اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير سورة مريم بأسلوب بسيط جدًّا

المشاركات التي تم ترشيحها

سلسلة كيف نفهم القرآن؟(1)

 
 
 

تفسير الربع الأول من سورة مريم

 
 

من الآية 1 إلى الآية 7: ﴿ كهيعص ﴾: سَبَقَ الكلام عن الحروف المُقطَّعة في أول سورة البقرة، (واعلم أنّ هذه الحروف تُقرأ هكذا: كاف ها يا عَيْن صاد).

 

 

 

هذا الذي نتلوه عليك أيها الرسول هو ﴿ ذِكْرُ أي خبر ﴿ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ، فقد رَحِمَ اللهُ نبيَّه زكريا عليه السلام ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴾: أي حين دعا ربه سِرًّا (ليكون أكمل، وأتَمّ إخلاصًا للهِ تعالى، وأرجَى للإجابة)، فـ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي يعني إني كَبرتُ، وضَعُفَ عظمي ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾: أي انتشر الشيب في رأسي ﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾: يعني ولم أكن مِن قَبُل محرومًا من إجابتك لدعائي، فلا تحرمني اليوم مما أدعوك به.

 

 

 

﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ ﴾: يعني وإني خِفتُ من أقاربي أن يُضيِّعوا الدين ﴿ مِنْ وَرَائِي أي مِن بعد موتي (فلا يدعوا الناس إلى توحيدك وعبادتك)، ﴿ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا أي عقيماً لا تلد، ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴾: أي فارزقني مِن عندك ولدًا مُعِينًا يتولى أمْر هذه الدعوة مِن بعدي، و ﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ ﴾: أي يَرث نُبُوَّتي ونُبُوة آل جَدِّي يعقوب، (لأنّ الأنبياء لا يُوَرِّثون إلا النُبُوّة والعلم والحكمة، وما يتركونه من متاع الدنيا فهو صدقة)، ﴿ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾: أي واجعل هذا الولد عبداً صالحاً، ترضاه لِحَمل رسالتك والدعوة إليك.

 

 

 

فاستجاب اللهُ دعائه، وقال له - بواسطة الملائكة -: ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى ﴿ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي: لم نُسَمِّ أحدًا قبله بهذا الاسم.

 

 

 

الآية 8: ﴿ قَالَ زكريا فَرِحاً مُتعجبًا: ﴿ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ﴾: يعني كيف يكون لي غلام، وامرأتي عقيم لا تلد ﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا يعني وقد بلغتُ النهاية في الكِبَر وضَعف العظم؟!

 

 

 

الآية 9: ﴿ قَالَ المَلَك مُجيبًا زكريا عمَّا تعجَّبَ منه: ﴿ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ ﴾: يعني هكذا الأمر كما تصف - مِن كَوْن امرأتك لا تلد، وبلوغك سن الشيخوخة - ولكنَّ ربك قال: ﴿ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ يعني: خَلْقُ يحيى - على هذه الحالة - هو أمْرٌ يسيرٌ عليَّ ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ ﴾: أي وقد خلقتك أنت مِن قبل يحيى ﴿ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (فكما قدَرَ سبحانه على خَلْقك ولم تكن شيئاً، فهو قادر أيضاً على أن يرزقك الولد رغم ضَعفك وعُقم امرأتك).

 

 

 

الآية 10: ﴿ قَالَ زكريا: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً ﴾: أي اجعل لي علامةً، تدلني على وقت حَمْل امرأتي بالولد، ليَحصل لي السرور والاستبشار، ﴿ قَالَ آَيَتُكَ التي طلبتَها هي ﴿ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا يعني إنك لن تستطيع التحدث إلى الناس ثلاثة أيامٍ ولياليهنّ - إلا بالإشارةِ إليهم - مع أنك سَوِيٌّ مُعافَى، ليس بك خَرَس ولا مرض يَمنعك من الكلام.

 

 

 

من الآية 11 إلى الآية 15: ﴿ فَخَرَجَ زكريا ﴿ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ (وهو المكان الذي يصلي فيه، وهو أيضاً المكان الذي بُشِّرَ فيه بالولد)، ﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾: أي فأشار إلى قومه - أو كتب لهم -: أنْ سَبِّحوا اللهَ صباحًا ومساءً، (والظاهر أنه كان يأمرهم بالتسبيح - كل يومٍ - صباحًا ومساءً، أو أنه أمَرَهم بالتسبيح شكراً للهِ تعالى، لأنّ البشارة بيحيى - وبنُبُوَّته - هي مَصلحة دينية في حق الجميع)، وعندما لم يَقدر زكريا على الكلام: عَلِمَ بحَمل امرأته.

 

 

 

فلمّا وُلِدَ يحيى وأصبح يَفهم الخطاب المُوَجَّه إليه، قال اللهُ له - بواسطة الوحي -: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ أي خذ التوراة بجد واجتهاد (وذلك بحفظ ألفاظها، وفَهم معانيها، والعمل بها)، ﴿ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾: يعني وأعطيناه الحِكمة وفَهم التوراة (وهو صبي لم يبلغ سن الاحتلام)، ﴿ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا يعني وأعطيناه رحمةً مِنّا في قلبه، جعلته يَعطف على غيره، ﴿ وَزَكَاةً أي: وجعلناه ولداً طاهراً - لا يَتلوث بذنبٍ قَطّ طُوالَ حياته - بل يَستعمل بَدَنه فيما يُرضي ربه، ﴿ وَكَانَ تَقِيًّا أي: وكان يحيى خائفًا من اللهِ تعالى (فلم يَعصِهِ بتَرْك فريضة، ولا بفِعل حرام)، ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ أي: وكان بارًّا بوالديه مُطيعًا لهما ﴿ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾: أي لم يكن متكبرًا عن طاعتهما، ولا عاصيًا لأمْرهما، بل كانَ عليه السلام متواضعاً يَقبل الحق، وطائعاً لأمْر ربه وأمْر والديه.

