اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأعراف)

المشاركات التي تم ترشيحها

صور البسملة وسلام عليكم 2022 HD مقدمات ونهايات للمواضيع - مصراوى الشامل
 

 

 

{المص (1)}
قبل أن نبدأ خواطرنا في سورة الأعراف لابد أن نلاحظ ملاحظة دقيقة في كتاب الله، الله يقول: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الانعام: 165].
ونقرأ الكلمة الأخيرة في سورة الأنعام {رَّحيِمٌ}، ونجدها مبنية على الوصل؛ لأن آيات القرآن كلها موصولة، وإن كانت توجد فواصل آيات، إلا أنها مبنية على الوصل، ولذلك تجد {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وعليها الضمة وبجوارها ميم صغيرة؛ لأن التنوين إذا جاء بعده باء، يقلب التنوين ميماً، فالميم الصغيرة موجودة على رحيم، قبل أن تقرأ {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ}، وتصبح القراءة: (غفور رحيم) (بسم الله).

 

وكل آيات القرآن تجدها مبنية على الوصل، فكأن القرآن ليس أبعاضاً. وكان من الممكن أن يجعلها سكوناً، وأن يجعل كل آية لها وقف، لا، إنّه سبحانه أراد القرآن موصولاً، وإن كان في بعض الآيات إقلاب، وفي بعضها إدغام، وهذا بغُنَّة، وهذا بغير غُنَّة، ويقول الحق: {المص}

 

وفي هذه الآية فصل بين كل حرف، فنقرأها: (ألف) ثم نسكت لنقرأ (لام) ثم نسكت لنقرأ (ميم) ثم نسكت لنقرأ (صاد). وهنا حروف خرقت القاعدة لحكمة؛ لأن هذه حروف مقطعة، مثل (الم، حم، طه، يس، ص، ق) وكلها مبنية على السكون مما يدل على أن هذه الحروف وإن الحروف وإن خيل لك أنها كلمة واحدة، لكن لكل حرف منها معنى مستقل عند الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن أَلِفٌ حرف، ولامٌ حرف، وَمِيمٌ حرف».
 

والرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن هذه الحروف بها أمور استقلالية، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت لها فائدة يحسن السكوت والوقوف عليها، فهمها من فهمها، وتعبد بها من تعبد بها، وكل قارئ للقرآن يأخذ ثوابه بكل حرف، فلو أن قارئاً قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ونطق بعد ذلك بحرف أو بأكثر، فهو قد أخذ بكل حرف حسنة، وحين نقرأ بعضاً من فواتح السور، نجد أن سورة البقرة تبدأ بقوله الحق: {الم} [البقرة: 1].
 

ونقرأ هنا في أول سورة الأعراف: {المص} [الأعراف: 1].
وهي حروف مقطعة. نطقت بالإِسكان، وبالفصل بين كل حرف وحرف. ويلاحظ فيها أيضاً أنها لم تقرأ مسميات، وإنما قُرئت أسماء، ما معنى مسميات؟ وما معنى أسماء؟. أنت حين تقول: كتب، لا تقول(كاف)(تاء)(باء) ، بل تنطق مسمى(الكاف)(كَ)، واسمها كاف مفتوحة، أما مسماها فهو(كَ) .
إذن فكل حرف له مسمى، أي الصوت الذي يقوله الإِنسان، وله اسم، والأمي ينطق المسميات، وإن لم يعرف أسماءها. أما المتعلم فهو وحده الذي يفهم أنه حين يقول: (كتب) أنها مكونة من كاف مفتوحة، وتاء مفتوحة، وباء مفتوحة، أما الأمي فهو لا يعرف هذا التفصيل.

 

وإذا كان رسول الله قد تلقى ذلك وقال: ألف لام ميم، وهو أمي لم يتعلم. فمن قال له انطق مسميات الحروف بهذه الأسماء؟.
لابد أنه قد عُلَّمَهَا وتلقاها، والحق هو القائل: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 18].
فالذي سوف تسمعه يا محمد ستقرأه، ولذلك تجد عجائب؛ فأنت تجد (ألم) في أول البقرة، وفي أول سورة آل عمران، ولكنك تقرأ الآية الأولى من سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1].
ما الفرق بين الألف واللام والميم في أول سورة البقرة، وسورة آل عمران وغيرهما، والحروف نفسها في أول سورة الفيل وغيرها كسورة الشَّرْح؟ أنت تقرأها في أول سورة البقرة وآل عمران أسماء. وتقرأها في أول سورة الفيل مسميات. والذي جعلك تفرق بين هذه وتلك أنك سمعتها تقرأ في أول البقرة وآل عمران هكذا، وسمعتها تقرأ في أول سورة الفيل هكذا. إذن فالقراءة توقيف، وليس لأحد أن يجترئ ليقرأ القرآن دون سماع من معلم. لا، لابد أن يسمعه أولاً حتى يعرف كيف يقرأ.

 

ونقرأ {المص} في أول سورة الأعراف، وهي حروف مقطعة، ونعرف أن الحروف المقطعة ثمانية وعشرون حرفاً، ونجد نصفها أربعة عشر حرفاً في فواتح السور، وقد يوجد منها في أول السورة حرف واحد مثل: {ق والقرآن المجيد} [ق: 1].
وكذلك قوله الحق: {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1].
وكذلك قوله الحق: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1].
ومرة يأتي من الحروف المقطعة اثنان، مثل قوله الحق: {حم} [الأحقاف: 1].
ومرة تأتي ثلاثة حروف مقطعة مثل: {الم} [البقرة: 1].
ومرة يأتي الحق بأربعة حروف مقطعة مثل قوله الحق: {المص} [الأعراف: 1].
ومرة يأتي بخمسة حروف مقطعة مثل قوله الحق: {كهيعص} [مريم: 1].

 

وإذا نظرت إلى الأربعة عشر حرفاً وجدتها تمثل نصف الحروف الأبجدية، وهذا النصف فيه نصف أحكام الحروف، فبعضها منشور، أو مهموس، أو مخفي، أو مستعلٍ، ومن كل نوع تجد النصف، مما يدل على أنها موضوعة بحساب دقيق، ومع أن توصيف الحروف، من مستعل، أو مفخم، أو مرقق، أو منشور، أو مهموس، هذا التوصيف جاء متأخراً عن نزول القرآن، ولكن الذي قاله يعلم ما ينتهي إليه خلقه في هذه الحروف المقطعة وله في ذلك حكمة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميَّا، ولم يجلس إلى معلم، فكيف نطق بأسماء الحروف، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا من تعلم؟! فهو إذن قد تلقنها، وإننا نعلم أن القرآن جاء متحديَّا العرب؛ ليكون معجزة لسيد الخلق، ولا يُتَحَدَّى إلا من كان بارعاً في هذه الصنعة.
وكان العرب مشهورين بالبلاغة، والخطابة والشعر، والسجع وبالأمثال؛ فهم أمة كلام، وفصاحة، وبلاغة، فجاء لهم القرآن من جنس نبوغهم، وحين يتحدى الله العرب بأنه أرسل قرآناً لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فالمادة الخام- وهي اللغة- واحدة، ومن حروف اللغة نفسها التي برع العرب فيها. وبالكلمات نفسها التي يستعملونها، لكنهم عجزوا أن يأتوا بمثله؛ لأنه جاء من رب قادر، وكلام العرب وبلاغتهم هي من صنعة الإنسان المخلوق العاجز.

 

وهكذا نعلم سر الحروف المقطعة التي جاءت لتثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن من الملأ الأعلى لأنه أمي لم يتعلم شيئاً، لكنه عرف أسماء الحروف، ومعرفة أسماء الحروف لا يعرفها- كما قلت- إلا المتعلم، وقد علمه الذي علم بالقلم وعلم الإنسان ما لم يعلم، ويمكن للعقل البشري أن يحوم حول هذه الآيات، وفي هذه الحروف معان كثيرة، ونجد أن الكثير من المفكرين والمتدبرين لكلام الله وجدوا في مجال جلال وجمال القرآن الكثير، فتجد متصوفاً يقول إن (المص) جاءت هنا لحكمة، فأنت تنطق أو كلمة ألف وهي الهمزة من الحلق، واللام تنطقها من اللسان، والميم تنطقها من الشفة، وبذلك تستوعب مخارج الحروف من الحلق واللسان والشفة.
قال المتصوف ذلك ليدلك على أن هذه السورة تتكلم في أمور الحياة بدءاً للخلق من آدم. إشارة إلى أولية خلق الإنسان، ووسطاً وهو المعاش، ونهاية وهو الموت والحساب ثم الحياة في الدار الأخرة، وجاءت (الصاد) لأن في هذه السورة قصص أغلب الأنبياء.

 

هكذا جال هذا المتصوف جولة وطلع بها، أنردها عليه؟ لا نردها بطبيعة الحال، ولكن نقول له: أذلك هو كل علم الله فيها؟. لا؛ لأن علينا أن نتعرف على المعاني التي فيها وأن نأخذها على قدر بشريتنا، ولكن إذا قرأناها على قدر مراد الله فيها فلن نستوعب كل آفاق مرادات الله؛ لأن أفهامنا قاصرة.
 

ونحن البشر نضع كلمات لا معنى لها لكي تدل على أشياء تخدم الحياة، فمثلا نجد في الجيوش من يضع (كلمة سر) لكل معسكر فلا يدخل إلا من يعرف الكلمة. من يعرف (كلمة السر) يمكنه أن يدخل. وكل كلمة سر لها معنى عند واضعها، وقد يكون ثمنها الحياة عند من يقترب من معسكر الجيش ولا يعرفها. {المص} [الأعراف: 1].
ونجد بعد هذه الحروف المقطعة حديثاً عن الكتاب، فيقول سبحانه: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ...}.

 

image.png.70ec7f0fa1f10f270147e88ffb834222.png


{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}
وساعة تسمع (أنزل) فافهم أنه جاء من جهة العلو أي أن التشريع من أعلى. وقال بعض العلماء: وهل يوجد في صدر رسول الله حرج؟. لننتبه أنه ساعة يأتي أمر من ربنا ويوضح فيه {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ}، فالنهي ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما النهي للحرج أو الضيق أن يدخل لرسول الله، وكأنه سبحانه يقول: يا حرج لا تنزل قلب محمد.

 

لكن بعض العلماء قال: لقد جاء الحق بقوله سبحانه: {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ}؛ لأن الحق يعلم أم محمداً قد يضيق صدره ببشريته، ويحزن؛ لأنهم يقولون عليه ساحر، وكذاب، ومجنون وإذا ما جاء خصمك وقال فيك أوصافاً أنت أعلم منه بعدم وجودها فيك فهو الكاذب؛ لأنك لم تكذب ولم تسحر، وتريد هداية القوم، وقوله سبحانه: {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} قد جاء لأمر من اثنين: إما أن يكون الأمر للحرج ألا يسكن صدر رسول الله، وإما أن يكون الأمر للرسول طمأنة له وتسكينا، أي لا تتضايق لأنه أنزل إليك من إله، وهل ينزل الله عليك قرآناً ليصبح منهج خلقه وصراطاً مستقيماً لهم، ثم يسلمك إلى سفاهة هؤلاء؟ لا، لا يمكن، فاطمئن تماماً. {... فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2].
 

والإِنذار لا يكون إلا لمخالف؛ لأن الإِنذار يكون إخباراً بشر ينتظر من تخاطبه. وهو أيضاً تذكير للمؤمنين مثلما قال من قبل في سورة البقرة: {... هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}
وهنا نلاحظ ان الرسالات تقتضي مُرْسِلاً أعلى وهو الله، ومُرَسَلاً وهو الرسول، ومُرْسَلاً إليه وهم الأمة، والمرسَل إليه إما أن يستمع ويهتدي وإما لا، وجاءت الآية لتقول: {كِتَابٌ أُنزِلَ} من الله وهو المرسِل، و(إليك) لأنك رسول والمرسَل إليهم هم الأمة، إما أن تنذرهم إن خالفوا وإما أن تذكرهم وتهديهم وتعينهم أو تبشرهم إن كانوا مؤمنين.

 

image.png.c1744847e4ffcd4c4da29ad9b4126fae.png


{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)}
وما دام العباد سينقسمون أمام صاحب الرسالة والكتاب الذي جاء به إلى من يقبل الهداية، ومن يحتاج إلى النذارة لذلك يقول لهم: {اتبعوا ما أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 3].
وينهاهم عن الشرك وعدم الاستهداء أي طلب الهداية فيقول: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].

 

وحينما يأتي الحق سبحانه في مثل هذه الآيات ويقول: (وذكرى). أو (وذكِّر) إنما يلفتنا إلى أن الفطرة المطبوع عليها الإِنسان مؤمنة، والرسالات كلها لم تأت لتنشئ إيماناً جديداً، وإنما جاءت لتذكر بالعهد الذي أخذ علينا أيام كنا في عالم الذر، وقبل أن يكون لنا شهوة اختيار: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ...} [الأعراف: 172].
 

هذا هو الإقرار في عالم الذر، إذن فحين يقول الحق: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} فنحن نلتفت إلى ما نسي الآباء أن يبلغوه للأبناء؛ فالآباء يعلمون الأبناء متطلبات حياتهم، وكان من الواجب أن يعلموهم مع ذلك قيم هذه الحياة التي تلقوها؛ لأن آدم وحواء ما نزلا إلى الأرض قال لهما الحق: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ...} [طه: 123].
وهكذا نعلم أن هناك (هدى) قد نزل على آدم، وكان من الواجب على آدم أن يعلمه للأبناء، ويعلمه الأبناء للأحفاد، وكان يجب أن يظل هذا (الهدى) منقولاً في سلسلة الحياة كما وصلت كل أقضية الحياة. ويأتي سبحانه لنا بحيثيات الاتباع. {اتبعوا ما أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ...} [الأعراف: 3].

 

فالمنهج الذي يأتي من الرب الأعلى هو الذي يصلح الحياة، ولا غضاضة على أحد منكم في أن يتبع ما أنزل إليه من الإله المربي القادر. الذي ربّى، وخلق من عدم، وأمد من عدم، وهو المتولي للتربية، ولا يمكن أن يربي أجسادنا بالطعام والشراب والهواء ولا يربي قيمنا بالأخلاق. {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ}.
ومادام قد أوضح: اتبعوا ما أنزل إليكم من أعلى، فلا يصح أن تأتي لمن دونه وتأخذ منه، مثلما يفعل العالم الآن حين يأخذ قوانينه من دون الله ومن هوى البشر. فها يحب الرأسمالية فيفرضها بالسيف، وآخر يحب الاشتراكية فيفرضها البشر. بالسيف. وكل واحد يفرض بسيفه القوانين التي تلائمه. وكلها دون منهج الله لأنها أفكار بشر، وتتصادم بأفكار بشر، والأولى من هذا وذاك أن نأخذ مما لا نستنكف أن نكون عبيداً له.
{... وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].

 

وتذكر أيها المؤمن أن عزتك في اتباع منهج الله تتجلّى في أنك لا تخضع لمساوٍ لك، وهذه ميزة الدين الذي يجعل الإنسان يحيا في الكون وكرامته محفوظةً، وإن جاءته مسألة فوق أسبابه يقابلها بالمتاح له من الأسباب مؤمناً بأن رب الأسباب سيقدم له العون، ويقدم الحق له العون فعلاً فيسجد لله شاكراً، أما الذي ليس له رب فساعة أن تأتي له مسألة فوق أسبابه تضيق حياته عليه وقد ينتحر.
 

ثم بعد ذلك يبين الحق أن موكب الرسالات سائر من لدن آدم، وكلما طرأت الغفلة على البشر أرسل الله رسولاً ينبههم. ويوقظ القيم والمناعة الدينية التي توجد في الذات، بحيث إذا مالت الذات إلى شيء انحرافي تنبه الذات نفسها وتقول: لماذا فعلت هكذا؟. وهذه هي النفس اللوامة. فإذا ما سكتت النفس اللوامة واستمرأ الإنسان الخطأ، وصارت نفسه أمارة بالسوء طوال الوقت؛ فالمجتمع الذي حوله يعدله.
 

وهذه فائدة التواصي بالحق والصبر، فكل واحد يوصَّى في ظرف، ويوصِّي في ظرف آخر؛ فحين تضعف نفسه أمام شهوة يأتي شخص آخر لم يضعف في هذه الشهوة وينصح الإنسان، ويتبادل الإنسان النصح مع غيره، هذا هو معنى التواصي؛ فالوصية لا تأتي من جماعة تحترف توصية الناس، بل يكون كل إنسان موصياً فيما هو فيه قوي، ويوصي فيما هو فيه ضعيف، فإذا فسد المجتمع، تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة، ومنهج جديد، لكن الله أمن أمة محمد على هذا الأمر فلم يجيء رسول بعده لأننا خير أمة أخرجت للناس. والخيرية تتجلى في أننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فالتواصي باقٍ إلى أن تقوم الساعة. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر...} [آل عمران: 110].
 

وهذه خاصية لن تنتهي أبداً، فإن رأيت منكراً فلابد من خلية خير تنكره وتقول: لا، وإذا كان الحق قد جعل محمداً خاتم الرسل، فذلك شهادة لأمته أنها أصبحت مأمونة، وأن المناعة الذاتية فيها لا تمتنع وتنقطع، وكذلك لا تمتنع منها أبداً المناعة الاجتماعية فلن يأتي رسول بعد سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.

 

اسلاميات

 

image.png.ba81c2cecbce661b307066e495267bc2.png

تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)}
وساعة تسمع (كم) فاعرف أن المسألة خرجت عن العد بحيث تستوجب أن تستفهم عنها، وهذا يدل على أمر كثير فوق العدد، لكن عندما يكون العدد قليلاً فلا يستفهم عنه، بل يعرف. والقرية اسم للمكان المعد إعداداً خاصاً لمعيشة الناس فيه. وهل القرى هي التي تهلك أم يهلك من فيها؟. أوضح الحق أنها تأتي مرة ويراد منها المكان والمكين: أو يكون المراد بالقرية أهلها، مثال ذلك قوله الحق في سورة يوسف: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير...} [يوسف: 82].
وبطبيعة الحال لن يسأل إنسان المكان أو المباني، بل يسأل أهل القرية، ولم يقل الحق: اسأل أهل القرية؛ لأن المسئول عنه هو أمر بلغ من الصدق أن المكان يشهد مع المكين، ومرة أخرى يوضح الحق أنه يدمر القرية بسكانها ومبانيها. {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا}.

 

وأيهما يأتي أولاً: الإهلاك أم يأتي البأس أولاً فيهلك؟. الذي يأتي أولاً هو البأس فيهلك، فمظاهر الكونيات في الأحداث لا يأتي أمرها ارتجالاً، وإنما أمرها مسبق أزلاً، وكأن الحق يقول هنا: وكم من قرية حكمنا أن نهلكها فجاءها بأسنا ليتحقق ما قلناه أزلاً، أي أن تأتي الأحداث على وفق المرادات؛ حتى ولو كان هناك اختيار للذي يتكلم عنه الحق.
ونعلم أن القرية هي المكان، وعلى ذلك فليس لها اختيار. وإن كان لمن يتحدث عنه الله حق الاختيار، فسبحانه يعلم أزلاً أنه سيفعل ما يتحدث عنه سبحانه. ويأتي به في قرآن يتلى؛ ليأتي السلوك موافقاً ما أخبر به الله. {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4].

 

والبأس هو القوة التي ترد ولا تقهر، و(بيتاً) أي بالليل، {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} أي في القيلولة. ولماذا يأتي البأس في البيات أو في القيلولة؟. ونجد في خبر عمّن أَهْلِكُوا مثل قوم لوط أنّه حدث لهم الهلاك بالليل، وقوم شعيب حدث لهم الهلاك في القيلولة، والبيات والقيلولة هما وقت الاسترخاء ووقت الراحة وتفاجئهم الأحداث فلا يستطيعون أن يستعدوا. {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين} [الصافات: 177].
أي يأتيهم الدمار في وقت هم نائمون فيه، ولا قوة لهم لمواجهة البأس. {... فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4].
وإذا قال سبحانه: {بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} فيصح أن لهذه القرية امتدادات، ووقت القيلولة عند جماعة يختلف عن وقت من يسكن امتداد القرية، فيكون الوقت عندهم ليلاً، والقيلولة هي الوقت الذي ينامون فيه ظهراً للاسترخاء والراحة. ولكن كيف استقبلوا ساعة مجيء البأس الذي سيهلكهم؟.


image.png.0736fb31ceb18163e144931f12b6fc12.png


{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)}
بهذا القول اتضحت المسألة، ومن قوله {دَعْوَاهُمْ} نفهم أن المسألة ادعاء. ونحن نقول: فلان ادّعى دعوى على فلان، فإما أن يقيم بينة ليثبت دعواه، وإما ألاّ يقيم.
والدعوى تطلق أيضاً على الدعاء: {... وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10].
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 5].

 

ويشرح ربنا هذا الأمر في آيات كثيرة، إنه اعتراف منهم باقترافهم الظلم وقيامهم عليه، فسبحانه القائل: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير فاعترفوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} [الملك: 10-11].
 

image.png.7103cd59a71f4af508e794eb4ca44c8b.png


{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)}
والحق يسأل الرسل بعد أن يجمعهم عن مدى تصديق أقوامهم لهم، والسؤال إنما يأتي للإِِقرار، ومسألة السؤال وردت في القرآن بأساليب ظاهر أمرها أنها متعارضة، والحقيقة أن جهاتها منفكة، وهذا ما جعل خصوم القرآن يدعون أن القرآن فيه تضارب. فالحق سبحانه يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101].
ويقول سبحانه أيضاً {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10].
ويقول جل وعلا: {... وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} [القصص: 78].
ويقول سبحانه وتعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39].
ثم يقول هنا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} [الأعراف: 6].
وهذا ما يجعل بعض المستشرقين يندفعون إلى محاولة إظهار أن بالقرآن- والعياذ بالله- متناقضات. ونقول لكل منهم: أنت تأخذ القرآن بغير ملكة البيان في اللغة، ولو أنك نظرت إلى أن القرآن قد استقبله قوم لسانهم عربي، وهم باقون على كفرهم فلا يمكن أن يقال إنهم كانوا يجاملون، ولو أنهم وجدوا هذا التناقض، أما كانوا يستطيعون أن يردوا دعوى محمد فيقولوا: أيكون القرآن معجزا وهو متعارض؟! لكن الكفار لم يقولوها، مما يدل على أن ملكاتهم استقبلت القرآن بما يريده قائل القرآن. وفي أعرافنا نورد السؤال مرتين؛ فمرة يسأل التلميذ أستاذه ليعلم، ومرة يسأل الأستاذ تلميذه ليقرر.

 

إذن فالسؤال يأتي لشيئين اثنين: إما أن تسأل لتتعلم، وهذا هو الاستفهام، وإما أن تسأل لتقرر حتى تصبح الحجة ألزم للمسئول، فإذا كان الله سيسأله، أي يسأله سؤال إقرار ليكون أبلغ في الاحتجاج عليه، وبعد ذلك يقولون: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير فاعترفوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} [الملك: 10-11].
وهذا اعتراف وإقرار منهم وهما سيدا الأدلة؛ لأن كلام المقابل إنما يكون شهادة، ولكن كلام المقر هو إقرار اعتراف.

 

إذن إذا ورد إثبات السؤال فإنه سؤال التقرير من الله لتكون شهادة منهم على أنفسهم، وهذا دليل أبلغ للحجة وقطع للسبل على الإِنكار. فإما أن يقر الإِنسان، وإن لم يقر فستقول أبعاضه؛ لأن الإِرادة انفكت عنها، ولم يعد للإِنسان قهر عليها، مصداقاً لقوله الحق: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ...} [فصلت: 21].
والحق هنا يقول: {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين}.
وهو سؤال للإِقرار. قال الله عنه: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ...} [المائدة: 109].
وحين يسأل الحق المرسلين، وهم قد أدوا رسالتهم فيكون ذلك تقريعاً للمرسَل إليهم.

 

image.png.89bab0029853dcfc5f2152d16b039234.png


{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)}
أي سيخبرهم بكل ما عملوا في لحظة الحساب؛ لأنه سبحانه لم يغب يوماً عن أي من خلقه؛ لذلك قال: {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ}، ونعلم أن الخلق متكرر الذوات، متكرر الأحداث، متكرر المواقع، هم ذوات كثيرة، وكل ذات لها حدث، وكل ذات لها مكان. فإذا قال الحق للجميع: {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} أي أنه مع الجميع، ومادام ليس بغائب عن حدث، ولا عن فاعل حدث، ولا عن مكان حدث، وهؤلاء متعددون. إذن هو في كل زمان وفي كل مكان.
وإن قلت كيف يكون هنا وهناك؟ أقول: خذ ذلك في إطار قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ومثل هذه المعاني في الغيبيات لا يمكن أن تحكمها هذه الصور. والأمر سبق أن قلناه حين تحدثنا عن مجيء الله؛ فله طلاقة القدرة وليس كمثله شيء، وما كان غائباً في حدث أو مكان.

image.png.bd475e42c4556bbcd2101508271eeeea.png

 

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)}
في هذه الآيات نجد الحديث عن الوزن للأعمال، وهذا كله تأكيد للحجة عليهم؛ فالله لا يظلم أحداً، وفي وزن الأعمال إبطال للحجة من الذين يخافون النار، ولم يؤدوا حقوق الله في الدنيا، وكل ذلك ليؤكد الحجة، ويظهر الإنصاف ويقطع العذر، وهنا قول كريم يقول فيه الحق سبحانه: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة...} [الأنبياء: 47].
هذه الموازين هي عين العدل، وليست مجرد موازين عادلة، بل تبلغ دقة موازين اليوم الآخر أنها هي عدل في ذاتها. وهنا يقول الحق: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق}. نعم، الميزان في هذا اليوم حق ودقيق، لنذكر انه قال من قبل: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160].

 

والميزان الحق هو الذي قامت عليه عدالة الكون كله، وكل شيء فيه موزون، وسبحانه هو الذي يضع المقادير على قدر الحكمة والإِتقان والدقة التي يؤدي بها كل كائن المطلوبَ منه، ولذلك يقوله سبحانه: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 7].
ولم نر السماء قذفت وألقت علينا أحداثاً غير متوقعة منها، فالكون له نظام دقيق. والوزن في يوم القيامة هو مطلق الحق، ففي هذا اليوم تبطل موازين الأرض التي كانت تعاني إما خللاً في الآلة التي يوزن بها، وإمّا خللاً في الوزن، وإمّا أن تتأثر بأحداث الكون، وما يجري فيه من تفاعلات، أما ميزان السماء فلا دخل لأحد به ولا يتأثر إلا بقيمة ما عمل الإِنسان، وساعة يقول سبحانه: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق}.
فكأن الميزان في الدنيا يمكن أن يحصل فيه خلل، وكذلك المِلْك أيضاً؛ لأنه سبحانه أعطى أسباباً للملك المناسب لكل إنسان، فهذا يملك كذا، والثاني يملك كذا، والثالث يملك كذا، وبعد ذلك يتصرف كل إنسان في هذا الملك إن عدلاً، وإن ظلماً على ضوء الاختيار. لكن حين يأتي اليوم الآخر فلا ملك لأحد: {... لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].

 

فالأمر حينئذ يكون كله لله وحده، فإن كان الملك في الدينا قد استخلف فيه الحق عباده، فهذه الولاية تنتهي في اليوم الآخر: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون}.
وسبحانه هو القائل: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6-11].
إذن فالميزان يثقل بالحسنات، ويخف بالسيئات، ونلحظ أن القسمة العقلية لإِيجاد ميزان ووزان وموزون تقتضي ثلاثة أشياء: أن تثقل كفة، وتخف الأخرى، أو أن يتساويا، ولكن هذه الحال غير موجودة هنا. ويتحدث الحق عن الذين تخف موازينهم فيقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ...}.

image.png.cf2ae7e4847b3a77578a5598328ca974.png


{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)}
والسورة السابقة جاء فيها بالحالتين، وفي هذه السورة أيضاً جاء بالحالتين، ومن العجيب أن هذا الكلام عن الثقل والخفة وعدم وجود الحالة الثالثة وهي حالة تساوي الكفتين يأتي في أول سورة الأعراف، ولكنه- سبحانه يقول بعد ذلك في سورة الأعراف: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ}.
وهؤلاء هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقد جعل لهم ربنا مكاناً يشبه عرف الفرس، وعرف الفرس يعتبر أعلى شيء فيه، فحينا يأتي شعر الفرس يميناً، وحينا يأتي شعر الفرس يساراً، وليس هناك جهة أولى بالشعر من الأخرى. وقد أعد الحق لأصحاب الأعراف مكاناً يسمعون فيه أصحاب النار وهم ينادون أصحاب الجنة، وأصحاب الجنة وهم ينادون أصحاب النار، وأصحاب الأعراف يجلسون؛ لا هم في الجنة ولا هم في النار، فهم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وبذلك صحت القسمة العقلية في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف: 46].
فلا الحسنات ثقلت ليدخلوا الجنة، ولا السيئات خفت ليدخلوا النار، فميزانهم تساوت فيه الكفتان. وقال بعض العلماء عن الميزان؛ إن هناك ميزاناً بالفعل. وقال البعض إن المراد بالميزان هو العدالة المطلقة التي أقامها العادل الأعلى، والأعجب أن الحق قال: إن هناك موازين، فهل لكل واحد ميزان أو لكل عمل من أعمال التكليفات ميزان: ميزان العقائد، وميزان الأحكام.. إلخ، وهل سيحاسبنا ربنا تباعاً. أو أن هناك موازين متعددة، بدليل أن سيدنا الإِمام عليًّا عندما سألوه: أيحاسب الله خلقه جميعاً في وقت واحد؟ فقال: وأي عجب في هذا؟ أليس هو رازقهم في وقت واحد؟ إذن فالميزان بالنسبة لله مسألة سهلة جدًّا. وهيّنة فسبحانه لا يتأبى عليه شيء. {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: 9].
نعم هم قد خسروا أنفسهم فكل منهم كان يأخذ شهوات ويرتكب سيئات يمتع بها نفسه، ويأتي اليوم الآخر ليجد نفسه قد خسر كل شيء، وكما يقول المثل العام: خسر الجلد والسقط. لماذا؟ تأتي الإِجابة من الحق: {... بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ}.

