اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)

المشاركات التي تم ترشيحها

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)}


بعض الفاقدين للبصيرة من الفلاسفة قالوا: صحيح أن الله قد خلقنا ولكنا خرجنا من دائرة نفوذه. لا، بل سبحانه إن شاء لذهب بكم جميعاً وأتى بآخرين، وما ذلك على الله بعزيز، وهو القائل: {وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً}.


حين نقرأ (كان) بجانب كلمة (الله) فهي لا تحمل معنى الزمن؛ فالله قدير حتى قبل أن يوجد مقدور عليه، فلم يكن قديراً فقط عندما خلق الإنسان، بل بصفة القدرة خلق الإنسان؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس أغيار؛ لذلك يظل قديراً وموجودا في كل لحظة، وهو كان ولا يزال.
 

 

image.png.29990fe74fc3bab99162e01c729fc817.png

 


{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}


مادام الرسل قد أبلغوا الإنسان أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة فلمَ الغفلة؟ ولمَ لا تأخذ الزيادة؟، ولماذا نذهب إلى صفقة الدنيا فقط مادام الحق يملك ثواب الدنيا من صحة ومال وكل شيء، وإن اجتهد الإنسان في الأسباب يأخذ نتيجة أسبابه. فالحق يقول: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].


ولم يقل الحق: إن (الآخرة) في مقابلة للدنيا؛ وأن من يأخذ الدنيا لن يأخذ الاخرة أو العكس، بل يريد- سبحانه للإنسان أن يأخذ الدنيا والآخرة معاً، فيا من تريد ثواب الدنيا لا تحرم نفسك بالحمق من ثواب الآخرة. وكلمة (ثواب) فيها ملحظ؛ فهناك أشياء تفعل لك وإن لم تطلب منها أن تفعل، وتنتفع بعملها وإن لم تطلب من الأشياء أن تفعل. وهناك أشياء أخرى تنفعل بحركتك، فإن تحركت وسعيت وعملت فيها تعطك.
مثال ذلك الأرض، فإن بذرت فيها تخرج الزرع، واختلافات الناس في الدنيا تقدماً وتأخراً وحضارة وبداوة وقوة وضعفاً إنما تأتي من القسم الذي ينفعل للإنسان، لا من القسم الذي يُفْعَل للإنسان. ويسخر له، وتقدم بعض البشر في الحضارة إنما جاء لأنهم بحثوا في المادة والعناصر، وأنجزوا إنجازات علمية هائلة في المعامل، فإن أردت أن تكون متقدماً فعليك أن تتعامل مع العناصر التي تنفعل لك، والأمم كلها إنما تأخذ حضارتها من قسم ما ينفعل لها، وهم والمتأخرون شركاء فقط فيما يُفعل لهم ويسخَّر لصالحهم.

 

وإن أردنا الارتقاء أكثر في التحضر.. فعلينا أن نذهب إلى ما يُفْعل ويسخّر لنا ونتعامل نعه حتى ينفعل لنا.. كيف؟.
الشمس تمدنا بالضوء والحرارة، ونستطيع أن نتعامل مع الشمس تعاملاً آخر يجعلها تنفعل لنا، مثلما جئنا بعدسة اسمها (العدسة اللاّمة) التي تستقبل أشعة الشمس وتتجمع الأشعة في بؤرة العدسة؛ فتحدث حرارة تشعل النار، أي أننا جعلنا ما يُفْعَل لنا يتحول إلى منفعل لنا أيضاً. ويسمون ذلك الطموح الانبعاثي. والمطر يفعل للإنسان عندما ينزل من السماء في وديان، ويستطيع الإنسان أن يحوله إلى منفعل عندما يضع توربينات ضخمة في مسارات نزوله فينتج الكهرباء.


إذن فحضارات الأمم إنما تنشأ من مراحل

. المرحلة الأولى: تستخدم ما ينفعل لها،

والمرحلة الثانية: ترتقي فتستخدم ما ينفعل معها.

والمرحلة الثالثة: تستخدم ما يفعل لها كمن فعل لها؛

مثال ذلك استخدام الطاقة الشمسية بوساطة أجهزة تجمع هذه الطاقة ارتقاءً مع استخدام ما يفعل للإنسان لينفعل مع الإنسان.
وأسمى شيء في الحضارة الآن هو أشعة الليزر التي تصنع شبه المعجزات في دنيا الطب. وكلمة (ليزر) مأخوذة كحروف من كلمات تؤدي معنى تضخيم الطاقة بواسطة الانبعاث الاستحثائي، فكلمة (ليزر)- إذن- مثلها كلمة (ليمتد) فاللام من كلمة.
والياء من كلمة، والتاء من كلمة، والدال من كلمة، وذلك لتدل على مسمّى.

 

وترجمة مسمّى (ليزر) هو تضخيم الطاقة عن طريق الانبعاث الاستحثائي. ففيه انبعاث تلقائي هو مصدر الطاقة الذي يُفعل للإنسان وإن لم يطلبه، أما الانبعاث الاستحثائي فينتج عندما يحث الإنسان الطاقة لتفعل له شيئاً آخر. والانبعاث التلقائي متمثل في الشمس فتعطي ضوءا وحرارة. وعندما جلس العلماء في المعامل وصمموا العدسة التي تنتج هذه الأشعة أهاجوها وأثاروها وأخذوا ليصنعوا منها طاقة كبيرة. وهكذا أنتجوا أشعة الليزر التي هي تضخيم للطاقة عن طريق الانبعاث الاستحثائي، ولأن العنوان طويل فقد أخذوا من كل كلمة حرفاً وكوّنوا كلمة (ليزر).
 

إذن فالارتقاءات الحضارية تأتي عن طريق تعامل الإنسان مع القسم الذي ينفعل للإنسان، واستحثاث واستخدام ما يُفعل له بطريقته التلقائية لينفعل معه كأشعة الشمس مثلا.
وجئنا بذكر كل ذلك من أجل أن نستوضح آفاق قول الحق: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا}. وكلمة (ثواب) إذن توحي بأن هناك عملاً، فالثواب جزاء على عمل. فإن أردت ثواب الدنيا، فلابد أن تعمل من أجل ذلك. فلا أحد يأخذ ثواب الدنيا بدون عمل.

 

ومن عظمة الحق ولطفه وفضله ورحمته أن جعل ثواب الدنيا جائزة لمن يعمل، سواء آمن أم كفر، ولكنه خص المؤمنين بثواب باق في الآخرة.
 

ولذلك يقال: (الدنيا متاع). ويزيد الحق على ذلك: {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً}. ومن الحمق أن يوجد طريق يعطي الإنسان جزاءين ثم يقصر همته على جزاء واحد.


وهنا ملحظ آخر؛ فحينما تكلم الحق عن ثواب الدنيا، دل على أنه لابد من العمل لنأخذ الدنيا، ولم يذكر الحق ثواباً للآخرة، بل جعل سبحانه الثواب للاثنين.. الدنيا والآخرة، إذن فالذي يعمل للدنيا من المؤمنين إنما يأخذ الآخرة أيضاً؛ لأن الآخرة هي دار جزاء، والدنيا هي مطية وطريق وسبيل. فكأن كل عمل يفعله المسلم ويجعل الله في باله.. فالله يعطيه ثواباً في الدنيا، ويعطيه ثواباً في الآخرة.
 

ويذيل الحق الآية: {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً}- إذن- فثواب الدنيا والآخرة لا يتأتى إلا بالعمل، والعمل هو كل حدث يحدث من جوارح الإنسان، القول- مثلاً- حدث من اللسان، وهو عمل أيضاً، والمقابل للقول هو الفعل. فالأعمال تنقسم إلى قسمين: إلى الأقوال وإلى الأفعال. ولتوضيح هذا الأمر نقرأ قول الحق: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 17-19].
وعندما سمع الأغنياء هذا القول عرفوا سلوكهم، ولما سمع الفقراء هذا القول، كأنهم قالوا: نحن لا نملك ما نطعم به المسكين، فكان في قوله تعالى: {وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} ما يوضح لهم الطريق إلى العطاء: أي حضوا غيركم على العطاء.
أي أن الذي لا يملك يمكنه أن يكلم الغني ليعطي المسكين، والحضُّ هو كلام. والكلام من العمل.
والحق سبحانه وتعالى يستنفر المؤمنين لينصروا دين الله فيقول: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 91].
هو سبحانه أعفى الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون في القتال وأسقطه عنهم ولم يحاسبهم عليه، ولكن في الآية نفسها ما يُحدد المطلوب من هؤلاء، وهو أن ينصحوا لله ورسوله. إذن فغير القادر يمكنه أن يتكلم بفعل الخير ويذكِّر به الآخرين وينصح به، هذا هو معنى قول الحق: {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} فسبحانه يسمع قول مّن لا يستطيع ولا يملك القدرة على سلوك ما، وسبحانه بصير يرى صاحب كل سلوك.

 

إذن فثواب الدنيا يحتاج إلى عمل، والعمل هو انفعال كل جارحة بمطلوبها، فاللسان جارحة تتكلم، واليد تعمل، وكل جوارح الإنسان تعمل، لكن ما عمل القلوب؟ عمل القلوب لا يُسمع ولا يُرى، ولذلك قال الحق عن إخلاص القلب في حديث قدسي: (الإخلاص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي).
 

وهكذا نعرف أن نية القلوب خاصة بالله مباشرة ولا تدخل في اختصاص رقيب وعتيد وهما الملكان المختصان برقابة وكتابة سلوك وعمل الإنسان، ولذلك نجد الحق يصف ذاته في مواقع كثيرة من القرآن بأنه لطيف خبير، لطيف بعلم ما يدخل ويتغلغل في الأشياء، وخبير بكل شيء وقدير على كل شيء. ونجد الحديث الشريف يقول لنا: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
 

فالعمل يكون بالجوارح، ومن الجوارح اللسان، وحتى نضبط هذه المسألة لنفرق ما بين الفعل والعمل. نقرأ ونفهم هذه الآية: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2].
ونجد المقابل للقول هو الفعل. والكل عمل. ويأتي نوع آخر من الأعمال، لا هو قول ولا هو فعل، وهو (النية القلبية). وعندما يقول الحق: إنه كان سميعاً بصيراً، فالمعنى سميع للقول، وبصير بالفعل.

 

image.png.5aec3322701888479b60cb9767894280.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}


ساعة ينادي الحق عباده المؤمنين قائلاً: يا أيها الذين آمنوا، فكأنه يقدم حيثية الحكم الذي يأتي بعده، ونحن نرى القضاء البشري قبل أن ينطق بمنطوق الحكم، يورد حيثيته، فيقول: (بما أن المادة القانونية رقم كذا تنص على كذا، حكمنا بكذا). إذن: فالحيثيات تتقدم الحكم. وحيثيات الحكم الذي يحكم به الله هي الإيمان به، مثل قول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183].
حيثية الكتابة هنا وفي أي حكم آخر هي إيمان العبد بالله رباً، فليسمع العبد من ربه. وسبحانه لا يكلف كل الناس بالتكاليف الإيمانية، ولكنه يكلف المؤمنين فقط. وهو يقول:
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} فالمؤمن يدخل على الإيمان بقمة القِسط، فالقسط هو العدل، والعدل أن يعطي العادل كل ذي حق حقه. وحق الإله الواحد أن يؤمن به الإنسان ويعترف أنه إله واحد.
إن قمة القِسط- إذن- هي الإيمان. ومادام المؤمن قد بدأ إيمانه بقمة القِسط وهو الإيمان، فليجعل القِسط سائداً في كل تصرفاته. وإياك أن تجعل القسط أمراً أو حدثاً يقع مرة وينتهي، وإلا لما قال الحق مع إخوانك المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط}.
ولم يقل الحق لك مع إخوانك المؤمنين: كونوا قائمين بالقسط، بل قال {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} أي أن المطلوب هو الاستمرارية للسلوك العادل. فنحن نقول: (فلان قائم) و(فلان قَوَّام). ونعرف أن كلمة (قَوَّام) هي صيغة مبالغة. وعلى ذلك يكون الأمر الألهي لكل مؤمن: لا تقم بالقسط مرة واحدة فقط، بل اجعله خصلة لازمة فيك، ولتفعل القسط في كل أمور حياتك. والقِسط كما علمنا من قبل في ظاهر أمره هو العدل، وأيضاً الأقساط هي العدل.

 

وقد احدثت كلمة (القسط) ضجة عند العلماء، وقلنا تعليقا على ذلك: إن المسألة بسيرة.. فقسط يقسُط قسوطاً أي جار وظلم، فإذا أذهب الإنسان الجور والظلم يقال: (أقسط فلان) أي أذهب الجور. إذن: القِسط- بكسر القاف- هو العدل الابتدائي، لكن الإقساط هو عدل أزال جوراً كان قد وقع.
 

وهب أن أناساً جاءوا لقاضٍ فحكم بينهم بالعدل، فهذا هو القِسط، وقد يستأنف أحد الطرفين حكم المحكمة الابتدائية ووجدت محكمة الاستئناف خطأ في التطبيق فأصدرت حكماً بإزالة الجور، وهذا الحكم الذي من الدرجة الثانية اسمه إقساط. وهكذا ينتهي جدل العلماء حول هذه المسألة، فالقِسط عدل من أول درجة، والإقساط يعني أنه كان هناك جور فرُفِع، لأنه مسبوق بهمزة اسمها (همزة الإزالة)، فيقال: أعجم الكتاب. أي أن الكتاب كان فيه عجمة، أي كان بالكتاب شيء مستتر وخفيّ أي يعطي معاني الألفاظ فيزيل خفاءها.
وكذلك معنى (أقسط) أي أزال الجور.

 

والحق يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} فأنت أيها المؤمن قد فعلت بالعقل أول مرتبة في القسط؛ ورددت الإيمان إلى الرب فهو المستحق له فقط، بل لابد أن تكون الشهادة لله. لماذا؟.
هب أن رجلاً كافراً بالله- والعياذ بالله- ويقيم العدل بين الناس لكنه لا يدخل بذلك في حيثية الإيمان، فالذي يدخل في حيثية الإيمان يكون قائماً بالقسط وفي باله الله وبذلك تكون الشهادة وإقامة حقوق الله لا لمنفعةٍ ولا لغايةٍ ولا لهوى ولا لغرضٍ، وإنما ليستقيم كون الله كما أراد الله، وإلا لو حكم أحد بهوى لفسدت الأرض، والحق يقول: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].

 

لذك لابد أن يكون المؤمن قوّاماً بالقسط وفي باله الله، ولذلك فالقيام بالقسط وحده لا يكفي، ونحن نسمع: فلان عادل ولو أنه من ديانة أخرى غير الإسلام أو كان ملحداً. ونقول: هذا العادل من أي دين أو عقيدة غير الإسلام يأخذ ثناء البشر لكنه لا يأخذ ثناء الله ولا ثوابه، ولذلك فالقوّام بالقسط يجب أن يفعل بقصد امتثال أمر الله لينال الثواب من الله.
{كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ} والشاهد في العادة هو من يشهد لمصلحة واحد ضد آخر، وعندما يقر الشاهد بذنب فهو قد شهد على نفسه، والشاهد لمصلحة واحد إنما يفعل ذلك ليرجح الحكم، والشاهد على نفسه يقر بما فعل، والإقرار سيد الأدلة. وشهادة الشاهد تقدم للقاضي الدليل الذي يرتب عليه الحكم. وهكذا يشهد المؤمن على نفسه.
وهناك معنى آخر: أنه يشهد على نفسه ولو كانت الشهادة تجر وبالا عليه، وهذه المعاني من معطيات الإشعاعات القرآنية؛ فالمؤمن يشهد على نفسه للإقرار، وقد لا تكون الشهادة على النفس بل قد تكون الشهادة واجبة عليه يؤديها لمصلحة غيره ولا يخاف فيها الشاهد من السلطان حتى وإن جار السلطان على المؤمن وأصابه بوبال في نفسه أو ماله، ومن الناس من أصابه وبال في نفسه أو أهله من السلطان لمجرد كلمة حق قيلت. فالسلطان قد لا يأخذ الإنسان بذنبه، بل قد يأخذ أهل الإنسان بهذا الذنب. والحق يوضح للعبد: لا تهتم بذلك ولا تقولن سيعذبون العيال أو سيأخذون كل شيء، إنني أنا الموجود المتكفل بعبادي.

 

ويطلب الحق من المؤمنين: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين}. وحين يشهد الإنسان على نفسه فلن يكون أبوه أو أمه أو أحد أقاربه أعز منه.
ثم يدخل بنا الحق إلى أن استحثاثات مخالفة العدالة تدخل فيها الأهواء، وحين يرجح إنسان الباطل غير الواقع على حق واقع، فالمرجح هو هوى النفس، ومنشأ الهوى أن يكون المشهود عليه غنياً فيخاف الإنسان أن يشهد عليه، فيمنعه من خير ما.
ولذلك حدد الحق قوامة المؤمنين بالقسط والشهادة لله ولو على النفس أو الأب أو الأم أو الأقارب، ولا يصح أن يضع أحد من المؤمنين ثراء أو فقر المشهود له أو عليه في البال، بل يجب أن يكون البال مع الله فقط؛ لذلك قال: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ}.
وقد يقول قائل: إن الهوى قد ينحاز إلى الغنيّ طمعاً في ثرائه؛ فلماذا يذكر الله الفقير أيضاً؟ ونقول: قد ينحاز الهوى إلى الفقير رحمةً بالفقير فيحدِّث الشاهد نفسه (أنه فقير ويستحق الرحمة)؛ لذلك يحذرنا الحق من الانحياز إلى الغني أو إلى الفقير.

 

ولا دخل للشهادة بثراء الثري أو بفقر الفقير؛ لأن العبد المؤمن ليس أولى او أحق برعاية مصالح الناس من خالقهم- جل شأنه- ولذلك جاء بالحيثية الملجمة {فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ} أي أنك أيها العبد لم تخلق أحداً منهما ولكن الله خالق الاثنين وهو أولى بهما فليس لك أن تقيم شهادتك على الثراء أو على الفقر لأنك لست القَيّم على الوجود.
 

والذي يفسد ويشوش على العدل هو الهوى، والمثل العربي يقول: (آفة الرأي الهوى). وإياكم أيها المؤمنون واتباع الهوى حتى لا تفسد قدرتكم على العدل وتجنحوا بعيداً عنه. والتاريخ العربي يحتفظ لنا في ذاكرته حكاية رجل فاضل ذهب إلى الخليفة وقال له: أعفني من القضاء! فقال الخليفة: فمن يكون للقضاء إذن وأنت العادل الذي شهد له كل الناس بذلك؟
فقال القاضي: والله يا أمير المؤمنين لقد عرف الناس عني أني أحب الرُّطب- أي البلح- وبينما أنا في بيتي وإذا بالخادم قد دخل ومعه طبق من رطب وكنا في بواكير الرطب، ومن الطبيعي أن تكون النفس في لهفة عليه مادامت تحبه، ويتابع القاضي حكايته للخليفة: فقلت للخدام من جاء به؟ فأجاب الخادم: إنه واحد صفته كذا وكذا فتذكرت أن مَن أرسل الرطب هو واحد من المتقاضين أمامي، فرددت عليه الرطب، ولما كان يوم الفصل في قضية صاحب الرطب، دخل الرجل عليّ فعرفته فوالله يا أمير المؤمنين ما استويا في نظري هو وخصمه على الرغم من أني رددت الطبق. وهكذا استقال القاضي العربي المسلم من منصب القضاء.

 

ويتابع الحق سبحانه: {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}. أن تلووا في الشهادة والليّ هو التحريف.. أي تحرفوا الشهادة وتغيروها، فإن الله بما تعملون خبير، أو أن يُعْرِض الشخص عن أداء الشهادة لأنه يخاف من المشهود عليه؛ لذلك يقال: إنه خائف من المشهود عليه؛ لأن الشهادة ترجح حكم المشهود له؛ لهذا فهو يعرض عن الشهادة، وإن جاء للشهادة فهو يلف الكلمات ويلوي لسانه بها؛ لذلك يقول الحق: {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}.
إذن فالذي يفسد العدل هو الهوى، والهوى عمل القلب؛ لذلك نحتاج إلى خبرة الخبير اللطيف. فعلينا أن نعلم أن النيات عمل القلوب، وبذلك صار العمل ينقسم الآن أمامنا إلى ثلاثة أقسام: قول لسان، وفعل بجوارح غير اللسان، ونيات قلوب وهوى.

 

نداء الايمان

image.png.2db40a6da47790e6bcc472b5002fcf4d.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)}


قد يقول إنسان ما: كيف يقول الحق في صدر هذه الآية منادياً المؤمنين بالإيمان فقال: أمَنُوا، وبعد ذلك يطالبهم بأن يؤمنوا؟

ونقول: نرى في بعض الأحيان رجلاً يجري كلمة الإيمان على لسانه ويعلم الله أن قلبه غير مصدق لما يقول، فتكون كلمة الإيمان هي حق صحيح، ولكن بالنسبة لمطابقتها لقلبه ليست حقاً.

وتعرضنا من قبل لقول الحق: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
لقد شهد المنافقون أن رسول الله مرسل من عند الله، هذه قضية صدق، لكن الله العليم بما في القلوب يكشف أمرهم إلى الرسول فيقول: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].

 

لقد وافقت شهادتهم بألسنتهم ما علمه الله. لكن القول منهم يخالف ما في قلوبهم، فشهد الحق إنهم لكاذبون. ويعلم سبحانه كذبهم في شهادتهم؛ لأن المنافق منهم لم يشهد صحيح الشهادة؛ لأن الشهادة الحقة هي أن يواطئ اللسانُ القلبَ. وبعض من الأغبياء الذين يحاولون الاستدراك على القرآن قد عميت بصيرتهم عن الإحساس باللغة والفهم لأسرارها؛ لذلك يتخبطون في الفهم. فهم لا يعرفون صفاء التلقي عن الله. وقالوا: إن بالقرآن تضارباً، ولم يعرفوا أن كذب المنافقين لم يكن في مقولة: إن محمداً رسول الله، ولكن في شهادتهم بذلك، وكذبهم الله في قولهم: (نشهد) فقط، فقد أعلنوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.
 

وإن أردنا أن نفهم أن الخطاب للمؤمنين عامة، بأن يؤمنوا، فهذا طلب للارتقاء بمزيد من الإيمان، ولنا في قول الحق المثل الواضح في حديثه للنبي؛ قال الحق: {ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب: 1].
الحق هنا يقول للمتقي الأول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله»، أي يأمره بالقيام دائماً على التقوى.


إذن فمعنى قول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} أن الحق يخاطبكم بلفظ الإيمان. ويريد أن يتصل إيمانكم بعد كلامه الحق مع إيمانكم قبل كلامه، فلا ينقطع ولا ينفصم خيط الإيمان أبداً. بل لابد من المداومة على الإيمان، وألا يترك مؤمن هذا الشرف. فإن رأى واحد منكم منادًى بوصف طُلبِ منه الوصفُ بعده فليعلم أن المراد هو المداومة.
ونعلم أن الحق هنا يخاطب مؤمنين ومنافقين وأهل كتاب؛ لذلك فلابد أن تشملهم الآية: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} لأن الإنسان إن آمن بالله فقط، فهذا يقتضي أن يبحث المؤمن بالله عن مطلوب الله، ومطلوب الله إنما جاء به رسول؛ لذلك فالإيمان بالله يقتضي أن يؤمن الإنسان برسول، لأن قصارى ما يعطيك العقل أيها الإنسان أن تؤمن بأن وراء الكون إلهاً خلقه ويدبره.
ولكن ما اسم هذا الإله؟ لا يعرف الإنسان ذلك إلا عن طريق الرسول.
إن هذه أمور لا تعرف بالعقل ولكن لابد من الإخبار بها، وكذلك مطلوبات الله، وكذلك جزاء المؤمنين على حسن إيمانهم، ولذلك لابد من مجيء رسول للبلاغ.

 

إذن فلابد مع الإيمان بالله أن تؤمن بالرسول. ومادمت أيها المؤمن قد آمنت برسوله فلابد أن تؤمن بالكتب التي جاءت على لسان الرسول. وهذه الكتب تقول لك: إن هناك خلقاً لله لا تراهم وهم الملائكة، والمَلَكُ يأتي بالوحي وينزل به على الرسول، على الرغم من أنك لم تر الملك فأنت تؤمن بوجوده.
 

إذن فالقمة الإيمانية هي أن تؤمن بالله، ولازمها أن تؤمن برسول الله، وأن تؤمن بكتاب مع الرسول، وأن تؤمن بما يقوله الله عن خلق لا تستطيع أن تدركهم كالملائكة. وهذا الأمر بالإيمان هو مطلوب من أهل الكتاب لأنهم آمنوا برسلهم، ويطلب منهم أن يؤمنوا برسول الله وبما أُنزل عليه.
ويترك الحق سبحانه وتعالى لخلقه أن يكتشفوا وجوداً لكائنات لم تكن معلومة لأنهم حُدِّثوا بأن في الكون كائنات أبلغنا الله بوجودها ولا ندركها وهم الملائكة.- إذن- فالدليل عندهم يحثهم ويدفعهم إلى الكشف والبحث.

 

والمثال على ذلك الميكروب الذي لم تعرفه البشرية إلا في القرن السابع عشر الميلادي، وكان الميكروب موجوداً من البداية، لكننا لم نكن ندركه، وبعد أن توصلت البشرية إلى صناعة المجاهر أدركناه وعرفنا خصائصه وفصائله وأنواعه، ومازالت الاكتشافات تسعى إلى معرفة الجديد فيه، هو جديد بالنسبة لنا، لكنه قديم في وجوده.
 

ومعنى ذلك أن الله يوضح لنا: إذا حُدثَت أيها الإنسان من صادق على أن في الكون خلقاً لا تدركه أنت الآن فعليك بالتصديق؛ فقبل اكتشاف الميكروب لو حدث الناسَ أحدٌ بوجود الميكروب في أثناء ظلام العصور الوسطى لما صدقوا ذلك، على الرغم من أن الميكروب مادة من مادة الإنسان نفسها لكنه صغير الحجم بحيث لا توجد آلة إدراك تدركه. وعندما اخترعنا واكتشفنا الأشياء التي تضاعف صورة الشيء مئات المرات استطعنا رؤيته، فعدم رؤية الشيء لا يعني أنه غير موجود.
فإذا ما حدثنا الله عن خلق الملائكة والجن والشيطان الذي يجري في الإنسان مجرى الدم، فهنا يجب أن يُصدق ويؤمن الكافر والملحد بذلك، لأنه يُصدق أن الميكروب يدخل الجسم دون أن يشعر الإنسان، وبعد ذلك يتفاعل مع الدم ثم تظهر أعراض المرض من بعد ذلك، وقد علم ذلك بعد أن تهيأت أسباب الرؤية والعلم. فإذا كان الله قد خلق أجناساً من غير جنس مادة الإنسان فلنصدق الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ} [النساء: 136].

 

والمعروف أن الكتاب هو القرآن وهو عَلَمٌ عليه، أما الكتاب الذي أنزل من قبل فلنعرف أن المراد به هو جنس الكتاب.. أي كل الكتب التي نزلت على الرسل السابقين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقال على (ال) السابقة لكلمة الكتاب الثانية: (هي) (ال) الجنسية. والجنس كما نعلم- تحته أفراد كثيرة بدليل أن الحق سبحانه وتعالى يأتي بالمفرد ويدخل عليه الألف واللام ويستثنى منه جماعة، مثال ذلك: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 1-3].
 

نجد (الإنسان) هنا مفرد، ودخلت عليه (ال)، واستثنى من الإنسان جماعة هم الذين آمنوا، وهذا دليل على أن (الإنسان) أكثر من جماعة. ولذلك يقولون: إن الاستثناء معيار العموم.. أي أن اللفظ الذي استثنينا وأخذنا وأخرجنا منه لفظ عام.
 

ويطالبنا الحق بالإيمان بالكتاب أي القرآن؛ فإذا أطلقت كلمة (الكتاب) انصرفت إلى القرآن؛ لأن (ال) هنا (للغلبة)، مثال ذلك: يقال: (هو الرجل)، وهذا يعني أنه رجل متفرد بمزايا الرجولة وشهامتها وقوتها، فإذا أطلقنا الكتاب فهي تعني القرآن؛ لأن كلمة الكتاب غلب إطلاقها على القرآن فلا تنصرف إلاّ إليه، أو أنه هو الكتاب الكامل الذي لا نسخ ولا تبديل له، ف (ال) هنا للكمال أما الكتاب الذي أُنزل من قبل فهو يشمل التوراة والإنجيل وسائر الكتب، والصحف المنزلة على الأنبياء السابقين.
 

{وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً}

أي إن آمن بالله وكفر ببقية ما ذكر في الآية فهو كافر أيضا.
وكان بعض اليهود كعبدالله بن سلام، وسلام بن أخته، وسلمة بن أخيه، وأسد وأسيد ابني كعب، وثعلبة بن قيس، ويامين بن يامين قد ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال عليه الصلاة والسلام: «بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله». فقالوا: لا نفعل. فنزلت فآمنوا كلهم.
والخطاب والنداء يشمل أيضا المنافقين. أي يأيها الذين آمنوا في الظاهر نفاقا، أخلصوا لله واجعلوا قلوبكم مطابقة لألسنتكم، فالنداء- إذن- يشمل المؤمنين ليستديموا ويستمروا علىإيمانهم، ويضن الكافرين من أهل الكتاب ليؤمنوا بكل رسول وبكل كتاب، هو أيضا للمنافقين ليخلصوا في إيمانهم حتى تطابق وتوافق قلوبهم ألسنتهم.
إذن فمن يكفر بأي شيء ذكره الله في هذه الآية فقد كفر بالله.
{وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} و(ضل) أي سار على غير هدى، فعندما يتوه الإنسان عن هدفه المقصود يقال: ضل الطريق، والذي (ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً) هو من يذهب إلى متاهة بعيدة، والمقصود بها متاهة الكفر.

 

وهناك ضَلال عن الهدى يمكن استدراكه، أما الضلال البعيد والغرق في متاهة الكفر فمن الصعب استدراكه، والضُلاَّلُ متحدون في نقطة البداية، لكنهم فريقان يختلفان، فأحدهما يسير في طريق الإيمان وهو منتبه دائماً إلى غايته وهي رضاء الله بتطبيق مطلوباته، ويحذر أن يخالف عن أمره، والآخر انحرف من البداية فوصل إلى متاهة الكفر.

 

image.png.4ed5f729f26b0f19cb7229bc832afe51.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)}
 

هؤلاء هم المنافقون الذين أعلنوا الإيمان وأبطنوا الكفر وقال الله عنهم {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].
إذن، هم حولوا الإيمان من عقيدة إلى مجرد كلمة تقال، وكانوا في غاية الحرص على تأدية مطلوبات الإسلام بالأعمال الظاهرية حتى يدفعوا عن إسلامهم الريبة. أما قلوبهم فهي مع الكفر؛ لذلك أرادوا أن يُلَبِّسوا في المنطق ويُدَلسُوا فيه. {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
ويفضحهم الحق أمام أنفسهم. وبالله عندما يعرفون أنهم مجرد مسلمين باللسان ولكن قلوبهم لم تؤمن ويخبرهم الرسول بذلك ويقول لهم بلاغاً عن الله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ}. وكانوا أسبق الناس إلى صفوف الصلاة، وعندما فضحهم الرسول وأوضح لهم: أنتم لو تؤمنوا ولكنكم أسلمتم فقط. هنا عرفوا أن محمداً قد عرف خبايا قلوبهم بلاغاً عن الله.
ولو قالوا: إن محمداً هو الذي عرف هذه الخبايا لما اقتصر اعترافهم به كرسول، بَلْ رُبَّما تمادوا في الغيّ وأرادوا أن يجعلوه إلهاً. ولكن رسول الله يحسم الأمر: ويبيّن لهم أن الله هو الذي أبلغني، بدليل أنه أُمِر أن يقول لهم: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ}.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقر بأن هذا الأمر ليس فيه شيء من عنده بل هو مأمور بالبلاغ عن الله ربِّه.

 

وفي عصرنا قال برناردشو: إن الذين يكذبون أن محمداً رسول من عند الله يريدون أن يجعلوه إلهاً، فمن أين أتى بهذه الأشياء التي لم تكن معلومة في عصره؟.
إن الناس جميعا مطالبون بالتصديق بمحمد رسولاً من عند الله؛ لأنه قال عن أشياء لا يمكن أن يقولها واحد من البشر. والرسول صلى الله عليه وسلم بذاته يوضح بحسم هذا الكلام ويبيّن أن هذا ليس من عندي، لكنه من عند الله.

 

{قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ}. وهذا كشف محرج ومنطقي لما في قلوبهم؛ لهذا قال السامعون للآية: الحمد لله أن هناك أملاً في أن يدخل الإيمان قلوبنا. وقد دخل الإيمان في قلوبهم بالفعل لأن كلمة (لمَّا) تفيد نفي الإيمان عنهم في الزمن الماضي ولكنها تفيد أيضا توقع وحصول الإيمان منهم وقد حصل.
 

{إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} أي ماتوا على الكفر، أو آمنوا بموسى، ثم كفروا بعيسى، وجاء أناس آخرون آمنوا بعيسى، وازدادوا كفراً بعدم الإيمان بمحمد، فليس من بعد محمد صلى الله عليه وسلم استدراك.
ويخبرنا سبحانه بمصيرهم:
{لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} لأنهم دخلوا في الإيمان مرة ثم خرجوا من الإيمان.

 

ومعنى سلوكهم أنهم قصدوا الفتنة لأن الآخرين سيشاهدونهم وقد آمنوا، وسيشاهدونهم وهم يكفرون، وسيعللون ذلك بأنهم عندما تعمقوا في المسائل العقدية كفروا وهم يفعلون ذلك ليهوِّنوا من شأن الإسلام، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].
هم إذن يقصدون الفتنة بإظهار الإيمان ثم أعلانهم الكفر وفي ذلك تشكيك للمسلمين، ويكون مصير مَن تردّدَ بَيْنَ الإيمان والكفر، وكان عاقبة أمرهم أنهم ازدادوا كفرا يكون مصيرهم ما جاء في قوله: {لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} فهم قد دخلوا في الخيانة العظمى الإيمانية التي يحكمها قوله الحق: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48].

 

ويقول الحق عنهم هنا: {لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}. والهداية- كما نعلم- ترد بمعانٍ متعددة.. فقد يكون المقصود منها الدلالة، فإن شئت تدخل الإيمان وإن شئت لا، ولا شأن لأحد بك. والمعنى الثاني هو المعونة، أي يقدم لك الله ما يهديك بالفعل. وعندما تعرض القرآن لهذه المسألة قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17].
فسبحانه هنا قد دلهم على الهداية، ولم يقدم لهم الهداية الفعلية لأنهم استحبوا العمى على الهدى، فكأن الله قد دل على المنهج الذي يوصل الخير والبر لكل الناس، فمن أقبل بإيمان فالحق يمده بهداية المعونة ويعاونه على ازدياد الهدى، مصداقاً لقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

 

ولا نريد لهذا المثل أن يغيب عن الأذهان؛ لذلك أؤكده دائما: شرطي المرور الواقف في بداية الطريق الصحراوي. يسأله سائل: ذاهب إلى الاسكندرية عن الطريق؛ فيدله على الطريق الموصل للإسكندرية، هنا قام الشرطي بالدلالة، ثم شكر الرجلُ الشرطيَّ وحمد الله على حسن شرح الشرطي؛ ويحس ويشعر رجل المرور بالسعادة، ويحذر الرجل المسافر من عقبات الطريق، ويركب معه ليشير له على تلك العقبات حتى يتفاداها. أي أنه من بعد الدلالة قد حدثت المعونة. كذلك الحق يدل الناس على الإيمان وعلى المنهج، فالذي يؤمن به يساعده ويخفف عليه الطاعة، قال الحق سبحانه في شأن الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45].
إذن نحن نجد الهداية على مرحلتين: هداية الدلالة، وهداية المعونة.
 

ويريد الحق لقضية الإيمان أن تكون قضية ثابتة متأصلة بحيث لا تطفو إلى العقل لتناقش من جديد. فمبدأ الإيمان لا يتغير في مواكب الرسالات من سيدنا آدم إلى أن ختمها بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
 

وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 136].
إذن سبحانه يريد من المؤمن أن يؤمن بالقمة العليا، وهي الإيمان بالله واجب الوجود الأعلى، وأن يؤمن بالبلاغ عنه كتاباً، وأن يؤمن بالبلاغ عنه رسالة على لسان أي رسول. والذين يؤمنون مرة برسول ثم يكفرون برسول آخر، أو الذين يؤمنون برسول ثم يكفرون بنسبة الصاحبة أو الولد لله ثم يزدادون كفراً بالخاتم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لهم مجال مع الهداية إلى الله؛ لأن الإسلام جاء بالنهاية الخاتمة وليس للسماء من بعد ذلك استدراك، وليس لأحد من بعد ذلك استدراك، ولذلك قال في أول الآية: {آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ}. وقال في آخر الآية: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} أي أنهم لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وليس هناك مجال أن ينتظروا رسولاً آخر لينسخوا كفرهم بمحمد ويؤمنوا بالرسول الجديد.

 

ويوضح سبحانه: لم يكن الله ليهديهم لأنهم هم الذين صرفوا أنفسهم عنه، فالله لا يمنع الهداية عمن قدم يده ومدّها إليه، بل يعاونه في هدايته، أما من ينفض يده من يد الله فلا يبايعه على الإيمان فالله غني عنه، ومادام الله غنياً عنه فسيظل في ضلاله؛ لأن الهداية لا تكون إلا من الله. ولم يكن الله ليهديهم سبيلاً إلى هداية أخرى ولا هادي إلا هو. ولم يكن الله ليهديهم سبيلاً إلى الجنة؛ لأنهم لم يقدموا الأسباب التي تؤهلهم للدخول إلى الجنة.
ولذلك يشرحها الله في آية أخرى: {لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [النساء: 168-169].
وهكذا نجد طريق جهنم معبداً مُذَلَّلاً بالنسبة لهم.

 

 

 

image.png.a973322651305b97e036157b9d26da70.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)}


سمة التردد والتذبذب بين الإيمان والكفر لا تأتي من أصيل في الإيمان، بل تأتي من متلون في الإيمان، تبدو له أسباب فيؤمن، وبعد هذا تبدو له أغيار فيكفر. وذلك شأن المنافقين المذبذبين بين هؤلاء وهؤلاء. فيقول الحق: {بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
 

ونحن نعلم أن المنافق هو الذي جمع بين أمرين: إعلان إسلام، وإبطان كفر. والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهي إحدى جحوره التي يستتر ويختفي فيها، واليربوع حيوان صحراوي يخادع من يريد به شراً فيفتح لنفسه بابين؛ يدخل أمام الرجل من باب ثم يخرج من باب آخر. فإن انتظره الرجل على باب فاليربوع يخرج من الآخر.
 

{بَشِّرِ المنافقين} والبشارة هي الإخبار بشيء يسر سيأتي زمنه بعد. وهل المنافقون يبشرون؟ لا. إن البشارة تكون بخير؛ لذلك نتوقع أن ينذر المنافقون ولا يبشرون، ولكن لله في أساليبه البلاغية تعبيرات لتصعيد العذاب. فلو قال: أنذرهم بعذاب أليم، لكان الكلام محتملاً، فهم- كمنافقين- مستعدون لسماع الشر. ولكن الحق يقول: {بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وذلك هو التهكم والاستهزاء والسخرية، وهي من معينات البليغ على أداء مهمته البلاغية. ونسمع المفارقات أحياناً لتعطينا صورة أصدق من الحقيقة. فإذا جئت إلى بخيل مثلاً، وقلت له: مرحباً بك يا حاتم. ماذا يكون موقف من يحضر هذا اللقاء؟
أنت تنقله من واقع البخيل إلى تصور حاتم الطائي أصل الكرم. وبذلك نقلت البخيل نقلتين: نقلة من وضعه كبخيل؛ ثم السخرية منه؛ لأن قولك لبخيل ما: يا حاتم هو تقريع وتهكم وسخرية واستهزاء، لأنك نقلته من وصف خسيس وحقير إلى وصف مقابل هو سَام ورفيعٍ وعظيم تحقيرا له واستهزاء به، ومن المقارنة يبدو الفارق الكبير. وإذا ما جئت مثلاً لرجل طويل جداً، وقلت: مرحبا بك يا قزم. هذه هي المفارقة، كما تقول لقصير: مرحبا يا مارد. أو إذا جئت لطويل لتصافحه، فيجلس على الأرض ليُسلم عليك.. هذه أيضاً مفارقة. وإن جئت لرجل قصير لتصافحه فتجلس على الأرض لتسلم عليه فهذه هي السخرية والتهكم.

 

وهذه المفارقات إنما تأتي للأداء البلاغي للمعنى الذي يريده المتكلم، فقول الحق: {بَشِّرِ المنافقين} معناه: أنكم أيها المنافقون قد صنعتم لأنفسكم بالنفاق ما كنتم تحبون، وكأنكم نافقتم لأنكم تحبون العذاب. ومادمتم قد نافقتم لأنكم تحبون العذاب، فأنا أبشركم بأنكم ستتعذبون. والذي ينافق ألا يريد من ذلك غاية؟ لذلك يصور له الحق أن غايته هي العذاب، فقال الحق: {بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
إنك حين تريد تصعيد أمر ما، فأنت تنقل مخاطبك من شيء إلى الشيء المقابل وهو النقيض، مثال ذلك: إنسان عطشان لأنه محجوز أو مسجون وأراد أن يشرب شربة ماء، من الممكن أن يقول له الحارس: لا.

 

ويجعله ييأس من أن يَأتي له بكوب ماء، أما إذا أراد الحارس تصعيد العذاب له فهو يذهب ويأتي بكوب ماء ويقربه منه، فإذا مد السجين يده ليأخذ كوب الماء فيسكب الحارس كوب الماء على الأرض هذا هو تصيعد العذاب. وحين يقال: (بَشِّر) فالمستمع يفهم أن هناك شيئاً يسر، فإذا قال الحق: {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} فمعنى ذلك أن الغم يأتي مركباً. فقد بسط الحق أنفسهم بالبشارة أولاً، ثم أنهاها بالنذارة.
وعلى سبيل المثال- ولله المثل الأعلى- يقول الأب لابنه: استذكر يا بني حتى لا ترسب، لكن الابن يستمر في اللعب ثم يقول الأب: يا بني لقد اقترب الامتحان ولابد أن تذاكر. ولا يأبه الابن لكلام الأب، ثم يأتي الامتحان ويذهب الأب يوم اعلان النتيجة، فيكون الابن راسباً؛ فيقول الأب لابنه: أهنئك لقد رسبت في الامتحان! فقوله أهنئك تبسط نفس الابن؛ لأنه يتوقع سماع خبر سار، ويسمع بعدها لقد رسبت تعطيه الشعور بالقبض.

 

والحق سبحانه وتعالى يبلغ رسوله: {بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (بشر) لها علاقة بالمدلول الاشتقاقي؛ لأن الانفعالات يظهر أثرها على بشرة وجهه؛ فإن كان الانفعال حزنا فالوجه يظهر عليه الحزن بالانقباض، وإن كان الانفعال سروراً فالوجه يظهر عليه السرور بالانبساط. وتعكس البشرة انفعالات النفس البشرية من سرور وبشاشة وإشراق أو عبوس وتجهم، فالبشارة تصلح للإخبار بخبر يسر، أو بخبر يحزن ويسيء، ولكنها غلبت على الخبر السار، وخصت النذارة بالخبر الذي يحزن وتنقبض النفس له.
 

{بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}. والبشارة- كما قلنا- توحي بأن هناك خبراً ساراً، فيأتي الخبر غير سار. وكما يقول الحق في آية أخرى يصور بها عذاب الكافرين يوم القيامة وكيف أنّه يصعد العذاب معهم: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29].
ساعة نسمع {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ} نفهم أن برداً يأتي لهم أو رحمة تهب عليهم، ولكن الإغاثة التي تأتي لهم هي: {كالمهل} [الكهف: 29].
ويتساءل السامع أو القارئ: هل هذه إغاثة أو تعذيب؟ وهذا تصوير لتصعيد العذاب؛ فالماء الذي يعطى لهم كالمهل يصعِّد الألم في نفوسهم.
والعذاب- كما نعلم- يأخذ قوته من المعذِّب، فإن كان المعذِّب ذا قوة محدودة، كان العذاب محدوداً. وإن كان المعذِّب غير محدود القوة فالعذاب غير محدود، فإذا ما نسب العذاب إلى قوة القوى وهو الله فكيف يكون؟ والعذاب يوصف مرة بأنه أليم، ومرة بأنه مهين، ومرة بأنه عظيم، هذه الأوصاف كلها تتجمع ولكل وصف منها جهة؛ فالألم هو إحساس النفس بما يتبعها، والعذاب العظيم هو العذاب الذي يبلغ القمة، وقد يبلغ العذاب القمة ولكن المعذِّب يتجلد، وعذاب الحق يفوق قدرة متلقي العذاب فلا يقدر أن يكتم الألم؛ لأن درجة تحمل أي إنسان مهما تجلد لا تستطيع أن تدفع الألم، ومع العذاب العظيم، نجده أليماً أيضا، فيكون العذاب الأليم العظيم مؤلما للمادة، لكن النفس قد تكون متجلدة متأبية، ثم تنهار، حينئذ يكون العذاب مهينا.
ولأن المنافقين والكفار غارقون في المادية آثر الله وصف العذاب بأنه أليم لأن الإيلام يكون للمادة، ثم يذكر الحق سبحانه وتعالى بعض الأوصاف للمنافقين فيقول: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)}

 

نداء الايمان

image.png.298aefddf37d72294d0d6bc289455ec1.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)}


أول مظهر من مظاهر النفاق أن يتخذ المنافقُ الكافرَ ولياً له؛ يقرب منه ويوده، ويستمد منه النصرة والمعونة، والمؤانسة؛ والمجالسة، ويترك المؤمنين. وعرفنا أن كل فعل من الأفعال البشرية لابد أن يحدث لغاية تُطْلَب منه، ولا يتجرد الفعل عن الغاية إلا في المجنون الذي يفعل الأفعال بدون أي غاية، لكن العاقل يفعل الفعل لغاية، ولهذف يرجوه. والمنافقون يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين لأي غاية ولأي هدف؟
 

ويكشف الحق هذه المسألة فيوضح: أنهم يبتغون العزة من الكافرين، ولذلك اتخذوهم أولياء من دون المؤمنين. ويلفتهم- جل شأنه- إلى جهلهم؛ لأنهم أخذوا طريقاً يوصلهم إلى ما هو ضد الغاية.
فماداموا يبتغون العزة فليعرفوا أولاً: ما العزّة؟. العزة مأخوذة من معنى مادي وهو الصلابة والشدة. فالأرض العَزَاز أي الصلبة التي لا ينال منها المعول، ثم نقلت إلى كل شديد، فكل شيء شديد فيه عِزّة. والمراد بها هنا: الغلبة والنصر، وكل هذه المعاني تتضمنها العزة.

فإذا قيل: الله عزيز.. أي أنه سبحانه وتعالى غالب على أمره شديد لا يمكن أن يقدر على مِحاله أو مكره أو قوته أو عقابه أحد. وإذا قيل: فلان عزيز أي لا يُغلب، وإذا قيل: هذا الشيء عزيز أي نادر، ومادام الشيء نادرأً فهو نفيس، والمعادن النفيسة كلها أخذت حظها من ندرتها وقلتها.
وما دمتم أيها المنافقون تطلبون العزة، ألا تطلبونها ممن عنده؟. أتطلبونها من نظائركم؟. وعندما تطلبون العزة فذلك لأنكم لا تملكون عزة ذاتية، فلو كانت عندكم عزة ذاتية لما طلبتم العزة من عند الكافرين. وهذا دليل على فقدانهم العزة لأنهم طلبوها من مساوٍ لهم من الأغيار، فالمنافقون بشر، والكفار بشر، وبما أن كل البشر أغيار، فمن الممكن أن يكونوا أعزاء اليوم وأذلاء غداً؛ لأن أسباب العزة هي غنىً أو قوة أو جاه، وكل هذه من الأغيار.

 

فأنتم أيها المنافقون قد طلبتم العزة ممن لم يزد عليكم، وهو من الأغيار مثلكم، ولم تطلبوها من صاحب العزة الذاتية الأزلية الأبدية وهو الحق سبحانه وتعالى، ولو أردتم العزة الحقيقية التي تغنيكم عن الطلب من الأغيار مثلكم فلتذهبوا إلى مصدر العزة الذي لا تناله الأغيار وهو الحق سبحانه وتعالى.
 

لذلك أوضح لهم الحق: إن أردتم أن تتعلموا طلب العزة فعليكم أن تغيروا من أسلوبكم في طلبها، فأنتم تتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتبتغون عندهم العزة وهم من أهل الأغيار، والأغيار تتبدل من يوم إلى يوم، فإن كان الكفار أغنياء اليوم، فغداً لن يكونوا كذلك، ولقد رأيتم كبشر ان الغَنَّي يفتقر، ورأيتم قوياً قد ضعف، وطلب العزة من الأغيار يعني أنكم غير أعزاء، ومع ذلك فأنتم تطلبون العزة من غير موصعها.
فإن أردتم عزة حقيقية فاطلبوها ممن لا تتغير عزته وهو الحق سبحانه وتعالى: {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً}.


وفي هذا القول تصويب لطلب العزة. وليطلب كل إنسان العزة إيمانا بالله؛ فسبحانه الذي يهب العزة ولا تتغير عزته: {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً}. وكلمة (جميعاً) هذه دلت على أن العزة لها أفراد شتى: عزة غني، عزة سلطان، عزة جاه، فإن أراد واحد أن يعرفها ويعلمها فهي- جميعا- في الحق سبحانه وتعالى.
 

والمؤمنون في عبوديتهم لله عبيد لإله واحد؛ وقد أغنانا الله بالعبودبة له عن أن نذل لأناس كثيرين. وسبحانه قد أنقذ المؤمن بالإيمان من أن يذل نفسه لأي مصدر من مصادر القوة، أنقذ الضعيف من أن يذل نفسه لقوي، وأنقذ الفقير من أن يذل نفسه لغني، وأنقذ المريض من أن يذل نفسه لصحيح.
 

إذن ساعة يَقول الحق: {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} فمعناها: إن أردت أيها الإنسان عزاً ينتظم ويفوق كل عز فاذهب إلى الله؛ لأنه سبحانه أعزنا فنحن خلقه، وعلى سبيل المثال نجد أن الحق لم يجعل الفقير يقترض، بل قال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245].
وهنا يرفع الله عبده الفقير إلى أعلى درجات العزة. العبد الفقير لا يقترض، ولكن القرض مطلوب لله، ولذلك قال أحدهم لأحد الضعفاء: إنك تسأل الناس، ألا تعف ولا تسأل؟. فقال: أنا سألت الناس بأمر الله، فالسائل يسأل بالله، أي أن يتخذ الله شفيعاً ويسأل به. وعندما يطلب الإنسان العزة من مثيل له، فهو يعتز بقوة هذا الكائن وهي قوة ممنوحة له من الله وقد يستردها سبحانه منه. فما بالنا بالقوة اللانهائية لله، وكل قوة في الدنيا موهوبة من الله، المال موهوب منه، والجاه موهوب منه، وكل عزة هي لله.

 

نداء الايمان

 

image.png.861cff6cdfb31d331cca940c852d14f2.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)}
 

يأمر الحق المؤمنين أنهم إذا سمعوا بعضاً من الكافرين يهزأ بآيات الله أو يكفر بها فلا يقعدوا معهم إلا أن يتحولوا إلى حديث آخر، وذلك حتى لا يكونوا مثل الكافرين لأنه سبحانه سيجمع المنافقين والكافرين في جهنم، وبذلك يحمي الله وحدهُ أهل الإيمان، ويصونهم من أي تهجم عليهم، فالذين يغارون على الإيمان هم الذين آمنوا، فمادمت قد آمنت وارتضيت لنفسك الإسلام فإياك أن تهادن من يتهجم على الدين؛ لأنك إن هادنته كان أعز في نفسك من الإيمان، ومادمت أيها المؤمن قد ارتضيت الإيمان طريقاً لك وعقيدة فلتحم هذا الإيمان من أن يَتَهَجَّم عليه أحد، فإن اجترأ أحد على الإيمان بشيء من النقد أو السخرية أو الرمي بالباطل.. فالغيرة الإيمانية للمسلم تحتم عليه أن يرفض هذا المجلس.
 

وكان المؤمنون في البداية قلة مستضعفة لا تستطيع الوقوف في وجه الكافرين أو المنافقين، فساعةً يترك المؤمنون الكافرين أو المنافقين لحظة اللغو في آيات الله، فالكافرون والمنافقون يعلمون بذلك السلوك أن عِرض الإيمان أعز على المسلمين من مجالسة هؤلاء. أما إذا جالسهم مسلم وهم يخوضون في الإيمان.. فهذا يعني أنهم أعز من الإيمان، والكافرون قد يجعلونها حديثاً مستمراً لسبر غور الإيمان في قلوب المسلمين. أما حين يرى الكافر مؤمناً يهب وينفر من أي حديث فيه سخرية من الإسلام، هنا يعرف الكافر أن إيمان المسلم عزيز عليه.


وهذه الآية ليست آية ابتدائية إنما هي إشارة إلى حكم سبق، ونعرف أنها نزلت في المدينة؛ فالحق يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا} ومعنى هذا أن هناك آية قد نزلت من قبل في مكة؛ ويقول فيها الحق: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68].
 

ويشير الحق هنا إلى أنه قد أنزل حكماً في البداية، وهو الحكم الذي نزل مع الكافرين في مكة؛ حيث استضعف الكافرون المؤمنين، ولم يكن المنهج الإيماني قد جاء بمنع المؤمنين أن يجالسوا الكافرين، فقد كان بعض المؤمنين عبيداً للكافرين، وبعض المسلمين الأوائل كان لهم مصالح مشتركة قائمة مع الكافرين وجاء الحكم: إن ولغ هؤلاء الكافرون في الدين بالباطل فاتركوا لهم المكان.
 

وسبحانه هنا في سورة النساء يذكر المؤمنين بأن حكم ترك الكافرين لحظة اللغو في الإيمان هو حكم ممتد منقول للمؤمنين من البيئة الأولى حيث كنتم أيها المؤمنون مع المشركين عبدة الأصنام، والحكم مستمر أيضاً في المدينة حيث يوجد بعض أهل الكتاب. والتكليف من الله، هو تكليف بما يطيقه الجنس البشري؛ فالإنسان عرضة لأن ينسى، وعليه بمجرد ان يتذكر فليقم تاركاً هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله.
وقد نزل في القرآن أن إذا سمع المؤمنون من يكفر بآيات لله ويستهزئ بها فليغادروا المكان، ونلحظ أن الذي نزل في الآية الأولى ليس سماعاً بل رؤية: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68].

 

ويأتي السماع في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا} والمهم هو مجرد العلم سواء كان رؤية أو سماعاً بأنهم يخوضون في دين الله؛ فقد يخوض أهل الشرك أو غيرهم من أعداء الإسلام بما يُرى، وقد يخوضون بما يسمع، وقد يخوض بعض المشركين بالغمز أو اللمز من فور رؤيتهم لمسلم.
وقوله الحق:
{فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} يوحي أنهم إذا ما خاضوا في حديث غير الخوض في آيات الله فليقعد المؤمنون معهم. وكان ذلك في صدر الإسلام، والمؤمنون لهم مصالح مشتركة مع المشركين وأهل الكتاب، ولا يستطيع المجتمع الإسلامي آنئذ أن يتميز بوحدته، فلو قال لهم الحق على لسان رسوله: لا تقعدوا مع الكافرين أو المشركين فوراً. لكان في ذلك قطع لمصالح المؤمنين.
وكلمة (يخوضون) تعطي معنى واضحاً مجسماً؛ لأن الأصل في الخوض أن تدخل في مائع.. أي سائل، مثل الخوض في المياه أو الطين، والقصد في الدخول في سائل أو مائع هو إيجاد منفذ إلى غاية.

 

وساعة تخوض في مائع فالمائع لا ينفصل حتى يصير جزءاً هنا وجزءاً هناك ويفسح لك طريقاً، بل مجرد أن يمشي الإنسان ويترك المائع يختلط المائع مرة أخرى، ولذلك يستحيل أن تصنع في المائع طريقاً لك. أما إذا دخل الإنسان في طريق رمليّ فهو يزيح الرمال أولأً ويفسح لنفسه طريقاً. ولا تعود الرمال إلى سَدّ الطريق إلا بفعل فاعل، وأخذوا من هذا المعنى وصفَ الأمر الباطل بأنه خوض؛ ذلك أن الباطل لا هدف له وهو مختلط ومرتبك، والجدال في الباطل لا ينتهي إلى نتيجة.
إذن (الخوض) هو الدخول في باطل، أو الدخول إلى ما لا ينتهي الكلام فيه إلى غاية. ويقرر العلماء: لا تخوضوا في مسألة الصفات العلية؛ لأنه لا يصح الخوض فيها، والكلام فيها لن ينتهي إلى غاية. ولذلك يقول الحق في موقع آخر بالقرآن الكريم: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ ما أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].

 

لقد أبلغتهم يا محمد أن الذي أنزل الكتاب عليك هو الحق سبحانه وتعالى الذي أنزل من قبلُ التوراةَ فأخفيتم بعضها وأظهرتم البعض الآخر، ثم بعد البلاغ اتركهم يخوضون في باطلهم.
وفي موقع آخر يتكلم الحق من الخوض: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} [التوبة: 64-65].

 

إذن الخوض هو الدخول في مائع، ومادمت قد دخلت في مائع فلن تجد فيه طريقاً محدداً بل يختلط المدخول عليه فلا تتميز الأشياء، وأخذ منه الخوض بالباطل أو الخوض باللعب الذي ليس فيه غاية.
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}.

 

وتأتي الكلمة التي ترهب المؤمن وترعبه: {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} أي إنكم إذا قعدتم معهم وهو يخوضون في آيات الله تكفرون مثلهم؛ لأنكم تسمعون الخوض في الدين بالباطل، ومن يرض بالكفر يكفر.
لقد أغطتنا الآية مرحلية أولية، فإذا ما كانت البيئة الإيمانية مجتمعاً ذاتياً متكافلاً فليس لأحد من المؤمنين أن يجالس الكافرين، ولا نواليهم إلا إذا والونا؛ لأن الجلوس معهم في أثناء الخوض في الدين يجرئهم على مناهج الله، وعلى المؤمن أن ينهر أي ساخر من الدين. وعلى المؤمنين أن يعرضوا عمّن ينحرف عن منهج الله أو يتعرض له. ولكن المجتمعات المعاصرة تكرم من يخوض بالباطل؛ وفي ذلك إغراء للناس على أن يخوضوا في الدين بالباطل.

 

وقوله الحق: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} هو إيذان بالمقاطعة؛ فلو أن إنساناً بهذا الشكل يسكن في منزل، ويذهب إلى البقال ليشتري منه شيئاً ليأكله فيرفض البيع له، وكذلك الجزار، وكذلك أي إنسان في يده مصلحة لمثل هذا الخارج عن المنهج، وبذلك تكون المقاطعة حتى يتأدب، ويعلم كل إنسان أن المجتمع غيور على دينه الذي آمن به، وأن الله أعز عليهم من كل تكريم يرونه في مجتمعهم، ولو أن كل واحد من هؤلاء المنحرفين والموغلين في الباطل لو رأوا المجتمع وقد قاطعهم ووضع لهم حدوداً لذهبوا إلى الصواب ولبحثوا عن شيء آخر ومجال آخر يأكلون العيش منه ويطعمون أولادهم اللقمة الحلال من هذا العمل المشروع.


ويقول الحق: {إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} ولا تستبطئوا هذه الحياة؛ لأن المسلم لا يأخذ الأمور بعمر الدنيا كقرن أو اثنين أو حتى عشرة قرون، بل عليه أن يعرف أن الدنيا بالنسبة له هي عمره فيها، والعمر يمكن أن ينتهي فجأة، ويعمل المسلم لا من أجل الدنيا فقط، ولكن من أجل أن يلقى الله مسلماً في الآخرة، والمؤمن يخشى أن يحشره الله مع المنافقين والكافرين في جهنم، وهذا مصير من يقبل السخرية أو الاستهزاء بدينه.

 

نداء الايمان

 

 

image.png.9374a046002eb54632bcd53724557a1d.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)}


وقوله الحق: {الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} وصف للمنافقين، ويتربص فلان بفلان. اي أن واحداً يتحفز ليتحسس أخبار آخر، ويرتب حاجته منه على قدر ما يرى من أخبار، وعرفنا هذا المعنى من قوله الحق: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} [التوبة: 52].
 

ويتربص المنافقون بالمؤمنين لأنهم إن وجدوا خيراً قد أتى لهم فهم يريدون الاستفادة منه، وإن جاء شر فالمنافقون يتجهون للاستفادة من الخصوم، فظاهراً هم يعلنون الإيمان وهم في باطنهم كفار. وهم يتربصون بالمؤمنين انتظاراً لما يحدث وليرتبوا أمورهم على ما يجيء.
{الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ} فإن فتح الله بنصره على المؤمنين في معركة وأخذوا مغانم قال المنافقون: {أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ}، فلابد لنا من سهم في هذه الغنيمة. وإذا انتصر الكفار يذهبون إلى الكافرين مصداقاً لقول الحق: {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين}.
هم يحاولون إذن الاستفادة من الكفار بقولهم: لقد تربصنا بالمؤمنين وانتظرنا ما يحدث لهم، ولابد لنا من نصيب ويقول الحق على ألسنتهم: {قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين} واستحوذ على الشيء أي حازه وجعله في حيزه وملكه وسلطانه. والحق هو القائل: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله} [المجادلة: 19].
أي جعلهم الشيطان في حيزه، وقول المنافقين للكافرين:
{أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} يكشف موقفهم عندما تقوم معركة بين معسكري الكفر والإيمان فيحاول المنافقون معرفة تفاصيل ما ينويه المؤمنون، ولحظة أن يدخل المنافقون أرض المعركة فهم يمثلون دور من يأسر الكافرين حماية لهم من سيوف المؤمنين. ثم يقولون للكافرين: نحن استحوذنا عليكم أي منعناكم أن يقتلكم المؤمنون، ويطلبون منهم الثمن.
 

ولنر الأداء البياني للقرآن حين يقول عن انتصار المؤمنين: {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ} أما تعبير القرآن عن انتصار الكافرين فيأتي بكلمة (نصيب) أي مجرد شيء من الغلبة المؤقتة. ثم يأتي القول الفصل من الحق: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً}.
وحين يرد الله أمر الكافرين والمؤمنين لا يرده دائماً إلى أمد قد لا يطول أجل السامع وعمره ليراه في الدنيا، فيأتي له بالمسألة المقطوع بها؛ لذلك لا يقول للمؤمن: إنك سوف تنتصر. فالمؤمن قد يموت قبل أن يرى الانتصار. ولذلك يأتي بالأمر المقطوع وهو يوم القيامة حين تكون الجنة مصيراً مؤكداً لكل مؤمن؛ لأن الحياة أتفه من أن تكون ثمناً للإيمان.

 

ويعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم ألا نطلب الثمن في الدنيا؛ لأن الغايات تأتي لها الأغيار في هذه الدنيا، فنعيم الحياة إما أن يفوت الإنسان وإما أن يفوته الإنسان. وثمن الإيمان باقٍ ببقاء من آمنت به.
إن القاعدة الإيمانية تقول: من يعمل صالحاً يدخل الجنة، والحق يقول عن هؤلاء الصالحين: {فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107].
أي أن الجنة باقية بإبقاء الله لها، وهو قادر على إفنائها، أما رحمة الله فلا فناء لها لأنها صفة من صفاته وهو الدائم أبداً. وحين يقول الحق سبحانه وتعالى:
{فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} أي لن يوجد نقض لهذا الحكم؛ لأنه لا إله إلا هو وتكون المسألة منتهية. وقد حكم الحق سبحانه وتعالى على قوم من أقارب محمد صلى الله عليه وسلم، لقد حكم الله على عم الرسول، فقال فيه: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1-5].
قول الحق سبحانه: {سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} يدل على أن أبا لهب سيموت على الكفر ولن يهديه الله للإيمان، مع أن كثيراً من الذين وقفوا من رسول الله مواقف العداء آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهد معسكر الكفر فقدان عددٍ من صناديده، ذهبوا إلى معسكر الإيمان، فها هوذا عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم كل هؤلاء آمنوا. فما الذي كان يدري محمداً صلى الله عليه وسلم أن أبا لهب لن يكون من هؤلاء؟ ولماذا لم يقل أبو لهب: قال ابن أخي: إنني سأصلى ناراً ذات لهب، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقلت كلمة الإيمان. لكنه لم يقل ذلك وعلم الله الذي حكم عليه أنه لن يقول كلمة الإيمان.
ألم يكن باستطاعة أبي لهب وزوجه أن يقولا في جمع: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويتم انتهاء المسألة؟ ولكن الله الذي لا معقب لحكمه قد قضى بكفرهم، وبعد أن ينزل الحق هذا القول الفصل في أبي لهب وزوجه يأتي قول الحق في ترتيبه المصحفي ليقول ما يوضح: إياكم أن تفهموا أن هذه القضية تنقض، فسيصلى أبو لهب ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب، وقال الحق بعدها مباشرة: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1-2].
فلا أحد سيغير حكم الله.

 

إذن فقوله الحق: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} أي لا معقب لحكم الله، فلا إله غيره يعقب عليه. {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً} وهذه نتيجة لحكم الله، فلا يمكن أن يحكم الله للكافرين على المؤمنين. ولن يكون للكافرين حجة أو قوة أو طريق على المؤمنين. وهل هذه القضية تتحقق في الدنيا أو في الآخرة؟ ونعلم أن الحق يحكم في الآخرة التي تعطلت فيها الأسباب، ولكنه جعل الأسباب في الدنيا، فمن أخذ بالأسباب فنتائج الأسباب تعطيه؛ لأن مناط الربوبية يعطي المؤمن والكافر، فإن أخذ الكافرون بالأسباب ولم يأخذ المؤمنون بها، فالله يجعل لهم على المؤمنين سبيلاً، وقد ينهزم المؤمنون أمام الكافرين.
 

والحكمة العربية تعلمنا: إياك أن تعتبر أنّ الخطأ ليس من جند الصواب. لأن الإنسان عندما يخطئ يُصَحَّحُ له الخطأ، فعندما يعلم المدرس تلميذه أن الفاعل مرفوع، وأخطأ التلميذ مرة ونصب الفاعل؛ فهذا يعني أنه أخذ القاعدة أولأً ثم سها عنها، والمدرس يصحح له الخطأ، فتلتصق القاعدة في رأس التلميذ بأن الفاعل مرفوع. وهكذا يكون الخطأ من جنود الصواب. والباطل أيضاً من جنود الحق.
فعندما يستشرى الباطل في الناس يبرز بينهم هاتف الحق. وهكذا نرى الباطل نفسه من جند الحق، فالباطل هو الذي يظهر اللذعة من استشراء الفساد، ويجعل البشر تصرخ، وكذلك الألم الذي يصيب الإنسان هو من جنود الشفاء؛ لأن الألم يقول للإنسان: يا هذا هناك شيء غير طبيعي في هذا المكان. ولولا الألم لما ذهب الإنسان إلى الطبيب.

 

علينا- إذن- أن نعرف ذلك كقاعدة: الخطأ من حنود الصواب، والباطل من جنود الحق، والألم من جنود الشفاء، وكل خطأ يقود إلى صواب، ولكن بلذعة، وذلك حتى لا ينساه الإنسان. وتاريخ اللغة العربية يحكي عن العلامة سيبويه، وهو من نذكره عندما يلحن أحد بخطأ في اللغة؛ فنقول: (أغضب المخطئ سيبويه)؛ لأن سيبويه هو الذي وضع النحو والقواعد حتى إننا إذا أطلقنا كلمة الكتاب في عرف اللغة فالمعنى ينصرف إلى كتاب سيبويه؛ فهو مؤلف الكتاب.
 

وسيبوبه لم يكن أصلاً عالم نحو، بل كان عالم قراءات للقرآن، حدث له أن كان جالساً وعيبت عليه لحنة في مجلس، أي أنه أخطأ في النحو وعاب عليه من حوله ذلك، فغضب من نفسه وحزن، وقال: والله لأجيدن العربية حتى لا ألحن فيها. وأصبح مؤلفاً في النحو.
 

ومثال آخر: الإمام الشاطبي- رضي الله عنه- لم يكن عالم قراءات بل كان عالماً في النحو، وبعد ذلك جاءت له مشكلة في القراءات فلم يتعرف عليها، فأقسم أن يجلس للقراءات ويدرسها جيداً. وصار من بعد ذلك شيخاً للقراء. فلحنة- أي غلطة- هي التي صنعت من سيبويه عالماً في النحو، ومشكلة وعدم اهتداء في القراءات جعل من الإمام الشاطبي شيخاً للقراء؛ على الرغم من أن سيبويه كان عالم قراءات، والشاطبي كان رجل نحو.
ولذلك أكررها حتى نفهمها جيداً: الخطأ من جنود الصواب، والباطل من جنود الحق، والألم من جنود الشفاء والعافية.

 

وقد نجد الكافرين قد انتصروا في ظاهر الأمر على المؤمنين في بعض المواقع مثل أُحد، وكان ذلك للتربية؛ ففي (أحد) خالف بعض المقاتلين من المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الهزيمة مقدمة للتصويب، وكذلك كانت موقعة حنين حينما أعجبتهم الكثرة: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
والشاعر العربي الذي تعرض لهذه المسألة قال:
إن الهزيمة لا تكون هزيمة ** إلا إذا لم تقتلع أسبابها

لكن إذا جهدت لتطرد شائباً ** فالحمق كل الحمق فيمن عابها

 

فعندما يقتلع الإنسان أسباب الهزيمة تصبح نصراً، وقد حدث ذلك في أحد، هم خالفوا في البداية فغلبهم الأعداء، ثم كانت درساً مستفاداً أفسح الطريق للنصر.
فإن رأيت أيها المسلم للكافرين سبيلاً على المؤمنين فلتعلم أن الإيمان قد تخلخل في نفوس المسلمين فلا نتيجة دون أسباب، وإن أخذ المؤمنون بالأسباب أعطاهم النتائج. فهو القائل: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
فإن لم يعدّ المؤمنون ما استطاعوا، أو غرّتهم الكثرة فالنتيجة هي الهزيمة عن استحقاق، وعلى كل مؤمن أن يضع في يقينه هذا القول الرباني: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].

 

إن إعلان الإيمان بالله ليس هو نهاية أي شيء بل هو البداية، والمؤمن بالله يأخذ جزاءه على قدر عمله. ويغار الله على عبده المؤمن عندما يخطئ، لذلك يؤدبه ويربيه- ولله المثل الأعلى- نجد أن الإنسان منا قد لا يصبر على مراجعة الدروس مع أولاده فيأتي بمدرس ليفعل ذلك؛ لأن حب الأب لأولاده يدفع الأب للانفعال إذا ما أخطأ الولد، وقد يضربه. أما المدرس الخارجي فلا ينفعل؛ بل يأخذ الأمور بحجمها العادي. إذن فكلما أحب الإنسان فهو يتدخل بمقياس الود ويقسو أحياناً على من يرحم.
والشاعر العربي يقول:
فقسى ليزدجروا ومن يكُ حازماً ** فليقس أحيانا على من يرحمُ

 

ومثال آخر- ولله المثل الأعلى- الإنسان إذا ما دخل منزله ووجد في صحن المنزل أطفالاً يلعبون الميسر منهم ابنه وابن الجار، وطفل آخر لا يعرفه، فيتجه فوراً إلى ابنه ليصفعه، ويأمره بالعودة فوراً إلى الشقة، أما الأولاد الآخرون فلن يأخذ ابن الجار إلا كلمة تأنيب، أما الطفل الذي لا يعرفه فلن يتكلم معه.
وهكذا نجد العقاب على قدر المحبة والود، والتأديب على قدر المنزلة في النفس. ومن لا نهتم بأمره لا نعطي لسلوكه السيئ بالاً. وساعة نرى لأن للكافرين سبيلاً على المؤمنين فلنعلم أن قضية من قضايا الإيمان قد اختلت في نفوسهم، ولا يريد الله أن يظلوا هكذا بل يصفيهم الحق من هذه الأخطاء بأن تعضهم الأحداث. فينتبهوا إلى أنهم لا يأخذون بأسباب الله.

 

نداء الايمان

 

image.png.3618ca11c384933517ecca2398c25ba8.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)}


نعرف واقع المنافقين أنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر؛ ويوضح الحق: إياكم أن تظنوا أن في قدرة مخلوق أن يفعل شيئاً بدون علم الله، وقد يمكر إنسان بك، وهو يعلم أنك تعلم بمكره، فهل هذا مكر؟ لا؛ لأن المكر هو الأمر الذي يتم خفية بتدبير لا تعلمه، والأصول في المكر ألا يعلم الممكور به شيئاً. والمنافقون حين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر يخادعون من يعلم خافية الصدور. وكان يجب أن يأخذوا درساً من معاملة الله بوساطة المؤمنين لهم، فقد صان المؤمنون دم المنافقين ومالهم. وأجرى المسلمون على المنافقين أحكام الإسلام، لكن ما الذي يبيته الله لهؤلاء المنافقين؟ لقد بيت لهم الدرك الأسفل من النار. فمن الأقدر- إذن- على الخداع؟


إن الذكي حقاً هو من لا يخدع من يعلم أنه قادر على كشف الخداع. وكلمة (خدع) تعني مكر به مكراً فيبدي له قولاً وفعلاً ويخفى سواهما حتى يثق فيه. وبعد ذلك ينفذ المكر. وهناك كلمة (خدع) وكلمة (خادع). والحق في هذه الآية لم يقل إن الله يخدعهم، بل قال: {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ}.
و(خادع) تعني حدوث عمليتين، مثل قولنا: قاتل فلان فلانا. فالقتال يحدث بين طرفين وكذلك نقول: شارك فلان فلانا؛ لأن مادة (فاعل) تحتاج إلى طرفين. لكن عندما نقول (قتل)، فالفعل يحدث من جانب واحد. والخداع يبدأ من واحد، وعندما يرى الشخص الذي يُراد خداعه أن خصمه أقوى منه فإنه يبيت له خداعاً آخر، وتسمى العملية كلها (مخادعة)، ويقال: خادعه فخدعه إذا غلبه وكان أخدع منه. ومن إذن الذي غلب؟ إن الذي بيَّت الخداع رداً على خداع خصمه هو الغالب.
ولأن الخداع يحدث أولاً، وبعد ذلك يتلقى (المخدوع) الأمر بتبييت أكبر؛ فهو (خادع)، والذي يغلب نقول عنه: (أخدعه) أي أزال خداعه. والله سبحانه وتعالى عاملهم بمثل ما أرادوا أن يعاملوا به المؤمنين، فالمنافقون أظهروا الإيمان أولاً وأضمروا الكفر، وأعطاهم الله في ظاهر الأمر أحكام المسلمين، وفي الباطن قرر أن يعذبهم عذاب الكافرين بل وأشد من ذلك؛ لأنهم سيكونون في الدرك الأسفل من النار.

 

{إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وإياك أيها المسلم أن تشتق من هذه العملية اسما لله وتقول (المخادع)؛ لأن أسماء الله توقيفية أي لا نسمي الله إلا بالأسماء التي سمَّى بها نفسه. وسبحانه يفعل الفعل، لكن لا تأخذ من هذا الفعل اسماً، والحق يعطينا هنا (مشاكلة) ليوضح لنا أن المنافقين يمكرون ويبيتون شراً للمؤمنين، وأنت أيها المسلم تعرف أن الإنسان إنما يبيت الشر على قدر طاقته التي مهما كبرت فهي محدودة بجانب طلاقة قدرة الله.
 

ولذلك يفضح الله هذا الشر المبيت من هؤلاء المنافقين، وهم حين يمكرون فالله بطلاقة قدرته يمكر بهم أي يبطل مكرهم ويجازيهم على سوء فعلتهم، ولا نقول: (الله ماكر). ولله أن يقول في الفعل المشاكل ما يشاء.
 

{إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى}.
إن الغايات من الأحداث هي التي تضفي على الجوارح الإقبال على الأحداث، فإذا كنت تحب الحدث الذي تقبل عليه فأنت تقبل عليه بكل اشتياق ولهفة. ويقيسون لهفة اللقاء لأنها تحدد درجة المحبة. والشاعر العربي يصف لقاء حبيب بحبيبته:
لقاء الاثنين يبين حَدَّهْ ** تلهف كَيْفٍ واستطالة مًدَّهْ

 

فلحظة اللقاء تبين ما بين الحبيبين من مودة، فإن كانت المسألة بينهما عشر خطوات فهما يسرعان باللهفة فيقطعان العشر خطوات في ثلاث خطوات، وهذا معناه تقصير زمن الابتعاد، وكذلك تظهر الكيفية التي يتم بها السلام درجة المودة، فقد يسلم أحدهما على الآخر ببرود أو بنصف ود، أو بود كبير، أو بود مصحوب بلهفة وأخذ متبادل بالأحضان؛ وكذلك المدة التي يحتضن كلاهما الآخر، هل هي دقيقة أو دقيقتان أو ثلاث؟
 

إذن فالذي يبين قيمة الود: التلهف، الكيفية، المدة. وهذه العناصر الثلاثة أخذها الشعراء للتعبير عن المودة والحب بين البشر، وقديماً كان الذين يُتَيَّمون بالنساء يسترون في السلام مودتهم. وفي الحصارة الغربية التي سقطت فيها قيم الأديان نجد أن الرجل يتلقى المرأة بالقبلات.
 

وفي بعض البلاد نجد الرجل يصافح المرأة، فهل يصافحها بتلهف، وهل تبادله هذه اللهفة؟ فإن وجدت الكف مفردة ومبسوطة للمصافحة فقط فهذا سلام عادي. أما إذا ثنى أحدهما إصبعه البنصر على كف الآخر فعليم أن ترى أي طرف هو الذي قام بثني أصبعه ليحتضن اليد كلها في يده، فإن كان ذلك من الرجل فاللهفة منه، وإن كان من المرأة فاللهفة منها، وإن كان من الاثنين فاللهفة منهما معا، ثم ما المدة التي يستغرقها بقاء اليد في اليد؟
وقد يحلو لكليهما معاً- رجل وامرأة- وكأن الكلام قد أخذهما فنسي كل منهما يده في يد الآخر.
سلام نوعين يبين حَدَّهْ ** تلهف كيف واستطالة مُدَّهْ

 

هكذا يقابل الإنسان الأحداث، فإن كان الحدث ساراً فالإنسان يقبل عليه بلهفة. وإن كان غير ذلك فالإنسان يقوم إليه متثاقلاً. وكان المنافقون يقومون إلى الصلاة بتثاقل وتكاسل: {وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى} كأنهم يؤدون الصلاة كستار يخفون به نفاقهم، ويستترون بها عن أعين المسلمين. ولم يكن قيامهم للصلاة شوقاً إلى لقاء الله مثلما كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال- رضي الله عنه- طالبا منه أن يؤذن للصلاة: (يا بلال أرحنا بالصلاة).
لأن المؤمن يرتاح عندما يؤدي الصلاة، أما المنافق فهي عملية شاقة بالنسبة إليه لأنه يؤديها ليستتر بها عن أعين المسلمين ولذلك يقوم إليها بتكاسل.
{وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً}.
 

هم يقيمون الصلاة ظاهرياً أمام الناس ليخدعوا المسلمين وليشاهدهم غيرهم وهم يصلون. وفي الصلاة التي يراءون بها الناس لا يقولون كل المطلوب منهم لتمامها، يقولون فقط المطلوب قوله جهراً. كأن يقرأوا الفاتحة وبعض القرآن ولكنهم في أثناء الركوع لا يسبحون باسم الله العظيم وكذلك في السجود لايسبحون باسم الله الأعلى.
 

ففي داخل كل منافق تياران متعارضان.. تيار يظهر به مع المؤمنين وآخر مع الكافرين. والتيار الذي مع المؤمنين يجبر المنافق على أن يقوم إلى الصلاة ويذكر الله قليلاً، والتيار الذي مع الكافرين يجعله كسولاً عن ذلك، ولا يذكر الله كثيرا.
 

وإذا ما حسبنا كم شيئا يجهر به المصلي وكم شيئاً يجريه سراً فسنجد أن ما يجريه المصلي سراً في أثناء الصلاة أكثر من الجهر. ففي الركوع يقول: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، ويقول: سبحان ربي الأعلى، في كل سجود ثلاث مرات، أما المنافق فلا يذكر الله إلا جهراً، وهو ذكر قليل. ونجد المنافق لا يفعل فعلاً إلا إذا كان مَرْئيا ومسموعا من غيره، هذا هو معنى المراءاة. أما الأعمال والأقوال التي لا تُرَى من الناس ولا تُسمع فلا يؤديها.
 

ولا يهز المجتمعات ولا يزلزلها ويهدُّها إلا هذه المراءاة؛ لأن الحق سبحانه يحب أن يؤدي المسلم كل عمل جاعلاً الله في باله، وهو الذي لا تخفى عليه خافية. ويلفتنا إلى هذه القضية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
 

وإذا كان الإنسان يخجل من أن يغش واحداً مثله من البشر غشاً ظاهرياً فما بالنا بالذي يحاول غش الله وهو يعلم أن الله يراه؟ ولماذا يجعل ذلك العبد ربه أهون الناظرين إليه؟
وعندما يغش واحداً آخر واكتشف الآخر غشه فهو يعاقبه فما بالنا بغش الله؟! ولذلك تجد الرسول صلى الله عليه وسلم ينقل لنا حال المرائي للناس فيقول: (إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله- عز وجل- يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء؟).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة: يا فاجر يا غادر يا مرائي ، ضل عملك وحبط أجرك فخذ أجرك ممن كنت تعمل له».

 

إذن فالمنافق إنما يخدع نفسه، هو يتظاهر بالصلاة ليراه الناس. ويزكي ليراه الناس، ويحج ليراه الناس، هو يعمل ما أمر الله به، لكنه لا يعلمه الله، ولذلك قال القرآن: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39].
وقال عن لون ثان من نفاقهم: {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264].
والصفوان هو الحجر الأملس تماما وهو الذي ليس فيه خشونة، لأن الحجر إن كان به جزء من خشونة وعليه تراب ثم سقط عليه المطر، فالتراب يتخلل الخشونة. أما الحجر الأملس فمن فور نزول المطر ينزلق من عليه التراب. ومن يرائي المؤمنين عليه أن يأخذ أجره ممن عمل له.

 

image.png.1819f286e951258b60bfc654a16e5902.png

 

{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)}
والشيء المذبذب مثل المعلق في خيط فيأخذه الريح إلى ناحية ليقذفه في ناحية أخرى لأنه غير ثابت، مأخوذ من (المذبة) ومنه جاءت تسمية (الذباب): الذي يذبه الإنسان فيعود مرة أخرى، فمن سلوك الذباب أنه إذا ذُبّ عن مكان لابد أن يعود إليه.
 

{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} فهل هم الذين ذبذبوا أنفسهم أم تلك هي طبيعتهم؟ ولنتأمل عظمة الحق الذي سوى النفس البشرية؛ ففي الذات الواحدة آمر ومأمور، والحق يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6].
أي أن الإنسان يقي نفسه بأن يجعل الآمر يوجه الأمر للمأمور، ويجعل المأمور يطيع الآمر، ودليل ذلك قول الحق عن قابيل: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30].

 

أي أن جزءًا من الذات هو الذي طوَّع بقية ذات قابيل لتقتل هابيل. فقد خلق الله النفس البشرية كملكات متعددة، ملكة تحب الأريحية وأخرى تحب الشح، والملكة التي تحب الأريحية إنما تطلب ثناء الناس، والتي تحب الشح إنما تفعل ذلك ليطمئن صاحبها أنه يملك ما يغنيه. وكلتا الملكتين تتصارع في النفس الواحدة؛ لذلك يقول الحق: {قوا أَنفُسَكُمْ} فالنفس تقي النفس؛ لأن الملكات فيها متعددة. وبعض الملكات تحب تحقيق المتعة والشهوة، لكن هناك ملكة إيمانية تقول: تذكر أن هذه الشهوات عاجلة ولكنها عظيمة المتاعب فيما بعد.
 

إذن فهناك صراع داخل ملكات الإنسان، ويوضح لنا الحق هذا الصراع في قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ}.
لأن قابيل أراد أن يقتل هابيل بغريزة الاستعلاء، ونازعته نفسه بالخوف من الإثم. لقد دارت المراودة في نفس قابيل إلى أن سيطرت غريزة الاستعلاء فأمرت بالقتل وطوعت بقية النفس. وهذا يكشف لنا أن النفس البشرية فيها ملكات متعددة، كل ملكة لها مطلوب. والدين هو الذي يقيم التعايش السلمي بين الملكات.

 

مثال آخر: الغريزة الجنسية تقيم السعار في النفس، فيقوم الوعي الإيماني بردع ذلك بأن تقول النفس الإيمانية: إياك أن تلغ في أعراض الناس حتى لا تلغ الناس في أعراضك، ولماذا لا تذهب وتتزوج كما شرع الله، ولا ترم أبنائك في فراش غيرك؛ لأن الغريزة مخلوقة لله فلا تجعل سلطان الغريزة يأمر وينهى.
 

وهكذا نرى أن النفس تضم وتشمل الملكات والغرائز، ولا يصح أن يعدي الإنسان غريزة إلى أمر آخر؛ لأنه إن عدى الشهوات فسدت الدنيا.
وعلى سبيل المثال نحن نستخدم الكهرباء التي تعطي لنا النور في حدود ما يرسم لنا مهندس الكهرباء، الذي وضع القطب الموجب في مجاله وكذلك القطب السالب، بحيث نأخذ الضوء الذي نريده أو تعطينا شرارة لنستخدمها كقوة لإدارة آلة، لكن لو التقى القطب الموجب بالقطب السالب على غير ما صنع المهندس لحدثت قفلة كهربائية تسبب حريقاً أو فساداً.

 

وكذلك النفس البشرية، إن التقى الذكر مع الأنثى كما شرع الله فإن البشرية تسعد، وإن حدث غير ذلك فالذي يحدث في المجتمع يصير حريقاً نفسياً واجتماعياً لا حدود لآثاره الضارة، وهكذا نرى أن النفس ليس فيها دافع واحد بل فيها دوافع متعددة.
 

ونجد غريزة الجوع تحرك النفس إلى الطعام، ويستجيب الدين لذلك لكنه يوصي أن يأكل الإنسان بشرط ألا يتحول تناول الطعام إلى شره، كما جاء في الحديث: «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه».
فالطعام لبقاء النوع. والإنسان محب للاستطلاع، فيأمر الإسلام الإنسان بأن يستطلع أسباب الله في الكون ليزيد من صلاح الكون، وينهى الإسلام عن استخدام حب الاستطلاع في التجسس على الناس، وهكذا تتوازن الملكات بمنهج الإسلام، وعلى المسلم أن يعايش ملكاته في ضوء منهج الله معايشة سليمة حتى تكون النفس الإنسانية متساندة لا متعاندة، لتعيش كل الملكات في سلام، ويؤدي كل جهاز مهمته كما أراد الله.

 

لكن المنافق يحيا مذبذباً وقد صنع بنفسه، فقد أرخى لبعض ملكاته العِنان على حساب ملكات أخرى {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} إن الكافر يمتاز عن المنافق- ظاهرا- بأنه منسجم مع نفسه، هو غير مؤمن بالإسلام ويعلن ذلك ولكنه في حقيقة الأمر يتصارع مع فطرته التي تدعوه إلى الإيمان.
 

قد يقول قائل: وكيف يتساوى الذي أظهر الإيمان وأبطن الكفر مع الذي أعلن الكفر؟ ونقول: الكافر لم يخدع الطائفة المؤمنة ولم يقل كالمنافق إنه مع الفئة المؤمنة وهو ليس معها؛ بل يعلن الكافر كفره منسجماً مع نفسه، لكن المنافق مذبذب خسيس في وضعه الإنساني والرجولي.
{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}.
 