 

 

 

﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ أي أمانٌ مِن اللهِ تعالى ليحيى ﴿ يَوْمَ وُلِدَ - مِن أن يُصِيبه الشيطان بسُوء - ﴿ وَيَوْمَ يَمُوتُ أمانٌ له مِن فتنة القبر، ﴿ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا أمانٌ له من الفزع الأكبر يوم القيامة (فيكون من الآمنين السعداء، في الجنةِ دار السلام).

 

 

 

الآية 16، والآية 17: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ يعني: واذكر - أيها الرسول - في هذا القرآن قصة مريم ﴿ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا أي حين اعتزلتْ أهلها، فاتَّخذتْ ﴿ مَكَانًا خاصاً، تَخلو فيه بنفسها لعبادة ربها، ﴿ شَرْقِيًّا أي شرق الدار التي بها أهلها (أو شرق بيت المَقدس)، ﴿ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ﴾: أي فجعلتْ لها ساترًا يَسترها عن أهلها وعن الناس، ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ﴾: أي فأرسلنا إليها الملَك جبريل (الذي قال اللهُ تعالى عنه: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)) ﴿ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾: أي فتمثَّل لها جبريل في صورة إنسان تامّ الخَلْق (حتى لا تَفزع منه إذا ظَهَرَ لها بصورةٍ أخرى).

 

 

 

الآية 18: ﴿ قَالَتْ له مريم: ﴿ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ ﴾: يعني إني أحتمي بالرحمن - الذي يَرحم الضَعيفات مِثلي - مِن أن تصيبني بسوء ﴿ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ﴾: يعني إن كنتَ مؤمناً تتقي اللهَ تعالى.

 

 

 

الآية 19: ﴿ قَالَ لها جبريل عليه السلام: ﴿ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ وقد بَعَثني إليك ﴿ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا أي ولداً طاهراً، لا يَتلوث بذنبٍ قَطّ طُوالَ حياته.

 

 

 

الآية 20: ﴿ قَالَتْ له مريم: ﴿ أَنَّى يعني كيفَ ﴿ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ بنكاحٍ حلال، ﴿ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا يعني ولم أكُن زانية؟!

 

 

 

الآية 21، والآية 22، والآية 23: ﴿ قَالَ لها جبريل عليه السلام: ﴿ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ﴾: أي هكذا الأمر كما تَصِفين - مِن أنه لم يَمْسَسكِ بشر، ولم تكوني زانية - ولكنّ ربك قال: ﴿ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ يعني: خَلْقُ هذا الغلام مِن غير أب هو أمْرٌ يسيرٌ عليَّ، ﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ يَستَدِلُّوا بها على قدرة اللهِ تعالى، ﴿ وَرَحْمَةً مِنَّا بمن آمَنَ به واتَّبَعَ ما جاءَ به من التوحيد والاستقامة، ﴿ وَكَانَ وجود عيسى على هذه الحالة ﴿ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾: أي قضاءً مُقدَّرًا، لابد مِن نفوذه.

 

 

 

فنَفخ جبريل في جَيْب ثيابها- وهو المكان الذي عند الرقبة - فوصلتْ النفخة إلى رَحِمِها ﴿ فَحَمَلَتْهُ ﴾: أي فحملتْ مريم بالغلام ﴿ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ﴾: أي فتباعدتْ به إلى مكان بعيد عن الناس (خوفاً من اتِّهامها بالزنا)، ﴿ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ ﴾: أي فألجأها طَلْقُ الحمل، واضطَّرها ألم الولادة ﴿ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتعتمد عليه أثناء الولادة، فلمَّا وضعته: ﴿ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا أي قبل هذا اليوم ﴿ وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا أي شيئًا لا يُعْرَف ولا يُذْكَر، (وذلك لأنها خافت أن يَظُنّ الناسُ بها شرّاً).

 

 

 

الآية 24، والآية 25، والآية 26: ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا - وفي أحد القِراءات: (فناداها مَن تَحتَها) أي الذي تحتها (وهو عيسى عليه السلام)، حيثُ أنطقه اللهُ تعالى بعدما وضعته، ليُخَفِّف عنها حُزنها بسبب ولادتها وهي بِكْر، فناداها عليه السلام ﴿ أَلَّا تَحْزَنِي ، وكذلك بَشَّرها وأرشدها قائلاً: ﴿ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا أي جَعَلَ اللهُ تحتك نهراً صغيراً من الماء، ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾: أي حَرِّكي جذع النخلة نَحْوَكِ: يَتَساقَطْ عليك رُطَبٌ - أي "بلح" - قد طابَ وأصبح صالحاً للحصاد، ﴿ فَكُلِي من الرُطَب، ﴿ وَاشْرَبِي من الماء، ﴿ وَقَرِّي عَيْنًا ﴾: أي اطمئني وافرحي بولدك، ﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا ﴾: يعني فإن رأيتِ أحدًا من الناس فسألك عن ولدك: ﴿ فَقُولِي له - بالإشارة -: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ﴾: يعني إني أَوْجَبْتُ على نفسي إمساكاً عن الكلام وصمتاً للهِ تعالى ﴿ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (وقد كان السكوت عبادةً في شَرْعهم، ولكنّ الإسلام نَسَخَ ذلك، فلم يَجعل الصمت عبادةً في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم).

