اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

سلسلة تأملات في آيات من القرآن الكريم الدكتور أحمد محمد عبد الدايم

المشاركات التي تم ترشيحها

سلسلة تأملات في آيات من القرآن الكريم
الأستاذ الدكتور أحمد محمد عبد الدايم عبدالله


1 ـ قال تعالى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ...(8)}(المائدة).

سبحانك ربي، أحمدك وأشكرك.

خلقْتَنا ولَم نكُ شيئًا مذكورًا.

خلقْتَنا من ترابٍ،
وكرَّمتنا وجعَلتنا خُلفاءَ لك في الأرض ،
وعلَّمتنا ما لَم نكن نعلم ،
وأدَّبتنا أدبًا رفيعًا يَليق بمَن جعَلته خليفة لك.

وتعلم أننا خَلْق ضعيفٌ، نُخطئ ونُصيب،
وجعَلت خيرنا مَن يُخطئ ويتوب ويُنيب،
وتعلم أن الشيطان عدوٌّ لنا، يُلقي بيننا بالبغضاء والعداوة؛ حتى تنقطع بيننا حبائلُ الودِّ والرحمة؛
لذلك وصَّيْتنا في كتابك العزيز بوصايا هي حبال النجاة لنا يوم الوعيد.

فقلت لنا وقولك الحق { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا }

أي: لا يَدفعنَّكم عداوة قومٍ لكم، واختلافهم معكم، إلى ارتكاب جُرم عدم العدل، اجْعَلوا العداوة جانبًا، فإذا حكَمتم بين الناس عليكم أن تَحكموا بالعدل، غير متأثِّرين في أحكامكم بما بينكم، ولنا في سلفنا الصالح قدوة وأُسوة حسنة، فهذا عدوٌّ لله وعدوٌّ لنبيِّه وللمؤمنين، شكا عليًّا بن أبي طالب رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه فجاء إلى مجلس القضاء، فسوَّى بينهما عمر وحكَم لليهودي، ولَم تَنفعه العداوة إلى تجاوز العدل بينهما، أو لتحيُّزٍ إلى علي رضي الله عنه وهو مَن هو إيمانًا وفضلاً، وقُربى ومصاحبة.

فهل لنا أن نتعلَّم؟ وهل لنا في الأسوة الحسنة من سبيل؟
إنَّ العدل أقربُ لتقوى الله ومُراعاته،
والحذر من عذابه يوم لا ينفع مال ولا بنون.

 

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,


 

2 ـ قال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)}(الأنفال).

سبحان ربي العظيم، فهذا نوع آخر من أنواع الزَّيغ والمُكابرة والعناد؛ يقول به: { كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12﴾}(المطففين)، ألغى عقلَه، وانساق وراء شيطانه المَريد.

{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا } ، نوع من الطيش حين أردفوا، فقالوا: { لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } .

فما الذي منَعهم أن يشاؤوا، إنَّ قولتهم تُعبِّر عن عجزهم، وتؤكِّد إفلاسهم، وقد استقرَّ في نفوسهم أنهم عاجزون عن المجيء بمثل هذا القرآن، أو بسورة من مثله، وقد تحدَّاهم الله بقوله:
{ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34﴾}(الطور) .

سبحانك ربي، وأنت أعلم بخَلقك، وقد أرسَلت إلى رسولك آيات معجزات، لا طاقة لبشرٍ أن يأتي بمثلها، وزاد تحدِّي الله لهم، وهم أهل البلاغة والكلام؛ ليَعلموا - وقد علموا - أن حُجَّتهم باطلة زاهقة من أول نزول { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1﴾}(العلق) ، فقال لهم { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) }(يونس).
هكذا أيها الفُجَّار تقولون: افتراه؛ أي: أتى به من عنده، وهو بشرٌ مثلكم، فاجْعَلوا بعضكم لبعض ظهيرًا، والْتَمِسوا العون ممن استطعْتُم من إنسكم وشياطينكم، وأْتُوا بسورة واحدة - كهذا القرآن - إن كنتُم صادقين، فزادَ عجزهم، وإنهم لكاذبون، وأُسْقِط في أيديهم، ولكنَّها المُكابرة والغرور، والحسد من عند أنفسهم، أفلا يعقلون؟ فهل ما أُنزلَ على محمد من أساطير الأوَّلين؟!

ولقد جاءَتهم الحُجج دامغة، وإظهار العجز الدائم إلى يوم الدين، بقوله تعالى: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88﴾}(الإسراء).

قمة التحدِّي وقمة الإعجاز، فبُهِت الذي كفَر، وصدق الله العظيم.
 
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
 
3 ـ قال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ (60﴾}(الأنفال).

هذا أمرٌ وتكليف من الله - جل وعلا - إلى مَن آمَنوا به وبرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وارْتَضوه ربًّا، أن يكونوا على أُهْبة الاستعداد لمُلاقاة أعداء الله، الذين هم بطبيعة الحال أعداء للمؤمنين أنفسهم، فإنَّ أعداء الله والإسلام والمسلمين يتربَّصون، وسوف يستمرون في تربُّصهم؛ حتى يرثَ الله الأرض ومَن عليها.

إنَّ للإسلام أعداءً ظاهرين معروفين بعدائهم وحِقدهم؛ { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32﴾}(التوبة) ، ومن هنا كان عداؤهم ظاهرًا بيِّنًا، و { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا..(82﴾}(المائدة).

لذلك فإن للإسلام أعداءً مختفين أيضًا، منهم المنافق الذي يُظهر الإيمان ويُضمر الكفر والحقد الشديد، ومنهم الحاسد الذي أكَل الحسدُ قلبه، ومنهم مَن يرى في الإسلام خطرًا يُهدِّد كِيانه ووجوده، وكل هؤلاء وأولئك أعداءٌ لله ولرسوله وللمؤمنين، ومن هنا يدعو الله أولياءَه لإعداد العُدَّة، وأن يكونوا على أُهْبة الاستعداد، وحِكمة الله تتجلَّى في هذه الآية في ألفاظها المُحكمة:

{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ؛ أي: كل ما تستطيعون من عَتادٍ وعُدة تُتاح لكم.

وتتجلَّى عظَمة الله في قوله : { مِنْ قُوَّةٍ } ؛ حيث جاء اللفظ نكرة، والنكرة تُفيد التعميم؛ أي: مُطلق القوَّة مهما كان نوعها.

ثم الْتَفَت القرآن إلى ما كان سائدًا في عصر الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم وهو رباط الخيل، وهو أرقى ما كان يُستعمل.

ثم يأتي الهدف من كلِّ ذلك في قوله تعالى: { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } ، ولَم يَقل: قتال عدوِّ الله وعدوِّكم، ولكن ما قبل القتال، وهو بَثُّ الرُّعب والخوف في نفوسهم، ليس وحْدهم، ولكن آخرين غيرهم، لا تَعلم بهم، ولكنَّ الله سبحانه الذي أحاط بكلِّ شيء علمًا يَعلمهم، فإن مجرَّد إعداد القوة وتجهيزها يُخيف الجميع ويَخلع قلوبهم، ويَجعلهم في هَلَعٍ وخوف عظيمٍ.
 
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
 
4 ـ قال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16﴾}(يونس).

بِئس ما يفعل الكافرون، ألاَّ ساء ما يَحكمون، ما يتَّبعون إلا الظنَّ، وما يظنون إلاَّ ظنًّا.

انظر أيها العاقل إلى قولهم في الآية الكريمة لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد حاوَرهم محاورة عقليَّة لطيفة، لو كانوا يعقلون، لدخلوا في الدين مسلمين، لكنَّهم للأسف لا يعقلون ولا يَفقهون.

{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ }: واضحات لا لَبْس فيها، فإنهم يَطلبون من الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - طلبًا عجيبًا، يدل على تَفاهة عقولهم وزَيْغهم، قائلين: { ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ }.

واعجبًا لِما يقولون!

فيحاورهم الرسول بيقين ثابتٍ، وقول فصلٍ: { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ 
إني ما جئت به أولاً، فكيف أُغَيِّره من تِلقاء نفسي؟ فأنا ما بلَّغتكم إلاَّ بما يوحى إليّ من الله، وأنا عبدٌ مأمور بذلك؛ { إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.

إنَّ الأمر كله لله؛ { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ } ، إنما جِئتكم به عن إذن الله ومَشيئته وإرادته، ولو شاء ما أنزَله عليّ، وما تَلَوته عليكم، وما دَرَيتُم من أمره شيئًا.

أيُّها الكفَّار، أليستْ لكم عقول رشيدة، تَعرفون بها الحقَّ من الباطل؟

{ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)}(يونس).

لقد عِشتُ بينكم قبل النبوة أربعين سنة، ما قلتُ شعرًا ولا نثرًا، وما عَلِمتم عني نفاقًا ولا كذبًا، فكيف تتَّهمونني بذلك الآن، أفلا تعقلون؟!

لقد سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان، وكان يومها زعيمًا للمشركين، فقال له: هل كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقولَ ما قال؟

قال أبو سفيان: لا.

فأين كانت عقول الكافرين؟

صدَقتَ يا رب، وصدَق رسولك الكريم.

وساء عملاً ما قاله الكافرون.
 
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

 
5 ـ قال تعالى: { أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99﴾}(يونس).
ولي مع هذه الآية الكريم قصة.

طلَب مني صاحب برنامج "أفيدونا أفادَكم الله" بإذاعة الشرق الأوسط - كتابةَ بعض الحلقات عن الإرهاب. وفتَحت المصحف الشريف ألْتَمِس فيه بعض آيات الكتاب في هذا الأمر، فإذا بعينَي تَقعان على هذه الآية الكريمة.

وقرأْتها مرات ومرات، وكأني لَم أرها من قبلُ، ولَم أسمع بها، ولَم أقرأها في الكتاب الكريم، وليس هذا الأمر بدعًا بالنسبة لي، فهذا هو عمر بن الخطاب يُنكر قول مَن قال بوفاة الرسول الكريم، وتوعَّد قائلها، إلى أن تَلا عليه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِين (144﴾}(آل عمران).

فجلَس عمر وقد سكَن رَوعه، وتعجَّب من أنه كأنه لَم يسمع بها من قبلُ، وهو الحافظ لكتاب الله، يُرَدِّده آناء الليل وأطراف النهار، فسبحان الله العظيم، يؤتِي الحِكمة مَن يشاء.

وقرأت الآية كاملة وما بعدها، قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100﴾}(يونس).

{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ } يا محمد، لأَذِن لأهل الأرض جميعًا بالإيمان، ولقَهَرهم عليه كالملائكة، لكن له حِكمة فيما يفعله تعالى:
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً (118﴾}(هود).

{ أَفَأَنْتَ } يا محمد { تُكْرِهُ النَّاسَ } ، وتُلِحُّ عليهم؛
{ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } ، فليس ذلك عليك؛
{ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ (272﴾}(البقرة) ،
و { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (56﴾}(القصص) ،
وإنه { عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40﴾}(الرعد) ، وأنت :
{ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22﴾}(الغاشية) ،
إلى غير ذلك من آيات الكتاب الكريم، التي تَسير في خطِّ الآية السابقة وعلى نَهجها.

نعم، صدَقت يا رب { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } ومَشيئته، { وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ } ؛ أي: الضلال والتخبُّط { عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } ؛ أي: لا يَفقهون حُجج الله وأدلَّته، ولا يفهمون آياته، وهو العادل في كلِّ ذلك؛ في هداية مَن هُدِي، وإضلال مَن ضَلَّ.

أفبعد قول الله لرسوله قولٌ؟!
وهل لِمن لَبِسوا عباءة الإسلام حُجة في إرهاب خَلْق الله، وتكفير مَن يشاؤون، وسَفْك دمِ مَن يستحلُّون؟!

سبحانك ربي؛ جعَلت في الكتاب ما تشاء لِما تشاء.
 
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
 
6 ـ قال تعالى: { يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105﴾}(هود).

تتحدَّث الآية الكريمة عن مشهد من مشاهد يوم القيامة، فقد قال سبحانه وتعالى قبلها:
{ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103﴾}(هود) .

إنه يوم عظيم مُرَوِّع: { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2﴾}(الحج).

هذا اليوم حينما يأتي - وهو آتٍ لا ريبَ - يُحشر الناس أوَّلُهم وآخرُهم، كلُّهم يُجمعون لربِّ العالمين؛
{ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47﴾}(الكهف) ، وذلك يوم مشهود، تَشهده الملائكة والرُّسل، وتُحشر الخلائقُ كلُّها؛ من الإنس والجن، والطَّير والوحش والدَّواب، ويَحكم الواحد الأحد العادل بينها.

وهذا اليوم هو يوم القيامة، حين يأتي لا يتكلَّم أحدٌ إلاَّ بإذن الله؛
{ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38﴾}(النبأ).

نعم، يوم يأتي هذا اليوم لا تتكلَّم النفس إلاَّ بإذن الله، والناس يومها صِنفان: شقي، وسعيد.

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107﴾}(هود).