والله لا يضل عبداً بشكل مباشر؛ فسبحانه يُعلم خلقه أولاً بالرسل والمنهج، لكنه يضل من يصر على عدم الإيمان، لذلك يتركه على ضلالة وعماه. صحيح أن في قدرة الله أن يأخذه إلى الإيمان قهراً، لكنه سبحانه يترك الإنسان لاختياره.
فإن أقبل الإنسان على الله فسبحانه يعينه على الهداية، أما إن لم يقبل فليذهب إلى تيه الضلال. ويزين له الدنيا ويعطيه منها لكنه لن يجد سبيلاً؛ فسبيل الله واحد. وليس هناك سبيلان.

 

ونذكر هذه الحكاية؛ لنعرف قيمة سبيل الله. كان الأصمعي- وهو مؤلف عربي له قيمة كبيرة- يملك أذناً أدبية تميل إلى الأساليب الجميلة من الشعر والنثر، ووجد الأصمعي إنساناً يقف أمام باب الملتزم بالكعبة المشرفة، وكان الرجل يدعو الله دعاء حاراً (يا رب: أنا عاصيك، ولولا أنني عاصيك لما جئت أطلب منك المغفرة، فلا إله إلا أنت، كان يجب أن أخجل من معصيتك ولكن ماذا أفعل). وأعجب الأصمعي بالدعاء، فقال: يا هذا إن الله يغفر لك لحسن مسألتك.

 

image.png.9d87d209ff2a7a084fe3abc542042ce8.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)}


لقد أخذ الحق على المنافقين أنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون الله؛ وكذلك أخذ المؤمنون على المنافقين أنهم اتخذوا من معسكر الكفر ولياً لهم من دون الله ومن دون المؤمنين، ولهذا فأولى بالمؤمنين ألا يصنعوا ذلك، ويوضح سبحانه: لقد أخذنا على المنافقين أنهم اتخذوا الكافرين أولياء من دون الله، فإياكم أن تفعلوا مثلهم.
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً}.

 

وهذا أمر منطقي يستقيم مع منهج الإيمان؛ لأنكم إن فعلتم ذلك. فإنما تقدمون الحجة ليعذبكم الله، وتعلمون أن المنافق يعلن الإيمان بلسانه ويخفي الكفر في قلبه، فكيف يكون وضع المؤمن مع الكافر مثل وضع المنافق مع الكافر؟ ذلك أمر لا يستقيم. ومن يفعل ذلك إنما يقدم حجة لله ليعذبه.


الحق سبحانه في إرساله للرسل وفي تأييد الرسل بالمعجزات وفي إرساله المناهج المستوفية لتنظيم حركة الإنسان في الحياة، كل ذلك ليقطع الحجة على الناس حتى لا يقولن واحد: أنت لم تقل لنا يارب كيف نسير على منهج ما؛ لذلك لم يترك سبحانه الإنسان ليفكر بعقله ليصل بفكره إلى وجود الله، ويكتشف أن هناك خالقا للكون. لم يتركنا سبحانه لهذه الظنون، ولكنه أرسل لنا الرسل بمنهج واضح، من أجل ألا يكون للناس على الله حجة من بعد الرسل، فلا يقولن واحد: أنت لم تنبهني يارب، والجهل بالقانون في الشرع البشري لا يعفي الإنسان من العقوبة إن ارتكب جرما، لكن الله لا يفعل ذلك؛ فهو أكرم على عباده من أنفسهم، لذلك يرسل الرسول ليحمل المنهج الذي يبين الحلال من الحرام: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
فلا يقولن واحد: لقد أخذنا الله على غرّة. وأنتم أيها المؤمنون إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتقربتم إليهم ونصرتموهم فأنتم أكثر شرا من المنافقين؛ لأن المنافق له أسبابه، وفي أعماقه خيط من الكفر وخيط من الإيمان، والحجة واضحة عليكم أيها المؤمنون؛ فقد أبلغكم الحق المنهج وأعلنتم الإيمان به. فإن صنعتم غير ذلك تعطون الحق الحجة في أن يعذبكم.

 

{أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} والسلطان المبين هو السلطان الواضح المحيط الذي لا يستطيع أن يدفعه أحد، فإذا ما كانت هناك حجة، قد يستطيع الإنسان أن ينقضها، كالمحامي أمام المحاكم. لكن حجة الله هي سلطان مبين. أي لا تنقض أبداً.

image.png.b59fd8802d33c1828d575caa03212cb4.png


 

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)}

ولنر دقة التربية الإيمانية. فلم يأت الحق بفصل في كتابه عن المنافقين يورد فيه كل ما يتعلق بالمنافقين، لا، بل يأتي بلمحة عن المنافقين ثم يأتي بلقطة أخرى عن المؤمنين، حتى ينفِّر السامع من وضع المنافق ويحببَه في صفات المؤمن، وهنا يقول: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً}. والدرك دائماً في نزول. والأثر الصالح يميز لنا ذلك بالقول: (النار دركات كما أن الجنة درجات).
فالنزول إلى أسفل هو الدرك، والصعود إلى أعلى هو صعود الدرج. وفي عصرنا نضع مستوى سطح البحر كمقياس؛ لأن اليابسة متعرجة، أما البحر فهو مستطرق.

 

ونستخدم في الأمر الدقيق- أيضا- ميزان المياه، وعندما تسقط الأمطار على الطرق تكشف لنا عمل المقاول الذي رصف الطرق، هل أتقن هذا العمل أو لا؟ ونحن نلقي دلوا من المياه في الحمام بعد تبليطه حتى ينكشف جودة أو رداءة عمل العامل، إذن هناك شيء يفضح شيئا آخر. والقول المصري الشائع: (إن الذي يقوم بعمل المحارة هو الذي يكشف عامل البناء). فلو أن الحائط غير مستو؛ فعامل المحارة مضطر أن يسد الفجوات والميول حتى يستوي سطح الحائط.. والذي يكشف جودة عامل المحارة هو عامل طلاء الحائط؛ لأنه إما أن يستخدم المعجون بكثرة ليملأ المناطق غير المستوية في الحائط، وإما أن يجد الأمر سهلا. والذي يكشف جودة أو رداءة عمل عامل الطلاء هي أشياء طبيعية مثل الغبار. والعامل الذي يريد أن يغش هو الذي يسرع بتسليم البناء؛ لأن الغبار الذي يوجد في الجو يمشي في خط مستقيم، وعندما يوجد جدار تم طلاؤه بمادة غير جيدة فالغبار يلتصق به وكأن الله قد أراد بذلك أن يفضح من لا يتقن عمله، وكل شيء مرده إلى الله حتى يصل الخلق جميعا إلى الحق سبحانه مفضوحين، إلا المؤمنين الذين يعملون صالحاً، فهؤلاء يسترهم بعملهم الصالح.
{إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً}.

وسبحانه وتعالى سبق أن عرض لنا صورة المنافقين المهزوزة التي لا ثبات لها على رأي، ولا وجود لها على لون يحترمه المجتمع الذي يعيشون فيه فقال عنهم: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} [النساء: 143].
والذبذبة لون من أرجحة الشخصية التي لا يوجد لها مقوم ذاتي. وسبحانه وتعالى حين عرضهم هذا العرض المشوه، يوضح: أن جزائي لهم حق يناسب ما فعلوه.
وقد هيأ الحق الأذهان ليجعلها مستعدة لقبول الحكم الذي أنزله عليهم حتى لا تأخذ الناس شفقة عليهم أو رحمة بهم، وسبحانه حين يحكم حكما فهو يضمن بقيوميته ووحدانيته ألا يوجد منازع له في الحكم.

 

وكان من الممكن أن يقول سأجعله في الدرك الأسفل من النار. ولن توجد قوة أخرى تنتشل المنافق؛ لذلك أتبع الحق الحكم بقوله: {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} أي أنه حكم مشمول بالنفاذ، ولن يعدله أحد من خلق الله، فسبحانه له الملك وحده، وقد جعل سبحانه الملك في الدنيا لأسباب الناس أيضاً، أما في الآخرة فلا مِلك لأحد ولا مُلك لأحد. {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
وبعد ذلك يتيح الحق لأقوام من المنافقين أن يعدلوا رأيهم في المسألة وأن يعلنوا إيمانهم وأن يتوبوا عما فعلوه- أتاح لهم أن يراجعوا أنفسهم ويحاسبوها فلم يغلق الباب دونهم بل قال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ...}.

image.png.e1008ac7002c9d5e5b535a045859cf12.png


{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)}


إذن فمن الممكن أن توجد فتحة خير قد تدفع الإنسان إلى التوبة، وحتى لا يظن أحد أن الحكم هنا نهائي، وذلك حتى لا يفقد الإنسان نفسه ويتورط في مزيد من الشرور؛ لذلك قال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} أي تاب عن نفاقه الأول، وإذا ما كان قد ترتب على نفاقه السابق إفساد فلابد أن يصلح ما أفسده ويعتصم بالله ويُخْلِص لله نيّةً وعملاً. {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ واعتصموا بالله وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ}. إذن فشروط النجاة من الدرك الأسفل من النار هي التوبة، وإصلاح ما أفسد، والاعتصام بالله، وإخلاص دينه لله.
 

والتوبة هنا إقلاع عن النفاق، وألا يترك المنافق الفساد الذي صنعه نفاقه بل عليه أن يحاول جاهداً أن يصلح ما أفسده بهذا النفاق. والاعتصام بالله كيف يكون؟
 

لقد عرفنا من قبل أنهم كانوا يفعلون ذلك لابتغاء العزة عند الكافرين.. أي أن نفس المنافق تطمئن إلى هؤلاء الكافرين فيفزع إليهم ويعتز بشدتهم وبصلابتهم؛ لذلك يوضح الله: تنزعوا هذه الفكرة من رءوسكم وليكن اعتصامكم بالله وحده لأنه لا يُجِير أحد على الله، واجعلوا العزة والمرجع إليه وحده.
 

والملاحظ أن الذي يتوب ويصلح ويعتصم بالله يكون قد استوفى أركان اليقين الإيماني بالله، لكن الحق يقول: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} فلماذا أكد على الإخلاص هنا؟ لأن تدبير النفاق كان ينبع من قلوبهم أولا. ونعلم أن القلب قد يذنب، فذنب الجارحة أن تعتدي، مثال ذلك العين تذنب حين تعتدي على محارم الآخرين، واللسان يذنب إن تعرض بالسب أو الشتم للناس. إذن. فكل جارحة لها مجال معصية، وهنا مجال معصية القلب هو النفاق وهو الأمر المستور. إذن فقوله الحق: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} جاء ليؤكد ضرورة الإخلاص في التوبة عن النفاق، والإخلاص محله القلب.
 

فكأن توبة القلوب غير توبة الجوارح، فتوبة الجوارح تكون بأن تكف الجوارح عن مجال معاصيها. أما توبة القلب فهو أن يكف عن مجال نفاقه بأن يخلص. وبذلك أثبت الحق مزية المؤمنين الذين لم ينغمسوا في النفاق. وجعل التائبين من المنافقين مع المؤمنين، فكأن الأصل في التنعيم وفي نيل الجزاء العظيم هو الوجود مع المؤمنين. {فأولئك مَعَ المؤمنين وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً}.
ومن هنا نعلم أن الأجر العظيم يكون للمؤمنين. ومن يوجد مع المؤمنين ينال الأجر نفسه. وقد جعل الحق الجزاء من جنس العمل. وكان المنافقون ينافقون ليأخذوا من المؤمنين ظواهر الإسلام كصون المال والدماء وليعتبرهم الجميع ظاهريا وشكليا من المسلمين، وهم حين نافقوا المسلمين أعطاهم المسلمون ما عندهم. وعندما تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا الدين لله جعلهم الله مع المؤمنين، ويعطي سبحانه لأهل الإيمان أجراً عظيماً.

 

نداء الايمان

 

image.png.f14eb6bf1945e6bd380a52b64545b9c8.png


 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}


سبحانه قد أوضح من قبل أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، واستثنى منهم من تاب وأصلح واعتصم بالله وأخلص، ويتحدث هنا عن فكرة العذاب نفسها، ليجليها فيقول: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ} وهذا استفهام، والاستفهام أصلاً سؤال من سائل يتطلب جواباً من مجيب. وسبحانه وتعالى يريد أن يعرض قضية موثوقا بها فهو لا يأتي بها خبراً، فهو القادر على أن يقول: أنا لا أفعل بعذابي لكم ولا أحقق لذاتي من ورائه شيئا، فلا استجلب به لي نفعا ولا أدفع به عني ضراً.
لكنه هنا لا يأتي بهذه القضية كخبر من عنده، بل يجعل المنافقين يقولونها. مثال ذلك- ولله المثل الأعلى- يقول واحد لآخر: أنت أهنتني. ومن الجائز أن يرد الآخر: أنا لم أهنك. وأقسم لك أنني ما أهنتك. وقد يضيف: ابغني شاهداً. وهنا نجد مراحل المسألة تبدأ بالإبلاغ عن عدم الإهانة، ثم القسم بأن الإهانة لم تحدث، ومن بعد ذلك طلب شاهداً على أن الإهانة المزعومة قد حدثت.

 

وقد يقول الإنسان رداً على من يتهمه بالإهانة: أنا أترك لك هذه المسألة، فماذا قلت لك حتى تعتبره إهانة؟ ومن يقول ذلك واثق أن من شعر بالإهانة لو أدار رأسه وفكره فلن يجد كلمة واحدة تحمل في طياتها شبهة الإهانة.
 

ولو كان الإنسان واثقا من أنه أهان الآخر، فهو يخاف أن يقيم الآخر دليلا على صحة اتهامه له، ولكن حين يقول له: وماذا قلت لك حتى تعتبر ذلك إهانة؟. فعليه أن يبحث ولن يجد. وبذلك يكون الحكم قد صدر منه هو.
وإذا كان الله يقول: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ} فهذا خطاب لجماعة كانت ستتعذب. وكانت فيهم محادة لله. ورضي الله شهادتهم، فكأن هذه لفتة على أن العاصي يستحق العذاب بنص الآية: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ}، ومستعد لهذا العذاب لأنه محاد لله. ولكن الله يقبل منه ومن أمثاله أن يشهدوا. وهذا دليل على أن الإيمان الفطري في النفس البشرية، فإذا ما حزبها واشتد عليها الأمر لم تجد إلا منطق الإيمان.
ويوضح الحق للمنافقين: ماذا أفعل أنا بعذابكم؟ فلن يجدوا سببا خاصا بالله ليعذبهم، فكأن الفطرة الطبيعية قد استيقظت فيهم؛ لأنهم سيديرون المسألة في نفوسهم.

 

وعلى مستوانا نحن البشر نرى أن الذي يدفع الإنسان ليعذب إنسانا آخر إنما يحدث ذلك ليشفي غيظ قلبه، أو ليثأر منه؛ لأنه قد آلمه فيريد أن يرد هذا الإيلام. أو ليمنع ضرره عنه. والله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون في أي موقع من هذه المواقع. فإذا أدار المنافقون هذه المسألة فطريا بدون إيمان فلن يكون جوابهم إلا الآتي: لن يفعل الله بعذابنا شيئا، إن شكرنا وآمنا.


ونستخلص من ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يريد عرض قضية يثبت فيها الحكم من الخصم نفسه، يلقيها على هيئة سؤال. وكان من الممكن أن يجري هذه المسألة خبرا، إلا أن الخبر هو شهادة من الله لنفسه، أما السؤال فستكون إجابته اقرارا من المقابل. وهذا يعمي أنهم كانوا عاصين ومخالفين. وكأنه سبحانه قد ائتمنهم على هذا الجواب؛ لأن الجواب أمر فطري لا مندوحة عنه. وحين يدير الكافر رأسه ليظن بالله ما لا يليق، فلن يجد مثل هذا الظن أبدا.
 

{مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً}. وإن لم يشكروا ولم يؤمنوا فما الذي يناله الحق من عذابهم؟ ونعلم أن عظمة الحق أنه لا يوجد شي من طاعة يعود إلى الله بنفع، ولا يوجد شيء من معصية يعود إلى الله بالضرر. ولكنه يعتبر النفع والضرر عائدين على خلق الله لا على الله- سبحانه-.
 

وسبحانه يريدنا طائعين حتى نحقق السلامة في المجتمع، سلامة البشر بعضهم من بعض. إذن فالمسألة التي يريدها الحق، لا يريدها لنفسه، فهو قبل أن يخلق الخلق موجود وبكل صفات الكمال له، وبصفات الكمال أوجد الخلق. وإيجاد الخلق لن يزيد معه شيئا، ولذلك قال في الحديث القدسي: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا إلا كما يُنقص المخيط إذا أدخل البحر..).
 

إذن فالطاعة بالنسبة لله والمعصية بالنسبة لله، إنما لشيء يعود على خلق الله. ولننظر إلى الرحمة من الحق سبحانه وتعالى الذي خلق خلقاً ثم حمى الخلق من الخلق، واعتبر سبحانه أن من يحسن معاملة المخلوق مثله فهو طائع لله، ويحبه الله لأنه أحسن إلى صنعة الله.
{مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} فإن تشكروا وتؤمنوا فلن يفعل الله بعذابكم شيئا.. أي فقد أبعدتم أنفسكم عن استحقاق العذاب.

 

وسبحانه يريد أن يعدل مزاج المجتمع وتفاعلات أفراده مع بعضهم بعضاً، وذلك حتى يكون المجتمع ذا بقاء ونماء وتعايش. ونعلم أن لكل إنسان سمة وموهبة، وهذه الموهبة يريدها المجتمع.
فمن الجائز أن يكون لإنسان ما أرض ويريد أن يقيم عليها بناء، وصاحب الأرض ليس مفترضا فيه أن يدرس الهندسة أولاً حتى يصمم البناء ورسومه، وليس مفترضا فيه أن يتقن حرفة البناء ليبني البيت، وكذلك ليس مفروضا فيه أن يتعلم حرفة الطلاء والكهرباء وغيرهما.
وكذلك ليس من المفروض فيمن يريد ارتداء جلباب أن يتعلم جز الصوف من الغنم أو غزل القطن وكيف ينسجه وكيف يقوم بتفصيله وحياكته من بعد ذلك، لا، لابد أن يكون لكل إنسان عمل ما ينفع الناس. إذن فلكل إنسان عمل ينفع الناس به حتى يتحقق الاستطراق النفعي، ولأن كلاًّ منا يحتاج إلى الآخر فلابد من إطار التعايش السلمي في الحياة. لا أن يكون العراك هو أساس كل شيء؛ لأن العراك يضعف القوة ويذهب بها سدى، وسبحانه يريد كل قوى المجتمع متساندة لا متعاندة، ولذلك قال: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ}. أما إن لم تشكروا وتؤمنوا، فعذابكم تأديب لكم، لا يعود على الله بشيء.
ولماذا وضع الحق الشكر مع الإيمان؟ لنعرف أولاً ما الشكر؟ الشكر: هو إسداء ثناء إلى المنعم ممن نالته نعمتهُ، فتوجيه الشكر يعني أن تقول لمن أسدى لك معروفا: (كثر خيرك)، وما الإيمان؟ إنه اليقين بأن الله واحد.

 

لكن ما الذي يسبق الآخر. الشكر أو الإيمان؟ إن الإيمان بالذات جاء بعد الانتفاع بالنعمة، فعندما جاء الإنسان إلى الكون وجد الكون منظما، ولم يقل له أحد أي شيء عن أي دين أو خالق. ألا تهفو نفس هذا الإنسان إلى الاستشراف إلى معرفة من صنع له هذا الكون؟
وعندما يأتي رسول، فالرسول يقول للإنسان: أنت تبحث عن القوة التي صنعت لك كل هذا الكون الذي يحيط بك، إن اسمها الله، ومطلوبها أن تسير على هذا المنهج. هنا يكون الإيمان قد وقع موقعه من النعمة. فالشكر يكون أولاً، وبعد ذلك يوجد الإيمان، فالشكر عرفان إجمالي، والإيمان عرفان تفصيلي. والشكر متعلق بالنعمة. والإيمان متعلق بالذات التي وهبت النعمة.

 

{مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً} والحق سبحانه يوضح لنا: أنا الإله واهب النعمة أشكركم. كيف يكون ذلك؟
 

لنضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- أنت اشتريت لابنك بعضا من اللعب، ولم تفعل ذلك إلا بعد ان استوفيت ضرورات الحياة، فلا أحد يأتي باللعب لابنه وهو لم يأت له بطعام أو ملابس.
إذن فأنت تأتي لابنك باللعب بعد الطعام والملبس ليملأ وقت فراغه، وهذا يعني أن الضرورات قد اكتملت. وحين تقول لابنك: إن هذه اللعبة للعب فقط، ستأخذها ساعة تحب أن تلعب، وتضعها في مكانها وقت أن تذاكر، فكل شيء هنا في هذا المنزل له مهمة يجب أن يؤديها. وهذا يعني إنك كوالد تريد أن تؤدب ابنك حتى يلعب بلعبته وقت اللعب ولا يلعب بأي شيء غيرها في المنزل؛ لأنه لو لعب بكل شيء في المنزل فلابد من أن يكسر شيئا، فلا مجال للعب في التليفزيون أو في الساعة أو الثلاجة أو الغسالة حتى لا تتعطل تلك الأجهزة.
وأنت كوالد تريد أن تفرق بين شيء يلعب به وشيء يُجد به. وأشياء الجد لا توجد إلا عند طلبها فقط؛ فالغسَّالة لا تستخدم إلا ساعة غسل الملابس، والساعة لا نستخدمها إلا لحظة أن نرغب في معرفة الوقت. والثلاجة لا تفتحها إلا ساعة تريد أن تستخرج شيئا تأكله أو تشربه، والوالد يأتي للابن بقليل اللعب ليضع له حدا بين الأشياء التي يمكنه أن يلعب بعا وبين الأشياء التي لا يصح أن يلعب بها، فأشياء المنزل يجب ألا يقرب منها الابن إلا وقت استعمالها. لكن بالنسبة للعبة فالابن يلعب بها عندما يحين وقت اللعب، لكن عليه أن يحافظ عليها. وعندما يرقب الوالد ابنه، ويجده منفذا للتعليمات، ويحافظ على حاجات المنزل، ويلعب بلعبه محافظا عليها. وإن لم يُعَلّم الأب ابنه ذلك فقد يفسد الابن لعبه.
وحين يقوم الابن بتنفيذ تعليمات أبيه فالأب يرضى عنه ويسعد به. وعندما تخرج لعبة جديدة في السوق فالأب الراضي عن ابنه يشتري له هذه اللعبة الجديدة؛ لأن الولد صار مأمونا؛ لأنه يعرف قواعد اللعب مع المحافظة على أداة اللعب. ويعرف أيضا كيف يحافظ على حاجات المنزل. ويزداد رضاء الأب عن تصرفات الابن. وينشأ عن هذا الرضاء أن يشتري الأب لعبا جديدة. فإذا كان ذلك هو ما يحدث في العلاقة ما بين الأب والابن، وهما مخلوقان لله، فما بالنا بالخالق الأعلى سبحانه وتعالى الذي أوجد كل المخلوقات؟

 

إن الإنسان حين يضع كل المسائل في ضوء منهج الله، فالله شاكر وعليم؛ لأن الله يرضى عن العبد الذي يسير على منهجه، وعندما يرضى الرب عن العبد فهو يعطي له زيادة. فالله شاكر بمعنى أن البشر إن أحسنوا استقبال النعمة بوضع كل نعمة في مجالها فلا تتعدى نعمة جادة، على نعمة هازلة ولا نعمة هازلة على نعمة جادة، فالله يرضى عن العباد.
 

ومعنى رضاء الله أن يعطي البشر أشياء ليست من الضرورات فقط ولكن ما فوق ذلك. فسبحانه يعطي الضرورات للكل حتى الكافر. ويعطي سبحانه ما فوق الضرورات وهي أشياء تسعد البشر.
إذن فمعنى أن الله شاكر.. أي أن سبحانه وتعالى راض. ويثيب نتيجة لذلك ويعطي الإنسان من جنس الأشياء ويسمو عطاؤه، مصداقا لقوله الحق: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
فالشكر هنا موجه من العبد للرب، والزيادة من الرب إلى العبد. وإياك أيها الإنسان أن تصنع الأشياء شكليا، مثل الطفل الذي يصون لعبته لحظة أن يرى الأب. ومن فور أن يختفي الأب أمام عيني الطفل فهو يفسد اللعبة، والله ليس كالأب أبداً، فالأب قدراته محدودة، ولكن الله هو الخالق الأعلى الذي لا تخفى عليه خافية أبداً وسبحانه شاكر، وهو أيضاً عليم.

 

 

نداء الايمان

image.png.114fae528f290fb0e1727af987ec6776.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)}


إنه سبحانه وتعالى يريد أن يحمي آذان المجتمع الإيماني من (قالات السوء).. أي من الألفاظ الرديئة؛ لأننا نعلم أن الناس إنما تتكلم بما تسمع، فاللفظ الذي لا تسمعه الأذن لا تجد لسانا يتكلم به، ونجد الطفل الذي نشأ في بيت مهذب لا ينطق ألفاظا قبيحة، وبعد ذلك تجيء على لسانه ألفاظ قبيحة وحينئذ نتساءل: من أين جاءت هذه الألفاظ على لسان هذا الابن؟ ونعرف أنها جاءت من الشارع؛ لأن البيئة الدائمة للطفل ليس بها ألفاظ رديئة، وعندما يتقصى الإنسان عن مصدر هذه الألفاظ، يعرف أن الطفل المهذب قضى بعضاً من الوقت في بيئة أخرى تسربت إليه منها بعض الألفاظ الرديئة.
 

إذن فاللغة هي بنت المحاكاة. وما تسمعه الأذن يحكيه اللسان. ونعلم أن اللغة ليست جنسا وليست دما، بمعنى أن الطفل الإنجليزي لو نشأ في بيئة عربية، فهو يتحدث العربية. ولو أخذنا طفلا عربيا ووضعناه في بيئة إنجليزية فسيتكلم الإنجليزية.
واللغة الواحدة فيها ألفاظ لا يتكلم بها لسان إلا إن سمعها، وإن لم يسمعها الإنسان فلن ينطق بها. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي المجتمع الإيماني من قالات السوء التي تطرق آذان الناس لأنها ستعطيهم لغة رديئة؛ لأن الناس إن تكلمت بقالات السوء، فسيكون شكل المجتمع غريبا، وتتردد فيه قالات سوء في آذان السوء، فكأن الحق سبحانه يوضح: إياكم أن تنطق ألسنتكم بأشياء لا يحبها الله، فليست المسألة أن يريد الإنسان نفسه فقط بنطق كلمة، ولكن نطق هذه الكلمة سيرهق أجيالاً؛ لأن من يسمع الكلمة الرديئة سيرددها، وسيسمعها غيره فيرددها، وتتوالى القدوة السيئة. ويتحمل الوزر الإنسان الذي نطق بكلمة السوء أولاً.

 

وقالات السوء هذه قد تكون بالحق وقد تكون بالباطل، فإن كانت في الحق مثلا فلن نستطيع أن نقول: إن كل الناس أهل سوء. وقد يبتدئ إنسان آخر بسباب، ويجوز أن يدعي إنسان على آخر سبابا. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي الآذان الإيمانية من ألسنة السوء، لذلك يقول: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول} ومقابلها بالطبع هو: أن الله يحب الجهر بالحسن من القول. وساعة يحبك الحق المجتمع هذه الحبكة الإيمانية، أيعالج ملكة على حساب ملكة أخرى؟. لا.
 

ونعلم أن النفس فيها حب الانتقام وحب الدفاع عن النفس وحب الثأر وما يروح به عن نفسه ويخفف ما يجده من الغيظ. والمثل العربي يقول: (من اسْتُغْضِب ولم يغضب فهو حمار)؛ لأن الذي يُستغضب ولا يغضب يكون ناقص التكوين، فهل معنى ذلك أن الله يمتع الناس من قول كلمة سوء ينفث بها الإنسان عن صدره ويريح بها نفسه؟ لا، لكنه سبحانه يضع شرطاً لكلمة السوء هو: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ}؛ لأن الظلم هو أخذ حق من إنسان لغيره.
 

وكل إنسان حريص على نفسه وعلى حقوقه. فإن وقع ظلم على إنسان فملكات نفسه تغضب وتفور، فإما أن ينفث بما يقول عن نفسه، وإما أن يكبت ويكتم ذلك.
فإن قال الله:
{لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول} واكتفى بذلك، لكان كبتاً للنفس البشرية. وعملية الكبت هذه وإن كانت طاعة لأمر الله لأنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، ولكن قد ينفلت الكبت عند الانفعال، وينفجر؛ لذلك يضع الحق الشرط وهو وقوع ظلم. فيوضح سبحانه: أنا لأ أحب الجهر بالسوء من القول، وأسمح به في حدوده المنفثة عن غيظ القلوب؛ لأني لا أحب أن أصلح ملكة على حساب ملكة أخرى. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الغضب جمرة توقد في القلب ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئا فإن كان قائما فليجلس، وإن كان جالسا فلينم فإن لم يزُل ذلك فليتوضأ بالماء البارد أو يغتسل فإن النار لا يطفئها إلا الماء».
أي أن يتحرك الإنسان من فور إحساسه بالغضب؛ فيغير من وضعه أو يقوم إلى الصلاة بعد أن يتوضأ أو يغتسل؛ لأنه بذلك ينفث تنفيثاً حركياً ليخفف من ضغط المواجيد على النفس الفاعلة؛ تماماً كما يفك إنسان صماماً عن آلة بها بخار ليخرج بعض البخار.

 

إذن فمن وقع عليه ظلم له أن يجهر بالسوء.

والجهر له فائدتان:

الأولى: أن ينفث الإنسان عن نفسه فلا يكبت،

وثانياً: أنه أشاع وأعلن أن: هذا إنسان ظالم، وبذلك يحتاط الناس في تعاملهم معه. وحتى لا يخدع إنسان نفسه ويظن بمنجاة عن سيئاته، فلو ستر كل إنسان الظلم الذي وقع عليه لاستشرى الظلم في عمل السيئات. ولكن إياك أن تتوسع أيها العبد في فهم معنى كلمة (ظلم) هذه؛ لأن الذي ينالك ممن ظلمك إما فعل وإما قول. وعليك أيها المسلم أن تقيس الأمر بمقياس دقيق على قدر ما وقع عليك من ظلم. {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
إذن فالحق سبحانه وتعالى لا يعطينا في الاستثناء إلا على قدر الضرورة. ويوضح: إياكم أن تزيدوا على هذه الضرورة، فإن كان ظلمكم بقول فأنا السميع. وإنْ كان ظلمكم بفعل فأنا العليم، فلا يتزيد واحد عن حدود اللياقة.

 

وبذلك يضع الحق الضوابط الإيمانية والنفسية فأزاح الكبت وفي الوقت نفسه لم يقفل باب الطموح الإيماني. لقد سمح للعبد أن يجهر إن وقع عليه ظلم. لكن إن امتلك الإنسانُ الطموحَ الإيماني فيمكنه ألا يجهر وأن يعفو. إذن فهناك فارق بين أمر يضعه الحق في يد الإنسان، وأمر يلزمه به قسراً وإكراها عليه؛ فمن ناحية الجهر، جعل سبحانه المسألة في يد الإنسان، ويحب سبحانه أن يعفو الإنسان؛ لأن المبادئ القرآنية يتساند بعضها مع بعض.
وسبحانه يقول: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

 

فإن أباح الله لك أن تجهر بالسوء من القول إذا ظلمك أحدٌ، فقد جعل لك ألاّ تجهر بل تعفو عنه، وغالب الظن أن صاحب السوء يستخزى ويعرف أن هناك أناساً أكرم منه في الخلق، ولا يتعب إنسانٌ إلا أن يرى إنساناً خيراً منه في شيء. وعندما يرى الظَالمُ أن المظلوم قد عفا فقد تنفجر في نفسه الرغبة أن يكون أفضل منه.
 

إذن فالمبدأ الإيماني: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} جعله الله مجالاً محبوباً ولم يجعله قسراً؛ لأنك إن أعطيت الإنسان حقه، ثم جعلت لأريحيته أن يتنازل عن الحق فهذا إرضاء للكل. وهكذا ينمي الحق الأريحية الإيمانية في النفس البشرية؛ لأنه لو جعلها قسراً لأصلح ملكة على حساب ملكة أخرى. ولذلك إذا رأيت إنساناً قد اعتدى على إنسان آخر، فدفع الإنسان المعتدى عليه بالتي هي أحسن وعفا وأصلح فقد ينصلح حال المعتدي، وسبحانه القائل: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
فإذا تمادى من بعد ذلك فعلى الإنسان أن يعرف أن الله لا يكذب أبداً، ولابد أن الخلل في سلوكك يا من تظن أنك دفعت بالتي هي أحسن.
قد يكون الذي دفع بالتي هي أحسن قد قال بلهجة من التعالي: سأعفو عنك، ومثل هذا السلوك المتكبر لا يجعل أحداً وليًّا حميمًا. لكن إن دفع حقيقة بالتي هي أحسن تواضعاً وسماحة، فلابد أن يصير الأمر إلى ما قاله الله: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.

 

والتفاعلات النفسية المتقابلة يضعها الله في إطارات واضحة وسبحانه القائل: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
وذلك حتى لا يستشرى المعتدي أيضاً، فهناك إنسان إذا تركناه مرة ومرة. يستشرى، لكن إذا ما أوقفناه عند حده فهو يسكت، وبذلك نرحم المجتمع من استشراء الفساد. ويُصعب الحق المسألة في رد الاعتداء.

 

ويثور سؤال: من القادر على تحقيق المثلية بعدالة؟. ونجد على سبيل المثال إنسانا ضرب إنساناً آخر صفعة على الوجه، فبأية قوة دفعٍ قد ضرب؟ وفي أي مكان ضرب؟ ولذلك نجد أن رد العدوان على درجة المثلية المتساوية أمر صعب. ومادام المأمور به أن أعتدى بمثل ما اعتدى به علي؛ ولن أستطيع تحقيق المثلية، ولربما زاد الأمر على المثلية؛ وبعد أن كنت المعتدَى عليه صرت المعتدِي، بذلك يكون العفو أقرب وأسلم.
والعمليات الشعورية التي تنتاب الإنسان في التفاعلات المتقابلة يكون لها مواجيد في النفس تدفع إلى النزوع.
والعملية النزوعية هي رد الفعل لما تدركه، فإن آذاك إنسان وأتعبك واعتدى عليك فأنت تبذل جهدًا لتكظم الغيظ، أي أن تحبس الغيظ على شدة. فالغيظ يكون موجوداً، ولكن المطلوب أن يمنع الإنسان الحركة النزوعية فقط. وعلى المغتاظ أن يمنع نفسه من النزوع، وإن بقي الغيظ في القلب. {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134].
هذه مرحلة أولى تتبعها مرحلة ثانية هي: {والعافين عَنِ الناس} [آل عمران: 134].

فإذا كان المطلوب في المرحلة الأولى منع العمل النزوعي، فالأرقى من ذلك أن تعفو، والعفو هو أن تخرج المسألة التي تغيظك من قلبك. وإن كنت تطلب مرحلة أرقى في كظم الغيظ والعفو فأحسن إليه؛ لأن من يرتكب الأعمال المخالفة هو المريض إيمانياً. وعندما ترى مريضاً في بدنه فأنت تعاونه وتساعده وإن كان عدواً لك. وتتناسى عدواته؛ فما بالنا بالمصاب في قيمه؟ إنه يحتاج منا إلى كظم الغيظ، أو العفو كدرجة أرقى، أو الاحسان إليه كمرحلة أكثر علواً في الارتقاء.
 

إذن فالحق سبحانه وتعالى يبيح أن تعتدي بالمثل، ثم يفسح المجال لنكظم الغيظ فلا نعتدي ولكن يظل السبب في القلب، ثم يرتقي بنا مرحلة أخرى إلى العفو وأن نخرج المسألة من قلوبنا، ثم يترقى ارتقاء آخر، فيقول سبحانه: {والله يُحِبُّ المحسنين}، ومن فينا غير راغب في حب الله؟ وهكذا نرى أن الدين الإسلامي يأمر بأن يحسن المؤمن إلى من أساء إليه.
 

وقد يتساءل إنسان: كيف تطلب مني أن أحسن إلى من أساء إلي؟ والرد: أنت وهو لستما بمعزل عن القيوم؛ فهو قيوم ولا تأخذه سنة ولا نوم، وكل شيء مرئي له وكلاكما صنعة الله، وعندما يرى الله واحداً من صنعته يعتدي عليك أو يسيء إليك فسبحانه يكون معك ويجيرك، ويقف إلى جانبك لأنك المعتدَى عليه. إذن فالإساءة من الآخر تجعل الحق سبحانه في جانبك، وتكون تلك الإساءة في جوهرها هدية لك.
وعندما نفلسف كل المسائل نجد أن الذي عفا قد أخذ مما لو كان قد انتقم وثأر لنفسه؛ لأنه إن انتقم سيفعل ذلك بقدرته المحدودة، وحين يعفو فهو يجعل المسألة لله وقدرته سبحانه غير محدودة، إن أراد أن يرد عليه، وبعطاء غير محدود إن أراد أن يرضى المعتدي عليه. هذا هو الحق سبحانه وتعالى عندما يلجأ إليه المظلوم العافي المحسن. وهو السميع العليم بكل شيء

 

نداء الايمان

 

image.png.b27e803765a729da2bd3ebc3f033ffe1.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)}

لقد عرفنا أن الحق لا يسمح لك بالجهر بالسوء من القول إلا إذا كنت مظلوماً. وهذا يعني أن المسألة تحتمل الجهر وتحتمل الإخفاء، فقال: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً} أي إن تظهر الخير، أو تخفي ذلك، أو تعفو عن السوء. وكل هذه الأمور من ظاهر وخفي من الأغيار البشرية، لكن شيئاً لا يخفى على الله. ولا يمكن أن يكون للعفو مزية إيمانية إلا إذا كان مصحوبا بقدرة، فإن كان عاجزاً لما قال: عفوت. وسبحانه يعفو مع القدرة. فإن أردت أن تعفو فلتتخلق بأخلاق منهج الله، فيكون لك العفو مع القدرة. ولنا أن نعلم أن الحق لا يريد منا أن نستخزي أو نستذل ولكن يريد منا أن نكون قادرين، ومادمنا قادرين فالعفو يكون عن قدرة وهذه هي المزية الإيمانية؛ لأن عفو العاجز لا يعتبر عفواً.


والناس تنظر إلى العاجز الذي يقول: إنه عفا- وهو على غير قدرة- تراه أنه استخزى. أما من أراد أن يتخلق بأخلاق منهج الله فليأخذ من عطاءات الله في الكون، ليكون قادراً وعزيزاً بحيث إن ناله سوء، فهو يعفو عن قدرة {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}.


وقلنا من قبل: إنك إذا لمحت كلمة (كان) على نسبة لله سبحانه وتعالى كنسبة الغفران له أو الرحمة، فعلينا أن نقول: كان ولا يزال؛ لأن الفعل مع الله ينحل عن الزمان الماضي وعن الحاضر وعن المستقبل؛ فهو سبحانه مادام قد كان، وهو لا تناله الأغيار، فهو يظل إلى الأبد.

نداء الايمان



إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ  اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (49) النساء – اجمل واروع الصور الاسلامية  والدينية 2020

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)}


سبحانه يريد أن يجعل من قضية الإيمان قضية كلية واحدة لا أبعاض فيها، فليس إعلان الإيمان بالله وحده كافياً لأن يكون الإنسان مؤمناً؛ لأن مقتضى أن تؤمن بالله يحتاج إلى رسول يعرفك أن الخالق هو الذي سخر لك قوى الكون واسمه الله. وأنت لا تهتدي إلى معرفة اسم القوة الخالقة لك إلا بوساطة رسول منزل من عند الله.
 

ونعرف أن عمل العقل في الاستنباط العقدي عاجز عن معرفة اسم خالق الكون؛ لأن الإنسان قد طرأ على كون منظم، وكان من الواجب عليه أن يلتفت لفتة ليعلم القوة التي سبقت هذا الوجود وخلقته وأن الإنسان قد طرأ على وجود متكامل. وقد يسمع الإنسان من أبيه- مثلاً- أن هذا البيت بناه الأب أو الجد، وذلك الشيء فعله فلان ابن فلان. لكن لم يسمع أحداً يقول له: (ومن بنى السماء؟) ولم يسمع أحداً يقول: (ومن خلق الشمس؟)، مع أن الناس تدعي ما ليس لها، فكيف يُترك أعظم ما في كون الله بدون أن نعرف من أوجده؟.
 

إننا نجد الناس تؤرخ للشيء التافه أو المهم نسبياً في حياتهم، نجد دراسات عن تاريخ أحجار، ودراسات عن تاريخ صناعة الأشياء؛ تاريخ المصباح الكهربي الذي اخترعه اديسون وقام بتوليد الكهرباء من مصادر ضئيلة ويسيره، باختصار، نجد أن كل شيء في هذا الوجود له تاريخ، وهذا التاريخ يرجع بالشيء إلى أصل وجوده. وأنت إن نسبت أي صنعة مهما كانت مهمة أو تافهة نكتشف أن واحداً تلقاها عن واحد، ولم يبتكرها هو دفعة واحدة.
 

إن كل مبتكر أخذ ما انتهى إليه سابقه وبدأ عملاً جديداً إلى أن وصلت المخترعات بميلادها، ومن يصدق أن مصباحاً يُضيء وينطفئ ويحترق يضنعه إنسان ونعرف له تاريخاً، وبعد ذلك ننظر إلى الشمس التي لم تخفت ولم تضعف ولم تنطفئ ولم تحترق، والمصباح ينير حيزاً قليلا يسيراً، والشمس تنير كوناً ووجوداً، ألا تحتاج الشمس إلى من يفكر في تاريخها؟
 

لقد سبق لنا أن قلنا: إن الإنسان حينما ينظر إلى الكون نظرة بعيدة عن فكرة الدين وبعيداً عن بلاغ الرسل عن الخالق وكيفية الخلق ومنهج الهداية، فهو يقول لنفسه: تختلف مقادير الناس باختلاف مراكزها وقوتها فيما يفعلون، هناك من يجلس على كرسي من شجر الجميز. وآخر على كرسي مصنوع من شجر الورد، وثالث يجلس على حصيرة.
إن الإنسان يعيش بصناعات غيره من البشر حسب قدره ومكانته؛ فالريفي أو البدوي يشعل النار بصك حديدة بحجر الصوان ويحتفظ بالنار لمدة يستخدمها لأكثر من مرة، وعندما يرتقي في استخدام النار يستخدم (مسرجة)، ولمَّا ازداد تحضرا استخدم (مصباح جاز) بزجاج ولها أرقام تدل على قدرتها على الإضاءة.
فهناك مصباح رقم خمسة، ورقمها دليل على قوتها الخافتة، وتتضاعف قوة (المصباح) من بعد ذلك حسب المساحة المطلوب إنارتها. ولمّا ارتقى الإنسان أكثر استخدم (الكلوب). ولمّا ارتقى أكثر استخدم الكهرباء أو النيون أو الطاقة الشمسية، فإذا ما أشرقت الشمس فكل إنسان يطفئ الضوء الذي يستخدمه، فنورها يغني عن أي نور. وفي الليل يحاول الإنسان أن تكون حالة الكهرباء في منزله جيدة خشية أن ينقطع سلك ما فيظلم المكان. فما بالنا بالشمس التي لا يحدث لها مثل ذلك.