 

 

 

الآية 27، والآية 28، والآية 29: ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ﴾: يعني فجاءت مريم - من المكان البعيد - إلى قومها، وهي تَحمل ولدها في يدها، فلمَّا رأوها كذلك ﴿ قَالُوا لها: ﴿ يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴾: أي لقد جئتِ أمرًا عظيمًا (يقصدون بذلك: الزنا والعياذ بالله)، وقالوا لها: ﴿ يَا أُخْتَ الرجل الصالح ﴿ هَارُونَ ﴿ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ﴾: يعني لم يكن أبوكِ رجلاً يأتي الفواحش، ﴿ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾: يعني وما كانت أمك زانية، بل كانت عفيفة طاهرة، فكيف حَصَلَ لك هذا؟، ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ﴾: أي فأشارت مريم إلى ولدها الرضيع ليسألوه ويُكَلِّموه، (لأنها علمتْ أنه يَتكلم عندما ناداها مِن تحتها)، فـ ﴿ قَالُوا - مُنكِرينَ عليها -: ﴿ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴾: يعني كيف نُكَلِّم مَن لا يزال طفلاً رضيعًا في مَهده؟

 

 

 

من الآية 30 إلى الآية 33: ﴿ قَالَ عيسى عليه السلام: ﴿ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ (فألقى اللهُ سبحانه على لسان عيسى إقراره بعبوديته للهِ تعالى - رغم أنّه كان من المتوقع أنْ يُبرئ أُمَّه من الزنا أولاً - وذلك لأنّ اللهَ تعالى عَلِمَ أنّ قوماً سيَزعمونَ أنه ابن الله، وحتى لا يُفتَن أحدٌ بنُطقه وهو رضيع، فيَزعم أنه إله أو ابن إله)، تعالى اللهُ عن قول النصارى الذين يُخالفونَ عيسى عليه السلام في قوله: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ)، ثم يَدَّعونَ اتِّباعه.

 

 

 

وقال عليه السلام: ﴿ آَتَانِيَ الْكِتَابَ ﴾: أي قَضَى ربي بإعطائي الكتاب - وهو الإنجيل - ﴿ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ، (وكذلك أخبرهم عليه السلام بما كتبه اللهُ له مُستقبَلاً)، فقال: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ أي جعلني عظيمَ الخير والنفع حيثما كنت، ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ﴾: أي وجعلني بارًّا بوالدتي، مُطِيعاً لها، لا يَنالها مِنّي أذى، ﴿ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾: أي لم يَجعلني متكبرًا عن طاعة والدتي، ولا عاصيًا لأمْر ربي، (واعلم أن الجبّار هو المتكبر على الناس، الغليظ في معاملتهم، واعلم أيضاً أنّ الشَقي هو الضال الخائب في مَسعاه)، ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يعني: والأمان عليَّ مِن اللهِ تعالى ﴿ يَوْمَ وُلِدْتُ - من أن يُصيبني الشيطان بسُوء -، ﴿ وَيَوْمَ أَمُوتُ أمانٌ لي من فتنة القبر، ﴿ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا أمانٌ لي من الفزع الأكبر يوم القيامة (فأكون من الآمنين السعداء، في الجنةِ دار السلام).

 

 

 

وللرد على مَن أنكر نُطق عيسى عليه السلام في المهد: نقول لهم بأنّ شريعة اليهود كانت تقتضي رَجْم الزانية، فلمَّا اتَّهموا مريم عليها السلام بالزنا، ثم لم يَرجموها، تبَيَّنَ أنّ هناك شيئاً عجيباً قد حدث، مَنَعهم مِن فِعل ذلك وأثبَتَ برائتها (وهو نُطق عيسى عليه السلام في المَهد).

 

 

 

الآية 34: ﴿ ذَلِكَ الذي قَصَصنا عليك خبرَه - أيها الرسول - هو ﴿ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وقد قالَ ﴿ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي قالَ عن نفسه قول الحق الذي شك فيه اليهود والنصارى (حيثُ اعترف بأنه عبد الله ورسوله).

 

 

 

الآية 35، والآية 36: ﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ ﴾: أي لا يَليق باللهِ تعالى أن يتخذ ولدًا مِن عباده وخَلْقه (وذلك لِغِناهُ تعالى عنهم)، ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾: أي تنزَّه وتقدَّس عن ذلك، فإنه ﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾: يعني إذا قدَّرَ أمرًا، وأرادَ إيجاد شيء: ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ ﴿ فَيَكُونُ أي فيكونُ كما شاءه وأراده، (فكذلك كانَ وجود عيسى عليه السلام بكلمة: (كُن)، مِن غير أب).

 

 

 

وقال عيسى لقومه: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ - الذي أدعوكم إليه - هو ﴿ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ (فأنا وأنتم سواءٌ في العُبودية والخضوع للهِ تبارك وتعالى)، ﴿ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ يعني: هذا - أي عبادة اللهِ وحده - هو الطريق الصحيح المُوصل إلى السعادة الأبدية في جنات النعيم.

 

 

 

الآية 37، والآية 38، والآية 39: ﴿ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ﴾: أي فاختلفتْ الفِرَق - مِن أهل الكتاب - في أمْر عيسى عليه السلام، فمنهم مَن جاوَزَهُ قدْرَهُ (كالنصارى)، حيث قال بعضهم: هو الله، وقال بعضهم: هو ابن الله، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة - تعالى اللهُ عمَّا يقولونَ عُلُواً كبيراً -، ومنهم مَن كَفَرَ برسالته (كاليهود) حيث قالوا: ساحر، وقالوا: ابن يوسف النجار، واتَّهموا أمّه كذباً بالزنا، ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾: أي فهلاكٌ للذين كفروا - بنسبَتِهم الولد والشريك للهِ تعالى - مِن شهود يومٍ عظيم الهَول (وهو يوم القيامة)، ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا أي: ما أشدَّ سمعَهم وبَصَرَهم يوم القيامة، يوم يأتونَ إلى اللهِ تعالى ويُعاينونَ عذابه (وذلك حين لا يَنفعهم السمع والبصر)، إذ كانوا في الدنيا لا يريدونَ أن يُبصِروا الحق، ولا يريدونَ أن يَسمعوا حُجَجَه وبراهينه، ولذلك قال تعالى: ﴿ لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أي في هذه الدنيا: ﴿ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أي في ضلالٍ واضح.