 

نداء الايمان

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)}
المُمَكَّن هو الذي يحتل المكان بدون زحزحة؛ فيقال مكّنتك من كذا. أي أعطيتك المكان ولا ينازعك أحد فيه. وقد مكننا سبحانه في الأرض وجعل لنا فيها وسائل استبقاء الحياة، وترف الحياة، وزينة الحياة، ورياش الحياة، ولم تبخل الأرض حين حرثناها، بل أخرجت لنا الزرع، ولم تغب الشمس عنا بضوئها وإشعاعها وحراراتها. ما في الدنيا يؤدي مهمته، ولم نُمكَّن في الأرض بقدراتنا بل بقدرة الله. وكان يجب ألا يغيب ذلك عن أنظارنا أبداً. فلا أحد منا مسيطر على الشمس أو القمر أو الريح أو الأرض، ولكن الذي خلقها وجعلها مسخرة، هو ربك وربها؛ فأنت مُمَكَّن، وكل شيء مستجيب لك. بتسخير الله له. {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10].
و(معايش) جمع معيشة، والمعيشة هي الحياة، فالعيش هو مقومات الحياة، ولذلك سموا الخبز في القرى عيشاً لأن عندهم دقة بالغة؛ لأنهم عرفوا أنه مقوّم أساسي في الحياة.

 

وقول الحق: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} دل على أن هناك من يشكر، ومن الناس من يشكر نعم الله شكراً عاماً على مجموع النعم، أو يشكره شكراً خاصًّا عند كل نعمة، ومنهم من يشكر شكراً خاصًّا لا عند كل نعمة، ولكن عند جزئيات النعمة الواحدة

فعندما يبدأ في الأكل يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم)، ويقول بعد الأكل: (الحمد لله)؛ وهناك من يقول عند تناول لقمة واحدة: (بسم الله) وعندما يمضغها ويبلعها يقول: (الحمد لله) لأنها لم تقف في حلقه، وأيضاً حين نشرب علينا أن نشرب على ثلاث دفعات: أول دفعة نقول: (بسم الله). وننتهي منها فنقول: (الحمد لله) وكذلك في الدفعة الثانية والدفعة الثالثة. ومن يفعل ذلك فلا تتأتَّى منه معصية، مادامت آثار شربة الماء هذه في جسمه؛ لأنها كلها (بسم الله). فتحرسه من الخطيئة؛ لأن النعمة الواحدة لو استقصيتها لوجدت فيها نعما كثيرة.
وأنتم حين لا تشكرون إنما تضيقون عليكم أبواب النعم من الله؛ لأنكم لو شكرتموه على النعم لزادت النعم عليكم، {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} ومن الحمق ألا نشكر.


image.png.ebef4db1fd17a19ee95fbd3afeaee4ab.png


{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)}
ومسألة الخلق سبق أن تقدمت في سورة البقرة: خلق آدم، والشيطان، والقضية تتوزع على سبع سور، في سبعة مواضع موجودة في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة الحج، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وسورة طه، وسورة ص، إلا أن القصة في في كل موضع لها لقطات متعددة، فهنا لقطة، وهناك لقطة ثانية، وتلك لقطة ثالثة، وهكذا؛ لأن هذه نعمة لابد أن يكررها الله؛ لتستقر في أذهان عباده، ولو أنه ذكرها مرة واحدة فقد تُنسى، لذلك يعيد الله التذكير بها أكثر من مرة. وإذا أراد الله استحضار النعم والتنبيه عليها في أشياء، فهو يكررها كما كررها في استحضار النعم في سورة واحدة في قوله سبحانه: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
إنه يذكر هذه النعم من بدايتها، فيقول: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 14-28].
وكل نعمة يقول بعدها: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
وأراد سبحانه بذلك أن يكثر ويردد تكرارها على الآذان لتستقر في القلوب حتى في الآذان الصماء؛ فمرة يأتي بها في شيء ظاهره أنه ليس نعمة، مثل قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35-36].
وجاء الحق بذكر كل ذلك؛ لأنه ساعة يجلي لنا الأمور على حقائقها ونحن في دار التكليف فهذه رحمة ونعمة منه علينا؛ لأن ذلك يدعونا إلى اتقاء المحظورات والبعد والتنحي عن المخالفات.

 

ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فحين يدخل الابن إلى المدرسة نقول له: إن قصرت في كذا فسوف ترسب، وأنت بهذا القول ترحمه بالنصيحة، فلم تتركه دون أن تبصره بعواقب الأمور، وأيضا ساعة ترى شراً يحيق بالكافرين، فإن هذا الأمر يسرك، لأنه لو تساوى الكافرون مع المؤمنين لما كان للإيمان فضل أو ميزة، فالعذاب نقمة على الكافر، ونعمة على المقابل وهو المؤمن.
 

وقد جاءت قصة خلق آدم بكل جوانبها في القرآن سبع مرات؛ لأنها قصة بدء الخلق، وهي التي تجيب عن السؤال الذي يبحث عن إجابته الإنسان؛ لأنه تلفت ليجد نفسه في كون معد له على أحسن ما يكون. ولم يجيء الكون من بعد الإنسان، بل طرأ الإنسان على الكون، وظل السؤال وارداً عن كيفية الخلق، والسؤال مهم أهمية وجود الإنسان في الكون، فأنت تستقرئ أجناساً في الكون، وكل جنس له مهمة، ومهمته متعلقة بك، جماد له مهمة، ونبات له مهمة، وحيوان له مهمة، وكلها تصب في خدمتك أنت؛ لأن الجماد ينفع النبات، ويتغذى منه لكي يغذي الحيوان، والحيوان ينفعك ويغذيك، إذن فكل الأجناس تصب في خدمتك.
 

أمّا أنت أيها الإِنسان فما عملك في هذا الكون؟؛ لذلك كان لابد أن يتعرف الإِنسان على مهمته. وأراد الحق سبحانه أن يُعرِّف الإِنسان مهمته؛ لأنه جل وعلا هو الصانع، وحين يبحث الإِنسان عن صانعه تتجلى له قدرة الله في كل ما صنع. وكان لابد أيضاً أن يستقبل الإِنسان خبراً من الخالق. إنه- سبحانه- يُنزل لنا المنهج من السماء ويصاحب هذا المنهج معجزة على يد رسول، وأنزل الحق عليه المنهج وأوكل له مهمة البلاغ. فالرسول يخبر، ثم نستدل بالمعجزة على صدق خبره. فكان من اللازم أن نصدق الرسول، لأنه قادم بآية ومعجزة من الله.
 

والرسول عليه الصلاة والسلام جاء بالرسالة في سن الأربعين ومعه المنهج المعجزة، وأبلغنا أنه رسول من الله. وكان لابد أن نبحث لنتثبت من صدق البلاغ عن الله بالتعقل في دعواه؛ فهذا الرسول جاء بعد أربعين سنة من ميلاده ومعه معجزة من جنس ما نبغ فيه قومه، وليس من جنس ما نبغ فيه هو، إن معجزته ليست من عنده، بل هي من عند الله؛ لأن الرسول جاء بالمعجزة بعد أربعين سنة من ميلاده، ومن غير المعقول أن تتفجر عبقرية بعد أربعين سنة من الميلاد؛ لأننا نعلم أن العبقريات تأتي في آخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث من عمر الإِنسان، ونلتفت فنجده يتكلم كل الكلام البلاغي المعجز. وليس من المعقول ان يأتي بأخبار الكون وهو الأمي الذي مات أبوه وهو في بطن أمه، ثم ماتت أمه وهو في السادسة، وكذلك مات جده. ورأى الناس يتساقطون من حوله، فمن الذي أدراه- إذن- انه سيمهل ويمد في أجله إلى أن يصل إلى الأربعين ليبلغنا بمعجزته؟.
ولذلك نجد القرآن يستدل على هذه، فيقول: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15].
وهكذا تتجلى الحجة القوية من أنه صلى الله عليه وسلم مكلف بالبلاغ بما يُوحَى إليه، ويتأكد ذلك مرة ثانية في قوله الحق: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].

 

وهنا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تلقى الأمر من الله بأن يبيّن لهم: هل علمتم عني خلال عمري أني قلت شعراً أو حكمة أو جئتكم بمثل؟ إذن إن نحن عقلنا الأمر وتبصرنا وتأملنا دعواه لصدقنا أنه رسول الله، وأن المعجزة نزلت عليه من السماء.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} [الأعراف: 11].

 

وهكذا نرى أن مسألة الخلق والإِيجاد، كان يجب على العقل البشري أن يبحث فيها، ليعلم مهمته في الوجود. وحين يبحث فيها ليعلم مهمته في الوجود. يجب عليه أن يترك كل تخمين وظنٍ؛ لأن هذه المسألة لا يمكن أن تأتي فيها بمقدمات موجودة لتدلنا على كيفية خلقنا ولا لأي شيء ومهمة خلقنا! فكيفية الخلق كانت أمراً غيبيًّا وليس أمامنا ما نستقرئه لنصل إلى ذلك. وقد حكم الله في قضية الخلق، سواء أكان الأمر بالنسبة للسموات والأرض وما بينهما أم للإِنسان، وقد حكم سبحانه في هاتين القضيتين، ولا مصدر لعلم الأمر فيهما إلا من الله سبحانه، وأغلق باب الاجتهاد فيها، وكذلك باب التخمين، وسمى القائمين بكل بحث بشري في هذا المجال بأنهم ضالون مضللون، ولذلك قال ليحكم هذه القضية ويحسمها، ويريح العقول من أن تبحث فيها؛ قال: {ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51].
فكأن الذي يقول: كيف خلقت السموات والأرض وكيف خلق الإِنسان هو مضل؛ لأن الله لم يشهده، ولم يكن القائل عضداً لله ولا سنداً ولا شريكا له.

 

وقص سبحانه علينا قصة خلق السموات والأرض وخلق الإِنسان، وهذه الآية تتعرض لخلق الإِنسان. ومن يبحث بحثاً استقرائيّاً ويرجع إلى الوراء فلابد أن يجد أن الأمر منطقي؛ لأن العالم يتكاثر، وتكاثره أمر مرئي، وليس التكاثر في البشر فقط، بل فيمن يخدمون البشر من الأجناس الأخرى، نجد فيهم ظاهرة التكاثر نباتاً وحيواناً، وإذا ما نظرنا إلى التعداد من قرن وجدنا العدد يقل عن التعداد الحالي وهو خمسة آلاف مليون، وكلما عدنا ورجعنا إلى الزمن الماضي يقل التعداد إلى أن نصل إلى اثنين؛ لأن الخلق إنما يأتي من اثنين، وحلّ الله لنا اللغز فقال: {الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا...} [النساء: 1].
وهذا كلام صحيح يثبته الإِحصاء وييقنه؛ لأن العالم يتكاثر مع مرور الزمن مستقبلا. {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً...} [النساء: 1].
وهذا كلام صادق. وسبحانه القائل: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ...} [الذاريات: 49].
وأبلغنا سبحانه بقصة خلق آدم، وكيفية خلق حوّاء فهل أخذ جزءًا من آدم وخلق منه حوّاء؟ قد يصح ذلك، أو خلق منها زوجها ويكون المقصود به أنه خلقها من الجنس نفسه وبالطريقة نفسها؟ وذلك يصح أيضا، فسبحانه قد اكتفى بذكر خلق آدم عن ذكر خلق حوّاء، وأعطانا النموذج في واحد، وقال: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.
و{مِنْهَا} في هذه الآية يحتمل أن تكون غير تبعيضية، مثلها مثل قوله الحق: (رسول من أنفسكم).
فسبحانه لم يأخذ قطعة من العرب وقال: إنها (محمد)، بل جعل محمدًّا صلى الله عليه وسلم من الجنس نفسه خلقاً وإيجاداً، وسبحانه حين يتكلم هنا يقول للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً...} [البقرة: 30].

وهذا أول بلاغ، ثم اتبع ذلك: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29].
إذن فقبل النفخ في الروح ستوجد تسوية، فلمن تحدث التسوية، ومن هو (المسوّى منه)؟. إن التسوية لآدم. وجاء القول بأنه من صلصال، ومن حمأ مسنون، ومن تراب، ومن طين؛ إنّها مراحل متعددة، فإن قال سبحانه عن آدم: إنه تراب، نقول: نعم، وإن قال: (من ماء) نقول: نعم، وإن قال (من طين) فهذا قول حق؛ لأن الماء حين يختلط بالتراب يصير طيناً. وإن قال: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}، فهذا جائز؛ لأن الحمأ طينٌ اختمر فتغيرت رائحته ثم جف وصار صلصالاً. إذن فهي مراحل متعددة للخلق، ثم قال الحق: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}.
وهكذا تكتمل فصول الخلق، ثم قال:
{فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}.

ويقول العلماء: إن المراد من السجود هو الخضوع والتعظيم، وليس السجود كما نعرفه، وقال البعض الآخر: المراد بالسجود هو السجود الذي نعرفه، وأن آدم كان كالقبلة مثل الكعبة التي نتجه إليها عند الصلاة. ولكنْ لنا هنا ملاحظة،

ونقول: إننا لا نسجد إلا الله، ومادام ربنا قد قال: اسجدوا فالسجود هنا هو امتثال لأمر خالق آدم. والنية إذن لم تكن عبادة لآدم، ولكنها طاعة لأمر الله الأول. والأمر بالسجود لآدم قد أراده الله؛ لأنه سبحانه سخر الكون كله لخدمة آدم، ومن الملائكة مدبرات أمر، ومنهم حفظة، ومنهم من هو بين يدي الله، فلم يكن السجود للملائكة خضوعاً من الملائكة لآدم، بل هو طاعة لأمر الله، ولذلك سجد من الملائكة الموكلون بالأرض وخدمة الإنسان، لكنْ الملائكة المقربون لا يدرون شيئاُ عن أمر آدم

ولذلك يقول الحق لإِبليس: {... أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75].
والمقصود بالعالين الملائكة الذين لم يشهدوا أمر السجود لآدم، فليس للملائكة العالين عمل مع آدم؛ لأن الأمر بالسجود قد صدر لمن لهم عمل مع آدم وذريته والذين يقول فيهم الحق سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله...} [الرعد: 11].
وهناك الرقيب، والعتيد والقعيد. وفي كل ظاهرة من ظواهر الكون هناك ملك مخصوص بها، ويبلغنا الحق بمسألة الخلق، والخطاب لنا {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} وهذا ترتيب اخباري، وليس ترتيباً للأحداث. أو أن الحق سبحانه وتعالى طمر الخلق جميعاً في خلق آدم، والعلم الحديث يعطينا أيضاً مؤشرات على ذلك، حين يأتون ببذرة ويكتشفون فيها كل مقومات الثمرة، وكذلك الحيوان المنوي توجد فيه كل صفات الإنسان.

 

ولذلك نجدهم حين يدرسون قانون الوراثة يقولون: إن حياة كل منا تتسلسل عن آخر، فأنت من ميكروب أبيك، وقد نزل من والدك وهو حي، ولو أنه نزل ميتاً لما اتصل الوجود. ووالدك جاء من ميكروب جده وهو حي، وعلى ذلك فكل مكائن الآن فيه كائن الآن فيه جزئ حي من لدن آدم، لم يطرأ عليه موت في أي حلقة من الحلقات.
إذن فكلنا كنا مطمورين في جزيئات آدم، وقال ربنا سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ...} [الأعراف: 172].
ونقول: صدق الحق فهو الخالق القادر على أن يخرجنا من ظهر آدم، وهكذا كان الخلق أولاً والتصوير أولاً، وكل ذلك في ترتيب طبيعي، وهو سبحانه له أمور يبديها ولا يبتديها، أي أنه سبحانه يظهرها فقط، فإذا خاطب آدم وخاطب ذريته فكأنه يخاطبنا جميعاً. {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} [الأعراف: 11].
وعرفنا من هم الملائكة من قبل، وما هي علة السجود. {فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين}.
والحق سبحانه يستثنيه بأنه لم يكن من الساجدين. وهذا دليل على أنه دخل في الأمر بالسجود، ولكن هل إبليس من الملائكة؟ لا؛ لأنك إذا جئت في القرآن ووجدت نصَّا يدل بالالتزام، ونصَّا يدل بالمطابقة والقطع فاحمل نص الالتزام على النص المحكم الذي يقطع بالحكم. وقد قال الحق في ذلك: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ...} [الكهف: 50].
وفي هذا إخراج لإبليس من جنس الملائكية، وتقرير أنه من الجن، والجن كالإنس مخلوق على الاختيار، يمكنه أن يعصي يمكنه أن يطبع أو أن يعصي، إذن فقوله الحق: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}.

 

يعني أن هذا الفسوق أمر يجوز منه؛ لكن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإن تساءل أحد: ولماذا جاء الحديث عن إبليس ضمن الحديث عن الملائكة؟. نقول: هب أن فرداً مختاراً من الإِنس أو من الجن التزم بمنهج الله كما يريده الله، فأطاع الله كما يجب ولم يعص.. أليست منزلته مثل الملك بل أكثر من الملك، لأنه يملك الاختيار. ولذلك كانوا يسمون إبليس طاووس الملائكة، أي الذي يزهو في محضر الملائكة لأنه ألزم نفسه بمنهج الله، وترك اختياره، وأخذ مرادات الله فنفذها، فصار لا يعصي الله ما أمره ويفعل ما يؤمر، وصار يزهو على الملائكة لأنهم مجبورون على الطاعة، لكنه كان صالحاً لأن يطيع، وصالحاً- أيضاً- لأن يعصي، ومع ذلك التزم، فأخذ منزلة متميزة من بين الملائكة، وبلغ من تميزه أنه يحضر حضور الملائكة. فلما حضر مع الملائكة جاء البلاغ الأول عن آدم في أثناء حضوره، وقال ربنا للملائكة: {اسجدوا لأَدَمَ}.
وكان أولى به أن يسارع بالامتثال للأمر الطاعة، لكنه استنكف ذلك. وهب أنه دون الملائكة ومادام قد جاء الأمر للأعلى منه وهم الملائكة، ألم يكن من الأجدر به وهو الأدنى أن يلتزم بالأمر؟ لكنه لم يفعل. ولأنه من الجن فقد غلبت عليه طبيعة الاختيار.

image.png.ebef4db1fd17a19ee95fbd3afeaee4ab.png

{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)}
ثم قال كما يحكي القرآن الكريم: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61].
وهكذا كان الموقف استكباراً واستلاءً. وقوله الحق: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75].
ونحن حين نحلل هذا النص، نجد قوله: {مَا مَنَعَكَ} أي ما حجزك، وقد أورد القرآن هذه المسألة بأسلوبين، فقال الحق مرة: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ}. وقال مرة أخرى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ}. وهذا يعني أن الأسلوب الأول جاء ب (لا) النافية، والأسلوب الثاني جاء على عدم وجود (لا) النافية. وقوله {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} كلام سليم واضح؛ يعني: ما حجزك عن السجود. لكن {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} هي التي تحتاج لوقفة. لذلك قال العلماء: إن (لا) هنا زائدة، ومَنْ أَحْسَن الأدب منهم قال: إن (لا) صلة. لكن كلا القولين لا ينفع ولا يناسب؛ لأن من قال ذلك لم يفطن إلى مادة (منع) ولأي أمر تأتي، وأنت تقول: (منعت فلاناً أن يفعل)، كأنه كان يهم أن يفعل فمنعته.

 

إذن {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} كأنّه كان عنده تهيؤ للسجود، فجاءت قوة أقوى منه ومنعته وحجزته وحالت بينه وبين أن يسجد. لكن ذلك لم يحدث. وتأتي (منع) للامتناع بأن يمتنع هو عن الفعل وذلك بأن يقنعه غيره بترك السجود فيقتنع ويمتنع، وهناك فرق بين ممنوع، وممتنع؛ فممنوع هي في {مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ}، وممتنع تعني أنه امْتنع من نفسه ولم يمنعه أحد ولكنّه أقنعه. وإن كان المنع من الامتناع فالأسلوب قد جاء ليؤكد المعنى الفعلي وهو المنع عن السجود. وهذا هو السبب في وجود التكرار في القرآن. ولذلك قال الحق سبحانه: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12].
 

وسبحانه قد أمر الملائكة وكان موجوداً معهم إما بطريق العلو، لأنه فاق الملائكة وأطاع الله وهو مختار فكانت منزلته عالية، وإما بطريق الدنو؛ لأن الملائكة أرفع من إبليس بأصل الخلقة والجبلة، وعلى أي وضع من العلو والدنو كان على إبليس أن يسجد، ولكنه قال في الرد على ربّه: {... أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12].
 

وسبحانه لم يسأل إبليس عن المقارنة بينه وبين آدم، ولكن سأله وهو يعلم أزلاً أنّ إبليس قد امتنع باقتناع لا بقهر، ولذلك قال إبليس: أنا خير منه، فكأن المسألة دارت في ذهنه ليوجد حيثية لعدم السجود. ولا يصح في عرفه الإبليسي أن يسجد الأعلى للأدنى، فما دام إبليس يعتقد أنه خير من آدم ويظن أنه أعلى منه، فلا يصح أن يسجد له. وأعلى منه لماذا؟ لأنه قال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} فكأن النار لها علو، وهو في ذلك مخطئ تماماً لأن الأجناس حين تختلف؛ فذلك لأن لكل جنس دوره، ولا يوجد جنس أفضل من جنس، النار لها مهمة، والطين له مهمة، والنار لا تقدر أن تؤدي مهمة الطين، قلا يمكن أن نزرع في النار.
 

إذن فالخيرية تتأتى في الأمرين معا مادام كل منهما يؤدي مهمته، ولذلك لا تقل: إن هذا خير من هذا، إنما قل: عمل هذا أحسن من عمل هذا، فكل شيء في الوجود حين يوضع في منزلته المرادة منه يكون خيراً، ولذلك أقول: لا تقل عن عود الحديد إنه عود مستقيم، وتقول عن الخطاف: إن هذا عود أعوج، لأن مهمة الخطاف تقتضي أن يكون أعوج، وعوجه هو الذي جعله يؤدي مهمته، لأن الخيرية إنما تتأتى في متساوي المهمة، ولكن لإبليس قال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ...} [الأعراف: 12].
قالها للمعاندة، للكبر، للكفر حين أعرض عن أمر الله وأراد أن يعدل مراد الله في أمره، وكأنه يخطِّئ الحق في أمره، ويردّ الأمر على الآمر. فما كان جزاء الحق سبحانه وتعالى لإبليس إلا أن قال له: {قَالَ فاهبط...}.

 

image.png.340fde5202820ed3acf956e2f0d6cb70.png


{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)}
والهبوط يستدعي الانتقال من منزلة عالية إلى منزلة أقل، وهذا ما جعل العلماء يقولون إن الجنة التي وصفها الله بأنها عالية في هي السماء، ونقول: لا، فالهبوط لا يستدعي أن يكون هبوطاً مكانياً، بل قد يكون هبوط مكانة، وهناك فرق بين هبوط المكان، وهبوط المكانة، وقد قال الحق لنوح عليه السلام: {قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ...} [هود: 48].
أي اهبط من السفينة، إذن مادة الهبوط لا تفيد النزول من مكان أعلى إلى مكان أدنى، إنما نقول من مكان أو من مكانة. {قَالَ فاهبط مِنْهَا}.
وهذا تنزيل من المكانة لأنه لم يعد أهلاً لأن يكون في محضر الملائكة؛ فقد كان في محضر الملائكة؛ لأنه الزم نفسه بالطاعة، وهو مخلوق على أن يكون مختارا أن يطيع أو أن يعصي، فلما تخلت عنه هذه الصفة لم يعد أهلاً لأن يكون في هذا المقام، وذلك أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. {قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ...} [الأعراف: 13].
أي ما ينبغي لك أن تتكبر فيها.

 

إن امتناعك عن أمر من المعبود وقد وجهه لك وأنت العابد هو لون من الكبرياء على الآمر، والملائكة جماعة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فما دامت أنت أهل استكبار واستعلاء على هذه المكانة فلست أهلاً لها، فكأن العمل هو الذي أهله أن يكون في العلو، فلما زايله وفارقه كان أهلاً لأن يكون في الدنو، وهكذا لم يكن الأمر متعلقاً بالذاتية، وفي هذا هبوط لقيمة كلامه في أنه من نار وآدم من طين؛ لأن المقياس الذي توزن به الأمور هو مقياس أداء العمل، ومن حكمة الحق أن الجن يأخذ صورة القدرة على أشياء لا يقدر عليها الإنس، مثل السرعة، واختراق الحواجز، والتغلب على بعض الأسباب، فقد ينفذ الجن من الجدار أو من الجسم، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم.».
وهو ذلك مثل الميكروب، لأنه هذه طبيعة النار، وهي المادة التي خُلق منها. وهي تتعدى الحواجز. والجن قد بلغ من اللطف والشفافية أنه يقدر على أن ينفذ من أي شيء، لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح للجن لا تعتقد أن عنصريتك هي التي أعطتك هذا التمييز، وإنما هي إرادة المُعَنْصر، بدليل أنه جعلك أدنى من مكانة الإنسان، إنه- سبحانه- يجعل إنسياً مثل سيدنا سليمان مخدوما لك أيها الجنى، إنه يسخرك ويجعلك تخدمه. وأنه في مجلس سليمان، جعل الذي عنده علم من الكتاب، يأتي بقوة أعلى من قوة (عفريت) من الجن.
فالحق هو القائل: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن...} [النمل: 39].
وهذا يدل على أن هناك أذكياء وأغبياء في عالم الجن أيضاً. وجاء الذي عنده علم من الكتاب فتسامى فوق عفريت الجن في الزمن، فقد قال هذا العفريت: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ...} [النمل: 39].

 

والمقام هو الفترة الزمنية التي قد يقعدها سليمان في مجلسه، فماذا قال الذي عنده علم من الكتاب- وهو إنسان-؟ {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ...} [النمل: 40].
كأنه سيأتي بعرش بلقيس قبل أن ينته سليمان من ردّ طرفه الذي أرسله ليبصر به شيئاً، إن سليمان رأى العرش بين يديه، ولذلك نجد عبارة القرآن معبرة: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ...} [النمل: 40].
كأن المسألة لا تتحمل. بل تم تنفيذها فوراً. إذن فالحق يوضح للمخلوقين من العناصر: إياكم أن تفهموا أن تميزكم بعناصركم، إنني أقدر بطلاقة قدرتي أن اجعل الأدنى يتحكم في الأعلى؛ لأنها إرادة من عَنْصَرَ العناصر. {قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} [الأعراف: 13].
وكلمة {فاهبط} تشير على أن الهبوط أمر معنوي، أي أنك لست أهلاً لهذه المنزلة ولا لتلك المكانة. هذا ما تدل عليه كلمة {فاهبط}، ثم جاء الأمر بعد ذلك بالخروج من المكان.

 

والصَّغَار هو الذل والهوان؛ لأنه قََابَل الأمر باستكبار، فلابد أن يجازى بالصَّغار. وبذلك يكون قد عومل بضد مقصده، والمعاملة بضد المقصد لون من التأديب والتهذيب والتعليم؛ مثلما يقرر الشرع أن الذي يقتل قتيلاً يحرم من ميراثه، لأنه قد قتله ليجعل الإرث منه، ولذلك شاء الله أن يحرمه من الميراث؛ فبارتكابه القتل صار محجوباً عن الميراث.
 

image.png.ebef4db1fd17a19ee95fbd3afeaee4ab.png


{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)}
ومعنى {أَنظِرْنِي} أمهلني أي لا تمتني بسرعة، ولا تجعل أجلي قريباً، بدليل قوله سبحانه: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ...}.

فالإِنظار طلب الإِمهال، وعدم التعجيل بالموت، وقد طلبه إبليس لكي يشفي غليله من بني آدم وآدم؛ انه جاء له بالصَّغَار والذلة والطرد والهبوط، ولذلك أصر على أن يجتهد في أن يغري أولاد آدم ليكونوا عاصين أيضاً. وكأن إبليس في هذا الطلب أراد أن يُنْقذ من الموت وأن يبقى حيًّا إلى يوم البعث الذي يبعث فيه كل من مات. وكأنه يريد أن يقفز على قول الحق: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت...} [آل عمران: 185].

 

فأوضح الحق: أن تأجيل موتك هو إلى يوم الوقت المعلوم لنا وغير المعلوم لك؛ لأن الأجل لو عرف فقد يعصي من يعلمه مدة طويلة ثم يقوم بالعمل الصالح قبل ميعاد الأجل، ولكن الله أراد بإبهام زمان الموت أن يشيع زمانه في كل وقت. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 38].
والوقت المعلوم هو النفخة الأولى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].
وكأن إبليس كان يريد أن يفر من الموت ليصل إلى النفخة الثانية، لكن ربنا أوضح أنه باق إلى وقت معلوم، وآخر الوقت المعلوم هذا لابد أن يكون قبل النفخة الأولى.

 

نداء الايمان

image.png.5cc2b9c5497b9afd4102890de2b8621e.png

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)}
فالإِنظار طلب الإِمهال، وعدم التعجيل بالموت، وقد طلبه إبليس لكي يشفي غليله من بني آدم وآدم؛ انه جاء له بالصَّغَار والذلة والطرد والهبوط، ولذلك أصر على أن يجتهد في أن يغري أولاد آدم ليكونوا عاصين أيضاً. وكأن إبليس في هذا الطلب أراد أن يُنْقذ من الموت وأن يبقى حيًّا إلى يوم البعث الذي يبعث فيه كل من مات. وكأنه يريد أن يقفز على قول الحق: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت...} [آل عمران: 185].
فأوضح الحق: أن تأجيل موتك هو إلى يوم الوقت المعلوم لنا وغير المعلوم لك؛ لأن الأجل لو عرف فقد يعصي من يعلمه مدة طويلة ثم يقوم بالعمل الصالح قبل ميعاد الأجل، ولكن الله أراد بإبهام زمان الموت أن يشيع زمانه في كل وقت. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 38].
والوقت المعلوم هو النفخة الأولى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].
وكأن إبليس كان يريد أن يفر من الموت ليصل إلى النفخة الثانية، لكن ربنا أوضح أنه باق إلى وقت معلوم، وآخر الوقت المعلوم هذا لابد أن يكون قبل النفخة الأولى.


image.png.943ac09ec8035e947b71882a2fc4a652.png


{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)}
والإغواء. إغراء بالمعصية، ومن الإغواء الَغّي وهو: الإهلاك، ويقول الحق سبحانه وتعالى: {... فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} [مريم: 59].
 