 

إننا نجد الإنسان على مر التاريخ يحاول أن يرقى إلى فهم طلاقة قدرة الحق، وإن لم يأت رسول، أما أسماء القدرة الخالقة فلا يعرفها أحد بالعقل بل بوساطة الرسل. فاسم (الله) اسم توقيفي. فكيف يتأتى- إذن- مثل قول هؤلاء: سنؤمن بالله ونكفر برسله؟ كيف عرفوا- إذن- أن القوة التي سيؤمنون بها اسمها الله؟ لابد أنهم قد عرفوا ذلك من خلال رسول؛ لأن الإيمان بالله إنما يأتي بعد بلاغ عن الله لرسول ليقول اسمه لمن يؤمن به.
وهل الإيمان بالله كقوة خفية قوية مبهمة وعظيمة يكفي؟ أو أن الإنسان لابد له أن يفكر فيما تطلبه منه هذه القوة؟ وإذا كانت هذه القوة تطلب من الإنسان أن يسير على منهج معين، فمن الذي يبلغ هذا المنهج؟

 

لا بد إذن من الرسول يبلغنا اسم القوة الخالقة ومطلوبها من الإنسان للسير على المنهج، ويشرح لنا كيفية طاعة هذه القوة. فلا أحد- إذن- يستطيع أن يفصل الإيمان بالله عن الرسول، وإلا كان إيماناً بقوة مبهمة. ولا يجترئ صاحب هذا اللون من الإيمان أن يقول: إن اسم هذه القوة (الله)؛ لأن هذا الاسم يحتاج إلى بلاغ من رسول.
إذن فعندما يسمع أحدنا إنساناً يقول: أنا أؤمن بالله ولكن لا أؤمن بالرسل: علينا أن نقول له: هذا أول الزلل العقلي؛ لأن الإيمان بالله يقتضي الإيمان ببلاغ جاء به رسول؛ لأن الإيمان بالله لا ينفصل عن الإيمان بالرسول.

 

والحق سبحانه وتعالى خلق آدم بعد أن خلق الكون وبقية المخلوقات، ولا نجد من يدعي أن آدم هو أول من عمر هذا الوجود.
وما آدم في منطق العقل واحد ** ولكنه عند القياس أوادم

 

ومن الممكن أن نقول: إن هناك خلقاً كثيراً قد سبقوا آدم في الوجود، ولكن آدم هو أول الجنس البشري. وعندما خلقه الله علمه الأسماء كلها حتى يستطيع أن يسير في الوجود، فلو لم يكن قد تعلم الأسماء لما استطاع أن يتحدث مع ولد من أولاده، ولما استطاع- على سبيل المثال- أن يقول لابن من أبنائه: انظر أاشرقت الشمس أم لا؟
إذن كان لابد لآدم من معرفة الأسماء كلها من خلال معلم؛ لأن اللغة بنت المحاكاة؛ لأن أحداً لا يستطيع أن يتكلم كلمة إلا بعد أن يكون قد سمعها.

 

والواحد منا سمع من أبيه، والآباء سمعوا من الأجداد، وتتوالى المسألة إلى أن تصل إلى آدم، فممن سمع آدم حتى يتكلم أول كلمة؟ لابد أنه الله، وهذه مسألة يجب أن يعترف بها كل إنسان عاقل. إذن قول الحق في قرآنه: {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا} [البقرة: 31].
هو كلام منطقي بالإحصاء الاستقرائي، وهو قول يتميز بمنتهى الصدق.
والإنسان منا عندما يعلم ابنه الكلام يعلمه الأسماء. أما الأفعال فلا أحد يعرف كيف تعلمها. الإنسان يقول لابنه: هذا كوب، وهذه منضدة، وذلك طبق، وهذا طعام، لكن لا أحد يقول لابنه: (شرب) معناها كذا، و(أكل) معناها كذا. إذن فالخميرة الأولى للكلام هي الأسماء، وبعد ذلك تأتي المزاولات والممارسات ليتعلم الإنسان الأفعال.

 

لقد ترك الحق لنا في كونه أدلة عظيمة تناسب عظمته كخالق لهذا الكون. والرسول هو الذي يأتي بالبلاغ عنه سبحانه، فيقول لنا اسم القوة: (الله)، وصفاتها هي (كذا)، ومن يطعها يدخل الجنة، ومن يعصها يدخل النار، ولو لم يوجد رسول نظل تائهين ولا نعرف اسم القوة الخالقة ولا نعرف مطلوبها، وهذا ما يرد به على الجماعة التي تعبد الشمس أو تعبد القمر أو النجوم ونقول لهم: هل أنتم تعبدون الشمس؟ لعلكم فعلتم ذلك لأنها أكبر قوة في نظركم.
 

لكن هناك سؤال هو: (ما العبادة)؟ الإجابة هي: العبادة طاعة عابد لمعبود، فماذا طلبت منكم الشمس أن تفعلوه وماذا نهتكم ومنعتكم الشمس ألا تفعلوه؟ ويعترف عبدة الشمس: لم تطلب الشمس منا شيئا. وعلى ذلك فعبادتهم للشمس لا أساس لها؛ لأنها لم تحدد منهجا لعبادتها، ولا تستطيع أن تعد شيئا لمن عبدها، فإله بلا منهج لا قيمة له. وهكذا نرى أن عبادة أي قوة غير الله هي عبادة تحمل تكذيبها، والإيمان بالله لا ينفصل أبداً عن الإيمان بالقوة المبلغة عن الله إنها الرسل.
 

ويشرح الرسول لنا كيف يتصل بهذه القوة الإلهية، وتشرح القوة الألهية لنا كيفية اتصاله بالرسول البشري بوساطة خلق آخر خلقته هذه القوة المطلقة؛ لأن الرسول من البشر، والبشر لا يستطيع أن يتلقى عن القوة الفاعلة الكبرى. ونحن نفعل مثل هذه الأشياء في صناعتنا. ونعلم أن الإنسان عندما يريد أن ينام لا يرغب في وجود ضوء في أثناء نومه، فيتخذ الليل سكنا ويتمتع بالظلمة، لكن إن استيقظ في الليل فهو يخاف أن يسير في منزله بدون ضوء حتى لا يصطدم بشيء، لذلك يوقد مصباحاً صغيراً في قوة الشمعة الصغيرة ليعطي نفسه الضوء، ونسميها (الوناسة).
ولا نستطيع توصيل هذا المصباح الصغير بالكهرباء مباشرة، وإنما نقوم بتركيب محول صغير يأخذ من القوة الكهربية العالية ويعطى للمصباح الصغير، فما بالنا بقوة القوى؟

 

إن الله جعل خلقاً آخر هم الملائكة ليكونوا واسطة بينه وبين رسله. وهؤلاء الرسل أعدهم سبحانه إعداداً خاصاً لتلقي هذه المهمة. إذن فالذين يريدون أن يؤمنوا بالله ثم يكفروا برسله نقول لهم: لا، هذا إيمان ناقص. ووضع الحق سبحانه وتعالى الإيمان بالرسل كلهم في صيغة جمع حتى لا تفهم كل أمة أن رسولها فقط هو الرسول المنزل من عند الله، بل لابد أن تؤمن كل أمة بالرسل كلهم؛ لأن كل رسول إنما جاء على ميعاده من متطلبات المجتمع الذي يعاصره، وكلهم جاءوا بعقائد واحدة، فلم يأت رسول بعقيدة مخالفة لعقيدة الرسول الآخر؛ وإن اختلفوا في الوسائل والمسائل التي تترتب عليها الارتقاءات الحياتية. وقد خلق الحق أولاً سيدنا آدم وخلق منه زوجته حواء، اثنين فقط ثم قال سبحانه: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} [النساء: 1].
 

كان الاثنان يعيشان معاً وأنجبا عدداً من الأبناء، وتناسل الأبناء فصار مطلوباً لكل أسرة من الأبناء بيتاً، وكل بيت فيه أسرة يحتاج إلى رقعة من الأرض ليستخرج منها أفراد الأسرة خيرات تكفي الطعام. وكل فرد يحتاج على الأقل إلى نصف فدان ليستخرج منه حاجته للطعام. وكلما كثر النسل اتسعت رقعة الوجود بالمواصلات البدائية، فهذا إنسان ضاقت به منطقته فرحل إلى منطقة أخرى فيها مطر أكثر ليستفيد منه أو خير أكثر يستخرجه. وتنتشر الجماعات وتنعزل. وصارت لكل جماعة عادات وتقاليد وأمراض ومعايب غير موجودة في الجماعة الأخرى. ولذلك ينزل الحق سبحانه وتعالى رسولاً إلى كل جماعة ليعالج الداءات في كل بيئة على حدة. وسخر الحق سبحانه وتعالى بعض العقول لاكتشافات الكون، وبعد ذلك يصبح الكون قطعة واحدة، فالحدث يحدث في أمريكا لنراه في اللحظة نفسها في مصر. وزادت الارتقاءات. ولذلك كادت العادات السيئة تكون واحدة في المجتمع الإنساني كله، فتظهر السيئة في أمريكا أو ألمانيا لنجدها في مجتمعنا. إذن فالارتقاءات الطموحية جعلت العالم وحدة واحدة: آفاته واحدة، وعاداته واحدة. وعندما يأتي الرسول الواحد يشملهم كلهم.
 

ولذلك كان لابد أن يأتي الرسول الخاتم الجامع صلى الله عليه وسلم؛ لأن العالم لم يعد منعزلاً، ليخاطب الجمع كله، وهو خير الرسل، وأمته خير الأمم إن اتبعت تعاليمه. ومن ضرورة إيمان رسول الله والذين معه أن يؤمنوا بمن سبق من الرسل. والذين يحاولون أن يفرقوا بين الرسل هم قوم لا يفقهون،. فاليهود آمنوا بموسى عليه السلام وأرهقوه وكفروا بعيسى. وعندما جاء عيسى عليه السلام آمن به بعض، وعندما جاء محمد صلى الله عليه وسلم آمن به بعض وكفر به بعض.
ولذلك سمى الحق كفرهم بالنبي الخاتم: (ثم ازدادوا كفراً). أي أنه كفر في القمة، فلن يأتي نبي من بعد ذلك. واكتمل به صلى الله عليه وسلم موكب الرسالات.

 

إذن فالمراد من الآية أن الإيمان فيه إيمان قمة، تؤمن بقوة لكنك لا تعرف اسم هذه القوة ولا مطلوبات هذه القوة ولا ما ادته القوة من ثواب للمطيع ولا من عقاب للعاصي. ولذلك كان ولابد أن يوجد رسول؛ لأن العقل يقود إلى ضرورة الإيمان بالله والرسل. وجاء الرسل في موكب واحد لتصفية العقيدة الإيمانية للإله واحد، فلا يقولن واحد: لقد آمنت بهذا الرسول وكفرت ببقية الرسل. والآية التي نحن بصددها الآن تتعرض لذلك فتقول: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [النساء: 150].
 

ونحن نعلم أن (كفر) معناها (ستر). والستر- كما نعلم- يقتضي شيئا تستره، والشيء الذي يتم ستره موجود قبل الستر لا بعد الستر. والذي يكفر بوجود الله هو من يستر وجود الله؛ فكأن وجود الله قد سبق الكفر به. إذن فكلمة الكفر بالله دليل على وجود الله. ونقول للكافر: ماذا سترت بكفرك؟ وستكون إجابته هي: (الله). أي أنه آمن بالله أولاً.
{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} هم الحمقى؛ لأن هذا أمر غير ممكن، وكل رسول إنما جاء ليصل المرسل إليهم بمن أرسله. ولذلك نجد قوله الحق: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 74].

 

إنه حدث واحد من الله ورسوله. لذلك نجد أن الحمقى هم من يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} لهؤلاء نقول: إن الإيمان قضية كلية، فموكب الرسالة من الحق سبحانه وتعالى يتضمن عقائد واحدة ثابتة لا تتغير. والحق يقول: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ} [النساء: 163].
 

وهذا يؤكد أن قضايا العقائد إنما جاءت من نبع واحد لعقيدة واحدة. فماذا- إذن- يريدون بمسألة الإيمان ببعض الرسل والكفر بالبعض الآخر؟ يريدون السلطة الزمنية. وكان القائمون على أمر الدين قديماً هم الذين يتصرفون في كل أمر، في القضاء وفي الهندسة وفي كل شيء، لذلك وثق فيهم الناس على أساس أنهم المبلغون عن الله الذين ورثوا النبوات وعرفوا العلم عن الله. ونجد العلوم الارتقائية في الحضارات القديمة كحضارة قدماء المصريين كالتحنيط وغيرها تلك التي مازالت إلى الآن لغزاً، إنما قام بأمرها الكهنة، وهم- كما نعلم- المنسوبون إلى الدين. كأن الأصل في كل معلومات الأرض هي من هبة السماء.
لماذا إذن أخرج البشر وسنُّوا قوانين من وضعهم؟ لقد فعل البشر ذلك لأن السلطة الزمنية استولى عليها رجال الدين.

 

ما معنى كلمة (سلطة زمنية).

كان الناس يلجأون إلى رجل الدين في كل أمورهم، ويفاجأ رجل الدين بأنه المقصود من كل البشر، ويغمره الناس بأفضالهم ويعطونه مثل القرابين التي كانت تعطى للآلهة، فيعيش في وضع مرفَّه هو وأهله ويزداد سمنة من كثرة الطعام والمتعة. وعندما يأتي إليه أحد في مسألة فهو يحاول أن يقول الرأي الذي يؤكد به سلطته الزمنية، فإذا ما جاء رسول ليلغي هذه الامتيازات، يسرع بتكذيبه؛ ليظل- كرجل كهنوت- على قمة السلطة. ولذلك قال فيهم الحق: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} [التوبة: 9].
أي استبدلوا بآيات الله ثمنا قليلا من متاع الدنيا. فأخذوا الشيء الحقير من متاع الدنيا وتركوا آيات الله دون أن يعملوا بها.

 

وعندما نبحث في تاريخ القانون. نجد قانوناً إنجليزياً وآخر فرنسياً أو رومانياً، ونجد أن المصادر الأولى لهذه القوانين هي ما كان يحكم به الكهنة. والذي جعل الناس تنعزل عن الكهنة هو استغلالهم للسلطة الزمنية. والتفت البشر الذين عاصروا هؤلاء الكهنة أن الواحد منهم يقضي في قضية بحكم، ثم يقضي في مثيلاتها بحكم مخالف، ويغير من حكمه لقاء ما يأخذ من أجر، فتشكك فيهم الناس، وعرفوا أنهم يلوون الأحكام حسب أهوائهم؛ لذلك ترك الناس حكم الكهنة، ووضعوا هم القوانين المناسبة لهم.
 

إذن فالسلطة الزمنية هي التي جعلت من أتباع بعض الرسل يتعصبون لرسلهم. فإذا ما جاء رسول آخر، فإن أصحاب السلطة الزمنية يقاومون الإيمان برسالته حتى لا يأخذ منهم السلطة الزمنية. ولذلك يعادونه؛ لأن الأصل في كل رسول أن يبلغ أتباعه والذين آمنوا به، أنه إذا جاء رسول من عند الله فعليكم أن تسارعوا أنتم إلى الإيمان به. {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].
 

وهكذا أخذ الله الميثاق من النبيين بضرورة البلاغ عن موكب الرسالة حتى النبي الخاتم. {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [النساء: 150].
أي أنهم يحاولون أن يفرقوا بين الله ورسله بأحكامهم التي كانوا يتبعون فيها أهواءهم للإبقاء على السلطة الزمنية، من أجل أن يقيموا أمراً هو بين بين، وليس في الإيمان (بين بين)؛ فإما الإيمان وإما الكفر. والنظرة إلى كل هذه الآية نجدها في معظمها معطوفات، ولم يتم فيها الكلام وهي في كليتها مبتدأ، لابد لها من خبر، ويأتي الخبر في الآية التالية: {أولئك هُمُ...}.

 

image.png.c0eac0241787482dc5f9c35ad7742e98.png

 

{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)}


و(الكافرون حقاً) مقصود بها أن حقيقة الكفر موجودة فيهم؛ لأننا قد نجد من يقول: وهل هناك كافر حق، وكافر غير ذلك؟ نعم. فالذي لا يؤمن بكل رسالات السماء قد يملك بعضاً من العذر، لأنه لم يجد الرسول الذي يبلغه. أما الذي جاءه رسول وله صلة إيمانية به؛ وهذه الصلة الإيمانية لحمته بالسماء بوساطة الوحي، فإن كفر هذا الإنسان فكفره فظيع مؤكد. {أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً}.
 

ونلحظ أن الحق ساعة يتكلم عن الكافرين لا يعزلهم عن الحكم والجزاء الذي ينتظرهم، بل يوجد الحكم معهم في النص الواحد. ولا يحيل الحق الحكم إلى آية أخرى: {أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} وقد جاء هنا بالجزاء على الكفر ملتصقاً بالكفر، فسبحانه قد جهز بالفعل العذاب المهين وأعَدّه للكافرين ولم يؤجل أمرهم أو يسوفه. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الجنَّة عرضت عليّ ولو شئت أن آتيكم بقطاف منها لفعلت».
 

لقد أعد الحق الجنة والنار فعلاً وعرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو شاء الرسول أن يأتي المؤمنين بقطاف من ثمار الجنة لفعل. فإياكم أن تعتقدوا أن الله سيظل إلى أن تقوم الساعة، ثم يرى كم واحداً قد كفر فيعد لهم عذاباً على حسب عددهم، وكم واحداً قد آمن فيعد لهم جنة ونعيماً على قدر عددهم، بل أعد الحق الجنة على أن كل الناس مؤمنون ولهم مكان في الجنة، وأعد النار على أن كل الناس كافرون ولهم أماكن في النار. فيأتي المؤمن للآخرة ويأخذ المكان المعد له، ويأخذ أيضاً بعضاً من الأماكن في الجنة التي سبق إعدادها لمن كفر. مصداقاً لقوله الحق: {أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10-11].
 

فسبحانه لم ينتظر ولم يؤجل المسألة إلى حد عمل الإحصائية ليسأل من الذي آمن ومن الذي كفر، ليعد لكل جماعة حسب تعدادها ناراً أو جنة، بل عامل خلقه على أساس أن كل الذي يأتي إليه من البشر قد يكون مؤمناً، لذلك أعد لكل منهم مكاناً في الجنة، أو أن يكون كافراً، فأعد لكل منهم مكاناً في النار. ونجد السؤال في الآخرة للنار: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30].
فالنار تطلب المزيد للأماكن التي كانت معدة لمن لم يدخلها أنه آمن بالله. ويرث الذين آمنوا الأماكن التي كانت معدة لمن لم يدخل الجنة لأنه كفر بالله وبرسله وفرق بين الله ورسله وقال نؤمن ببعض ونكفر ببعض. ويأتي من بعد ذلك المقابل للذين كفروا بالله ورسله وهم المؤمنون، هذا هو المقابل المنطقي.
 

والمجيء بالمقابلات أدعى لرسوخها في الذهن. مثال ذلك عندما ينظر مدير المدرسة إلى شابين، كل منهما في الثانوية العامة، فيقول: فلان قد نجح لأنه اجتهد، والثاني قد خاب وفشل. هذه المفارقة تحدث لدى السامع لها المقارنة بين سلوك الاثنين.

 

نداء الايمان

 

image.png.cbb65bb44d1100fd91d1e52e8d6aa7ec.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}


يؤكد الحق هنا على أمر واضح: هو: {وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} وكلمة (أحد) في اللغة تطلق مرة ويراد بها المفرد، ومرة يراد بها المفردة، ومرة يراد بها المثنى مذكراً أو المثنى مؤنثاً أو جمع الإناث وجمع التذكير. وهكذا تكون (أحد) في هذه الآية تشمل كل الرسل، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: {يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء} [الأحزاب: 32].
فكلمة أحد يستوي فيها المذكر والمؤنث والمثنى والمفرد والجمع. وكما قال الحق عن الذين يكفرون بالله ورسله أو يفرقون بين الرسل: {أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً}. يقول الحق في هذه الآية عن الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم: {أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} فكل مقابل قد جاء معه حُكْمُه.

image.png.2c898618bea32a54a5ee113925c8452a.png

 


{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)}


هذا خطأ منهم في السؤال، وكان المفروض أن يكون: يسألك أهل الكتاب أن تسأل الله أن ينزل عليهم كتاباً. وقد حاول المشركون في مكة أن يجدوا في القرآن ثغرة فلم يجدوا وهم أمة فصاحة وبلاغة ولسان، واعترفوا بأن القرآن عظيم ولكن الآفة بالنسبة إليهم أنه نزل على محمد صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
 

هم اعترفوا بعظمة القرآن، واعترافهم بعظمة القرآن مع غيظهم من نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلهم مضطربين فكرياً، لقد اعترفوا بعظمة القرآن بعد أن نظروا إليه.. فمرة قالوا: إنه سحر، ومرة قالوا: إنه من تلقين بعض البشر، وقالوا: إنه شعر، وقالوا: إنه من أساطير الأولين. وكل ذلك رهبة أمام عظمة القرآن. ثم أخيرا قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ}.
ولكن ألم يكن هو القرآن نفسه الذي نزل؟ إذن. فالآفة- عندهم- أنه نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك من الحسد: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على ما آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54].
لأن قولهم لا يتسم أبداً بالموضوعية، بل كل كلامهم بُعْدٌ عن الحق وتخبط. لقد قالوا مرة عن القرآن: إنه سحر، وعندما سألهم الناس: لماذا لم يسحركم القرآن إذن؟ فليس للمسحور إرادة مع الساحر. ولم يجدوا إجابة. وقالوا مرة عن القرآن: إنه شعر، فتعجب منهم القوم لأنهم أمة الشعر، وقد سبق لهم أن علقوا المعلقات على جدار الكعبة، لكنه كلام التخبط.

 

إذن فالمسألة كلها تنحصر في رفضهم الإيمان، فإذا أمسكتهم الحجة من تلابيبهم في شيء، انتقلوا إلى شيء آخر.
ويوضح سبحانه: إن كانوا يطلبون كتاباً فالكتاب قد نزل، تماماً كما نزل كتاب من قبل على موسى. وماداموا قد صدقوا نزول الكتاب على موسى، فلماذا لا يصدقون نزول الكتاب على محمد؟ ولابد أن هناك معنى خاصاً وراء قوله الحق: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء}. ونعلم أن الكتاب نزل على موسى مكتوباً جملة واحدة، وهم كأهل كتاب يطلبون نزول القرآن بالطريقة نفسها، وعندما ندقق في الآية نجدهم يسألون أن ينزل عليهم الكتاب من السماء؛ وكأنهم يريدون أن يعزلوا رسول الله وأن يكون الكلام مباشرة من الله لهم؛ لذلك يقول الحق في موقع آخر: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32].

 

الحق- إذن- قسم الأمور في الحياة الدنيا، فكيف يتدخلون في مسألة الوحي وهو من رحمة الله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء}. وهم قد نسبوا التنزيل إلى رسول الله، ورسول الله ما قال إني نزَّلْت، بل قال: (أنزل علي).
ويقال في رواية من الروايات أن كعب بن الأشرف والجماعة الذين كانوا حوله أرادوا أن ينزل الوحي على كل واحد منهم بكتاب، فيقول الوحي لكعب: (يا كعب آمن بمحمد).

 

ويًنَزَّلُ إلى كل واحد كتاباً بهذا الشكل الخصوصي. أو أن ينزل الله لهم كتاباً مخصوصاً مع القرآن. وكيف يطلبون ذلك وعندهم التوراة، ويوضح الله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم: لا تستكثر منهم يا محمد أن يسألوك كتاباً ينزل عليهم لأنهم سألوا موسى أكبر من ذلك، وطلبهم تنزيل الكتاب، هو طلب لفعل من الله، وقد سبق لهم الغلو أكثر من ذلك عندما قالوا لموسى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً}. وهم بمثل هذا القول تعدوا من فعل الله إلى ذات الحق سبحانه وتعالى، لذلك لا تستكثر عليهم مسألة طلبهم لنزول كتاب إليهم، فقد سألوا موسى وهو رسولهم رؤية الله جهرة: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ}.
 

ولحظة أن ترى كلمة (الصاعقة) تفهم أنها شيء يأتي من أعلى، يبدأ بصوت مزعج. وقلنا من قبل أثناء خواطرنا حول آية في سورة البقرة: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق} [البقرة: 19].
أي أنهم يضعون أصابعهم في آذانهم من الصواعق، وهذا دليل على أن صوت الصاعقة مزعج قد يخرق طبلة الأذن، ودليل على أن ازعاج الصاعقة فوق طاقة الانسداد بأصبع واحدة؛ لأن الإنسان ساعة يسد أذنيه يسدها بطرف الأصبع لا بكل الأصابع. وبلغ من شدة ازعاج الصوت أنهم كلما وضعوا أناملهم في آذانهم لم يمتنع الصوت المزعج.

 

إذن فالصاعفة صوت مزعج يأتي من أعلى، وبعد ذلك ينزل قضاء الله إما بأمر مهلك وإمّا بنار تحرق وإما بريح تدمر {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ} والظلم هو أن تجعل حقاً لغير صاحبه؛ ولا تجعل حقاً لغير صاحبه إلا أن تكون قد أخذت حقاً من صاحبه. وسؤالهم هذا لون من الظلم؛ لأن الإدراك للأشياء هو إحاطة المُدْرِك بالمُدْرَك.
وحين تدرك شيئاً بعينك فمعنى ذلك أن عينك أحاطت بالشيء المدَرَك وحيَّزته بالتفصيل، وكذلك اللمس لمعرفة النعومة أو الخشونة، وكذلك الذوق ليحس الإنسان الطعم. إذن فمعنى الإدراك بوسيلة من الوسائل أن تحيط بالشيء المُدْرَك إحاطة شاملة جامعة.

 

فإذا كانوا قد طلبوا أن يروا الله جهرة، فمعنى ذلك أنهم طلبوا أن تكون آلة الإدراك وهي العين محيطة بالله. وحين يحيط المُدْرِك بالمُدْرَك، يقال قدر عليه. وهل ينقلب القادر الأعلى مقدوراً عليه؟ حاشا لله. وذلك مطلق الظلم ونهايته، فمن الجائز أن يرى الإنسان إنساناً، ولكن لا يستقيم أبدا ولا يصح أن ينقل الإنسان هذه المسألة إلى الله، لماذا؟ لأنه سبحانه القائل: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} [الأنعام: 103].
ومادام الله إلها قادراً فلن ينقلب إلى مقدور.
ونحن إن أعطينا لواحد مسألة ليحلها، فهذا معناه أن فكرة قد قدر عليها. وأما إذا أعطيناه مسألة ولم يقدر على حلها ففكره لم يقدر عليها. إذن فكل شيء يقع تحت دائرة الإدراك، يقول لنا: إن الآلة المدرِكة قد قدرت عليه.

 

والحق سبحانه وتعالى قادر أعلى لا ينقلب مقدوراً لما خلق. {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات}. وكان يكفي بعد أن أخذتهم الصاعقة أن يتأدبوا ولا يجترئوا على الله، ولكنهم اتخذوا العجل من بعد أن جاوز الحق بهم البحر وعَبره بهم تيسيرا عليهم وتأييداً لهم وأراهم معجزة حقيقية، بعد أن قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61].
فقد كان البحر أمامهم وفرعون من خلفهم ولا مفر من هلاكهم؛ لأن المنطق الطبيعي أن يدركهم فرعون، وآتى الله سيدنا موسى إلهامات الوحي، فقال: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
لقد لجأ موسى إلى القانون الأعلى، قانون الله، فأمره الله أن يضرب بعصاه البحر، ويتفرق البحر وتصير كل فرقة كالطود والجبل العظيم، وبعد أن ساروا في البحر، وأغرق فرعون أمامهم، وأنجاهم سبحانه، لكنهم من بعد ذلك كله يتخذون العجل إلهاً!!

 

هكذا قابلوا جميل الله بالنكران والكفران. {ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً} والسلطان المبين الذي آتاه الله لموسى عليه السلام هو التسلط والاستيلاء الظاهر عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم، وجاءوا بالسيوف لأن الله قد أعطى سيدنا موسى قوة فلا يخرج أحد عن أمره، والقوة سلطان قاهر.
 

نداء الايمان

 

image.png.06e2121e41506bf6763da0a612115dde.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
{وَرَفَعْنَا  فَوْقَهُمُ الطُّورَ  بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)}

اجتراؤهم في البداية كان في طلب رؤية الله جهرة، ثم العملية الثانية وهي اتخاذهم العجل إلها. ويعالج الله هؤلاء بالأوامر الحسية، لذللك نتق الجبل فوقهم: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: 171].
مثل هؤلاء لا يرضخون إلا بالآيات المادية، لذلك رفع الله فوقهم الجبل، فإما ان يأخذوا ما آتاهم الله بقوة وينفذوا المطلوب منهم، وإما أن ينطبق عليهم الجبل، وهكذا نرى أن كل اقتناعاتهم نتيجة للأمر المادي، فجاءت كل الأمور إليهم من جهة المادة.

{وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً}. أي أن يدخلوا ساجدين، وهذا إخضاع مادي أيضاً. وكان هذا الباب الذي أمرهم موسى أن يدخلوه ساجدين هو باب قرية أريحا في الشام.

{وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت} وسبحانه قال عنهم: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163].
وكلمة (السبت) لها اشتقاق لغوي من (سبت) و(يسبت) أي سكن وهدأ. ويقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً} [الفرقان: 47].


أي جعل النوم سكنا لكم وقطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم. {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت} أي نهاهم الله أن يصطادوا في يوم السبت. ويأتي يوم السبت فتأتيهم الحيتان مغرية تخرج أشرعتها من زعانفها وهي تعوم فوق الماء، أو تظهر على وجه الماء من كل ناحية، وهذا من الابتلاءات. {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} أي أن الأيام التي يكون مسموحاً لهم فيها بالصيد لا تأتي لهم الأسماك، ولذلك يحتالون ويصنعون الحظائر الثابتة من السلك ليدخلها السمك يوم السبت ولا يستطيع الخروج منها.

لقد احتالوا على أمر الله. هكذا يبين الحق سبحانه وتعالى مراوغة بني إسرائيل. وفعل الله بهم كل ذلك ولكنهم احتالوا وتمردوا ورّدوه، وحين يهادن الحق القوم الذين يدعوهم إلى الإيمان فسبحانه يُقَدر أنه خلقهم ويُقدر الغريزة البشرية التي قد يكون من الصعب أن تلين لأول داع، فهو يدعوها مرة فلا تستقبل، فيعفو. ثم يدعوها مرة فلا تستقبل فيعفو، ثم يدعوها مرة فلا تستقبل فيعفو. وأخذ الله عليهم العهد الوثيق المؤكد بأن يطيعوه ولكنهم عصوا ونقضوا العهد، وبعد ذلك يقول لنا الخبر لنتعلم أن الله لا يمل حتى تملوا أيها البشر. فسبحانه يقول من بعد ذلك: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}.


نداء الايمان


تفسيرالشيخ الشعراوى(سورة النساء)الآية 154{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ)

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)}


لقد نقضوا كل المواثيق والأشياء التي تقدمت. ومعنى الميثاق هو العهد المؤكد الموثق. ونقض الميثاق هو حله، وهذا ما يستوجب ما يهددهم الله به، وكفروا بآيات الله التي أنزلها لتؤيد موسى عليه السلام، وقتلوا أنبياء الله بغير حق. وادعوا- تعليلاً لذلك- أن قلوبهم غلف لا تسمع للدعوى الإيمانية، أي أن قلوبهم مغلفة مغطاة أي جُعل عليها غلافٌ، بحيث لا يخرج منها ما فيها ولا يدخل فيها ما هو خارج عنها. وأرادوا بذلك الاستدراك على الله، فقالوا: قلوبنا لا يخرج منها ضلال ولا يدخل فيها إيمان. وسبق أن تقدم مثل هذا في قول الحق: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 6-7].
ونقول: أهي القلوب خُلقت غلفاً.. أي أن القلوب خلقت مختوماً عليها بحيث لا يدخلها هدى ولا يخرج منها ضلال، أم أنتم الذين فعلتم الختم وأنتم الذين صنعتم الغلاف؟

 

وسبحانه أوضح في آيتي سورة البقرة أنه جل وعلا الذي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة. فالختم على القلب حتى لا يتعرفوا إلى الدليل؛ لأن القلب محل الأدلة واليقين والعقائد. والختم على الأسماع والأبصار هو الختم على آلات إدراك الدلائل البينات على وجود الحق الأعلى؛ فمقر العقائد مختوم عليه وهو القلب، ومضروب على الآذان وعلى البصر غشاوة، فهل هذا كائن بطبيعة تكوين هؤلاء؟ لا؛ لأنه إذا كان هذا بطبيعة التكوين فلماذا خصَّهم الله بذلك التكوين؟ ولماذا لم يكن الذين اهتدوا مختوماً لا على قلوبهم ولا على أسماعهم ولا على أبصارهم؟
غير أن الواحد منهم يبرر لنفسه وللآخرين انحرافه وإسرافه على نفسه بالقول: (خلقني الله هكذا) وهذا قول مزيف وكاذب؛ لأن صاحبه إنما يكفر أولاً، فلما كفر وانصرف عن الحق تركه الله على حاله؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك، فمن اتخذ مع الله شريكاً فهو للشريك وليس لله. إذن فالختم جاء كنتيجة للكفر.

 

وقدمت آيات سورة البقرة الحيثية: أن الكفر يحدث أولاً، ثم يأتي الختم على القلب والسمع والبصر نتيجة لذلك. وهنا في آية سورة النساء: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}. فالكفر جاء أولاً، وفي ذلك رد على أي إنسان يقول: (إن الله لا يهديني). ولا يلتفت إلى أن الله لا يهدي من كفر به، وكذلك الفاسق أو الظالم، والمثال الأكبر على ذلك إبليس الذي كفر أولاً. وبعد ذلك تركه الله لنفسه واستغنى عنه.
 

 

ولنا هنا وقفة لفظية مع قوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم} لأن الفهم السطحي لأصول الأسلوب قد يتساءل: لماذا جاءت (ما) هنا؟ وبعضهم قال: إن (ما) هنا زائدة.
ونقول: إياك أن تقول إن في كلام الله حرفاً زائداً؛ لأن معنى ذلك أن المعنى يتم بغير وجوده ويكون فضولاً وزائدا على الحاجة ولا فائدة فيه، ولكن عليك أن تقول: (أنا لا أفهم لماذا جاء هذا الحرف)، خصوصاً ونحن في هذا العصر نعيش كأمة بلاغتها مصنوعة، ولا نملك اللسان العربي المطبوع. ولولا أننا تعلمنا العربية لما استطعنا أن نتكلمها. أما العربي الفصيح الذي نزل عليه القرآن فقد كان يتكلم اللغة العربية دون أن يجلس إلى معلم، ولم يتلق العلم بأن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب بل تكلم اللغة بطبيعته وملكته.
أما نحن فنعيش في زمن مختلف. وطغت علينا العجمة وامتلأت آذاننا باللحن، وصرنا نُعلّم أنفسنا قواعد اللغة العربية حتى نتكلم بأسلوب صحيح.

 

وقد جاءت القواعد في النحو من الاستنباط من السليقة العربية الأولى التي كانت بغير تعليم. واستقرأ العلماء الأساليب العربية فوجدوا أن الفاعل مرفوع والمثنى يُرفع بالألف، وجمع المذكر السالم يُرفع ب (الواو)؛ وهكذا أخذنا القواعد من الذين لا قواعد لهم بل كانوا يتكلمون بالسليقة وبالطبيعة والملكة.
 

لقد سمع العربي قديماً ساعة نزل القرآن قوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم} ولم ينتبه واحد منهم إلى أن شيئاً قد خرج عن الأسلوب الصحيح، ونعلم أن بعضاً من العرب كانوا كافرين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصدقون القرآن، ولو كانت هناك واحدة تخرج عن المألوف في اللغة لصرخوا بها وأعلنوها. ولكن القرآن جاء بالكلام المعجز على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغهم به، موضحاً: جئت بالقرآن معجزة تعجزون عن محاكاته؛ مع أنكم عرب وفصحاء.
والمتحدَّى يحاول دائماً أن يتصيد خطأ ما، ولم يقل واحد من العرب إن في القرآن لحناً، وهذا دليل على أن الأسلوب القرآني يتفق مع الملكة العربية.

 

وقوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم} هي في الأصل: بنقضهم الميثاق فعلنا بهم ما صاروا إليه، و(ما) جاءت هنا لماذا؟ قال بعض العلماء: إنها (ما) زائدة، وهي زائدة للتأكيد. ونكرر: إياك أن تقول إن في كلام الله حرفاً زائداً، لقد جاءت (ما) هنا لمعنى واضح. والحق في موقع آخر من القرآن يقول: {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} [المائدة: 19].
وقالوا: إن أصل العبارة (ما جاءنا بشير)، وإن (مِن) جاءت زائدة حتى يتسق اللفظ. ونقول: لو أن العبارة جاءت كما قالوا لما استقام المعنى، ولإيضاح ذلك أضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- عندما يقول واحد: (ما عندي مال) فهذا نفى أن يكون عند القائل مال، ولعل لديه قدراً من المال القليل الذي لا يستأهل أن يسميه مالاً.
ولكن إذا قال واحد: (ما عندي من مال) فالمعنى أنه لا يملك المال على إطلاقه أي أنه مفلس تماماً، ولا يملك أي شيء من بداية ما يقال إنه مال. إذن (ما جاءنا بشير) ليست مثل قوله: (ما جاءنا من بشير). فالمعنى أنه لم يأتهم أي رسول بشير أو نذير من بداية ما يقال إنه رسول.

 

إذن فقوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} أي بسبب نقض الميثاق فعلنا بهم كذا. لماذا إذن أثار العلماء هذه الضجة؟ السبب في ذلك هو وجود ما بعد (الباء) وقبل المصدر، أي أنهم نقضوا العهد بكل صورة من صوره، فنقض العهد والميثاق له صور متعددة ف (ما) هنا استفهامية جاءت للتعجيب أي على أيَّة صورة من صور نقض ونكث العهد لعناهم؟ لعناهم لكثرة ما نقضوا من العهود والمواثيق. والحق قد قال: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 155].
 

ولم يقل: فبما نقضتم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف، طبع الله على قلوبهم. فوجود (بل) يدلنا على أن هناك أمراً أضربنا عنه. فنحن نقول: جاءني زيد بل عمرو. أي أن القائل قد أخطأ، فقال: (جاءني زيد) واستدرك لنفسه فقال: (بل عمرو). وبذلك نفى مجيء زيد وأكد مجيء عمرو.
 

والحق قال: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}. كان المقتضي في الأسلوب العادي أن يقول: (بكفرهم وبقتلهم الأنبياء طبع الله على قلوبهم). ولكن سبحانه لم يقل ذلك لحكمة بالغة. وحتى نعرف تلك الحكمة فلنبحث عن المقابل ل (طبع الله على قلوبهم)، المقابل هو (فتح الله على قلوبهم بالهدى).
 

وجاء قول الحق معبراً تمام التعبير عن موقفهم: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا}.
وهكذا نرى عظمة القرآن الذي يأتي بالمعنى الدقيق ويجب أن نفكر فيه ونتدبر كل كلمة منه.
الحق- إذن- يقدم الأسباب لما صنعه بهم بالحيثيات، من نقضهم للميثاق، وكفرهم بآيات الله، وبقتلهم للأنبياء بغير حق؛ لذلك لم يفتح الله عليهم بالهدى، بل طبع الله على قلوبهم بالكفر. فوجود (بل) دليل على أن هناك أمراً قد نفي وأمراً قد تأكد. والأمر الذي نفاه الله عنهم أنه لم يفتح عليهم بالهدى والإيمان، والأمر الذي تأكد أنه سبحانه قد طبع على قلوبهم بالكفر.
وفي آية أخرى قال عنهم: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88].
فقلوبهم ليست غلفاً، ولكن هي لعنة الله لهم وإبعاده لهم وطردهم واستغناؤه عنهم؛ لذلك تركهم لأنفسهم فغلبت عليهم الشهوات. ولماذا ذيل الحق الآية بقوله: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}؟ لأن المقصود به عدم إغلاق باب الإيمان على إطلاقه أمام هؤلاء الناس، وهو- كما عرفنا من قبل- (صيانة الاحتمال). فقد يعلن واحد من هؤلاء إيمانه الذي خبأه في نفسه، فكيف يجد الفرصة لذلك إن كان الله قد قال عنهم جميعاً {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ}؟
إن الذي يَرْغَبُ في إعلان الإيمان منهم لا يجد الباب مفتوحاً، ولكن عندما يجد الحق قد قال: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} فهو يعلم أن باب الإيمان مفتوح للجميع.

 

نداء الايمان

 

image.png.f6336a048ae389c9bccd68fd477ffaf2.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)}


يقول قائل: ألم يقل الحق من قبل إن (كفرهم) هو سبب من أسباب طبع الله على قلوبهم؟ إياك أن تقول إن هناك كلمة في القرآن مكررة لأن الذي يتكلم هو الله سبحانه وتعالى الذي لا ينسى شيئاً، ولا يكرر من غير داع، والكفر أيضاً على درجات، مرة يكون الكفر بالله، ومرة يكون الكفر بآيات الله، وثالثة يكون الكفر بالرسل، ورابعة يكون الكفر ببعض النبيين، وخامسة يكون الكفر ببعض الكتب السماوية.


إذن فألوان الكفر شتى. والكفر في الآية السابقة  {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ....) كان كفراً بآيات الله، أما كفرهم في هذه الآية فالحق يشرحه: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً}. لقد كفروا بعيسى عليه السلام، وقالوا البهتان العظيم على مريم، هذا كفر بآيات الله وبرسول من عند الله.
 

وقوله الحق: (وبكفرهم) هو عطف على (نقضهم) وعلى (كفرهم بآيات الله) وعلى (قتلهم الأنبياء) وعلى (قولهم قلوبنا غلف). ونلاحظ هنا أن الحق لم يذكر الباء التي جاءت في أول الآية السابقة حين قال: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ}.
وهذا يدل على أننا أمام مناط الرحمة من ربنا سبحانه وتعالى. فقد كان يكفي ارتكابهم لأي واحدة من هذه الأعمال المذكورة لكي يطبع الله على قلوبهم، ولكنهم ارتكبوا كل الأعمال المذكورة مجتمعة، ولم يرتكبوا فعلاً واحداً منها. وهذا دليل على أن الله لا يتصيد ويحتال ليوقعهم في الكفر ولكن يحنن العباد إلى الإيمان.

 

لقد ارتكبوا أربعة أفعال جسيمة: نقضوا الميثاق، وكفروا بآيات الله، وقتلوا الأنبياء بغير حق، وادعوا أن الله طبع على قلوبهم.
وحين جعل هذا الأفعال الأربعة جريمة واحدة فهذا فضل ورحمة منه.
وبعد ذلك يذكر لهم جريمة أخرى:
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} وهنا نجد أنه سبحانه قد ساوى بين قولهم البهتان على مريم وبين كل الأفعال السابقة؛ لأنهم اعترضوا على رسالة ونبوة عيسى عليه السلام وهو نبي من أولي العزم من الرسل بأشياء قد تكون ضمن الأسباب التي فتنت بعض الناس فيه، لقد خلقه الله خلقاً خاصاً. فسبحانه خلق الناس جميعاً من آدم عليه السلام الذي صوره الله من طين ثم نفخ فيه الروح، وجاء الخلق من التزاوج.
أما عيسى عليه السلام فقد خلقه الله بطريقة خاصة، فكيف كفروا به وكيف يتهمون أمه مريم عليها السلام وهي البتول؟.

 

ومن الجائز أن تُتهم المرأة وترمى وتوصف بكل شيء: كاذبة، سارقة، أو دميمة، لكن الاتهام في العرض: لا. والحق هنا يحدد موضوعين للكفر: قولهم البهتان على مريم وهو كفر بالله، وكفرهم بعيسى الذي جاء بميلاد على غير طريقة الميلاد العادية على الرغم من أن هذا تكريم له ولذع لليهود الذين غرقوا في المادية حتى إنهم قالوا: (أرنا الله جهرة).
بل إن الحق رزقهم برزق غيبي لا يعرفون أسبابه: في التيه رزقهم بالمن والسلوى، والمن في لون القشدة وطعم العسل الأبيض وهو شيء يقع على أوراق الشجر في بعض البيئات، والسلوى طائر يشبه السُّماني، وكانوا يأخذون المن من الأشجار ويجعلونه رزقاً يأتيهم ولا يزرعونه ولا يتعبون فيه. لكنهم قالوا: لا، نحن نريد أن نزرع نباتاً ينمو من الأرض ولا ننتظر الغيب، لأن الغيب قد يضن علينا. {فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا} [البقرة: 61].