نعم هذا جزاء الأشقياء، هم في النار، وهذا حالُهم، لهم فيها زفير وشهيقٌ؛ قال ابن عباس: "الزفير في الحَلق، والشهيق في الصَّدر"؛ لِما هم فيه من العذاب الأليم، خالدين في النار ما دامَت الأرض والسموات، وليس المقصود هنا سماء الدنيا وأرضها؛ لأن الله تعالى قال عن ذلك:
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ }(48﴾}(إبراهيم) ؛ أي: سماء غير هذه السماء، وأرض غير هذه الأرض؛ قال ابن عباس: "لكلِّ جنة سماءٌ وأرضٌ"، والمعنى: أنهم باقون في العذاب بقاءَ السموات والأرض؛ أي: أبدًا؛ لأن من عادة العرب إذا أرادَت أن تَصِف شيئًا بالدوام أبدًا قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض.

{ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } ، وهذا الاستثناء هنا خاص بالعُصاة من أهل التوحيد، فمن يُخرجه الله منهم من النار، فبإذنه وبشفاعة الشافعين.
 
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
 

 

7 ـ قال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108﴾}(هود).

قلنا في الحديث السابق: إنَّ الناس في الموقف العظيم - يوم القيامة - صِنفان: صِنف شَقي، وقد تحدَّثنا عنه، وصِنف سعيد، وهو موضوع حديثنا الآن؛ حيث قال تعالى: { يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105﴾}(هود) ، وقد حكَم الله على الصِّنف الأول، فقال : { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107﴾}(هود).

أما الصِّنف الثاني - وهو السعيد - فقد حكَم الله سبحانه عليه بقوله: { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ } ، نعم السُّعداء في الجنة؛ لقد استعَمل الحقُّ جل وعلا الفعل { سُعِدُوا } في حقِّهم، وهو الفعل الوحيد المذكور في القرآن الكريم، لَم يَرِد بهذا اللفظ إلاَّ في هذا الموضع فقط، وقد جاء مَبنيًّا للمجهول؛ للتذكير بأنَّ السعادة أحاطَت بهم من كلِّ جانبٍ، كما أنه ليس للسعادة مصدرٌ واحدٌ فقط، فهم سُعداء برحمة الله الواسعة، وهم سعداء بمنَّة الله عليهم بدخولهم الجنةَ، وهم سُعداء بأنهم رأوا ما وعَدهم الله حقًّا، وهم سُعداء؛ لأن ذُرِّيَّاتهم لَحِقت بهم، فقد حفَّتهم السعادة وغَشِيتهم من كلِّ جانب، وأحاطَت بهم من كلِّ جهة؛ لذلك كان لفظ { سُعِدُوا } مطابقًا لحالتهم ولِما هم فيه.

كما أنَّ الله - سبحانه - حكَم عليهم بالبقاء في الجنة خالدين فيها، فقال : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } ؛ أي: خالدين فيها أبدًا.

{ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ } ؛ أي: إنَّ هذا الفعل من الله، وليس لعَملهم فحسب، فهو مرهون بمشيئته - سبحانه.

{ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }؛ أي: فيها ما لا عين رأتْ، ولا أُذن سَمِعت، ولا خطَر على قلب بشرٍ، كلُّ ذلك موصول غير مقطوع، بمشيئة الله وقُدرته، ثوابًا من عند الله، والله عنده حُسن الثواب.



يتبع

عن شبكة الألوكة الشرعية

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
8 ـ قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102﴾}(هود).

نعم، ربي سبحانك، إنَّ أخْذَك لشديد.

وكلمة { أخْذ } في الآية الكريمة مصدر يُعبِّر عن الشِّدة الشديدة، ويُعبِّر عن القوة المُطلقة، والانتقام الشديد.

{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ } ؛ أي: هكذا يكون شِدَّة وقوة لا مثيلَ لها؛ لأن ذلك يتحقَّق حينما يأخذ القرى الظالمة بظُلمها، إنَّ أخْذَه لها أليمٌ شديد؛ ذلك بما كسَبوا، وهذا جزاؤهم بما ظَلَموا.

وهذا جزاء كلِّ ظالِم يتمارَى في ظُلمه، ولا يَرعوي أو يَرتدع.

ورَد في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : ( إنَّ الله ليملي للظالِم، حتى إذا أخَذه لَم يُفلته ).
إن الله ليملي؛ أي: يَصبر عليه لعلَّه يتوب، أو يَرشد أو يَستغفر،
حتى إذا أخَذه لا يُفلته من العقاب، ولا يتركه، فيأخُذه أخْذَ عزيزٍ مُقتدر، ولقد تحقَّق أخْذُ ربِّك الشديد في قرى ظالمة كثيرة.

ألَم ترَ كيف فعَل في قوم عاد؟
وكيف فعَل في قوم لوط؟
وكيف فعَل في قوم صالح حينما عَقَروا الناقة وهم ظالمون؟
وغيرهم، وغيرهم كثير.

{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }. صدق الله العظيم.

 

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,



 

9 ـ قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29﴾}(لقمان).

سبحان ربي العظيم، إنَّ الله يُعطينا من آياته ما يدلُّ على قدرته ووحدانيَّته، دليلاً وراء دليلٍ، ويخاطب فينا العقل والفؤاد والأبصار؛ لعلَّنا نَعقِل أو نُفكِّر، أو نَرَى.

فهذه آيات لا يَعقلها إلا َّذَوُو الألباب، أو الأفئدة الصافية، أو الأبصار التي ليس عليها غِشاوة،

وفي هذه الآية الكريمة يُعطينا دليلاً يراه ذَوُو الأبصار كلَّ يوم ؛ { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ }.

فعلى الرغم من أنَّ الليل والنهار طولهما معًا أربع وعشرون ساعة، لا يزيد دقيقة واحدة، فإننا نرى الليل والنهار يتساوَيان في عدد ساعاتهما أحيانًا، كما نرى أنَّ الليل يزيد في طوله تدريجيًّا على حساب ساعات النهار، فيطول عنه كثيرًا، وبالتالي تنقص ساعات النهار في بعض فصول السنة، ثم نرى الليل يتناقص تدريجيًّا، وتزيد ساعات النهار على حساب ساعات الليل، فيطول عنه كثيرًا، وبالتالي تنقص ساعات الليل في بعض الفصول الأخرى، إذًا، فما الحكاية؟ وما الآية؟

الآية: { أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ } أي: يُدخل الليل في النهار، ويأكل من ساعاته، ونرى الليل يَزحف على النهار.

ويَلِج فيه (يدخل)، فترى الفجر مثلاً في الساعة الثالثة، ويتقدَّم ويتقدَّم؛ حتى يصلَ إلى الساعة السادسة صباحًا تقريبًا، وهذا ولوجُ الليل في النهار شتاءً.

كذلك قال تعالى : {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } ، فيأكل النهار من زمن الليل ومساحته، فنرى المغرب مثلاً في الساعة الخامسة مساءً، ويتقدَّم ويتقدَّم؛ حتى يصل إلى الساعة الثامنة تقريبًا؛ وهذا هو ولوجُ النهار في الليل صيفًا، وفي أثناء ولوجهما بعضهما في بعض، يزيد هذا ويَقصر هذا؛ حتى يتساوَيان، فيكون فصل الربيع أو فصل الخريف، يأتي فصل الربيع حين يَلِج النهار في الليل، أو حين زحف النهار على الليل، ويأتي فصل الخريف حين يَلِج الليل في النهار، أو حين زَحفه عليه.

ومن آياته الظاهرة لكلِّ عينٍ، أنه سَخَّر لنا الشمس والقمر اللتين حقَّقتا معجزة ولوج الليل في النهار، وولوج النهار في الليل، فتراهما مُسَخَّرين لتحقيق هذه المعجزة بانتظام دقيقٍ، لَم تتخلَّف عنه، ألا ترى أنَّ أهل الفلك ضبَطوا تقويم شروق الشمس وغروبها مع هذا الولوج - من الليل في النهار، أو من النهار في الليل - بدقَّة مُتناهية، أليس هذا هو التسخير المعني في الآية الكريمة؟

إنه تسخير إلى أجلٍ مسمًّى يَعلمه الله - سبحانه.

{ وأنَّ الله بما تعملون خبير } ، { ألا يَعلم مَن خلَق }؟ بَلَى، إنه العليم الخبير، فهل في ذلك آيات لأُولِي الألباب؟



,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,


 

10 ـ قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90﴾}(النحل).

قال ابن مسعود - رضي الله عنه - عن هذه الآية الكريمة " أجمعُ آية في القرآن لخير يُمْتَثل، ولشرٍّ يُجْتَنب".

ورُوي أن عثمان بن مظعون قال: ما أسْلَمت ابتداءً إلاَّ حياءً من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى نزَلت هذه الآية وأنا عنده، فاستقرَّ الإيمان في قلبي، فقرأتُها على الوليد بن المغيرة، فقال: يا ابن أخي أعِدْ، فأعدتُ، فقال: " والله، إنَّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنَّ أصله لمُورق، وأعلاه لمُثمر، وما هو بقول بشر ".

سبحانك ربي، ما أعظم ما أنْزَلت على رسولك!

إنها شهادة جاءت من كافر، فكيف تكون شهادة المؤمن؟!

وأعظم من هذه الشهادة، ما رُوِي من أنَّ قومًا ذهَبوا إلى أبي طالب عمِّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقالوا له: "إنَّ ابن أخيك زعَم أن الله أنزَل عليه: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ... } ، فقال لهم: اتَّبعوا ابن أخي، فوالله إنه لا يأمر إلاَّ بمحاسن الأخلاق"!

وبعد هذا يُنكرون ويَسخرون، ويقولون: أساطير الأوَّلين، ألا خَسِئوا وساء ما يقولون.

وهذه الآية الكريمة من إعجاز القرآن، ومن جوامع الكَلِم، فعلى الرغم من قِصَرها، فإنها حَوَت ثلاثة أوامر، وثلاثة نواهٍ:

• أمَرَت بالعدل؛ أي: الاستقامة، والمساواة، والتوسُّط، والإنصاف.

• وأمَرَت بالإحسان، وهو إتقان العمل والعبادة، وإيصال النفع إلى الخَلق.

• وأمَرَت بإيتاء ذي القُربى، وهو إيتاء الأقارب حقَّهم من الصِّلة والبِر وصِلة الرَّحم.

وبعد الأمر بأُمَّهات الفضائل وأسمى المكارم في إيجاز وإعجاز، جاء النهي:

• حيث نَهَت عن الفَحشاء، وهي كلُّ قبيح من قول أو فعلٍ مما عَظُمت مفاسده.

• ونَهَت عن المنكر، وهو كلُّ ما أنكرَه الشرع بالنهي عنه، وهو يضمُّ جميع المعاصي والرذائل.

• ونَهَت عن البغي، وهو عطفٌ للخاص على العام؛ ليتأكَّد أنَّ ظُلم الناس والبغي عليهم من الشر، وذلك حين نَفهم البغي بمعنًى عام يشمل كلَّ أنواع الظُّلم والمعاصي.

كل هذا - الأمر والنهي - جاء موعظة من الله لنا، فقد نبَّهنا إلى الخير، وأمرنا به، ونبَّهنا إلى الشر، ونهانا عنه، فهل نحن مُتَّعظون؟ وهل نحن مُنتهون؟


 

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,


 

11 ـ قال تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا (36﴾}(الإسراء).

هذه الآية من النصائح الغُر، التي يربي بها الإسلام أتباعَه، وهي منهج قويم ينبغي اتِّباعه، ونصيحة غالية لا تُقدَّر بثمنٍ.

أيها المسلم، { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } ، لا تقف: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "لا تَقل"،
وقال العوفي: "لا ترْمِ أحدًا بما ليس لك به عِلمٌ".

وقال قتادة: "لا تَقل: رأيتُ ولَم ترَ، وسَمِعت ولَم تسمع، وعَلِمت ولَم تَعلم".

والفعل "تقفو" من القفا، وهو خلف الإنسان، ومنه القافية، وهي قفا بيت الشعر وآخره، وقد يكون المعنى - والله أعلم في الآية - لا تتكلَّم عن أحدٍ من وراء ظهره بما لا تَعلم، ولا تتَحرَّ أفعال الناس من خلفهم، وتدسَّ أنفَك تَتْبَع أخبارهم فيما يَكرهون، بما ليس لك فيه حقٌّ، فهو إذًا المنع عن تتبُّع الناس بالسمع أو بالبصر، أو بالظنِّ والشك، ثم تبني على ذلك أحكامًا ليست من حقِّك، وليس أمرها موكولاً إليك، فإن مَن يفعل، فإنه سوف يُسأل عن ذلك يوم القيامة.

{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسؤولاً } : مُحاسبًا عليها، سيُسأل العبد عنها يوم القيامة؛
قال تعالى: { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (12﴾}(الحجرات) .

وفي الحديث: ( إيَّاكم والظنَّ، فإن الظنَّ أكذبُ الحديث ).