وحين نقرأ {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} أي فبإغوائك يا الله لي سأفعل كذا وكذا، وبذلك يكون قد نسب الإغواء لله لكن هل يغوي ربنا أو يهدي؟.

إن الله يهدي دلالة وتمكيناً، وسبق أن تكلمنا كثيراً عن هداية الدلالة ودلالة التمكين، وسبحانه خلق الشيطان مختاراً، ولم يخلقه مرغماً ومسخراً كالملائكة، ولأنه قد خلق مختاراً فقد أعطاه فرصة أن يطيع وأن يعصي، وكأن الشيطان بقوله هذا يتمنى لو أنه قد خلق مقهوراً. ويقول إن الله هو الذي أعطاه سبب العصيان. ولم يلتفت إلى أن الاختيار إنما هو فرصة لا للغواية فقط، ولكنه فرصة للهداية أيضاً. وأنت أيها الشيطان الذي اخترت الغواية.
 

إذن فقول الشيطان: {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} إنما يريد به الشيطان: أن يدخل بمعصيته على الله، ونقول له: لا، إن ربنا لم يغو؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يغوي وإنما يهدي؛ لأن الله لو خلقه مرغماً مقهوراً ما أعطاه فرصة أن يختار كذا أو يختار كذا؛ فقد خلقه على هيئة (افعل) و(لا تفعل)، واختار هو ألاّ يفعل إلا المعصية. {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16].
والمفهوم من العبارة أنهم بنو آدم، والقعود لون من ألوان حركة الجسم الفاعل؛ لأن المتحرك إما أن يكون قائماً، وإما أن يكون قاعداً، وإما أن يكون مضجعاً نائماً. وأريح الحالات أن يكون نائماً مضجعاً؛ لأن الجسم في هذه الحالة يكون مستريحاً بفعل الجاذبية الأرضية، وحين يكون الإنسان قاعداً تقاومه الجاذبية قليلاً، وحين يكون واقفاً فهو يحمل جسمه على قدميه، ولذلك نقول لمن وقف طويلاً على قدميه: (اقعد حتى ترتاح) ولو قعد وكان متعباً فيقال له: (مضجع قليلاً لترتاح).

ولماذا اختار الشيطان أن يقول: {لأَقْعُدَنَّ}؟

حتى يكون مطمئناً، فقد يتعب من الوقفة، أيضاً وهو في حالة القعود يكون منتبها متيقظاً، والحق يقول: {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ...} [التوبة: 5].
ولم يقل: (قفوا) حتى لا يرهق الناس أنفسهم بالوقوف الطويل، ولكن ساعة يواجهون الأمر فعليهم بالنهوض. والقعود أقرب إلى الوقوف، لأن الاضجع أقرب إلى التراخي والنوم، وقد اختار الشيطان الموقف الذي يحفظ له قوته، ويبقى له انتباهه: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم}.

 

ومادام الشيطان سيغوي، وسيضل الغير، فسيختار للغواية من يكون في طريق الهداية. إنما من غوى باختياره وضل بطبيعته فالشيطان قد استراح من ناحيته ولا يريده، وتلك ظاهرة تحدث للناس حينما يجدون ويجتهدون في الطاعة؛ فالشاب الطائع الملتزم يحاول الشيطان أن يخايله ليصرفه عن الصلاة والطاعة؛ لأن الشيطان يتلصص على دين الإنسان، فهو كاللص، واللص لا يحوم حول بيت خرب.
إنما يحوم اللص حول بيت عامر بالخير.

 

إننا نلاحظ هذه المسألة في كل الناس حينما يأتون للصلاة فيقول الواحد منهم: حينما أصلي يأتي له الوسواس، ويشككني في الصلاة، نقول له: نعم هذا صحيح، وحين يأتي لك هذا الوسواس فاعتبره ظاهرة صحية في الإيمان؛ لأن معناه أن الشيطان عارف أن عملك مقبول، ولذلك يحاول أن يفسد عليك الطاعة؛ لأنك لو كنت فاسداً من البداية، ووقفت للصلاة دون وضوء لما جاءك الوسواس. لكن الشيطان يريد أن يفسد عليك الطاعة ولذلك يقول الله: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله...} [الأعراف: 200].
لماذا؟. لأن الله خلقك وخلقه، وإن كنت لا تستطيع دفعه لأنه يجري منك مجري الدم في العروق وينفذ إليك بالخواطر والمواجيد التي لا تضبطها؛ ويأتي إليك بمهام الأشياء في وقت الصلاة؛ فتتذكر الأشياء التي لم تكن تتذكرها، ويأتي لك بأعقد المسائل وأنت تصلي؛ وكل ذلك لأنه قال:
{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم}، ولم يقل إنه سيقعد على الطريق المنحرف، ولن يجلس الشيطان في مجلس خمر، لكنه يقعد على أبواب المساجد أو في المساجد ليفسد للناس أعمالهم الصالحة. فماذا نفعل في هذه الحال؟. يدلنا الحق سبحانه أن نستعيذ: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله}
فمعنى {فاستعذ} أي فالتجئ منه إلى الله؛ لإن الله الذي أعطاه الخاصية في أن يتغلغل فيك، وفي دمك، وفي خواطرك، هو القادرعلى منعه، وحين تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بفزع والتجاء إليه- سبحانه- فإنه- جل شأنه- ينقذك منه. وإن كنت تقرأ القرآن ثم جاء لك الخاطر من الشيطان فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فإذا قلت هذا فكأنك نبهته إلى أنك أدركت من أين جاءت هذه النزغة: مرة واثنتين وثلاثاً، فيقول الشيطان لنفسه: إن هذا المؤمن حاذق فطن وحذر لا أستطيع غوايته، ولأبحث عن غيره.

 

ولذلك رأينا الإمام أبا حنيفة، وقد شهرَ عنه الفتيا، وذهب إليه سائل يقول: ضاع مني مال في أرض كنت قد دفنته فيها، ولا أعرف الآن مكانه. دلني عليه أيها الشيخ؟. وبطبيعة الحال كان هذا السؤال في غير العلم، فقال أبو حنيفة: يا بني ليس في ذلك شيء من العلم، ولكني احتال لك؛ إذا جاء الليل فقم بين يدي ربك مصليا هذه الليلة، لعل الله سبحانه وتعالى يبعث لك جنداً من جنوده يقول لك عن مكان مالك.
وبينما أبو حنيفة يؤدي صلاة الفجر، وإذا بالرجل يقبل ضاحكاً مبتسماً قائلا: يا إمام لقد وجدت المال، فضحك أبو حنيفة، وقال: والله لقد علمت أن الشيطان لا يدعك تتم ليلتك مع ربك، وسيأتي ليُخبرك، فهلاّ أتممتها شكراً لله، هيا قم إلى الصلاة.
إذن فقد عرف الشيطان كيف يقعد: وكيف يقسم، لأنه في آية أخرى يقول: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].
لقد استطاع أن يأتي بالقسم الذي يعينه على مهمته؛ فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ} أي بامتناعك عن خلقك وعدم حاجتك إليهم فأنت الغالب الذي لا يقهر؛ لأنك إن أردتهم ما استطعتُ أن آخذهم، لكنك شئت لكل إنسان أن يختار: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
فأقسم، ومن هذا الباب يدخل الشيطان على الإِنسان: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
واستدرك على نفسه أيضاً وقال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83].
لأن الذي يريده الله مهديًّا لا يستطيع الشيطان أن يغويه؛ لأنه لا يناهض ربنا ولا يقاومه، إنما يناهض خلق الله، ولا يدخل مع ربنا في معركة، إنما يدخل مع خلقه في معركة ليس له فيه حجة ولا قوة؛ لأن الذي يغلب في المعارك إما أن يرغمك على الفعل، وإما أن يقنعك لتفعل أنت بدون إرغام. وهل يملك إبليس واحدة من هذه؟. لا، ولذلك سيأتي في الآخرة يقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي...} [إبراهيم: 22].
والسلطان قسمان: سلطان يقهر، وسلطان يقنع. والشيطان يدخل على الإِنسان من هذه الأبواب.

 

image.png.50528c472bbf974ee805918b94e9a163.png

 

{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}
 

فالذي بين اليد هو ما كان إلى الإمام، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي من الوراء، {وعَنْ أَيْمَانِهِمْ} أي من جهة اليمين، {وعَن شَمَآئِلِهِمْ} أي من جهة اليسار.

والشيء الذي أمام العالم كله، ونسير إليه جميعاً هو {الدار الآخرة} وحين يأتي الشيطان من الأمام فهو يشككهم في حكاية الآخرة ويشككهم في البعث. ويحاول أن يجعل الإِنسان غير مقبل على منهج الله، فيصير من الذين لا يؤمنون بلقاء الله، ويشكّون في وجود دار أخرى سيُجَازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقد حدث ذلك ووجدنا من يقول القرآن بلسان حاله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} [الصافات: 16-17].
ولذلك يعرض الحق قضية البعث عرضاً لا يجعل للشيطان منفذاً فيها، فيوضح لنا أنه سبحانه لم يعجز عن خلقنا أولاً؛ لذلك لن يعجز عن إعادتنا، والإِعادة بالتأكيد أهون من البداية؛ لأنّه سيعيدهم من موجود، لكن البداية كانت من عدم، إنه- سبحانه- عندما يبيّن للناس أن الإِعادة أهون من البداية فهو يخاطبهم بما لا يجدون سبيلاً إلى إنكاره، وإلاّ فالله- جل شأنه- تستوي لدى طلاقة قدرته كل الأعمال فليس لديه شيء سهل وهيّن وآخر صعب وشاق ويبلغنا- سبحانه- بتمام إحاطة علمه فيقول: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4].
أي أن لكل واحدٍ كتاباً مكتوباً فيه كل عناصره وأجزائه.

 

والشيطان- أيضاً- يأتي من الخلف، وخلف كل واحد منا ذريته، يخاف ضيعتهم، فيوسوس الشيطان للبعض بالسرقة أو النهب أو الرشوة من أجل بقاء مستقبل الأبناء، وفساد أناس كثيرين يأتي من هذه الناحية، ومثل هذا الفساد يأتي حين يبلغ بعض الناس منصبًّا كبيراً، وقد كبرت سنّه، ويقبل على الله بشرّ، ويظن أنه يترك عياله بخير. لكن إن كنت تخاف عليهم حقًّا فأمِّن عليهم في يد ربهم، ولا تؤمِّن حياتهم في جهة ثانية. {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9].
 

ولماذا لم يأت الشيطان للإِنسان من فوق ومن تحت لأن الفوقية هي الجهة التي يلجأ إليها مستغيثا ومستجيرا بربه، والتحتية هي جهة العبودية الخاصة. فالعبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، فهو في هاتين الحالتين محفوظ من تسلط الشيطان عليه؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}.
ويقول تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].

 

ويأتي الشيطان من اليمين ليزهد الناس ويصرفهم عن عمل الحسن والطاعة. واليمين رمز العمل الحسن؛ لأن كاتب الحسنات على اليمين، وكاتب السيئات على الشمال، ويأتي عن شمائلهم ليغريهم بشهوات المعصية. ونلحظ أن الحق استخدم لفظ {عَنْ أَيْمَانِهِمْ} و{عَن شَمَآئِلِهِمْ} ولم يأت ب (على) لأن (على) فيها استعلاء، والشيطان ليس له استعلاء أبداً؛ لأنه لا يملك قوة القهر فيمنع، ولا قوة الحجة فيقنع. ولأن أكثر الناس لا تتذكر شكر المنعم عليهم، فيجيد الشيطان غوايتهم. ولذلك يقول الحق تذييلاً للآية: {... وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].

image.png.46f2a3c035422ffe86c90e21e77c5553.png

 

{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}
لقد بلغ الغرور بالشيطان أن تخيّل أنه ذكي، فشرح لنا خطته ومنهجه فدلل لنا على أن حكم الله فيه قد نفذ بأن جعل كيده ضعيفاً، فسبحانه القائل: {... إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76].
لقد نبهنا الحق لكيد الشيطان وغروره، والناصح هو من يحتاط، ويأخذ المناعة ضد النزغ الشيطاني. وهنا يقول الحق: {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً...} [الأعراف: 18].
وقال له الحق من قبل: {قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} [الأعراف: 13].
إذن فهناك هبوط وخروج بصَغار ومجاوزة المكان، ثم هنا أيضاً تأكيد بأنه في حالة الخروج سيكون مصاحباً للذم والصغار والطرد واللعن. ويقول الحق سبحانه: {... لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18].
وفي هذا اخبار لمن يتبعون الشيطان بأنهم أهل لجهنم، ولم يعدَّها سبحانه لتسع الكافرين فقط، لكنه أعدّها على أساس أن كل الخلق قد يكفرون به سبحانه، كما أعدّ الجنة على أساس أن الخلق جميعاً يؤمنون به؛ فليس عنده ضيق مكان، وإن آمن الخلق جميعاً؛ فإنه- جل شأنه- قد أعد الجنة لاستقبالهم جميعاً، وإن كفروا جميعاً فقد أعدّ النار لهم جميعاً؛ تأكيداً لقوله الحق: {أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10-11].
وقوله الحق: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].
وبهذا نكون قد شرحنا مسألة إبليس الذي امتنع عن طاعة أمر الآمر الأعلى بالسجود لآدم.

 

نداء الايمان

image.png.dde53fd0654514dcd5668c4cab9a45ce.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)}
ويعاود القرآن الحديث عن آدم بعد تناول مسألة إبليس فيقول: {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة}.
كثير من العلماء تواتر نقل العلم عندهم إلى أن الجنة هي جنة الآخرة والخلود، واعترض البعض متسائلين: كيف يدخل إبليس جنة الخلود؟. وكيف يخرج منها؟. وهل الذي يدخل الجنة يخرج منها؟.

وهؤلاء العلماء الذي قالوا: إن الجنة هي جنة الآخرة، لم يفطنوا إلى مدلول كلمة (جنة)؛ فساعة تطلق كلمة جنة، تأخذ ما يسمى في اللغة (غلبة الاستعمال)، أي تأخذ اللفظ من معانيه المتعددة إلى معنى واحد يستقل به عرفاً، بحيث إذا سُمع انصرف الذهن إليه، فأنت إذا سمعت يا مؤمن كلمة الجنة ينصرف ذهنك إلى جنة الآخرة؛ لأنها هي التي تُعتبر جنة بحق، لكن حينما يأتي اللفظ في القرآن والمتكلم هو الله، فلابد أولاً أن ندرس اللفظ واستعمالاته في اللغة؛ لأن القرآن جاء بلسان عربي مبين، فمن الجائز أن يوجد اللفظ في اللغة وله معانٍ متعددة. وعندما يتعلق الأمر بالدين والفقه فإننا نأخذ اللفظ من معناه اللغوي، ونجعله ينصرف إلى المعنى الشرعي الاصطلاحي.
 

مثال ذلك كلمة (الحج) فأنت ساعة تسمع كلمة (الحج) تقول: هو قصد بيت الله الحرام للنسك والعبادة في أشهر معلومة، على الرغم من أن (الحج) في اللغة هو القصد، فإذا قصدت أي شيء تقول: حججت إليه. فلما جاء الإسلام أخذ هذا اللفظ من اللغة واستعمله في الحج بالمعنى الشرعي، وهو قصد البيت الحرام للنسك، وكذلك كلمة (الصلاة) إنها في اللغة الدعاء، فقوله تعالى: {وصلِّ عليهم} أي ادع لهم، ولما جاء الإسلام أخذ الكلمة من اللغة، وجعلها تطلق على معنى اصطلاحي جديد بحيث إذا أطلق انصرفت إليه، وهي الأقوال والأفعال المخصوصة، المبدوءة بالتكبير المختومة بالتسليم بشرائطها الخاصة.
 

ولكن هل معنى أننا أخذنا اللفظ من اللغة وجعل له الشرع معنىً اصطلاحيًّا أن هذا يكون تركاً لمعناه الأصلي؟. لا؛ لأنك إن أردت أن تستعمله في معناه الأصلي فلك ذلك، ولكنك تحتاج إلى قرينة تدل على أنك لا تريد الصلاة الشرعية لأن كلمة (صلاة) أصبحت هي الصلوات الخمس المعروفة لنا، مع أن معناها الأصلي كان الدعاء،

وهذا هو ما جعل العلماء يذهبون إلى أن كلمة (الجنة) ساعة تُطلق ينصرف الذهن إلى جنة الخلود. ونقول: المعنى اللغوي للجنة أنها المكان الذي فيه أشجار غزيرة ومتنوعة، أما غزارتها وعلوها فتستر الإِنسان وتُجِنّه عن كل ما حوله، وأما ما فيها من الثمار والضروريات والكماليات فلأنها تستر الإِنسان عن خارجها ويكتفي بأن يكون فيها، والقرآن لم يجيء بالجنة بمعنى جنة الخلد فقط، بل يقول أيضاً: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266].
وكذلك يقول سبحانه: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} [الكهف: 32].
وقوله الحق: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15].

 

وأقول: إن علينا أن نبحث في آفاق مرادات الله حين يُعْلمنا من لدنه ويقفنا على المعنى المراد، إننا نعلم أن أول بلاغ نزل من الله بخصوص آدم أخبرنا فيه أنه قد خلق آدم خليفة في الأرض: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً...} [البقرة: 30].
إذن فآدم مخلوق للأرض، ولا تظلموا آدم وتقولوا إنه مخلوق للجنة، وكنا سنعيش فيها لكنه عصى وأنزلنا إلى الأرض. لذلك نقول: لا، وعلينا أن نتذكر أن أول بلاغ من الله عن آدم أنه جعله في الأرض خليفة. والذي كان يجب أن نسأل عنه: ما دام قد جعله الله خلفية في الأرض فما الذي جاء بحكاية الجنة هذه؟!
لقد خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض، وكان عليه أن يتلقى من الله التكاليف محصورة في (افعل) و(لا تفعل)؛ لأنك إن لم تمتثل سيظهر الفساد في المجتمع، أما الذي لا يظهر منه فساد فسبحانه يتركه مباحاً؛ لذلك فكل ما لم يرد فيه (افعل) و(لا تفعل) لا يفسد به المجتمع. إذن ف (افعل) و(لا تفعل) هي مقياس ضمان الصلاح في الأرض.

 

وهل خلق الله الإِنسان هكذا بدون منغصات تفسد عليه منهج الله؟. لا، فمادام الشيطان قد وقف هذا الموقف مع آدم، وقال أنا سأغوي؛ فسيزين لك في (افعل)، و(لا تفعل) ويأتيك الأمر بالصلاة فينزغك الشيطان حتى لا تصلي. ويأتيك الأمر ألا تشرب الخمر فيزين لك الشيطان أن تشربها، ويحاول أن ينقل مجال (افعل) إلى مجال (لا تفعل)، وكذلك يحاول أن يزين لك (أن تفعل) ما هو في مجال (لا تفعل) فترتبك حركتك.
إ

ن الحق سبحانه يريد منهجاً يحكم حركة الحياة، ويضمن للخلافة في الأرض أن تؤدي مهمتها أداءً يسعد الإِنسان فيها في الدنيا وينعم في الآخرة؛ لذلك كان لابد أن يدرب الحق سبحانه خليفته في الأرض على المنهج؛ حتى لا يتلقى المنهج تلقيًّا نظريًّا، لذلك شاء الحق سبحانه وتعالى ألاّ يجعل آدم يباشر مهمة الخلافة إلا بعد أن يعطيه تدريباً على المهمة في (افعل) و(لا تفعل). وحذره من العقبات التي تعترض (افعل)؛ حتى لا تجيء في منطقة (لا تفعل)، وكذلك من العقبات في منطقة (لا تفعل) حتى لا تجيء في منطقة (افعل)، واختار له مكاناً فيه كل مقومات الحياة وترفها حتى لا يتعب في أي شيء أبداً في أثناء التدريب، وأوضح له أن هذه هي الجنة وهي بستان جميل وفيه كل مقومات الحياة وترفها، وأمره: كُلْ من كل شيء فيها، ولكن لا تقرب هذه الشجرة.
(كل) هذا هو الأمر، و(لا تقرب) هذا هو النهي. وأوضح سبحانه لآدم أن الذي سيعكر عليه تطبيق منهج الله هو العدو الذي ثبتت عداوته إنّه (إبليس)؛ لأنه حين امتنع عن السجود لآدم تلقى الطرد واللعنة فأقسم وقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].

 

كأن الحق سبحانه وتعالى جعل الجنة كمكان فيه كل مقومات الحياة لآدم بصنع الله- سبحانه- وإعداده، وأعطى له منها القدر الذي يعطي المقوم فلا فضلات تتعبه، ولا ينفخ ولا يعاني من متاعب في الصحة... إلخ؛ لأنه سبحانه يعطي لآدم القدر المقوم. وسبحانه قادر على كل شيء بدليل أنه يرعى الجنين في بطن أمه، والجنين ينمو، والنمو معناه أنه يتلقى الغذاء، ولا يخرج منه فضلات؛ لأن الغذاء الذي يدخله الله له على قدر النمو فقط، وحين يكون ربنا هو الذي يمد جنة التدريب بالغذاء، فهو قادر على كامل الإِعداد.
 

إذن فالجنة التي وُجد فيها آدم بداية ليست هي جنة الجزاء؛ لأن جنة الجزاء لابد أن تأتي بعد التكليف. ولا يمكن أن يكون فيها تكليف، ومن يسكنها لا يخرج منها. وآدم- كما علمنا- مخلوق للأرض، إذن وجود الجنة هنا يعني أنها مكان التدريب على المهمة في الخلافة أمراً متمثلاً في {فَكُلاَ}، ونهياً متمثلاً في {وَلاَ تَقْرَبَا}،

لم يقل لهما: لا تأكلا، بل قال: {وَلاَ تَقْرَبَا} لأن القِربان مظنة أنه يؤدي إلى الغواية ويدفع إليها. وهو قد أكل منها لأنه جاء ناحيتها واقترب منها، ولو كان قد استمع ولم يقرب لما أكل منها.
فكأن الله جعل لآدم في جنة التدريب والتمرين رمزين: الرمز الأول: ل (افعل)، والرمز الثاني: ل (لا تفعل)، ونجد أن الذي نهى الله عنه قليل بالنسبة لما أباحه وأمر به. وهذا من رحمة الله بالعباد، فيفعل المؤمن ما يؤمر به، ولا يحوم حول ما حرمه الله؛ لأنه لا يأمن حين يرى ما حرم الله أن تميل نفسه إليه، ولذلك قال: {وَلاَ تَقْرَبَا} فلو أنهما لم يقربا ما كانت الشجرة تغريهما بأي منظر. ولذلك في كثير من الأشياء التي يحرمها الحق سبحانه وتعالى وفي قمتها ما يصون ويحفظ العقيدة الأساسية، يقول بعدم الاقتراب أو الاجتناب، فسبحانه هو القائل: {... فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور} [الحج: 30].
ولم يقل: (لا تعبدوا الأوثان)، بل قال: (فاجتنبوا)، والشأن في (الخمر) أيضاً جاء بالاجتناب. لكنّ بعضاً من السطحيين يقولون: لم يرد في الخمر تحريم بل قال بالاجتناب، ونقول: الاجتناب أقوى من المنع ومن التحريم، لأن غاية التحريم أن يمنعك من شرب الخمر. لكن الاجتناب يقتضي ألا تذهب ناحيتها، ولا تقعد في المكان الذي توجد فيه، ولا تعصرها ولا تحملها. {... وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} [الأعراف: 19].
والظلم هو تجاوز الحد أو إعطاء الشخص غير حقه، ويوضح سبحانه: أنا لم أجعل لكما حقا في أن تقربا ناحية هذه الشجرة، فإن قربها أي منكما، فهو قد خالف ما شرعته لكما، {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} اي لا تدخلا في اطار من يظلمون أنفسهم لأن الله لا يظلم أحداً، وأنت تظلم نفسك لأنك تعطي نفسك شهوة قليلة في زمن يسير، وبعد ذلك تأخذ عقابها عذاباً أليماً في زمن طويل وبشكل أشد. وهذا ظلم لنفسك، كما أنه دليل على أنك غير مأمون عليها.

 

image.png.a7a66f59751d97d2abadec97efc2c8c0.png

 

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)}
كلمة (وسوس) تدل على الهمس في الإغواء، ونعرف أن الذي يتكلم في خير لا يهمه أن يسمعه الناس. لكن من يتكلم في شرّ فيهمس خوفاً من أن يفضحه أحد، وكأن كل شر لابد أن يأتي همساً، وصاحبه يعرف أن هذا الكلام لا يصح أن يحدث، ويستحي منه، ولا يحب أن يعرف المجتمع عنه هذا الشيء، و(وسوس) مأخوذة من الصوت المغري، لأن الوسوسة هي صوت رنين الذهب والحلي، إذن فما قاله الشيطان لآدم وزوجه هو كلام مغرٍ ليلفتهما عن أوامر رب حكيم.
وقوله الحق: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا} يعطينا حيثيات البراءة لحواء؛ لأن الشائع أن حواء هي التي ألحت على آدم ليأكلا من الشجرة، وكثير منا يظلم حواء على الرغم من أن القرآن يؤكد أن الوسوسة كانت لآدم وحواء معاً. {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا}.[الأعراف: 20].
وهل وسوس الشيطان لهما ليبدي لهما ما ووري من سوءاتهما، أو وسوس ليعصيا الله؟. لقد وسوس ليعصيا الله، وكان يعلم أن هناك عقوبة على المعصية، ويعلم أنهما حين يأكلان من الشيء الذي حرمه ربنا ستظهر سواءتهما، و(السوءة) هي ما يسوء النظر إليه، ونطلقها على العورة، والفطرة تستنكف أن يرى الإِنسان المكتمل الإِنسانية السوءة. وكأنهما في البداية لم ير أحدهما سوءة الآخر أو سوءة نفسه لأن الحق يقول: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا}.

 

والسوءات أربع: اثنتان للرجل واثنتان للمرأة، فكأن كل إنسان منهما لا يرى سوءتيه، وكذلك لا يرى سوءتي الآخر، لأن السوءات كلها لها ما يخفيها عن الرؤية، وهذا كلام معقول جداً. ألم تقل سيدتنا أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-: (ما رأيت ولا أرى مني)، وفي هذا القول تتجلّى قمة الأدب لأنها لم تجيء حتى باللفظ، لأن العضو مادام سوءة فهو مبني على الستر. وذلك حين حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} تعجبت السيدة عائشة فقال لها: (الأمر أخطر من أن ينظر أحد إلى أحد). {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 20].
 

وبماذا ووري؟ لابد أن هناك لباساً كان على كل منهما، وقال العلماء الكثير عن هذا اللباس، فمن قائل: إن أظافر الإِنسان هي بقية اللباس الذي كان موجوداً عند آدم وحواء، وهو ما كان يواري السوءات، ويقال: إنّ أيّ إنسان يكون في غاية الضحك والانبساط، ويريد أن يكتم نَفْسه، ويمنعها ويحول بينها وبين الضحك إنه يحدث له ذلك لو نظر إلى أظافره، عندئذ لا يمكنه أن يضحك لأنها بقية لحظة الندم على كشف السوءة.
وجرّبها في نفسك، تجد نفسك قد منعت من الضحك، وهذا من عمل الإِله.
أو أن الستار الذي كان يواري السوءة هو النور الإِلهي الذي كان يلفهما، والنور الساطع جداً حين يلف لا يبين، صحيح أنك بالنور ترى الأشياء، لكنه إن اشتد عمَّى على الأشياء فأخفاها فلا تراها؛ لأن أي أمر إذا زاد على حدّه انقلب إلى ضده، فإما أن يكون الثوب الأظافر، وإما أن يكون النور الإِلهي الذي كان يغشاهما ويواري السوءة، وقد سميت (سوءة) و(عورة)، لأنها تسوء، فلماذا تسوء؟ وما الفرق بين فتحتين: فتحة في الفم، وفتحة في العورة؟.

 

إن فتحة العورة سوءة باعتبار ما يخرج منها. وحينما كانا يأكلان من إعداد ربنا لم يكونا- كما قلنا- في حاجة إلى إخراج فضلات؛ لأن إعداد الله يعطي كُلاًّ منهما على القدر الكافي للحركة والفعل، وكانت المسألة مجرد فتحات مثل بعضها. لكن حينما يخرجان عن مرادات الله في الطعام، ويأكلان غير ما أمر الله به، ويمارسان اختيار الطعام بدأت الفضلات في الخروج بما لها من رائحة غير مقبولة، فهل ظهور السوءة لهما هو رمز إلى أن هناك مخالفة لمنهج الله سواء أكان ذلك في القيم والمعنويات أم في الأمور المادية؟
نعم؛ لأن كل شيء يُخَالَف فيه منهج الله لابد أن تبدو فيه العورة، وإن رأيت أي عورة في المجتمع فاعلم أن منهجاً من مناهج الله قد عطل. وينقل القرآن ما قاله لهما الشيطان من وسوسة: {وقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20].

 

لقد همس الشيطان وأوحى لهما بأن الحق: أراد ألا تقربا هذه الشجرة لأن من يأكل منها يصير مَلَكاً، أو خالداً. ولم يمحص أي منهما كلمات الشيطان ليعرف أن كيده كان ضعيفاً واهياً وغبياً؛ لأنه مادام قد عرف أن من يأكل من هذه الشجرة يصير ملكاً أو يبقى من الخالدين فلماذا لم يخطف منها ما يجعله مَلَكاً أو خالداً؟ وفي هذا درس يبين لنا أن مَن يُزَيّن له ويتصدى له أحد بالإِغواء يجب عليه أن يمحص إلى أي غواية يسير، وأن يدقق في نتائج ما سوف يفعل.
وإذا كان الشيطان قد قال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14].
فلماذا لم ينقذ نفسه بالأكل من هذه الشجرة وتنتهي المسألة؟. إذن كان ما يقوله الشيطان كذباً.