 

هم- إذن- لا يثقون بما في يد الله، ويريدون الأمر المادي، ولذلك يلفتهم الحق سبحانه وتعالى لفتة قسرية، ويأتي بأمر يناقض قانون المادة من أساسه؛ وهو ميلاد عيسى عليه السلام بأسلوب غير تقليدي، والإنسان يأتي إلى الدنيا من أب وأم، ويأتي الحق بعيسى مخلوقاً من أم دون أب، فانتقضت المادية، وهم كماديين غفلوا عن الخلق الأول: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15].
 

إذن فلماذا الفتنة في عيسى عليه السلام؟. لقد نقض أمامهم الأساس التقليدي المادي لمجيء الإنسان إلى الدنيا من ذكر وأنثى، وجاء عيسى عليه السلام من أم دون أب. ليثبت سبحانه طلاقة القدرة وأنه جعل الأسباب للبشر، فإن أراد البشر مُسَبَّباً فعليهم أن يأخذوا الأسباب، أما سبحانه وتعالى فهو مسبِّبُ الأسباب وخالقها وهو القادر- وحده- على إيجاد الشيء بتنحية كل الأسباب.
 

ونعلم أن قضية الخلق دارت على اربعة أنحاء، إما أن ينشأ الشيء من وجود الشيئين، هذه هي الصورة الأولى. وإما أن ينشأ الشيء من عدم وجود الشيئين وهذه هي الصورة الثانية. وإما أن ينشأ الشيء من وجود الشيء الأول وعدم وجود الشيء الثاني، وهذه هي الصورة الثالثة، وإما أن ينشأ الشيء من وجود الشيء الثاني مع عدم وجود الشيء الأول، وهذه هي الصورة الرابعة.
تلك هي الصور الأربع لوجود شيء ما. ولم يشأ الله أن يجعل الخلق- وهو الإنسان المكرم الذي سخر له الحق كل ما في الكون- على نحو واحد؛ حتى لا يقولن أحد: إن السببية مشروطة للوجود.
بل المسبَّب هو المشروط في الوجود بدليل أنه سبحانه خلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، وخلقنا جميعاً نحن من أب وأم، وخلق عيسى عليه السلام من أم دون أب، وخلق حواء من أب دون أم.
هذه هي القسمة العقلية الواضحة، فليست المسألة عنصرية موجودة، ولكن قيمة واقتدار واجد. وقدرة الحق تتجلى أيضاً أمامنا حينما تكون الأسباب موجودة كالأب والأم. لكن يشاء سبحانه أن يكون الاثنان عقيمين فهو القائل: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} [الشورى: 49-50].

 

إذن فليست المسألة مدار أسباب تُوجَد، بل مسَبِّبِ يريد أن يُوجِد، وأراد الحق أن يكون مجيء عيسى عليه السلام بهذه الصورة ليلفت بني إسرائيل لعلهم يخرجون من ضلالات المادية، فأوجده من أم دون أب، فكان هذا آية على طلاقة قدرته، ولكن اليهود استقبلوا هذه المسألة استقبالاً على غير مراد الله، فكذبوا عيسى، وقد حدث التكذيب من قبل أن يتكلم عيسى بالانجيل. ووقفوا أمام رسالته بعنف، والذي يدلنا على أنهم قوم كذابون، هو رغبتهم في استمرار السيطرة الدينية لهم، وكان عندهم شريعة تقتضي الرجم للزانية، فلماذا إذن لم يتهموا مريم بالزنا عندما ولدت عيسى؟ ولماذا لم يعاقبوها حسب سريعة التوراة؟ ولماذا انتظروا إلى أن يجيء عيسى عليه السلام بالإنجيل ليقولوا: يا فاعل يا ابن الفاعلة. كان انتظارهم دليلاً على أن ميلاد عيسى عليه السلام كان آية بينة صدعتهم وصدتهم عن ذلك، فقد نطق عيسى عليه السلام بعد ميلاده ولم تتكلم مريم قطّ؛ لأن ما حدث أمر فوق منطقها، وجهزها الله لهذا الموقف؟، وأمرها بالصمت عندما يسألونها، وأن تشير إلى المولود الذي في المهد: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 29-31].
 

وانبهروا انبهاراً فتت فيهم القوى، فقوى الخصومة ساعة ترى هذا لا تجد إلا الانهيار، فألحق أبلج، والباطل لجلج. إذن كان الأمر بيدهم وفي توراتهم أن من يزن يرجم، فلماذا لم يرجموا أم عيسى إذن؟. لابد أنهم صدموا بقوة جعلت موازين حقدهم تختل، المعجزة الباهرة هي كلام عيسى ابن مريم في المهد: {إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} وجعلت المفاجأة أقوى الأقوياء فيهم ينهار، وتخور قواه.
وعندما نقول هذا الكلام فليس الهدف منه تصحيح عقائد أحد، ولكننا فقط نريد أن يتضح منطق الإيمان في عقول المسلمين، أما أبناء الديانات الأخرى فهم أحرار فيما يعتقدون، والمهم بالنسبة لنا أن يكون ديننا وقرآننا متضحاً أمام أعيننا، ولا يجرؤ أحد أن يميل به.

 

{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} ونحن كمسلمين نستنكف أن نقول ما قالوه من بهتان على مريم البتول، والبهتان هو الكذب الشرس. فهناك لون من الكذب قد يكون مقبولاً، ولون من الكذب غير مقبول: فأن يقول قائل عن رجل ورع: إنه شرب الخمر، والقائل يعلم أنه كاذب، فهذا كذب ثقيل شرس، يتحير ويتعجب من يسمعه؛ وهذا هو البهتان. ولم يستح ويمتنع اليهود حينما رموا مريم- الطاهرة بأمر الله- بالبهتان مع أنهم علموا أن لمريم سابقة خير واستقامة.
 

لقد كان ماضي مريم ناصعاً؛ لأنه جرح مريم في عرضها، ولو رجعوا إلى تاريخهم قبل ميلاد عيسى من مريم لوجدوا أن كل واحدة من بنات بني إسرائيل كانت تستشرف أن يكون النبي المولود بعد موسى من بطنها. وكانوا يعرفون أن النبي القادم من بعد موسى ستلده عذراء، وأبلغ بنو إسرائيل بناتهم بكيفية مجيء النبي القادم عيسى ابن مريم، تماماً مثل قضية البشارة برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89].
 

ومن رحمة الله بمريم نفسها أن الله جعل لها التمهيدات التي تثبت لها أمام نفسها أنها بريئة، وأن العملية كلها قد تمت ب (كن) من الله، ولم يجعل الله المسألة سرّاً عن مريم فتحمل بأمر قوله: (كن) دون أن تدري، لا. بل أراد سبحانه أن تكون عملية مادية. وجاء الملك لمريم ونفخ فيها بالحمل. وعرفت هي السبب مادياً بالملك والنفخ حتى لا تتهم أو تشك بأن شيئاً قد حدث لها وهي نائمة أو غير ذلك.
لقد أراد الله المسألة على تلك الصورة ليجعلها أمراً يقطع الشك لديها، وهي التي بُشرت به- إيناساً لها- عندما كانت صغيرة قبل البلوغ وجاءها زكريا وهو الكفيل لها والذي يأتيها بالطعام ودخل عليها المحراب فوجد عندها الرزق وسألها: {أنى لَكِ هذا} أجابت: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].

 

لقد نطقت مريم البتول من قبل: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ومن الحساب أن يكون للمرأة زوج لترزق بالولد، ولكن الله يرزق من يشاء بغير حساب. ومن العجيب أنها في هذا القول نبهت زكريا إلى قضية كانت في بؤرة شعوره؛ ولذلك يقول الحق: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} [آل عمران: 38-40].
 

إذن فقد شجعت مريم زكريا على أن يدعو ربه، وتلك سلسلة تمهيدية ليطمئن إحساس مريم أن ولادتها لعيسى عليه السلام إنما جاءت ب (كن) وجاء لها الحق بفاكهة الصيف في الشتاء، وعندما قالت لسيدنا زكريا: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} تنبه ودخل من هذا الباب، فدعا ربه على الرغم من علمه أن امرأته عاقر، وأنه بلغ من الكبر عتياً، ومفهوم لنا معنى قول الرجل عن نفسه إنه بلغ من الكبر عتيا؛ أي أنه لم يعد يملك القدرة على الإنجاب.
وهذه القضية تعطينا سبقاً قرآنيا لكثير من قضايا العلم: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4].
هذا القول هو أشبه بمذكرة تفسيرية لبلوغه من الكبر عتيا. ويثبت العلم الحديث أن العظام هي آخر وعاء لتغذية الإنسان، فإن امتنع الإنسان عن الطعام فالدهون التي في جسده تغذية. وإن امتنع الماء عن الإنسان وهو المكوِّن لتسعين في المائة من وزنه يمتص الإنسان الماء من خلايا الجسم والعضلات واللحم. ولذلك يقال في المثل العربي: سنة اذابت الشحم، وسنة أفنت اللحم، وسنة محت العظم.
فكأن البداية تكون التغذية من الشحم ومن بعد ذلك من اللحم ومن بعد الشحم واللحم يأخذ الجسم غذاءه من العظم. وهذه هي التي جاءت على لسان سيدنا زكريا: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي}. فآخر مخزن للتغذية لم يعد به ما يمكن أن يستمد منه زكريا طاقة الإنجاب.
وما الذي يغذيه العظم من الجسم؟ إنه يغذي المخ، وهو السيد الأعلى الذي يدير كل جارحة في الجسم، وتعمل كل جارحة في خدمته، ويعيش المخ بطبيعة الحال كل عمره في خدمة الجوارح، يرتب لها قدرات العمل والتفكير والإحساس والسلوك، وما دام المخ موجوداً، فكل شيء يتم تعويضه.

 

ولذلك يحاولون- الآن- تعريف الموت طبياً، فيقولون: لا يحدث الموت مادامت خلايا المخ حية؛ فإذا ماتت خلايا المخ فهذا هو الموت. ومن عجيب الأمر أن سيد الإنسان له مكان في أعلى الجسم إنه هو المخ، داخل الجمجمة، أما النبات فسيده في الجذور. وإن لم تجد الجذور مياها تذيب بها العناصر في الأرض فالنبات يأخذ غذاءه من الورق، وبعد أن يذبل الورق يأخذ النبات غذاءه من الفروع الصغيرة. وعندما تذبل تلك القروع وتجف ولا ينقذ النبات إلا مجيء بعض الماء للجذور. وكذلك المخ بالنسبة للإنسان.
 

فكأن مريم شجعت سيدنا زكريا عندما قالت أمامه: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فدعا سيدنا زكريا الله أن يرزقه بالولد، فجاءه الولد. وهذه القضية نطقت بها مريم وتمت تجربتها في سيدنا زكريا. وبعد ذلك جاءها البشير بميلاد المسيح عيسى ابن مريم: {إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَمِنَ الصالحين} [آل عمران: 45-46].
كيف يصوغ القرآن هذه الصياغة، وكيف تقول هي: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47].
لقد كانت سيدتنا مريم البتول تحسن الاستقبال عن الله، فساعة سمعت أن اسمه المسيح عيسى ابن مريم، عرفت أن نسبه لها يعني أنه بلا أب. وعرفت أن الحق سبحانه ما نسبه إليها إلا لأنه لا أب له.

 

نداء الايمان

 

 

وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا | تفسير  الجلالين | النساء 156

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)}


نلاحظ أن الآية تبدأ بواو العطف على ما قبلها، وهو قوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} [النساء: 155-156].
ويعطف سبحانه على جرائمهم هذه الجريمة الجديدة: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله} وأكثر ما يدهش في هذا القول هو كلمة {رَسُولَ الله}، فهل هي هنا من قولهم؟ إن كانوا قد قالوها فهذا دليل اللجاجة المطلقة، ولو قالوا: إنهم قتلوه فقط لكان الجرم أقل وطأة، ولكن إن كانوا قد عرفوا أنه رسول الله وقتلوه فهذا جرم صعب للغاية. أو أن كلمة {رَسُولَ الله} هنا في هذه الآية ليست من مقولهم الحقيقي وإنما من مقولهم التهكمي.

 

وأضرب المثل لأوضح هذا الأمر.. كأن يأتي شخص ذو قوة هائلة ومشهور بقوته ويأتي له شخص آخر ويضربه ويهزمه ويقول لجماعته: لقد ضربت الفتى القوي فيكم. إذن قد يكون قولهم: {رَسُولَ الله} هو من قبيل التهكم، أو أن كلمة {رَسُولَ الله} هنا هي من قول الحق سبحانه وتعالى مضافاً إلى قولهم ليبشع عملهم.
 

{وقولهم إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله} فكأن الحق لم يشأ أن يذكر عيسى ابن مريم إلا مرتبطا أو موصوفاً بقوله: {رَسُولَ الله} لنعلم بشاعة ما فعلوه، فعيسى ابن مريم رسول الله على رغم أنوفهم، وخاصة أن الكلام في مجال انكارهم وجحودهم لنعم الله، وكفرهم بآيات الله، وكأن الحق يسخر منهم؛ لأنه ما كان الله ليرسل رسولاً ليبين منهجه للناس ثم يسلط الناس على قتله قبل أن يؤدي مهمته. وجاء بكلمة {رَسُولَ الله} هنا كمقدمة ليلتفت الذهن إلى أن ما قالوه هو الكذب.
 

وبعد ذلك يقول لنا سبحانه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ}. وكلمة {وما صلبوه} هنا هي لتوضيح أن مجرد ظنهم أنهم قتلوا المسيح جعلهم يشيعون ذلك ويعلنونه للناس، وهم قد فعلوا ذلك قبل أن يتوجهوا إلى فكرة الصلب، فقد قتلوا شخصاً شبهه الله لهم ولم يكن هو المسيح وصلبوه من بعد ذلك، وبمجرد قتل هذا الشخص طاروا بخبر القتل قبل أن تبدأ فكرة الصلب. ويقطع الله عليهم هذا الأمر، فيقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ}.
وقد لفتنا سبحانه من قبل إلى أن عملية ميلاد المسيح تم استقبالها من بني إسرائيل بضجة، فعلى رغم علمهم خبر مجيء المسيح بالميلاد من غير أب، وعلى رغم أنهم علموا بناتهم الاستشراف أن يكون لأية واحدة منهن شرف حمل المسيح، وعلى رغم ذلك قالوا البهتان في مريم التي اصطفاها الله.
وكذلك كان لمسألة الوفاة ضجة.

 

واقتران الضجتين: ضجة الميلاد وضجة الوفاة معاً في رسالة السيد المسيح يدلنا على أن العقل يجب أن تكون له وحدة تفسيرية، فساعة يتكلم العقل عن قضية الميلاد بالنسبة لعيسى ابن مريم لابد أن يستشعر الإنسان أن الأمر قد جاء على غير سنة موجودة، وساعة يبلغنا الحق أن بني إسرائيل بيتوا النية لقتل عيسى ابن مريم، وأن الله رفعه إليه تكون المسألة قد جاءت أيضا بقضية مخالفة، ولابد أن نصدق ما بلغنا الله به، وأن يتذكر العقل أن الميلاد كان مخالفاً، فلماذا لا تكون النهاية مخالفة أيضاً؟
 

وكما صدقنا أن عيسى ابن مريم جاء من غير أب، لابد أن نصدق أن الحق قد رفعه في النهاية وأخذه، فلم يكن الميلاد في حدود بلاغ الحق لنا. والميلاد والنهاية بالنسبة لعيسى ابن مريم كل منهما عجيبة. وإن فهمنا العجيبة الأولى في الميلاد فنحن نعتبرها تمهيداً إلى أن عيسى ابن مريم دخل الوجود ودخل الحياة بأمر عجيب، فلماذا لا يخرج منها بأمر عجيب؟ وإن حدثنا الحق أن عيسى ابن مريم خرج من الحياة بأمر عجيب فنحن لا نستعجب ذلك؛ لأن من بدأ بعجيب لا عجب أن ينتهي بعجيب.
وسبحانه وتعالى حكم وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} وكلمة {شُبِّهَ لَهُمْ} هذه هي دليل على هوج المحاولة للقتل، فقد ألقى شبهه على شخص آخر. وذلك دليل على أن المسألة كانت غير طبيعية، ليس فيها حزم التبيّن من المتربصين القتلة. ونعلم أن الحواريين وأتباع سيدنا عيسى كانوا يلفون رءوسهم ويدارون سماتهم، ولذلك قال الحق لنا: {ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} أي أنهم قد شبه لهم أنهم قتلوه.
واختلفت الروايات في كلمة (شبه لهم)، فمن قائل: إنهم حينما طلبوا عيسى ابن مريم ليقتلوه دخل خوخة، والخوخة هي باب في باب، وفي البيوت القديمة كان يوجد للبيت باب كبير لإدخال الأشياء الكبيرة، وفي هذا الباب الكبير يوجد باب صغير يسمح بمرور الأفراد، وفي سقف يسمح بمرور الأفراد، وفي سقف البيت توجد فتحة وكوَّة اسمها (روزنة) أو (ناروظة).

 

فلما طلبوا عيسى دخل الخوخة، ودخل خلفه رجل اسمه (تطيانوس) وعندما رأى سيدنا عيسى هذا الأمر ألهمه الله أن ينظر إلى أعلى فوجد شيئاً يرفعه، فلما استبطأ القومُ (تطيانوس) خرج عليهم فتساءلوا: إن كان هذا تطيانوس فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين تطيانوس؟
إذن فقد اختلط عليهم الشبه بين (تطيانوس) وعيسى، وألقى الله شبه عيسى على (تطيانوس) فقتلوه. أو أن عيسى عليه السلام حينما دخلوا عليه كان معه الحواريون وقال لهم عيسى: أيكم يُلقي عليه شبهي وله الجنة؟ فماذا إذن يريد الحواري لنفسه أكثر من الجنة؟ وقدم عيسى عليه السلام الجائزة الكبرى لأي مؤمن، وقبل واحد من الحواريين هذه المهمة، ويقال له (سرخس).
فألقى شبه المسيح عيسى عليه، فقتل اليهود (سرخس).
وقالوا: إنه حينما عرف بعض الذين ذهبوا لقتل عيسى أنه رُفع، خافوا أن تنتشر حكاية رفع عيسى بين الناس فيؤمنوا برسالة عيسى، وقد ينتقم الناس من الذين أرادوا قتله. ولذلك جاء القتلة بشخص وقتلوه وألقى على هذا القتيل شبه عيسى وأعلن القتلة أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم. أو أن القتيل هو واحد ممن باعوا نبي الله عيسى لليهود، ولما رأى المشهد ووجد المتربصين بعيسى يدخلون على الحواريين وفيهم عيسى وسأل المتربصون الحواريين: أيكم عيسى؟ فتيقظت ملكة التوبة في نفس الذي وشى بعيسى وقادة تأنيب الضمير على خيانة الرسول إلى أن يقول: (أنا عيسى). ولم يتصور المتربصون أن يجيب إنسان على قولهم: (أيكم عيسى). إلا وهو عيسى بالفعل؛ لأن مشهد المتربصين يوحي أنهم سيقتلون عيسى. وقتلوا الذي اعترف على نفسه دون تثبت. أو أن واحداً باع عيسى لقاء ثلاثين دينارأً وتشابه عليهم كبيراً بتلك الروايات. فالمهم أنهم قالوا قتلنا عيسى. وصلبناه.

 

وقرآننا الذي نزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ}. وقال الحق لنا: إنه رفع عيسى إليه، وانتهت المسألة بالنسبة لنا؛ لأننا كمؤمنين لا نأخذ الجزئيات الدينية أولاً فإن صدقناها آمنا، لا. نحن نؤمن أولاً بمُنَزَّل هذه الجزئيات ونصدق من بعد ذلك كل ما جاء منه سبحانه، وهو قال ذلك فآمنا به وانتهت المسألة.
إن البحث في هذا الأمر لا يعنينا في شيء، ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ}. ويدلنا هذا القول على عدم تثبت القتلة من شخصية القتيل، وهو أمر متوقع في مسألة مثل هذه، حيث يمكن أن تختلط الأمور.

 

إننا نرى ذلك في أية حادثة تحدث مع وجود أعدادا كبيرة من البشر وأعينهم مفتوحة، وعلى الرغم من ذلك تختلف فيها الروايات. بل وقد تكون الحادثة مصورة ومسجلة ومع ذلك تختلف الروايات، فما بالنا بوجود حادثة مثل هذه في زمن قديم لا توجد به كل الاحتياطات التي نراها في زماننا؟ إذن فاضطراب الآراء والروايات في تلك الحادثة أمر وارد، ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ}.
فعيسى باق؛ لأن الحق لم يأت لنا بخبر موت عيسى. ويبقى الأمر على أصل ما وردت به الآيات من أن الله سبحانه وتعالى رفع عيسى ابن مريم. وكمسلمين لا نستبعد أن يكون الحق سبحانه وتعالى قد رفعه إلى السماء؛ لأن المبدأ- مبدأ وجود بشر في السماء- قد ثبت لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد حدثنا صلى الله عليه وسلم أنه عُرج به إلى السماء، وأنه صعد وقابل الأنبياء ورأى الكثير من الرؤى، إذن فمبدأ صعود واحد من البشر من الأرض وهو لا يزال على قيد الحياة البشرية المادية إلى السماء أمر وارد.
والخلاف يكون في المدة الزمنية، لكنه خلاف لا ينقض مبدأً، سواء صعد وبقي في السماء دقائق أو ساعات أو شهوراً. فإن حاول أحد أن يشكك في هذه المسألة نقول له: كل أمر قد يقف العقل فيه يتناوله الحق سبحانه وتعالى تناولاً موسعاً. فسبحانه خالق رحيم لا يورد نصاً بحيث يتوقف العقل أمامه، فإن قبل العقل النص كان بها، وإن لم يقبله وجدت له مندوحة، لأنه أمر لا يتعلق بصلب العقيدة.

 

فهب أن إنساناً قال إن عيسى لم يرفع بل مات، فما الذي زاد من العقائد وما الذي نقص؟ ذلك أمر لا يضر ولا ينفع. ومثل ذلك الإسراء، جاء فيه الحق بالقول القرآني: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1].
ولم يقل الحق أي قول في أمر المعراج، لأن الإسراء آية أرضية، انتقل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس. ونعلم أن رسول الله لم يذهب إلى بيت المقدس قبل الإسراء، بدليل أن كفار مكة أرادوا إحراج الرسول فقالوا له: صف لنا بيت المقدس. وهم واثقون من عدم ذهابه إليه من قبل. وكان في الطريق قوافل لهم رآها صلى الله عليه وسلم، ووصف صلى الله عليه وسلم بيت المقدس وقال لهم عن أخبار قوافلهم. وجاءت القوافل مثبتة لصدق محمد صلى الله عليه وسلم.

 

إذن كان الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم آية أرضية يمكن أن يقام عليها الدليل. ولذلك جاء بها الحق صريحة فقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}.
لكن المعراج لم يذكره الحق صراحة، فلم يكن من قريش ولا من أهل الأرض من رأي سدرة المنتهى، ولم يكن لأحد من أهل الأرض القدرة على أن يصف طريق المعراج.

 

إذن فالآيات التي يقف فيها العقل يتناولها القرآن تناولاً موسعاً رحمة بالعقول؛ لأن الإنسان إن اعتقد بها فهذا أمر جائز، وعدم الاعتقاد بها لا يؤثر في أصل العقيدة، ولأ في أصول التكليفات، ومدارها التصديق. ومادام الحق سبحانه وتعالى قد فوض رسوله أن يعطينا أحكاماً. إن عملنا بها جزانا الله الثواب، وإن لم نعمل بها نالنا العقاب {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}، فكيف لا يفوضه في أن يقول لنا بعضاً من الأخبار؟!
 

ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- وذكره البخاري في صحيحه أنه قال: «والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها». ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً).
 

هذه أخبار أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذن لا توجد قضية عقدية تقف مستعصية أمام عقول المسلمين خاصة. أن البعض قد يقول: إن الحق سبحانه قد قال: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} [آل عمران: 55].
وقد شرحنا من قبل في خواطرنا عن سورة آل عمران كل الشرح لهذه المسألة. قلنا: إن علينا أن ننتبه إلى (واو العطف) بين (متوفيك) و(رافعك).
ومن قال إن (واو العطف) تقتضي الترتيب؟ إن (واو العطف) تقتضي الجمع فقط كقولنا: (جاءني زيد وعمرو)، هذا يعني أن زيداً جاء مع عمرو. أو ان زيداً جاء أولاً، أو أن عمراً جاء أولاً وتبعه زيد، ف (الواو) لا تقتضي الترتيب، وإنما مقتضاها الجمع فقط.
لكن إن قلنا (جاءني زيد فعمرو) فزيد هو الذي جاء أولاً وتبعه عمرو؛ لأن (الفاء) تقتضي الترتيب، أما (الواو) فتأتي لمطلق الجمع ولا تتعلق بكيفية الجمع، وسبحانه قال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} هذا الضرب من الجمع لايدل على أن التوفي قد تم قبل الرفع، ودليلنا أن الحق سبحانه أنزل في القرآن آيات تدل على مثل هذا، كقوله الحق: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} [الأحزاب: 7].
فسبحانه أخذ الميثاق من محمد صلى الله عليه وسلم وجمع معه سيدنا نوحاً وإبراهيم، فهل هذا الجمع كان قائماً على الترتيب؟ لا؛ لأن نوحاً متقدم جداً في الموكب الرسالي وسبق سيدنا رسول الله بسنوات طويلة ويفصل بينهما رسل كثيرون. إذن ف (الواو) لا تقتضي الترتيب في الجمع. ولماذا جاء الحق بأمر الوفاة مع أمر الرفع؟ جاء الحق بذلك ليشعر عيسى أن الوفاة أمر مقطوع به، لكن الرفع مجرد عملية مرحلية.
أو جاء قوله الحق: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}؛ لأن الإنسان المخلوق لله مكون ومركب من مادة وفي داخلها الروح، وعندما يريد الحق أن ينهي حياة إنسان ما، فهو يقبضه بدون سبب وبدون نقض في البينة، ويموت حتف أنفه، أما إذا ما ضرب إنسان إنساناً ضربة عنيفة على رأسه فالمضروب أيضاً يموت، لأن الروح لا تحل في جسم به عطب شديد.
إذن فالحق أوضح لعيسى: أنا آخذك إليّ وأرفعك متوفياً وليس بجسدك أَيُّ نقض لبنيتك أو هدم لها أو لبعضها، بل آخذك كاملاً. ف (متوفيك) تعني الأخذ كاملاً دون نقض للبنية بالقتل.
ونحن- كما عرفنا من قبل- نفرق بين القتل والموت. فالموت هو أن تُقبض الروح حتف الأنف، أما القتل فهو هدم للبنية فتزهق الروح، والدليل على ذلك أن الحق في كتابه الكريم قال: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144].

 

إذن فحين قال بنو إسرائيل: إنهم قتلوا عيسى ابن مريم كذبهم الحق وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ}. ورفعه الله إليه كاملاً، وسبحانه وتعالى يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً}. ويوضح الحق سبحانه وتعالى: لم يتيقنوا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم، ولكنهم شكوا فيمن قُتل، فلم يعرف المتربصون لقتله أقتلوا عيسى أو تطيانوس أو سرخس؟
 

والحق سبحانه جاء هنا بنسبتين متقابلتين، فبعد أن نفى سبحانه نبأ مقتل عيسى ابن مريم قال: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن}. والنسبة الأولى المذكورة هنا هي الشك، وهو نسبة يتساوى فيها الأمران. والنسبة الثانية هي اتباعهم للظن، وهو نسبة راجحة. لقد بدأ الأمر بالنسبة إليهم شكاً ثم انقلب ظناً.
 

وينهي الحق ذلك بعلم يقيني {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} وسبحانه ينفي بذلك انهم قتلوه يقيناً، واليقين- كما نعلم- هو الأمر الثابت المعقود في الواقع والأعماق بحيث لا يطفو إلى الذهن ليناقش من جديد أو يتغير، وله مراحل هي: مرحلة العلم، واسمها علم اليقين، ومرحلة العين، واسمها عين اليقين، ومرحلة الحقيقة، واسمها حق اليقين.
وعندما يخبرنا واحد من الناس أن جزءا من نيويورك اسمه (مانهاتن). وأن مانهاتن هذه هي جزيرة يصل تعداد سكانها إلى عشرة ملايين نسمة، وفيها ناطحات سحاب، وجاء هذا الخبر ممن لا نعرف عنه الكذب فيسمعه من لم يَر نيويورك، فيصير مضمون الخبر عنده علماً متيقناً؛ لأن الذي أخبر به موثوق به. وإن جاء آخر ووجه للسامع عن نيويورك دعوة لزيارتها ولبى السامع الدعوة وذهب إلى نيويورك،

هنا تحول الخبر من (علم يقين) إلى (عين اليقين). وإن جاء ثالث وصحب السامع إلى قلب نيويورك وطاف به في كل شوارعها ومبانيها، فهذا هو (حق اليقين).
وأسمى أنواع اليقين هو (حق اليقين)، وقبلها (عين اليقين)، وقبل (عين اليقين) (علم اليقين).
وحينما عرض سبحانه المسألة قال: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 3-7].
هو سبحانه يعطينا علم اليقين، ويصدقه المؤمنون بهذا العلم قبل أن يروه، وسيرى المؤمنون وهم على الصراط النارَ وذلك عين اليقين. أما مسألة دخول الذين يرون الجحيم إليها فأمر سكت عنه الحق؛ لأن هناك من يدخل الجنة ولا يدخل النار، وهناك من يدخل النار ولا يدخل الجنة. والكافرون بالله هم الذين سيرون الجحيم حق اليقين. ويأتي (حق اليقين) في موضع آخر من القرآن الكريم: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 92-95].
فكل مكذب ضال سينزل إلى الحميم ويصلى الجحيم ويعاني من عذابها حق اليقين. إذن فقوله الحق عن مسألة قتل عيسى ابن مريم: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} يصدقه الذين لم يشاهدوا الحادث، تصديق علم يقين لأن الله هو القائل. والذين رأوا الحادث عرفوا أنهم لم يقتلوه ولكنهم شكوا في ذلك. وأما من باشر عملية القتل لإنسان غير عيسى عليه السلام فهو الذي عرف حقيقة اليقين. والذي حدث هو ما يلي: {بَل رَّفَعَهُ الله...}.

 

 

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ  اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ  الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ  إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا


{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)}
لقد رفعه العزيز الذي لا يغلبه أحد على الإطلاق، فهو القوي الشديد الذي لا ينال منه أحد، فإذا كانوا قد أرادوا قتل رسوله عيسى ابن مريم، فالله غالب على أمره، وهو العزيز بحكمة.

 

نداء الايمان

 

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا | تفسير  القرطبي | النساء 158

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}


(إن) هنا هي (إن) النافية، وهي غير (إن) الشرطية. وإليكم هذا المثال عن (إن) النافية من موضع آخر من القرآن حين قال الحق: {الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2].
يصحح الحق هنا الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الذين يظاهرون من نسائهم بقول الواحد منهم لزوجته: (أنت علي كظهر أمي)، فيقول سبحانه: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2].
فيوضح سبحانه: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم. و(إن) في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا الآن عنها هي (إن) النافية.

 

كأن الحق يقول: ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمن به قبل موته. وهذا شرح لمعنى (إن النافية). وقد يقول قائل: ما حكاية الضمائر في هذه الآية؟ فالآية بها أكثر من ضمير، مثل قوله الحق: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} وعلى من تعود {به}؟ وعلى من تعود الهاء في آخر قوله {موته}؟ هل هو موت عيسى أو موت أي واحد من أهل الكتاب، فالمذكور عيسى، ومذكور أيضاً أهل الكتاب، فيصح أن يكون القول كالآتي: لن يموت واحد من أهل الكتاب إلا بعد أن يؤمن بعيسى، ويصح أيضاً: لن يموت عيسى إلا بعد أن يؤمن به كل واحد من أهل الكتاب، ولأن الضمير لا يعرف إلا بمرجعه، والمرجع يبين الضمير. فإن كانت هناك ألفاظ سبقت.. فكل منها يصح أن يكون مرجعاً، أو أن يعود الضمير على بعض مرجعه كقول الحق: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11].
 

والمعمَّر هو الإنسان الذي طعن في السن، ولا ينقص من عمر هذا المعمَّر إلا كما أراد الله، والهاء في {عمره} تعود إلى بعض من المعمَّر. ذلك أن كلمة {معمَّر} مكونة من عنصرين هما ذات الرجل وعمر الرجل، فلما عاد الضمير عاد على الذات دون التعمير، فيكون المعنى هو: وما يعمَّر من معمَّر ولا ينقص من عمر ذات لم يثبت لها التعمير. وماذا يكون الحال حين يوجد مرجعان؟ مثل قوله الحق: {رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2].
هنا نجد مرجعين: السماء والعمد، فعلى أي منهما تعود الهاء الموجودة في كلمة {ترونها} هل تعود (الهاء) إلى المرجع الأول وهو السموات، أو للمرجع الثاني وهو العمد؟ يصح أن تعود (الهاء) إلى السموات.

 

أي خلق السموات مرتفعة قائمة بقدرته لا تستند على شيء وأنتم تنظرون إليها وتشاهدونها بغير دعائم، ويصح أيضاً أن تعود إلى العمد. أي بغير العمد التي نعرفها ولكن رفعها الحق بقوانين الجاذبية. أو رفع السموات {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي أن العمد مختفية عن رؤية البشر. وهكذا يصح أن يًنسب الضمير ويعود إلى أحد المرجعين.
والآية التي نحن بصددها، نجد أنه قد تقدم فيها شيئان هما المسيح وأهل الكتاب، وفيهما ضميران اثنان. فهل يعود الضميران على عيسى، أو يعودان على أهل الكتاب؟ أو يعود ضمير منهما على عيسى والآخر على أهل الكتاب؟ وأي منهما الذي يرجع على عيسى، وأي منهما الذي يرجع على أهل الكتاب؟ أو أن هناك مرجعاً ثالثاً لم يُذكر ويعلم من السياق هو محمد صلى الله عليه وسلم، ونجد أن الضميرين قد يرجعان إلى المرجع الثالث، أي إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر بمجيئه عيسى ابن مريم، وتواتر الأحاديث عن أن عيسى يوشك أن ينزل فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ولسوف يصلي عيسى ابن مريم خلف واحد من أمة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

 

ولماذا التقى النصارى مع اليهود في مسألة القتل والصلب؟ هم معذورون في ذلك؛ لأن الحق لم يأت ببيان فيها آنئذ. وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} يدل على أنهم معذورون إن قالوا ذلك. ولكن كان الواجب أن يتمردوا على مسألة الصلب هذه، إن كان فيه ألوهية أو جزء من ألوهية، وكان من الواجب أن يخفوا مسألة الصلب. ويأتي الإسلام ليبرئ عيسى عليه السلام من هذه المسألة ويعين أتباع عيسى على تبرءته منها.
 

ولكن لم يلتفت أتباع عيسى إلى قول الإسلام في هذه القضية {ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} وكان يجب لأن يلتفت إليها أتباع المسيح. وحين يقص الحق كل ذلك فهو يحكم من بعد ذلك حكماً إلهياً: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} النصارى يقولون بالرفع، ولكن بعد الصلب. ونحن المسلمين نقول بالرفع ولا صلب، رفعه الله إليه وسينزل. وحكمة ذلك أنه لم يوجد رسول من الرسل السابقين فُتن فيه قومه فجعلوه بعضاً من إله أو إلهاً فلم تسكت السماء عن ذلك، فرفعه سبحانه وسينزله ليسفه هذه القضية، وبعد ذلك يجري عليه قدر الله في خلقه وهو الموت.
إن الذين يقفون في هذه المسألة يجب ألا يقفوا، لأن مسألة سيدنا عيسى عليه السلام بدأها الله بعجيبة خرقت النواميس لأنه وُلد من أم دون أب. فإن كنتم قد صدقتم العجيبة في الميلاد، فلماذا لا تصدقون العجيبة في مسألة الرفع؟
وإن قال واحد منا: لقد مات عيسى عليه السلام. نقول: ماذا تقولون في نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام؟ أصعد إلى السماء معروجاً به إليها؟ ألم يكن رسول الله حياً بقانون الأحياء؟ نعم كان حياً بقانون الأحياء.

  

وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة وجيزة في السماء ثم نزل إلينا، إذن فالمسألة في أن يذهب خلق من خلق الله بإرادة الحق وقدرته إلى السماء وهو حي ثم ينزل إلى الأرض وهو حيٌّ ليس عجيبة.
والخلاف بين رفع عيسى وصعود محمد صلى الله عليه وسلم بالمعراج خلاف في المدة. وهذا لا ينقض المبدأ؛ فالمهم أنه صعد بحياته ونزل بحياته، وظل فترة من الزمن بحياته، إذن فمسألة الصعود إلى السماء والبقاء فيها لمدة أمر وارد في شريعتنا الإسلامية. ولتأكيد هذه المسألة يقول الحق: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِْ} [النساء: 159].

 

السامع السطحي لهذه الآية قد يقول: إنهم أهل كتاب ولابد أن يكونوا قد آمنوا به، وأقول: لا، لقد آمنوا به إيماناً مراداً لأنفسهم، وليس الإيمان المراد لله، آمنوا به إلهاً أو جزءاً من إله وهو ما يسمى لديهم بالثالوث- الآب والابن وروح القدس- ولكن الله يريد أن يؤمنوا به رسولاً وبشراً وعبداً.


وإذ قال الحق: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} فمعنى هذا: ما أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام رسولاً وعبداً وبشراً قبل أن يموت.
والضمير في قوله: {إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} يرجع إلى عيسى. والضمير الآخر الموجود في {قَبْلَ مَوْتِهِ} قد يرجع إلى عيسى أي قبل موت عيسى ولن يموت عليه السلام الموتة الحقيقية التي تنهي أجله في الحياة إلا بعد أن يؤمنوا به عبداً ورسولاً وبشراً، ولن يتحقق ذلك إلا إذا جاء بشحمه ولحمه ودمه ليقول لهم: أنتم مخطئون في أنكم أنكرتم بشارتي بمحمد الخاتم، وأنتم مخطئون في اتهامكم لأمي، والدليل على خطئكم هو أنني جئت مبشراً برسول للناس كافة هو محمد بن عبدالله، وهأنذا أصلي خلف واحد من أمة ذلك الرسول. فلن يأتي عيسى- عليه السلام- بتشريع جديد بل ليصلي خلف واحد من المؤمنين بمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
وحين يصنع عيسى ابن مريم ذلك، ماذا سيقول الذين فُتِنوا فيه؟.

لاشك أنهم سيعلنون الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن كل كتابي من الذين عاشوا في المسافة الزمنية من بعد رفعه وحتى نزوله مرة أخرى سيعلن الإيمان بعيسى كبشر ورسول وعبد قبل أن يموت ولو في غيبوبة النهاية عندما تبلغ الروح الحلقوم وتترد في الحلق عند الموت. فقد يصح أن تكون الآية عامة {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ويعود الضمير فيها إلى كل كتابي قبل أن يموت.
إن النفس البشرية لها هوى قد يستر عنها الحقائق ويغلق دونها باب اليقين ويدفعها إلى ذلك غرور الحياة، فإذا ما جاءت سكرة الموت بالحق، انتهى كل شيء يُبعد الإنسان عن منهج الحق واليقين؛ ولا تبقى إلا القضايا بحقها وصدقها ويقينها، وتستيقظ النفس البشرية لحظة تظن أنها ستلقى الله فيها ويسقط غرور الحياة، ويراجع الإنسان منهم نفسه في هذه اللحظة، ويقول: أنا اتبعت هوى نفسي. ولكن أينفع مثل هذا اللون من الإيمان صاحبَه؟ لا؛ لأن مثله في ذلك مثل إيمان فرعون، فقد قال حين أدركه الغرق: {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90].
فيسمع صوتَ الحق في تلك اللحظة: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 91].
فلم ينتفع فرعون لحظة الغرق بالإيمان.
ويقول- سبحانه-: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 18].

 

ويذيل الحق الآية: {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} وهذا يؤكد أن عيسى عليه السلام سيشهد على من عاصروا نزوله في الدنيا، وسوف يشهد يوم القيامة على الذين ادعوا له بالألوهية: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 116].
ويعاود الحق سبحانه الكلام عن فظائع اليهود فيقول: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين...}.

 

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ  وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا | تفسير الجلالين | النساء  159

 


{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)}
 

هو سبحانه يوضح أن تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل جاء نتيجة لمواقف يعددها الله، لقد ارتكبوا ما ارتكبوا من ذنوب كبيرة وظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، وصدوا عن دين الله، بمعنى أنهم لم يدخلوا في الإسلام.
وتستمر الحيثيات للتحريم لبعض الطيبات لتزيد على هذين الموقفين: {وَأَخْذِهِمُ الربا...}.

 

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ  أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا | تفسير ابن  كثير | النساء 160

 


{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)}
 

وأي ظلم يتحدث عنه الحق في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}؟. الظلم معناه أن يحكم واحد لغير ذي الحق بحق، وقمة الظلم أن يحكم واحد بأن الله شريكاً، ولذلك قال سبحانه: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
 

وحيثيات حكم الله بتحريم أشياء كانت حلالاً لبني إسرائيل متعددة. وحين يحرم الله شيئاً فمن المؤكد أنه محدود بالنسبة للمحلَّل؛ فالمحرم قليل، وبقية ما لم يذكره الله إنما يدخل في نطاق الحلال.
مثال ذلك قوله الحق: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 151-152].
يورد الحق هنا المحرمات وهي أشياء محددة محدودة، أما النعم كلها فحلال. ومن هذا الأمر نفهم اتساع مدى رحمانية الحق بالخلق، فقد وهبنا الكثير والكثير من النعم التي لا تعد ولا تحصى ولم يحرم إلا القليل. وتحريم القليل جاء لتبقى كل نعمة في مجالها.
فإذا قال الإنسان: حرم الله هذا الشيء لأنه ضار نقول: ما تقوله جائز، ولكن ليس الضرر هو سبب الحكم لِكل المحرمات، فقد يحرم سبحانه أمراً لتأديب قوم ما.- ولله المثل الأعلى- نرى المسئول عن تربية أسرة قد يحرم على ولد فيها لوناً من الطعام أو جزءاً من مصروف اليد ويكون القصد من ذلك هو العقوبة.

 

ولماذا استحق بنو إسرائيل عقوبة التحريم؟. لقد جاءوا من خلف منهج الله وأحلوا لأنفسهم ما حرم الله. وماداموا قد زاغوا فأحلوا ما حرم الله فالحق يرد عليهم: لقد اجترأتم على ما حرمت فحللتموه، ومن حقي أن أحرم عليكم ما أحللت لكم من قبل ذلك، حتى لا يفهم الإنسان أنه بتحليله لنفسه ما حرم الله قد أخذ شيئاً من وراء الله فلا أحد يمكنه أن يغلب الله. ولذلك يحرم سبحانه عليه شيئاً من حلاله.
 

والتحريم إما أن يكون تحريم تشريع، وإما تحريم طبع أو فطرة أو ضرورة. نجد الرجل الذي أسرف على نفسه في تناول محرمات كالخمر- مثلاً- يحرم الله عليه أشياء كانت حلالاً له، ويقول له الطبيب: تهرأ كبدك وصار من الممنوع عليك أن تأكل صنوفاً كثيرة من الطعام والشراب. وهكذا نرى ظلم الإنسان لنفسه، وكيف نتج عنه تحريم أشياء كانت حلالاً له.
 

ومن أسرف على نفسه في تناول صنف معين من الطعام كالسكر مثلاً فأكَله فوق ما تدعو به الحاجة، نجد سنة الله الكونية تقول له: لقد أخذت أكثر من حقك. وعطلت في جسدك القدرة على حسن استخدام السكر فصرت مريضاً، إياك أن تتناول السكريات مرة أخرى. ويشتهي المريض السكر والحلوى ويملك القدرة على شرائهما، ولكنها محرمة عليه، وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول له: بظلم منك لنفسك حرمت ما أحللته لك.
وآخر يملك الثروات والخدم والمزارع الشاسعة، ويقوم له الآخرون بطحن الغلال، ويأمر بأن يصنعوا له الخبز من أنقى أصناف الدقيق الخالي من أية قدر من (النخالة)، ويصنعون له الخبز الأبيض، ويأكله بينما الاتباع يصنعون لأنفسهم الخبز من الدقيق الأقل نقاوة، فتقول له سنة الله: ستأكل الخبز المصنوع من النخالة بأمر الطبيب علاجاً لأمعائك لأنك أسرفت على نفسك في أكل الخبز المصنوع من أنقى أنواع الدقيق وليأكل رعاياك وعمالك الخبز المصنوع من أفخر ألوان الدقيق، فبظلم منك حرمنا ما أحل لك.