 

 

 

﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ﴾: أي خوِّفهم بما يقع يوم القيامة من الحسرة والندامة لأهل الشِرك والضَلال ﴿ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي عندما يُشاهدون أهل الجنة قد ورثوا منازلهم فيها، وهم قد ورثوا منازل أهل الجنة في النار، فحينئذٍ تَعظُم الحسرة ويَشتد الندم، ﴿ وَهُمْ - في هذه الدنيا - ﴿ فِي غَفْلَةٍ عمَّا أُنذِروا به، ﴿ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ باليوم الآخر، ولا يعملون العمل الصالح الذي يُنجيهم من عذاب جهنم.

 

 

 

الآية 40: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا - وذلك بعد فناء الخلق، وبقاء الخالق سبحانه - ﴿ وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ يومَ القيامة، فنُجازيهم على أعمالهم، (إذاً فلا تَحزن أيها الرسول على ما تَلقاهُ من أذى قومك، وامْضِ في دعوتك إلى توحيد ربك، ولا يَضرك تكذيب المُكَذِّبين، ولا شِرك المشركين)، (واعلم أنّ كلمة (نحن) - المذكورة في الآية - للتأكيد).

 
 

 
 
 

تفسير الربع الثاني من سورة مريم

 
 
 
 

من الآية 41 إلى الآية 45: ﴿  وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ يعني: واذكر أيها الرسول لقومك - في هذا القرآن - خبر إبراهيم عليه السلام ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا أي كثير الصدق، وكانَ ﴿نَبِيًّا مِن أرفع الأنبياء مَنزلةً عند اللهِ تعالى، (لِذا فهو جدير بالذِكر في القرآن الكريم، ليكون قدوة صالحة للمؤمنين) ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ آزر: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ أي لا يَسمعك ولا يراك ﴿وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يعني: ولا يَدفع عنك ضراً، ولا يَجلب لك نفعاً، فما الفائدة من عبادته؟!، ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ: يعني إنّ اللهَ قد أعطاني من العلم ما لم يُعطِك، (كمعرفة صفاته سبحانه وتعالى، وما أعدَّهُ من النعيم لمن وَحَّده وأطاعه، وما أعدَّهُ من العذاب لمن عَبَدَ غيره وعَصاه)، ﴿فَاتَّبِعْنِي فيما أدعوك إليه: ﴿أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا: يعني أُرشِدك إلى الطريق المستقيم، الذي يُوصلك إلى السعادة والنجاة، ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ: أي لا تُطِع الشيطان فيما يَأمرك به من عبادة الأصنام، فـ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا أي مُخالِفًا لأوامر اللهِ تعالى، مستكبرًا عن طاعته، ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ أي يُصيبك ﴿عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ إذا مِتَّ على كُفرك ﴿فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا أي فتكون قريبًا من الشيطان في النار.

 

 

 

الآية 46: ﴿قَالَ أبو إبراهيم: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ: يعني هل أنت مُعرِض عن عبادة آلهتي يا إبراهيم؟ ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن سَبِّها وإظهار عيوبها: ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ بالحجارة، ﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أي اذهب عني، ولا تكلمني زمنًا طويلاً لكي تنجو مِن عقوبتي.

 

 

 

من الآية 47 إلى الآية 50: ﴿قَالَ إبراهيم لأبيه: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ أي أمانٌ لك مِن أن يَنالك مني ما تَكره، و ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي: أي سوف أدعو اللهَ لك بالهداية والمغفرة ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا أي كانَ مُكرِماً لي، رؤوفًاً بحالي، يُجيبني إذا دعوته (وهذا قبل أن يَعرف أنّ والده سوف يموت على الشِرك، فلمَّا تبيَّنَ له أنه عدوٌ للهِ تبرَّأَ منه (كما جاء ذلك في سورة التوبة)).

 

﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ يعني: وسوف أُفارقك - يا أبي - أنت وقومك وأصنامكم التي تعبدونها ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ، ﴿وَأَدْعُو رَبِّي مُخلِصًا له العبادة والدعاء، ﴿عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا: يعني أرجو ألاّ أكون محرومًا من إجابته لدعائي.

 

 

 

ولعله أرادَ بهذا الدعاء أنه سيدعو اللهَ أن يرزقه زوجةً وولداً يَستأنس بهم أثناء هِجرته لقومه، لأنّ اللهَ تعالى قال بعدها: ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ: يعني فلمَّا فارَقَهم وفارَقَ آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وهاجَرَ إلى أرض القدس: ﴿وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ: أي رَزَقناه بولده إسحاق، ثم رزقناه من إسحاق بحفيده يعقوب ليأنَسَ بهما، ﴿وَكُلًّا - مِن إسحاق ويعقوب - ﴿جَعَلْنَا نَبِيًّا﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ أي وهبنا لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴿مِنْ رَحْمَتِنَا خيراً كثيراً (من المال والولد، وغير ذلك من أمور الدين والدنيا)، ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا: أي وجعلنا لهم ذِكرًا حسنًا، وثناءً جميلاً باقيًا في جميع أهل الشرائع السماوية (وهذا إكرامٌ من اللهِ تعالى لهم، جزاءً لصِدق إبراهيم وصَبره على هَجْر قومه).

