اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

اجعلوا لكم خبيئة من العمل الصالح (خطبة)

المشاركات التي تم ترشيحها

كان سيدنا علي بن الحسين رضي الله عنه وهو من كبار التابعين، كان يحمل أكياس الدقيق على ظهره بالليل فيذهب بها إلى بيوت الفقراء والأرامل والمساكين، فيضع أكياس الدقيق أمام بيوتهم، فإذا قام الناس لصلاة الفجر، وفتحوا أبوابهم نزلت هذه الأكياس عليهم.

 

 

 

كان سيدنا علي بن الحسين رضي الله عنه يطوف على مائة بيت من الفقراء والمساكين، وهم لا يعرفون من الذي يضع لهم الأكياس، من الذي يقدم لهم هذه المساعدات، من الذي يجلب هذا الطعام.

 

 

 

والسؤال الذي يطرح نفسه: يا ترى كيف عرفوا أن الذي كان يجلب لهم الطعام في كل ليلة هو سيدنا علي بن الحسين رضي الله عنه؟

 

 

 

لما مات رضي الله عنه وغسلوه وجدوا على ظهره آثارًا سوداء، فقالوا: هذا ظهر حمال، وما عرفناه قد اشتغل حمالًا، فلما انقطع الطعام بموته عن مائة بيت كان يأتيهم طعامهم بالليل من مجهول، علموا أن الذي كان يحمل لهم الطعام في كل ليلة هو سيدنا علي بن الحسين رضي الله عنه[1].

 

 

 

هؤلاء هم الأتقياء الأنقياء الأخفياء، هؤلاء هم الذين رفع الله شأنهم في الدنيا قبل الآخرة، هؤلاء هم الذين قال فيهم القائل:

 

لله قوم إذا حلوا بمنزلة space.gif
حل السرور وسار الجود إن ساروا space.gif
تحيا بهم كل أرض ينزلون بها space.gif
كأنهم لبقاع الأرض أمطارُ space.gif
ونورهم يهتدي الساري لرؤيته space.gif
كأنهم في ظلام الليل أقمارُ space.gif
وتشتهي العين منهم منظرًا حسنًا space.gif
كأنهم في عيون الناس أزهارُ space.gif

 

 

 

إن موقف سيدنا علي بن الحسين رضي الله عنه يسمى عند العلماء بالخبيئة من العمل الصالح؛ وهي أن يكون للمسلم خبيئة؛ أي عمل مخبأ، لا يطلع عليه أحد إلا الله، يدخره الإنسان لنفسه، ويجعله من أعظم الزاد ليوم ميعاده.

 

 

 

لذلك كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح، لا تعلم به زوجته ولا غيرها، ولا يطلع عليها أحد إلا الله[2].

 

 

 

هذا محمد بن واسع رحمه الله، يحدثنا عن أحوال الصالحين في زمانه فيقول: "لقد أدركت رجالًا كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالًا يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده، ولا يشعر به الذي إلى جانبه"، ويقول رحمه الله: "إن كان الرجل ليبكي عشرين سنةً وامرأته معه لا تعلم به"[3].

 

 

 

وهذا داود بن أبي هند رحمه الله كان يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان له دكان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به، فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به، فإذا جاء العشاء تعشى مع أهله، أربعين سنة، وهم لا يدرون بصيامه، وكان رحمه الله يقوم الليل أكثر من عشرين سنة ولم تعلم به زوجته[4].

 

 

 

سبحان الله! انظروا كيف ربوا أنفسهم على الإخلاص وحملوها على إخفاء الأعمال الصالحة، فهذه زوجته تضاجعه وينام معها، ومع ذلك يقوم عشرين سنة أو أكثر ولم تعلم به وبقيامه، أي إخفاء للعمل هذا؟ وأي إخلاص هذا؟ وأي أسرار كانت بينهم وبين الله تعالى؟

 

إذا لم يكن لله فعلك خالصًا space.gif
space.gif

 

فينبغي للمسلم أن يحرص على أن تكون له خبيئة من عمل صالح، لا يطلع عليها أحد إلا الله عز وجل؛ لأن العمل الصالح كلما كان بعيدًا عن عيون الناس، كان أرجى في القبول عند الله تعالى؛ لذلك يقول ربنا جل جلاله:﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2]؛أي: ليختبركم أيكم أحسن عملًا، ولم يقل أكثر عملًا، وإنما أحسن عملًا؛ لأن العبرة بحسن العمل لا بكثرته، وأعظم وصف في حسن العمل أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى.

 

 

 

سُئل الفضيل بن عياض عن العمل الحسن في قوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2] فقال: العمل الحسن أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص: ما كان لله، والصواب: ما كان على السنة؛ ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110][5].

