَ، أجارَنا اللهُ تعالى من عَذابِ جَهَنَّمَ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.

 الشيخ أحمد شريف النعسان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 تفسير سورة التين

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول ربنا عز وجل:

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون * وَطُورِ سِينِين * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِين}.
فيقسم ربنا عز وجل بأربعة أماكن كان يهبط الوحي فيها، اختارها الله تعالى من عموم أرضه
قال تعالى:
{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء}.من أزمنة وأمكنة وأشخاص.

أقسم ربنا عز وجل بالتين، أي منابت شجر التين، وهي في بلاد الشام، وأقسم بالزيتون، أي منابت شجر الزيتون وهي بلاد فلسطين، وفي ذلك إشارة إلى ما في هاتين الشجرتين من ثمرة مباركة.
وقد كانت بلاد الشام وما حولها من فلسطين مهابط وحي الله عز وجل لطائفة جليلة من أنبياء الله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام.
وأقسم ربنا عز وجل بطور سينين، وهو الجبل الذي كلَّم الله تعالى سيدنا موسى عليه السلام عنده من وراء حجاب، ومعنى سينين: المبارك في لغة الحبشة.
وأقسم ربنا عز وجل بالبلد الأمين، وهو مكة البلد الحرام الذي هو أول مهبطٍ وأعظمه من مهابط وحي الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وفيه أول بيت وضع للناس لعبادة الله في الأرض.

ويلاحظ التدرج في الأقسام بحسب أفضليات مهابط الوحي المقسم بها، فأفضلها عند الله عز وجل مكة البلد الأمين، ثم طور سينين، ثم بلاد التين والزيتون.
وذكر مهابط الوحي إشارة إلى الوحي ومضمونه من رسالات ربانية للناس يبلِّغها الأنبياءُ والمرسلون عليهم الصلاة والسلام.

أما قوله تبارك وتعالى:

{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم}.
فهو جواب القسم، يعني تأكيد على أن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهذا الإنسان يحتاج إلى رسالات لتنير له دربه في هذه الحياة.

ثم يقول الله تبارك وتعالى:

{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين}.
أي هذا الإنسان الذي خلقه الله عز وجل في أحسن تقويم، وكرَّمه ربنا عز وجل بإرسال الرسل وإنزال الوحي عليهم من أجل إسعاده في الدنيا والآخرة، كان من أفراده من أنزل نفسه بإرادته الحرة، واتباعه لأهوائه وشهواته، ووساوس الشياطين وتسويلاتهم، فاختار الجحود والكفر والطغيان، والظلم والبغي والعدوان، حتى بلغ بها أحطَّ الدركات، فعاقبه الله تعالى فجعله أسفل السافلين، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون}. وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين}.

هذا العبد خلقه الله تبارك وتعالى في أحسن تقويم، ولكن بسبب عدم انصياعه واتباعه لأوامر الله عز وجل ردَّه الله تعالى إلى أسفل السافلين والعياذ بالله تعالى، فجعله الله تعالى في أحطِّ الدركات وأخسِّها فصار في دون الكلب والحمار.

ثم يقول الله تبارك وتعالى:

{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون}.
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات الظاهرة والباطنة، والتزموا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ففعلوا المأمورات وتركوا المحظورات الظاهرة والباطنة، هؤلاء لهم أجر غير مقطوع، هؤلاء كرَّمهم الله تعالى في الدنيا وفي سائر العوالم، وجعلهم الله تعالى في نعيم دائم، جعلنا الله منهم.

ثم يقول الله تعالى:

{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين}.
أي: أيُّ شيء يحملك ويجعلك تُكذِّب بالدين، أي بيوم الجزاء يومِ القيامة؟
ويجعلك تُكذِّب الرسول والكتاب الذي أنزله الله عليه؟ ويجعلك تُكذِّب بالجزاء على الأعمال يوم القيامة؟

وختمت السورة بقوله تعالى:

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِين}؟
فالله عز وجل أحكم الحاكمين، وهو أفضل من يحكم بالعدل، أخرج أحمد وأبو داود عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من قَرَأ منكم: {والتِّين والزيتون} فانتهى إلى قوله: {ألَيسَ اللهُ بأحْكَمِ الحاكمين}؟ فلْيقُلْ: وإنا على ذلك من الشاهدين ، ومَنْ قَرأَ: {لا أُقسِمُ بيوم القيامة} فانتهى إلى قوله: {أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحْيِيَ الموتَى}؟ فليَقُلْ: بَلى وعِزَّةِ رَبِّنا، ومن قرأ: {والمرسلات} فبلغ: {فبأَيِّ حديثٍ بعدَهُ يُؤمِنُونَ}؟ فليقل: آمنا بالله).
هذا، والله تعالى أعلم.
 
موقع الشيخ أحمد شريف النعسان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×