 

 

 

الآية 51، والآية 52، والآية 53: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى: أي واذكر أيها الرسول - في هذا القرآن - خبر موسى عليه السلام (تشريفا له وتكريماً) ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا أي مُختارًا لإبلاغ رسالة اللهِ تعالى إلى خَلْقه (وهي عبادته وحده وذِكره وشُكره)، ﴿وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (ولعل اللهَ تعالى جَمَعَ لموسى هنا بين الرسالة والنُبُوّة إشارةً إلى أنّ رسالته قد بلغتْ مَبلغاً قوياً، واللهُ أعلم).

 

﴿وَنَادَيْنَاهُ - وهو في طريقه من أرض "مَدْيَن" إلى أرض "مصر" - ﴿مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أي من الناحية اليُمنَى لجبل الطور بـ "سيناء" (ولعل المقصود مِن وَصْف جانب الجبل بـ "الأيمن" أي الناحية اليُمنَى لموسى عليه السلام، لأنّ الجبل ليس له يمين وشمال، واللهُ أعلم).

 

 

 

﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا: أي قرَّبنا موسى وشرَّفناه بمُناجاتنا له من غير وحي، فصارَ يُكَلِّمنا ويَسمع كلامنا (وفي هذا إثبات لصفة الكلام للهِ تعالى كما يليق بجلاله وكماله)، ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ليؤيِّده ويُعِينه على تبليغ رسالته، (وقد كان ذلك استجابةً لدعاء موسى عليه السلام، إذ سأل ربه أن يُنعِم على أخيه هارون بالرسالة حين قال: ﴿فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَأي اجعله رسولاً كما جعلتني، فاستجاب اللهُ دعائه، وأرسَلَ معه هارون إلى فرعون، (واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿ مِنْ رَحْمَتِنَا ﴾ أي كانَ هذا برحمةٍ خاصة مِن اللهِ تعالى، إذ النُبُوّة لا يُتوَصَّل إليها بكثرة العبادة، ولكنها هبة إلهية خاصة، يُنعِمُ اللهُ بها على مَن يشاء مِن عباده).

 

 

 

الآية 54، والآية 55: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ: أي واذكر أيها الرسول - في هذا القرآن - خبر إسماعيل عليه السلام ﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ: أي كانَ صادقًا في وعده، فلم يُخلف وعداً قط ﴿وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أي كانَ يأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (والمقصود بأهله: أُسرته وقومه مِن قبيلة "جُرهم" الذين عاشَ بينهم في مكة) ﴿وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا أي كان مَرضياً عنه مِن ربه، وذلك بسبب اجتهاده فيما يُرضي اللهَ تعالى من الأقوال والأفعال.

 

 

 

الآية 56، والآية 57: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ: أي واذكر أيها الرسول - في هذا القرآن - خبر إدريس عليه السلام ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا أي كثير الصدق في أقواله وأعماله، وكان ﴿نَبِيًّا يُوحَى إليه، ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم في السماء الرابعة في رحلة الإسراء والمعراج، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم).

 

 

 

الآية 58: ﴿أُولَئِكَ الذين قصصنا عليك خبرهم أيها الرسول، هم ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بفضله وتوفيقه، فجَعَلهم ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ (كإدريس عليه السلام)، ﴿وَمِمَّنْ حَمَلْنَا أي: ومِن ذرية مَن حملناهم ﴿مَعَ نُوحٍ في السفينة (كإبراهيم عليه السلام) إذ كانَ إبراهيم مِن ذرية نوح، ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ (كإسحاق وإسماعيل عليهما السلام)، ﴿وَ من ذرية ﴿إِسْرَائِيلَ (كموسى وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام) (واعلم أنّ إسرائيل هو يعقوب عليه السلام)، ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا أي: وهُم مِن جملة مَن هديناهم للإيمان واخترناهم للنبُوَّة والرسالة.

 

 

 

وهؤلاء الأنبياء كانوا ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ - المتضمنة للعظات والعِبَر والدلائل والحُجَج -: ﴿خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا: أي خرُّوا ساجدين - ذُلاً وخضوعًا لربهم - وهم يَبكونَ مِن خشيته سبحانه وتعالى، ومِن أنهم لم يَعبدوه حقَّ عبادته، ولم يَشكروه حقَّ شُكره.

 

 

 

من الآية 59 إلى الآية 62: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي فجاء مِن بعد هؤلاء الأنبياء ﴿خَلْفٌ يعني أتباعُ سَوْءٍ، حيثُ ﴿أَضَاعُوا الصَّلَاةَ: أي تركوا الصلاة كلها، أو فوَّتوا وقتها، أو تركوا أركانها وواجباتها، ﴿وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ: أي اتَّبعوا ما يُوافق شهواتهم - وذلك بانغماسهم في الذنوب والمعاصي - ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا: أي فسوف يَلقون عذاباً في جهنم جزاءَ غيِّهم (أي جزاءَ ضلالهم)، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا أي جزاءَ آثامه وذنوبه، (وقد قيل إنّ الغيّ: هو وادٍ في جهنم شديد الحر، واللهُ أعلم).

 

 

 

﴿إِلَّا مَنْ تَابَ مِن ذنوبه ﴿وَآَمَنَ باللهِ ورُسُله، وبجميع ما أخبر به الرُسُل من الغيب ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا تصديقًا لتَوبته: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مع المؤمنين ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا أي لا يُنقَصون شيئًا من ثواب حسناتهم، بل يدخلونَ ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ أي جنات الخلود ﴿الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ أي وَعَدَهم بها وهي غائبة عن أعينهم - إذ هي في السماء وهم في الأرض - فآمَنوا بها ولم يروها، ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا: يعني إنّ وَعْده سبحانه بهذه الجنة - لعباده المؤمنين - آتٍ لا مَحالة.