وفي حديث آخر: ( إنَّ أفرى الفِرى أن يُرِيَ الرجل عينَيه ما لَم تَرَيا ) ؛ أي: أكذبُ الكذب أن يقول الرجل: رأيتُ، وما رأَى شيئًا.

قال تعالى: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (105﴾}(المائدة).

صدَقتَ يا ربُّ، لقد علَّمتنا ما لَم نكن نعلم، فسَمِعنا وأطَعْنا، غُفرانك ربَّنا وإليك المصير.



,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,



 

12 ـ قال تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (53)}(الإسراء).

ما أجمل الأدب القرآني الذي دأَب القرآن الكريم على تربية المؤمن عليه، وكيف لا وقد قال الرسول الكريم: ( إنما بُعثْتُ لأُتَمِّم مكارم الأخلاق
وقال عن نفسه صلَّى الله عليه وسلَّم : ( أدَّبني ربي، فأحسَن تأديبي ).

وهذه مدرسة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم تقوم على مكارم الأخلاق، وحُسن الخُلق، فلا غَرْوَ أن ترى الله سبحانه يأمر رسوله بأن يتلوَ على أصحابه ما يُهذِّب نفوسهم؛ لتَشيع المودة والرحمة.

يا محمد، { قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ،
عليهم أن يتلمَّسوا أحسنَ القول وأطيب الحديث، فالكلمة الطيِّبة صدقة؛
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24﴾}(إبراهيم).

وهذا هو منهج الله الذي أمَر عباده أن يتَّبعوه، ليس مع بعضهم البعض فقط، ولكن في دعوتهم إلى الله أيضًا؛ ليكونوا نموذجًا يُحتذى ونورًا يُهتدى إليه، قال تعالى:

{ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (125﴾}(النحل).

{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (46﴾}(العنكبوت).

{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96﴾}(المؤمنون).

{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا (33﴾}(فصلت).

ما أحسن الكلمة الطيبة! وما أجمل وَقْعها على النفوس!

وما أعظم أن يقول المرء التي هي أحسن!

• أن يقول التي هي أحسن إذا حكَم بين الناس.

• وأن يقول التي هي أحسن إذا أمَر الناس بالمعروف.

• وأن يقول التي هي أحسن إذا تكلَّم.

• وأن يقول خيرًا أو ليَصمُت.

{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ...(83﴾}(البقرة).

ويجب ألاَّ نُبادل الناس بالإساءة إساءة؛ بل الأحسن والأفضل والأقوم، أن نُبادل بالسيئة الحسنة ؛ { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ (178﴾}(البقرة) ،
{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34﴾}(فصلت).

ما أحسن أدبَك لنا يا ربَّنا! وما أعظمَ منهجك الذي رسَمتَ لنا!



,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

 

13 ـ قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2﴾}(الحج).

تبدأ الآية الكريمة بخطاب الناس جميعًا - مسلمهم وكافرهم، المُطيع والعاصي - ليَلتفتوا إلى ما يأتي بعد النداء؛ ليَتنبَّهوا، ولتتيقَّظ مشاعرهم، وتتفتَّح عقولهم، وتَصحو ضمائرهم وقلوبهم لهذا الأمر عظيمِ الشأن، بالغِ الخطر؛ ليَتَّقوه، ويَحترسوا منه.

{ اتَّقُوا رَبَّكُمْ } ؛ أي: احترسِوا بطاعته من عقوبته، واحْذَروه من أن تتركوا أوامره، وتَفعلوا ما نهاكم عنه؛ حتى تكونوا أهلاً لرحمته، ومُستحقِّين لمغفرته في يوم يَشيب فيه الولدان، وتُبَدَّل الأرض غير الأرض والسماء، وما يحدث في الدنيا من خرابٍ وتدمير يملأ القلوب رُعبًا وفزعًا، فإن ما سيحدث في أوَّل الساعة أمرٌ رهيب، مثَّله الله لنا بما تَفهمه عقولنا، وتتصوَّره مداركنا، وتَستوعبه أحاسيسُنا، وقد مرَّ على الإنسان بعض نُذُره في حياته الدنيا وهو على بيِّنة منه؛ لئلا يكون للناس على الله حُجَّة يومها؛ إذ { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ }: هولٌ كبير، وخَطْب جليل، وطارق مُخيف، وحدَثٌ هائل، والزلزال هنا لعلَّه ما يحدث للنفوس من فزعٍ ورُعب، ولقد صوَّرت الآيات ذلك أصدقَ تصويرٍ وأحسَنه وأرْوَعه؛ لأن الناس يوم يَرونها { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى } ، فكلُّ امرئ بأمر نفسه مشغول مذهول، فتَذهل كلُّ امرأة عن أحبِّ الناس إليها، وتَغفل كلُّ مرضعة عن رَضيعها مَن هَولِ ما ترى، بل تُسقط الحامل جنينها قبل موعده من شدَّة الهول والخوف والاضطراب.

ثم رَسَمت الآية صورة الناس في شدَّة اضطرابهم، وذهولهم وزَيَغان عيونهم، وغياب أذهانهم؛ حيث { تَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى } ، وهذا تصوير لتقريب المعنى وتشبيه الصورة القائمة بالصورة المعهودة؛ إذ إن المسألة ليست خمرًا، ولكنَّهم كأنهم سُكارى، وهي مسألة نفسية حادثة من شِدَّة الهول والفَزَع، والزَّيغ ووَقْع الصدمة، والخوف من العذاب الشديد، وكلها ظواهر علميَّة تدلُّ على صِدق نبوَّة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم الذي عاش في بيئة لا تعرف مثل هذا؛ فسبحانك ربَّنا، عَلَّمتنا ما لَم نكن نعلم، وأرْسَلت فينا أُمِّيًّا يُعلِّمنا الكتاب والحِكمة؛ إنَّك أنت العليم الحكيم.



,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,



 

14 ـ قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3﴾}(الحج).

هناك خَلْق جاحدون، يدَّعون العلم والمعرفة وهم في غفلة وجهل عظيمٍ، يَسْعَون في الأرض فسادًا؛ ليَصدوا عن دين الله، وهم يَلَجُّون في آيات الله بالباطل، ويُزَخْرِفون القول، ألا ساء ما يفعلون!

هؤلاء الخَلْق ألْغَوا عقولهم، وأقاموا أدلَّتهم على وهمٍ، فمنهم مَن يَستبعد الحياة بعد الموت، ويُنكر البَعث؛ حيث يَرَون أنه من المستحيل أن يَحيا الإنسان بعد ما يَبلى ويَصير عظامًا وتُرابًا، ألا ساء ما يحكمون!

هؤلاء الخلق، لو أنصَفوا واستخدموا عقولهم المُغَيَّبة، لعَلِموا أن الذي أوجَد آدمَ من العدم وخلَقه من تراب، القادر على أن يَبعثه من موته، وهو عليه أهونُ، فكيف لا يستطيع مَن أحدَث الناس من عدمٍ؟! هل يَمتنع عليه إحياؤهم مرة أخرى؟! ولقد حاجَّهم الله بقوله: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62﴾}(الواقعة).

وهذا عتاب عظيم، لا يَعْقِله إلاَّ كلُّ ذي عقلٍ سليم، وفكر مستقيمٍ، فكيف يُنكرون هذا وهم يعلمون كيفيَّة النشأة الأولى؟ أليس هو الله خالقهم من العدم؟!

{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (27﴾}(الروم).

إنهم قوم مغالطون، يتَّبعون كلَّ شيطان مَريد - وهو العالي المتمرِّد - من الإنس والجن، وهذا حال أهل الضلال والغَي، والأهواء والزَّيغ، بغير حجة دامغة ولا علمٍ صحيح.

لقد نُشِر في جريدة الأهرام يوم الجمعة 11/ 4/ 1997م، أن فريقًا من العلماء قد اكتشَفوا أن الناس جميعًا ينتمون إلى أمٍّ واحدة "حوَّاء"، وهي التي خلَقها الله من آدمَ!

إنَّ أمرك عظيمٌ يا رسول الله، أيها النبيُّ الأمي، الذي أخبَرنا بذلك مُصدِّقًا لِما بين يديه من آيات الله، فهل بعد نتائج العلم المصدِّقة لقول الله من دليلٍ؟!

{ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81﴾}(الإسراء).

 

 

تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك


 

15 ـ قال تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57 )}(القصص).

سبحانك ربَّنا، أرْشَدتنا إلى الحقِّ، وقولك الحق، وأنت أصدقُ القائلين، تقول مخاطبًا نبيَّك وحبيبَك محمدًا: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } ؛ أي: ليس أمر الهداية بيدك، عليك أن تُنذر، وعليك أن تُذَكِّر، وعليك أن تدعو إلى الله، والله - سبحانه - يهدي إلى الإيمان مَن يشاء وهو أعلمُ بالمُهتدين.

لقد قال تعالى في موضع آخر يؤكِّد هذا المعنى: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ..(272﴾}(البقرة) ،
وقال تعالى: { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103﴾}(يوسف) ،
وقال تعالى: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8﴾}(فاطر).

وهكذا يُسَرِّي الله عن نبيِّه حُزنَه على مَن لَم يؤمن به، وخصوصًا حُزنه على عدم إيمان عمِّه أبي طالب؛ فقد ثبَت في الصحيحين أن آيتَي القَصص نَزَلتا في أبي طالب لَمَّا حضَرته الوفاة؛ حيث دعاه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فاستمرَّ على كُفره، ولله الحِكمة البالغة في ذلك!

ولقد احتجَّ الكفار على عدم اتِّباعهم الهدى مع الرسول، بخشيتهم أن يَلحقهم الكفار حولهم بالأذى والمُحاربة، أو يتخطَّفوهم من أرضهم، لقد كذَبوا والله، وما هذا بعُذرٍ، إنه عذر أقبحُ من ذنبٍ، وبيَّن الله أنَّ ما اعتذَروا به كذبٌ وباطل؛ لأن الله مكَّن لهم حرَمًا آمِنًا، كيف يكون آمنًا لهم في كُفرهم، ولا يكون آمِنًا لهم في حالة إيمانهم؟!

نعم إنه حرَمٌ آمِنٌ بمعنى مأمون، ومَن دخَله كان آمنًا، ورِزَقه مكفول؛ { يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ..(57﴾}(القصص).
تجد فيه من سائر الثمرات، ومن كلِّ جهات الأرض، واستعمَل الحقُّ الفعل: { يُجْبَى } ولَم يقل: يُحمل، أو يُؤْتَى؛ لأن الجباية تكون قسرًا، بمعنى أنَّ الثمار تُجبَى إلى الحرَم؛ رَضِي المشركون أو لَم يرضوا؛ لأن هذه إرادة الله، وبهذا تميَّز الحرم عن غيره ،
{ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا } ؛ أي: من عندنا، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } ؛
ولهذا يقولون ما قالوا، والله أعلم.

 

16 ـ قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72﴾}(القصص) .

ما زالت أدلة وجود الله تَتْرى، وكذا أدلة قُدرته.

كلها تدلُّ على أنه الواحد الأحد المُتفرِّد، لا إله إلا هو الواحد الصمد، يَضرب لنا الأمثال؛ لعلَّنا نتدبَّر ونَعقِل.

ومن ذلك اختلاف الليل والنهار وتعاقُبهما، وما فيهما من قُدرة بالغة وفضلٍ عظيم.

ما بالك إن جعَل الله الليل سرمدًا إلى يوم القيامة - وهو قادرٌ على ذلك - هل ترى من يستطيع أن يُغيِّر ويأتي بضياء يُزيل ظُلمة الليل؟

والسرمد في لسان العرب: دوام الزمان من ليلٍ أو نهار، وليل سرمد: طويل دائمٌ لا يَنقطع، وكذلك الأمر إن جعَل الله النهار مُمتدًّا لآخر الزمان، مَن غيره يأتينا بليلٍ نستريح فيه من العَناء والمَشقَّة، وكيف يكون حالنا لو عِشنا نهارًا طويلاً لا يَعقبه ليلٌ؟!

وحِكمة القرآن وبلاغته تتجلَّى في اختيار لفظ: { تَسْمَعُونَ } ، في قوله تعالى: { أَفَلَا تَسْمَعُونَ } ؛ حيث اختار السمع مع الليل الذي تَصعب الرؤية فيه، واختياره لفظ: { أَفَلَا تُبْصِرُونَ } مع النهار؛ حيث يُتيح ضياؤه لنا رؤية جيدة، تستخدم فيها الأبصار والعيون.

إن في خَلْق الله الليلَ والنهار وتعاقبهما رحمةً من الله بنا؛ حتى نبتغي من فضل الله نهارًا، ونستريح من عَناء ذلك ليلاً، وإلاَّ شَقَّ علينا الأمر.

أفلا نتدبَّر؟ أفلا نُبصر؟ أفلا نشكر صاحب النِّعم القادر الحق؟

قال تعالى: { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73}(القصص) .

أحمدُك ربي وأشكرك، وأُثني عليك بما أنت أهله.