 

وعندما نَرى إنساناً قد حُرمَ من نعمة من نعم الله التي هي حلال له، نعلم أنه قد حلل لنفسه شيئاً حرمه الله عليه، أو أسرف في استعمال حق أحله الله له، ولا أحد منا يفلت من رقابة الله. إذن فالتحريم قد يكون بالتشريع، إذا كانت العقوبة التحريم من المشرع، وقد يكون تحريماً بالطبع والفطرة إن كان في الأمر إسراف من النفس.
ولنقرأ دائماً هذه الآية: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً} وكذلك الذين يأخذون مالاً بالربا، لقد أخذوا الربا ليزيد مالهم، لماذا تريدون المال؟. أتريدون المال لذات المال؛ أم لهدف آخر؟. صحيح أن المال رزق، لكنه رزق غير مباشر؛ لأنه يَشْتري به الأشياء التي ينتفع بها الإنسان، وهي الرزق المباشر. وقلنا قديماً: هب أن إنساناً في صحراء ومعه جبل من ذهب لكن الطعام انقطع منه، وجبل الذهب في مثل هذه الحالة لا ينفع، بل يصبح رغيف الخبز وكوب الماء في تلك الحالة أغلى من الذهب. والذي يزيد ماله بالربا، أيريد تلك الزيادة من أجل المتع؟. سبحانه يمحق ذلك المال ويُذهبه في كوارث.

 

ومن أراد أن يبقي له ما أحل الله إلى أن يأتي أجله فعليه ألا يبيح لنفسه أي شيء حرمه الله. وبذلك يظل متمتعاً بنعم الله عليه. فالحق هو القائل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}.
الإنسان- إذن- هو الذي يظلم نفسه مصداقاً لقوله الحق: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44].
وهكذا ظلم اليهود أنفسهم فحرم الله عليهم طيبات أُحِّلت لهم. ومن الذي نقل الأمر الطيب إلى أمر غير طيب؟.

 

إنه الإنسان. ولكن هل نقل ذات الشيء أو حكم الشيء؟. لقد نقل حكم الشيء، فجعل الشيء الحرام شيئاً حلالاً. {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً}.
 

كيف يكون باستطاعتهم الصد عن سبيل الله؟. لقد ظلموا أنفسهم وأخذوا الربا وتلك أمور تجعلهم في ناحية الضلال وفي جانب الباطل، وليت الأمر وقف عند هذا. بل أرادوا أيضاً إضلال غيرهم، وهذا هو مضمون الصد عن سبيل الله. وجعلهم هذا الأمر أصحابَ وزر آخر فوق أوزارهم، فلم يكتفوا بضلالهم بل تحملوا أوزار إضلال غيرهم. {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].

وقد يسمع متشكك هذا القول.فيتساءل: كيف يناقض القرآن بعضه فيقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164].
ونقول: إن لكل وزر طريقاً وحساباً، فالإنسان يحمل وزر ضلاله وحده إن لم يضل به أحداً غيره، ولكن إن حاول إضلال غيره فهو يتحمل وزر هذا الإضلال.


ويقول الحق في تكملة ظلمهم لأنفسهم: {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}، وقد تعرضنا للربا من قبل. وقد أخذوا الرشوة، وهو أكل لمال الناس بالباطل؛ وكذلك السرقة، والغش في السلع، كل ذلك أخذ مال من الناس بغير حق، وما أخذ بغير الحق فهو باطل، وأعد سبحانه لهم مسبقاً عذاباً اليماً. ولكل إنسان مقعدان: مقعد من الجنة إن قُدّر إيمانه، ومقعد من النار إن قُدّر كفره، ولا مجال للظن بإمكان ازدحام الجنة أو ازدحام النار، فقد خلق الله مقاعد الجنة على أساس أن كل الناس مؤمنون، وجعل مقاعد النار على أساس أن كل الناس كافرون.
ولذلك يقول الحق: {الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11].

 

وحين يتبوأ المؤمن مقعده في الجنة يورثه الله المقعد الآخر الذي أعده للكافر؛ فقد كان للكافر قبل أن يكفر مقعدٌ في الجنة لو اختار الإيمان. وقد أعد الحق العذاب الأليم لهم أي الشديد إيلامه، وهو مهين أيضا أي أن في قدرته قهر أي إنسان يتجلد للشدة، فلا أحد يقدر على الجَلَد أمام عذاب الله.
وهل هذا هو كل ما كان من أهل الكتاب؟. ألم يوجد في أهل الكتاب من كان يدير مسألة برسول الله صلى الله عليه وسلم في عقله، ويبحث في القضايا والسمات التي جاءت مبشرِّة به صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل؟. كان من بينهم من فعل ذلك، ويورد الحق سبحانه وتعالى التاريخ الصادق، فيستثنى من أهل الكتاب الراسخين في العلم فيقول: {لكن الراسخون...}.

 

وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ  بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا |  تفسير الجلالين | النساء 161

 

 

{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)}


إذن لم يعمم الله الحكم على أهل الكتاب، الذي سبق بكفرهم وظلمهم لأنفسهم وأخذهم الربا وغير ذلك، بل وضع الاستثناء، ومثال لذلك (عبدالله بن سلام) الذي أدار مسألة الإيمان برسول الله في رأسه وكان يعلم أن اليهود قوم بُهت.
فقال لرسول الله: إني أومن بك رسولاً، والله لقد عرفتك حين رأيتك كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد.

 

ويقول الحق عن مثل هذا الموقف: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}. ولا أحد يتوه عن معرفة ابنه؛ كذلك الراسخون في العلم يعرفون محمداً رسولاً من الله ومبلغاً عنه، والراسخ في العلم هو الثابت على إيمانه لا يتزحزح عنه ولا تأخذه الأهواء والنزوات. بل هو صاحب ارتقاء صفائي في اليقين لا تشوبه شائبة أو شبهة.
{لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}، وقوله الحق: {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ} هو القرآن، وهو أصل يُرد إليه كل كتاب سابق عليه، فحين يؤمنون بما أنزل إلى سيدنا رسول الله، لابد أن يؤمنوا بما جاء من كتب سابقة.
والملاحظ للنسق الأسلوبي سيجد أن هناك اختلافاً فيما يأتي من قول الحق: {والمقيمين الصلاة} فقد بدأ الحق الآية: {لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ والمقيمين الصلاة}.

ونحن نعلم أن جمع المذكر السالم يُرفع بالواو وينصب ويُجر بالياء، ونجد هنا (المقيمين) جاءت بالياء، على الرغم من أنها معطوفة على مرفوع، ويسمي علماء اللغة هذا الأمر ب (كسر الإعراب)؛ لأن الإعراب يقتضي حكماً، وهنا نلتفت لكسر الحكم. والأذن العربية التي نزل فيها القرآن طُبِعَتْ على الفصاحة تنتبه لحظة كسر الإعراب.
لذلك فساعة يسمع العربي لحناً في اللغة فهو يفزع. وكلنا يعرف قصة العربي الذي سمع خليفة من الخلفاء يخطب، فلحن الخليفة لحنة فصرّ الأعرابي أذنيه، أي جعل أصابعه خلف أذنيه يديرهما وينصبهما ليسمع جيداً ما يقول الخليفة، ثم لحن الخليفة لحنة أخرى، فهب الأعرابي واقفاً، ثم لحن الثالثة فقال الأعرابي: أشهد أنك وُلِّيت هذا الأمر بقضاء وقدر. وكأنه يريد أن يقول: (أنت لا تستحق أن تكون في هذه المكانة).

 

وعندما تأتي آية في الكتاب الذي يتحدى الفصحاء وفيها كسر في الإعراب، كان على أهل الفصاحة أن يقولوا: كيف يقول محمد إنه يتحدى بالفصاحة ولم يستقم له الإعراب؛ لكن أحداً لم يقلها، مما يدل على أنهم تنبهوا إلى السرّ في كسر الإعراب الذي يلفت به الحق كل نفس إلى استحضار الوعي بهذه القضية التي يجب أن يقف الذهن عندها: {والمقيمين الصلاة}.
لماذا؟ لأن الصلاة تضم وتشمل العماد الأساسي في أركان الإسلام؛ لأن كل ركن من الأركان له مدة وله زمن وله مناط تكليف. فالشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يكفي أن يقولها المسلم مرة واحدة في العمر، والصوم شهر في العام وقد لا يصوم الإنسان ويأخذ برخص الإفطار إن كانت له من واقع حياته أسباب للأخذ برخص الإفطار. والزكاة يؤديها المرء كل عام أو كل زراعة إن كان لديه وعاء للزكاة. والحج قد يستطيعه الإنسان وقد لا يستطيعه. وتبقى الصلاة كركن أساسي للدين. ولذلك نجد هذا القول الكريم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} [المدثر: 42-43].

 

وأركان الإسلام- كما نعلم- خمسة وهي واضحة، ومن الجائز ألا يستطيع المسلم إقامتها كلها بل يقيم فقط ركنين اثنين، كالشهادة وإقامة الصلاة. وحين يقول الحق: {والمقيمين الصلاة}. يلفت كل مؤمن إلى استمرارية الودادة مع الله؛ فهم قد يودُّون الله شهراً في السنة بالصيام، أو يؤدُّون بإيتاء الزكاة كلما جاء لهم عطاء من أرض أو مال، أو يودون الله فقط إن استطاعوا الذهاب إلى الحج. وبالصلاة يودُّ المؤمن ربَّه كل يوم خمس مرات، هي- إذن- إعلان دائم للولاء لقد قلنا: إن الصلاة جمعت كل أركان الدين، ففيها نقول: (أشهد أن لاإله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله)، ونعلم أننا نزكي بالمال، والمال فرع العمل، والعمل يحتاج إلى وقت؛ والإنسان حين يصلي يُزكي بالوقت. والإنسان حين يصلي يصوم عن كل المحللات له؛ ففي الصلاة صيام، ويستقبل المسلم البيت الحرام في كل صلاة فكأنّه في حج.
إذن فحين يكسر الحق الإعراب عند قوله: {والمقيمين الصلاة} إنما جاء ليلفتنا إلى أهمية هذه العبادة. ولذلك يقولون: هذا كسر إعراب بقصد المدح.- فهي منصوبة على الاختصاص- ويخص به الحق المقيمين الصلاة؛ لأن إقامة الصلاة فيها دوام إعلان الولاء لله. ولا ينقطع هذا الولاء في أي حال من أحوال المسلم ولا في أي زمن من أزمان المسلم مادام فيه عقل.

 

ويقول الحق من بعد ذلك: {والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر} كأن كل الأعمال العبادية من أجل أن يستديم إعلان الولاء من العبد للإيمان بالله. والإيمان- كما نعلم- بين قوسين: القوس الأول: أن يؤمن الإنسان بقمة الإيمان وهو الإيمان بالله. والقوس الثاني: أن يؤمن الإنسان بالنهاية التي نصير إليها وهي اليوم الآخر. ويقول سبحانه جزاءً لهؤلاء: {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} هو أجر عظيم؛ لأن كل واحد منهم قد شذ عن جماعته من بقية أهل الكتاب ووقف الموقف المتأبي والرافض المتمرد على تدليس غيره، ولأنه فعل ذلك ليُبيّن صدق القرآن في أن الإعلام بالرسول قد سبق وجاء في التوراة.
 
 
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ  بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ  الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ  الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ ...
تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)}


نعلم أن الحق حينما يتكلم، يأتي بضمير التكلم. وضمير التكلم له ثلاثة أوجه، فهو يقول مرة: (إنا) ومرة ثانية: (إنني) وثالثة يخاطب خلقه بقوله: (نحن). وهنا يقول: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ}. ونشاهد في موقع آخر من القرآن الكريم قوله الحق: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ} [طه: 14].
وفي موضع ثالث يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
لأن الذكر يحتاج إلى صفات كثيرة ومتنوعة تتكاتف لتنزيل الذكر وحفظه. وحين يخاطب الله خلقه يخاطبهم بما يُجلي مواقع الصفات من الكون الذي نعيش فيه. والكون الذي نعيش فيه يمتلئ بالكائنات التي تخدم الإنسان، وهذه الكائنات قد احتاجت إلى الكثير لتهيئ للإنسان الكون قبل أن يوجد الإنسان، وذلك حتى يأتي إلى الكون ليجد نعم الله له؛ فالإنسان هو الذي طرأ على كون الله.

 

هذا الكون الذي صار إلى إبداع كبير احتاج إلى صفات كثيرة لإعداده، احتاج إلى علم عن الأشياء، وإلى حكمة لوضع كل شيء في مكانه، ولقدرة تبرزه، وإلى غنى بخزائنه حتى يفيض على هذا الموقع بخير يختلف عن خير الموقع الآخر، وساعة يكون العمل مُتطلباً لمجالات صفات متعددة من صفات الحق، يقول سبحانه: (إنَّ) أو (نحن). وعندما يأتي الحديث عن ذات الحق سبحانه وتعالى يقول: (إني أنا الله). ولا تأتي في هذه الحالة (إنَّا) ولا تأتي (نحن).
 

والحق هنا يقول: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أي أنه أوحى بمنهج ليصير الإنسان سيداً في الكون، يصون نفسه والكون معاً، وصيانة الكائن والكون تقتضي علماً وحكمة وقدرة ورحمة؛ لذلك فالوحي يحتاج إلى صفات كثيرة متآزرة صنعت الكون. ورحمة من الله بخلقه أن جعل لهم مدخلاً فيقول على سبيل المثال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27].
 

هو الذي أنزل من السماء ماء، وليس لأحد من خلقه أي دخل في هذا؛ لأن الماء إنما يتبخر دون أن يدري الإنسان، ولم يعرف ذلك إلا منذ قرون قليلة. وعرفنا كيف يتكون السحاب من البخار، ثم ينزل المطر من بعد ذلك. إذن لا دخل للإنسان بهذا الأمر؛ لذلك يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً}. ويأتي من بعد ذلك إنصاف الحق للخلق، فيقول: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا}. ولم يقل: (فأخرجت). بل أنصف الحق خلقه وهم المتحركون في نعمه بالعقول التي خلقها لهم، فسبحانه يقدر عمل الخلق من حرث وبذر ورى وذلك حتى يخرج الثمر.
إذن الأسلوب القرآني حين يأتي ب (إني) يشير إلى وحدة الذات، وحين يأتي ب (إنَّا) يشير إلى تجمع صفات الكمال؛ لأن كل فعل من أفعال الله يقتضي حشداً من الصفات علماً وإرادة وقدرة وحكمة وقبضاً وبسطاً وإعزازاً وإذلالاً وقهاريةً ورحمانيةً؛ لذلك لابد من ضمير التعظيم الذي يقول فيه النحويون: إن (نحن) و(ن) للمعظم نفسه.
وقد عظم الحق نفسه؛ لأن الأمر هنا حشد صفات يتطلبها إيجاد الكون والقيام على أمر الكون. ولذلك نجد بعض العارفين الذي لمحوا جلال الله في ذاته وجماله في صفاته يقولون:
فسبحان رب فوق كل مظنة ** تعالى جلالاً أن يُحاط بذاته

إذا قال (إني) ذاك وحدة قدسه ** وإن قال (إنَّا) ذاك حشد صفاته

 

وعندما ننظر إلى هذه المسألة، نجد أن الحق سبحانه وتعالى أنصف خلقه لعلهم يعرفونه، فجعل لهم إيجاد أشياء وخلق أشياء. وحين يتعرض سبحانه لأمر يكون له فيه فعل ويكون لمن أقدره سبحانه من خلقه فيه فعل، فهو يأتي بنون التعظيم لأنه سبحانه هو الذي أمدهم بهذه القدرات.
 

وحين أوجد الحق خلقه من عدم، جعل لخلق من خلقه إيجاداً؛ ولكنْ هناك فرق بين إيجاد المادة، وإيجاد ما يتركب من المادة. فقد خلق سبحانه كل شيء من عدم، ولكن جعل لخلقه أن يخلقوا أشياء لكن ليست من عدم. وما ضَنَّ سبحانه وتعالى عليهم بأن يذكرهم بلفظ الخلق فقال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14].
فكأنه سبحانه وتعالى جعل من خلقه خالقين، لكن الخالقين من خلقه لم يخلقوا من عدم محض، وإنما كوَّنوا مركّباً من موجود في مواده. فأخذوا من مواد خلقها الله فركّبوا وأوجدوا. والإنسان الذي صنع كوب الماء لم ينشئ الكوب من عدم محض وإن كانت (الكلية) في الكوب غير موجودة فجزئيات إيجاد الكوب موجودة، فالرمل موجود في بيئات متعددة، وموجود أيضاً ما يصهر الرمل، والعقل الذي يأخذ تلك العناصر، والفكر الذي يصنع من الرمل عجينة، ومصمم الآلات التي تصنع هذا الكوب موجود. إذن فقد أوجد الإنسان كوباً من جزئيات موجودة. فالفارق- إذن- بين خلق الله وخلق خلق الله؛ أن الله خلق من عدم محض، لذلك وصف ذاته بقوله: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}.
فأنتم أيها البشر إنما تخلقون من مخلوقات الله ولم تخلقوا من غير مخلوق لله؛ فهو سبحانه وتعالى أحسن الخالقين. وكما أنصف الحق خلقه بأن نسب لهم خلقاً، فلابد من أن يصف نفسه بأنه أحسن الخالقين. وأيضاً إن خلق الخلق- كما قلنا وأنا لا أزال أكررها لتستقر ثابتة في الأذهان- يجمد الشيء على ما أوجدوه عليه، فيخلقون الكوب ليظل كوباً في حجمه وشكله ولونه، ولكنهم لم يخلقوا كوباً ذكراً وكوباً أنثى ليجتمعا معاً وينشئا أكواباً صغيرة تنمو وتكبر، ولكن الله ينفخ بسرّ الحياة في كل شيء فيوجده، لذلك هو أحسن الخالقين.
ولو نظرت إلى كل شيء في الوجود لوجدت فيه سر الذات الفاعلة، فلو نظرت إلى ذات نفسك، لوجدت لك وسائل إدراك، لوجدت لك سمعاً، ولوجدت لك عيناً، ولوجدت لك أنفاً ولمساً وذوقاً ولكن لبعض الآلات تحكم في اختيارك، فأنت حين تفتح عينيك ترى وإن لم يرد أن ترى تغمض عينيك. ولكن إذا أردت الا تسمع، أتستطيع أن تجعل في أذنك آلة تقول (لا أسمع)؟ وأنت تفتح فمك لتأكل وتتذوق، ولكن أنت لا تفتح أنفك لتشم. أنت تمد يدك لتلمس. وقل لي بالله أي انفعال لك أن أردت أن تضحك؟ ما الآلة التي في بدنك تحركها لتضحك؟ أنت لا تعرف شيئاً إلا سبباً مثيراً يضحك، لكنك لا تعرف ما هي الآلات التي تعمل في جسمك لتضحك. وكذلك حينما تبكي ما هي الآلات التي تعمل في ذاتك لتجعلك باكياً؟ أنت لا تعرف. ولذلك جعل الله الإضحاك والإبكاء مع الإيجاد بالحياة، والعدم بالموت جعل ذلك له سبحانه وتعالى. {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 43-44].

 

جعل الحق في ذاتك الإنسانية أشياء تفعل ولكنك لا تعرف بأي شيء تفعل ولا بأي شيء تنفعل. والأذن ليس لها ما يسدها عن السمع؛ لذلك لا يأمرك الحق بألا تسمع أي شيء، ولكن الأثر الصالح يأمر: (لا تتسمّع إلى القيلة).
لم يقل الأثر الصالح (لا تسمع إلا قيلة) لأن الإنسان لا يستطيع أن يصم أذنيه عما يدور حوله، لكنه يستطيع ألا يتسمّع بألاّ يلقي بأذنيه إلى ما يقال. إذن فقد جعل الحق التكليف في مقدور اختيارات المسلم ولذلك قال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68].
واستخدم هنا كلمة (رأيت) لأن المسلم لا يملك شيئاً يسد به أذنيه حتى لا يسمع حديث الذين يخوضون في آيات الله، لكن أمر الله الذين يسمعون ذلك أن يسيروا بعيداً معرضين عن هؤلاء الخائضين. وسبحانه يوضح لنا ما خفي عنا، وكل شيء في الكون وإن كان ظاهره أنه (يفعل)، لكنه في الحقيقة هو مقهور لما ينفعل لمرادات الله بأمر الله. ولذلك يقول العارفون بالله: من جميل إحسانه إليك أن فعل ونسب إليك.

 

فسبحانه وتعالى الذي يفعل كل شيء، وليس على الإنسان إلا توجيه الآلة الفاعلة. ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أن الإنسان حين يكون قوياً لا يمكنه أن يعطي قوته لضعيف، فلا أحد منا يقول لضعيف: خذ قدراً من قوتي لتساعدك على التحمل، بينما يوضح الله للضعيف عملياً: تعال إلي أعطك من مطلق قدرتي قدراً من القوة لتفعل.
إذن القوة في المخلوق لا يعطيها أبداً لمثله، بل يعطي أثرها. مثال ذلك عندما لا يستطيع شخص أن يحمل شيئاً ثقيلاً، فيأتي آخر قَويّ ليحمله عنه، والقوي بفعله إنما يعدي أثر قوته للضعيف، لكنه لا يستطيع أن ينقل قوته إلى ذات الضعيف ليحمل الشيء الثقيل.
والله لا يعدي أثر قوته فحسب ولكنه يمنح ويعطي قوة إلى كل ضعيف يلجأ إليه وإلى كل قوي أيضاً. وسبحانه يتفضل بالغنى والسعة لكل غني وفقير وبرحمته إلى كل رحيم، وبقدرته لكل قادر، وبحكمته لكل حكيم. إذن فكل هذه مستمدات من الحق سبحانه وتعالى. هذا هو كلامنا في (إنَّا).

 

وحين يتكلم الحق قائلاً: (أوحينا) فهو سبحانه يأتي بصيغة الجمع. وما الوحي؟ قال العلماء الوحي: إعلام بخفاء؛ لأن وسائل الإعلام شتى، وسائل الإعلام هي التي تنقل قولاً يقوله المبلِّغ فيعلم السامع، أو هو إشارة يشير بها فيفهم معناها الرائي. وهذه إعلامات ليست بخفاء. بل بوضوح، وعندما يقول: (أوحينا) فهو يعني أنه قد أعلم، ولكن بطريق خفي. وحين تطلق كلمة (وحي) يكون لها معانٍ شتى، فكل إعلام بخفاء وحي. لكن من الذي أوحى في خفاء؟ ومن الذي أُوحي إليه في خفاء؟ وما الذي أُوحي به في خفاء؟ نجد أن الحق سبحانه وتعالى جاء في أجناس الوجود، وقال عن الأرض وهي الجماد: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 1-5].
 

أي أن الحق قد ضبط الأرض على مسافة زمن قيام القيامة، فتتحدث عندئذ- ولله المثل الأعلى- نحن نقدر العمر الافتراضي لما نصنع لينتهي في وقت محدد. إذن فقد أوحى الله للجماد وهي الأرض.
ويترك لنا سبحانه في صناعة المخلوقين ما يقرب لنا صنعة الخالق، فعندما يريد الإنسان أن يستيقظ في الثالثة صباحاً، وهو وقت لم يعتد فيه هذا الإنسان على الاستيقاظ، فهو يضبط المنبه ليصدر عنه الجرس في الوقت المحدد، كأن الإنسان بهذا الفعل قد أوحى للمنبه، كذلك الحق صنع الأرض وأوحى لها: في الوقت المحدد ستنفجرين بحكم تكويني لك. ويوحي الحق إلى جنس الحيوان: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68].
هذا إعلام بخفاء من الله للنحل. فقد جعل الله في تكوينها الغرزي ما يؤدي إلى ذلك. وهناك فرق بين التكوين الغرزي والتكوين الاختياري؛ فالتكوين الغرزي يسير بنظام آلي لا يعدل عنه، أما التكوين الاختياري فيصح أن يعدل عنه.
ومثال آخر على لآلية نجد الحاسب الآلي المسمى العقلي الإلكتروني ويقوم الإنسان بتخزين المعلومات فيه، وهذا الحاسب الآلي لا يستطيع أن يقول لواضع المعلومات فيه: لا تقل هذه الحقيقة، ولا يستطيع أن يمتنع عن إعطاء ما فيه لمن يطلب هذه المعلومات إن كان يعرف كيفية استدعائها.
فلا اختيار للحاسب الآلي.

 

ويختلف الوضع في العقل البشري الذي يتميز بالقدرة على انتقاء المعلومات ويعرف كيف يدلي بهذه المعلومات حسب المواقف المختلفة، ويتحكم بوعي فيما يجب أن يُستر وفيما لا يجب ستره، بل إن العقل البشري قد يكذب ويلون المعلومات. وهو قادر على تغيير الحقائق والتحكم فيها، بينما الحاسب الآلي المسمى بعقل إليكتروني لا يقدر على ذلك؛ لأنه يدلي بالمعلومات حسب ما تم (برمجته) به وتخزينه ووضعه فيه، وهكذا يرتقي الإنسان في الفكر.
 

والحق سبحانه وتعالى حين خلق الخلق، أعطى لكل كائن الغرائز التكوينية التي تناسبه أعطى الإنسان القدرة على الاختيار بين البديلات، أما بقية الكائنات فقد أخذت حكم الغريزة. والكائن الذي يسير بحكم الغريزة لا اختيار له، ولذلك تسير كل أموره مستقيمة بناموس ثابت.
ونرى هذا الأمر بوضوح في حكم قهر السموات والأرض والكواكب التي لا اختيار لها؛ فهي تسير حسب القوانين التي وضعها الله لها، وكذلك النبات. فالإنسان قد يزرع شجرة فتنمو بالتسخير الغرسي الذي وضعه الله فيها، وتمتد الشعيرات من الجذور في باطن الأرض؛ لتمتص- بتسخير الله لها- بعض العناصر المحددة في التربة، وينتفع نبات ما بمادة معينة قد لا تصلح لنبات آخر.

 

ويأتي علماء النبات ليعملوا في حقل دراسات نمو النباتات، وقد يكون بعضهم ضعيف الإيمان بالله، أو أن قدرات الخالق لا توجد في بؤرة شعوره دائماً. فيقول: إن النبات يتغذى حسب خاصية الأنابيب الشعرية. وخاصية الأنابيب الشعرية- كما نعرفها- هي صعود السائل إلى الأنابيب التي تكون الواحدة منها لا يزيد قطرها واتساعها على قطر الشعرة. ويصعد فيها السائل إلى ما فوق سطح الإناء. وكل سائل في أي إناء إنما يأخذ استطراقاَ واحداً. وعندما نضع الأنابيب الشعرية في قلب هذا الإناء، فالسائل يصعد داخل هذه الأنابيب فوق مستوى الإناء؛ لأن الضغط الجوي داخل الأنابيب يختلف بالنسبة لحجم المياه عنها في داخل الإناء. وظن العلماء أن النبات يتغذى بهذه الطريقة.
ونقول لهؤلاء: كيف هذا والنبات يختار عناصر معينة من السائل؛ بينما الأنابيب الشعرية يصعد فيها الماء بكل العناصر الموجودة في الماء؟. إنك أيها العالم الذي غاب الله عن بؤرة شعورك قد تدعي أن الطبيعة هي التي تفعل ذلك، ولا تلتفت إلى حقيقة واضحة وهي أن النبات ينتقي بالتسخير الرباني الخاص بعضاً من العناصر الموجودة في التربة، لا بخاصية الأنابيب الشعرية.
وصدق القول الحق: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 1-3].
فسبحانه الذي قدر فهدى كل شيء إلى احتياجاته. ويقول الحق أيضاً: {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4].

 

إذن فسبحانه يوحي لكل نبات بخاصية تكوين غريزي تختلف عن النبات الآخر؛ لذلك نجد الفلاح يضع شجرة الفلفل بجانب عود القصب، بجانب شجرة الرمان، فنجد الفلفل يخرج وله مذاق حريف، والقصب له مذاق حلو، والرمان له مذاق فيه الحلاوة والحموضة، إنه مختلف عن القصب وعن الفلفل، وهذا الاختلاف لم يتم بخاصية الأنابيب الشعرية. ويقول آخر: هذا الاختلاف إنما حدث بظاهرة الانتخاب الطبيعي. ونقول: لماذا لا تقول الانتخاب الإلهي وتستريح؟.
إذن فالوحي هو إعلام بخفاء، وقد يكون مطموراً في تكوين الشيء بحيث إذا جاء وقته ينفعل، تماماً مثلما يدق جرس المنبه في الميعاد المحدد. والوحي إلى الحيوان يتحدد في قوله الحق: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68].

 

ومن العجيب أن العالم الأمريكي الذي رصد حياته لدراسة النحل في أطواره وأصنافه وأجناسه وبيئاته، قال: أول إنتاج للنحل كان في الجبال وأقدم عسل وجده الإنسان للنحل كان في الخلايا التي عثر عليها من الجبال. وبعد ذلك وجد الإنسان النحل وعسله في الشجر العالي الذي لا يملكه، ثم استأنس الإنسان النحل وأقام له البساتين والبيوت والخلايا ومما يعرشون. ولم يقرأ هذا العالم القرآن ليعرف المراحل الثلاث التي جاءت به، لكنه درس بصدق البحث التجريبي، وخرج بالنتيجة نفسها التي جاء بها القرآن. وفي كل وقت وزمان نجد عالماً من الكافرين يكتشف أشياء تؤيد وتؤكد قضية الإيمان عند المؤمنين. أما الوحي بالنسبة للإنسان فيأخذ أشكالاً أخرى، يقول الحق: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} [القصص: 7].
ولم يأت إلى أم موسى رسول يُوحى إليها. لكن الأمر قد استقر في ذهنها، وقد تعب العلماء كثيراً ليقربوا معنى الوحي لأذهاننا، فقالوا عنه: إنه عرفان يجده الإنسان في نفسه ولا يعرف مصدره، ومع هذا العرفان دليل أنه من الله. ولذلك لا يطلب العقل عليه دليلاً. والذي يصّدق على هذا هو أننا سمعنا قول الحق: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم}.
وبالله عليكم، اجمعوا الدنيا كلها وقولوا لامرأة: إن خفت على ابنك فألقيه في البحر، هل تصدق الأم ذلك؟! لا يمكن، لكن أم موسى أخذت هذا الأمر كقضية مسلم بها، فساعة دخل الإيحاء من الله إلى قلبها، أو الإعلام بخفاء إلى وجدانها آمنت به، ومادام الإعلام من الله فلا شيطان يزاحمه، بل يدخل إلى النفس فتستقبله استقبال اليقين والإيمان بلا مناقشة. وألقت أم موسى بابنها بعد أن أرضعته. وأراد الله أن يطمئنها. فأوضح لها: أَنَا أصدرت الأمر إلى البحر ليلقي الرضيع إلى الساحل. وأصدرت الأوامر ليلتقطه العدو فرعون.
وأصدرت الأوامر أن يقوم بيت فرعون بتربيته.

 

وبعد ذلك هناك وحي للحواريين. يقول الله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111].
وهناك وحي للملائكة كقول الحق: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [الأنفال: 12].
الوحي ينتظم ويشمل- إذن- كل أجناس الوجود بطريقة خفية عند عالم خفي عنا، وهم الملائكة، وعالم ملحوظ لنا ولأمثالنا مثل الحواريين، ومثل أم موسى.

 

وساعة يقول: (أوحينا) ينبهنا إلى أن الإعلام بخفاء أمر غير مقصور على الله؛ ذلك أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
ويقول أيضاً عن الشياطين: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].
إذن الوحي هو إعلام بخفاء، وليس الأمر مقصوراً على الحق سبحانه وتعالى، بل يصح أن يكون الوحي من الله، أو من الشياطين، أو من جنود الشياطين.

 

وقد يكون الوحي إلى الجماد وإلى الحيوان وإلى الملائكة وإلى الإنسان.
وعندما نحدد معنى الوحي فإننا نقول: الوحي في اللغة إعلام بخفاء من أيّ- سواء أكان من الله أم من الشياطين- ولأي ما- سواء للأرض أو للحيوان أو للإنسان- وفي أيِّ- سواء في خير أو شر-.

 

وكلمة (وحي) تصلح لأي معنى من هذه المعاني بحيث إذا أطلقت انصرفت إليه. ولكن هي بالمعنى الشرعي لا تطلق إلاّ على الإعلام بخفاء من الله لرسوله، ومثل ذلك حدث لمعنى الصلاة، فالصلاة معناها اللغوي الدعاء، وهناك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة المكتوبة هي الأقوال والأفعال، وأخذ الشرع معنى الصلاة واصطلح على أن كلمة الصلاة حين يطلقها الفقيه تنصرف إلى الأقوال والأفعال المخصوصة المبتدأة بالتكبير والمختتمة بالتسليم.
 

وفي هذا المعنى الشامل للصلاة نجد سيدنا عمر- رضي الله عنه- وقد دخل عليه حذيفة فسأله: كيف أصبحت؟. أجاب حذيفة: أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق وأصلي بغير وضوء ولي في الأرض ما ليس في السماء. وغضب سيدنا عمر، ولولا دخول سيدنا علي بن أبي طالب لكان لسيدنا عمر شأن آخر مع حذيفة.
وسأل عليٌّ عمر: ما يغضبك يا أمير المؤمنين؟. قال عمر: سألت حذيفة كيف أصبحت فقال كذا وكذا. فقال علي- كرم الله وجهه-: نعم يا أمير المؤمنين، أصبح يحب الفتنة، أي يحب ماله وولده، فالحق قال: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}، وهو يكره الموت والموت حق من فينا يحبه يا أمير المؤمنين؟ وهو يصلي بغير وضوء على النبي صلى الله عليه وسلم، وله في الأرض زوجة وله ولد وهو ما ليس لله في السماء.
إذن فقد أخذ حذيفة الفتنة على معنى مخصوص، وكذلك الموت، والصلاة. وضربت هذالمثل لأفرق بين المعاني الشرعية والمعاني اللغوية.


ونوضح الفارق بين معنى الوحي الاصطلاحي والمعنى اللغوي، المعنى اللغوي للوحي هو: إعلام بخفاء من أيّ لأيّ بأي. والوحي بمعناه الشرعي: إعلام بخفاء من الله لرسوله. وكل الألوان الأخرى من الوحي نأخذها بالمعنى اللغوي.


وقوله الحق هنا في الآية التي نحن بصددها: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ}. و(أوحينا) هنا قد جاءت للإعلام بخفاء من الله لرسول من رسله. ونعلم أن صفات الكمال للحق سبحانه وتعالى هي صفات الكمال المطلق. وكل الخلق مقدورون لقدرته سبحانه. ولا يمكن لأحد أن يتصل اتصالاً مباشراً بالأعلى المطلق. ولا يستطيع أحد أن يتحمل ذلك حتى الرسول. ولذلك يأتي الحق بنورانيَّين من الملائكة ليأخذوا منه ليعطوا للرسول. ويسبق ذلك إعداد الرسول لهذه المهمة.
إذن فالمسألة تمر بمراحل تصفية، الأعلى يعطى للملائكة، والملائكة يعطون للمصطفى من الخلق، والمصطفى مصنوع على عين الله ليتلقى الوحي، ومن بعد ذلك يعطي الرسول لغيره من البشر. وكل ذلك لتقريب مسافات الالتقاء. وعلى رغم تقريب مسافات الالتقاء تحصل الهزة من آخر مرحلة حين يستقبل من أدنى مرحلة، فحين يستقبل الرسول الوحي من ملك تحدث له هِزَّة. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن أول لقاء له مع الوحي: «حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني. فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق اقرأ وربّك الأكرم».

 

وكان جبينه يتصفد عرقاً، ورجف فؤاده ودخل على زوجه خديجة بنت خويلد فقال: «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع. وكان ذلك أمراً طبيعياً؛ فهذا الملك جبريل متصل ببشر هو محمد بن عبدالله ولابد أن يحدث ذلك للرسول، وذلك حتى يتكيف ليستقبل من المَلَك.
لكن أتظل هذه الرجفة المتعبة؟. لا، إن الوحي يَفتر لفترة وتذهب عنه متاعبه فيشتاق الرسول إليه ويصير قادراً على تحمل متاعبه، مثل تصفد الجبين بالعرق، ومثل الثقل في الحركة حتى إذا جاءه الوحي وهو على دابة فهي تئط وتئن، وإن جاءه الوحي وهو جالس وفخذه على فخذ واحد من الصحابة، فيكاد ثقل الرسول يرض عظام الرجل ويكسرها، كل ذلك من المتاعب تحدث للرسول في أثناء الوحي؛ لأن تغييراً كيماوياً يحدث في بدنه صلى الله عليه وسلم ليتأكد أن الكلام الذي يتلقاه ليس كلاماً عادياً، لكنه كلام قد جاء بإعجاز، وأنه من عند الله.
لقد كان للوحي صلصلة كصلصلة الجرس. وكأن هذا الصوت إعلان أن زمن وساعة الوحي قد جاءت فاستعد لها يا رسول الله. وعندما تعب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البداية، كان من رحمة الله به أن يجعل الوحي يفتر عنه، فيشتاق صلى الله عليه وسلم للوحي بسبب حلاوة ما أوحي إليه، ويجعله هذا الشوق مستشرفاً للمتاعب. وعندما فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خصومه: رب محمد ودعه وجَفاه. ولم يتذكروا أن لمحمد رباً إلاّ في هذه المسألة بعد أن اتهموه بالكذب ولم يمتلكوا الذكاء حتى يعبروا عن هذا الأمر بتعبير لا يتناقض مع موقفهم السابق منه. وحين رأى الحق الإجهاد الحاصل لرسوله جعل الوحي يفتر حتى تبقى حلاوة ما يوحَى به ويذهب التعب ويشتاق رسول الله إلى ما يوحى إليه.
إن الشوق وتلك المحبة يجعلان رسول الله لا يشعر بوطأة الألم المادي البشري، والإنسان منا حين يذهب إلى حبيب له يسير في الشوك والوحل ولا يبالي. إذن ففتور الوحي كان لتربية الشوق في نفسه صلى الله عليه وسلم ليستقبل الوحي، ولينتبه كل منا حين يقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4].
أي أن ما سيأتي لك من بعد ذلك سيسرك. ويقول الحق بعدها: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 1-4].

 

وحين عرض الحق هذه المسألة بهذه الكيفية أراد أن يبلغنا: لا تظنوا أن رب محمد- كما يقولون- قد جفاه، لا، بل يعده ليستقبل أكثر مما جاء من قبل، فسنن الكون أمامكم، لكن كفرهم أعمى أبصارهم وبصيرتهم، ويقول سبحانه: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 1-3].
وسبحانه يقسم بما شاء على ما شاء. والضحى هو ضحوة النهار وهي محل الحركة والكدح والجهد والتعب، والليل محل الراحة والسكون.
كأن الحق يوضح: إنكم إن نظرتم في آية الكون لوجدتم أن الله قد جعل الضحى للكدح والليل لنسكن فيه وفتور الوحي هو سكون ليعاود محمد نشاطه في حركة الوحي الجديدة، هو الحق سبحانه يقسم: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} أمجيء الليل بعد النهار ضن من الله على الناس بالنهار؟ لا، إنما الليل عطاء من الله ليسكنوا وليستقبلوا النهار الجديد.

 

وأنزل سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها حينما سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً}.
فيأمره الحق أن يوضح: أنا قد أوحى الله إليَّ كما أوحى إلى الرسل السابقين، فهل أنتم شككتم في وحي الله لموسى؟ أشككتم في وحي الله لمن سبق موسى؟ صحيح أنكم شككتم في مسألة عيسى، لكن لنضع الأمر الذي تكذبون فيه جانباً ولنأخذ ما أنتم مصدقون به، فيقول سبحانه: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ}.
إذن فأنت يا محمد لست بدعاً في هذه المسألة: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ} ويمر العلماء على هذه المسألة مروراً سريعاً، لكننا نقف عندها ونقول: قد يوحي هذا القول أن أول وحي كان لنوح. والحقيقة أن الوحي الأول كان لآدم من قبل، لكنْ هناك فارق بين الوحي لآدم والوحي للأنبياء من بعده.

 

ومثال ذلك نوح، فنوح طرأ على أمته وكانت أمته موجودة ثم جاء هو إلى هذه الأمة مبشراً ونذيراً. أما آدم عليه السلام فقد طرأت عليه أمته؛ لذلك لم يرسله الله بمعجزة، فهو أب للجميع. والأبناء يقلدون الآباء، بل حتى أبناء الملاحدة يقلدون آباءهم. وقد أوحى الله لآدم وقال له: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وإرسال الهدى لآدم هو مجيء الوحي إليه.
ولماذا جاء نوح في هذه الآية أولاً؟

لأن نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قد طرأ على أمته؛ لذلك احتاج إلى وحي وإلى معجزة. وأرسل الله نوحاً إلى الناس كافة؛ لعموم الموضوع، فلم يكن هناك من البشر غيرهم. لكنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم أرسله الله للناس كافة؛ لأن الإسلام هو الدين الخاتم. وكان قوم محمد موجودين. وكذلك كان غيرهم موجوداً.
{إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ}. لماذا قال الحق: {والنبيين مِن بَعْدِهِ} أي من بعد نوح؟، ولماذا قال: {وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ} وذكر أسماء الأنبياء من بعد إبراهيم؟
يقول العلماء: هنا عطف خاص على عام لزيادة التنبيه على شرف هؤلاء، {وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً}، وكأن الحق يقول: حين يسألك اليهود- يا محمد- أن تنزل عليهم كتابا من السماء قل لهم: إن الله أوحى إليَّ كما أوحى إلى ألأنبياء السابقين؛ فلست بدعا من الرسل. وحتى لو أنزل إليهم محمد كتاباً في قرطاس ولمسوه بأيديهم لقالوا: هذا سحر مبين، كما قال: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7].
فالمنْكِر يريد الإصرار على الإنكار فقط. وليست المسألة جدلاً في حق وإنما هي لَجَاج في باطل.

 

ويتابع سبحانه وتعالى أسماء الأنبياء الذين أوحى الله إليهم: {وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} ونلحظ أنه جل وعلا ذكر الوحي عاماً؛ لكنه حينما جاء لداود ذكر اسمَ كتابِه (الزبور) ولم يأت في الآية بأسماء الكتب المنزلة على الرسل السابقين مثل نزول التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى؛ لأن ما جاء به داود في الزبور أمر تُجمع عليه كل الشرائع، وهو تحميد الله والثناء عليه قلم توجد في الزبور أية أحكام.
 

وقد يقول قائل: إن عيسى أيضاً لم تنزل عليه أحكام في الإنجيل. ونقول: لأن الإنجيل يلتحم بالتوراة؛ وجاء بالوجدانيات الدينية وكانت التوراة موجودة قبله وفيها الأحكام. ولذلك فمن عجيب أمر أهل الكتاب من يهود ونصارى، أنهم على رغم اختلافهم في قمة الأمور وهي مسألة عيسى وأم عيسى، جاءوا آخر الأمر ليلتقوا ويسموا الكتابين (العهد القديم والعهد الجديد) ويَعْتبروهما كتاباً واحداً يسمونه الكتاب المقدس.
وما معنى (الزبور)؟ المادة كلها مأخوذة من (زَبَرَ البئر)، فعندما يقوم الناس بحفر بئر ليأخذوا منها الماء، يخافون أن ينهال التراب من جوانبها عليه فتمطر البئر؛ لذلك يصنعون لجدران البئر بطانة الحجارة، وفي الريف المصري نجد انهم يصنعون تلك البطانة من الأسمنت.
وكلمة (زَبَرَ البئر) تؤدي معنى كل عملية لإصلاح البئر؛ ثم أخذ الناس هذه الكلمة في معانٍ مختلفة، فسموا العقل (زَبْراً) لأنه يعقل الأمور. وإذا كان السياج من الحجارة يعقل التراب عن البئر ويمنعه، فكذلك العقل يحمي الإنسان من الشطط وليضبط الإنسان حريته في إطار مسئوليته ليفكر، ويعقل الغرائز عن الفكاك بالإنسان إلى الشتات والضلال. ويخطئ الناس في بعض الأحيان في فهم معنى (العقل)؛ ويظنون أن العقل هو إطلاق الحبل على الغارب للأفكار دون انتظام او مسئولية، ونقول: افهموا أولاً معنى كلمة العقل حتى تعرفوا مهمته.