 

 

 

وأهلُ الجنة ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا: أي لا يَسمعونَ فيها كلامًا باطلاً ﴿إِلَّا سَلَامًا أي: لكنهم يَسمعون الملائكة وهي تُسَلِّم عليهم وتُحَيِّيهم (وهذا من النعيم الروحاني في الجنة)، ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا - من الطعام والشراب الذي تشتهيه أنفسهم - ﴿بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي دائماً، إذ كلما طلبوا شيئاً وجدوه أمامهم (اللهم ارزقنا الجنة).

 

 

 

الآية 63، والآية 64، والآية 65: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ - الموصوفة بتلك الصفات - هي ﴿الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا أي نُعطيها عبادنا الذين يتقونَ ربهم (بامتثال أوامره واجتناب نَواهيه).

 

وقل - يا جبريل - لمحمد: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ - نحن الملائكة - من السماء إلى الأرض ﴿إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لنا، فإنه تبارك وتعالى ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا أي له سبحانه ِعِلْمُ وتدبير ما يُستقبَل من أمْر آخرتنا، ﴿وَمَا خَلْفَنَا أي وله أيضاً ما مَضَى من الدنيا (عِلماً وتدبيراً)، ﴿وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ أي: وله أيضاً ما بين الدنيا والآخرة (وهو الزمن المتبقي من الدنيا إلى يوم القيامة).

 

 

 

فله سبحانه الأمر كله، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا يعني: وما كان ربك ناسيًا لشيءٍ من الأشياء، وما كان ناسياً لك أيها الرسول، إذاً فلا تحزن لتأخّر الوحي عنك، فإنّ ربك إذا شاء أن يُرسِلَ الوحي إليك لأرسَلَه، فهو ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أي خالقُ ذلك كله ومُدَبِّر أمْره، ﴿فَاعْبُدْهُ وحده - بما شَرَعه لك - ﴿وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ: أي اصبر على طاعته - أنت ومَن اتَّبعك - لأنه سبحانه الذي يستحق العبادة وحده، وهو الذي يستحق أن تتحمل مِن أجْله، فـ ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي هل تعلم له نظيراً أو مَثيلاً؟ (والجواب لا، فهو سبحانه ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته وأفعاله)، إذاً فاعبده وحده، وتحمَّل في سبيل ذلك ما استطعت، حتى تصل إلى رضاه وجنته.

 

 

 

واعلم أنّ سبب نزول هاتين الآيتين - كما في صحيح البخاري - أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: (ما يَمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا)، فنزلت الآية: ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ .


 
 
 

تفسير الربع الأخير من سورة مريم

 
 

الآية 66، والآية 67: ﴿ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ المُنكِر للبعث: ﴿ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا من قبري؟، فرَدَّ اللهُ عليه قائلاً: ﴿ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا أي لم يكن له جسد ولا اسم ولا صفة؟ إذاً فليعلم أن الذي خَلَقه من العدم، قادرٌ سبحانه على أن يَبعثه بعد الموت (لأن إعادة الشيء كما كان، أسهل من إيجاده أول مرة).

 

 

 

من الآية 68 إلى الآية 72: ﴿ فَوَرَبِّكَ - أيها الرسول - ﴿ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ: أي لَنَجمعنَّ هؤلاء المُنكِرين للبعث يوم القيامة، مع الشياطين الذين كانوا يُضلونهم، ﴿ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا أي باركينَ على رُكَبهم، لا يَقدرونَ على القيام، لشدة ما هم فيه من الخوف، ﴿ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا أي: ثم لَنأخذنَّ مِن كل طائفةٍ - تعاونتْ على الباطل - أشدَّهم تمردًا وعصيانًا للهِ تعالى وظلماً لعباده، فنبدأ بعذابهم، (ولعلَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ هنا صفة "الرحمن" لتفظيع تَمَرُّدهم وظُلمهم، لأنّ شديد الرّحمة بالخلق جديرٌ بالشكر له والإحسان، لا بالكفر به والطغيان).

 

 

 

وحتى لا يَزعم أحدٌ منهم أنّ غيره أشدّ عِصياناً منه، فقد أخبر سبحانه أنّه يَعلم ما يَستحقه كل واحد منهم من العذاب، فقال: ﴿ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا أي نحن أعلم بالذين هم أَوْلى بالاحتراق بالنار ومُقاساة حَرّها (فأولئك يدخلون النار قبل غيرهم ثم يَدخل بَقيّتهم بعدهم)، ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا يعني: وما منكم مِن أحدٍ - أيها الناس - إلا وسوف يَمُرّ مِن على الصراط الممدود فوق جهنم، كلٌ بحسب عمله - كما ثبت ذلك في صحيح مسلم - فمَن وقع: هَلَك، ومَن لم يَقع: نَجا، ﴿ كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا: أي كانَ ذلك أمرًا قضاه اللهُ سبحانه، ولابد من وقوعه، ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا - بامتثال أوامر ربهم والبعد عن مَعصيته - فنُنجيهم من النار (وذلك بمرورهم سالمينَ من على الصراط)، ﴿ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ: أي ونترك الظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي - بعدما سقطوا من على الصراط - ﴿ فِيهَا جِثِيًّا أي باركينَ على رُكَبهم في النار، لا يستطيعون الحركة (وذلك من شدة ما يُصيبهم مِن هَولها وعذابها).