 

image.png.4e6c05f2a339eb478c38770139dcf57f.png


{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)}
(قاسم) مادة فاعل، تأتي للمشاركة، أي أن هناك طرفين اثنين، كل منهما فاعل في ناحية ومفعول في ناحية أخرى، مثل شارك زيد عمراً، وهي تعني أيضاً أن عمراً شارك زيداً، وهكذا تكون مادة فاعل وتفاعل، فكل منهما فاعل من جهة ومفعول من جهة. وفي المعنى نجد الاثنين فاعلاً ومفعولا، إذن (قاسم) تحتاج إلى عمليتين اثنتين.. فهل جلس إبليس يقسم لآدم ولزوجته، وهما يقسمان؟. ونقول: لا؛ لأنها تأتي مرة لغير المفاعلة، أو للمفاعلة اللزومية، والمفاعلة اللزومية تتضح في قوله الحق: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ...} [الأعراف: 142].
وواعدنا، مثلها مثل فاعل، من الذي واعد؟. إنه الله الذي وعد موسى عليه السلام، ودخل موسى في الوعد بقبوله الوعد وتوفيته به.
إذن (قاسمهما) أي قبلا القسم ودخلا فيه. {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21].
و(قاسم)، أي أقسم، ولذلك حينما عاتب ربنا سيدنا آدم أوضح سبحانه: أنا قلت إنه عدو لك ولزوجك، ولسوف يخرجنكما من الجنة لتتعب وتشقى، فقال آدم: يا ربي ما كنت أعتقد أن خلقاً من خلقك يقسم بك على الباطل. ولم يأتي على البال أن خلقاً يقسم بالله على الباطل. وكانت هذه أول خديعة في الخلق. ولذلك نجد قتادة- رضي الله عنه- يقول: (المؤمن بالله يُخدع).

 

والنبي عليه الصلاة والسلام عقد على امرأة ودخلت به، ومن كيد النساء وهن زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم وقد خفن أن يشغف بها حُبًّا، فقلن لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحب هذه الكلمة، فإذا دخل عليك فقوليها!، قولي: أعوذ بالله منك ، ولحظة أن دخل عليها سيدنا رسول الله، قالت له: أعوذ بالله منك. فقال لها: (استعذت بمعاذ). ولم يقربها الرسول، وهذا ما يشرح لنا كيف يُخدع المؤمن بالله. وها هو ذا سيدنا عبد الله بن عمر كان يعتق من العبيد من يحسن الصلاة ويتقنها ويؤديها في مواعيدها، ويقف فيها خاشعاً، وحين عرف العبيد ذلك احترفوا إقامة الصلاة أمام المكان الذي يجلس فيه وكانوا يؤدونها بخشوع، وكان رضي الله عنه يعتقهم، وذهب له من يقول: إن العبيد يخدعونك، فيقول: من خدعنا بالله، انخدعنا له.
والنصح هنا: إغراء بمخالفة أمر الله، وكان يجب ألا تكون هناك غفلة من آدم، وكان لابد أن يقارن بين الأمرين، بين غواية الشيطان له بالأكل، وبين أمر الحق سبحانه الذي قال له ولزوجه: لا تقربا. لكنه لم يفعل.

image.png.7d56fa13a4cb8b643adfd86fa77cc6c3.png

{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)}
{فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} أي فأنزلهما من رتبة الطاعة إلى درك المعصية والذنب مما غرهما وخدعهما من القسم. و(دلاّ) مأخوذة من دلّى رجليه في البئر كي يرى إن كان فيه ماء أم لا، أو دلَّى جبل الدلو لينزله في البئر، ومعناها: أنه يفعل الشيء مرة فمرة، و(بغرور) أي بإغراء لكي يوقعهما في المخالفة، فأظهر لهما النصح وأبطن لهما الغش.
وهنا وقفة تدل على الاصطراع بين الحق والباطل في النفس، {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة} هذا يدل على أنهما بمجرد المذاق تذكرا أن النزغ من إبليس جعلهما يذهبان إلى الشجرة. وأن ما أخذاه فقط كان مجرد المذاق، فتنبه كلاهما إلى جسامة الأمر. {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} [الأعراف: 22].
و(الخصف) أي تأتي بشيء وتلزقه على شيء لتداري شيئاً. وقديماً حينما كان يبلى نعل الحذاء، ويظهر به خرق فالإِسكافي يضع عليه رقعة من الجلد تكون أوسع من الخرق حتى تتمكن منه.

 

وهكذا فعل آدم وحواء؛ أخذا من ورق الجنة ووضعا ورقة على ورقة ليداريا السوءة. وقوله الحق: {وَطَفِقَا} يعني وجعلا من ورق الشجر غطاء للسوءات.
وهنا يقول الحق: {... وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 22].
لقد كان التكليف هنا في أمر واحد، والإِباحة في أمور متعددة، وسبحانه لم يكلفهما إلا بأمر واحد هو عدم الاقتراب من الشجرة، والمباح كان كثيراً؛ لذلك لم يكن من اللائق أن يتولى عن التكليف. ولم يكن هذا التكليف بالواسطة ولكن كان بالمباشرة، ولذلك سينفعنا هذا الموقف في الفهم في لقطة للقصة في سورة غير هذه وهو قوله الحق: {... وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121].
ولم يأت الحق هنا بسيرة المعصية، وقال لهما: {... أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 22].

 

وسبحانه لا يجرم إلا بنص، وسبق أن قال سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} وأوضح: أن هناك عنصراً إغوائياً هو إبليس وعداوته مسبقة في أنه امتنع عن السجود، وقد طرده الحق لهذا السبب. إذن إنْ آخذهما وعاقبهما الله بهذا الذنب فهو العادل، وهما اللذان ظلما أنفسهما. وكان لابد أن يكون الجواب: نعم يا رب نهيتنا، وقلت لنا ذلك. وهذا إيراد للحكم بأقوى الأدلة عليه؛ لأن الحكم قد يأتي بالإِخبار، وقد يأتي بالاستفهام بالإِيجاب، ويكون أقوى لو جاء بالاستفهام بالنفي. {... إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 22].
ونحن نعلم أن العدو هو الخصم الذي يريد إلحاق الضرر والإيذاء بك، و(مبين) أي محيط، وهذا دليل يظهر عداوة الشيطان وإحاطتها؛ لأنه قد سبق أن أوضح أنه سيأتي من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. أو بيَّن العداوة وشديد الخصومة.
ويأتي الإقرار بالذنب من آدم وحواء: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ...}.

image.png.7f589f8c0e377ce1fe843d9f0545562a.png


{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}
وتلك هي الكلمات التي قال الله عنها في سياق آخر: {فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} [البقرة: 37].
فكأن الحق سبحانه وتعالى قدَّر غفلة خلقه عن المنهج؛ فشرّع لهم وسائل التوبة إليه، ووسائل التوبة ثلاث مراحل: تشريعها رحمة، ثم الإقبال عليها من المذنب اعترافا وإنابة، وقبولها منه سبحانه رحمة، فالتشريع يطلب منك أن تفعل، وحين تتوب يتوب الله عليك.
تشريع التوبة- إذن رحمة، لا بالمذنب فقط، بل وبغيره أيضاً؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة، كان الذي يعمل معصية، ولايجد مغفرة، يستشري في المعاصي، وإذا استشرى في المعاصي تعب المجتمع كله. {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23].
وهذا هو الموقف بعد الذنب من آدم وزوجته، وهو يختلف عن موقف إبليس بعد الذنب؛ فإبليس أراد أن يبرر المخالفة: {... قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61].
فماذا قال آدم وحواء؟: {... رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23].

 

ولذلك كان جزاء إبليس- وهو المتأبي على أوامر الله وحكمه- أن يطرد من رحمته. وجزاء المعترف بأنه أذنب، وأنه ظلم نفسه أن تُقبل توبته. إذن لا يصح للناس الذين يقيمون على معصية أن يقول الواحد منهم: (هذه هي ظروفي)، ويبرر ويحلل ما يفعله من المعاصي، بل على الواحد منهم ألا يطرد نفسه بنفسه من منطقة الرحمة، وعليه أن يقول: (ما أفعله، حرام، لكن لا أقدر على نفسي) وبذلك لا يكون قد ردّ الحكم، بل اتهم نفسه بالتقصير واعترف بالذنب، فصار أهلاً للمغفرة وأهلاً للتوبة.
وهنا نسأل: ما الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم؟. نقول: إبليس عصى وجاء بحيثية رفض الأمر، لكن آدم عصى وأقر بالذنب وطلب المغفرة.
وحين قال آدم وزوجته حواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} معاً وفي نَفَس واحد، ونغمة حزينة نادمة، ألا يدل ذلك على أنهما قد تعلماها؟. إن كلا منهما لو اعتذر لله بمفرده لاختلفا في أسلوب الاعتذار.
وهذا دليل على أنها ملقنة، ولهذا قال ربنا. {فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ...} [البقرة: 37].
وهما قد قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا}، وأنفسنا جمع نَفْس، ولم يقولا (نفسينا)، بل قالا {أَنفُسَنَا} أي أن قلبيهما أيضاً قد صفيا وخلصا من أثر تلك المعصية، وأن ذلك مطمور وداخل في نفوس ذريتهما.

 

image.png.943c99e5d3029de64918060385d8ac8e.png

{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)}
ونلتفت لنجد أن هناك أمراً قد يسبق لإِبليس بالهبوط، وهنا أمر آخر بالهبوط، وبالله لو كانت جنة الخلود هي محل إقامتهما، وآدم مخلوق لها ثم عصى ثم تاب لما خرجا منها أبداً. لكنه سبحانه أمر آدم بأن يهبط إلى الأرض التي جعله خليفة فيها، ليباشر مهمة الخلافة في إطار التجربة التي وقعت له، وعليه أن يحترم أمر الله في كل تكليف، وأن يحترم نهي الله في كل تكليف، وليحذر عداوة الشيطان فإنه سيوسوس له. وقد جرب ذلك بنفسه، فلينزل مزوداً بالتجربة، وليس له عذر من بعد ذلك. {قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}.
والأمر هنا للجماعة؛ ولم يقل لهما اهبطا. وفي آية ثانية قال: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً...} [طه: 123].
وذلك لنعرف أن ورود القصة في أماكن متعددة جاء لتعطي لقطات كثيرة. والأمر هنا جاء بقوله: {اهبطوا} لأن الهبوط اشترك فيه الثلاثة؛ آدم وحواء، وإبليس.. والعداوة مسبقة ولا ندعيها. العداوة بين طرفين: اثنان في طرف هما آدم وحواء، وواحد في طرف هو إبليس.

ويريد الحق لنا بيان الحقائق وأن المتكلم إله، إنّ كل حرف عنده بميزان؛ ولذلك نجده سبحانه يقول لنا: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن...} [النساء: 82].
أي إياك أن تأخذ واجهة النص، ولكن ابحث في خلفيات النص، ولا تأخذ واجهة اللفظ، بل انظر إلى ما وراء الألفاظ. {قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} [الأعراف: 24].
وكلمة (عدو) تعني وجود صراع، ومعارك سوف تقوم بين أولاد آدم بعضهم مع بعض، أو تقع العداوة بينهم وبين أعدائهم من سكان الأرض من جن وغيرهم، لكنها لمدة محدودة، ولذلك قال: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}.
أي أن لكم استقراراً في الأرض ومتاعاً إلى حين. وصراع صاحب الحق في الحق يجب أن يأخذه على أنه متاع في الدنيا ولا يأخذه على أنه معركة بلا جزاء، لا، فأنت تجاهد وتأخذ جزاء كبيراً على الجهاد وهذا متاع.

image.png.b777e935ea0e53bc930ddbbf3d3d80d7.png

{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)}
كأنه قال: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} فأحب أن يعطينا الصور لرحلة الحياة، ويرسم لنا علاقتنا بالأرض التي قال فيها: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً...} [البقرة: 30].
فقد ربطنا بالأرض. إيجاداً من طينها، ومتعة بما فيها من ميزات، وخيرات وثمرات، ثم نموت لنعود لها ونبعث من بعد ذلك. فالإِنسان منا من الأرض، منها يحيا وفيها يموت، ويذهب إلى أصله ومرجعه، إلى الأم الأرض، فهي تكفته وتضمه وتأخذه في حضنها فهي الحانية عليه وبخاصة في وقت ضعفه. وساعة ما يكون الإِنسان في حالته الطيبة، وله أخ حالته عكس ذلك فإن قلب الأم إنما يكون مع الضعيف، ومع المريض، ومع الصغير.

 

والأرض هي التي تأخذ كل البشر، تأخذ الإِنسان وتمص منه الأذى، وتداري رائحته، أمّا أحبابه في الدنيا وإخوانه، فقد سارعوا بمواراته التراب تفادياً لرحلة التحلل. وبمجرد أن يموت الإنسان، أول ما يُنْسىَ هو اسمه؛ فيقولون: (أين الجثة)، ولا يقولون: (أين فلان). وبعد الكفن يوضع الجثمان في النعش، ليوارى في التراب ويدمدم اللحاد عليه برجليه.
وينتقل الحق بعد ذلك بالخطاب إلى أبناء آدم فيقول: {يابني ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا...}

 

نداء الايمان

image.png.447db8e477ea1e4cc6e550bd343958bd.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)}
وكلمة {يابني ءَادَمَ} لفت إلى أن تتذكروا ماضي أبيكم مع عدوكم المبين، إبليس، أنتم أولاد آدم، والشيطان موجود، فانتبهوا. لقد أنزل الحق عليكم لباسا يواري سوءاتكم؛ لأن أول مخالفة حدثت كشفت السوءة، والإنزال يقتضي جهة علو لنفهم أن كل خير في الأرض يهبط مدده من السماء، وسبحانه هو من أنزل اللباس لأنه هو الذي أنزل المطر، والمطر روى بذور النبات فخرجت النباتات التي غزلناها فصارت ملابس، وكأنك لو نسبت كل خير لوجدته هابطا من السماء. ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على عباده فيقول: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ...} [الزمر: 6].
نعم هو الذي أنزل من الأنعام أيضاً لأن السببية في النبات من مرحلة أولى، والسببية في الحيوان من مرحلة ثانية، فهو الذي جعل النبات يخرج من الأرض ليتغذى عليه الحيوان، ويقول سبحانه أيضاً: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ...} [الحديد: 25].
نعم فسبحانه هو من أنزل الحديد أيضاً؛ لأننا نأخذه من الأرض التي خلقها الله، وهذا دليل على أن التنزيلات إنما أراد الله أن يحمي بها كل منهج.

 

{يابني ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ...} [الأعراف: 26].
فإذا كنا قد أنزلنا اللباس يواري سوءات الحس وسوءات المادة، كذلك أنزلنا اللباس الذي يواري سوءات القيم. فكلما أنكم تحسّون وتدركون أن اللباس المادي يداري ويواري السوءة المادية الحسية فيجب أن تعلموا أيضاً أن اللباس الذي ينزله الله من القيم إنما يواري ويستر به سواءتكم المعنوية. ولباس الحياة المادية لم يقف عند موارة السوءات فقط، بل تعدى ذلك إلى ترف الحياة أيضاً. لذلك قال الحق: {... قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26].
والريش كساء الطير، وقديماً كانوا يأخذون ريش الطير ليزينوا به الملابس. وكانوا يضعون الريش على التيجان، وأخذ العوام هذه الكلمة وقالوا: فلان مريش أي لا يملك مقومات الحياة فقط، بل عنده ترف الحياة أيضاً، فكأن هذا القول الكريم قد جاء بمشروعية الترف شريطة أن يكون ذلك في حل. وقيل أن يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى مقومات الحياة لفتنا إلى الجمال في الحياة، فقال سبحانه: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً...} [النحل: 8].
والركوب لتجنب المشقة، والزينة من أجل الجَمَال.
وكذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق...} [الأعراف: 32].
بل سبحانه طلب زينتنا في اللقاء له في بيته فيقول: {يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ...} [الأعراف: 31].
إذن فهذا أمر بالزينة، وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ...} [الأعراف: 26].

 

نعم إن لباس التقوى خير من ذلك كله؛ لأن اللباس المادي يستر العورة المادية، وقصاراه أن يكون فيه مواراة وستر لفضوح الدنيا، لكن لباس التقوى يواري عنا فضوح الآخرة.
أو لباس التقوى هو الذي تتقون به أهوال الحروب؛ إنّه خير من لباس الزينة والرياش لأنكم تحمون به أنفسكم من القتل، أو ذلك اللباس- لباس التقوى- خير من اللباس المادي وهو من آيات الله، أي من عجائبه، وهو من الأشياء اللافتة؛ فالإِنسان منكم مكون من مادة لها احتياجات مادية وعورات مادية، وهناك أمور قيمية لا تنتظم الحياة إلا بها، وقد أعطاك الحق مقومات الحياة المادية، وزينة الحياة المادية، وأعطاك ما تحيا به في السلم والحرب، ومنهج التقوى يحقق لك كل هذه المزايا. فخذ الآيات مما تعلم ومما تحس لتستنبط منها ما يغيب عنك مما لا تحس.

 

image.png.2fd12b42035a707c94c9018d307e0d99.png

 

{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)}
قبل أن يطلب منا سبحانه ألا نفتتن بالشيطان، أوضح أنه قد رتب لنا كل مقومات الحياة، وعلينا أن نتذكر موقف الشيطان، من أبينا آدم وإِغواءه له.
والفتنة في الأصل هي الاختبار، وتُطلق- أحياناً- على الأثر السيء حيث تكون أشد من القتل، لكن هل يسقط الإِنسان في كل فتنة؟ لا؛ لأن الفتنة هي الاختبار، وفي الاختبار إما أن ينجح الإِنسان، وإمّا أن يرسب، فإن نجح أعطته الفتنة خيراً وإن رسب تعطه شرًّا.
وبعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى قصة خلق آدم، وأعلمنا أنه خلقه للخلافة في الأرض، وأن موضوع الجنة هو حلقة مقدمة لتلقي الخلافة؛ لأنه إذا ما أصبح خليفة في الأرض؛ فلله منهج يحكمه في كل حركاته، ومادام له منهج يحكمه في كل حركاته فرحمة به لم ينزل الله للأرض ابتداءً ليتلقى المنهج بدون تدريب واقعي على المنهج، فجعل الجنة مرحلة من مراحل ما قبل الاستخلاف في الأرض، وحذره من الشيطان الذي أبى أن يسجد له، وأراد منه أن يأخذ التجربة في التكليف. وكل تكليف محصور في (افعل كذا) و(لا تفعل كذا)؛ لذلك شاء الله أن يجعل له في الجنة فترة تدريب على المهمة؛ لينزل إلى الأرض مباشراً مهمة الخلافة بعد أن زود بالتجربة الفعلية الواقعية، وأوضح له: أَنْ كُلْ مِنْ كُلِّ ما في الجنة، ولكن لا تقرب هذه الشجرة. و(كُلْ) أَمْرٌ، و(ولا تقرب) نَهْيٌّ. وكل تكليف شرعي هو بين (لا تفعل) وبين (افعل).

 

وبعد ذلك حذره من الشيطان الذي يضع ويجعل له العقبات في تنفيذ منهج الله، فلما قرب آدم وحواء وأكلا منها؛ خالفا أمر الله في {وَلاَ تَقْرَبَا}، وأراد الله أن يبين لهما بالتجربة الواقعية أن مخالفة أمر الله لابد أن ينشأ عنها عورة تظهر في الحياة، فبدت له ولزوجته سواءتهما، فلما بدت لهما سواءتهما علم كل منهما أن مخالفة أمر الله تُظهر عورات الأرض وعورات المجتمع، فأمره الله: أن اهبط إلى الأرض مزوداً بهذه التجربة.
ولما هبط آدم وزوجه إلى الأرض أرسل إليه منهج السماء بعد التجربة، وأراد أن يبين لنا أنه عصى أمر ربه في قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا}، وتلقى من ربه كلمات فتاب عليه، وأراد سبحانه أن يبين لنا أن آدم يتمثل فيه أنه بشر يصيب ويخطئ، وتدركه الغفلة، وقد يخالف منهج الله في شيء، ثم يستيقظ من غفلته فيتوب، وبعد أن كلفه أن يبلغ رسالة الله وصار نبيًّا؛ جاءت له العصمة فلا يغفل ولا ينسى في تبليغ الرسالة.
ولذلك يجب أن نفطن إلى النص القرآني: {... وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121].
إنّ هذه طبيعة البشر أن يعصي ثم يتوب إذا أراد التوبة، ولابد أن نفطن أيضاً إلى قوله الحق: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ}

 

إذن فالاصطفاء جاء بعد المعصية؛ لأن عصيانه كان أمراً طبيعيًّا لأنه بشر، يخطئ ويصيب، ويسهو ويغفل. ولكن بعد أن خرج من الجنة اجتباه الله ليكون نبيًّا ورسولاً، ومادام قد صار نبيًّا ورسولاً فالعصمة تأتي له: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} [طه: 122]

إذن لا يصح لنا أن نقول: كيف يعصي آدم وهو نبي؟! نقول: تنبه إلى أن النبوة لم تأته إلا بعد أن عصى وتاب؛ فهو يمثل مرحلة البشرية لأنه أبو البشرية كلها، والبشرية منقسمة إلى قسمين: بشر مبلغون عن الله، وأنبياء يبلغون عن الله، فله في البشرية أنه عصى، وله في النبوة أن ربه قد اجتباه فتاب عليه وهداه. والذين يقولون: إن آدم كان مخلوقاً للجنة، نقول لهم: لا. افهموا عن الله، لأنه يقول: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً}.
إن أمر الجنة كان مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. إنها كانت تدريباً على المهمة التي سيقوم بها في الأرض، والا فلو أن آدم قد خلقه الله للجنة وأن المعصية أخرجته، إلا أن الله قد قبل منه توبته، وما دام قبل توبته فكان يجب أن يبقيه في الجنة، ومن هنا نقول ونؤكد أن الجنة كانت مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع علينا التجربة لآدم حتى نتعظ بها، وأن نعرف عداوة الشيطان لنا، وألا نقع في الفتنة كما وقع آدم.

 

{يابني ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ...} [الأعراف: 27].
وهذا نهي لبني آدم وليس نهيا للشيطان، وهذا في مُكنة الإنسان أن يفعل أو لا يفعل، فسبحانه لا ينهى الإنسان عن شيء ليس في مكنته، بل ينهاه عما في مكنته، والشيطان قد أقسم أن يفتنه وسيفعل ذلك لأنه أقسم وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. فإياكم أن تنخدعوا بفتنة الشيطان؛ لأن أمره مع أبيكم واضح، ويجب أن تنسحب تجربته مع أبيكم عليكم فلا يفتننكم كما أخرج أبويكم من الجنة، ويتساءل البعض: لماذا لم يقل الله: لا يفتننكم الشيطان كما فتن أبويكم، وقال: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة}؟. ونقول هذا هو السمو والافتنان الراقي في الأداء البياني للقرآن.
وإن هذا تحذير من فتنة الشيطان حتى لا يخرجنا من جنة التكليف. كما فتن أبوينا فأخرجهما من جنة التجربة. ويقال عن هذا الأسلوب إنه أسلوب احتباك، وهو أن تجعل الكلام شطرين وتحذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر قصد الاختصار. وهذا هو الأسلوب الذي يؤدي المعنى بمنتهى الإيجاز؛ لينبه ذهن السامع لكلام الله.
فيلتقط من الأداء حكمة الأداء وإيجاز الأداء، وعدم الفضول في الأساليب.

 

{لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة...} [الأعراف: 27].
والفتنة- كما علمنا- هي في الأصل الاختبار حتى ننقي الشيء من الشوائب التي تختلط به، فإذا كانت الشوائب في ذهب فنحن نعلم أن الذهب مخلوط بنحاس أو بمعدن آخر، وحين نريد أن نأخذ الذهب خالصاً نفتنه على النار حتى ينفض ويزيل عنه ما علق به. كذلك الفتنة بالنسبة للناس، إنها تأتي اختباراً للإنسان لينقي نفسه من شوائب هذه المسألة، وليتذكر ما صنع إبليس بآدم وحواء. فإذا ما جاء ليفتنك فإياك أن تفتن؛ لأن الفتنة ستضرك كما سبق أن الحقت الضرر بأبيك آدم وأمك حواء. والشيطان هو المتمرد على منهج الله من الجن، والجن جنس منه المؤمن ومنه الكافر. فقد قال الحق سبحانه: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ...} [الجن: 11].
والشيطان المتمرد من هذا الجنس على منهج الله ليس واحداً، واقرأ قول الحق سبحانه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ...} [الكهف: 50].
وهنا يقول الحق سبحانه: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ...} [الأعراف: 27].
و(قبيله) هم جنوده وذريته الذين ينشرهم في الكون ليحقق قَسَمَه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].

 

إذن ففتنة الشيطان إنما جاءت لتخرج خلق الله عن منهج الله، وحينما عصى إبليس ربّه عزّ عليه ذلك، فبعد أن كان في قمة الطاعة صار عاصيًّا لأمر الله معصية أَدَّته وأوصلته إلى الكفر؛ لأنه ردّ الحكم على الله. إن ذلك قد أوغر صدره وأحنقه، وجعله يوغل ويسرف في عداوة الإِنسان لأنه عرف أن طرده ولعنه كان بسبب آدم وذريته

 

. {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ...} [الأعراف: 27].
وهذا يدل على أن المراد ذرية الشيطان، فلو كان المراد شياطين الإِنس معهم لما قال: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}.
وعلى ذلك فهذه الآية خاصة بالذرية، ويعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن نتنبه إلى أن الشيطان لن يكتفي بنفسه ولن يكتفي بالذرية بل سيزين لقوم من البشر أن يكونوا شياطين الإِنس كما وُجد شياطين الجن، وهم من قال فيهم سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً...} [الأنعام: 112].
وكلمة
{زُخْرُفَ القول} تعني الاستمالة التي تجعل الإِنسان يرتكب المعصية وينفعل لها، ويتأثر بزخارف القول. وكل معصية في الكون هكذا تبدأ من زخرف القول، فللباطل دعاته، ومروجوه، ومعلنوه، إنهم يزينون للإِنسان بعض شهواته التي تصرفه عن منهج الله، ونلاحظ أن أعداء الله، وأعداء منهج الله يترصدون مواسم الإِيمان في البشر، فإذا ما جاء موسم الإِيمان خاف أعداء الله أن يمر الموسم تاركاً هبة في نفوس الناس، فيحاولوا أن يكتلوا جهودهم حتى يحرموا الناس نفحة الموسم، فإذا ما حرموا الناس من نفحة الموسم فقد حققوا غرضهم في العداوة للإِسلام.
 

{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ}.
إن الشيطان يراكم أيها المكلفون هو وقبيله. والقبيل تدل على جماعة أقلها ثلاثة من أجناس مختلفة أو جماعة ينتسبون إلى أب وأم واحدة. واختلف العلماء حول المراد من هذا القول الكريم؛ فقال قوم: (إنهم جنوده وذريته). ويقصدون جنوده من البشر، ولم يلتفتوا إلى قول الحق: {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} فلابد أن يكون المراد بالقبيل هنا الذرية؛ لأننا نرى البشر، وفي قوله الحق تغليظ لشدة الحذر والتنبه؛ لأن العدو الذي تراه تستطيع أن تدفع ضرره، ولكن العدو الذي يراك ولا تراه عداوته شديدة وكيده أشد، والجن يرانا ولا نراه، وبعض من العلماء علل ذلك لأننا مخلوقون من طين وهو كثيف، وهم مخلوقون من نار وهي شفيفة.
فالشفيف يستطيع أن يؤثر في الكثيف، بدليل أننا نحس حرارة النار وبيننا وبينها جدار، ولكن الكثيف لا يستطيع أن يؤثر في الشفيف ولا ينفذ منه. إذن فنفوذ الجن وشفافيته أكثر من شفافية الإِنسان، ولذلك أخذ خفة حركته. ونحن لا نراه.

 

إذن معنى ذلك أن الشيطان لا يُرى، ولكن إذا كان ثبت في الآثار الصحيحة أن الشيطان قد رُئى وهو من نار، والملائكة من نور، والاثنان كل منهما جنس خفي مستور، وقد تشكل المَلك بهيئة إنسان، وجاء لرسول الله وقال لنا صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم».
وعلى ذلك رأى السابقون المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا على صورة ملائكيّته، ولكن على صورة تتسق مع جنس البشر، فيتمثل لهم مادة. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الشيطان وقال: (إن عفريتا من الجن جعل يفتك عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة، وإن الله أمكنني منه فَذَعَتّهُ فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سوراي المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون).
وذلك من أدب النبوة. إذن فالشيطان يتمثل وأنت لا تراه على حقيقته، فإذا ما أرادك أن تراه.. فهو يظهر على صورة مادية. وقد ناقش العلماء هذا الأمر نقاشاً يدل على حرصهم على فهم كتاب الله، ويدل على حرصهم على تجلية مراداته وأسراره، فقال بعضهم: حين يقول الله إن الشيطان يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، لابد أن نقول: إننا لن نراه.