,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
 

17 ـ قال تعالى: { الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5﴾}(الروم).

نزَلت هذه الآيات الكريمة حين غلب الفرسُ الرومَ، وهي نوع من التحدِّي القاهر للكفَّار، الذين فَرِحوا بنصر المشركين على الروم أهل الكتاب، والتحدي هنا ظاهر واضحٌ؛ حيث أنزَل الله الآيات في قرآن يُتلى على ألْسِنة المؤمنين، ويَسمعه الكافرون، ولا يُمكن أن يكون هذا القرآن من بشر؛ إذ كيف يتحدَّى بحدثٍ لَم يحدث؟

بل إنه حدَّد وقت النصر على الفرس ببضع سنين، وهو عدد أقلُّ من عشرة؛ لذلك فهو تحدٍّ قاهر بحدثه وزمانه، ولا يكون هذا إلاَّ من إله قادرٍ عالِم، لا يحدُّه زمان ولا يُعجزه مكان، فهل كان هؤلاء القوم من الكفار مُغَيَّبين؟ كيف يُغامر محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بدعوته وسُمعته ويُعلن هذا، إن لَم يكن هذا وحيًا يُوحى من عزيز مُقتدر؟!

وفي حديثٍ عن ابن مسعود: "لَمَّا نزَلت ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ... ﴾ الآيات، قالوا - أي: الكفار -: يا أبا بكر، إنَّ صاحبك يقول: إنَّ الروم تظهر على فارس في بضع سنين، قال: صَدَق، قالوا: هل لك أن نُقامرك، فبايَعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين، فمضَت السبع ولَم يكن شيء، ففَرِح المشركون بذلك، فشقَّ على المسلمين، فذَكروا ذلك للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: ( ما بضع سنين عندكم؟ )، قالوا: دون العشر، قال: ( اذهب فزَايدْهم وازْدَد سنتين في الأجَل )، قال: فما مَضت السنتان حتى جاءَت الرُّكبان بظهور الروم على فارس، ففَرِح المؤمنون بذلك"؛ أخرَجه ابن جرير.

الويل لكم أيها المشركون، بل الويل والثبور، وبعد ذلك أفلا تَستحون؟!

أمَّا ﴿ الم ﴾ التي في أوَّل السورة، فأعدل الآراء فيها أنها حروف مُقَطَّعة يَعلم الله سرَّها، أو هي قسَمٌ يُقسِم به المولى عزَّ وجلَّ أو هي تَحدٍّ للمشركين بأن هذا القرآن مؤلَّف من هذه الحروف التي تكتبون بها، ومع ذلك لا تستطيعون المجيء بمثله.

واعْلَم أنَّ كلمتَي { قَبْلُ } و { بَعْدُ } مَبنيَّتان على الضم في محلِّ جرٍّ؛ لأنهما إذا جُرِّدتا من الإضافة بُنيتا على الضم، وليست الضمة هنا علامة رفعٍ.

{ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ } ، والله ينصر مَن يشاء بنصره، وهو { الْعَزِيزُ } القوي الذي سينصر المؤمنين على الفرس والروم كلاهما بعد ذلك، وهو { الرَّحِيمُ } بعباده المؤمنين.




,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

 

18 ـ قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُم (22﴾}(الروم) .
تعدَّدت الآيات التي يَضربها الله - سبحانه وتعالى - للناس؛ للتدليل على قدرته وعَظَمته، وتفرُّده بالألوهيَّة، ولكن هل يتدبَّرها الناس؟ هل يَعقلها المنكرون؟
إنَّ في ذلك لآيات لأُولِي الألباب.

سبحانك ربي وهَبْتَنا جميعًا ألبابًا وعقولاً، وجَعَلتها حجَّة علينا، ومع ذلك هل نستخدم ألبابَنا وعقولنا لنهتدي إليك ونعتصم بك؟
ومع أنَّ الأدلة واضحة لا تَخفى على ذَوِي الأبصار، إلاَّ أنها عَمِيت وضَلَّت ضلالاً بعيدًا.

في تلك الآيات الدالة على ربوبيَّة الله وتفرُّده بالوحدانيَّة، خلق السموات والأرض؛ { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِه...(11﴾}(لقمان) .
لو اجتمَع الخَلق جميعًا، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا، ما خَلَقوا ذبابة، ولو أخَذ الذباب منهم شيئًا، ما استطاعوا له ردًّا.

قال تعالى في تحدٍّ واضحٍ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73﴾}(الحج) .
أفلا يؤمنون، وعن غيِّهم يرجعون؟
ومن آيات الله على قُدرته بالألوهيَّة:
اختلاف ألْسِنة البشر، فعلى الرغم من أنهم جميعًا من أب واحدٍ وأم واحدة - وكان الله قادرًا على أن يجعلَ لهم لغة واحدة، أو حتى لا يَنطقوا كغيرهم من خَلْق الله - فإنَّ الله - جَلَّت قُدراته - أعمَلَ فيهم آياته وجَعَلهم ينطقون، بل جعَل لهم لغات متعدِّدة مُتباينة؛ لتكون آية على قُدرته وعَظَمته، ولكنَّهم لا يتأمَّلون ولا يَعقلون.
ومن آياته الناطقة بعَظَمته وتفرُّده: اختلاف ألواننا، فعلى الرغم من توحُّدنا في الجوهر، فإننا نسخة واحدة، إلا أن قُدرة الله جعَلَت لنا ألوانًا مختلفة لا تُنتقى، فعلى مستوى الأسرة الصغيرة تتباين الألوان وإن تقارَبت الملامح، فما بالك بألوان البشر في كل الدنيا؟!

اذهَبْ إلى الحج في صعيد عرفات الطاهر - التي تجمع فوق ترابها ملايين البشر من كلِّ صقعٍ - لتَرَى آية الله في اختلاف ألْسِنتنا وألواننا، ومع ذلك كلنا نتَّجه إلى خالق واحدٍ لا إله إلا هو، ونُسَبِّح الله العظيم الذي تفرَّد بالعَظَمة والقُدرة والألوهيَّة، إنَّ في ذلك لآيات لأُولِي الألباب.



,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
 

19 ـ قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34﴾}(لقمان) .

سبحانَّك ربي، لا عِلْم لنا إلاَّ ما عَلَّمتنا.

علَّمتنا أمورًا، واختَصَصت نفسك بأمور لا يَعلمها إلاَّ أنت، وفي الآية الكريمة استأثَرْت يا ربَّنا بخمسة أمور، فلا يَعلمها أحد، إنها مفاتيح الغيب: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ.. (59﴾}(الأنعام) ، وقد ورَد في السُّنة تسمية هذه الخمس بمفاتيح الغيب؛ روى الإمام أحمد عن أبي بُريدة، سَمِعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ( خَمس لا يَعلمهنَّ إلاَّ الله عزَّ وجلَّ -: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم :
( مفاتح الغيب خمس، لا يَعْلمهنَّ إلاَّ الله وذكَر الآية )( أخرَجه البخاري، والإمام أحمد ) .

وعن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية، فقال: إن امرأتي حُبلى، فأخْبِرني متى تَلِد؟ وبلادنا مُجدبة، فأخْبِرني متى يَنزل الغيث؟ وقد عَلِمت متى وُلِدْتُ، فأخْبِرني متى أموت؟ فأنزَل الله عزَّ وجلَّ : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ... }.

وعن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " مَن حدَّثك أنه يعلم ما في غدٍ، فقد كَذَب، ثم قرَأت { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا }.

والخلاصة أنَّ الله عنده عِلم الساعة، لا يُجلِّيها لوقتها إلاَّ هو، وكذلك إنزال الغيث لا يَعلمه إلا الله، ولكن إذا أمَر به، علمته الملائكة المُوكَّلون بذلك، ومَن يشاء الله من خَلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام أحد سواه؛ أذكر أو أُنثى؟ أحمر أم أسود؟ شَقِي أم سعيد؟ ولكن إذا أمَر بذلك، عَلِم الملائكة المُوكلون بذلك، وكذلك ما تدري نفس ماذا تكسِب غدًا، أخيرًا أم شرًّا؟ وكذلك ماذا تَكسِب في دنياها وأُخراها.

وهكذا الأمر الخامس: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } ؛ أي: ليس لأحدٍ من الناس أن يدري أين مَضجعه من الأرض؛ أفي بحر أم يَمٍّ؟ أو سهلٍ أم جبلٍ؟

وقد جاء في الحديث: ( وإذا أراد الله قَبْضَ عبدٍ بأرض، جعَل له إليها حاجة )( أخرَجه الطبراني) .

فسبحانك ربَّنا، لا عِلم لنا إلاَّ ما عَلَّمتنا؛ إنَّك أنت علاَّم الغيوب.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك


20 ـ قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56﴾}(الأحزاب) .

أمَرَنا الله سبحانه وتعالى بالصلاة والسلام على سيِّدنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم لِما في ذلك من فوائد عظيمة للمُصَلِّين والمُسَلِّمين عليه، وأهمها (راجع في ذلك: "غنية المسلم فيما يحتاج إليه"؛ للشيخ جودة قاسم) :

1 ـ الامتثال لأمر الله - سبحانه وتعالى.

2 ـ موافقته سبحانه وتعالى في الصلاة عليه، وإن اختَلَفت الصلاتان؛ فصلاتُنا عليه دعاء وسؤال، وصلاة الله عليه ثناءٌ وتشريف.

3 ـ يحصل المصلي عليه - مرَّة واحدة - على عشر صلوات من الله.

4 ـ يُرفع المُصلي عليه عشر درجات، ويُكتب له عشر حسنات، وتُمحى عنه عشر سيِّئات.

5 ـ إذا صلَّى الداعي على الرسول قبل دعائه وبعد دعائه، فإنه يُرجى إجابة دعائه؛ لأن الصلاة على الرسول تُرفع إلى ربِّ العالمين، وتَصعد إليه، مع ما بينها من دعاء.

6 ـ إنها سببٌ لشفاعته صلَّى الله عليه وسلَّم للمُصلي يوم القيامة.

7 ـ إنها سببٌ لقضاء الحوائج.

8 ـ إنها سببُ تذكُّر العبد ما قد نَسِيه.

9 ـ إنها زكاة للمصلي وطهارة له.

10 ـ إنها تقوم مقام الصَّدقة لدى المُعسرين.

11 ـ إنها سببٌ لنَفْي الفقر ونفي البخل عن المصلي.

12 ـ إنها سبب لردِّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم على المصلي والمُسَلِّم عليه.

13 ـ إنها سببٌ لمحبَّة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهداية للعبد وحياة لقلبه.

14 ـ إنها سببٌ لعَرْض اسم المصلي على الرسول الكريم، وسبب لذِكره عنده.

15 ـ إنَّ الصلاة عليه صلَّى الله عليه وسلَّم أداء لأقلِّ القليل من حقِّه علينا، وشكر الله على هذه النعمة الكبرى،

والله أعلم.



<<<<<<<<<<<<

21 ـ قال تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72﴾} (الأحزاب) .

حقًّا وصدقًا ما تقول يا ربَّنا؛ أنت خلَقتنا وتَعلم ظاهرنا وباطنَنا، فماذا نقول بعد قولك على الإنسان:
{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً } ؟

والأمانة في الآية الكريمة عند ابن عباس - رضي الله عنهما - (الطاعة)، أو أنها الفرائض.

وهي (الفرائض) أيضًا عند مجاهد والضَّحَّاك، والحسن البصري.

وهي (الدين والفرائض والحدود) عند قَتادة.

وهي (الصلاة والصوم، والاغتسال من الجنابة) عند زيد بن أسلم.

وظاهر هذه الأقوال يومِئ بأنها تتَّفق حول أنَّ المقصود بالأمانة - التي عرَضها الله على السموات والأرض، والجبال والإنسان - التكليف وقَبول الأوامر والنواهي.

والمعنى بوجه عام أنَّ الله - سبحانه وتعالى - عرَض (الطاعة) أو التكليف على السموات والأرض والجبال، قبل أن يعرضَها على آدم، فلم يُطِقْنَها، وأشْفَقْنَ على أنفسهنَّ من الإخلال بحفظها، ثم عرَضها على آدم، فقَبِلها.

قال ابن عباس عن الأمانة: (الطاعة) عرضَها عليهم قبل أن يعرضَها على آدم، فلم يُطِقْنَها، فقال لآدم: إني قد عرَضت الأمانة على السموات والأرض والجبال، فلم يُطِقْنَها، فهل أنت آخذٌ بما فيها؟ قال يا ربُّ: وما فيها؟ قال: إن أحْسَنت جُزِيت، وإن أسأْتَ عُوقِبْتَ، فأخَذها آدم فحَمَلها، فذلك قوله تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً }.

و{ ظَلُومًا جَهُولاً } من صِيَغ المبالغة في الظلم والجهل.

لقد تفهَّمت السموات والأرض والجبال أمرَ الله، وعَلِمت قَدرها، وأحسَّت أنها لا صبرَ لها ولا طاقة على أداء الأمانة، واختارَت السمع لله والطاعة.