 

 

 

الآية 73، والآية 74: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ: يعني وإذا تُقرأ على الناس آياتنا الواضحة في حُجَجها ودلائلها - على التوحيد والنُبُوّة والبعث -: ﴿ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا: ﴿ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ - منَّا ومنكم - ﴿ خَيْرٌ مَقَامًا يعني أفضل مَسكناً ومَنزلةً، ﴿ وَأَحْسَنُ نَدِيًّا: يعني وأحسن مَجلسًا ونادياً للاجتماع والتشاور فيه؟

 

 

 

والمعنى أنهم عندما تُقرأ عليهم آيات القرآن، يَتعزّزون بالدنيا ويقولون: (إنْ كُنّا على الباطل، فلماذا نحن أكثر أموالاً وأكثر أعواناً منكم؟)، وذلك لأنهم كانوا يُقارنون بين دار "الأرقم بن أبي الأرقم" التي يجتمع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وبين منازل أغنياء مكة ونادي قريش (الذي هو مَجلس مَشورتهم وتبادل آرائهم).

 

 

 

فرَدَّ اللهُ عليهم بقوله: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ: يعني ولقد أهلكنا - قبل هؤلاء الكفار - كثيرًا من الأمم الذين كانوا ﴿ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا أي كانوا أحسن منهم متاعًا وأجمل منظرًا، (إذاً فلا يَغُرَّهم هذا الذي يَتبجَّحون به، فإنه لن يدوم لهم إذا استمروا على العناد ومحاربة الحق).

 

 

 

الآية 75: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء الكفار: ﴿ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ: يعني مَن كان مُصِرّاً على ضلاله، غير مُتِّبع لطريق الهدى: ﴿ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا: أي فاللهُ تعالى يَمُدّ له في ضلاله، (فإنّ مِن عقوبة الضَلالة: الضَلالة بعدها، وهذا كقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، فالإزاغة الثانية كانت عقوبة لهم على زَيغهم، وعلى العكس من ذلك، فإنّ مِن ثواب الهدى: الهدى بعده، كما سيأتي في قوله تعالى: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى .

 

 

 

ويَظَلُّونَ على هذا الضلال ﴿ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ: يعني حتى إذا رأوا - يقيناً - ما توعَّدهم الله به: ﴿ إِمَّا الْعَذَابَ العاجل في الدنيا، ﴿ وَإِمَّا السَّاعَةَ التي تقوم فيها القيامة: ﴿ فَسَيَعْلَمُونَ - حينئذ - ﴿ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا أي شرٌ منزلةً ومَسكناً ﴿ وَأَضْعَفُ جُنْدًا أي أقل أنصاراً (أهُم الكافرون أم المؤمنون؟)، وذلك حين لا يَنفعهم العِلم.

 

 

 

الآية 76: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ عباده ﴿ الَّذِينَ اهْتَدَوْا إلى دينه ﴿ هُدًى على هُداهم، وإيماناً على إيمانهم، وتوفيقاً للعلم النافع والعمل الصالح، ﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: يعني والأعمال الصالحة - وخاصةً قول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) - ﴿ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا في الآخرة مِمّا يَتفاخر به المشركون من متاع الدنيا الزائل، ﴿ وَخَيْرٌ مَرَدًّا: أي خيرٌ مَرجعًا وعاقبة (وهو نعيم الجنة).

 

 

 

والمقصود من الآية أنه إذا كانت تلاوة القرآن تَزيد المشركين كِبراً وعِناداً، فإنّ المؤمنين المهتدين يَزدادونَ بها هِداية ورَشاداً، لأنهم يَرونَ ما تَحمله الآيات من الدلائل والحُجَج والعظات والهدى، فيَزداد إيمانهم، وتزداد هدايتهم بأداء الفرائض واجتناب النَواهي، (وفي هذه الآية تصبيرٌ للرسول والمؤمنين بأنّ ما يَتفاخر به المشركون من المال وأثاث المنازل لا يُساوي شيئاً أمام الإيمان والعمل الصالح، لأنّ المال يَفنى، وثواب الصالحات باقٍ في الجنة).

 

 

 

من الآية 77 إلى الآية 80: ﴿ أَفَرَأَيْتَ - أيها الرسول - هذا الرجل ﴿ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا (وهو العاص بن وائل وأمثاله)؟ إذ كَفَرَ بآيات اللهِ وكذَّبَ بها ﴿ وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا يعني وقال: سآخذ في الآخرة أموالا وأولادًا!، فرَدَّ اللهُ عليه بقوله: ﴿ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ يعني هل نَظَرَ في اللوح المحفوظ فرأى أنه سيُعطَى مالاً وولدًا يوم القيامة؟ ﴿ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا بذلك؟ ﴿ كَلَّا: أي ليس الأمر كما يَزعم ذلك الكافر، فلا عِلمَ له من الغيب، ولا عهدَ له عندنا، بل ﴿ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ مِن الكذب والافتراء على اللهِ تعالى ﴿ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا: أي وسنَزيده في الآخرة من أنواع العقوبات، ونُضاعف له العذاب، كما ازدادَ هو في الضلال ﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ: أي وسوف نَسلب منه مالَه وولده - الذي يَفتخر به - ونَرثه بعد موته، ﴿ وَيَأْتِينَا يوم القيامة ﴿ فَرْدًا لا مال معه ولا ولد.

 

 

 

الآية 81، والآية 82: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً من الأصنام، فعَبَدوها ﴿ لِيَكُونُوا لَهُمْ - في نظرهم الفاسد - ﴿ عِزًّا أي شفعاءَ لهم عند اللهِ تعالى، ليَعتزوا بهم ولا يُهانوا، ﴿ كَلَّا: أي ليس الأمر كما يَزعمون، فلن يكونوا لهم عِزًّا، بل ﴿ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ: أي ستكفر هذه المعبودات في الآخرة بعبادة مَن عبدهم (حيث يُنكِرون أنهم أمَروهم بعبادتهم)، ﴿ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أي وسيكونون شُهداءَ ضِدّهم، بخلاف ما ظنوهُ مِن أنهم سيَشفعون لهم.