 

وأقول: إن الإنسان إن رأى الجني فلن يراه على صورته، بل على صورة مادية يتشكل بها، وهذه الصورة تتسق وتتفق مع بشرية الإنسان؛ لأن الجني لو تصور بصورة مادية كإنسان أو حيوان أو شيء آخر يمكن أن يراه الإنسان،

وحينئذ لفقدنا الوثوق بشخص من نراه، هل هو الشيء الذي نعرفه أو هو شيطان قد تمثل به؟
إن الوثوق من معرفة الأشخاص أمر ضروري لحركة الحياة، وحركة المجتمع؛ لأنك لا تعطف على ابنك إلا لأنك تعلم أنه ابنك ومحسوب عليك، ولا تثق في صديقك إلا إذا عرفت أنه صديقك.
ولا تأخذ علماً إلا من عالم تثق به. وهب أن الشيطان يتمثل بصورة شخص تعرفه، وهنا سيشكك هذا الشيطان ويمنع عنك الوثوق بالشخص الذي يتمثل في صورته. وأيضاً أعدى أعداء الشيطان هم الذين يبصرون بمنهج الله وهم العلماء، فما الذي يمنع أن يتشكل الشيطان بصورة عالم موثوق في علمه، ثم يقول كلاماً مناقضاً لمنهج الله؟.
إذن فالشيطان لا يتمثل،
هكذا قال بعض العلماء، ونقول لهم: أنتم فهمتم أن الشيطان حين يتمثل، يتمثل تمثلاً استمرارياً، لا. هو يتمثل تمثل الومضة؛ لأن الشيطان يعلم أنه لو تشكل بصورة إنسان أو لصورة مادية لحكمته الصورة التي انتقل إليها، وإذا حكمته الصورة التي انتقل إليها فقد يقتله من يملك سلاحاً، إنه يخاف منا أكثر مما نخاف منه، ويخاف أن يظهر ظهوراً استمرارياً؛ لذلك يختار التمثل كومضة، ثم يختفي، والإنسان إذا تأمل الجني المشكل. سيجد فيه شيئاً مخالفاً، كأن يتمثل- مثلا- في هيئة رجل له ساق عنزة لتلتفت إليه كومضة ويختفي؛ أنه يخاف أن تكون قد عرفت أن الصورة التي يتشكل بها تحكمه. وإذا عرفت ذلك أمكنك أن تصرعه.
 

ويتابع الحق سبحانه: {... إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
والشياطين من جَعْل الله، وسبحانه خلّى بينهم وبين الذين يريدون أن يفتنوهم والا لو أراد الله منعهم من أن يفتنوهم. لفعل.. إذن فكل شيء في الوجود، أو كل حدث في الوجود يحتاج إلى أمرين: طاقة تفعل الفعل، وداع لفعل الفعل. فإذا ما كانت عند الإنسان الطاقة للفعل، والداعي إلى الفعل، فإبراز الفعل في الصورة النهائية نستمدها من عطاء الله من الطاقة التي منحها الله للإنسان. فأنت تقول: العامل النساج نسج قطعة من القماش في غاية الدقة، ونقول: إن العامل لم ينسج، وإنما الآلة، والآلة لم تنسج، لكن الصانع الذي صنعها أرادها كذلك، والصانع لم يصممها الا بالعالم الذي ابتكر قانون الحركة بها.

 

إذن فالعامل قد وجّه الطاقة المخلوقة للمهندس في أن تعمل، واعتمد على طاقة المهندس الذي صنعها في المصنع، والمهندس اعتمد على طاقة الابتكار وعلى العالم الذي ابتكر قانون الحركة، والعالم قد ابتكرها بعقل خلقه الله، وفي مادة خلقها الله.
إذن فكل شيء يعود إلى الله فعلاً؛ لأنه خالق الطاقة، وخالق من يستعمل الطاقة، والإنسان يوجه الطاقة فقط، فإذا قلت: العامل نسج يصح قولك، وإذا قلت: الآلة نسجت، صح قولك، وإذا قلت: إن المصنع هو الذي نسج صح قولك.
إذن فالمسألة كلها مردها في الفعل إلى الله، وأنت وجهت الطاقة المخلوقة لله بالقدرة المخلوقة لله في فعل أمر من الأمور. فإذا قال الله {إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين} أي خلّينا بينهم وبينهم المفتونين بهم، غير أننا لو أردنا الا يفتنوا أحداً لما فتنوه. وهذا ما فهمه إبليس. {... لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82-83].
إذن من يريده الله معصوماً لا يستطيع الشيطان أن يغويه، وتعلم الشياطين أن الله خلّى بينهم في الاختيار، هذه اسمها تخلية؛ ولذلك لا معركة بين العلماء. فمنهجهم أن الطاقة مخلوقة لله، ونسب كل فعل إلى الله، ومنهم من رأى أنَّ موجّه الطاقة من البشر فينسب الفعل للبشر، ومنهم من رأى طلاقة قدرة الله في أنه الفاعل لكل شيء، ومنهم من قال: إن الإنسان هو الذي فعل المعصية.. أي أنه وجه الطاقة إلى عمل والطاقة صالحة له، فربنا يعذبه على توجيه الطاقة للفعل الضار ولا خلاف بينهم جميعاً. {... إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
إذن جعل الله الشياطين أولياء لمن لم يؤمن، ولكن الذي آمن لا يتخذه الشيطان وليًا.

 

image.png.070ad4e203f3a945c99a69f9d5b3dd0a.png

 

{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)}
والفاحشة مأخوذة من التفحش أي التزايد في القبح، ولذلك صرفها بعض العلماء إلى لون خاص من الذنوب، وهو الزنا، لأن هذا تزيد في القبح، فكل معصية يرتكبها الإنسان تنتهي بأثرها، لكن الزنا يخلف آثاراً.. فإمّا أن يوأد المولود، وإما أن تجهض المرأة، وإما أن تلد طفلها وتلقيه بعيداً، ويعيش طريداً في المجتمع لا يجد مسئولاً عنه، وهكذا تصبح المسألة ممتدة امتداداً أكثر من أي معصية أخرى. وتصنع هذه المعصية الشك في المجتمع. ولنا أن نتصور إن إنساناً يشك في أن من ينسبون إليه ويحملون اسمه ليسوا من صلبه، وهذه بلوى كبيرة للغاية. والذين قالوا: إن الفاحشة المقصود بها الزنا نظروا إلى قول الله سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32].
أو الفاحشة هي ما فيه حد، أو الفاحشة هي الكبائر، ونحن نأخذها على أنها التزيد في القبح على أي لون من الألوان.

 

فما هي الفاحشة المقصودة هنا؟.

إنها الفواحش التي تقدمت في قوله: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ...} [المائدة: 103].
وكذلك ما جاء في قوله تعالى: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ...} [الأنعام: 137].
وكذلك في قوله الحق سبحانه: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا...} [الأنعام: 136].
أو أن المقصود أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فيطوف الرجال نهاراً، والنساء يطفن ليلاً، لماذا؟. لأنهم ادَّعَوْا الورع. وقالوا: نريد أن نطوف إلى بيت ربنا كما ولدتنا أمهاتنا، وأن نتجرد من متاع الدنيا، ولا نطوف ببيت الله في ثياب عصينا الله فيها.

 

وقولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا} تقليد، والتقليد لا يعطي حكماً تكليفياً، وإن أعطى علماً تدريبيا، بأن ندرب الأولاد على مطلوب الله من المكلف ليستطيعوا ويألفوا ما يكلفون به عندما يصلون إلى سن التكليف. ومما يدل على أن التقليد لا يعطي حقيقة، أنك تجد المذهبين المتناقضين- الشيوعية والرأسمالية مثلاً- مقلدين؛ لهذا المذهب مقلدون، ولهذا المذهب مقلدون. فلو أن التقليد معترف به حقيقة لكان التقليدان المتضادان حقيقة، والمتضادان لا يصبحان حقيقة؛ لأنهم- كما يقولون- الضدان لا يجتمعان، هذا هو الدليل العقلي في إبطال التقليد. ولذلك نلاحظ في أسلوب الأداء القرآني أنه أداء دقيق جداً؛ فالذي يتكلم إله. {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28].
 

والرد من الله عليهم أنه سبحانه لم يأت في مسألة التقليد بردّ لأنه بداهة لا يؤدي إلى حقيقة، بل قال: {... قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].
وهذا رد على قولهم: والله أمرنا بها. وأين الرد على قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا}؟.
نقول إنه أمر لا يحتاج إلى رد؛ لأنه أمر يرفضه العقل الفطري، ولذلك ترك الله الرد عليه؛ لوضوح بطلانه عند العقل الفطري، وجاء بالرد على ادعائهم أن الله يأمر بالفحشاء، فالله لا يأمر بالفحشاء. ثم كيف كان أمر الله لكم؟. أهو أمر مباشر.. بمعنى أنه قد أمر كل واحد منكم أن يرتكب فاحشة؟ ألم تنتبهوا إلى قول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً...} [الشورى: 51].
أم بلغكم الأمر بالفاحشة عن طريق نبي فكيف ذلك وأنتم تكذبون مجيء الرسول؟. وهكذا يكون قولكم مردوداً من جهتين: الجهة الأولى: إنه لا طريق إلى معرفة أمر الله إلا بأن يخاطبكم مباشرة أو يخاطبكم بواسطة رسل؛ لأنكم لستم أهلاً للخطاب المباشر، والجهة الثانية: أنكم تنكرون مسألة الأنبياء والرسل. فأنتم لم يخاطبكم الله بالمباشرة أو بواسطة الرسل فلم يبق إلا أن يقال لكم: {... أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].
ولا جواب على السؤال إلا بأمرين: إما أن يقولوا: (لا) فقد كذبوا أنفسهم، وإما أن يقولوا: (نعم)؛ فإذا قالوا: نعم نقول على الله ما لا نعلم؛ فقد فضحوا أنفسهم وأقروا بأن الله لم يأمر بالفاحشة، بل أمر الله بالقسط،

 

نداء الايمان

image.png.7bec6663998dd84aee2cefeb3a19c917.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)}
والقسط هو العدل من قسط قِسطاً، وأمّا قاسط فهي اسم فاعل من قسط قَسْطاً وقَسُوطاً أي جار وعدل عن الحق، والقاسطون هم المنحرفون والمائلون عن الحق والظالمون، كلمة العدل هي التسوية، فإن ملت إلى الحق، فذلك العدل المحبوب. وإن ملت إلى الباطل، فذلك أكره مكروه {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط}.
وهذه جملة خبرية. {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29].
وهذا فعل أمر، وقد يتبادر إلى الذهن إن هذا من عطف الأمر على الخبر، ولكن لنلتفت أن الحق يعطفها على (قل)، فكأن المقصود هو أن يقول: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
والوجه هو السمة المعينة للشخص؛ لأن الإنسان إن أخفى وجهه لن تعرفه إلا أن كان له لباس مميز لا يرتديه الا هو. والوجه أشرف شيء في التكوين الجسمي، ولذلك كان السجود هو وضع الوجه في الأرض، وهذا منتهى الخضوع لأمر الله بالسجود؛ لأن السجود من الفاعل المختار وهو الإنسان يكون بوضع الجبهة على الأرض. وكل شيء خاضع لحكم الله نقول عنه: إنه ساجد. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب...} [الحج: 18].
والشجر يسجد وهو نبات، والدواب تسجد وهي من جنس الحيوان، والشمس والقمر والنجوم والجبال من الجماد وهي أيضا ساجدة، لكن حين جاء الحديث عن الإنسان قسمها سبحانه وقال: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب...} [الحج: 18].
لأن الإنسان له خاصية الاختيار، وبقية الكائنات ليس له اختيار. إذن فالسجود قد يكون لغير ذي وجه، والمراد منه مجرد الخضوع، أما الإنسان فالسجود يكون بالوجه ليعرف أنه مستخلف وكل الكائنات مسخرة لخدمته وطائعة وكلها تسبح ربنا، فإذا كان السيد الذي تخدمه كل هذه الأجناس حيواناً، ونباتاً، وجماداً قد وضع وجهه على الأرض فهو خاضع من أول الأمر حين نقول عنه إنه ساجد.

 

{وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ...} [الأعراف: 29].
والإقامة أن تضع الشيء فيما هيئ له وخُلق وطُلب منه، وإن وجهته لناحية ثانية تكون قد ثنيته وأملته وحنيته، وعَوِّجته. إذن فإقامة الوجه تكون بالسجود؛ لأن الذي سخر لك هذا الوجود وحكمك بمنهج التكليف هو من جعلت وجهك في الأرض من أجله، وإن لم تفعل فأنت تختار الاعوجاج لوجهك، واعلم أن هذا الخضوع والخشوع والسجود لله لن يعطيك فقط السيادة على الأجناس الأخرى التي تعطيك خير الدنيا، ولكن وضع جبهتك ووجهك على الأرض يعطيك البركة في العمل ويعطيك خير الآخرة أيضاً. والعاقل هو من يعرف أنه أخذ السيادة على الأجناس فيتقن العبودية لله، فيأخذ خيري الدنيا والآخرة حيث لا يفوته فيها النعيم ولا يفوت هو النعيم، أما في الدنيا فأنت تقبل عليها باستخلاف وتعلم أنك قد يفوتك النعيم، أو تفوت أنت النعيم، وحين تتذكر الله وتكون خاضعاً لله فأنت تنال البركة في حركة الاستخلاف.

 

{وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ...} [الأعراف: 29].
والمسجد مكان السجود، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون».
إذن فكل موضع في الأرض مسجد؛ فإن دخلت معبداً لتصلي فهذا مسجد. والأرض كلها مسجد لك. يصح أن تسجد وتصلي فيها. وتزاول فيها عملك أيضا، ففي المصنع تزاول صنعتك فيه، وحين يأتي وقت الصلاة تصلي، وكذلك الحقل تصلي فيه، لكن المسجد الاصطلاحي هو المكان الذي حُبس على المسجدية وقصر عليها، ولا يزاول فيه شيء آخر. فإن أخذت المسجد على أن الأرض مسجد كلها تكن {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ} في جميع أنحاء الأرض. وإن أخذتها على المسجد، فالمقصود إقامة الصلاة في المكان المخصوص، وله متجه وهو الكعبة. وكذلك يكون اتجاهك وأنت تصلي في أي مكان. والمساجد نسميها بيوت الله ولكن باختيار خلق الله، فبعضنا يبني مسجداً هنا أو هناك. ويتجهون إلى بيت باختيار الله وهو الكعبة. ولذلك كانت كعبة ومتوجهاً لجميع بيوت الله.
وقصارى الأمر أن نجعل قبلة المسجد متجهة إلى الكعبة وأن نقيم الوجه عليها، أي على الوجه الذي تستقيم فيه العبادة. وهو أن تتجهوا وأنتم في صلاتكم إلى الكعبة فهي بيت الله باختيار الله.
وساعة ما تصادفك الصلاة صل في أي مسجد، أو {أَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يقصد بها التوجه للصلاة في المسجد، وهنا اختلف العلماء، هل أداء الصلاة وإقامتها في المسجد ندباً أو حتماً؟. والأكثرية منهم قالوا ندباً، والأقلية قالوا حتماً. ونقول: الحتمية لا دليل عليها.
من قال بحتمية الصلاة في المسجد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسِ بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم».
ونقول: هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أو لم يفعل؟ لم يفعل رسول الله ذلك، إنما أراد بالأمر التغليظ ليشجعنا على الصلاة في المساجد عند أي أذان للصلاة.

 

ويقول الحق سبحانه: {وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين...} [الأعراف: 29].
والدعاء: طلب من عاجز يتجه به لقادر في فعل يحبه الداعي. وحين تدعو ربك ادعه مخلصاً له الدين بحيث لا يكون في بالك الأسباب؛ لأن الأسباب إن كانت في بالك فأنت لم تخلص الدين، لأن معنى الإِخلاص هو تصفية أي شيء من الشوائب التي فيه، والشوائب في العقائد وفي الأعمال تفسد الإِتقان والإِخلاص، وإياكم أن تفهموا أن أحداً لا تأتي له هذه المسألة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنّي لَيُغَانُ على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة».
إذن فالإِخلاص عملية قلبية، وأنت حين تدعوا الله ادعه دائماً عن اضطرار، ومعنى اضطرار. أن ينقطع رجاؤك وأملك بالأسباب كلها. فذهبت للمسبب، وما دمت مضطراً سيجيب ربنا دعوتك؛ لأنك استنفدت الأسباب، وبعض الناس يدعون الله عن ترف، فالإِنسان قد يملك طعام يومه ويقول: ارزقني، ويكون له سكن طيب ويقول: أريد بيتاً أملكه. إذن فبعضنا يدعو بأشياء لله فيها أسباب، فيجب أن نأخذ بها، وغالبية دعائنا عن غير اضطرار. وأنا أتحدى أن يكون إنسان قد انتهى به أمر إلى الاضطرار ولا يجيبه الله.

 

ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {... كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].
والله سبحانه يخاطب الإِنسان، ويحننه، مذكراً إياه ب (افعل كذا) و(لا تفعل كذا). وسبحانه قادر أن يخلقه مرغماً على أن يفعل، لكنه- جل وعلا- شاء أن يجعل الإِنسان سيدا وجعله مختاراً، وقهر الأجناس كلها أن تكون مسخرة وفاعلة لما يريد، وأثبت لنفسه سبحانه صفة القدرة، ولا شيء يخرج عن قدرته؛ فأنت أيها العبد تكون قادراً على أن تعصي ولكنك تطيع، وهذه هي عظمة الإِيمان إنّها تثبت صفة المحبوبية لله، فإذا ما غُر الإِنسان بالأسباب وبخدمة الكون كله، وبما فيه من عافية، وبما فيه من قوة، وبما فيه من مال، تجد الحق يلفته: لاحظ أنك لن تنفلت مني: أنا أعطيت لك الاختيار في الدنيا، لكنك ترجع لي في الآخرة ولن تكون هناك أسباب، ولن تجد إلا المسبب، ولذلك اقرأ: {... لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
كأن المُلْكَ- قبل ذلك- أي في الدنيا- كان للبشر فيه شيء لمباشرتهم الأسباب هذا يملك، وذلك يملك، وآخر يوظف، لكن في الآخرة لا مالك، ولا مَلِكٌ إلا الله، فإياكم أن تغتروا بالأسباب، وأنها دانت لكم، وأنكم استطعتم أن تتحكموا فيها؛ لأن مرجعكم إلى الله.

image.png.3edf6e5f6804cd6ab91bf077258dc72b.png

 

{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}
اذكروا أننا قلنا من قبل: إن الله هدى الكل.. بمعنى أنه قد بلَّغهم بمنهجه عبر موكب الرسل، وحين يقول سبحانه: {فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} فالمقصود هنا ليس هداية الدلالة، لكن دلالة المعونة.

وقد فرقنا بين هداية الدلالة وهداية المعونة.
وقوله الحق {فَرِيقاً هدى} أي هداية المعونة؛ لأن هذا الفريق أقبل على الله بإِيمان فخفف الله عليه مؤونة الطاعة، وبغّضه في المعصية، وأعانه على مهمته. أما الذي تأبّى على الله، ولم يستجب لهداية الدلالة أيعينه الله؟ لا. إنه يتركه في غيِّه ويخلي بينه وبين الضلالة، ولو أراده مهديًّا لما استطاع أحد أن يغير من ذلك. وسبحانه منزه عن التجني على أحد من خلقه، ولكن الذين حق عليهم الضلالة حصل لهم ذلك بسبب ما فعلوا.

{... إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].
إن من يرتكب المعصية ويعترف بمعصيته فهذه تكون معصية، أمّا من يقول إنها هداية فهذا تبجح وكفر؛ لأنه يرد الحكم على الله. وخير للذين يرتكبون المعاصي أن يقولوا: حكم الله صحيح ولكننا لم نقدر على أنفسنا، أما أن يرد العاصي حكم الله ويقول: إنه الهداية، فهذا أمره عسير؛ لأنه ينتقل من مرتبة عاصٍ إلى مرتبة كافر والعياذ بالله.

{... وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].
لأنهم يفعلون ما حرم الله، وليتهم فعلوه على أنه محرّم، وأنهم لم يقدروا على أنفسهم، ولكنهم فعلوه وظنوا أن الهداية في الفعل.

وهذا الأمر يشيع في معاصٍ كثيرة مثل الربا، فنجد من يقول: إنه حلال، ونقول: قل هو حرام ولكن لم أقدر على نفسي، فتدخل في زمرة المعصية، ولا تدخل في زمرة الكفر والعياذ بالله، ويمكنك أن تستغفر فيغفر لك ربنا، ويتوب عليك، ولكن أن ترد الحكم على الله وتقول إنه حلال!! فهذا هو الخطر؛ لأنك تبتعد وتخرج عن دائرة المعصية وتتردى وتقع في الكفر، اربأ بنفسك عن أن تكون كذلك واعلم أن كل ابن آدم خطاء، وما شرع الله التوبة لعباده إلا لأنه قدَّر أن عبيده يخطئون ويصيبون، ومن رحمته أنه شرع التوبة، ومن رحمته كذلك أنه يقبل هذه التوبة، فلماذا تخرج من حيز يمكن أن تخرج منه إلى حيز يضيق عليك لا تستطيع أن تخرج منه؟.

 

نداء الايمان

image.png.6330391ded545e2fd5dea1bab4769532.png

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}
 

والزينة إذا سمعتها تنصرف إلى تجميل فوق قوام الشيء، وقوله سبحانه وتعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
هذا يعني أن يذهب المسلم إلى المسجد بأفخر ما عنده من ملابس، وكذلك يمكن أن يكون المقصود ب {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} هو رد على حالة خاصة وهو أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، وأن المراد بالزينة هنا هو ستر العورة. أو المراد بالزينة ما فوق ضروريات الستر، أو إذا كان المراد بها اللباس الطيب الجميل النظيف، فنحن نعلم أن المسجد هو مكان اجتماع عباد الله، وهم متنوعون في مهمات حياتهم، وكل مهمة في الحياة لها زيها ولها هندامها؛ فالذي يجلس على مكتب لمقابلة الناس له ملابس، ومن يعمل في (الحِدَادَة) له زي خاص مناسب للعمل، ولكن إذا ذهبتم إلى المسجد لتجتمعوا جميعاً في لقاء الله أيأتي كل واحد بلباس مهنته ليدخل المسجد؟ لا، فليجعل للمسجد لباساً لا يُضَايق غيره، فإن كانت ملابس العمل في مصنع أو غير ذلك لا تليق، فاجعل للمسجد ملابس نظيفة حتى لا يُؤذَي أحد بالوجود بجانبك؛ لأننا نذهب إلى المسجد لعمل مشترك يحكم الجميع وهو لقاء الله في بيت الله، فلابد أن تحتفي بهذا اللقاء.

{... وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأعراف: 31].

والمأكل والمشرب من الأمور المباحة لأن فيها مقومات الحياة، وكل واشرب على قدر مقومات الحياة ولا تسرف، فقد أحل الله لك الأكثر وحرّم عليك الأقل، فلا تتجاوز الأكثر الذي أُحلِّ لك إلى ما حرم الله؛ لأن هذا إسراف على النفس، بدليل أنه لو لم تجد إلا الميتة، فهي حلال لك بشرط ألا تُسرف. ولا يصح أن تنقل الأشياء من تحليل إلى تحريم؛ لأن الله جعل لك في الحلال ما يغنيك عن الحرام، فإذا لم يوجد ما يغنيك، فالحق يحل لك أن تأخذ على قدر ما يحفظ عليك حياتك، والمسرفون هم المتجاوزون الحدود. ولا سرف في حل، إنما السرف يكون في الشيء المحرم، ولذلك جاء في الأثر: (لو أنفقت مثل أحد ذهباً في حِلِّ ما اعتبرت مسرفاً، ولو أنفقت درهماً واحداً في محرم لاعتبرت مسرفاً). (ولذلك يطلب منك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعطي كل نعمة حقها بشرط ألا يؤدي بك ذلك إلى البطر، وحينما ذهب إليه سيدنا عثمان بن مظعون، وقد أراد أن يترهب، ويتنسك، ويسيح في الكون، وقال لرسول الله: يا رسول الله، إنني أردت أن اختصي؛ أي يقطع خصيتيه؛ كي لا تبقى له غريزة جنسية، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عثمان خصاء أمتي الصوم).
لذلك قال صلى الله عليه وسلم في شأن من لم يستطع الزواج: (يا معشر الشباب من استطاع منك الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).

 

وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم فاجتمع عشرة من الصحابة وهم: أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسليمان وعبدالله بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون فاتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم ولا يقربوا النساء ويجبّوا مذاكيرهم. فكان التوجيه النبوي أن حمد الرسول صلى الله عليه وسلم ربه وأثنى عليه وقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني).

 

image.png.526f810350e4fa9dccb4c91c29c7adec.png

 

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}
وما دام أخرجها لعباده فهو قد أرادها لهم، وما ينفع منها للإناث جعلتها السنة للإِناث، وما يصح منها للذكور أحلتها السنّة لهم، وكذلك الطيب من الرزق حلال للمؤمنين والمؤمنات. ولنلحظ دقة الأسلوب هنا في قوله تعالى: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا...} [الأعراف: 32].

 

ثم يتابع سبحانه: {خَالِصَةً يَوْمَ القيامة...} [الأعراف: 32].
فكأننا أمام حالتين اثنتين: حالة في الدنيا، وأخرى في يوم القيامة، معنى ذلك أن الزينة في الحياة الدنيا غير خالصة؛ لأن الكفار يشاركونهم فيها، فهي من عطاء الربوبية، وعطاء الربوبية للمؤمن وللكافر، وربما كان الكافر أكثر حظًّا في الدنيا من المؤمن، ولكن في الآخرة تكون الزينة خالصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها الكافرون.

 

وكذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعطي اليقظة الإِيمانية في المؤمن بوجود الأغيار فيه، ومعنى وجود الأغيار أنه قد يتعرض الإِنسان لتقلبات بين الصحة والمرض والغنى والفقر والقوة والضعف. وهكذا يكون الإٍنسان في الدنيا؛ فهي دار الأغيار، ويصيب الإِنسان فيها أشياء قد يكرهها؛ لذلك فالدنيا ليست خالصة النعيم لما فيها من أغيار تأتيك فتسوؤك. إنها تسوؤك عند غيبة شحنة الإِيمان منك؛ لأنك إن استصحبت شحنة الإِيمان عند كل حدث أجراه الله عليك لَلَفَتَكَ الله إلى حكمته. {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة...} [الأعراف: 32].
 

ويمكن أن نقرأ كلمة (خالصة) منصوبة على أنها حال، ويمكن أن نقرأها في قراءة أخرى مرفوعة على أنها خبر بعد خبر، والمعنى: أنها غير خالصة للمؤمنين في الدنيا لمشاركة الكفار لهم فيها، وغير خالصة أيضاً من شوائب الأغيار ولكنها وفي الآخرة خالصة للمؤمنين فلا يشاركهم الكفار ولا تأتي لهم فيها الأغيار.
 

ويذيل الحق الآية بقوله: {... كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32].
معنى {نُفَصِّلُ الآيات} أي لا نأتي بالآيات مجملة بل نفصل الآيات لكل مؤمن، فلا نترك خللاً، ونأتي فيها بكل ما تتطلبه أقضية الحياة، بتفصيل يُفهمنا قضايانا فهماً لا لبس فيه.

image.png.78876511d4bda61237651bc446e57a35.png

 

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}
 

والحق سبحانه- قد بدأ الآية ب (إنما) التي هي للحصر: أي ما حرم ربي إلا هذه الأشياء، الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإِثم، والبغي بغير الحق، والشرك بالله، والقول على الله ما لا نعلم، فلا تدخلوا أشياء أخرى وتجعلوها حراماً، لأنها لا تدخل في هذه، وقول الله في الآية السابقة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله} هوعلى صيغة استفهام لكي يجيبوا هم. ولن يجدوا سبباً لتحريم زينة الله لأن الحق قد وضح وبينّ ما حرم فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
 

ونتأمل الخمسة المحرمات التي جاءت بالآية؛ فحين ننظر إلى مقومات حياة الخلافة في الأرض ليبقى الإِنسان خليفة فيها نرى أنه لابد من صيانة أشياء ضرورية لسلامة هذه الخلافة وأداء مهمتها، وأول شيء أن يسلم للمجتمع طهر أنسابه. وسلامة طهر الأنساب أي الإِنجاب والأنسال ضرورية للمجتمع؛ لأن الإِنسان حين يثق أن ابنه هذا منه فهو يحرص عليه لأنه منسوب إليه، ويرعاه ويربيه. أما إذا تشكك في هذه المسألة فإنه يهمله ويلفظه، كذلك يهمله المجتمع، ولا أحد يربيه ولا يلتفت إليه ولا يعنى به.
إذن فسلامة الأنساب أمر مهم ليكون المجتمع مجتمعاً سليماً، بحيث لا يوجد فرد من الأفراد إلا وهو محسوب على أبيه، بحيث يقوم له بكل تبعات حياته، ولذلك يجب أن تعلموا أن الأطفال المشردين مع وجود آبائهم حدث من أن شكاً طرأ على الأب في أن هذا ليس ابنه. ولذلك ماتت فيه غريزة الحنان عليه، فلا يبالي إن رآه أم لم يره، ولا يبالي أهو في البيت أم شرد، لا يبالي أكل أم جاع، لا يبالي تعرى أم لا.

 

إذن فطهارة الأنساب ضمان لسلامة المجتمع؛ لأن المجتمع سيكون بين مربٍّ يقوم على شأن وصغير مرَّبى، المربي قادر على أن يعمل، والمربَّى صغير يحتاج إلى التربية. ولذلك حرم الله الفواحش. والفحش- كما قلنا- ما زاد قبحه، وانتهوا على أنه هو الزنا؛ لأن أثره لا يتوقف فقط عند الذنب والاستمتاع. بل يتعدى إلى الأنسال. وما تعدى إلى الأنسال فهو تعد إلى المجتمع، ويصير مجتمعاً مهملاً لا راعي له.
 

والإِثم: أهو كل كبيرة أو ما يقام على فاعله حد؟. لقد انتهى العلماء على أن الإِثم هو الخمر والميسر؛ لأن الله قال بالنص: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا...} [البقرة: 219].
وأراد الحق بذلك أن يضمن مقوم تنظيم حركة الحياة في الإِنسان وهو العقل وأن الخمر تغيب العقل، والإِنسان مطالب بأن يحفظ عقله ليواجه به أمور الحياة مواجهة تبقى الصالح على صلاحه أو تزيده صلاحاً ولا تتعدى على الإِنسان فإذا ما ستر العقل بالخمر فسد واختل، ويختل بذلك التخطيط لحركة الحياة.
والذين يأتون ويشربون ويقولون: نريد أن ننسى همومنا نقول لهم: ليس مراد الشارع أن ينسى كل واحد ما أهمه؛ لأنه إن نسي كل واحد ما أهمه فلن يحتاط أحد ولن يقوم على تقدير الأمور التي تضمن السلامة.
إن الشارع يطلب منك أن تواجه الهموم التي تعاني منها مضاعف لتزيلها. أما أن تستر العقل فأنت قد هربت من المشكلة، إذن يجب عليك أن تواجه مشكلات الحياة بعقلك وبتفكيرك. فإن كانت المشكلة، قد نشأت من أنك أهملت في واجب سببي أي له أسباب وقد قصرت في الأخذ بها فأنت الملوم. وإن كانت المشكلة جاءتك من أمر ليس في قدرتك، أي هبطت عليك قضاء وقدراً؛ فاعلم أن مجريها عليك له فيها حكمة.
وقد يكون البلاء ليحيمك الله من عيون الناس فيحسدوك عليها، لأن كل ذي نعمة محسود، وحتى لا تتم النعمة عليك؛ لأن تمام النعمة على الإنسان يؤذن بزوالها، وأنت ابن الأغيار وفي دنيا الأغيار، وإن تمت لك فقد تتغير النعمة بالنقصان.