 

 

 

ولو نظرنا إلى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، لرأينا كيف كان يحث الأمة على الخبيئة من العمل الصالح، ويشجعهم عليها ويبين لهم أجرها وثوابها، فعندما تحدث عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله[6]، ذكر منهم: ((ورجل ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه))، ذكــر الله بعيدًا عن عيـــون الناس فبكى من خشية الله، وذكر منهم ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله))،هذا الرجل أخفى الصدقة عن بعض جسده، وهذا من شدة حرصه على إخفاء العمل حتى لا يطلع عليه أحد، فإذا كان قد أخفى الصدقة عن بعض جسده، فإخفاء العمل عن الناس من باب أولى.

 

 

 

ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على الخبيئة من العمل فيقول: ((صلاة الرجل تطوعًا حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسًا وعشرين))[7]، لماذا؟ ما هو السبب؟

 

 

 

لأن الصلاة عندما تكون في السر وبعيدًا عن عيون الناس، تكون أخلص، وبعيدة عن الرياء والسمعة، وأرجى في القبول عند الله تعالى؛ لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: ((فصلوا - أيها الناس - في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة))[8].

 

 

 

يعني: صلاة الضحى، صلاة الوتر، قيام الليل، سنن الرواتب، هذه إن صليتها في بيتك أو بعيدًا عن عيون الناس، فهذه أفضل لك من أن تصليها أمام الناس.

 

 

 

لذلك عندما وقف رجل يصلي في المسجد، فسجد، وجعل يبكي بكاءً شديدًا، فقام إليه أبو أمامة الباهلي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أنت، أنت، لو كان هذا في بيتك[9].

 

 

 

فعلى المسلم أن يعلم كما أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وسبب للهلاك وسوء الخاتمة، فكذلك حسنات الخلوات هي أصل المنجيات وسبب لحسن الخاتمة، والنجاة يوم القيامة.

 

 

 

فاحرص - يا أخي - على الخبيئة من العمل الصالح، اجعل لك صدقة تضعها في يد فقير دون تصوير أو توثيق، تخفيها حتى عن امرأتك، اجعل لك ركعات تصليها في جوف الليل وأهل بيتك نيام، لا يشعر بك أحد، اجعل لك وردًا من القرآن تلزمه دائمًا، ولا يدري عنه أحد، ووردًا من الأذكار والتسابيح والاستغفار بينك وبين الله وأنت تقود سيارتك، أو وأنت تتسوق، أو وأنت تمارس رياضة المشي اليومي.

 

 

 

فأنا أدعوك يا أخي إلى أن تجعل بينك وبين الله خبيئة من العمل الصالح، لا أحد يعرف بها؛ عسى أن تكون سببًا في نجاتك من مصائب الدنيا، وخلاصًا من أهوال الآخرة.

 

.

 

سيدنا الزبير رضي الله عنه هنا ينبهنا على أمر نغفل عنه؛ وهو المعادلة بين الأفعال رجاء المغفرة؛ فلكل إنسان عمل سيئ يفعله في السر، فأولى له أن يكون له عمل صالح يفعله في السر أيضًا لعله أن يغفر له الآخر.

 

 

 

ولذلك يقول سيدنا الحسن البصري رحمه الله: "استعينوا على السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، وإنكم لن تجدوا شيئا أذهب بسيئة قديمة من حسنة حديثة، وأنا أجد تصديق ذلك في كتاب الله: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114]"[10].

 

 

 

فاحرص - يا أخي - على أن تعمل حسنة في المكان الذي ارتكبت فيه سيئة؛ لتقوم هذه الحسنة بمسح تلك السيئة، فإن الحسنات يذهبن السيئات.

 

 

 

اللهم ارزقنا حسنات تذهب سيئاتنا، وتوبة تجلو أنوارها ظلمة الإساءة والعصيان، والحمد لله رب العالمين.

 

 


[1] البداية والنهاية لابن كثير: (9/ 123).

[2] سير اعلام النبلاء للذهبي: (9/ 349).

[3] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني: (2/ 347).

[4] صفة الصفوة ابن الجوزي: (3/ 300).

[5] مدارج السالكين لابن القيم (2/ 88).

[6] صحيح البخاري، كتاب الزكاة - باب الصدقة باليمين: (2/ 138)، برقم (1423)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة - بَابُ فَضْلِ إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ: (2/ 715)، برقم (1031).

[7] أخرجه أبو يعلى في " المسند " – كما عزاه إليه ابن حجر في " المطالب العالية " (4/ 534)، ورواه من طريقه ابن نقطة في " إكمال الإكمال " (3/ 337) – وأخرجه ابن شاهين (ت385هـ) في " الترغيب في فضائل الأعمال " (ص/ 28).

[8] صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب- باب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لاَ يَعْنِيهِ: (9/ 117)، برقم (7290).

[9] الزهد لابن المبارك (ص: 50).

[10] تفسير ابن أبي حاتم (8/ 279).

 
 
شبكة الالوكة
 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×