أمَّا آدم، فعلى الرغم من عِلمه من أنه إن قام بذلك أُثيب، وإن ترَكها عُوقِب، فإنه قَبِلها على ضَعفه وجَهده، إلاَّ مَن وَفَّقه الله وأعانَه عليها، اللهمَّ وفِّقنا إلى طاعتك والقدرة على حَمْل أمانتك.



<<<<<<<<<<<

 

22 ـ قال تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}(يس) .

سبحان ربي العظيم، هو القاهر فوق عباده، إذا أراد شيئًا فيكفي أن يقول له:
{ كُنْ } { فَيَكُونُ } ؛ قال كثير من الصالحين: إنما أمره مُحقَّق لا محالة، قبل أن يَنطق النون من { كُنْ } ؛ أي: بين الكاف والنون".

وأرجَف المرجفون، وأنكر المنكرون؟! واعجبًا من أمرهم.

وفي أنفسهم أفلا يُبصرون، أفلا يتأمَّلون، أفلا يتذكَّرون أو يَعقلون؟!

لقد خلَق الله الناس، وسخَّر لهم ما يُيسِّر لهم حياتهم، فصار الناس فيما يَسَّر الله لهم يقولون له: "كن، فيكون"، قبل أن ينطقَ الإنسان لفظ "كن"، إذا أراد الوقوف تَمَّ له ما أراد، وإذا أراد أن يَضرب، فبمجرد الرغبة في ذلك امتدَّت يداه لتحقيق ما يريد، وإذا أراد مَشيًا أو حركة، أو جَريًا أو نومًا، فبمجرد الإرادة فإن كلَّ شيء مُحقَّق، لا يعصي له أمرًا ومن دون تفكيرٍ.

فبالله، كيف يكون الأمر مع الخالق العظيم الذي أحسَن كلَّ شيء صُنعًا؟!

ألا خَسِئ المنكرون، وساء فِعْل المُرجفين، وسبحان الله العظيم.

وقد أكَّد الله سبحانه هذه القدرة في القرآن في أكثر من موضع، لعلَّ الخَلْق يتَّعظون ويُدركون، فيؤمنوا؛ قال تعالى:

{ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117﴾}(البقرة) .

﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59﴾}(آل عمران) .

﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ (73﴾}(الأنعام) .

﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40﴾}(النحل) .

﴿ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35﴾}(مريم) .

﴿ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68﴾}(غافر) .

وصدَق الله وكذَب الكافرون، ما أصدَقَك يا ربَّنا قيلاً!

<<<<<<<<<<<<<<

 
23 ـ قال تعالى: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21﴾}(فصلت) .

هذا مصير أعداء الله المجرمين الذين أنكروا آيات الله وأنكروا البعث، فعاثوا في الأرض فسادًا، ونَسُوا الله فأنساهم أنفسهم، وغرَّتهم الحياة الدنيا، وكذَّبوا المرسلين، لقد جاءهم وعدُ الله، وحدَث لهم ما كانوا يُنكرون.

{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } ؛ أي: يَحشرهم زبانية جهنَّم، ويَجمعونهم، أَوَّلهم على آخرهم، ويَسوقونهم إلى النار؛ كما قال تعالى:
{ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86﴾}(مريم) ؛ أي: عطاشًا يسوقونهم :
{ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا }، ووَقَفوا على حافِتها، وحتى يُلزمهم الله الحجَّة:
{ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.

سبحان ربي القادر العظيم.

لقد قَهَر لهم السمع والبصر والحواس في الدنيا، وجعَلها تأْتَمر بأمرهم، وإن كان خطأً، وإن كان شِركًا، إنها تفعل ما تُؤمَر به، فأَسَاؤوا استخدامها وهي مقهورة لهم.

أمَّا في الآخرة، فقد رُفِع عنها التكليف وصارَت حرَّة تَشهد بما فعَلت للمُسيئين، لا تترك صغيرة ولا كبيرة، إلاَّ شَهِدت بها، وبذلك ينخرس المجرمون، وليتهم يسكتون! بل نظروا إلى جنودهم في حسرةٍ وزَيْغ وقالوا معاتبين : { لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا } ، كيف لا يشهدون وهم خَلْق من خَلق الله مثلكم، سُخِّروا لخدمتكم، وأَسَأتُم التسخير؟!

ولقد نَطَقت جلودهم نُطقَ الحقِّ الذي كانوا به يكذبون: { قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } .

لقد أنطقَكم أنتم أوَّل مرَّة، وأنطَق خَلْقه كلَّهم يوم القيامة، وهو قادر عليه:
{ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .

{ فسبحان الذي بيده ملكوت كلِّ شيء وإليه ترجعون (83) }(بس) ،
وساء فِعْل المجرمين.



<<<<<<<<<<<<<

 


24 ـ قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39﴾}(فصلت) .

ما أكثر آيات الله التي تَنطق وحدانيَّته وقدرته.

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)}(الرعد) .

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذكرى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21﴾}(الزمر).

هي فقط آيات لمن يُفكِّر، وآيات لذَوِي العقول.

أمَّا الذين ألغوا عقولهم، وعاشوا كالأنعام - بل هم أضلُّ سبيلاً - وأمَّا الذين لا يُفكرون وعاشوا كالسائبة لا فِكْر لهم، وأَلْغوا العقول وعاشوا في لَججٍ وإنكار، يقولون:
{ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37﴾}(المؤمنون) ، وأنكروا النشور، فإنَّ الله ما زال ولا يزال يضرب لهم الأمثال؛ لعلَّهم يَهتدون، ولعلهم يرجعون.

انظروا إلى الأرض التي تسيرون عليها، ففيها آية على البعث والنشور، فعلى الرغم من أنكم ترونها هامدة لا حياة فيها، كأنها جثة هامدة ساكنة، حتى إذا أتاها إذنُ الله، وأنزَل عليها الماء، فإنها تدبُّ فيها الحياة والحركة، وتخرج من بطنها زرعًا أخضرَ بهيجًا، وزهرًا ذا ألوان مختلفة.

بل إنَّ الجبال الجاثمة الصَّلدة، التي كأنها في مواتٍ منذ آلاف السنين، إذا ما أنزَل الله عليها الماء، تراها كأنها بُعِثت من مَرقدها، وأخرَجت ما في باطنها، وصارَت في أحسن صورة، وأجَل بهاء.

أيها المنكرون، ألا تَقيسون هذا على ذاك؟ ألا تتفكَّرون؟ ألا تعقلون؟ أليس في ذلك مثلٌ لقدرة الخالق على إحياء الموتى؟! بلى ؛
{ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39﴾}(فصلت) .

وتبارَك الله أحسنُ الخالقين.

يتبع

عن موقع شبكة الألوكة الشرعية

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

25- قال تعالى: ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾ [الزخرف: 51].

 

هذه مقولة ظالِم لنفسه، ملَّكه الله رقابَ خَلْقه، فبغى عليهم، وأنعَم الله عليه، فطَغى، وأمْهَله، فخُيِّل إليه من طُغيانه وبَغيه أنه إله، إنه فرعون - قاتَله الله - بنى قصره من خير الله فوق نهرٍ يجري بأمر الله، وحكَم شعبًا من خَلْق الله، فنَسِي نفسه وادَّعى أنه الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله، إنه أذلَّ أعناق الرجال، واستحيى النساء، وذبَح الأطفال؛ ليَخلو له الأمر بلا منازع، الجبار العظيم القاهر فوق عباده.

 

ذبَح الأطفال؛ لأن عرَّافيه قالوا له: سيولَد طفل من بني إسرائيل، سوف تكون نهايتك على يديه، ففعَل فَعْلته؛ ليكون في مأمنٍ، أنه يؤتَى الحَذِر من مَأْمنه، فربَّى ذلك الطفل "موسى" في بيته، وتحت رعايته وأُبوَّته؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً؛ ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8].

 

ولقد كان فرعون سادرًا في ظُلمه وبَغيه وقَهره للناس؛ ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ﴾ [القصص: 4]، فساء فِعْل الظالمين، وحينما جاءه موسى بالبيِّنات رَكِب رأسه، وتعجَّب من الأمر؛ إذ كيف يدعو موسى إلى إله غيره، فأمَر أن يُبنى له صرحٌ عالٍ؛ ليرى إله موسى، فقال: ﴿ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ [القصص: 38].

 

وقال: ﴿ لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ [غافر: 36 -  37].

 

لذلك حينما آمَن الناس مع موسى، دارَت رأس فرعون، ورَكِبه الشيطان، فذكَر الله على لسانه أنه قال: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38].

 

ولقد لخَّص الله حال فرعون في سورة النازعات؛ حيث قال تعالى لموسى: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ [النازعات: 17 - 26].

 

وجاءَت نهاية الظالمين في قوله تعالى: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90].

 

هكذا بعد أن رأىته بنفسه تهاوَى من كبريائه وظُلمه سحقًا، وهل ينفع ندمُ المُتكبِّرين؟! قال الله له: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 91 - 92].

 

 

 

26- قال تعالى: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾ [الفتح: 1 - 3].

 

هذه مقدمة سورة الفتح التي قال الرسول الكريم في حقِّها بعد نزولها عليه: ((نزَل عليّ البارحة سورة هي أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾)) أخرَجه أحمد، ورواه البخاري.

 

﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾؛ أي: نصَرناك يا محمد نصرًا ظاهرًا بيِّنًا، حينما تَمَّ لك صُلح الحديبية، فإنه ترتَّب عليه خيرٌ كثير، وآمَن كثيرٌ من الناس، واجتمَع بعضهم ببعض، وتفاوَض المؤمن مع الكافر، وما سيترتَّب على هذا الفتح من عزٍّ للمؤمنين ونصرٍ لرسول الله الكريم.

 

﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾.

 

هنيئًا لك ومريئًا يا نبي الله، بيَّن الله - عزَّ وجلَّ - ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟

هكذا قال أصحاب رسول الله له حينما قرأ عليهم الآيات، فنزَلت عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 5].

 

لقد غفَر الله لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ومع ذلك روى الإمام أحمد عن المغيرة بن شُعبة أنه كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصلي حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: أليس قد غَفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! هل تعلم ماذا كان ردُّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!)).

 

صلوات ربي عليك يا رسول الله وتسليماته.

 

إنك لعلى خُلق عظيم، وإنك لسيِّد الشاكرين، وهذا من خصائصه - صلَّى الله عليه وسلَّم - التي لا يُشاركه فيها غيره، وما غفَر الله لأحدٍ قبله - فيما أعلم - ولا بعده ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.

 

وهذا تشريف عظيم لَم يَنله سواه من البشر، فهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيِّد ولد آدم في الدنيا والآخرة؛ ليتمَّ نعمته عليه في الدنيا والآخرة، ويَهديه صراطًا مستقيمًا، وشرعًا عظيمًا، ودينًا قويمًا؛ ﴿ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾.

 

وإنَّ الله ناصرك ومؤيِّدك - لخضوعك لأمره - على جميع أعدائه، نصرًا قويًّا حاسمًا، فيه عِزُّك الذي يترك في نفوس الكافرين المَذلَّة والهَوَان.

 

صدقت يا ربي، فقد نَصَرت رسولك والذين آمنوا معه نصرًا عزيزًا، وفتَحت له مكة بعد ذلك، فتَحت لرسولك - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتحًا مبينًا، ودخلَ الناس في دين الله أفواجًا، وخَسِئ الكافرون، وكانوا هم الخاسرين.

 

27- قال تعالى: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21].

 

الإسلام دين الفطرة، يدعو إلى التأمُّل، واستخدام العقل فيما حولنا من ملكوت السموات والأرض، ولقد دعا القرآن الكريم الناس إلى تأمُّل خَلْق السموات والأرض، والليل والنهار، والحياة والموت، ولقد استخدَم مرات كثيرة الفعل: "ينظرون" من النظرة بالعين، نحو قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 - 20].

 

وفي النظر دعوة لاستعمال العين المجرَّدة في هذه الأشياء؛ لتأمُّل خَلْقها، والاستدلال على خالقها - سبحانه، ومرات كثيرة أخرى يستخدم القرآن الفعل: "يُبصرون"، وهذا الفعل وإن كان فيه معنى النظر والإبصار بالعين، إلاَّ أنَّ معنى التأمُّل فيه أكثر، فعادةً يُستخدم في الدعوة إلى استخدام البصيرة، وليس الإبصار؛ لتأمُّل ما لا يمكن أن تقعَ عليه العين المجرَّدة.

 

وهذه الآية الكريمة تَستصرخ خَلْق الله أن يُبصروا ما بداخل أنفسهم، ففيه أدلة كافية على قدرة الله ووحدانيَّته، وإذا لَم يَكفهم تأمُّل ما حولهم، فعليهم بتأمُّل أنفسهم؛ كيف يَتنفسُّون؟ وكيف تعمل قلوبهم؟ وكيف تُفكِّر عقولهم؟ وكيف يَهضمون؟ وكيف يُخرجون ما في بطونهم؟ وكيف تعمل أكبادهم وأمعاؤهم وكُلاَهم؟ وكيف ينامون ويستيقظون؟ وكيف يتناسلون ويحبون ويكرهون؟ هل هذا كله مَحض صدفة؟ أم أنَّ له خالق مُدبِّر قادرٌ، أحسَن الصُّنع وأحكَم الخَلق، وبذلك يكون جديرًا بالتوحيد والشكر والحمد؟!