 

 

نداء الايمان

 

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ  مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ  وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ  وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ ...

 

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)}

 

والرسل الذين ذكرهم الله في الآية السابقة {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)} ليسوا كل الرسل الذين يجب الإيمان بهم تفصيلا فحسب، فكما علمونا في الأزهر الشريف يجب أن نؤمن بخمسة وعشرين رسولا وقد نظمهم بعض الشعراء في قوله:
في تلك حجتنا منهم ثمانية ** من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو

إدريس، هود، شعيب، صالح، وكذا ** ذو الكفل، آدم، بالمختار قد ختموا

 

وفي سورة الأنعام نجد قوله الحق: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصالحين وَإِسْمَاعِيلَ واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين} [الأنعام: 83-86].
وفي هذه الآيات ثمانية عشر رسولاً، وبالإضافة إلى سبعة هم إدريس وهود وشعيب وصالح وذو الكفل وآدم ومحمد صلى الله عليه وسلم، هم إذن خمسة وعشرون رسولاً ذكرهم الله، لكن الآية التي تسبق الآية التي نحن بصددها لم يذكر الله كل أسماء الرسل. وذكر أسماء بعض الرسل في سورة الأنعام وبعضهم في سورة هود وبعضهم في سورة الشعراء. ويقول الحق: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164].
أي أن الخمسة والعشرين رسولاً ليسوا كل الرسل الذين أرسلهم الحق إلى الخلق، فقد قال: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].
أي أنه قد قص علينا أعلام الرسل الذين كانت أممهم لها كثافة أو حيّز واسع أو لرسلهم معهم عمل كثيف، ولكن هناك بعض الرسل أرسلهم سبحانه إلى مائة ألف أو يزيدون مثل يونس عليه السلام: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147].

 

وكان العالم قديماً في انعزالية. ولم يكن يملك من وسائل الالقتاء ما يجعل الأمم تندمج. وكان لكل بيئة داءاتها، ولكل بيئة طابع مميز في السلوك، ولذلك أرسل الله رسولاً إلى كل بيئة ليعالج هذه الداءات، ولا يذكر الداءات الأخرى حتى لا تنتقل من مجتمع إلى مجتمع آخر بالأسوة. وحين علم الحق بعلمه الأزلي أن خلقه بما أقدرهم هو سبحانه على الفكر والإنتاج والبحث في أسرار الكون سيبتكرون وسائل الالتقاء؛ ليصير العالم وحدة واحدة، وأن الشيء يحدث في الشرق فيعلمه الغرب في اللحظة نفسها، وأن الداءات ستصبح في العالم كله داءات واحدة؛ لذلك كان ولابد أن يوجد الرسول الذي يعالج الداءات المجتمعة، فكان صلى الله عليه وسلم الرسول الخاتم والرسول الجامع والرسول المانع. {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164].
 

ويتكلم الحق سبحانه عن تاريخ النبوات مع قومهم بكلمة (قصصنا) ولذلك حكمة، فالقصص معناه أنه لا عمل في الأحداث للرسول، بل تأتي الأحداث في السياق كما وقعت.
وسبحانه يعلم أزلاً أن خلقه سيبتكرون فناً اسمه (فن القصص).
ومن العجيب أنهم يسمونه فن القصص، وينسج المؤلفون حكايات خيالية أو حكايات ليس لها واقع. وعندما يأتون إلى التاريخ الواقع يزيد المؤلف جزءا من الأحداث أو يضيف من خياله أشياء، ويقولون هذه متطلبات إتقان فن القصص، ويحرمون أنفسهم من أمانة النقل. ولذلك يأتي الحق ليوضح لنا أن القص الخاص بالرسل وبغيرهم في القرآن قصص واقعي، حقيقي، حدث فعلاً.

 

وكلمة (القصص) مأخوذة من قص الأثر أي أن نسير مع القدم كما تَذهب، فلا نذهب هنا ولا نذهب هناك. وحكايات الأنبياء في القرآن واقعية. ومن رواية الحق لا من رواية الخلق، وثمة فارق بين ما يرويه الحق لخلقه ليسيروا على المنهج. وما يرويه الخلق بعضهم لبعض للتسلية أو غير ذلك. ونجد روايات الخلق تزدحم في بعض الأحيان بخيال البشر، مثل روايات جورجي زيدان عن الإسلام والأنبياء، وعندما سألوه لماذا أضاف من عنده إلى الواقع، أجاب الإجابة التقليدية: فعلت ذلك من أجل الحبكة القصصية.
ويجب أن نميز ونفرق بين روايات الخلق وقصص الحق ونضعه في بؤرة الشعور حتى لا يُدخل أحد من خياله على قصص القرآن ما ليس فيه، وحتى لا يأتي واحد ذات يوم ويقول: إن كل القصص واحد. فنحن في القرآن لسنا أمام مؤلف، بل أمام الخالق الأعلى الذي يروي لنا ما يعلمنا. وسبحانه علم أزلاً ما سيدور في كونه، لذلك قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3].

 

وسبحانه قد قص على الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن أحسن القصص؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعالج أجناس العالم التي توزعت على جميع الرسل من إخوانه، ومادام عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون مع كل الأجناس البشرية الذين تفرقوا من قبل على الرسل من إخوانه، فلابد أن يوضح سبحانه للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده: أنّه حدث مع الرسول فلان كذا، وكان مبعوثاً إلى قوم كان موقفهم منه كذا، وكانت داءات ذلك المجتمع هي كذا وكذا. ومحمد صلى الله عليه وسلم- كما نعلم- موْكولٌ إليه علاج كل أجناس البشر وكذلك أمته من بعده، ولابد أن يعرفوا أخبار كُلِّ المجتمعات والرسل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين}.
إذن فكلمة (قصص) تدل على أنها حكايات لحركة العقيدة التي كانت مع كل الرسل. والتاريخ- كما نعلم- هو ربط الأحداث بأزمانها، فمرة نجعل الحدث هو المؤرَّخ له، ثم نأتي بأشخاص كثيرين يدورون حول الحدث.

 

ومرة نجعل الشخص هو الأصل والأحداث تدور حوله، فإذا قلنا كلمة (سيرة) فنعني أننا جعلنا الشخص هو محور الكلام؛ ثم تدور الأحداث حوله. وإن أرخنا للحدث، نجعل الحدث هو الأصل، والأشخاص تدور حوله.
 

مثال ذلك: عندما نأتي لنتكلم عن حدث الهجرة؛ نجعل هذا الحدث هو المحور، ونروي كيف هاجر رسول الله ومعه أبو بكر/ وكيف هاجر عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، وبذلك تكون الهجرة هي المحور وكيف دار الأشخاص حول هذا الحدث الجليل.
ومثال آخر: عندما نروي سيرة من السير، مثل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، نجعل النبي صلى الله عليه وسلم محور الحديث والتاريخ، ونروي كيف دارت الأحداث في حياته.

 

إذن فأخبار وقصص الرسل تكون هي المحور ونلتقط الأحداث التي مرت عليهم؛ لأن الرسالات حين تأتي الناسَ بمنهج السماء؛ تنقسم إلى قسمين: قسم نظري يريد الحق أن يعلمه لخلقه بواسطة الرسول، وهو القسم العلمي، فتلك قضايا يجب أن يعلموها. وقسم عملي؛ لأن الحق يريد من خلقه أن يعلموا ويريد منهم- أيضا- بعد أن يعلموا أن يطوعوا حركة حياتهم على ضوء ما عملوا. فليست المسألة رفاهية علم، ولكنها مسئولية تطبيق ما علموا في محور (افعل) و(لا تفعل). ولو كانت المسألة أن يعلم الخلق فقط، لكان من الممكن أن نقول: ما أيسرها من رحلة.
لقد وجدنا كفار قريش عندما طلب الرسول منهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، قاوموا ذلك. ولو كانوا يعلمون أنها مجرد كلمة تقال لقالوها. لكنهم عرفوا مطلوب الكلمة، وعرفوا أنه لن توجد سيادة ولا عبودية ولا أوامر لأحد غير الله، ومعنى ذلك المساواة المطلقة بين العباد.

إذن فكل تكليف من السماء إنما نزل، والقصد من العلم به هو العمل به أي توظيف العلم تطبيقاً، فلا قيمة لعلم دون عمل. وعندما يبلغ الرسول القوم: هذا هو الحكم، ومطلوب من كل واحد منهم أن يطوِّع حركة حياته على ضوء هذا الحكم. وتجيء الأحكام دائماً في طاقة البشر.
وهناك أناس قد علموا وعملوا وهذه هي قصصهم، هذه قصة فلان وقصة فلان. فالقصص يعطينا الجانب العملي المطلوب للمنهج، ولذلك قصَّ لنا الحق قصص الرسل في القرآن. ويبلغنا الحق بالنسب الإيماني، ويعلمنا النسب المعترف به عند الأنبياء، فيحكي قصة نوح عليه السلام، عندما أوْحى إليه بضرورة أن يصنع السفينة، وسَخِر قومُه منه، وبعد أن صنعها جاء الأمر الإلهي بأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين. ويقول الحق: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 38-40].
قوله الحق {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} كان يجب ألا تمر على فطنة نوح؛ ذلك لأنها تتضمن أن هناك أناساً من أهله لن يؤمنوا، فيقول لابنه: {ونادى نُوحٌ ابنه وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يابني اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} [هود: 42].
وكان الرد: {قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء} [هود: 43].
فقال نوح: {قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ} [هود: 43].
وبعد أن غرق ابن نوح وابتلعت الأرض ماءها، نادى نوح ربه فقال: {رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45].
نحن- إذن- أمام لقطة قصصية في قصة نوح. يلفتنا بها الحق إلى مسألة بنوة الرسالات، فالبنوة هنا منهجية. ومن يتبع النبي هو الذي يكون من نسبه. ومن لا يتبع النبي فليس من نسبة، لذلك قال الحق: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}. فأهل النبوة هم الذين اتبعوا منهج النبي. ويشرحها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال عن سلمان الفارسي: (سلمان منا أهل البيت).
ولم يقل: إن سلمان عربي، أو إنّه من المسلمين، لكنه قال: إنه من أهل البيت. وقد أوضح الحق ذلك في قصة ابن نوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}.
وخاض في معنى {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} بعض الخائضين باللغو وقالوا: إن أم ابن نوح قد فعلت السوء، ولهؤلاء نقول: استغفروا ربكم وانظروا إلى حيثية الحكم: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46].

 

إذن فنسبة الأبناء للآباء من الأنبياء نسبة عمل لا نسبة دم ولا نسبة عن زواج أو إنجاب، أما الذين قالوا السوء في امرأة نوح فعليهم أن يستغفروا الله، فالحق سبحانه منزه عن التدليس على رسوله. وهب أن أم الولد قد فعلت ذلك- معاذ الله- فما ذنب الولد تصير أمه إلى هذا؟ لا دخل للولد بذلك، لكن قول الله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} يدل على أن ثبوت النبوة الإيمانية يكون بالعمل فقط.
ولننظر إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله وعشيرته.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين)، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بطون قريش بطنا بطنا: يا بني فلان أنقذوا أنفسكم من النار حتى انتهى إلى فاطمة فقال: يا فاطمة ابنة محمد انقذي نفسك من النار لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها بِبِلالها).

 

ويضرب الله المثل في الزوجات؛ فيقول: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} [التحريم: 10].
وليس المقصود بالخيانة هنا الخيانة الجنسية؛ لكن لنستدل على أن الرسول وإن كان رسولاً ليس له من القدرة على أن يقهر زوجه وامرأته على عقيدة؛ فهي تملك حرية الاعتقاد؛ فلا ولاية هنا للرجل على المرأة في العقيدة حتى إن ادعى الألوهية؛ كفرعون مثلاً يقول الحق عن امرأته: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11].

 

هذه اللقطات تدلنا على أن قضية الإيمان لا ينفع فيها النسب أو الزواج. فالابن هو العمل الصالح، والحيثية في ذلك قول الحق عن ابن نوح: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} فلم يذكر ذات الابن ولكنه ذكر العمل.
ولكل نبي قصة يذكرها الحق ليتضح المنهج في أذهان الناس. ويأتي الله بالمثل في المصطفَيْنَ الأخيار الذين اصطفاهم الله لهداية الناس مثل قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام. الذي يبتليه سبحانه في أول حياته بالإحراق في النار. كان إبراهيم شاباً يمتلئ بالأمل في الحياة، فماذا كان من إبراهيم؟

 

أراد الحق نجاة إبراهيم من النار. وتركهم يتمكنون منه ويضعونه في قلب النار. ولم تمطر السماء لتطفئ النار، وكل ذلك لتكون حجة الحق واضحة، وحتى يكون كيد الله كاملاً لهؤلاء الكافرين. إن إبراهيم عليه السلام لم يهرب منهم، ولم تمطر السماء، بل ظلت النار ناراً ويعطل سبحانه ناموس النار حين دخول إبراهيم إليها.
(روي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع فاستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا. فقال جبريل فاسأل ربك. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. فقال الله: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم).
وفي هذا غيظ ودحض لمكر الذين مكروا بإبراهيم. إذن يعطينا الحق في القصص القرآني المثل لنجمع من حياة كل رسول العبر ونستفيد منها، لنكون بحق خير أمة أخرجت للناس؛ لأننا أخذنا تجارب كل رسول وجعلناها منهجاً لنا في حياتنا.

 

وقد ابتلى الحق إبراهيم في أول حياته في نفسه، وابتلاه في أخريات حياته في ابنه، ونجح إبراهيم في الابتلاء الأول حين كانت حياته أهم بالنسبة إليه من كل شيء، وحين يتقدم في السن، فمن المفروض أن تكون كل حياته لمن بعده من الأبناء فيبتليه الله في ابنه.
لم يقل له: إن ابنك سيموت وعليك بالصبر. ولم يقل له: إن واحداً سيقتل ابنك وعليك بالصبر؛ بل يأمره بذبح ابنه، تلك قمة الابتلاء. لأنه لم يأت بوحي مباشر كالنفث في القلب أو الكلام من وراء حجاب أو يرسل له الله ملكا يبلغه ما يريد، بل برؤيا منامية: {قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ}. ويقول إبراهيم لابنه المسألة كما رآها في المنام. والرؤيا عند الأنبياء حق.

 

وقد يقول قائل: ولماذا لم يرد إسماعيل على أبيه بأن هذه المسألة هي مجرد رؤيا؟ ولماذا لم يأخذ إبراهيم ولده على غرة دون أن يقول له؟.
ونقول: إن إبراهيم من فرط وشدة حنانه وحبه لابنه آثر أن ينال الابن الثواب العظيم والجزاء الجليل بأن يقتل ويقدم حياته امتثالا لأمر الله، فقال إبراهيم: {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} [الصافات: 102].
وها هوذا قول إسماعيل: {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102].

 

ولم يقل إسماعيل لأبيه: (افعل الذبح) ولكنه قال: {افعل مَا تُؤمَرُ} أي أن إسماعيل لم يأخذ الكلام على أنه كلام من أبيه، بل أخذه كأمر من الله. ولو أخذه أبوه على غرة قد يتحرك قلب الابن غيظاً على أبيه وحقداً عليه فيعتدي على الأب، وهنا نجد حنان الأب على الابن جعله يخبره بالأمر الآتي من السماء؛ والشأن في حنان الأب على الابن أن ييسر له كل أمور حياته. أما حنان الحنان فهو تيسير كل خير بعد مماته؛ لذلك لم يشأ إبراهيم أن يحرم إسماعيل من الامتثال لأمر الله؛ فينال الاثنان معاً شرف الامتثال لله. وأعطاه كل الحنان في الزمان الأبقى والزمان الأخلد في الدار الآخرة؛ حتى نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لا يريد منا إلا الامتثال لقضائه وقدره، ويقول الحق: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103].
هذا شرف الامتثال في التسليم لله.. ففي البداية أسلم إبراهيم أمره لله، وعندما عرض الأمر على ابنه سلم الابن أمره لله، فنال الاثنان منزلة الشرف في التسليم لأمر الله. ونجح الاثنان في الاختبار، فقال الحق: {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} [الصافات: 104-105].

 

لقد أنقذ الحق إبراهيم وابنه من مسألة الذبح، ولهذا نقول دائماً: لا يُرفع قضاء من الله على خلقه إلا أن يستسلم الخلق للقضاء، والذين يطيلون أمد القضاء على نفوسهم هم الذين لا يرضون به. وأتحدى أي إنسان أن يكون الله قد أجرى عليه قضاء مرض فيرضى به ويعتبر أن ذلك صحة اليقين، ولا يرفع الله عنه المرض. فالإنسان بالصحة يكون مع نعمة الله، ولكنه بالمرض يكون مع الله.
فقد حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا بن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده!! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟».
من إذن يجرؤ على الزهد في معية الله؟ وعندما يعرف المريض أنه في مرضه الذي يتأوه منه هو في معية الله لاستحى أن يقول: (آه)، ولكننا لا نطلب من المريض ألا يقول (آه)، ولكن نطلب منه أن يتوجه إلى الله ويقول: (ولكن عافيتك أوسع لي).

 

وقول الحق: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} هذا القول يدلنا على أن القضاء لا يُرفع إلا بالرضا به، فإن رأينا واحداً قد استمر معه القضاء فلنعلم أنه لم تحن ولن تأت عليه لحظة لرضي فيها بالقضاء. ولم يرفع الله القضاء فقط عن إبراهيم، ولم يُفْد إسماعيل فقط بذبح عظيم، بل بشر الله إبراهيم بولد آخر اسمه إسحاق: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} [الصافات: 112].
وها هي ذي لقطة أخرى نأخذها من القصص القرآني مع سيدنا موسى؛ لنتبين ماذا يصنع المنهج الإيماني فيمن اقتنع به، وحدثت هذه القصة في وقت تهيئة سيدنا موسى للرسالة، حدثت هذه الواقعة وهو ذاهب إلى شعيب، ولم يكن رسولاً بعد، مما يدل على أن فطرية الإيمان كانت موجودة عنده، وأن الله قد صنعه على عينه، لقد ورد ماء مدين ووجد الفتاتين تذودان وتطردان الماشية عن الماء، فماذا دار بينه وبينهما من حوار؟. وكيف كانت رؤيته لهما أولاً: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].
وفي قول المرأتين: {لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} قدر من المبادئ فخروجهما من البيت سببه أن الأب شيخ كبير، ومع أنهما في ضرورة وخرجتا للعمل فلم تنس واحدة منهما أنها أنثى يجب أن تُحترم أنوثتها فقالتا: {لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء} أي أنهما ستسقيان من بعد أن يذهب الزحام من الرجال حول البئر. إذن فقد أخذت بنتا شعيب الضرورة في حجمها ولم تتخذ إحداهما من الضرورة حجة لإهدار الأنوثة والتزاحم للوصول إلى البئر. فماذا حدث من موسى؟. {فسقى لَهُمَا}.
تلك الهمة الإيمانية التي وُجدت في موسى قبل أن يصير رسولاً، وذلك ما يوضحه لنا الحق حتى لا يقول إنسان: كيف أكون مثل رسول من عند الله؟.
كأن الهمة الإيمانية التي وصَفتها تلك اللقطة القصصية توقظ مسئولية كل مؤمن ليسلك مثل هذه السلوك. فعندما يرى امرأةً قد خرجت عن محيط بيتها لأي عمل، فعليه أن يقضي لها حاجتها حتى ترجع إلى بيتها وذلك دون أن يتخذ من ذلك ذريعة ووسيلة إلى أمر ينزل بهمته وينال من مروءته.

 

ولو انتشرت بيننا تلك الهمة الإيمانية لما وجدنا امرأة في الطريق إلا للضرورة. لقد أوضحت لنا تلك اللقطة القصصية حرص المرأة على موضعها وموقعها من الستر، فتقول واحدة من المرأتين لأبيها شعيب بعد أن استقدمه ليجزيه أجر ما سقى لهما: {ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26].
كأن المرأة لا يحل لها أن تتحرك في الكون هذا اللون من الحركة الواسعة، ويسمع شعيب وهو الرجل العاقل لابنته فكيف يستأجر رجلاً وعنده ابنتان، فيفكر شعيب ويعثر على الحل الصحيح بفطنة إيمانية، فيستدعي موسى ويقول له: {قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27].
وفي مثل هذه الحالة سيكون موسى متزوجاً بواحدة ومُحَرَّماً على الأخرى.

 

وهذه اللقطات القصصية نلتفت إليها لنتعلم منها الفطنة الإيمانية. وها نحن أولاء مع موسى وقد ناداه الحق ليجعله رسولاً، ولنر صفاء النفس الإيمانية وهي تتلقى مهمة الرسالة؛ إن موسى يرغب في أن يكون أداؤه للرسالة كاملاً؛ لذلك يطلب من الحق أن يرسل معه أخاه هارون: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34].
هو يرشح معه هارون للرسالة لأنه حريص على النجاح في دعوته لأن لسانه ثقيل لرتَّة ولُثغة وتردد في النطق من أثر الجمرة التي أصاب بها لسانَه وهو صغيير، والرسالة تحتاج إلى بيان وبلاغة فيطلب مساعدة أخيه ولم يستنكف ذلك. فما بالنا بما هو حادث وحاصل في أيامنا، حين يختار الحاكم رئيساً للوزراء فلا يطلب معاونة الأكْفَاء، بل قد يخشى أن يكون له نائب له كفاية عالية فوق كفاءته.
واللقطات القصصية في القرآن تعلمنا الكثير، وأراد الحق أن يثبت بها للأمة المحمدية دقة المنهج الإيماني، فمادام قد أرسل لنا منهجاً لنعلمه، فهو يطلب منا أن نطبق هذا المنهج ونوظفه في حياتنا. وليس ذلك بدعا، بل هو موجود في قصص الرسل الذين عَلِموا المنهج فطبقوه في ذواتهم أولاً؛ لأن الآفة أن نعلم العلم ولا نطبقه.
وفي زماننا يقال ويشاع: إن التعليم الديني في المدارس لا يأتي بثمار طيبة في سلوك الطلاب. ونقول لمن يرددون ذلك: أنتم لا تفهمون طبيعة التعليم الديني؛ فتعليم الدين لا يمكن أن يتساوى مع تعليم الجغرافيا أو الهندسة وغيرهما من العلوم؛ لأننا عندما نعلم طالباً الهندسة فهو يستطيع أن يكون عالماً متفوقاً فيها ويأخذ المعطيات والنظريات ويتفوق في المجال الهندسي، ولكن لم تطلب منه أية نظرية هندسية أن يعدل سلوكه في الحياة بأن ترشده في السلوك اليومي: افعل كذا ولا تفعل كذا.

 

فالنظريات الهندسية لا تتدخل في حياة الطلاب، لكن الطالب عندما يتعلم الدين إنما يتعلم أن يفعل الأمر الديني، ولا يفعل الأشياء المنهي عنها. والصعب في التعليم الديني هو التطبيق العملي. عندما لا يرى التلميذ التطبيق العملي من الذين يعلمونه الدين أو من الأسرة، فإنه لا يتعلم الدين، فيقال للطالب: الدين ينهى عن الكذب، لكن الطالب يجد الكذب سلعة رائجة في المجتمع. ويقول الدين له: الصلاة عماد الدين وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا يجد الطالب من يصلي أمامه أو يجد من يصلي ولا يقيم عمارة الدين باتباع ما تأمر به الصلاة من نهي عن المنكر، إذن ففشل التعليم الديني لا يأتي من ناحية غياب المعلم ولكن من عدم وجود التطبيق العملي للسلوك الديني.
ونعود للقص القرآني. جاء القصص ليوضح لنا التطبيق للجانب النظري من الدين، وطبَّقهُ الرسل على أنفسهم. وأنتم يا أمة الإسلام لستم أقل من أحد، بل أنتم خير أمة أخرجت للناس، وعليكم أن تأخذوا الخير الذي حدث في موكب الرسالات كلها وتطبقوه في ذواتكم.
هذا هو معنى قوله الحق: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}. وقد جاء لنا القرآن بعيون القصص حتى نأخذ منها لقطات العبرة. ويقول قائل: ومن هو الرسول؟
يقول العلماء: هناك رسول وهناك نبي. وأقام بعضهم مشكلة حول هذا الأمر، فقال بعضهم: كل رسول نبي ولا عكس. ونقول لأصحاب هذا الرأي: لو نظرنا إلى المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لأرحنا أنفسنا جميعاً، فالقرآن يقول: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} [الحج: 52].

 

إذن فالنبي أيضاً مرسل من الله، وعلى ذلك فكلاهما- النبي والرسول- مرسل من عند الله، لكنْ يوجد فرق بين أن يرسل الحق تشريعاً مع رسول، ويكون هذا التشريع مستوعباً لأشياء وأحكام لم تكن موجودة في الرسالة السابقة عليه، وبين أن يأتي إنسان مصطفى من الله ليطبق فقط ما جاء في الرسالات السابقة، فالأنبياء قد أرسلهم الله ليكونوا نموذجاً تطبيقياً للشرع السابق عليهم ولم يَأتوا بشرع جديد، لكن الرسول هو من أرسله الله بشرع جديد ليعمل به وأمره الحق بتطبيقه. هذا هو الزائد في مهمة الرسول.
إن الحق أرسل الرسل بالشرع والتبليغ والتطبيق، وأرسل الحق الأنبياء ليكونوا الأسوة السلوكية فيطبقوا ما أرسل به الرسل السابقون عليهم، وهذا أمر لا يأتي إلا في الأمم التي لها سجل في المكابرة مع الرسل.

 

ولذلك نجد أن اللجاجة دفعت بني إسرائيل إلى التفاخر بأنهم أكثر الأمم أنبياء، صحيح أنهم أكثر الأمم أنبياء. لكن علينا أن نعرف أن النبوات والرسالات إنما تأتي لتشفي الناس مما بهم من داءات؛ فعندما نقول عن إنسان إنّه أكثر الناس تردداً على الأطباء، فمعنى ذلك أن أمراضه كثيرة، وكذلك بنو إسرائيل كانت داءاتهم كثيرة.

وكثرة الرسل إليهم لا ترفع من منزلتهم. بل تدل على كثرة أمراضهم.
إذن فالرسول والنبي كلاهما مرسل. والفارق أن الرسول معه تشريع سماوي ليبلغه ويطبقه، والنبي مرسل للتطبيق، فإن جئنا لمعنى الرسول اصطلاحياً؛ فهو الموحى إليه بشرع يعمل به وأمره الله بتبليغه

 

. ويذيل الحق الآية: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً}؟.
ونقول: الوحي الذي يوحي الله به لأنبيائه هو الوحي الاصطلاحي الشرعي الذي نتكلم عنه دون الوحي اللغوي الذي سبق أن أفضنا فيه. والحق سبحانه وتعالى قد بين الطريقة التي يخاطب بها أنبياءه المصطفين لأداء رسالتهم إلى خلقه، فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].
إذن، فطريقة التقاء الحق بالأنبياء؛ إما أن تكون بالوحي، وإما أن تكون من وراء حجاب، وإما أن تكون بإرسال رسول كجبريل عليه السلام. فإذا ما نظرنا إلى الآية وجدنا أن الوحي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: وحي خاص، وكلام من وراء حجاب، وإرسال رسول، وكل هذه الأقسام الثلاثة تدخل في إطار الوحي {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً}.
أي ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا إلهاماً وقذفا في القلب، أو يكلمهُ {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} وهو كلام من الله يسمعه الرسول، لكنه لا يرى المتكلم وهو الله. أما الوحي بواسطة الرسول، فهو نزول جبريل إلى الرسول بما أوحى به الله.

 

فإذا ما نظرنا إلى قوله الحق: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} فكأنه سبحانه قد خصه بهذه العبارة ليدل على أنه أوحى لموسى بطريقتين، أولاً: بالطريق الذي أوحى به إلى غيره من الأنبياء، ثانياً: بالطريق الخاص وهو كلام الله الذي بدأ به موسى بالوادي المقدس.
وقوله الحق: (تكليماً) يدفعنا إلى التساؤل: لماذا جاء الحق بالمصدر هنا؟. لأن مطلق الوحي بأي وسيلة سماه الله كلاماً. إذن فالنفخ في الرُّوع كلام، والكلام من وراء حجاب كلام، وإرسال الرسول بالوحي كلام. والكلام هو ما يدل على مراد المتكلم من المخاطب، بدليل أن الله سمى الوحي في صوره الثلاث كلاماً {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ}.
والخفاء في الوحي إما أن يكون خفاء في الأسلوب، أي لا يسمعه أحد غير الرسول، وقد لا يسمعه الرسول ويكون بقذف الكلام في رُوع الرسول وقلبه وهو يؤدي مؤدي الكلام أي الدلالة على ما في نفس المتكلم الذي يريد نقله للمخاطب.

أما أن يقول الحق: إنه (تكلم) مع موسى، فهذا نقل من الخفاء إلى العلن، أو يرسل الحق رسولاً بالكلام الموحى به. وحين قال سبحانه: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} إنما ينبهنا إلى أن الوحي لموسى ليس من الكلام الذي قسمه الحق في قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً}؛ لأن الله قال في كلامه لموسى: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً}.

 

ووقف العلماء هنا وقفة عقلية وقالوا: كيف يتكلم الله إذن؟. ونقول: إن كل وصف لله ويوجد مثله لخلقه إنما نأخذه بالنسبة لله في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فإن قلت: إن لله وجوداً وللإنسان وجوداً، فوجود الإنسان ليس كوجود الله، وإن قلنا: إن لله علماً، وللإنسان علماً، فعلم الإنسان ليس كعلم الله، وإن قلنا: إن لله قدرة، وللإنسان قدرة، فقدرة الإنسان ليست كقدرة الله، وإن قلنا: إن لله استواء على العرش وللإنسان استواء على الكرسي، فاستواء الله ليس كاستواء الإنسان. إذن فلابد أن تؤخذ كل صفة من صفات الله التي يوجد مثلها في البشر في إطار قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
وبذلك ينتهي الخلاف كله في كل ما يتعلق بصفات الحق.

 

فالحق له يدان وله وجه، ولكن لا يمكن للإنسان أن يصور يد الله كيد البشر، بل نأخذها في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وكذلك وجه الله. ومادمنا نأخذ صفات الله في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فلا داعي للمعركة الطاحنة بين العلماء في الصفات وفي تأويل الصفات، ولا داعي أن ينقسم العلماء إلى عالم يؤوّل الصفات وعالم لا يؤول؛ لاداعي أن يقول عالم: إن يد الله هي قدرته فيؤول، وعالم آخر لا يؤول ويقول: لا. إن لله يداً ويسكت. ونقول للعالم الذي لا يؤول: قل: إن لله يداً وهي تناسب قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وإذا كنا نحن قد عرفنا في عالمنا أن الأشياء تختلف مواجيدها في الناس باختلاف الناس، فلابد من أن نعرف أن الله لا مثيل له.
 

وعلى سبيل المثال: يتلقى الإنسان دعوة لمائدة عمدة قرية ما، فيقدم له ألوان طعام تناسب مقام القرية ومنصب القيادة فيها، ويتلقى الإنسان دعوة لمائدة محافظ مدينة فيقدم له طعاماً يناسب مقام المدينة ومنصب القيادة فيها. ويتلقى الإنسان دعوة رئيس الدولة فيقدم له طعاماً يناسب مقام الدولة وهيبة منصب القيادة فيها، إذن لا تتساوى مائدة طعام العمدة في قرية مع مائدة طعام المحافظ مع مائدة طعام رئيس الدولة، فإذا كان البشر يوجد الشيء الواحد وهو ملون بألوان مقامات المخلوقين فكيف لنا بمقامات الخالق؟! {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
 

فإذا كان الحق قد أخبرنا أنه كلم موسى تكليماً في قصة الوادي عندما آنس موسى ناراً وذهب إلى النار. فقال الحق: {إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكري إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتبع هَوَاهُ فتردى} [طه: 12-16].
قال له الحق كل ذلك، وبدأه سبحانه بالكلام. وبعد ذلك جاء لموسى الوحي على طريقة مجيء الوحي للأنبياء.
والحق سبحانه وتعالى أوحى لنبيه صلى الله عليه وسلم على شتى ألوان الوحي. فقد جاء الوحي لرسول الله إلهاماً، وجاء الوحي لرسول الله من وراء حجاب، وجاء الوحي لرسول الله من خلال رسول.

 

ومثال الوحي إلهاماً هو الحديث القدسي، وكذلك التشريع النبوي الذي تركه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومثال الوحي من وراء حجاب هو التكليف بالصلاة، فلم تفرض الصلاة بواسطة جبريل، بل فرضت من الله مباشرة.
ولا أدخل في نقاش لا جدوى منه حول: أحين فرض الحق على رسوله الصلاة كلمه وسمع منه رسول الله، أم أن رسول الله قد رأى الله وهو يتكلم معه. لا داعي للخوض في أمر لم يخبرنا الله عن كيفيته، والأدب مع الله يقتضي ذلك. قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.
وإن القرآن لم يثبت بأية طريقة من طرق الوحي إلا بإرسال رسول، فكل وحي القرآن جاء بواسطة جبريل، فلم تأت آية بالنفخ في الرُّوع. إنما جاء بالنفخ في الروع الحديث القدسي؛ لأن النفخ في الروع قد يتصور واحد أنه خاطر من الجن أو أمثال ذلك. وجاءت كل الآيات القرآنية بواسطة جبريل؛ بمقدمات بدنية، ويحدث تغير كيماوي في نفس رسول الله فلا يشك أبداً في أنه جبريل. وأراد الحق أن يكون الوحي بالقرآن بطريقة لا شك فيها.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع صوتاً كصلصلة الجرس؛ وبعد ذلك يتفصد جبين الرسول عرقاً، ويثقل جسم رسول الله حتى إن كان على دابة فهي تئط وتئن ويثقل عليها وتكاد أن يمس بطنُها الأرض. وإن كان رسول الله يلاصق فخذه فخذ أحد الصحابة، فيكاد أن يرض فخذ الصحابي، وتلك علامات مادية كونية، لا يمكن أن يحدث فيها لبس.

 

ولقد قالوا من قبل استنادا إلى ظاهر قوله: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} [طه: 134].
لو لم يرسل الحق الرسول لكان لهم حجة. ونقول للعلماء: لنفهم هذه المسألة حتى نوضح لكم أنكم تختلفون في أمر كان يجب عليكم ألا تختلفوا فيه. أبالعقل يعلم الإنسان مطلوب الله منه؟ أم أن العقل يهديني إلى وجود قوة أعلى خلقت هذا الكون وتدبره؟. وما اسم هذه القوة؟. وما مطلوب هذه القوة؟. أيعرف العقل ثواب من يتبع المنهج وعقاب من يخرج عن المنهج؟. كل هذه أمور لا يعرفها العقل، فالعقل حجة في الإيمان بقوة عُليا فوق ذلك الكون وهي التي خلقته وتدبره وتديره، أما الرسول فهو مبلغ بمطلوبات المنهج واسم القوة التي أرسلت والشرائع التي يجب أن يسير على هداها الإنسان، إذن فليس هناك خلاف بين الرأيين.
واسأل: من الذي اكتشف الكهرباء؟. إنه العقل البشري الباحث وراء أسرار الله في الكون، ولا أحد يجهل هذه المسألة. وكذلك أسأل: من أول من تكلم في النسبية؟ إنه أينشتين. وإن سألنا: من أول من تكلم في الجاذبية الأرضية؟. إسحاق نيوتن، وكل واحد اكتشف شيئاً في الكون صرنا نعرفه. والذي صمم توليد الكهرباء التي تنير وتضيء وندير بها المصانع، وجعل من سوق الكهرباء صناعة رائجة تعمل فيها القدرات المالية ليشتري الإنسان مصابيح تنير حيزاً محدوداً، ومصانع تعمل في خدمة الإنسان.
أبالله عليكم تعرفون اسم مصمم مولدات الكهرباء ومصصم ومكتشف المصباح الكهربائي، ولا تدرون اسم من خلق الشمس التي تنير نصف الكرة الأرضية كل نصف يوم. ولم يَدَّع أحد لنفسه صناعة الشمس، ولا يوجد ابتكار في الكون إلا ومعلوم مَن أبدع هذا الابتكار. فالذي صنع المصباح إنما ينير به حيزاً محدوداً مهما كبر ضوء المصباح، وبعد محيط دائري معلوم يتلاشى الضوء ويصير الأمر إلى ظلمة، فما بالنا بالشمس التي تنير نصف الكرة الأرضية كل نصف نهار.
إن خلق الشمس يحتاج إلى قدرة تناسب خلقها، وتحتاج إلى حكمة تناسبها، وليس لهذه الشمس محيط من الزجاج ينكسر ونغيره مثلما نفعل مع المصابيح. كان لابد للعقل البشري أن يفهم أن هذه الكائنات التي في الكون لها صانع يناسبها. ولا يمكن أن يكون صانعها من الخلق ويسكت عن حقه في صناعة هذه المعجزات، ونحن نرى بعضاً من الناس في بعض الأحيان تدعي ملكية ما ليس لها، فإذا ما جاء الخالق وأبلغنا بواسطة الرسل بصناعته للكون ولم يوجد له مُعارض، فهل هذه الأشياء والكائنات من خلقه أو لا؟. إنها من خلقه إلى أن يوجد له معارض؟

 

هذه هي مهمة العقل أي أنّه يهتدي إلى القوة التي تخلق وتدبر أمر هذا الكون ولا يغني العقل عن الرسل، ولكن العقل يؤمن في القمة الإيمانية بأن هناك قوة مبهمة عالية تناسب عظمة هذا الكون الذي طرأ عليه الإنسان، ولا يعرف اسم القوة ولا يعرف مطلوب القوة في (افعل)، و(لا تفعل)، ولا يعرف العقل ماذا ادخرت القوة من ثواب للمحسن وعقاب للمسيء. لذلك لابد من وجود رسول.
إن الحجة- إذن- تكون من شقين: الشق الأول الخاص بالعقل هو في الإيمان بالقوة العليا المبهمة، والشق الثاني الخاص بالرسل هو الإيمان بالبلاغ عن الله اسما وصفة ومطلوباً وجزاء، وهكذا نرى فاتفقوا أيها العلماء ولا ضرورة للخلاف.
أقول ذلك حتى لا يتمادى الذي يتصيدون لدين الله وأضيف: اتفقوا أيها العلماء على أشياء محددة لأنكم تشتتون الناس بهذه الخلافات؛ فالرسول هو الحجة في الأشياء التي لا دخل للعقل فيها.
ونعرف تاريخياً أن آفة الفلسفة أنها تضع وتتخذ عدداً ضيقاً من المجالات لتبحث فيها، وكانت الفلسفة قديماً هي أمُّ العلوم مجتمعة، فالهندسة كانت فرعاً منها، وكذلك كل الرياضيات، وأيضاً المواد العلمية كالكيمياء والفيزياء وكذلك أصول اللغات.
لكن عندما رأى العلماء أصحاب التجارب المعملية أن الفلاسفة يدخلون في متاهات نظرية ولا يدخلون إلى مجال التجارب العلمية التطبيقية، تركوا الفلاسفة وأسسوا العلوم التجريبية منفصلة عن الفلسفة. وأنتج العلم التجريبي لنا كل هذه الاختراعات والاكتشافات المعاصرة التي تسهل علينا الحياة ونستفيد منها.

 

لقد ظل الفلاسفة على حالهم يبحثون في النظريات بعيدين عن مجال التجارب العلمية التطبيقية. ولا تلتقي مدرسة فلسفية بمدرسة أخرى؛ لأنهم يختلفون حيث الجهل طبيعة مسيطرة على الغيب الذي يبحثون عنه ولا يمكن الاهتداء أبداً إلى أسرار الغيب، إنما الغيب يبلغ به الرسل.
والمثال الذي أضربه دائماً واكرره حتى يستقر في الأذهان: لنفترض أننا نجلس في حجرة ثم دق الجرس، هنا تستوي عقولنا جميعاً في أن طارقاً بالباب، ولا نختلف في هذا الأمر. لكن عندما ندخل في تصور من الطارق؟ يقول واحد: (الطارق رجل) وثانٍ يقول: (الطارق امرأة) وثالث يقول: (الطارق رجل شرطة) ورابع يقول: (صديق لنا) وخامس يقول: (بشير) وسادس يقول: (نذير)، يحدث ذلك لأننا دخلنا إلى متاهات التصور. وأقول: هذه الأمور لا تُترك للعقل، فلو أردتم راحة أنفسكم لآمنتم بالتعقل، تعقل أن هناك طارقاً بالباب، ثم تتركون للطارق أن يعلن عن نفسه ويقول لكم: أنا فلان وأسمي كذا وصفتي كذا وجئت إليكم من أجل كذا، وبذلك نتفق جميعاً.
لكن الفلاسفة أدخلوا التصور في التعقل. ولا يمكننا أن نعرف اسم الخالق بالعقل أبداً ولا مطلوبه. بل لأ بد أن يبلغ عن نفسه، فإذا انشغل العقل بأن هذا الكون العظيم لابد له من قوة خالقة، فلماذا لا تبلغنا عن نفسها؟. وإذا ما جاء رسول من أجل أن يحل اللغز الوجودي الذي يعيشه البشر فيبلغنا أن القوة الخالقة اسمها الله. هنا أراح الحق النفس البشرية بما كانت تتمنى أن تعرفه، ومن عقل العاقل أن يفرح بمجيء الرسول ويستشرف إلى السماع عنه؛ لأن الرسول إنما جاء يحل اللغز الشاغل للنفس البشرية من تفسير مَن خلق الكون بهذه الدقة، وما هي مطلوبات هذه القوة؟
ويحسم الرسول الخلاف عندهم ويحل اللغز الشاغل للبال. ولذلك نرى الإمام عليا- كرم الله وجهه- أمام سؤال من أحدهم:
- أعرفت محمداً بربك؟ أم عرفت ربك بمحمد؟.
فأجاب الإمام عليّ وكان باب العلم: لو عرفت ربي بمحمد لكان محمد أوثق عندي من ربي، ولو عرفت محمداً بربي لما احتجت إلى رسول، ولكني عرفت ربي بربي وجاء محمد فيبلغني مراد ربي مني.

 

هكذا حدد لنا سيدنا عليّ المسألة.. فالعقل الفطري يؤمن بقوة مبهمة وراء هذا الكون هي التي خلقت وهي التي رزقت وهي التي أمدت بقيوميتها وقدرتها، وبعد ذلك تجيء الرسل من أجل تعريفنا باسم القوة ومطلوبها منا.
والذين يختلفون حول دور العقل في الحجة ودور الرسول في الحجة، عليهم ألا يتوهوا في متاهات نحن في غنى عنها؛ لأن العقل لا يمكن أن يكون الحجة بمفرده، والرسول إنما هو مبلغ عن القوة، وقد يقول قائل: إذن لابد لكل رسول من رسول، وقد يبلغ التفلسف الطريق المسدود.
لكن عندما نعلم أن الحق قد صنع كل رسول على عينه معصوماً ليبلغ، وعلى سبيل المثال نجد سيدنا محمد بن عبدالله استطاع أن يصنع أمة في ثلاث وعشرين سنة ليمتد خيرها إلى يوم القيامة، فعل صلى الله عليه وسلم ذلك مبلغاً عن الله ليهدي أمته إلى كيفية عمل الطيب والابتعاد عن العمل الخبيث. وخلق الله محمداً على خُلق عظيم. وهكذا نعرف أن الحق قد أراح العقل من ضرورة البحث عن اسم القوة الخالقة ومطلوبها فأرسل الرسل.


وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ  نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا | تفسير القرطبي |  النساء 164

{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)}
نعرف أن البشارة تكون بأمر سار يأتي من بعد. والنذارة هي إخبار بأمر مسيء يأتي من بعد. والعزيز سبحانه لا يُغلب. والحكيم سبحانه وضع كل شيء في موضعه، لماذا؟. لأن الرسل يبشرون وينذرون بأن هناك جنة وناراً وحساباً، فإياكم أن تظنوا أن الذي كفر بقادر على أن يصنع شيئاً لنفسه؛ والله عزيز وغنيُّ عن خلقه جميعاً.
ونعلم أن الحق لا يجرم سلوكاً إلا بنص، وقبل أن يعاقب فهو يضع القواعد التي لا يصح الخروج عنها. وحين يقول الحق: {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} فعزته وحكمته هي التي أتاحت لنا أن نعرف منهجه. ويقول الحق من بعد ذلك: {لكن الله يَشْهَدُ...}.

 


رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ  حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا | تفسير الجلالين  | النساء 165
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)}

وساعة نسمع (لكن) فمعنى ذلك أن هناك استدراكاً. وقوله الحق: {لكن الله يَشْهَدُ} نأخذ منها بلاغاً من الحق. خصومك يا محمد لا يشهدون أنك أهل لهذه الرسالة، ويستدرك الله عليهم ويوضح لهم أنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم بقانون صيانته. ومنهج الله إلى البشر بواسطة الرسل هو قانون صيانة ذلك الإنسان.
وإذا كان أهل الكتاب لا يشهدون بما أنزل الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وينكرون ما في كتبهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم كرسول خاتم، فإن الله يشهد وكفى بالله شهيداً.

 

لقد أنزل القرآن بعلمه، وهو الذي لا تخفى عليه خافية، وهو الذي خلق كل الخلق ويعلم- وهو العليم- ما يصلح للبشر من قوانين. وفي أعرافنا البشرية نجد أن الذي يصنع الصنعة يضع قانون صيانتها لتؤدي مهمتها كما ينبغي، كذلك الله الذي خلق الإنسان، هو سبحانه الذي وضع له قانون صيانته ب (افعل) و(لا تفعل). ولذلك يقول الحق: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14].
 

ونجد الإنسان منا يذهب بساعته إلى عامل إصلاح الساعات فيكشف عليها ويقرر ما فيها من فساد، فما بالنا بخالق الإنسان. إنّ العبث الذي يوجد في العالم سببه أن الناس قد استقبلوا خلق الله لهم، ولم يدع أحد أنه خلق نفسه أو خلق غيره، ومع ذلك يحاولون أن يقننوا قوانين صيانة للإنسان خارجة عن منهج الله.
 

ونقول: دعوا خالق الإنسان، يضع لكم قانون صيانة الإنسان ب (افعل) ولا (تفعل) وإن أردتم أن تشرِّعوا، فلتشرعوا في ضوء منهج الله، وإن حدث أي عطب في الإنسان فلنرده إلى قانون صيانة الصانع الأول وهو القرآن؛ لأن المتاعب إنما تنبع من أن الإنسان يتناسى في بعض الأحيان أنه من صنعة الله، ويحاول أن يصنع لنفسه قانون صيانة بعيداً عن منهج الله، والذي يزيل متاعب الإنسانية هو أن تعود إلى قانون صيانتها الذي وضعه الخالق تبارك وتعالى.
{لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ} والملائكة تشهد لأنها نالت شرف أن يكون المبلغ لرسول الله منهم وهو جبريل عليه السلام، وهم أيضاً الذين يحسبون حسابات العمل الصالح أو الفاسد للإنسان ويكتبونها في صحيفته، وهم كذلك الذين حملوا ما في اللوح المحفوظ وبلغوا ما أمروا بتبليغه وهم يعرفون الكثير {وكفى بالله شَهِيداً} لماذا لم يقل الله هنا وكفى بالله وبالملائكة شهوداً؟. لأن الحق سبحانه وتعالى لا يأخذ شهادة الملائكة تعزيزاً لشهادته.
ونحن لا نأخذ شهادة الملائكة تعزيزاً لشهادة الله وإلا كانت الملائكة أوثق عندنا من الله. وسبحانه يؤرخ شهادة الناس وشهادة الملائكة، لكنك يا رسول الله تكفيك شهادة الله.

 

نداء الايمان

 

image.thumb.png.3ce935fc229b4eb805989f6baaf4ec03.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)}


إنّ كُفر الكافر إنما يعود عليه، وهو يملك الاختيار بين الكُفر والإيمان، لكن أن يصد الكافر غيره عن الإيمان فهذا ضلال متعدّ؛ لقد ضل في نفسه، وهو يحاول أن يضل غيره؛ لذلك لا يحمل وزره فقط ولكن يحمل أوزار من يضلّهم.
وكيف يكون الصدّ عن سبيل الله؟.

بمحاولة أهل الضلال أن يمنعوا آيات الهُدى من أن تصل إلى آذان الناس، فيقولوا ما رواه الحق عنهم: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
ولو فهموا معنى هذه الآية لما قالوا ما جاء فيها، فقولهم: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} أي اصنعوا ضجة تشوّش على سماع القرآن، وهم قد علموا أن هذا القرآن عندما يصل إلى الأسماع فإنه يبلغ الهداية، ولو كان القرآن غير مؤثر لما قالوا ذلك، إذن هم يعترفون بأنهم يُغلَبُون عندما يصل صوت القرآن إلى آذان البشر المدعوين إلى الهداية.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً}. كان يكفي أن يقول الحق {قَدْ ضَلُّواْ}، لكنه جاء بالمصدر التأكيدي {قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً} أي إنه الضلال بعينه، وهو فوق ذلك ضلال بعيد.

 

وعندما ننظر في كلمة (بعيد)، نعرف أن الشيء البعيد هو الذي بينه وبين مصدره مسافة زمنية طويلة. والذي يضل قصارى ضلاله أن ينتهي بانتهاء حياته، لكن الذي يعمل على إضلال غيره فهو يجعل الضلال يمتد، أي أن الضلال سيأخذ في هذه الحالة زمناً أكبر من حياة المُضل، ويتوالى الضلال عن المضلين أجيالاً، وهكذا يصبح الضلال ممتداً.
 

والضلال المعروف في الماديات البشرية هو- على سبيل المثال- أن يسير الإنسان إلى طريق فيضل إلى طريق آخر. وقصارى ما يضل فيه هو أن يذهب إلى مفازه- أي صحراء- ولا يجد ماء ولا طعاماً فيموت. لكن الضال المضل يجعل ضلاله يأخذ زمن الدنيا والآخرة وبذلك يكون ضلاله ممتداً.

 

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا  ضَلَالًا بَعِيدًا | تفسير القرطبي | النساء 167

 


{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)}


الحديث هنا يبدأ عن الكفر والظلم {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ}. والكفر هو ستر الوجود الأعلى، والظلم معناه أنهم عاشوا بمنهج بشري لا يؤدي لهم متاعاً ولا سعادة في حياتهم الدنيا، وبذلك يكونون قد ظلموا أنفسهم. ومن بعد ذلك يقودهم هذا المنهج إلى عذاب الآخرة. والذي كفر ستر وجود الله وحرم نفسه بستر الوجود الأعلى من المنهج الذي يأتي به الله إنه بذلك قد ضل ضلالاً بعيداً. وسبحانه القائل: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123].
وهناك آية أخرى يقول فيها الحق: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38].

 

والذي يأخذ بهوى نفسه وبمنهج البشر فإن له معيشة ضنكا ضيقة شديدة. ولا يظنن ظان أن الذي يأخذ ويتناول الأمور بهواه قد أخذ انطلاقاً بلا حدود وراحة لا نهاية لها، لا؛ لأن الذي يفعل ذلك قد يرتاح مرة لكنه يقابل التعب ويعيش فيه ولا ينفك عنه من بعد ذلك، وهكذا يظلم نفسه.
 

وقد يقول قائل: لقد ظلموا أنفسهم، ومعنى ذلك أنه لابد من وجود ظالم ومظلوم. فمن هو الظالم ومن هو المظلوم؟. كل واحد منهم الظالم. وكل واحد منهم المظلوم؛ لأن الإنسان مركب من ملكات متعددة، ملكة شهوات تريد أن تنطلق إلى الشهوات، وملكة قيم تريد أن يحفظ الإنسان نفسه ويسير على صراط القيم المستقيم.
وفي حالة من يكفر ولا يتبع منهج الله إنما يترك الفرصة لملكة الشهوات أن تظلم ملكة القيم. والإسلام إنما جاء ليوازي بين الملكات لتتساند في النفس البشرية، فلا يطغى سيال ملكة على سيال ملكة أخرى. {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} [النساء: 168-169].
هذا هو حكم الحق في الذين يكفرون ويظلمون أنفسهم، لن ينالوا مغفرة الله وليس أمامهم إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً.

 

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ  وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا | تفسير الجلالين | النساء 168

 

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)}
فبعد أن وصف لنا- بإيجاز محكم- سلسلة المعارك التي نشأت بين الرسول واليهود مرة، ومرة أخرى بينه وبين المشركين، وها هوذا سبحانه يخاطب الناس جميعاً، ليصفي مركز منهج الله في الأرض، فيقول منبهاً كل الناس: لقد جاءت رسالة محمد عليه الصلاة والسلام تصفية لكل الرسالات التي سبقت، وعلى الناس جميعاً أن يميزوا، ليختاروا الحياة الإيمانية الجديدة؛ لأن الرسول قد جاء بالنور والبرهان، الذي يرجح ما هو عليه صلى الله عليه وسلم على ما هم عليه، والنور الذي يهديهم سواء السبيل.
لقد كان الناس قبل رسول الله على مِلَلٍ وعلى أديان ونحل شتى، فجاء البرهان بأن الإسلام قد جاء ناسخاً وخاتماً. والبرهان هو تعاليم هذا الدين وأدلته، فلا حجة لأحد أن يتمسك بشيء مما كان عليه. وجاء محمد بالنور الذي يهدي الإنسان إلى سواء السبيل، وهذه تصفية عقدية شاملة، أو كما نقول بالعامية (أوكازيون إيماني) تتخلص به البشرية من كل ما يشوب عقائدها، ولتبدأ مرحلة جديدة.
{ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ} والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير مهما تغيرت عليه الظروف؛ لأن الحق صدق له لون واحد، فإذا ما رأيتم جميعاً حادثة واحدة، ثم جاء كل واحد منكم فأخبر بها إخبار صدق فلن تختلف رواية الحادثة من واحد لآخر. أما إن سولت نفس بعض الناس لهم أن يتزيدوا في الحادثة فكل واحد سيحكي الحادثة على لون مختلف عن بقية الألوان، وقد يسافر خيال أحدهم في شطحة الكذب ويسترسل فيه.
إذن فالذي لا يتغير في الحق هو أن يحكوا جميعاً الرواية الواحدة بصدق ولو كانوا ملايين الناس، لكن إن سولت نفوس بعضهم الكذب وحسنته له وأغرته به لاختلفت الرواية؛ لأن الكذب مشاع أوهام ولا حقيقة له. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: لقد جاءكم الرسول بالحق مهما تغيرت الظروف والأحوال، ومهما جئتم إليه من أي لون، سواء في العقديات أو في العباديات أو في الأخلاق أو في السلوك. وستجدون كل شيء ثابتاً لأنّه الحق.
ويضرب الحق سبحانه وتعالى لنا مثلاً في هذا الحق: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} [الرعد: 17].
كل وادٍ يأخذ ماء على قدر حجمه، وساعة ينزل السيل من الجبال يحمل معه التراب والقش والأشياء التي لا لزوم لها، وهو ما نسميه (الريم) وهو الزَّبَد الرابي. وكذلك الحديد أو النحاس أو الذهب الذي نصنع منه الحلي أو أدوات المتاع، وعندما نضع هذه المعادن في النار، نجد الزِّبَد يفور على سطح هذه المعادن عندما تنصهر، وتسمى هذه الأشياء الخبث.
ويوضح الحق لنا كيف يضرب الحق والباطل. {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17].
ومهما اختلطت بالحق أشياء فهو كحق يبعد ويطرد هذه الفقاقيع والخبث وينحيها عنه. فإن علا الباطل يوماً على الحق فلنعلم أنه علو الزَّبَد الذي يذهب جفاء مرميا به ومطروحا، وسيظل الحق هو الحق. وسبحانه يقول: {ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ}. والإيمان هو اعتناق العقيدة بوجود الإله الأعلى، والبلاغ عنه بواسطة الرسل، وأن للحق ملائكة، وأن هناك بعثاً بعد الموت، وحساباً. ويقتضي الإيمان أن نعمل العمل وَفق مقتضياته وذلك هو اختيار الخير، ولنعلم جيداً أن الإيمان لا ينفصل عن العمل.
وماذا يحدث لو لم يؤمن الناس؟ ها هوذا الحق يقول: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} وسبحانه غني، وسيظل كَونُه الثابتُ- بنظرية القهر والتسخير- هو كونه، ولن يتغير شيء في الكون بكفر الكافرين، سوى سخط الكون عليهم لأنه مسخر لهم؛ لأن الكون ملك لله، ولن تتغير السماء ولا النجوم ولا القمر ولا المطر ولا أي شيء.
ونقول لك: لو نظرت إلى الدنيا لوجدت الفساد فيها ناشئاً مما فعلته وأحدثته يد الإنسان على غير منهج الله، أما الشيء الذي لم تدخل فيه يد الإنسان فهو لا يفسد، ولم نر يوماً الشمس وقد عصيت عن الشروق أو الغروب، وكذلك القمر لم تختل حركته، وكذلك النجوم في الأفلاك، وتسير الرياح بأمر خالقها، وكل شيء في الكون منتظم الحركة، اللهم إلا الأشياء التي يتدخل فيها الإنسان، فإذا كان قد دخلها بمواصفات منهج الله فهي منسجمة مع نفسها ومع الكون، وإن دخلها بغير مواصفات منهج الله فلن تستقيم، بل تفسد.
ولذلك قال الحق: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
إن الأمر الفاسد إنما يأتي من داخل نفوس البشر عندما يضلون عن منهج الله، ولذلك نقول: أشَكى الناس أزمة ضوء؟. لا؛ لأن الشمس ليست في متناولنا، وكذلك لم يشك الناس أزمة هواء، لكنهم يشكون أزمة طعام؛ لأن الطعام ينبت من الأرض، فإما أن يكسل الإنسان مثلاً فلا يعمل، وإما أن يعمل ويخرج ثمراً فيأخذه بعضهم ويضنوا ويبخلوا ولا يعطوه لغيرهم، وهذا سبب من أسباب الفساد الناشئ في الكون.
وجاء الحق لهم بما يمكن أن يكون فتحاً يدخلون فيه بالإيمان بمنهج الرسول الخاتم، ويكفرون عن أخطائهم مع أنبيائهم ومع محمد صلى الله عليه وسلم

 

 

نداء الايمان

 

image.png.b02bf74eb0dd4d24865a2a0bd1eaf284.png

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)}


يبدأ الحق بأمر موجه لأهل الكتاب: {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} والغلو هو الخروج عن حد الاعتدال في الحكم، لأن كل شيء له وسط وله طرفان، وعندما يمسك شخص طرفاً نطلب منه ألا يكون هناك إفراط أو تفريط. وقد وقع أهل الكتاب في هذا المأزق، فلم يأخذوا الأمر بالاعتدال دون إفراط أو تفريط، لقد كفر اليهود بعيسى واتهموا مريم بالزنا، وهذا غلو في الكُرْه، وغالى النصارى في الحب لعيسى فقالوا: إنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة؛ وهذا غلو، ويطلب الحق منهم أن يقفوا من أمر الدين موقف الاعتدال: {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق}.
إن أمر المنهج لا يحتاج إلى غلو، ولذلك جاء محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله بالدين الوسط الذي يضع كل أمر في نصابه. وشرح لنا بإخبارات النبوة وإلهامها ما سوف يحدث للإمام علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-، وقد حدث ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالخوارج كفَّروا علياً، والمسرفون بالتشيع قالوا: إنه نبي، وبعضهم زاد الإسراف فجعله إلهاً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ- كرم الله وجهه-: (إن فيك من عيسى مثلا. أبغضته اليهود حتى بهتوا أُمَّهُ، وأحبته النصارى حتى انزلوه المنزل الذي ليس له).
وكما قال سيدنا علي- كرم الله وجهه-: (ألا وإنه يهلك فيّ اثنان: محبٌ يقرظني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، ألا إني لست بنبيّ ولا يوحى إليّ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم).
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عليّاً أن المحب الذي يغالي في حبه ليس مع عليّ وكذلك الكاره المبغض؛ فالذي يحب عليا بغلو جعل منه إلهاً أو رسولاً، والذي أبغض علياً جعله كافراً. وكذلك النصارى من أهل الكتاب جاءوا إلى عيسى فأحبوه بغلو وجعلوه إلهاً أو ابن إله أو ثالث ثلاثة، فيقول لهم الحق: {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله}. وقوله الحق: {عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله} رد على غلو اليهود الذين رفضوا الإيمان بعيسى، وقالوا في عيسى وأمه البهتان العظيم.

 

وقوله الحق عن عيسى ابن مريم: {رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} رد على غلو النصارى الذين نصبوه إلهاً أو جعلوه ابناً لله أو ثالث ثلاثة، فعيسى عليه السلام هو ابن مريم وعندما بشرها به الحق وقالت: {أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47].
قالت ذلك بفطنة الصديقية التي جعلتها تنبه إلى أنها لم يمسسها بشر، ومادام الحق قد نسبه إليها فليس له أب، سيولد عيسى دون أن يمسسها بشر، ويوضح سبحانه ذلك عندما يقول: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}. فعيسى روح من الحق؛ لأنه سبحانه قال: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91].
وما معنى (كلمته)؟. هذا القول يدل على أن الروح نفخت ثم جاءت كلمة (كن) التي قال عنها سبحانه: {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47].

 

لقد احتاج وجود عيسى إلى أمرين: (روح) و(كن). والشبهة عند النصارى مردها إلى أن عنصر الذكورة لم يلمس مريم؛ وقالوا: مادام الله قد قال: إن عيسى روح منه فهو جزء من الله، ونسوا أن كل شيء من الله، وسبحانه القائل: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} [الجاثية: 13].
فهل هذا يعني أن (الأرض) قطعة من الله وكذلك الشمس؟. لا. فإذا كانت الشبهة قد جاءت من غياب عنصر الذكورة مع وجود عنصر الأنوثة لكان من الواجب منطقياً أن تكون الشبهة في آدم قبل أن تكون الشبهة في عيسى؛ لأن آدم جاء من غير ذكورة ولا أنوثة؛ فلا أب ولا أم له؛ لقد قال القرآن بمنتهى البساطة ومنتهى الوسع: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].

 

ولا يملك أحد القيد على فضل الله ووسعه، ومسألة آدم كانت أدق، لكن الله بتفضله يساوي بين خلق عيسى وخلق آدم، وهذا هو التلطف في الجدل. وأخبرنا سبحانه عن عيسى أنه جاء بأمر منه، وقال في آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29].
 

إذن فآدم قد احتاج إلى الأمرين نفسيهما: (كن)، و(النفخ فيه من الروح)، وعندما ننظر إلى هذه المسألة نجد أننا لابد أن نتعرض لقضية خلق آدم، حتى نعرف كيف تسلسلت مسألة الخلق، سواء أكان الخلق ملائكة أم خلق آدم أم خلق حواء أو غيرهم من الخلق، كذلك خلق عيسى. لقد كان خلق آدم غيباً عن آدم، وليس لآدم نفسه ولا لمن جاء بعده أن يتكلم كيف خُلق؛ لأن هذه المسألة لا دخل لأحد بها، ويقول لنا الخلق محذرا من أن نستمع إلى قوم يقولون بغير ذلك عن الخلق فقال: {ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51].
ولا يمكن- إذن- أن نستمع إلى هؤلاء الذين افترضوا أن أصل الإنسان قرد أو غير ذلك؛ لأن الذي يتكلم عن الخلق بغير علم من عند الله، فهو يتكلم في أمر لم يشهده.

 

والخلق الأول أمر لا يمكن أن يدخل المعمل التجريبي؛ لأن المعمل التجريبي إنما يحلل مواد موجودة بالفعل. إذن فالحكم على أمور بغَير ما أخبرنا بها الله أمر باطل. ولم يكن هناك أحد مع الله ساعة خلق الخلق ليقول لنا كيف تم ذلك. وعَلِمْنا هذه المسائل بإخبار الخالق لنا فهو الأعلم بنا، والخالق أخبرنا أنه خلقنا من ماء وتراب وطين وحمأ مسنون وصلصال كالفخار، وحدثنا بذلك في آيات متعددة. والذين يريدون أن يكذبوا القرآن يقولون: إن القرآن لم يأت بخبر واحد عن خلق الخلق، فمرة يقول إن الخلق كان من ماء ومرة كان من تراب، ومرة كان من طين، ومرة كان من صلصال.
 

ونقول: أحين يتكلم الحق عن مراحل الخلق فهل في هذا تضاد؟. اصل الخلق ماء، خلطه الحق بتراب، وبعد وضع الماء على التراب صار الإثنان طيناً، ثم إذا تركنا الطين إلى أن يختمر، يصير حمأ مسنوناً، وبعد ذلك يصير صلصالاً، ومن بعد ذلك خلق منه الحق آدم. إذن فكل شيء تكلم عنه سبحانه في خلق آدم إنما يتفق مع كل الآيات التي جاءت عن هذا الخلق. وهو القائل عن آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29].
 

وبعد صنع الله القالب الذي يشبه التمثال الذي نراه، ولكن تنقصه الحركة ولحياة، فيأتي النفخ في الروح بكلمة (كن). إذن نحن نحتاج إلى روح وإلى كلمة. والروح عنصر وجودي. وعندما تختلط بالقالب تحدث الحياة، ولابد من بعد ذلك من الإرادة بكلمة (كن). ولذلك نجد الإنسان قد يصنع نفس خلطة الإنسان الكيماوية لكنها لا تصير إنساناً؛ لأن الأمر ينقص الإذْن بميلاد الإنسان.
 

وساعة يتكلم الحق عن خلق آدم وهو أمر لم نشهده، فذلك من رحمته بنا، ويترك لنا سبحانه في الكون دليلاً على صدقه عن خلق آدم، فإذا كنا لم نشهد خلق الحياة فنحن نشهد نقيض الحياة وهو الموت، الذي يحدث فيه أولاً خروج الروح، ومن بعد ذلك ينتفخ الجسم كأنه الحمأ المسنون، ثم يتبخر الماء، وبعد ذلك يتحلل إلى تراب. هذه هي مراحل الموت التي تبدأ من خروج الروح ويتصلب الجسم إلى أن يَرِم ثم يتبخر الماء، وتبقى العناصر في الأرض.
 

وإذا كنا لم نعرف كيف بدأت الحياة، فنحن نعرف كيف انتهت الحياة أمامنا بالأمر المشهدي، وجعل سبحانه أمر انتهاء الحياة أمامنا دليلاً على صدقة في إخبارنا بالحياة وكيف بدأت؛ لأن نقض الحياة يكون بالموت، ونقض أي شيء إنما يتم على عكس طريقة بنائه. وآخر أمر دخل في الإنسان هو الروح، ولذلك فهي أول ما يخرج من الإنسان عند الموت.
وبعد ذلك يتصلب الجسم، وبعد ذلك يصير رمة وهي الحمأ المسنون. وبعد ذلك يتبخر الماء ويبقى أخيراً التراب.
وقد حللوا الإنسان حديثاً. فوجدوا فيه عناصر كثيرة، ثم حللوا طينة الأرض الخصبة التي يخرج منها الزرع الذي يقتات منه الإنسان، فوجدوا هذه الطينة مكونة من هذه العناصر.

 

ومن العجيب أن العناصر المكونة للإنسان هي نفسها المكونة لطين التربة الخصبة، مما يدل على تأكيد الصدق في أن الله خلقنا من طين، وجعل استبقاء حياتنا مما يخرج من هذا الطين بعناصره المختلفة، جتى يمد كل عنصر من الطين كل عنصر من الوجود الإنساني. ولما قاموا بتحليل الإنسان مقارناً بتحليل التربة وجدوا أن أضخم عنصر في تكوين الإنسان هو الأوكسجين ونسبته على ما أذكر سبع وستون بالمائة، وبعده عنصر الكربون، ونسبته على ما أذكر تسع عشرة بالمائة، إلى أن تنتهي العناصر المكونة للإنسان والتربة إلى المنجنيز ونسبته تقل عن واحدة بالمائة، وأهم هذه العناصر هو: الأوكسجين، الكربون، الهيدروجين، النتروجين، الكلور، الكبريت، الكالسيوم، والفوسفور، والبوتاسيوم، الصوديوم، الحديد، اليود، والسيلوز، والمنجنيز. هذه هي أهم وأكثر العناصر المكونة لتركيب الإنسان وهي العناصر نفسها الموجودة في تركيبة الطين وبعضها عناصر مكونة للمركبات العضوية وبعضها عناصر غير عضوية وبعضها عناصر وظائفها ثابتة ومعروفة، ويسأل أهل الذكر في تفاصيل ذلك.
 

وبطبيعة الحال فالذين قاموا بتحليل التربة وعناصر الإنسان لم يكونوا علماء دين، ولم يكن في بالهم إقامة الدليل على صدق الله في القرآن، ذلك أن بعضهم يجهل مسألة القرآن كلها، ولكن الحق سبحانه وتعالى أجرى على لسان رسوله حديثاً يشرح لنا حقيقة إثبات صحة كل ما فيه ولو جاء على لسان رجل فاجر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
فسبحانه- إذن- أراد أن ينصر الدين بالكافرين، وجعل بعضاً منهم يصلون إلى أشياء لو أنهم علموا أنها ستخدم قضايا الهدى لما أعلنوها. ومن حكمة الله أن جعل الكافرين غير قادرين على إغفال نصرة الدين، وجعل سبحانه بعضاً منهم يخدمون الدين على رغم أنوفهم. ونريد أن نأخذ من هذه المسألة فهماً عميقاً، يتسم باللطف والسماحة، فإذا كان الله قد خلق الإنسان الأول من طين، وهناك آية أخرى قال عنها الحق: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29].
وآية ثالثة قال فيها سبحانه: {كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47].
إذن فخلق آدم احتاج إلى أمرين: النفخ من روح الحق، والأمر (كن)، وهما الأمران أنفسهما في مسألة خلق عيسى، روح من الحق، وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وهذه دليل صدق لقوله الحق: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ} [آل عمران: 59].

والحق قد قص لنا أنه خلق آدم من طين وصنع القالب وسواه بيديه: {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 75-76].
فإذا كان الهيكل الذي خلقه الله ونفخ فيه الروح، ودبت فيه الحياة ثم تناسل النسل من آدم إلى أن تقوم الساعة، فهل مجيء عيسى على الصورة التي جاء بها يكون أمراً عسيراً على الله؟. لا. وساعة أنجب آدم أول ذرية له؛ ألم يخرج لحظتها حيوان منوي من آدم إلى البويضة في رحم حواء؛ وأراد به الله ميلاد أول نسل من آدم وهو جزء من آدم، وهذا الحيوان المنوي له مادة وله حياة، ومادته معروفة، وحياة هذا الحيوان المنوي هي التي تسمح له بالحركة لتلقيح البويضة، هذه المادة مخلوقة من آدم، والحياة التي فيه من روح آدم، وآدم نفسه خلقه الله بيديه، وهذا إثبات أن الحيوان المنوي هو جزء مما خلقه الله بيديه وهو آدم، وفي الحيوان المنوي حياة مما نفخه الله من روحه، وانتقل إلى رحم حواء وأخصب البويضة وولدته حواء، واستمر ميلاد حيوانات منوية حية تخصب بويضات حية ليستمر الخصب والنسل والأحفاد.

 

إننا إذا سلسلنا نسل آدم إلى أن تقوم الساعة، فكل ذرة من ذرات من يوجد آخر الدنيا مكونة من شيء به خلق من خلق الله في القالب، وفيه شيء من نفخ الله في الروح؛ ولم يطرأ عليه موت أبداً؛ فلو طرأ عليه موت أو فناء لما صلح أن ينجب مثله. وهكذا نعلم أن كل واحد فينا به جزء من القالب الذي صنعه الله بيديه، وفيه جزء من نفخ الروح.
وأكرر المثل الذي أضر به دائماً ليستقر في أذهان الناشئة؛ لو جئنا بسنتيمتر مكعب من سائل ملون مركز، وأضفناه إلى لتر من الماء، ثم أخذنا قطرة من لتر الماء سنجد بها جزءا ضئيلاً من السنتيمتر المكعب الملون. وإذا أخذنا هذه القطرة وأضفناها إلى برميل من المياه فيصير في البرميل جزء من السنتيمتر المكعب الملون. وإذا أخذنا من البرميل قطرة من المياه، وأضفناها إلى البحر فإن جزءا من السنتيمتر الملون يصير بالبحر. إذن فكل نسل آدم- إلى أن تقوم الساعة- فيه جُزَيْء- من آدم عليه السلام.

 

ونلحظ أن كثيراً من المفكرين والمثقفين في الغرب صاروا يبتعدون عن فكرة بنوة عيسى لله. وعندما يدخلون في نقاش حول هذه المسألة يقولون: إنها بنوة حب. وإذا كانت المسألة بنوة حب، فالله يحب جميع عباده ونصير نحن مثل المسيح ويصير المسيح مثلنا. فالخلق كلهم عيال الله، والحديث القدسي يقول: (الناس كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم بعياله).
ولو أخذنا هذا القول بالدقة التجريبية المعملية نجد أن هذا القول صدق وحق؛ لأننا جميعاً قد صدرنا عن قدرة الله وإرادته وكل منا فيه شيء من صنع الله منذ بداية خلق آدم، إذن هو بشر مثلنا ويتميز عنا بأن السماء اختارته رسولاً.
أما القول بالثالوث. فبعضهم يقول: نقصد بالثالوث ثالوث الصفات. وهل ثالوث الصفات تأتي فيه إضافيات؟. كالقول (بالأب والابن والروح القدس)؟ لن يوجد أب إلا إذا وُجد ابن، ولن يوجد ابن إلا إذا وجد أب.
إننا نعلم أن هناك حقائق ثابتة وهناك حقائق إضافية؛ فالإنسان يكون ابناً وأباً، فهو ابن بالنسبة لوالده، وهو أب بالنسبة لابنه، وكل هذه صفات إضافية، وصفات الحق يُفترض فيها أنها تجتمع لا أن تكون إضافية، وعندما يقال: (الأب والابن والروح القدس) فهذا القول لا يحمل صفات إلهية، بل صفات إضافية، وحاول بعضهم أن يقول: (إن فاتحة الكتاب يوجد فيها التثليث؛ لأنكم تقولون بسم الله الرحمن الرحيم، أنتم تفتتحون القرآن بثلاث صفات هي الله والرحمن والرحيم) وقلت لهم: نحن نقول (بسم الله الرحمن الرحيم) ولا نقول (بسم الله والرحمن والرحيم).

 

وما الذي يجعل الحق يُنجب ابناً منذ أكثر من ألف وتسعمائة سنة؟. ثم يترك سبحانه الأزمان السابقة على ميلاد المسيح محرومة من ميلاد ابن له؟. لماذا يترك الله الأزمان كلها بدون ابن لله، ويختص البشرية بابن له منذ حوالي عشرين قرناً فقط؟. ثم ما المدة الزمنية التي شرفها الله بابنه بأن أوجده فيها؟
أتكفي ثلاثة وثلاثون عاماً فقط- وهي عمر المسيح- لتشريف البشرية بوجود ابن الله؟. ولماذا يحرم الله- إذن- بقية الأزمان من بدء الخليقة إلى يوم القيامة من هذا الشرف؟.
ونسأل أيضاً لماذا يريد أي كائن إنجاب ابن؟. إنه يرغب ذلك ليضمن استبقاء الحياة؛ لأن الإنسان يعرف أنه سيموت، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الموت والحياة وهو الباقي أبدا، وليس في حاجة لاستبقاء حياته في أحد من البشر ويؤكد لنا ذلك في سورة الإخلاص. {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4].
وهم يقولون: (إله واحد)، ومرة أخرى يقولون: (إله أحد). وواحد لا تساوي (أحد) والدارسون للغة والمنطق يعرفون أن هناك شيئاً اسمه (الكل) وشيئاً اسمه (الجزء) وشيئاً اسمه (الكلي) وشيئاً اسمه (الجزئي).
(فالكلي) يطلق على ماله أفراد مثل الإنسان: كخالد ومحمد وعليّ، و(الكل) يُطلق على ماله أجزاء، مثال ذلك الكرسي نجده مكوناً من أشياء؛ كالخشب والغراء والمسامير وغير ذلك من مواد.
فالكرسي- إذن- (كُلٌّ) لأنه مصنوع من مواد كثيرة. وحقيقة الخشب تختلف عن حقيقة المسمار؛ لذلك فالكرسي (كُلٌّ) لأنه مكون من أشياء كثيرة مختلفة الحقائق. ولا يصح أن نطلق على أي شيء من مكونات الكرسي اسم (كُل). فلا نقول: (المسمار كرسي) أو (الخشب كرسي)؛ لأن الكرسي يُطلق على مجموع الخشب والمسامير والغراء والطلاء في شكل وترتيب معين.

 

ومثال آخر، كلمة (إنسان) وهي كلمة تطلق على كثيرين، ولأن الحقائق متفقة نطلق على الإنسان كلمة (كُلّي).
ويصح أن نطلق على أي كائن يتمتع بالصفات المتفق عليها للإنسان لقب إنسان، فنقول محمد إنسان وزيد إنسان، وعليٌّ إنسان. (فالكل) له أجزاء، ولل (كلي) جزئيات، ويكون الكل شيئا واحداً ولكنه ذو أجزاء، فقد يكون عندنا كرسي واحد. ولكن لهذا الكرسي أجزاء.
وهل نقول على الحق سبحانه وتعالى: انه (كل) أو (كلي)؟. لا نقول على اسم الحق (كل) أو (كلي)؛ لأنه اسم لا يطلق على كثيرين فليس كليا لأنه واحدٌ، وليس له أجزاء؛ لأنه أحد، وليس له أفراد لأنه واحد. فلا يقال لله سبحانه وتعالى (كل) أو (جزء) أو (كلي) أو (جزئي)، فلو كان كُلٍّياً لكان- كما قلنا- له أفراد ولو كان (كُلاًّ) لكان له أجزاء، ولكن الله واحد لا أفراد له، وأحد لا أجزاء له.
ولذلك يَرُدُّ القرآن على أي قائل بغير هذا، فيقول: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].
ويقول أيضاً: {وإلهكم إله وَاحِدٌ} [البقرة: 163].
وقد قلت كل ذلك لنفهم قوله الحق:
{ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتهوا خَيْراً} [النساء: 171].
 

وقوله الحق: (انتهوا) أي اقضوا على كلمات الباطل، و(خيراً لكم) أي تمسكوا بكلمات الحق، وفي قوله: {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} تخلية وإبعاد لكلمات الباطل، نأخذ ذلك من قوله: (انتهوا) وتحلية لكلمات الحق ونأخذها من قوله- سبحانه-: {خَيْراً لَّكُمْ}.
ويقول الحق: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} أي أنه سبحانه لا أفراد له، ويضيف: {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ}، وساعة نسمع كلمة {سبحانه} فلنفهم أنها تنزيه للذات الخالقة.

 

ولذلك نجد كلمة {سبحانه} تأتي في الأمور العجيبة التي يقف فيها العقل، وعلى الرغم من وجود كفار في هذا الوجود، وعلى الرغم من وجود مجترئين على الله في هذا العالم، وعلى الرغم من وجود من ينعتون البشر بألفاظ الألوهية، إلاأن إنساناً واحداً لم يجترئ على أن يقول لمخلوق كلمة: {سبحانك} ، ولذلك نقول لله عز وجل سبحانك أيضاً في سبحانك.
 

كذلك لم نجد أحداً من أي ملة أو عقيدة أو دين قد سمى نفسه باسم (الله)، وهو سبحانه يتحدى به حتى الكفرة والملاحدة أن يسمى هذا الاسم لمسمى أي مسمى. وبالله هل يوجد واحد من المتبجحين الكافرين يسمي ابناً له (الله)؟
حتى هذه لم توجد؛ لأن هذا الكافر غير واثق أنه على حق. ومن الجائز أن يفعل ذلك فتحدث له كارثة. ولو كان هناك كافر واحد مؤمن بما يقول بأنه لا إله لهذا الكون لسمّى ابناً له (الله). لكن أحداً لا يجترئ على هذه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65].
وكان هذا التحدي موجوداً من قبل أن تنزل هذه الآية. فماذا عن الذي جاء بعدها بزمن؟ وهل اجترأ أحد على أن يسمي ابناً له (الله)؟ لم يجترئ أحد على هذه أيضاً على الرغم من أنهم يسمون بكل شيء؛ وكان عندنا في القرية واحد أطلق على ابنته اسماً طويلاً عجيباً. لقد سمّاها (ورد انتشي في دندشة روح الفؤاد والملك وفا) وهو حرّ في ذلك، لكن لم يجرؤ أحد على الإطلاق أن يسمي ابنه (الله)، وهذا دليل على أن الملاحدة والكفار على باطل. ويخاف أي منهم أن يجترئ على هذه المسألة، ويتحدى الحق بسبحانك ويتحدى بالذات (الله)، ولذلك فليقل كل واحد (سبحانك) وهو مطمئن، (ولا تقال إلا لك)، واستقرئوا وتتبعوا المدائح التي قيلت للناس جميعاً، أقال واحد من البشر لواحد من البشر (سبحانك)؟
ما قالها أحد قط. وهكذا يتحكم الله في أمر للإنسان اختيار فيه، ولا يجرؤ إنسان على إطلاق هذه الأسماء على أحد من البشر. {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} و(الولد) كما نعلم يكون مما في السموات أو مما في الأرض؛ فكيف يكون له وملكه، وهو ابنه؟ إن هذا الادعاء لا يستقيم أبداً، ولذلك يذيل الحق الآية: {وكفى بالله وَكِيلاً}.

 

نداء الايمان

 

image.png.eb02a7d05e5ea622ca8f196ca1bcb9dc.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

 

{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)}


مصدر الشرف للإنسان أن يحس ويشعر بتجلي الله عليه بعبوديته له، وسبحانه عندما أراد أن يتجلى على نبينا الخاتم صلى الله عليه وسلم ويسري به إلى المسجد الأقصى؛ قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].


ولم يقل: (سبحان الذي أسرى برسوله) ولكنه قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ}؛ لأن (العبودية) عطاء علوي من الله، فكأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم عندما تناهى في العبودية لله نال تناهي الخير، فمن إذن يستنكف أن يكون عبداً لله؟ لا يستنكف المسيح ذلك، وكذلك الملائكة لا تستنكف أن تكون عبيداً لله. {وَلاَ الملائكة المقربون} ويسمون ذلك ارتقاء في النفي، مثلما يقول فلاح: لا يستطيع شيخ الخفر أن يقف أمامي ولا العمدة.
 

إذن فالملائكة في الخلق أحسن من البشر. ولذلك قال الحق: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون} وقال بعض العلماء: إن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر والأصل في اللغات أن توضع الألفاظ أولأً لمحسّات، ثم تنتقل من المحسّات إلى المعنويات؛ لأن إلف الإنسان في أول تكوين المدركات له إنما يكون بالحسّ، كما قال الحق: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
إذن مادام سبحانه قد قال: {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} فالذي يأتي من بعدها إنما يأتي كوسيلة للعلم، وهي حواس السمع والإبصار والقدرة على تكوين الخبرة. ومثال ذلك عندما ندرس في الفقه موضوع الغصب. والغصب هو أن يأخذ أحد حق غيره قهراً وعلانية، وهو غير السرقة التي يأخذها السارق خفية. وغير الخطف؛ لأن الخطف هو أن تمتد يد لتشد شيئاً من أمام صاحبه ويجري الخاطف بعيداً، أما الغصب فهو الأخذ عنوة.
وكلها- الغصب، والسرقة، والخطف- هي أخذ لغير الحق، والغصب مأخوذ من امر حسيّ هو سلخ الجلد عن الشاة. وسُمِّيَ أخذ الحق من صاحبه غصباً، كأنه أخذ للجلد. ونُقل المعنى من المُحسّات إلى المعنويات. وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون}. و(يستنكف) مثلها مثل (يستفهم)، ومثل (يستخرج).

 

إذن فهناك مادة اسمها (نكف)، و(النَّكْف) عملية حسّية تتمثل في أن يزيل الإنسان دمعة العين بأصبعه. ولنفرض أن إنساناً يعلم أن له كرامة في البيت وجاء له ظرف نفسي جعله يبكي، فدخل عليه ابنه أو زوجته، فهو يحاول إزالة الدمع بأصبعه. (واستنكف) معناها أزال (النَّكْف).
 

والنكف معناه أن يزيل الدمع بأصبعه. وإزالة الدمع بالأصبع تعني أن صاحب الدمع يستكبر أن يراه أحد باكياً لأنه مقهور على أمر قد كان، وهذه العملية لا تحدث إلا عندما يريد الإنسان أن يستر بكاءه عن أحد.
وانتقلت هذه الكلمة من المعنى الحسيّ إلى أي مجال فيه استعلاء، مثلما يستنكف إنسان أن يسير في طريق إنسان آخر، أو أن يجلس مع آخر، أو يجلس في مقعد أقل من مقعد آخر.

 

ويشرح ذلك المعنى الدارج بأن المسيح لا يجد غضاضة أن كان عبداً لله، ولا يستكبر على ذلك بل هو يُشرف به. والملائكة المقربون أيضاً تشرف بهذا الأمر، والملائكة المقربون هم الذين لا يعلمون شيئاً عن هذا العالم وليس لهم عمل إلا التسبيح لله؛ لأنهم عرفوا العبودية لله. وهي عبودية ليست لمن يَسْتَذِل، لكنها لمن يُعزّ، وليست عبودية للذي يأخذ ولكنها للذي يعطي. والذي يستنكف من ذلك لا يعرف قيمة العبودية لله؛ لذلك لا يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ولا الملائكة المقربون.
 

ويضيف الحق: {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} المستنكفون؛ أو الذين على طريقة الاستنكاف، ومن يشجعهم على ذلك، كل هؤلاء يصيرون إلى جهنم.
 



لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا  الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ  وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا | تفسير ابن كثير | النساء  172

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)}

 

لماذا لم يأت الله بشرط الآية الثاني الذي يتحدث عن المستنكفين والمستكبرين مقدماً على شطر الآية الأول؟. ولماذا لم يواصل الحديث عن الذين استنكفوا واستكبروا ليستكمل ما جاء بشأنهم في الآية السابقة ويبينْ كيف أن مصيرهم إلى العذاب حيث لا يجدون من دون الله ولياً ولا نصيراً، ثم بعد ذلك يحدثنا عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟.


ذلك أن الحق ساعة يتكلم عن جماعة خرجت عن المنهج فهو لا يمنحهم ثواب هؤلاء الذين لم يخرجوا عن المنهج، فيأتي أوّلاً بثواب الطائعين ليستشرف إليه الخارجون عن طاعة الله، ثم يحرمهم من هذا الثواب لتكون حسرة الخارجين عن المنهج أشد. (والضد يظهر حسنه الضد).
 

لقد قال الحق: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} ونعلك أن الأجر على العمل. لماذا الفضل إذن؟. لقد عرفنا من قبل أن العمل جاء فيه حديث شريف: (لن يُدخل أحداً عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب).
والحق قد قال: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58].
وفطن الناس إلى ذلك فقالوا: (اللهم بالفضل لا بالعدل)؛ لأن الفضل هو الذي يعطينا المنازل المتميزة، وقد يضيعنا العدل.

 

ويقول الحق مرة أخرى عن هؤلاء الذين استنكفوا واستكبروا: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي أنهم لن يجدوا من يشفع لهم عند الله، ولا من ينصرهم ولا أحد بقادر أن يرد عنهم العذاب

 

نداء الايمان

 


نداء الايمان


فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ  أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا  وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ  مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا ...

 

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×