 

 

 

الآية 83، والآية 84: ﴿ أَلَمْ تَرَ - أيها الرسول - ﴿ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ أي سلَّطْناهم عليهم ﴿ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا؟ أي تُحَرِّكهم تحريكاً شديداً نحو الشهوات والمعاصي والجرائم والمَفاسد، إذاً فلا تَعجبْ مِن مُسارعتهم إلى الشر والفساد والكفر والضلال، وكذلك ﴿ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ: أي لا تستعجل بطلب العذاب الفوري على هؤلاء الكافرين، فـ ﴿ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ: أي نَعُدّ أعمارهم وأعمالهم ﴿ عَدًّا لا تفريطَ فيه ولا تأخير، ثم نُحاسبهم على كل ذلك ونُجازيهم به، (فإنهم كلما ازدادوا ظلماً، ازدادَ عذابهم يوم القيامة).

 

 

 

واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يَستعجل العذاب بقومه إلا في الظروف الخاصة الطارئة، كما حَدَثَ عندما قُتِلَ سبعون مِن حَفَظة القرآن، وأما في غير الظروف الخاصة، فكان يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يَعلمون)، وكانَ يقول: (أرجو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابهم مَن يَعبد اللهَ وحده لا يُشرِك به شيئاً).

 

 

 

الآية 85، والآية 86، والآية 87: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ أي اذكر - أيها الرسول - يوم القيامة، حينَ نَجمع المتقين ﴿ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا أي وفودًا مُكَرَّمين، تَحُوطُهم الملائكة حتى يَنتهوا إلى ربهم، فيكونوا في جواره في الجنة، ﴿ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا: أي ونَسُوقُ الكافرينَ سَوقًا شديدًا إلى النار مُشاةً عِطاشًا ﴿ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ أي لا يَشفع بعضهم لبعضٍ كالمؤمنين، ولا يَشفع لهم أحدٌ أبداً، ﴿ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا: يعني إنما يَملك الشفاعة مَنِ اتخذ عند الرحمن عهدًا بذلك، وهم المؤمنون بالله ورُسُله، حيثُ يُشَفِّعهم سبحانه في غيرهم، أو يَشفع لهم غيرهم (إنْ هم دخلوا النار بذنوبهم حتى يَخرجوا منها).

 

 

 

ولعل المقصود بعَهد الشفاعة هنا: هو شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، ففي الحديث الصحيح أنّ اللهَ تعالى يقول يوم القيامة: (أخرِجوا من النار مَن قال لا إله إلا الله، وكانَ في قلبه مِن الخير ما يَزِن ذَرَّة) (انظر صحيح الترمذي ج 4 /711).

 

 

 

من الآية 88 إلى الآية 95: ﴿ وَقَالُوا أي وقال الكافرون: ﴿ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (حيثُ قال مُشرِكو العرب: الملائكة بنات الله، وقالت النصارى: عيسى ابن الله، وقال بعض اليهود: عُزَيرٌ ابن الله)، ﴿ لَقَدْ جِئْتُمْ - أيها القائلون - بهذه المَقالة ﴿ شَيْئًا إِدًّا أي شيئاً عظيمًا مُنكَرًا ﴿ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ أي يَتشقَّقْنَ مِن فظاعة ذلكم القول، ﴿ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُلأنّ هذا القول مُغضِبٌ لربها عزّ وجلّ، ﴿ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أي وتَسقط الجبال سقوطًا شديدًا غضبًا للهِ تعالى بسبب ﴿ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ونَسَبوهُ إليه كَذِباً،﴿ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا: أي لا يَليق بعظمة الرحمن سبحانه أن يتَّخذ ولدًا، لأنّ اتِّخاذ الولد يدل على النقص والحاجة، واللهُ تعالى هو المُبَرَّأ من كل النقائص، الغني عن كل خلقه، لأنه رب كل شيء ومالكه، و﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا أي: ما كل مَن في السماوات من الملائكة، ومَن في الأرض من الإنس والجن، إلا سيأتي ربه يوم القيامة عبدًا ذليلاً خاضعًا مُقِرّاً له بالعبودية، ﴿ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أي عَلِمَهم واحداً واحداً، فلو كانَ بينهم إلهٌ معه، أو ولدٌ له لَعَلِمَه، (سبحانه وتعالى عما يَصفون)، ﴿ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا: أي وسوف يأتي كل واحد من الخلق إلى ربه يوم القيامة بمفرده، لا مالَ له، ولا ولد معه.

 

 

 

الآية 96: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ - بإخلاصٍ للهِ تعالى، وعلى النحو الذي شَرَعه - أولئك ﴿ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا أي سيَجعل لهم مَحَبّة ومَوَدَّة في قلوب عباده، فيَعيشونَ مُتحابِّينَ فيما بينهم، ويُحبهم ربهم تبارك وتعالى.

 

 

 

الآية 97: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ: يعني فإنما يَسَّرنا هذا القرآن بلُغَتك العربية أيها الرسول، حيثُ أنزلناه بلسانك العربي ﴿ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ بالجنة، ﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا: أي وتخوِّف به المُكَذِّبين - المجادلينَ بالباطل - من النار.

 

 

 

الآية 98: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ: يعني ولقد أهلكنا كثيرًا من الأمم السابقة قبل قومك أيها الرسول، فـ ﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا: يعني هل ترى منهم أحدًا، أو هل تسمع لهم صوتًا خفياً؟ (والجوابُ لا)، فكذلك الكفار من قومك، نُهلكهم كما أهلكنا السابقين مِن قبلهم، (وفي هذا تهديدٌ ووعيد بإهلاك المُكَذِّبين المعاندين، كما حدث يوم بدر).

 
 

(1) وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.

واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.



رامي حنفى محمود

شبكة الالوكة

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×