 

28- قال تعالى: ﴿ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴾ [الرحمن: 24].

 

سبحان الخلاَّق العظيم، يَخلق ما لا يعلمون.

 

نزَلت هذه الآية وأخرى مثلها، هي قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴾ [الشورى: 32]، نزَلتا على رجل أُمِّي لَم يَخرج من صحراء العرب، ولَم يرَ بحرًا، ولَم يستعمل الفُلك، حتى الفلك التي كانت في وقته مجرَّدَ قوارب، لَم يكن لها شأنُ ما نراه اليوم يَمخر عُباب البحر والمحيطات، ومع ذلك أنبأهم العلي القدير بأمر تلك الفلك التي هي كالجبال في ضَخامتها، وأنها من آيات قُدرته - سبحانه جلَّ وعلا.

 

ومن الغريب أن أصحابه البدو لَم يُدهشوا لذلك، ولَم يسألوا عنه؛ إذ كيف يسألون وهم يعلمون أن في القرآن خبرَ مَن قبلهم، ونبأَ مَن بعدهم، وهم به مؤمنون ولكلماته وآياته مُصدِّقون؟!

 

الجواري هي الفلك، وهي كالأعلام؛ أي: كالجبال الشامخة، تجري في البحر آيةً من آيات الله، لَم يَروها، ولَم يَخطر على بالهم كيفيَّتها، ومع ذلك آمَنوا وصدَّقوا.

 

وتحقَّق الأمر كفَلق الصُّبح في عصرنا الحديث، فمنها البوارج، وحاملات الطائرات، وقاذفات اللهب، وناقلات البترول العملاقة، وعبارات النقل والشحن، وهي فعلاً كالأعلام - الجبال الشامخة - تعبُّ في مياه البحار والمحيطات عبًّا، بل تكاد الجبال تَصغر دونها.

 

نزَلت هذه الآية على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قرآن يُتلى، وفي تَحدٍّ واضح لكلِّ ذي لُبٍّ وعقلٍ، وتحقَّق الأمر جليًّا بعد ما يزيد على ألف سنة، فأين ذهَب المنكرون؟ أفلا يُفكِّرون، وبالله يؤمنون؟ إنَّك لا تهدي مَن أحبَبْتَ، ولكن الله يهدي مَن يشاء، وسبحان ربي العظيم.

 

29- قال تعالى: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ﴾ [الرحمن: 33].

 

هذه آية من آيات قدرة الله، يتحدَّى بها خَلقه من جنِّه وإنسه، وأنه - سبحانه وتعالى - مُحيط بهم، لا يستطيعون منه فرارًا ولا هَربًا، وأنَّ حُكمه عليهم واقعٌ لا مَحالة، هكذا شاءَت مَشيئته، دنيا تعيشونها؛ فمنكم السعيد، ومنكم الشقي، وآخرة تُبعثون فيها؛ فإلى الجنة، أو النار، فأين المَهرب؟ لن تستطيعوا هربًا من أمر الله وقدره، ولن تَقدروا على التخلُّص من حُكمه، تَفِرون منه وإليه.

 

سوف يقع عليكم ما تُنكرونه من بعثٍ ونشور، كذِّبوا ما شئتُهم، فإنَّ أمر الله واقعٌ لا محالة، وإنَّ الحشر واقعٌ لا محالة، وسوف يُحيط بكم أمرُ الله لا محالة، يوم يقول الكافر المُنكر للبعث وقد رآه: ﴿ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40].

 

وحيث يرى الملائكة الأطهار مُحَدِّقين به من كلِّ جانب، مُحدِّقين به وبالخَلق أجمعين، سبعة صفوف من كلِّ جانب، فلا يقدر أحدٌ على ذهاب أو فرارٍ ﴿ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ﴾، لا يكون فرارٌ أو نجاة إلاَّ بأمر الله، إلاَّ مَن رَحِم ربي، وأَذِن له بالنجاة والخلاص، سبحانك ربي، لا فِرار منك إلاَّ إليك، ولا نجاة إلاَّ بإذنك.

 

30- قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ [القلم: 51].

 

ألا ساء فِعْل الكافرين!

 

يؤذون رسول الله بالقول، بألْسِنة حداد، ويؤذونه بالفعل والتآمُر والتربُّص به، ويؤذونه بالحسد؛ حسدًا من عند أنفسهم.

 

﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ﴾؛ قال ابن عباس ومجاهد: "ليزلقونك" ليُنفذونك بأبصارهم؛ أي: يَحسدونك لبُغضهم إيَّاك.

 

والمعنى عندي - والله أعلم - أنهم من حسدهم وشِدَّة بُغضهم، تكاد عيونهم تَخرق جسد الرسول الكريم من شِدَّة تسلُّطها عليه، وهذا المعنى قريب مما يقوله الناس: "كاد أن يأكلني بعينه".

 

وفي هذا دليلٌ على أنَّ العين إصابتها، وتأثيرها حقٌّ بأمر الله - عزَّ وجلَّ - فقد ورَد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعوِّذ الحسن والحسين، يقول: ((أُعيذكما بكلمات الله التامَّة من كلِّ شيطان وهامَّة، ومن كلِّ عين لامَّة))، ويقول: ((هكذا كان إبراهيم يُعوِّذ إسحاق وإسماعيل - عليهما السلام))أخرَجه البخاري.

 

وحسَد الكفَّار للرسول الكريم ناتجٌ عن سماعهم للقرآن الكريم، ولَم يَكتفوا بحسدهم له، فهم يَزدرونه ويَحسدونه بأعينهم، ويُؤذونه بألْسِنتهم، ويقولون: إنه لمجنون؛ أي: أصابَتْه جِنَّة، فهو يَهذي.

 

انظر كيف يُطيِّر الحقدُ العقول؟ وانظر كيف يزيغ الحسدُ العيون؟ ألا ساء فِعل الكافرين.

 

وقد خَسِئوا بشهادة الله - عزَّ وجلَّ - حيث قال: ﴿ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [القلم: 52].

 

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

31- قال تعالى: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ [التكوير: 15 - 19].

 

هذه الآيات الكريمة ردٌّ فاصل على قول الكفار، وادِّعائهم زورًا وبُهتانًا بأنَّ الرسول الكريم مجنون، إنهم يعلمون أنهم كاذبون، ولكنَّه الحسد الذي أعمى قلوبهم؛ ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].

 

ومن هنا، فإنَّ الله - سبحانه - يُقسِم تشريفًا وتكريمًا لرسوله الكريم بأنه: ﴿ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾؛ أي: جاءه به ملكٌ كريم من عند ربٍّ كريم؛ أي: إنَّ هذا القرآن الذي يتلوه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليس من عنده، وإنما بلَّغه به من ربِّه ملكٌ شريف، له مكانة عند الله ومنزلة رفيعة، وهو جبريل - عليه السلام.

 

ولقد أقسَم الله على ذلك: ﴿ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ﴾، الخُنَّس: هي النجوم، تَخنِس بالنهار - أي تختفي - وتظهر بالليل؛ كذا رُوِي عن علي - رضي الله عنه - حيث قال: "هي النجوم تَخنِس بالنهار، وتظهر بالليل"، اخرجة ابن جرير وتَبِعه في ذلك ابن عباس، ومجاهد، والحسن.

 

﴿ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ﴾؛ أي: الجواري التي تجري في مجاريها المحدَّدة لها ليلاً، وهي كُنَّس حين تختفي نهارًا، ومنه قول العرب عن الظبي حين يختفي: "أوى الظبي إلى كِناسه"؛ أي: أوى إلى مَخبئه، كما أقسَم - سبحانه - بالليل ﴿ إِذَا عَسْعَسَ ﴾؛ أي: إذا أدبَر، وبالصُّبح ﴿ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾؛ أي: إذا بثَّ ضياءَه، ونفَثَ نوره.

 

وقد وَرَد هذا المعنى في قول الشاعر القديم:

حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا space.gif
وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا space.gif

 

سبحانك ربي، ما أجمل ألفاظ القرآن وما أعذبَها!

 

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴾، ما أجمل التناسق بين الليل بظلامه الدامس ولفظ ﴿ عَسْعَسَ ﴾؛ أي: اختفى هذا الظلام عَسْعَسةً؛ أي: تدريجيًّا، وتلاشى شيئًا فشيئًا!

 

﴿ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾، كأنه كان نائمًا، ثم أخَذ يتثاءَب ويَتفتَّح شيئًا فشيئًا؛ حتى يَستيقظ ويَنشط، فيعمَّ ضياؤه الدنيا بعد رُقاد ليلٍ طويل.

 

سبحانك ربي، أفلا يتدبَّرون؟!

 

أفلا ينظرون ويتأمَّلون قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [القصص: 71 - 72].

 

لقد كان عند الله ذلك مُمكنًا أن يجعل الدنيا نهارًا مستمرًّا دون ليلٍ، أو يجعل الليل مستمرًّا دون نهارٍ، لكن رحمته بنا وعِلْمه بحالنا جعَل الليل والنهار متعاقبين، لكنَّهم لا يسمعون ولا يُبصرون، ولا يتدبَّرون.

 

32- قال تعالى: ﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾ [التغابن: 14].

 

صدَقتَ يا رب.

 

﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].

 

إنه عليم بخَلقه؛ يعلم ظاهرهم وباطنَهم، يعلم مَسلكهم وتصرُّفاتهم؛ لذلك يُحَذِّر عباده؛ ليَحوزوا رضاه، ويفوزوا بثوابه وحُسن جزائه؛ لذلك قال - وهو أصدق القائلين -:

﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾ [التغابن: 14].

 

﴿ إِنَّ ﴾ تفيد التوكيد، وأنَّ ما بعدها أمرٌ مؤكَّد الحدوث.

 

و﴿ مِنْ ﴾ تفيد التبعيض؛ أي: بعض أزواجكم وأولادكم، فالحكم في الآية مُنصبٌّ على البعض منهم.

 

﴿ أَزْوَاجِكُمْ ﴾ الزوج يُطلق على الواحد من الزوجين، فالرجل زوج والمرأة زوج، وهما زوجان؛ لذلك ينبغي أن يكون الكلام على الرجل والمرأة، فقد تكون المرأة عدوًّا لزوجها، وقد يكون الرجل هو العدو.

 

والمعنى العام في الآية الكريمة: يُخبر أنَّ بعض الأزواج أو الزوجات، وكذا بعض الأولاد، عدوٌّ للمؤمنين من أهلهم، فقد يُفْتَتن الرجل بزوجته، فيُطيعها في معصية الله، فيقطع رَحِمه، وتُلهيه عن ذِكر الله والصلاة، والعمل الصالح، أو قد تكون غير مُطيعة له فيما يَطلب منها، فتَزوغ عيناه إلى غيرها، فلا تَعصمه عمَّا حرَّم الله.

 

أو تكون بكَّاية شكَّاية، تؤرِّق جَنْبَيه عن مَضجعهما، فيَندفع في خصومات مع جيرانه وأهله، لا يعلم مداها إلاَّ الله، وهذا الأمر ليس وقفًا على المرأة، فقد يرتكب الرجل مثل هذا الحُمْق، فيَدفع بزوجته إلى ما يُغضب الله ورسوله.

 

إذًا أليس الزوج - رجلاً أو امرأة - بهذه التصرُّفات وغيرها، يكون عدوًّا لزوجه، يستحقُّ الحذر منه ومن تصرُّفاته؟

 

وكذلك الأولاد فتنة لوالديهم؛ قال عنهم الرسول الكريم: ((الولد ثمرة القلوب، إنهم مَجبنة مَبخلة مَحزنة))أخرَجه الحافظ ابن كثير، وأخرَجه الهيثمي في "كشف الأستار عن زوائد البزَّار" بلفظ: ((إنَّ الولد ثمرة القلب)).
 

 

وقال - تعالى -: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 28].

 

كما أنَّ الرجل منَّا قد يَرتكب حماقات تُورث المهالك؛ بسبب حبِّه لأولاده وانسياقه وراءَهم، فيَسرق ويَضرب ويَبطش، ويعادي جيرانه وأهله بسببهم.

 

أفلا يستحق هذا الأمر التنبيه من الله؛ ليَحذر المؤمنون ما قد يكون فتنة لهم وعدوًّا، يُوردهم المهالك وسوء العاقبة؟ بلى يستحقُّ، وقول الله هو الحق، وسبحان ربي العظيم.

 

33- قال تعالى: ﴿ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾ [القلم: 13].

 

العُتل: الفَظ، الشديد القوي في المأكل والمشرب والمَنكح، أو هو الحيواني الطبع.