إذن فالتفكير في ملافاة الأسباب الضارة وتجنبها يأتي بالعقل الكامل، والتفكير في الأشياء التي ليس لها سبب يأتي من الإيمان، والإيمان يطلب منك أن ترد كل شيء إلى حكمة الحكيم. إذن فأنت تحتاج إلى العقل فلا تستره بشرب الخمر؛ لأن العقل يدير حركة الحياة.

 

البغي نعرف انه مجاوزة الحد ظلماً أو أكبر، أو بخلاً. والظلم أن تأخذ حق غيرك وتحرمه من ثمرة عمله فيزهد في العمل؛ لذلك يحرم الحق أن يبغي أحد على أحد. لا في عرضه، ولا في نفسه، ولا في ماله. ويجب أن نصون العرض من الفواحش؛ لأن كل فاحشة قد تأتي بأولاد من حرام. وإن لم تأت فهي تهدر العرض، والمطلوب صيانته، كذلك لا يبغى أحد على محارم أحد، وكذلك لا يبغى أحد على حياة إنسان بأن يهدمها بالقتل.
ويصمون الحق المال فيمنع عنه البغي فلا يأخذ أحد ثمرة عمل آخر وكفاحه عدواناً وظلماً،

ومظاهر البغي كثيرة. ومن البغي أن تأخذ سلطة قسراً بغير حق ولكن هناك من يأخذ سلطة قسراً وقهراً بحق، فإن كنت- على سبيل المثال- تركب سفينة، ثم قامت الرياح والزوابع، وأنت أمهر في قيادتها أتترك الربان يقودها وربما غرفت بمن فيها أم تضرب على يده وتمسك بالدفة وتديرها لتنقذها ومن فيها، إنك في هذه الحالة تكون قد أخذت القيادة بحق صيانة أرواح الناس، وهذا بغي بحق، وهو يختلف عن البغي بغير الحق. وحتى تفرق بين البغي البغي بحق والبغي بغير الحق نقول. إن هذا يظهر ويتضح عندما نأخذ مال السفيه منه للحفاظ عليه وصيانته وتثميره له، فنكون قد أخذنا من صاحبه رعاية لهذا الحق، فهو وإن كان في ظاهره بغيا على صاحب الحق إلا أنه كان لصالحه وللصالح العام فهذا بغي بحق أو أنه سمي بغيا؛ لأنه جاء على ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير، ونقرأ أيضاً قول الله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا...} [الشورى: 40].
فهل جزاء السيئة يكون سيئة؟ لا. وإنما هي سيئة بالنسبة لمن وقعت عليه؛ لأنه لما عمل سيئة واختلس مالا- مثلا- وضربت على يده وأخذت منه المال فقد أتعبته ولذلك فالحق يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126].
ومن بغى بغير حق علينا أن نذكره بأن هناك من هو أقوى منه، أن يتوقع أن يناله بغي ممن هو أكثر قدرة منه.

 

وينبهنا الحق إلى العمل الذي لا غفران له: {وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}.
ومحال أن ينزل الحق الذي نعبده شريكاً له ويؤيده بالبرهان والسلطان والحجة على أنه شريك له- تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً؛ لأن من خصائص الإِيمان أنه سبحانه ينفي هذا الشرك بأدلته العقلية وأدلته النقلية.

 

وإذا كان الحق قد قال لنا في هذه الآية: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
فبعض من الآيات الأخرى جمعت هذه الأشياء، في إطار إيجازي ومع المقابل أيضاً، يقول الحق: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي...} [النحل: 90].

لقد جاء بالفحشاء في هذه الآية ليؤكد طهارة الأنسال، وجاء أيضاً بتحريم المنكر والبغي، وزاد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الإِثم فقط. وكأن الإثم في آية الأمر بالعدل والإِحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، مطمور في (المنكر)، والمنكر ليس محرماً بالشرع فقط، بل هو ما ينكره الطبع السليم؛ وأيضاً فصاحب الطبع غير السليم يحكم أنه منكر إذا كانت المعاصي تعود عليه بالضرر، هنا يقول: أعوذ بالله منها. وإن كان هو يوقعها على الغير فهو يعتقد أنها غير منكر،

وعلى سبيل المثال نجد رجلاً يبيح لنفسه أن يفتح أعينه على عورات الناس ويتلذذ بهذه المسألة. لكنه ساعة يرى إنساناً آخر يفتح عينيه على عورته أو على ابنته مثلا إنّه يرى في ذلك أبشع المنكرات؛ لذلك لابد أن تجعل للمنكر حدًّا يشملك ويشمل غيرك ولا تنظر إلى الأمر الذي تكلف به أنت وحدك، وإنما انظر إلى الأمر المكلف به الآخرون.. وإياك أن تقول: إنه حدد بصري من أن يتمتع بجسم يسير أمامي، إنه- سبحانه- كما حرم نظرك إلى ذلك، حرم أنظار الناس جميعاً أن ينظروا إلى محارمك؛ وفي هذا صيانة لك.

 

نداء الايمان

image.png.07f39bfe1b6c2946f85ce5bc08479ff0.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}
نحن هنا أمام نص قرآني تثبته قضايا الوجود الواقعي؛ فالذين سفكوا، وظلموا، وانتهكوا الأعراض، وأخذوا الأموال. لم يدم لهم ذلك، بل أمد الله لهم في طغيانهم، وأخذهم به أخذ عزيز مقتدر. ولو أراد خصومهم الانتقام منهم لما وصلوا إلى أدنى درجات انتقام السماء. ويجري الحق هذا الانتقام من الطغاة لصيانة سلامة المجتمع. فإن رأيت فساداً أو طغياناً إياك أن تيأس؛ لأن الحق سبحانه قد أوضح أن لكل أمة أجلاً، بداية ونهاية، ففي أعمارنا القصيرة رأينا أكثر من أمة جاء أجلها. إذن فكل طاغية يجب أن يتمثل هذه الآية: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].

 

والأجل لكل أمة معروف عند الله؛ لأن الباطل والظلم إن لم يعض الناس عضة تجعلهم يصرخون فهم لا يستشرفون إلى الحق ولا يتطلعون إليه، والألم وسيلة العافية لأنه يؤكد لك أن وضعك غير طبيعي، وعلى ذلك فالمسائل التي تحدث في الكون وهذه الأمم التي تظلم. وتضطهد. ولها جبروت وطغيان إنما تفعل ذلك إلى أجل معلوم. فإياك أن تيأس، ولكن عليك أن تستشرف إلى الحق. وإلى جناب الله فتلوذ به وحده، ولذلك نجد أكثر الناس الذين حدثت لهم هذه الأحداث لم يجدوا إلا واحة الإِيمان بالله؛ ففروا إلى بيته حجاجاً وإلى مساجده عمارًّا وإلى قراءة قرآنه ذكراً. وننظر إلى هذه الأمور ونقول: إن الطاغية الفاجر مهما فعل فلابد أن يسخره الله لخدمة دينه، وهناك أناس لولا أن الدهر عضهم وأخنى عليهم كأن سلط عليهم ظالماً لما فروا إلى الله بحثاً عن نجاة، ولما التفتوا لربنا عبادة.
 

إن في واقع حياتنا يعرف كل منا أناساً، كان الواحد منهم لا يعبد ربه فلا يصلي ولا يصوم ولا يذكر ربه، ثم جاءت له عضة من ظالم فيلجأ الإِنسان المعضوض إلى الله عائذاً به ملتجئا إليه، ولذلك نقول للظالم: والله لوعرفت ماذا قدمت أنت لدين الله، ولم تأخذ عليه ثواباً لندمت، فأنت قد قدمت لدين الله عصبة ممن كانوا من غير المتدينين به. ولو أنك تعلم ما يأتي به طغيانك وظلمك وجبروتك من نصر لدين الله لما صنعته أنت، إنّ لكل أمة أجلاً، فإن كنت ظالماً وعلى رأس جماعة ظالمة فلذلك نهاية.
 

وانظر إلى التاريخ تجد بعض الدول أخذت في عنفوانها وشدتها سيادة على الشعوب، ثم بعد فترة من الزمن تحل بها الخيبة وتأتي السيطرة عليها من الضعاف؛ لأن هذا هو الأجل. إن الحق يعمي بصائرهم في تصرف، يظنون أنه يضمن لهم التفوق فإذا به يجعل الضعيف يغلبهم ويسيطر عليهم. وإذا جاء الأجل فلا أحد يستطيع تأخيره؛ لأن التوقيت في يد قيوم الكون، وهم أيضاً لا يستقدمون هذا الأجل، ونلحظ هنا وجود كلمة (ساعة)، والساعة لها اصطلاح عصري الآن من حيث إنها معيار زمني لضبط المواقيت، ونعلم أن اليوم مقسم إلى أربع وعشرين ساعة، والأقل من الساعة الدقيقة، والأقل من الدقيقة الثانية، والأكبر من الساعة هو اليوم. ومن يدري فقد يخترع البشر آلاتٍ لضبط الجزء من الثانية.
وكذلك تطلق الساعة على قيام القيامة.

 

image.png.a2e2227b86391d4fb77c8916379cc395.png

 

{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)}
 

هنا ينادي الحق أبناء آدم، بعد أن ذكرهم أنه أحل لهم الطيبات والزينة وحرم عليهم المسائل الخمسة من الفاحشة والمنكر والبغي والإِثم والشرك، ووضع لهم نظاماً يضمن سلامة المجتمع، وطمأنهم بأنه منتقم من أي أمة ظالمة بأن جعل للظلم نهاية وأجلاً. فعليكم يا بني آدم أن تأخذوا أمور حياتكم في إطار هذه المقدمات. {يابني ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي...} [الأعراف: 35].
عليكم أن تستقبلوا رسل الله استقبال الملهوف المستشرق المتطلع إلى ما يحميه وإلى ما ينفعه؛ لأن الرسول هو من يعلن لكل واحد منكم ما أحله الله من طيبات الحياة وملاذها، ويبين لكم ما حرم الله ليحيا المجتمع سليماً.

 

كان المظنون أن ساعة يأتي الرسول نجد المجتمع يحرص على ملازمته وعلى تلقي البلاغ منه، لا أن يظل الرسول يدعو باللين بينما المجتمع يتأبى عليه. لكن من رحمة الله أن يتأبى المجتمع ويلح الرسول مبيناً آيات الله وبيناته كي يأخذ كل إنسان ما يساعده على أمر حياته ويهتدي إلى الصراط المستقيم، وأنت إذا ما أصبت في عافيتك تلح على الطبيب وتبحث عنه، فكان مقتضى العقل أنه إذا جاء رسول ليبلغنا منهج الله في إدارة حركة الحياة أن نتشوق إليه ونتطلع، لا أن نعاديه، وعادة ما يسعد بالرسول أهل الفطرة السليمة بمجرد أن يقول الرسول: أنه رسول ومعه آية صدقه. ويقيس أهل الفطرة السليمة قول الرسول بماضيه معهم، فيعلمون أنه مخلص لم يرتكب الإثم. وهذه فائدة قوله الحق: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
 

فلم يأت لكم إنسان لا تعرفونه بل لكم معه تاريخ واضح وجلي، لذلك نجد الذين آمنوا برسول الله أول الأمر لم ينتظروا إلى أن يتلو عليهم القرآن، لكنهم آمنوا به بسوابق معرفتهم له؛ لأنهم عايشوه، وعرفوا كل تفاصيل أخلاقه. ومثال ذلك: عندما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم سيدتنا خديجة- رضوان الله عليها- بنبأ رسالته وأسرّ لها بخوفه من أن يكون ما نزل إليه هو من أمور الجن أو مسها، أسرعت إلى ورقة بن نوفل؛ لأنه عنده علم بكتاب، وقبل ذلك قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلَّ وتعين على نوائب الحق وتكسب المعدوم».
وكل هذه المقدمات تدل على أنك- يا رسول الله- في حفظ الله ورعايته؛ لأنك كنت مستقيم السلوك قبل أن تُنَّبَّأ، وقبل أن توجد كرسول من الله. وهل معقول أن مَن يترك الكذب على الناس يكذب على الله؟! وكذلك نجد سيدنا أبا بكر الصديق بمجرد ما أن قال رسول الله: أنا رسول، قال له: صدقت.

 

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صدق الفطرة، وهذه هي فائدة {رسول من أنفسكم} أو من جنسكم البشري حتى نجد فيه الأسوة الحسنة. ولو جاء لنا رسول من الملائكة وقال لنا: هذا هو المنهج ولكم أسوة بي، كنا سنرد عليه الرد المقنع السهل اليسير: وهل نقدر أن نفعل مثلك وأنت ملَكٌ مفطور على الخير؟. لكن حين يأتينا رسول من جنسنا البشري، وهو صالح أن يصدر منه الخير، وصالح أن يصدر منه الشر فهو الأسوة الموجودة، ولذلك كان من غباء الكافرين أن قالوا ما جاء به القرآن على ألسنتهم: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94].
 

إنه الغباء وقصر النظر والغضب؛ لأن الله بعث محمداً وهو من البشر، فهل كانوا يريدون مَلَكاً؟ ولو كان ملكاً فكيف تكون به الأسوة وطبعه مختلف عن طبائع البشر؟. ولذلك يرد الحق الرد المنطقي: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95].
وذلك حتى تتحقق لنا الأسوة فيه؛ فسبحانه لم يقتحم وجودكم التكليفي، ولم يُدخلكم في أمر يشتد ويشق عليكم لكنه جاء لكم بواحد منكم تعرفون تاريخه. ولم يأت به من جنس آخر. {يابني ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي...} [الأعراف: 35].
وانظر قوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}، لقد جاء بكلمة (يقصّون) لأن القصص مأخوذة من مادة (القاف) و(الصاد المضعَّفة)؛ وهذا مأخوذ من (قصّ الأثر)، وكان الرجل إذا ما سرقت جماله أو أغنامه يسير ليرى أثر الأقدام. إذن {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} أي أنهم ملتزمون بما جاء لهم، لا ينحرفون عنه كما لا تنحرفون أنتم عن قص الأثر حين تريدون المؤثِّر في الأثر. {... فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35].
و(التقوى) هو أن تجعل بينك وبين شيء يضرك وقاية. ولذلك يقول الحق: {اتقوا النار}، لنرد عن أنفسنا بالعمل الصالح لهيب النار. وإذا قيل: {واتقوا الله} أي اتقوا متعلقات صفات الجبروت من الله؛ لأنكم لن تستطيعوا تحمل جبروت ربنا، وعليكم أن تلتزموا بفعل الأوامر وتلتزموا أيضاً بترك النواهي. والأمر بالتقوى هنا يعني ألا ننكر ونجحد رسالات الرسل؛ لأنهم إنما جاءوا لإِنقاذ البشر، فالمجتمع حين يمرض، عليه أن يسرع ويبادر إلى الطبيب القادم بمنهج الله ليرعاه، وهو الرسول؛ لذلك لا يصح الجحود برسالة عليها دليل ومعجزة. {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
و(أصلح) تدل على أن هناك شيئاً غير صالح فجعله صالحاً، أو حافظ على صلاح الصالح ورقَّى صلاحه إلى أعلى، مثل وجود بئر نشرب منه، فإن كانت البئر تؤدي مهمتها لا نردمها، ولا نلقي فيها قاذورات، وبذلك نبقي الصالح على صلاحه، ويمكن أن نزيد من صلاح البئر بأن نبني حول فوهتها سوراً، أو أن نقوم بتركيب مضخة تمتص الماء من البئر لضخه إلى البيوت.

وبذلك نزيد الصالح صلاحاً، والآفة في الدنيا هم الذين يدعون الإِصلاح بينما هم مفسدون، يقول الله فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103-104].
 

إذن فحين تقدم على أي عمل لابد أن تعرف مقدمات هذا العمل، وماذا ستعطيه تلك المقدمات، وماذا سوف تأخذ منه. وأبق الصالح في الكون على صلاحه أو زده إصلاحاً، وهنا لا خوف عليك ولن تحزن على شيء فاتك ليتحقق قول الحق: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ...} [الحديد: 23].
وما المقابل لمن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ أي هؤلاء الذين أصلحوا واتقوا؟ المقابل هو ما يأتي في قوله الحق: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا...}.

image.png.7f41afac03d6c5a1de9f8583e9d8b5b8.png


{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)}
 

ولماذا يكون مصير المكذبين بالآيات والمستكبرين عنها أن يكونوا أصحاب النار ويكونوا فيها خالدين؟ لأنهم وإن تيسرت لهم أسباب الحياة لم يضعوا في حسابهم أن يكون لهم نصيب في الآخرة ولم يلتفتوا إلى الغاية، وغاب عنهم الإِيمان بقول الحق: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].
 

وهب أن الواحد منهم قد أخذ ما أخذ في الدنيا، فلماذا نسي أنها موقوتة العمر؟ ولماذا لم يلتفت إلى الزمن في الآخرة؟. عليك أن تعلم أنك في هذه الدنيا، خليفة في الأرض، ومادمنا جميعاً أبناء جنس واحد ومخلوقين فيها والسيادة لنا على الأجناس فلابد أن تكون لنا غاية متحدة؛ لأن كل شيء اختلفنا فيه لا يعتبر غاية، فالغاية الأخيرة هي لقاء الله؛ لأن النهاية المتساوية في الكون هي الموت ليسلمنا لحياة ثانية، فالذي يستكبر عن آيات الله هو من دخل في صفقة خاسرة؛ لأن من يقارن هذه الدنيا بالحياة الأخرى سيجد أن زمن الإِنسان في الدنيا قليل، وزمن الآخرة لا نهاية له. وعمر الإِنسان في الدنيا مظنون غير متيقن، والمتعة فيها على قدر أسباب الفرد وإمكاناته، لكن الآخرة متيقنة، ونعيم المؤمن فيها على قدر طلاقة قدرة الله. {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 36].
وأصحاب النار. يعني أن يصاحب ويلازم المذنب النار كما يصاحب ويلازم الإِنسان منا صاحبه؛ لأن النار على إلف بالعاصين، وهي التي تتساءل: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ}؟.

 

نداء الايمان

 

image.png.d33dcf2bf0ff0157bc004fa75a3decfb.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)}


{فَمَنْ أَظْلَمُ} تأتي على صيغة السؤال الذي لن تكون إجابته إلا الإِقرار. ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب؛ لأنه أولاً ظلم نفسه، وظلم أمته، وأول ظلم النفس أن يرتضي حياة زائلة وأن يترك حياة أبدية، وأما ظلمه للناس فلأنه سيأخذ أوزار ما يفعلون؛ لأنه قد افترى على الله كذباً. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}.
أي قوَّل الله ما لم يقله، أو كذَّب ما قاله الله، وكلا الأمرين مساوٍ للآخر. والآية- كما نعلم- هي الأمر العجيب، والآيات أُطلقت في القرآن على معانٍ متعددة؛ فالحق يقول: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ...} [فصلت: 3].
وكذلك أطلقت على المعجزات التي يرسلها الله تأييداً لرسله. {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون...} [الإسراء: 59].
فالآيات هنا هي المعجزات أي الأمور العجيبة.
وحدثنا القرآن عن الآيات الكونية فقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر...} [فصلت: 37].



فالآية إذن هي الشيء العجيب وهي تشمل آيات القرآن؛ لأنك حين تنظر إلى نظم آيات القرآن، وإلى استيعابها إلى حقائق الوجود وإلى استيفائها لقضايا الكون كله تقول لنفسك: هذا شيء عجيب؛ لأن الذي جاءت على لسانه هذه الآيات نبي أمي، ما عرف عنه أنه زاول تعلماً، وما جربوا عليه أنه قال شعراً، أو نثراً أو له رياضة في كلام، وبعد ذلك ما جرب حكم أمم، وما درس تاريخ الأمم حتى يستنبط القوانين التي أعجزت الحضارات المعاصرة عن مجاراتها.


إن الأمة البدوية حينما ذهب بمنهجها إلى الفرس، وكانت الفرس لها حضارة الشرق كلها، وعلى الرغم من ذلك أخذت الفرس قوانينها من هذه الأمة البدوية، وكان كل نظام هذه الأمة المتبدية قبل مجيء الرسالة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلص في نظام القبيلة وكل قبيلة لها رئيس، وبعد أن جاءت رسالته صلى الله عليه وسلم جاء بنظام يجمع أمم العالم كلها، ثم ينجح في أدراة الدنيا كلها، وهذه مسألة عجيبة، وكل آية من هذه الآيات كانت معجزة وعجيبة.
وكذلك الآيات الكونية التي نجدها تتميز بالدقة الهائلة؛ فالشمس والقمر بحسبان، وكل في فلك يسبحون، إنه نظام عجيب.



إذن فالعجائب في الآيات هي آيات القرآن، والمعجزات والآيات الكونية. وكيف يكذبون إذن بالآيات؟. ألا ينظرون إلى الكون. وما فيه من دقة صنع وهندسة بناء تكويني لا تضارب فيه؟ وهي آيات تنطق بدقة الخالق؛ فهو العالم، القادر، الحكيم، الحسيب. وكذلك كيف يكذبون الرسول القادم بالمعجزات، ويقولون: إنه ساحر، وحين تتلى عليهم آيات يكذبونها. إذن هم لم ينظروا في آيات الكون ليستنبطوا منها عظمة الصانع وحكمته ودقته، ولم يلتفتوا إلى الإِيمان به قمة عقيدية، وكذلك كذبوا بالآيات المعجزات التي جاء بها الرسل فلم يصدقوا الرسل وآخرها وقمتها آيات القرآن العظيم.
وحينما عرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضية، تساءل: كيف تقولون. إنه سحر الناس فآمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنت؟. وحينما قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ...} [النحل: 103].
قال الحق: {... لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].
وقالوا: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5].
فيعلم الحق رسله أن يقول: {... فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
وهنا يأمر الحق رسوله أن يذكرهم بأنه عاش بينهم أربعين عاماً فهل عرف عنه أنه يقول أو يتكلم بشيء من هذا؟
فهل يترك الحق من كذبوا بالآيات؟ أنهم خلق الله، والله استدعاهم إلى الوجود، لذلك يضمن لهم مقومات الحياة، وأمر أسباب الكون أن تكون خدمة هؤلاء المكذبين الكافرين كما في خدمة الطائعين المؤمنين. ومن يحسن منهم الأسباب يأخذ نتائجها، وإن أهمل المؤمنون الأخذ بالأسباب فلن يأخذوا نتائجها، وكل هذا لأنه عطاء ربوبية ولأنه خلق فلابد أن يرزق، والنواميس الكونية تخدم الطائع وتخدم العاصي؛ لأن ذلك من سنة الله ولن يجد أحد لسنة الله تبديلا.



إذن فكفرهم لن يمنع عنهم نصيبهم من الكتاب الذي قَدَّر لهم، من الرزق والحياة، ما هو مسطر في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لذلك يقول الحق: {أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب...} [الأعراف: 37].
أو ينالهم، أي يصيبهم عذاب مما هو مبين في الكتاب الذي أرسلناه ليوضح أن الطائع له الثواب، والعاصي له العقاب، فيقول الحق هنا: {... حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأعراف: 37].



وساعة تسمع {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} تفهم أن الحياة تنتهي، وتنفصل الروح عن الجسد فهذا هو (التوفي)، فمرة ينسب إلى الحق الأعلى سبحانه وتعالى، ومرة ينسب إلى المَلَك، ومرة يراد منه أتباع المَلَك أي جنوده يقول- سبحانه-: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ}، والأساليب الثلاثة ملتقية؛ لأن ملك الموت لم يأت بالموت من عنده، بل أخذ التلقي من الله، فالأمر الأعلى من الله، وأمر التوسط للملك، وأمر التنفيذ للرسل.
و(التوفي) على إطلاقه هو استيفاء الأجل، فإن كان أجل الحياة فهو ترفية بالموت، وإن كان الأجل البرزخ وهو المدة التي بين القبر والحساب. إلى أن يجيء ميعاد دخولهم النار فهذا هو توفي أجلهم الثاني؛ لأن كل إنسان له أجلان: أجل ينهي هذه الحياة، والأجل الذي يأخذه في البرزخ إلى أن يجيء الحساب. وهذا لا يمنع أن يقال: إن قيامة كل إنسان تأتي بموته؛ لأن للقيامة مراحل بدءا من القبر ونهاية بالخلود في الجنة أو في النار.
وحين تسألهم الملائكة: {... أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأعراف: 37].
هم إذن يعترفون أن من كانوا يدعونهم من دون الله قد غابوا واختفوا ولا يظهر لهم أثر.
{وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...} [السجدة: 10].
وهم- إذن- يقرون غياب من كانوا يدعونهم من دون الله، والمراد أنه لا وجود لهم، وهم بذلك قد شهدوا على أنفسهم بكفرهم. ولكن هذه الشهادة لا تجدي لأن زمن التكليف قد انتهى، وهم الآن في دار قهر لكل ما يريده الله؛ ففي دار التكليف كان الإِنسان حرًّا أن يفعل أو ألاّ يفعل، ولكن في الدار الآخرة لا تنفع هذه الشهادة. وذلك لتبين عدالة الجزاء الذي يصيبهم، ولن يتأبوا على الجزاء




image.png.f83a6fef9efd98db4028b21b4d91f9



{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)}
ويوضح لنا الحق أنه بأوامر (كن) سيدخلون كما دخلتها أمم قد خلت من قلبهم فليسوا بدعاً، وليدخلوا معهم إلى المصير الذي يذهبون إليه، وهم أمم خليط؛ لأن الكفر سوف يلتقي كله في الجزاء.
إن الاقتداء بالأمم التي سبقت هو الذي قادهم إلى الكفر؛ فالأمم التي سبقت كانت أسوة في الضلال للأمة التي لحقت، فإذا ما دخلوا لعنوهم.
وهب أن إنساناً دخل مرة السجن لجرم ارتكبه، وبعد ذلك دخل عليه من كان يغربه بالجرم. ومن كان يزين له، ومن اقتدى به. بالله ساعة يلتقيان في السجن ألا يلعن الأول الثاني؟ {... كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38].



وبعد أن يلحق بعضهم بعضاً ويجتمعوا، يحدث بينهم هذا الحوار العجيب: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار...} [الأعراف: 38].
فإن قلت الأخرى أي التي دخلت النار متأخرة كانت الأولى هي القدوة في الضلال وقد سبقتهم إلى النار، {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ}، أي أن الأولى هم القادة الذين أضلوا، والطائفة الأخرى هم الأتباع الذين قلدوا. {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا}. وهم يتوجهون بالكلام إلى ربنا: {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا}.
كيف يتأتى هذا؟. وكان المقياس أن يقول: قالت أخراهم لأولاهم أنتم أضللتمونا لكن جاء هذا القول، لأن الذين أضلوا غيرهم أهون من أن يخاطبوا؛ لأن الموقف كله في يد الله، وإذا ما قالوا لله المواجه للجميع: {هؤلاء أَضَلُّونَا} فهؤلاء، هذه رشارة إليهم، فكأن القول موجه لله شهادة منهم إلى من كان وسيلة لإضلالهم وهم يقولون لربنا هذا حتى يأخذوا عذاب الضعف من النار مصداقاً لقوله الحق: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار...} [الأعراف: 38].
فقال لهم جميعاً: {... لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ}.
فلكل أمة منهم ضعف العذاب بما ضلت وأضلت. ونفهم أن الضّعْف معناه (شيء مساوٍ لمثله)، فأنتم أيها المقلدون غيركم قد أضللتم سواكم بالأسوة أيضاً؛ لأنكم كثرتم عددهم وقويتم شوكتهم وأغريتم الناس باتباعهم.
ويكون لكم ضعف العذاب بحكم أنكم أضللتم أيضاً، وأنتم لا تعلمون أن من يحاسبكم دقيق في الحساب، ويعطي كل إنسان حقه تماماً.
وماذا تقول أولاهم لأخرهم؟ يقول الحق سبحانه: {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ...}.


image.png.34f3b542e97c3bb5a893933d456927


{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}
أي مادمتم ستأخذون ضعف العذاب مثلنا فقد تساوت الرءوس {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} كأن المجرم نفسه ساعة يلتقي ويستقبل مجرماً مثله، يقول له: اشرب من العذاب نفسه، وليس ذلك تجنياً من الله، ولا بسلطة القهر لعباده، ولكن بعدالة الحكم؛ لأن ذلك إنما حدث بسبب ما كسبتم.
ومعلوم أن التذوق في الطعوم، فهل هم يأكلون العذاب؟. لا، إنّ الحق قد جعل كل جارحة فيهم تذوق العذاب، والحق حين يريد شمول العذاب للجسم يجعل لكل عضو في الجسم حساسية الذوق كالتي في اللسان.



ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وهذه هي الإذاقة، كأنها صارت لباساً من الجوع يشمل الجسد كله، والإِذاقة أشد الإِدراكات تاثيراً، واللباس أشمل للجسد. {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}.
ولم يقل الحق: بما كنتم تكتسبون؛ لأن اكتسابهم للسيئات لم يعد فيه افتعال، بل صار أمراً طبيعياً بالنسبة لهم، وعلى الرغم من أن الأمر الطبيعي في التكوين أن يصنع الإنسان الحسنة دون تكلف ولا تصنع، وفي السيئات يجاهد نفسه؛ لأن ذلك يحدث على غير ما طبع عليه، ولكن هؤلاء من فرط إدمانهم للسيئات فسدت فطرتهم ولم تعد ملكاتهم تتضارب عند فعل السيئات، بل صاروا يرتكبون الإثم كأمر طبيعي، وهذا هو الخطر الذي يحيق بالمسرفين على أنفسهم؛ لأن الواحد منهم يفرح بعمل السيئات.




image.png.87ed69596aa2ac835bf09861a205df


 

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)}
والحق يريد أن يعطي حكماً جديداً ويحدد من هو المحكوم عليه ليعرف بجريمته، وهي جريمة غير معطوفة على سابقة لها، وليعرف كل إنسان أن هذه جريمة، وأن من يرتكبها يلقى حكماً وعقاباً. {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا}.
وقد عرفنا من قبل معنى الايات. وأنها ايات القرآن المعجزة أو الايات الكونية، وأي إنسان يظن نفسه أكبر من أن يكون تابعاً لمنهج جاء به رسول عرف بين قومه بأمانته، وهذا الانسان يستحق العقاب الشديد. فصحيح أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن له من الجاه ولا سلطان ما ينافس به سادة وكبراء قريش، ولذلك وجدنا من يقول: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
إنهم يعترفون بعلو القرآن، لكنهم تمنوا لو أن القرآن قد نزل على إنسان غيره بشرط أن يكون من العظماء بمعاييرهم وموازينهم المادية.
ومن يكذب الايات ويستكبر عن اتباع الرسول لا تفتح له أبواب السماء. {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين} [الأعراف: 40].



وبذلك نعرف من هم الذين لا تفتح لهم أبواب السماء، وبطبيعة الحال نعرف أن المقابلين لهم هم الذين تفتح لهم أبواب السماء.. إنهم المؤمنون، وحين تصعد أرواحهم إلى الملأ الأعلى تجد أعمالهم الصالحة تصعد وترتفع بهم إلى أعلى. أما المكذبون فهم لا يترقون بل يهبطون ولا يدخلون الجنة، وقد علق سبحانه دخول الجنة بمستحيل عقلاً وعادة وطبعاً: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط}.
و{سَمِّ الخياط} هو ثقب الإبرة، أي الذي تدخل فيه فتلة الخيط، ولا تدخل فتلة الخيط في الثقب إلا أن يكون قطر الفتلة أقل من قطر الثقب، وأن تكون الفتلة من الصلابة بحيث تنفذ، وأن تكون الفتلة غير مستوية الطرف؛ لأنها إن كانت مقصوصة وأطرافها مستوية فهي لا تدخل في الثقب؛ لذلك نجد الخياط يجعل للفتلة سناً ليدخلها في ثقب الإبرة.
وحين نأتي بالجمل ونقول له: ادخل في سم الخياط، فهل يستطيع؟ طبعاً لا؛ لذلك نجد الحق سبحانه قد علق دخول هؤلاء الجنة على مستحيل.
بعض الناس قالوا: وما علاقة الجمل بسم الخياط؟
نقول: إن الجمل يطلق أيضاً على الحبل الغليظ المفتول من حبال، مثل حبال المركب إننا نجده سميكاً مجدولاً.



وأخذ الشعراء هذه المسألة؛ ونجد واحداً منهم يصف انشغاله بالحبيب وشوقه إليه وصبابته به حتى يهزل ويستبد به الضعف فيقول:
ولو أن ما بي من جوى وصبابة ** على جمل لم يدخل النار كافر


لأن الجوى والصبابة التي يعاني منهما هذا الشاعر، لو أصيب بهما الجمل فلسوف ينحف وينحف ويهزل، إلى أن يدخل في سم الخياط، وهنا يوضح ربنا: إن دخل الجمل في سم الخياط فسوف أدخلهم الجنة. {... حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين} [الأعراف: 40].
وهم يستحقون هذا الجزاء بما أجرموا.




image.png.b66b0c9d518c62b3e91747eb3bd2ac


{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)}
المهاد هو الفراش، ومنه مهد الطفل، والغاشية هي الغطاء، أي أن فرش هذا المهاد وغطاءه جهنم. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ...} [الزمر: 16].
إذن الظلل والغواشي تغطي جهتين في التكوين البعدي للإِنسان، والأبعاد ستة وهي: الأمام والخلف، واليمين والشمال، والفوق والتحت، والمهاد يشير إلى التحتية، والغواشي تشير إلى الفوقية، وكذلك الظلل من النار، ولكن الحق شاء أن يجعل جهنم تحيط بأبعاد الكافر الستة فيقول سبحانه: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا...} [الكهف: 29].
وهذا يعني شمول العذاب لجميع اتجاهات الظالمين.
وجهنم مأخوذة من الجهومة وهي الشيء المخوف العابس الكريه الوجه، ثم يأتي بالمقابل ليشحن النفس بكراهية ذلك الموقف، ويحبب إلى النفس المقابل لمثل هذا الموقف، فيقول سبحانه: {والذين آمَنُواْ...}.




نداء الايمان


 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)}
بهذا يخبرنا الحق أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم أصحاب الجنة وهم فيها خالدون، ويضع لنا الحق تنبيهاً بين مقدمة الآية وتذييلها {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}؛ لنفهم أن المسرفين على أنفسهم بالكفر وتكذيب الآيات لم يفهموا حقيقة الإِيمان، وأن حبس النفس عن كثير من شهواتها هو في مقدور النفس وليس فوق طاقتها؛ لذلك أوضح لنا سبحانه أنه كلف ب (افعل ولا تفعل) وذلك في حدود وسع المكلَّف.

 

وحين نستعرض الصورة إِجمالاً للمقارنة والموازنة بين أهل النار وأهل الجنة نجد الحق قد قال في أهل النار: {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين} [الأعراف: 40].
فهم لن يدخلوا الجنة، وعلى ذلك فقد سلب منهم نفعاً، ولا يتوقف الأمر على ذلك، ولكنهم يدخلون النار، إذن فهنا أمران: سلب النافع وهو دخولهم الجنة، إنه سبحانه حرمهم ومنعهم ذلك النعيم، وذلك جزاء إجرامهم. وبعد ذلك كان إدخالهم النار، وهذا جزاء آخر؛ فقال الحق: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وكذلك نَجْزِي الظالمين} [الأعراف: 41].
في الأولى قال سبحانه: {وكذلك نَجْزِي المجرمين}.
وفي الثانية قال: {وكذلك نَجْزِي الظالمين}.
فكأن الإجرام كان سبباً في ألا يدخلوا الجنة، والظلم كان سبباً في أن يكون من فوقهم غواش، لهم من جهنم مهاد، وهم في النار يحيطهم سرداقها.
ومن المناسب بعد تلك الشحنة التي تكرهنا في أصحاب النار وفي سوء تصرفهم فيما كلفوا به أولاً، وسبب بشاعة جزائهم ثانياً؛ أن نتلهف على المقابل. فقال سبحانه: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42].

 

وقول الحق سبحانه وتعالى: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} جاء بين المبتدأ والخبر، ككلام اعتراضي؛ لأن أسلوب يقتضي إبلاغنا أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الخلود في الجنة، وجاءت {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} بين العمدتين وهما المبتدأ والخبر؛ لأننا حينما نسمع {والذين آمَنُواْ} فهذا عمل قلبي، ونسمع بعده {وَعَمِلُواْ الصالحات} وهذا عمل الجوارح، وبذلك أي بعمل القلب مع عمل الجوارح يتحقق من السلوك ما يتفق مع العقيدة. والاعتقاد هو يسهل دائما السلوك الإيماني ويجعل مشاق التكاليف في الأعمال الصالحة مقبولة وهينة، ولذلك أوضح سبحانه: إياكم أن تظنوا أني قد كلفتكم فوق طاقتكم، لا؛ فأنا لا أكلف إلا ما في الوسع، وإياكم أن تفهموا قولي: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} هو رغبة في إرهاق نفوسكم، ولكن ذلك في قدرتكم لأنني المشرع، والمشرع إنما يضع التكليف في وسع المكلَّف.
ونحن في حياتنا العملية نصنع ذلك؛ فنجد المهندس الذي يصمم آلة يخبرنا عن مدى قدرتها، فلا يحملها فوق طاقتها وإلا تفسد.
وإذا كان الصانع من البشر لا يكلف الآلة الصماء فوق ما تطيق، أيكلف الذي خلق البشر فوق ما يطيقون؟ محال أن يكون ذلك.

 

إذن فيجب أن نوصد الباب أمام الذين يحاولون أن يتحللوا من التزامات التكليف عليهم، فلا تعلق الحكم على وسعك الخائر الجائر، ولكن غلق الوسع على تكليف الله، فإن كان قد كلف فأحكم لأن ذلك في الوسع؛ والدليل على كذب من يريد الافلات من الحكم هو محاولته إخضاع الحكم لوسعه هو؛ أن غيره يفعل ما لا يريد أن يفعله. فحين ينهى الحق عن شرب الخمر تجد غيرك لا يشرب الخمر امتثالاً لأمر الله، وكذلك تجد من يمتنع عن الزنا أو أكل الربا؛ فإذا كان مثيلك وهو فرد من نوعك قادراً على هذا العمل فمن لا يمتنع عن مثل هذه المحرمات هو المذنب لا لصعوبة التكليف.
 

فالتكليف هو أمر الشارع الحكيم ب (افعل) و(لا تفعل) وسبحانه لا يكلف الإنسان إلا إذا كان قادراً على أن يؤدي مطلوبات الشرع؛ لأن الله لا يكلف إلا على قدر الطاقة، واستبقاء الطاقة يحتاج إلى قوت، طعام، شراب، لباس، وغير ذلك مما تحتاج إليه الحياة، لذلك أوضح سبحانه أنه يوفر للإِنسان كل ماديات الحياة الأساسية، وإياكم أن تظنوا أن الله حين يكلف الإنسان يكلفه شططاً، ولكن الإنسان هو الذي يضع في موضع الشطط. فقال: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ...} [الطلاق: 7].
{وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضيق عليه قليلاً.
ويقول سبحانه: {فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ ما آتَاهَا...} [الطلاق: 7].
إذن لا تفترض وتقدر أنت تكاليف المعيشة ثم تحاول إخضاع وارداتك إلى هذا التصور، بل انظر إلى الوارد أليك وعش في حيز وإطار هذا الوارد، فإن كان دخلك مائة جنيه فرتب حياتك على أن يكون مصروفك يساوي دخلك؛ لأن الله لا يكلفك إلا ما آتاك.

 

ولننظر إلى ما آتانا الله؛ لذلك لا تدخل في حساب الرزق إلا ما شرع الله، فلا تسرق. ولا تنهب ولا تختلس ولا ترتش ثم تقول: هذا ما آتاني الله، لا، عليك ألاَ تأخذ ولا تنتفع إلا بما أحل الله لك، فإن عشت في نطاق ما أحل الله يعينك الله على كل أمرك وكل حاجاتك، لأنك تحيا بمنهج الله، فيصرف عنك الحق مهمات الحياة التي تتطلب أن تزيد على ما آتاك الله، فلا تخطر على بالك أو على بال أولادك.

وتجد نفسك- على سبيل المثال- وأنت تدخل السوق وآتاك الله قدراً محدوداً من المال، وترى الكثير من الخيرات، لكن الحق يجعلك لا تنظر إلا في حدود ما في طاقتك، وكذلك يُحسّن لك الله ما في طاقتك ويبعد عنك ما فوق طاقتك؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا ما آتاها، ولا يحرك شهوات النفس إلا في حدود ذلك.
ولذلك قال الحق: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42].

 

وأصحاب الجنة هم الذين لا يفارقونها مثلما يحب الصاحب صاحبه؛ فالجنة تتطلبهم، وهم يتطلبون الجنة، والحياة فيها بخلود وما فاتك من متع الدنيا لم يكن له خلود، وأنت في الدنيا تخاف أن تموت وتفوت النعمة، وإن لم تمت تخاف أن تتركك النعمة؛ لأن الدنيا أغيار، وفي ذلك لفت لقضايا الله في كونه، تجد الصحيح قد صار مريضاً، والغني قد صار فقيراً، فلا شيء لذاتية الإنسان. وبهذا يعدل الله ميزان الناس فيأتي إلى الحالة الاقتصادية ويوزعها على الخلق، ونجد الذي لا يتأبى على قدر الله في رزقه وفي عمله يجعل الله له بعد العسر يسراً. وفي الجنة يُخلي الله أهلها من الأغيار.


image.png.15c8d72f01fd9ab0c20eee3672641700.png

 

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}
وقوله الحق: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} ينطبق- أيضا- على أهل الاجتهاد الذين اجتهد كل منهم في الدنيا، واختلفوا، هؤلاء يبعثون يوم القيامة وليس في صدر أحدهم غل ولا حقد. لذلك تجد سيدنا الإِمام عليًّا-كرم الله وجهه- حين يقرأ هذه الآية يقول: (اللهم اجعلني أنا وعثمان وطلحة والزبير من هؤلاء). لأن هؤلاء هم الذين وقع بينهم الخلاف في مسألة الخلافة، وكل منهم صحابي ومبشر بالجنة، فإن كانت النفوس قد دخلت فيها أغيار، فإياكم أن تظنوا أن هذه الأغيار سوف تصحبكم في دار الجزاء في الآخرة؛ لأن الله يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}.

 

إن الخلاف كان خلافاً اجتهادياً بين المؤمنين وهم قد عملوا الصالحات وكل منهم أراد الحسن من الأعمال، ونشأ عن ذلك في أغيار الدنيا شيء من عمل القلب، فأوضح سبحانه: إياكم أن تفهموا أن ذلك سوف يستمر معهم في الآخرة؛ لأنهم جميعاً حينما اختلفوا كانوا يعيشون باجتهادات الله، وفي الآخرة لا اجتهاد لأحد. ويريد الحق أن يجعل هذا الأمر قضية كونية، ومثال ذلك تجد رجلاً قد تزوج امرأة بمقاييس غير مقاييس الله في الزواج؛ تزوجها لأنها جميلة مثلاً، أو لأن والدها له جاه أو غني، وبعد الزواج لم يعطه والدها الغني شيئاً من ماله فيقول: غشني وزوجني ابنته، أو كانت جميلة، ثم لقى فيها خصال قبيحة كثيرة فكرهها، ونقول لمثل هذا الرجل: مادمت لم تأخذها بمقاييس الله فعليك أن تنال جزاء الاختيار.
ولكن من تزوج امرأة على دين الله، ووجد منها قبحاً، فلن يصحبه هذا القبح في الآخرة،

ولذلك نجد الحق قد جاء بهذه القضية بالذات، ولم يأت بها في الأبناء أو في البنات، بل في الزوج والزوجة لأنهما عماد الأسرة. فبيّن للرجل: إياك أن تتخيل أن المرأة التي أغاظتك أو أتعبتك أو كدرت عليك بخصلة سيئة فيها، إياك أن تظن أن هذه الخصلة السيئة ستصاحبها في الآخرة، ولذلك قال سبحانه: {وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ...} [آل عمران: 15].
وأزواج مطهرة من الأشياء التي كنت تغضب منها وستكون مطهرة بتطهير الله لها.

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار...} [الأعراف: 43].

ونجد الحق يقول مرة: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} ومرة يقول: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار}، ونجد (مِن) فارقاً بين القولين.

إننا نرى من يستقر في قصر ونجد الماء منساباً حوله وتحته يسر العيون، وماء الآخرة هو ماء غير آسن، وليس فيه أكدار الدنيا، وكما أننا نسر بالماء في الدنيا سنسر به أضعاف ذلك في الآخرة. وقد تجري المياه تحت القصر ولكن نبعها من مكان بعيد فيخاف صاحب القصر أن يقطعها آخر عنه، ويطمئن الحق عباده الصالحين: ستجري من تحت جنانكم الأنهار وكل المياه ستكون ذاتيتها من موقع كل مكون أنت فيه ولن يتحكم فيك أحد، ولن يسد أحد عنك منبع المياه وسترى أنهار الآخرة بلا شطآن؛ لأن كل شيء ممسوك لا بالأسباب كما في الدنيا، ولكن ب (كن) التي هي لله.
ولذلك يقول العباد في جنة الآخرة: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله...} [الأعراف: 43].
إنهم يقولون الحمد لله لأنه جل وعلا قد جمعهم ودلهم وأرشدهم إلى الثواب والنعيم دون منغصات، والحمد لله هي عبادة يقولها المؤمنون في الآخرة؛ لأنهم أدوا حق الله في تكاليفه في الدنيا ويعطيهم الله فوق ما يتوقعون في الآخرة. ونعيم الآخرة لا قيد عليه، ولن يستطيع بشر مهما ارتقى بالابتكار أن يصل إلى ما في الجنة؛ لأن الشيء يتحقق لك من فور أن يخطر ببالك.
{وَقَالُواْ الحمد للَّهِ}.

وهذا الحمد لله كان في الدنيا عبادة تكليف، أمّا في الآخرة فهو عبادة غبطة وسرور وتلذذ. {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله}.
 

يقولها المؤمن؛ لأن الله لو لم ينزل منهجاً سماوياً يحدد له حركة حياته استقامة وينذره ويخوفه من المعاصي لما وصل إلى الجنة. والهداية- كما قلنا- هي الدلالة على الطريق الموصل للغاية، إذن لابد أن تعرف الغاية أولاً ثم تضع الطريق الموصل لها، بحيث لا يكون معوجاً ولا يعترضك فيه ما يطيل عليك المسافة، وقوله الحق: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله} يمنع أن يضع البشر للبشر قوانين تهديهم إلى الغاية؛ لأن البشر أنفسهم لا يعرفون الغاية؛ لذلك يوضحها لهم خالقهم بمنهجه المنزل على رسوله.
ومادامت الهداية من الله فسبحانه لن يخاطب كل إنسان مباشرة، لكنه سبحانه ينزل الرسل يتلون علينا آيات الله ويوضحون لنا المنهج؛ لذلك يأتي الحق في الآية نفسها يقوله الحكيم: {... لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].

 

أنت في الحياة الدنيا حين تجد من يقول لك: إن أردت أن ترتاح فأنا أنصحك أن تمشي إلى المكان الفلاني واذهب إليه عن الطريق الفلاني، وستجدك سعيداً مرتاح البال، ثم صدقته ونفذت ما قال، ووجدت الرجل صادقاً. ألا تشعر بالسعادة؟. وإذا كان الحق قد أرسل الرسل بالبينات والآيات والمنهج الصحيح، وسار عليه المؤمنون ثم وجدوا الجنة والنعيم؛ لذلك كان لابد أن يشكروا الله وأن يقولوا: {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} لأن الرسل لم يكذبوهم بل جاءوا بالخير لهم. {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
وكأن الحق يوضح لنا ونحن في دار التكليف أن نستقبل المنهج على هذا الأساس، وعلى كل واحد أن يحدد مكانه من الجنة؛ بقربه من منهج الله أو بعده عنه؛ لأن دخول الجنة هو جزاء العمل طبقاً لمنهج الحق.
 

ووقف العلماء هنا- جزاهم الله خيراً- وقالوا: كيف نوفق بين هذه الآية: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لأعراف: 43].
وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لن يُدخل أحداً عمله الجنة».
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة».

وأقول: ليس هناك تناقض بين قول الله سبحانه وتعالى وقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي بلغ عن الله سبحانه، بل بينهما تأييد؛ فالحق ساعة ما شرع أوضح أن من يعمل العمل الصالح سيدخل الجنة، وهذا التشريع لم يجبر أحد الله عليه، بل هو الذي يعطيه لنا فضلا منه؛ فليس لأحد حق على الله؛ لأنه لا يوجد عمل يعود بفائدة على الله، واتباع المنهج إنما يعود على العبد بالمنفعة والخير، فإن دخلت الجنة فهذا أيضاً بالفضل من الله. وينبهنا القرآن إلى الجمع بين هذه الآيات وأنه لا تعارض بين نص حديثي ونص قرآني. يقول: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
فجزاء كل عمل عائد على الإنسان لأنه يأخذ مكافأته على فعله، فإن كانت المكأفاة أكبر من جزاء الفعل فهي من الفضل؛ لأن الحق هو القائل: {... كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} [الطور: 21].
وسبحانه أيضاً هو القائل: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39].
إن فهمت اللغة وكنت صاحب ملكة ناضجة نقول: هذه (اللام) للملك. وتفيد أنه لاحق لك على الله إلا بسعيك على وفق منهج الله، وأن هذه الآية قد حددت العدل ولم تحدد الفضل. {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ...} [يونس: 58].
والمثال على ذلك أننا كمسلمين نصلى على الميت المسلم، وقد أمرنا التشريع بذلك، وأن ندعو الله أن يتجاوز عن سيئاته. فهل تضيف هذه الصلاة إلى الميت شيئا زائداً عن عمله؟ لو لم تكن صلاة تضيف شيئاً لما أمر التشريع بها. فهي صلاة على ميت مسلم، وأسلامه من عمله، ونجد الحق يقول: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ...} [الطور: 21].
أي أن الآباء والأبناء يشتركون معاً في الإيمان وفي العمل، قوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ...} [الطور: 21].
هذا الإلحاق يفيد أن منزلة الذرية كانت أقل من منزلة الآباء، لكن الحق يرفع من منزلتهم إكراماً للآباء. وهذا الإلحاق جزاء للذرية، وقد يكون أيضاً جزاء للآباء؛ فيحضر لهم أولادهم معهم مادام الكل قد اشتركوا في الإيمان، وكان الآباء يتحرون الحلال في إطعام الأبناء ولا يربونهم إلا على منهج الله. وقد يرى الأب أبناء جار له يلبسون الملابس الفاخرة ويأكلون الأكل الطيب، ويتحمل الأبناء ويعيشون عيش الكفاف مع هذا الأب الملتزم بالعمل الصالح والأجر الحلال، وينال الأبناء الجنة مع الأب لأنهم تحملوا معه مشاق الالتزام بالحلال.

 

وهكذا نجد كل إنسان مؤمن قد أخذ نتيجة عمله وزيادة. {... ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لأعراف: 43].
و{أُورِثْتُمُوهَا} من (الإرث) وتدل على أن هناك شيئاً آل إلى الغير. ونعلم أن الله، علم أزلا كيف سيسلك كل مخلوق وما سيفعله من كفر وإيمان وطاعة ومعصية، وعلى رغم ذلك أعد سبحانه لكل واحد من خلقه مكانه في الجنة على أنه مؤمن، وأعد لكل واحد من خلقه مكاناً في النار على أساس أنه سيكفر.

 

إذن فقد أعدَّ سبحانه جناناً بعدد خلقه، وأعدَّ أماكن في الجحيم بعددهم، فليست هناك أزمة أماكن عند إله قادر مقتدر. فإن آمنا كلنا فلن يضيق بنا واسع الجنة، و- والعياذ بالله- إن كفر الخلق جميعاً فلن تضيق بهم النار. فإذا كانوا جماعة من خلق سيدخلون الجنة بالعمل، فأين تذهب أماكن أهل النار؟ إن الحق بفضل منه يمنحها المؤمنين.
إذن فقد ورثوا الذين لم يستحقوا الجنة بسبب الكفر.
وبعد الكلام في الجنة والجزاء وفي حمد التلذذ والسرور والغبطة وفي عهد الجنة، بعد ذلك كان من المناسب أن يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن موقف أهل الجنة من أهل النار

 

نداء الايمان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)}
وهكذا نرى التبكيت، وتصور لنا الآية كيف يرى أهل الجنة أهل النار، وهذا الترائي من ضمن النعيم ومن ضمن العذاب الأليم، فحين يرى المؤمن بمنهج الله من عاداه وقهره وآذاه وهو في النار فهذا من تمام اللذة. والآخر حين يرى مخالفه في الجنة فهذا أيضاً من تمام العذاب. إذن لابد أن يتراءوا، ولذلك يحدث الحوار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار معترفين بأنهم وجدوا ما وعدهم به الله حقاً وصدقاً، وأن الحق قد وهبهم هذه الجنة. فهل- يا أهل النار- وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟

 

ونلاحظ أن هناك خلافاً بين الأسلوبين مع أن السياق المنطقي واحد؛ فأهل الجنة يقولون: (قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً)، ولم يأت بالكاف في كلمة ما وعد(الثانية) بل قال: (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً)؟
إنه قال سبحانه: (ما وعد) فقط، ولم يقل ما وعدكم كما قال:(ما وعدنا) لأن المراد أن يلفتهم إلى مطلق الوعد، وليس الخاص بهم فقط، بل وأيضاً الخاص بالمقابل، وهكذا يتحقق الوعد المطلق لله. فأهل الجنة بإيمانهم وأعمالهم في الجنة فضلاً من الله، وأهل النار بكفرهم وعصيانهم عقاباً من الله.
وهنا يجيب أهل النار:(قالوا نعم).
وهذا إقرار منهم بالواقع الذي عاشوه واقعاً بعد أن، كان وعيداً، وهم لم يكابروا لأن المكابرة إنما تحدث بين الخصمين في غير مشهد، وهم في الدنيا قبل أن يوجد المشهد كانوا يكذبون البلاغ عن الله، وصارت الدار الآخرة واقعاً، وتحقق وجودهم في النار. {... فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44].
أي فينادي مناد من الملائكة يُسمع أهلَ الجنَّة وأهل النار بأن الطرد من رحمة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم؛ بعدم الإِيمان وبالتكذيب باليوم الآخر.

image.png.c348f6b10ed016c999409eb2eedfce1e.png

 

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)}
والذي يصد عن سبيل الله هو من امتنع عن سبيل الله، وصد غيره، أي ضلّ في ذاته ثم أضل غيره، وهؤلاء هم الذين يطلبون منهج الله معوجاً، ويذمونه ولا يؤمنون به فيعترضون على إقامة الحدود والقصاص، وينفرون الناس عن منهج الله؛ لينصرف الناس عن الدين. هم إذن قد صدوا عن سبيل الله وطلبوا العوج فيما شرع الله لينفروا الناس عمّا شرع الله، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل هم بالآخرة كافرون، ولو كان الواحد منهم مؤمناً بالآخرة ويعلم أن له مرجعاً ومرداً إلى الله لما فعل ذلك.

image.png.5a0b7c170d83387ce5794204637761cd.png

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)}
الحجاب موجود بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وهم يتراءون من خلاله، وبيّنه الحق سبحانه فقال: {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} [الحديد: 13].
باطن هذا الحجاب الرحمة من ناحية أهل الجنة، وظاهره المواجه لأهل النار فيه العذاب، والحق هو القادر على كل شيء؛ لذلك لا ينال أهل الجنة شيء من شقاء أهل النار، ولا ينال أهل النار شيء من نعيم أهل الجنة، ويسمع أهل النار رداً على طمعهم في أن ينالهم بعض من نور أهل الجنة، إنكم تلتمسون الهدى في غير موطن الهدى؛ فزمن التكليف قد انتهى، ومن كان يرغب في نور الآخرة كان عليه أن يعمل من أجله في الدنيا، فهذا النور ليس هبة من خلق لخلق، وإنما هو هبة من خالق لمخلوق آمن به. وأنتم تقولون: انظرونا نقتبس من نوركم، وليس في مقدور أهل الجنة أن يعطوا شيئاً من نور أهل الجنة فالعطاء حينئذ لله. {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ...} [الأعراف: 46].

 

و{كُلاًّ} المعنيّ بها أصحاب الجنة وأصحاب النار، فقد تقدم عندنا فريقان؛ أصحاب الجنة، وأصحاب النار وهناك فريق ثالث هم الذين على الأعراف، و(الأعراف) جمع (عُرف) مأخوذ من عرف الديك وهو أعلى شيء فيه، وكذلك عرف الفرس. كأن بين الجنة مكانا مرتفعاً كالعرف يقف عليه أناس يعرفون أصحاب النار بسيماهم فكأن من ضمن السمات والعلامات ما يميز أهل النار عن أهل الجنة.
 

وكيف توجد هذه السمات؟ يقال إن الإنسان ساعة يؤمن يصير أهلا لاستقبال سمات الإيمان، وكلما دخل في منهج الله طاعة واستجابة أعطاه الله سمة جمالية تصير أصيلة فيه تلازمه ولا تفارقه وبالعكس من ذلك أصحاب النار فتبتعد عنهم سمات الجلال والجمال وتحل محلها سمات القبح والشناعة والبشاعة.
وإذا ما رأى أهل الأعراف أصحاب الجنة يقولون: سلام عليكم؛ لأن الأدنى منزلة- أصحاب الأعراف- يقول للأعلى- أصحاب الجنة- سلام عليكم.
 

وجماعة الأعراف هم من تساوت سيئاتهم مع حسناتهم في ميزان العدل الإلهي الذي لا يظلم أحداً مثقال ذرة.

{فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 6-9].
ويا رب لقد ذكرت الميزان، وحين قدرت الموزون لهم لم تذكر لنا إلا فريقين اثنين.. فريق ثقلت موازينه، وفريقاً خفت موازينه، ومنتهى المنطق في القياس الموازيني أن يوجد فريق ثالث هم الذين تتساوى سيئاتهم مع حسناتهم، فلم تثقل موازينهم فيدخلوا الجنة، ولم تجف موازينهم فيدخلوا النار، وهؤلاء هم من تعرض أعمالهم على (لجنة الرحمة) فيجلسون على الأعراف. ومن العجيب أنهم حين يشاهدون أهل الجنة يقولون لهم سلام عليكم على الرغم من أنهم لم يدخلوا، لكنهم يطمعون في أن يدخلوا، لأن رحمة الله سبقت غضبه. {... ونَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46].
وبطبيعة الحال ليس في هذا المكان غش ولا خداع.
وماذا حين ينظرون إلى أهل النار؟

image.png.b28c998e1ef2aaaee34a95983dfc66b3.png

{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)}
انظر إلى التعبير القرآني {صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} أي لم يصرفوا أبصارهم لأن المسألة ليست اختيارية؛ لأنهم يكرهون أن ينظروا لهم لأنهم ملعونون، وكأن في {صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} لونا من التوبيخ لأهل النارُ.
وقوله الحق: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ} أي جهة أصحاب النار يقولون: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين}.
هنا يدعو أهل الأعراف: يا رب جنبنا أن نكون معهم. إنهم حين يرون بشاعة العذاب يسألون الله ويستعيذون به ألا يدخلهم معهم.

image.png.7ccca73ab7f8a7b54756992eb55ccc30.png

 

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)}
وكأن أصحاب الأعراف قد صرفت أنظارهم لأصحاب النار ويرون فيهم طبقات من المعذبين، فهذا أبو جهل، وذاك الوليد، ومعه أمية بن خلف وغيرهم ممن كانوا يظنون أن قيادتهم لمجتمعهم وسيادتهم على غيرهم تعطيهم كل سلطان وكيان، وكانوا يسخرون من السابقين إلى الإسلام كعمار وبلال وصهيب وخباب، وغيرهم ممن عاشوا للحق مع الحق، فيقول أهل الأعراف لهؤلاء: {ما أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}.
وكأنهم يقولون لهم: إن اجتماعكم على الضلال في الدنيا لم ينفعكم بشيء.. شياطينكم، والأصنام والسلطان لم ينفعوكم وكذلك استكباركم على الدعوة إلى الإيمان هل أغنى عنكم شيئاً؟ لا. لم يغن عنكم شيئاً.