 

والزَّنيم: الدَّعي الفاحش اللئيم، الذي يُعرف بالشر ويَشتهر به.

 

قال حسان بن ثابت يذمُّ بعضَ كفَّار قريش:

وَأنْتَ زَنيمٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ space.gif
كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ space.gif

 

أي: أنت دَعي في نَسَبك، وحُسِبت على آلِ هاشمٍ، ولستَ منهم.

 

قال ابن عباس فيما رواه مجاهد: الزنيم، المُلحق النَّسَب.

 

وقال سعيد بن المُسيَّب: هو المُلصق بالقوم ليس منهم.

 

وقال سعيد بن جُبير: الزنيم: الذي يُعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنيمها، والزنيم اللصيق، وهو الذي يتسلَّط عليه الشيطان كما لَم يتسلَّط على غيره.

 

إذًا فالعُتل الزَّنيم، شخص جامع لكلِّ منابع السوء والشر، مع سوء في الطبع والأصل؛ لذلك حذَّر الله رسوله الكريم ومَن تَبِعه من المؤمنين من هذه الأصناف السيِّئة من البشر، فقال:

﴿ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ﴾ [القلم: 8 - 16].

 

لا تُطع المكذِّبين الذين يَكذبون في حديثهم، بعد أن أنْعَمنا عليك بالإسلام والخُلق العظيم، أولئك الذين يَوَدُّون أن تركنَ إلى آلهتهم، وتترك ما أنزَلنا عليك من الحقِّ، كما لا تُطع كلَّ حلاَّف كاذبٍ يَجترئ على الله يَحلف به كاذبًا، فهو مُكابر ضعيف مهين.

 

﴿ هَمَّازٍ ﴾: يَغتاب الناس.

 

﴿ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾، َيمشي بين الناس بالنميمة والفتنة، وبثِّ العداوة بينهم، ويُفسد ذات بينهم.

 

﴿ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ﴾: يَمنع الخير عن الناس؛ لكُرهه الشديد لهم، مع أنه خيرُ الله قد وهَبه إيَّاه.

 

﴿ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴾، يتعدَّى حدود الشرع، ويَفعل المُحرَّمات.

 

﴿ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾: جمَع كلَّ مظاهر الشرِّ والجَشَع، دَعِيّ لئيمٌ، كافر بالله على الرغم مما أنعَم الله به عليه؛ ﴿ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ﴾.

 

 

يَدَّعي أن ما أُنزِل على الرسول منقولٌ عن قَصص الأوَّلين، ذلك من كفره وضلاله، وسوء طبعه ولُؤمه.

 

﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ﴾؛ أي: سوف نُبيِّن أمره بيانًا واضحًا، ونَجعل له علامة واضحة يُعرف بها يوم القيامة، مع ما ينتظره من عذاب شديدٍ.

 

ألا ساء فِعل الكاذبين الضالين، وبئس ما يفعلون.

 

ضلَّ سعيهم، فكان لهم الجزاء المهين.

 

34- قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37].

 

اللهمَّ أنَّا نسألك العفو والعافية من هولِ يوم القيامة.

 

﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 2].

 

يوم يقول الكافر فيه: ﴿ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40]، ويَعضُّ أصابع الندم على ما فرَّط في حقِّ الله، يوم يقول: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100].

 

هَيْهات هَيْهات أن تعود، بَئِسْتَ مَسلكًا، وخَسِئتَ عملاً، وإنك لكاذب، ولو عَلِم الله فيك خيرًا، لهداك في مَحياك، إنه الموقف العظيم والهول والفَزَع هو الذي جعَلك تتلمَّس المهرب والنجاة، وكم مرات في الدنيا ضاقَت بك السُّبل، فقلت: يا رب، نَجِّني، وتضرَّعت إليه، حتى إذا ما نجَوتَ، نَسِيتَ ما قلت، وَعُدت إلى مسالك الظالمين الضالين.

 

﴿ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ [المؤمنون: 100]، ولن يعود، وهذا شأن يوم القيامة.

 

﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴾ طالبًا النجاة، مذهولاً عنه، بل يفرُّ من كلِّ أهله وذَوِيه، ﴿ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴾، ليس هذا فقط، بل ﴿ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾ أعَز مَن كان يحب في الدنيا: زوجته وأولاده، ولكلٍّ من هؤلاء وهؤلاء ﴿ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ عن الآخرين.

 

وعَظَمة الآية الكريمة في أنها رتَّبت أهل المرء وأهميَّتهم بالنسبة له من الأبعد إلى الأقرب.

 

والأخ وإن كان حبيبًا إلى النفس، لكنَّه أبعد الأحباب إليها، وأقرب منه حبًّا الأم ثم الأب اللذان منهما أتى، فهما أصلُه الذي منه نَما وتَرَعْرَع.

 

وطبيعة الحياة البشرية تجعل الزوجة أقربَ إلى النفس بحُكم العِشرة ومشاركتهما حُلوَ الحياة ومُرَّها؛ لأنها هي التي أنجبَت له قُرة عينه، أولادَه الذين هم زينة الحياة الدنيا.

 

ما أعظم شأنك يا رب، فأنت بنفوس خَلقك عليم، وقولك الحق، ومَن أحسن منك قولاً، أفلا يعقلون؟!

 

35- قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا ﴾ [الانشقاق: 6 - 12].

 

أيُّها الإنسان، إنَّك صائر إلى ربِّك طوعًا أو كرهًا، فمُلاقيه حَتمًا، فيُحاسبك على عملك، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وسوف يُجازيك بعملك، ويُكافئك على سَعْيك.

 

قال ابن عباس: تعمل عملاً تَلقى الله به؛ خيرًا كان أو شرًّا.

 

كلُّ شيء في كتاب تجده محصورًا لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، ويَعجب الناس من أمر هذا الكتاب، ينكرونه في الدنيا، ويعجبون لأمره في الآخرة، هل هذا معقول؟

 

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ﴾ [الكهف: 49].

 

نعم معقول جدًّا.

 

فقد وهَب الله لنا في رؤوسنا عقولاً تُسَجِّل كلَّ كبيرة وكلَّ صغيرة، لا تَخفى عليها خافية، ولا يكشف عنه إلاَّ بعد سقوطها.

 

أو هو كـ(الديسك) والذاكرة في الكمبيوتر، يَحفظ لك كلَّ ما تكتب عليه، لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلاَّ كتَبها وسجَّلها.

 

هكذا العقل به ذاكرة تُسجِّل عليك كلَّ كبيرة وصغيرة فعَلتها، أو قلتَها، أو رأيتَها، كيف لا تتذكَّر خَلْق الله فيك وما أوْدَعك من أسرار، أو تَعترف بما صنَع عقلك من صناديق سود وأجهزة كمبيوتر.

 

اجْلِس أيها الإنسان مع نفسك، واسترجِع تاريخ حياتك، فسوف يمرُّ أمامك شريط ذكريات في لحظات، فيه كلُّ ما فعَلت إن خيرًا وإن شرًّا.

 

هذا شريط الذاكرة المُودَع برأسك، هو كتابك الذي يَبعثك الله به، إن كان عملك خيرًا، أُوتيتَه بيمينك، وسوف تُحاسب حسابًا يسيرًا، وإن كان عملك شرًّا، أُوتيتَه من وراء ظهرك؛ لتأخُذه بيسارك، وعندها ستحسُّ بالخسارة والهلاك، وسوف تلقى سعيرًا لا مَحالة.

 

تذكَّر أيها الإنسان أنَّ كتابك معك، يُسَجِّل لك كلَّ كبيرة وكلَّ صغيرة، وسوف تُبعث به، وحاوِل أن يكون ما به خيرًا لتَلقى خيرًا.

 

﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49].

 

صدَقتَ يا رب، وخَسِئ المُنكرون.

 

36- قال تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾ [الفجر: 1 - 5].

 

الواو في الآيات الكريمة للقسَم.

 

والله - جلَّت قدرته - يُقسم بأشياء مما خَلَق؛ تعظيمًا لقَدرها، وتنبيهًا لخَلقه بأهميَّتها، وله - سبحانه عز وعلا - أن يُقسم بما يشاء، ولنا أن نُقسِم - إذا أقْسَمنا - به وحده.

 

﴿ وَالْفَجْرِ ﴾ في الآية الكريمة هو الصُّبح، وعن مسروق: أنه فجر يوم النحر خاصة، وهو أوقعُ؛ لأنَّ مسار الآية يدلُّ على ذلك، فهي تعظيم لشعائر الحج، وتخصيصٌ لِما به من فضلٍ.

 

﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾، والليالي العشر: المراد بها الأيام العشرة الأُولى من شهر ذي الحجَّة، وقد ثبَت في صحيح البخاري قولُ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من أيام العمل الصالح أحبُّ إلى الله فيهنَّ من هذه الأيام))، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلاَّ رجل خرَج بنفسه وماله، ثم لَم يرجع من ذلك بشيء))[3].

 

﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ الشفع في اللغة: ما كان زوجًا، والوتر ما كان واحدًا.

 

وعن مجاهد: الشفع: الزوج، والوتر: الله - عزَّ وجلَّ.

 

وعنه: الله الوتر، وخَلقه الشفع: الذَّكر والأُنثى.

 

أمَّا الشفع والوتر المقصودان في الآية - والله أعلم - فالوتر يوم عرفة (اليوم التاسع)، والشفع يوم النحر (اليوم العاشر)، وهذا ما رواه جابر: ((إنَّ العَشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر))أخرَجه أحمد والنسائي، وابن أبي حاتم.

 

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ إذا أدبَر، وهو قَسَمٌ بإدبار الليل، كما أنَّ القسم بالفجر قسمٌ بإقبال النهار، وعن عكرمة أيضًا: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾؛ يعني: ليلة المُزدلفة، وهي واسطة بين يوم عرفة ويوم النحر، وهذا أوقعُ.

 

ويتَّضح من هذه الأقوال إظهارُ ما في هذه الأيام العشرة من خير وبركةٍ، ونفعٍ وقُربى وفوز، بما فيها من يوم عرفة وليلِ المُزدلفة، وفجر النحر ويومه.

 

﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾؛ أي: هل يفهم كلُّ ذي عقلٍ ولُبٍّ مَغزى ما أقسَم الله به، فالحِجر هو العقل، وسُمِّي حجرًا؛ لأنه يَمنع الإنسان من التردي فيما لا يَليق من أفعال وأقوال.

 

سبحانك ربي؛ بيَّنت لنا مسالك القربى منك، وعَددت لنا مناهلَ الملاذ بك، وأقسَمت وقولك الحق، لتبيِّن لنا منابعَ الخير، ومنازل السَّعد، وأيام البركة والفوز، فهل هناك مَن يَعقل؟ وهل هناك مَن يَفقه؟

 

نعم ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2].

 

37- قال تعالى: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾ [الزلزلة: 1 - 2].

 

هاتان آيتان كريمتان من سورة الزلزلة، وهي سورة مدنيَّة من قِصار السور، آياتها ثمان، تضمَّنت آيات من الترهيب والترغيب؛ حيث تُنبِّه العباد، وتوقِظ الألباب من الغَفلة، وهى ذات فضل كثير، وتحتوي على أمر عظيمٍ؛ فقد ورَد عن الرسول الكريم أنه قال: ((مَن قرأ: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ ﴾، عُدِلت له بنصف القرآن))، ورُوي عن علي بن أبي طالب أنه قال: "مَن قرأ: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ ﴾ أربع مرات، كان كمَن قرأ القرآن كله".

 

﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴾؛ أي: حُرِّكت ورُجَّت حركة عظيمة مُريعة.

 

﴿ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾؛ أي: لفظت - بسبب هذا الزلزال العظيم بعد أن تشقَّقت - ما في بطنها من الموتى أحياءً للحساب والجزاء.

 

﴿ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴾ [الانشقاق: 3 - 4].

 

وكيف لا، وإنَّ لنا في زلزال أكتوبر 1992 لعبرةً، وهو لا يُقاس بزلزال الآخرة وزلزال البَعث؛ حيث خرَجت النساء من البيوت عَرايا والرجال مذهولين، وترَكوا أطفالهم وأموالهم، وذهل خليلٌ عن خليله، كلٌّ يجري على غير هدًى، يطلب النجاة بنفسه، مذهولاً عن غيره، فكان كيومٍ عظيم الشأن؛ ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37].

 

هذا ما حدَث في الدنيا، فما بالك بزلزلة الآخرة؟ لذلك يقول ابنُ آدمَ ما حكاه الله عنه: ﴿ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ﴾ [الزلزلة: 3]؛ أي: ماذا حدَث للأرض؛ حيث يُصيبه ذهول عظيمٌ، وكَرْبٌ شديد، فها هو ذا مبعوث للحساب ويرى عجبًا، فإن الأرض ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ [الزلزلة: 4]، وتشهد لله خالقها وبارئها بما فعَل الإنسان على ظهرها، شاهدة له أو عليه، وهي فعَلَت ذلك بأمر الله لها؛ ﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ [الزلزلة: 5]، ولقد قال بعض العلماء: إنَّ نُطق الأرض على الحقيقة، فإن الله - سبحانه - يُنطقها؛ فقد ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قرأ هذه الآية ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾، ثم قال: ((أتدرون ما أخبارها؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنَّ أخبارها أن تَشهد على كلِّ عبدٍ أو أَمَة بما عَمِل على ظهرها، تقول: عَمِل يوم كذا، كذا وكذا))، قال: ((فهذه أخبارها)).

 

﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴾ [الزلزلة: 6].

 

مُستسلمين خاضعين غير مُكابرين؛ لينالوا جزاءهم بما اكتَسَبوا، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾ [الزلزلة: 7، 8].

 

ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعد، وسبحان ربي العظيم.

 

38- قال تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [الماعون: 4 - 7].

 

﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾.

 

الويل: العذاب الشديد، وقيل: وادٍ في جهنَّم لأولئك الذين هم من أهل الصلاة، ثم هم عنها ساهون؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يعني المنافقين الذين يُصَلُّون في العلانية، ولا يصلون في السرِّ.

 

الذين هم من أهل الصلاة، ثم هم عنها ساهون؛ إمَّا عن فِعلها بالكليَّة، أو يُخرجها عن وقتها، ومن دِقَّة ألفاظ القرآن، ومن رحمة الله بالمؤمنين، أنه قال: الذين هم عن صلاتهم ساهون، ولَم يقل: في صلاتهم ساهون.

 

فالسَّهو في الصلاة أمر واردٌ، وله كفَّارته بسجود السهو، وإلاَّ شقَّ الأمر علينا وصَعُب.

 

قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال: ﴿ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾، ولَم يقل: "في صلاتهم ساهون".

 

لذلك فإنَّ معنى: ﴿ عَنْ صَلَاتِهِمْ ﴾؛ أي: الذين يَسهون عنها، فيؤخِّرونها إلى آخر الوقت أو بعده؛ كما ثبَت في الصحيحين أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقَر أربعًا، لا يَذكر الله فيها إلاَّ قليلاً))[5].

 

هؤلاء هم المنافقون الذين يتكاسَلون، ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ﴾ [النساء: 142]. لا يريدون بها وجه الله، وإنما رياء ومظهر؛ حتى يقال: إنهم من المُصلِّين.

 

ألا بئس ما فعَلوا، وساء ما يصنعون، فهذا مصيرهم، وهذا جزاء المنافقين.

 

ثم إنهم لا يكتفون بالمُراءاة في صلاتهم، بل ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾، فإنهم لَم يُحسنوا في عبادة ربهم، ولَم يُحسنوا إلى عباده، فمَنَعوا الزكاة والصَّدقات؛ قال زيد بن أسلم: "هم المنافقون، ظَهَرت الصلاة فصلوها، وخَفِيت الزكاة فمَنَعوها، حتى إنهم يمنعون الماعون؛ أي: لا يُعيرون المحتاج فأسًا، ولا قِدرًا ولا دَلْوًا، فبئس ما يصنعون".

 

39- قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 1 - 6].

 

هذه سورة براءة، التي تبرَّأ فيها الرسول من الكافرين وما يعبدون.

 

وقد رُوِي عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه صلَّى بها وبسورة الصمد ركعتي الفجر، كما رُوِي عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه وصَّى بعض صحابته أن يقرأها حينما يضع مَضجعه للنوم ليلاً.

 

وكان الرسول يتبرَّأ بها من الكفَّار حين يبدأ يومه وحينما يُنهيه، وألفاظ السورة الكريمة تومِئ بأن قارئها يتبرَّأ من عبادة الكفار وأعمالهم فيما هو مُقبل من الأيام.

 

﴿ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ كما أنهم لا يعبدون ما يعبد، ﴿ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ كما أنه تبرَّأ مما قد عبَدوا من قبلُ، ﴿ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ﴾، والتَّكرار يفيد التوكيد، والإصرار على الموقف، ﴿ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾.

 

لقد كانت السورة الكريمة وضعًا لحدِّ محاولات الكفار مع الرسول الكريم، وصده عن دعوته التي تُسَفِّه ما يعبدون من دون الله، فقد عرَضوا عليه كلَّ ما يُغرى به البشر.

 

عرَضوا عليه أن يكون عليهم مَلكًا.

 

وعرَضوا عليه أن يَجمعوا له مالاً.

 

وعرَضوا عليه أن يُزَوِّجوه أجمل جميلات العرب.

 

ووسَّطوا لديه عمَّه أبا طالب.

 

فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - قولاً مُحكمًا لا ريبَ فيه: ((والله يا عم، لو وضَعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أتركَ هذه الأمر، أو أهلك دونه، ما تَرَكتُه)).

 

كيف يقبل هذه الدنايا، وهو الذي بعثَه ربُّه؛ ليُتمِّم مكارم الأخلاق، كيف يَقبل هذه الرذائل مَن أدَّبه ربُّه فأحسَن تأديبه؟ أليس هو الذي قال فيه - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]؟

 

تخيَّل أنَّ الله مالك السموات والأرض، ومَن فيهنَّ وما فيهنَّ - يُقسِم بأنَّه على خُلق عظيم، ثم يعرضون عليه عرض الدنيا، فماذا يكون ردُّه؟ قطعًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾، يا أيها الكافرون: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾.

 

لكم ما تَعتقدون، ولي اعتقادي، لكم دينكم الذي تَزعمون، ولي ديني الذي ارْتَضَيتُ، رَضِيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دِينًا.

 

﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19].

 

﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85].

 

لقد تبرَّأتُ يا ربُّ ممن تبرَّأ منه رسولُك - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورضيتُ بك ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيًّا ورسولاً.

 

40- قال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4].

 

هذه رسالة تعريف من ربِّنا بنفسه، أرسَلها إلى خَلْقه؛ مَن آمَنَ منهم، ومَن أشرَك، ومَن كفَر، رسالة قصيرة بليغة، فيها كلُّ معاني التوحيد والتنزيه، ليس بعدها قولٌ، ولو أُفْرِدت كلماتها، وكُتِبت معانيها، وشُرِحت مراميها، لامْتَلأَت بها كتبٌ كثيرة، وقد تَقصر عن المطلوب، ولا تَفي بالمقصود.

 

فيها رَدٌّ على مَن يَعبد المسيح، وفيها ردٌّ على مَن يعبد عُزيرًا، وادَّعى كلاهما أنهما أبناء الله، وهما خَلْق من خَلْق الله.

 

وفيها ردٌّ على المجوس وخلافهم، ممن أشرَكوا بالله وعبدوا خَلقًا من خَلْق الله، وفيها ردٌّ على الكافرين بالله، المُنكرين للبعث والنشور.

 

يا محمد، ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾، ولَم يقل - سبحانه -: الواحد؛ فالواحد له ثانٍ وثالث، أمَّا الأحد فالذي لا قبله ولا بعده عددٌ، هو الأحد الذي لا نظيرَ له ولا وزير، وليس له شبيه ولا مثيل، الفريد في كماله وصفاته وأفعاله.

 

﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ هو الذي يَصمد إليه الخلائق في مسائلهم، السيد صاحب منتهى السُّؤدد، الحي القيُّوم الذي لا زوال له، وقال بعض المفسرين: "الصمد: المُصمت الذي لا جوفَ له ولا حاجة له به، فهو لا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خَلْقه، الحاوي لكلِّ صفات الكمال والشرف، والعَظمة والقُدرة، ليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهَّار".

 

﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ ليس له ولدٌ، ولا والد له، ولا صاحبة، يردُّ بذلك على مَن قال: ﴿ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ﴾ [مريم: 88]، وقال - سبحانه - عن نفسه: ﴿ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 101].

 

سبحانك ربي تبارَك اسمُك.

 

﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ لَم يكن له نظيرٌ ولا مثيل، ولا مكافئ ولا شبيه، فتعالَى الله أحسنُ الخالقين.

 

فهل بعد هذا القول قولٌ؟ وهل بعد هذا الإيجاز بلاغة؟ ألا خَسِئ المُبطلون والمُشَكِّكون والمُشركون.

 

وسبحانك ربي، تبارَك اسمُك، وتعالَى جدُّك، وعزَّ جارُك، لا إله غيرك، ولا معبود سواك.

 


41- قال تعالى: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 1 - 5].

 

سبحانك ربي، جلَّ شأنُك وعلا قَدرُك.

 

أنْزَلت لنا من القرآن ما هو شفاء.

 

قال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: 57].

 

وقال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82].

 

وقال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾ [فصلت: 44].

 

لقد رُوِي عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألَم ترَ آيات أُنْزِلت هذه الليلة، لَم ترَ مثلهنَّ قطُّ: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾)) اخرجة مسلم والترمزى.

 

ورُوِي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقرأ بهنَّ - المعوذتين - ويَنفث في كفَّيه، ويَمسح بهما رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده.

 

ورُوِي عن عائشة - رضي الله عنها - أيضًا: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا اشتكى - أصابَه مرض - يقرأ على نفسه بالمعوذتين، ويَنفث، فلمَّا اشتدَّ وجعُه، كنتُ أقرأ عليه بالمعوذات، وأمسَح بيدي عليه؛ رجاءَ بركتها اخرجة البخارى والنسائى وابن داود

 

سبحانك ربي جلَّ شأنُك، وكما قال عمر - رضي الله عنه -: "كَثُر خيرُ ربِّنا وفاضَ".

 

كلُّ هذا الخير والبركة في القرآن، في كلِّ كلمة وفي كلِّ آية، لكن أين الذين يتدبَّرون؟!

 

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾؛ أي: أعوذ وأستجير وأستعين بربِّ الصُّبح وخالقه، فالق الإصباح، وفالق الحَب والنوى، ﴿ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾، من شرِّ جميع خلقه، والأصحُّ الاستعاذة من شِرار خَلْقه، نحو: إبليس وذريَّته، ومن شياطين الإنس والجن، ومن شر النار، وما يُقرِّب منها من قول أو عمل، ﴿ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ﴾؛ أي: من شرِّ الليل إذا أقبَل بظلامه، ﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾؛ أي: من شرِّ السواحر إذا رَقَينْ ونَفَثْنَ في العُقد، وسَحَرْنَ خَلْق الله، ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 69].

 

﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 5]، ومن شرِّ العين؛ فإن العين تُدخل الجملَ القِدر، وتُدخل الرجلَ القبر، وقد رُوِي أنَّ جبريل جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: اشْتَكَيتَ يا محمد؟ فقال: ((نعم))، فقال: "باسم الله أَرقِيك، من كلِّ داء يُؤذيك، ومن شرِّ كلِّ حاسدٍ وعين، الله يَشفيك".

 

فهل بعد هذا الخير خيرٌ؟ وهل بعد بركة القرآن بركة؟

 

42- قال تعالى: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾ [الناس: 1 - 6].

 

سبحانك ربي، ما ترَكت لنا من سبيل للخلاص، وبيَّنت لنا طُرق الإخلاص، وأَمَرت الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يُبَيِّن لنا مسالك الخواص، بأن نعوذ بك يا ربَّ الناس ومالكهم وإلههم، فأنت ربُّ الناس، الذي ربَّاهم بما رزَقهم، وأنت مالكهم، وهم عبيدك وحْدك لا شريكَ لك فيهم، وأنت إلههم الواحد القهَّار، خلَقت كلَّ شيء لعبيدك ويسَّرْتَه لهم، وقَهَرته؛ ليَأتمر بأمرهم، وجعَلته لأجلهم، وخَلَقت الناس لأجلك أنت وحدك دون سواك، وحصَّنتهم من شرار خَلْقك، لو ساروا على نَهْجك واتَّبعوا طريقك، ومن هذا أن يَستعيذوا بك من أخطر أعدائهم وأعدائك: الشيطان وجنوده.

 

﴿ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾، وهو الشيطان الموكَّل بالإنسان، فإنه ما من أحدٍ من بني آدمَ، إلاَّ وله قرين يُزَيِّن له الفواحش، ولا معصوم منه إلاَّ مَن عصَمه الله، وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عيه وسلم -: ((إنَّ الشيطان واضع خَطْمه على قلب ابن آدمَ، فإن ذَكَر الله خَنَس، وإن نَسِي الْتَقَم قلبه، فذلك الوسواس الخنَّاس))؛ أي: المُراوغ.

 

﴿ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴾: يأمرهم بالفواحش والشرور، ((وإنَّ الشيطان يجري من ابن آدمَ مَجرى الدم))، فالإنسان متى ذكَر الله في قلبه، تَصاغر الشيطان وخَنَس، ومتى نَسِي ذِكْر الله، تعاظَم وغَلَب، فعلينا أن نستعيذ بالله ربِّنا وخالقنا، ﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴾.

 

﴿ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾، فللشيطان الرجيم جنوده وأعوانه من الجِنَّة والناس؛ فقد قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112].

 

اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من الشيطان، ومن خُطوات الشيطان، ومن أعوانه من الإنس والجان، يا حنَّان، يا منَّان، يا ربَّ العالمين.

 

شبكة الالوكة

 

تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×