 

image.png.c54002177a13b48b33af40d97fcdbbe8.png

:
{أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}

ويشير أهل الأعراف إلى المؤمنين الصادقين من أمثال بلال وخباب ويقولون لأهل النار من أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة: أهؤلاء الأبرار من أهل الجنة الذين تقولون إنهم لن ينالوا رحمة الله؟ هم إذن- أهل الأعراف- قد عقدوا المقارنة والموازنة بين أهل الجنة وأهل النار، وكأنهم نسوا حالهم أن يقفوا في انتظار الفرج وفرحوا بأصحاب الجنة ووبخوا أهل النار، ولم يشغلهم حالهم أن يقفوا موقف الفصل في هذه المسألة، وهنا يدخل الحق سبحانه أصحاب الأعراف جنته لفرحهم بأصحاب الجنة، وتوبيخهم أهل النار ويقول لهم: {... ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: 49].
وهؤلاء- كما قلنا- هم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم؛ هي الطائفة التي جلست على الأعراف، فلم تثقل حسناتهم لتدخلهم الجنة، لم تثقل سيئاتهم ليدخلوا النار.

 

نداء الايمان

 

image.png.123f2711b3a3fcffe1d3e889ccb02886.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)}

ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة مستغيثين طالبين أن يعطوهم ويفيضوا عليهم من الماء أو من رزق الله لهم في الجنة، فيقول أهل الجنة: نحن مربوطون الآن ب (كن)، ولم يعد لنا الاختيار، وقد حرم الله عليكم أي شيء من الجنة ومنعه عنكم، فأنتم يا أهل النار ممنوعون أو هذه المتع ممنوعة عنكم. وحين يطلب أهل النار الماء، فهم يطلبون أوليات الوجود، في نار أحاطت بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه.

image.png.b1254671debd2ca198a4eb46a299db88.png

{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)}
وهكذا يبين لنا الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية من هم الكافرون الذين حرّم عليهم الجنة؛ إنهم من اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، وأول مرحلة تمر على الإِنسان هي اللعب ثم تأتي له مرحلة اللهو. ونعلم أن كل فعل تُوَجَّه إليه طاقة فاعلة، وقبل أن تُوجّه إليه الطاقة الفاعلة يمر هذا الفعل على الذهن كي يحدد الغاية من الجهد. وهذا المقصود له حدود؛ إما أن يجلب له نفعاً، وإما أن يدفع عنه ضُرًّا. وكل مقصد لا يجلب نفعاً ولا يدفع ضراً، فهو لعب.

 

إذن فتعريف اللعب: هو فعل لم يقصد صاحبه به قصداً صحيحاً لدفع ضر أو جلب نفع. كما يلعب الأطفال بلعبهم، فالطفل ساعة يمسك بالمدفع اللعبة أو السيارة اللعبة، هل له مقصد صحيح ليوجه طاقته له؟. لا؛ لأنه لو كان المقصد صحيحاً لما حطم الطفل لُعَبَهُ. والطفل غالباً ما يكسر لعبته بعد قليل، وهذا دليل على أنه يوجه الطاقة إلى غير قصد صحيح ولا يجلب لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها مضرة.
 

ولكن حين تُوَجَّه الطاقة إلى ما هو أدنى من المهم فهذا هو اللهو، كأن يكون المطلوب منك شيئا وأنت توجه الطاقة إلى شيء آخر. والذي يعاقب عليه الله هو اللهو. أما اللعب فلا.
ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من الأهل أن يدربّوا الأبناء على شيء قد يفيد الأمة كالسباحة والرماية وركوب الخيل، ولكن خيبة البشر في زماننا أنهم جعلوا اللعب غاية لذاته. ومن العجيب أن اللعب صار له قانون الجد ولا يمكن أن يخرقه أحد دون أن يُعاقَب؛ لأن الحَكم يرقب المباراة، وإذا ما تناسى الحكم أمراً أو أخطأ هاج الجمهور. وأتساءل: لقد نقلتم قانون الجد إلى اللعب، فلماذا تركتم الجد بلا قانون؟
وكذلك نجد أن خيبة اللهو ثقيلة؛ لأن الإِنسان اللاهي يترك الأمر المهم ويذهب إلى الأمر غير المهم. فيجلس إلى لعبة النرد وهي طاولة ويترك الشغل الذي ينتج له الرزق، وليت هذا اللهو مقصورٌ على اللاهي، ولكنه يجذب أنظار غير اللاهي ويأخذ وقته، هذا الوقت الذي كان يجب أن يُستغل في طاقة نافعة. وفساد المجتمعات كلها إنما يأتي من أن بعضاً من أفرادها يستغلون طاقاتهم فيما لا يعود على ذواتهم ولا على أمتهم بالخير إذن فاللهو طاقة معطلة. {اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا}.

 

وغرورهم بالحياة الدنيا إنما يأتي من الأسباب التي خلقها الله مستجيبة لهم فظن كل منهم أنه السيد المسيطر. وحين غرتهم الحياة الدنيا نسوا الجد الذي يوصلهم إلى الغاية النافعة الخالدة، ويكون عقابهم هو قول الله سبحانه: {... فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51].
فهل يعني قوله عز وجل: {نَنسَاهُمْ} أنه يتركهم لما يفعلون؟.
لا، بل تأخذهم جهنم لتشويهم، ونسيانهم هنا هو أنه سبحانه لا يشملهم بمظاهر فضله ولطفه ورحمته ويتركهم للنار تلفح وجوههم وتنضج جلودهم.

 

وهكذا يتأكد من جديد أن الدنيا هي المكان الذي يعد فيه الإِنسان مكانه في الآخرة، فإن أراد مكاناً في عليين فعليه أن يؤدي التكليف الذي يعطيه مكانه في عليين. وإذا أراد مكانه أقل من ذلك فعليه أن يؤدي العمل الأقل. كأن الإِنسان بعمله هو الذي يحدد مكانه في الآخرة؛ لأن الحق لا يجازي الخلق استبدادا بهم وافتياتاً أو ظلماً، ولكنه يجازي الإِنسان حسب العمل؛ لذلك فهناك أصحاب الجنة، وهناك أصحاب النار، وهناك أصحاب الأعراف. وهذا العلم الذي يُنزله لنا الحق قرآناً ينذرنا ويبشرنا هو دليل لكل مسلم حتى نتنافس على أن تكون مواقعنا في الآخرة مواقع مشرفة. {الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51].
وحين يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} فالآيات إما آيات كونية: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر...} [فصلت: 37].
وإما آيات قرآنية كقوله سبحانه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3].
وإما أن تكون آيات معجزات لإِثبات النبوة كقوله سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون...} [الإسراء: 59].
هم إذن جحدوا الآيات كلها، وكان أول جحود هو جحود بالآيات الكونية التي شاهدوها قبل أن يأتي التكليف، فهم عاشوا الليل والنهار. وتنفسوا الهواء، واستمتعوا بدفء الشمس، وروى المطر أراضيهم ووجدوا الكون مرتباً منظماً يعطي الإنسان قبل أن يكون للإنسان إدراك أو طاقة، وكان يجب أن تلفتهم هذه الآيات إلى أن لهم خالقاً هو الحق الأعلى. وحين جاء لهم الموكب الرسالي جحدوا آيات المعجزات التي تدل على صدق الرسل. وحين جاء القرآن معجزاً جحدوا الآيات التفصيلية التي تحمل المنهج. إذن فلا عذر لهم في شيء من ذلك أن الحق يقول: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ...}.

image.png.56d2edb35b9c9a62a3da2ccb56b38eba.png

 

{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
أي لا عذر لهم في شيء من هذا الجحود؛ لأن الكتاب مفصل، وقد يقولون: إن الكتاب الطارئ علينا، وكذلك الرسول الذي جاء به. إذن فما موقفهم من الآيات الكونية الثابتة؟ لقد جحدوها أيضاً. {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ}.
و{فَصَّلْنَاهُ} أي أنه سبحانه لم ينزل كلاما مجملاً أو مبهماً، لا، بل فيه تفصيل العليم الحكيم، أنه فصل أحكامه ومعانيه ومواعظه وقصصه حتى جاء قيما غير ذي عوج، وسبحانه هو القادر أن ينزل المنهج المناسب لقياس ومقام كل إنسان.
إنه حينما يأتي إلينا من يستفتينا في أي أمر ويحاول أن يلوي في الكلام لنأتي له بفتوى تبرر له ما يفعله، فنحن نقول له: ليس لدينا فتوى مفصلة؛ لأن الفتاوي التي عندنا كلها جاهزة، ولك أن تدخل بمسألتك في أي فتوى. {... فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52].
وهناك أناس سمعوا القرآن ورأوا الآيات واهتدوا، فلماذا اهتدى هؤلاء وضل هؤلاء؟ لقد آمن من صدق بالوجود الأعلى كما قلنا في سورة البقرة: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].

 

إذن فقد آمن بالقرآن من اهتدى إلى الحق، ومنهم من أوضح الحق عنهم: أنهم حين يستمعون القرآن تفيض أعينهم من الدمع. وأيضاً هناك من لا يلمس الإيمان قلوبهم حين يستمعون إلى القرآن. {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً...} [محمد: 16].
وهؤلاء هم الذين غلظت قلوبهم فلم يتخللها أو يدخلها ويخالطها نور القرآن، لذلك تجد الحق يرد عيلهم بقوله سبحانه: {... أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} [محمد: 16].
ويقول سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى...} [فصلت: 44].

 

سبق أن ضربنا المثل بأن الفعل في بعض الحالات واحد، لكن القابل للفعل مختلف، لذلك تكون النتيجة مختلفة. وعلى سبيل المثال: إذا كنت في الشتاء، وخرجت ووجدت الجو بارداً، وشعرت أن أطراف أصابعك تكاد تتجمد من البرد، فتضم فبضتك معاً وتنفخ فيهما، وقد تفعل ذلك بلا إرادة من كل تدفئ يديك. وكذلك حين يأتي لك كوب من الشاي الساخن جداً، وتحب أن تشرب منه، فأنت تنفخ فيه لتأتي له بالبرودة. والنفخة من فمك واحدة؛ تأتي بحرارة ليديك، وتأتي بالبرودة لكوب الشاي، وهكذا فالفعل واحد لكن القابل مختلف. وكذلك القرآن فمن كان عنده استعداد للإيمان فهو يهتدي به، ومن لا يملك الاستعداد فقلبه غلف عن الإيمان.
 

وموقف هؤلاء العاجزين عن استقبال الرحمة غير طبيعي، وماذا ينتظرون بعد هذا الكفر، وبعد الافتئات وبعد الاستكبار وبعد التأبي وبعد اتخاذ الدين لهواً ولعباً، ما ينتظرون؟
ها هو ذا الحق سبحانه يوضح لهم العاقبة: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ...}.

image.png.1c428e4d7ed214bae789de557cdc34a2.png

 

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)}
 

وما معنى التأويل؟.. التأويل هو ما يؤول إليه الشيء، هو العاقبة التي يعدها الحق، فالرحمة والجنة لمن آمن، والنار لمن كفر، والحق هو من يقول ويملك قوله لأن الكون كله بيده.
وهنا يقول سبحانه وتعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ}.
أي هل ينتظرون إلا لمرجع الذي يؤول إليه عملهم؟ إن مرجعهم الأخير هو العذاب بعد الحساب يوم يأتي تأويل وغاية وعاقبة ما عملوا.
وحين يأتي يوم القيامة ويتضح الحق ويظهر صدق ما جاء به الرسول من الوعد والوعيد ماذا سيكون قولهم؟.. سيقولون ما أورده سبحانه على ألسنتهم: {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق}.

 

أي أنهم سيعلنون التصديق حين لا ينفع هذا التصديق؛ لأنهم لن يكونوا في دار التكليف، سيقرون بالإِيمان لحظة لا ينفعهم ذلك. {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ...} [الأعراف: 53].
هم إذن يقرون بأن الرسل حملت المنهج الحق ويتساءلون عن الشفيع. ونعلم أن الشفيع لابد أن يكون محبوباً عند من يشفع عنده، ونحن في الدنيا نجد من يبحث لنفسه عمن يشفع له عند صاحب جاه يكون أثيرا وعزيزا لديه، أو يكون له كلمة وفضل عليه فلا يرد عليه كلمته. فمن يأتي يوم القيامة بالشفاعة لهؤلاء؟.. لا أحد، وسنجدهم يتخذون الشفعاء من الذين اتخذوهم أنداداً لله. وسيعلن هؤلاء أيضاً الكراهية لهم، ولو مكنهم الله من الشفاعة ما أعطوها للكافرين المشركين؛ ففي الدنيا كان هؤلاء مؤتمرين بأمر البشر وضلالاتهم. أما يوم الحساب فلا أحد خاضع لإِرادة أحد، حتى الجوارح لا تخضع لإِرادة صاحبها، بل هي خاضعة للحق الأعلى. وفي الآخرة لا مرادات لأحد.

 

وقد ضربنا من قبل المثل وقلنا: هب أن سرية في جيش ما وعليها قائد صغير برتبة ضابط، ومفروض في جنود السرية أن ينفذوا كلامه، ثم راحوا لموقعة وأعطاهم الضابط الصغير أوامر خاطئة بما له من فرض إرادة عليهم فنفذوا ما أمروا به. ولحظة أن يعودوا ويحاسبهم القائد الأعلى فسيقولون: لقد فعلنا ما أمرنا به الضابط المكلف بقيادتنا، وكذلك ستأتي الجوارح في الآخرة: تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم وجلودهم.
 

إذن فالأبعاض سترفع شكواها إلى الله يوم ألا يكون لأحد من ملك سواه، ويومئذ سيقول المكذبون الصدق الذي لن ينفعهم. {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق...} [الأعراف: 53].
وسوف يبحثون عن شفاعة، لكنهم لن يجدوا، بل إن أول من يسخر من الذين عبدوا غير الله هم المعبودون أنفسهم.
ولذلك نجد قوله الحق سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].
وما ذنب المعبود؟.. إن الأصنام لا ذنب لها، بل كل منها يريد أن يشفي نفسه بأن يكون أداة تعذيب لمن أعطوه غير حقه.
ولذلك نجد أن الأحجار التي عُبدت تقول: عبدونا ونحن أعبد لله من القائمين بالأسحار؛ لأن القائم في الأسحار من الأغيار قد يختار أمراً غير هذا، ولكنا كنا مقهورين على الطاعة، وقد اتخذوا صمتنا علينا دليلاً.
إن الأحجار تعلن أنها لم تكن تملك قدرة رفض أن يعبدها أحد أو أن تعبده عنها وتعلن له غباءه.
والشاعر يقول:
قد تجنوا جهلا كما قد تجنوا ** على ابن مريم والحواري

للمغالي جزاؤه والمغالي ** فيه تنجيه رحمة الغفار

وهكذا يأتيهم الحق واضحاً يوم القيامة.
 

إنهم سيطلبون العودة إلى الدنيا، وهذا من الخيبة؛ لأن مثل هذا الإِقرار ليس من الإِيمان، فالإِيمان يكون بالغيب لا في المشهد. وحتى ولو عادوا، فلن يؤمنوا!.
والحق هو القائل: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ...} [الأنعام: 28].
وكأنهم نسوا لحظة إقرارهم أنهم من الأغيار، وأتى فيهم القول الفصل من الله. {... قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 53].
لقد جاء لهم الخسران بعد أن غاب عنهم ما كانوا يفترون على الله في الدنيا، إنهم رفضوا عبادته- سبحانه- وعبدوا غيره أصناماً صارت وقوداً للنار التي سيصلونها.

 

نداء الايمان

image.png.fe3307f649e01c69b7cc98dacd146cae.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}


هنا ربوبية، وهنا ألوهية: {رَبَّكُمُ الله} ولا أحد يختلف في مسألة الربوبية لأن الحق يقول على ألسنة الكافرين والمشركين: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله...} [الزمر: 38] وكذلك إن سألتهم من خلقهم؟ سيقولون: الله، ولم يدّع أحد نفسه مسألة الربوبية، لأن الربوبية جاءت بنفع لهم، لكن الألوهية دخلت بمنهج هو: (افعل ولا تفعل)؛ لأن التكليف من الإله الرب، والتكليف نعمة منه وهو لمصلحتكم أنتم، فلا شيء في التكليف يعود على الله. وفعلكم الحسن أو السيء لن يعطي لله صفة لم تكن له؛ لأن صفات الكمال أوجدكم. وإن كنتم أنتم في شك في هذه الربوبية فربكم هو الله-

ولله المثل الأعلى- منزه عن التشبيه، كأن تقول الأم للولد: قال لك أبوك لا تسهر خارج المنزل ليلاً، فيتأبى الولد. وتنبه الأم ولدها: إن أباك هو الذي يأتي لك بالأكل والشرب، والملابس ويعطيك مصروف اليد.. إلخ.
وقد ضربت هذا المثل لأشرح كيف أن المكلف هو الرازق ولا أحد سواه يرزق، لذلك كان يجب أن تقبل تكاليفه لأن سبق لك بالفضل بأن أعطى لك وسخر لك الدنيا.
 

ومن قبل فصل الحق سبحانه خلق الإنسان، ويفصل لنا هنا خلق السماء والأرض لأن ظرف وجود الإنسان هو السماء والأرض، وكل الخيرات تأتي له من السماء ومن الأرض، وإذا كان الله قد علمنا كيف خلقنا، فهو هنا يعلمنا كيف خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان وخلق السموات والأرض مسألتان ينشغل بهما العلم الحديث، فمن العلماء من قال: إن الأرض انفصلت عن الشمس، ومنهم من افترض نظرياً أن الإنسان أصله قرد، ولهؤلاء نقول: هذا حكم منكم لا يقبل؛ لأنكم لم تشهدوا الخلق، ولذلك فعليكم أن تسمعوا ممن خلق الخلق ليقول لكم كيف خلق الخلق.
 

هو سبحانه يقول: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} [الأعراف: 54].
والآية تتعرض للخلق الأول وهو السموات والأرض- كما أوضحت- وهو الظرف الوجودي للإنسان الخليفة وطرأ الإنسان على هذا الكون بكل ما فيه من قوى ونواميس، فكأن الله أعد الكون للخليفة قبل أن يُخلَق الخليفة ليجيء الخليفة فيجد كوناً مسخراً له؛ ولا يستطيع أي كائن منه أن يخرج عن مراد الله في شيء {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ}.
ومعنى (الخلق) أي أوجد شيئاً كان معدوماً وبرأه على غير مثال سبقه. فربنا سبحانه قدر كل شيء بنظام غير مسبوق، هذا هو معنى الخلق، وكلمة (الخلق) مادتها الفاعلة هي: خالق، وسبحانه وتعالى يجمعها مع أنه الخالق الوحيد فيقول: {... فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14].

 

إذن فهناك الخالق الأعلى وهو الله، ولكنه سبحانه أيضاً أشرك خالقاً غيره معه فقال جل وعلا: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}. كيف؟؛ لأن الخلق إيجاد شيء معدوم، والذي صنع الميكروفون يقال خلقه، والذي صنع الكوب يقال خلقه، والذي صنع المصباح يقال خلقه، لأنه كان شيئاً معدوماً بذاته، فأوجده. لكن الفارق أن الخالق من البشر يوجد معدوماً من موجود ولا يأتي بمادة جديدة؛ فمن أخذ المواد الموجودة في الكون وصمم منها المصباح وصهر الرمل وفرغ الهواء داخل الزجاج يقال له: خلق المصباح وأوجد معدوماً من موجود.
لكن الخالق هو خير الخالقين لأنه يخلق من عدم ولم يحرم خلقه حين يوجدون شيئا معدوماً من أن يوصف الواحد منهم بأنه خالق، وسبحانه حين خلق خلق من لا شيء، وأيضاً فإنكم حين تخلقون أي صنعة تظل جامدة على هيئة صناعتها، فمن صنع الكوب من الرمل المصهور يظل الكوب هكذا، ولا نستطيع- كما سبق أن قلت قديماً- أن نأتي بكوب ذكر، وكوب أنثى، ونضعهما معاً في مكان ونقول لهما: أنجبا لنا أكواباً صغيرة.
لكن ما يخلقه ربنا يعطي له سر الحياة ويجعله بالقانون ينتج غيره وينمو ويكبر. إذن فهو أحسن الخالقين.

 

والله سبحانه وتعالى يعطينا خبر خلقه السموات والأرض. وأوضح سبحانه أن السموات سبع وقد جاءت مجموعة. أما الأرض فجاء بها مفردة. لكنه جل وعلا قال في آية أخرى: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ...} [الطلاق: 12].
فكما خلق سبع سموات خلق سبع أراضين، ولماذا جاء بالسماء بالجمع وترك لفظ الأرض مفرداً؟.. لماذا لم يقل: سبع أراضين؟؛ لأن كلمة (أراضين) ثقيلة على اللسان فتركها لثقلها وأتى بالسموات مجموعة لخفتها ويسر نطقها.
والسماء هي كل ما علاك فأظلك، هذا معنى السماء في اللغة. لكن هل السماء التي يريدها الله هي كل ما علاك؟.. إن النجم هو ما علاك؛ وقد يقال: إن الشمس علتك، والقمر علانا جميعاً. ونلفت الانتباه هنا ونقول للناس الذين أحبوا أن يجعلوا السموات هي الكواكب إنها ليست دائما ما علانا؛ فالشمس تعلو وقتا وتنخفض وقتاً آخر. وكذلك القمر.

 

إذن فالوصف منحسر عن الشمس أو القمر بعض الوقت، ولا يصح أن يوصف أي منهما بأنه سماء دائما. وشيء آخر وهو أنهم حينما قالوا على الكواكب التي كانت معروفة بأنها كواكب سبعة وقالوا: إن هذه السماء، إنهم بقولهم هذا قد وقعوا في خطأ. وأوضح الحق لنا بالعلم أن للشمس توابع أخرى. فمرة رأى العلماء ثمانية توابع، ومرة تسعة، وأخرى عشرة توابع، وهكذا انهدمت فكرة أن التوابع هي السماء، وبقيت السماء هي ما فوق هذا كله، والحق هو القائل: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} [الصافات: 6].
 

هذه- إذن- زينة للسماء الدنيا، والسماء التي يقصدها ربنا ليست هي التي يقولون عليها، بل السماء خلق آخر لا يمكن لأحد أن يصل إليه، وكان الجن قديماً يقعدون منها مقاعد للسمع {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً}. وحدث هذا بعد بعثته صلى الله عليه وسلم والحق هو من قال لنا ذلك. ولم يوضح الحق لنا حقيقة هذه السماء ونظامها، أي أن ربنا يريد لعقولنا أن تفهم هذا القدر فحسب، وسبحانه خالق السماء التي فوقنا، وهو جل وعلا خالق أراضين. وأين هي هذه الأراضين؟.. أهي أراضين مبعثرة؟
ولقد أثبت العلم أن كل مجرّة من المجرّات فيها مليون مجموعة شمسية، وكل مجموعة شمسية فيها أرض، إذن فهناك أراضٍ عديدة، ونلحظ أن الحق سبحانه حين يتكلم عن الأرض فكل مخاطب بالأرض التي هو فيها، ولذلك قال بعض العلماء: إن في هذا العالم العالي توجد أراضٍ، وكل أرض أرسل لهم الحق رسولاً.
والحق هو القائل: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ.} [الشورى: 29].
ويعطينا العلم كل يوم مزيداً من الاكتشافات. وهكذا تكون السماء هي كل ما علاك والأرض كل ما أقلك. ومادامت سبع سموات والسماء الأولى فراغ كبير وفضاء، وتأتي بعدها السماء الثانية تُظل السماء الأولى، وكل سماء فيها أرض وفيها سماء أخرى. ونحن غير مكلفين بهذا، نحن مكلفون بأن نعلم أن الأرض التي نحن عليها مخلوقة لله.
والحق يقول: {خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...} [الأعراف: 54].
وقوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} هو ظرف للخلق. واليوم نعرف أنه المدة من طلوع الشمس إلى الغروب ثم إلى الشروق ومدته أربع وعشرون ساعة. لكن لابد لنا أن نعرف بعضاً من اصطلاحات الحق القرآنية.
فهو يقول سبحانه وتعالى: {... سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ: 18].
أي هناك ليل وهناك يوم، إذن فاليوم عند الحق غير اليوم عندنا؛ لأننا نطلق على المدة الزمنية من طلوع الشمس إلى غروبها وشروقها من جديد. هكذا يكون اليوم في العرف الفلكي: من شروق إلى شروق، أو من غروب إلى غروب، وقول الحق: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ}.

 

يعني أنه سبحانه قد جعل الليل قسماً والنهار قسماً، وهل كان هناك من عرف اليوم إلا بعد أن وجدت الشمس؟.. وإذا كانت الشمس هي التي تحدد اليوم فكيف عرف اليوم قبلها وخصوصاً أن السماء والأرض حينما خلقتا لم تكن هناك شمس أو كواكب؟.. وعلينا هنا أن نعرف أن هذا هو تقديره سبحانه وقد خاطبنا به بعد أن عرفنا مدة اليوم. ألم تقرأ قول الله سبحانه: {... وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62].
وليس في الآخرة بكرة ولا عشى، إذن سبحانه قد قدر البكرة وقدر العشي، وكذلك {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وتلك هي الآيات المحكمات في القرآن بالنسبة لزمن الخلق؛ ستة أيام، ولكن آية التفصيل للخلق، جاءت في ظاهر الأمر أنها ثمانية أيام.
اقرأ معي: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ...} [فصلت: 9-12].

والظاهر من آية التفصيل أنها ثمانية أيام، أما آيات الإِجمال فكلها تقول: إنها أيام، ومن النقطة دخل المستشرقون، وادعوا زوراً أن القرآن فيه اختلاف، وحالوا أن يجعلوها ضجة عالية. ونقول: إنه سبحانه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام كاملة بلا زيادة ولا نقصان، فالمراد أن ذلك حصل وتم في تتمة أربعة أيام ويضم إليها خلق السموات في يومين فيكون عدد الأيام التي تم فيها خلق السموات والأرض ستة أيام أو نحمل المفصل على المجمل، فحين يقول الحق: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...} [الأعراف: 54].
فهل خلق الله يحتاج إلى علاج حتى يتطلب الزمن الممتد؟.. إن ربنا يخلق ب (كن)، ونحن البشر على حسب قدرتنا لنخلق شيئاً، وكل عملية نقوم بها تأخذ زمناً، لكن من يخلق بكلمة (كن) فالأمر بالنسبة له هين جداً سبحانه وتعالى لكن لماذا جاء الخلق في ستة أيام؟

نعلم أن هناك فرقاً بين ميلاد الشيء وبين تهيئته للميلاد.

وكنا قد ضربنا المثل سابقا- ولله المثل الأعلى- بصانع الزبادي، الذي يأتي بأكواب اللبن الدافئ، ثم يضع في كل منها جزءا من خميرة الزبادي، ويضع تلك الأكواب في الجو المناسب. فهل يؤدي هذا الرجل عملاً لمدة أثنتي عشرة ساعة في كل كوب، وهي المدة اللازمة لتخمر الكوب؟.. طبعاً لا، فقد اكتفى بأن في كل كوب عناصر التخمر لتتفاعل بذاتها إلى أن تنضج.
 

ولنظر إلى خلق الجنين من تزاوج بويضة وحيوان منوي. ويأخذ الأمر تسعة شهور وسبحانه جل جلاله لا يعمل في خلق الجنين تسعة شهور، لكنه يترك الأمر ليأخذ مراحل تفاعلاته.
 

إذن فخلق الله السموات والأرض في ستة أيام لا يعني أن الستة أيام كلها كانت مشغولة بالخلق، بل قال سبحانه: (كن) وبعد ذلك ترك مكونات السموات والأرض لتأخذ قدرها ومراحلها؛ لأن ميلادها سيكون بعد ستة أيام. وفي القرآن آية من الآيات أعطتنا لمحة عن هذه المسألة، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38].
أي خلق سبحانه السموات والأرض دون تعب؛ لأنه لا يعالج مسألة الخلق، بل إنما يحدث ذلك بأمر (كن) فكانت السموات والأرض. والآية التي بعدها فوراً تقول: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ}
وكأن قوله سبحانه هنا جاء لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم موضحاً له: إنهم يكذبونك وقد ترغب في أن نأخذهم أخذ عزيز مقتدر. لكن الحق جعل لكل مسألة كتاباً، فهو قد خلق السموات والأرض في ستة أيام. ونحن في حياتنا نقول لمن يتعجل أمراً: يا سيدي إن ربنا خلق السماء والأرض في ستة أيام. فلا تتعجل الأمور.
إذن كان ربنا هو القادر على أن ينجز خلق السماء والأرض في لحظة، لكنه أمر (بكن) وترك المواد تتفاعل لستة أيام. ولماذا لا نقول: جاء بكل ذلك ليعلمنا التأني، وألا نتعجل الأشياء؟ لأنه وهو القادر على إبراز السموات والأرض في لحظة، خلقها في ستة أيام، لذلك قال سبحانه: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ...} [ق: 39].
أي لا ترهق نفسك لأنه سبحانه خلق السماء والأرض في ستة أيام، وسيأتي لهؤلاء الجاحدين يومهم الذي يؤاخذون فيه بسوء أعمالهم وسوف يأتي حتماً.
وهناك من يتساءل: كيف خلق الكون بما فيه من الرواسي والكائنات؟.. ونقول: إن الإنجاز الذي أخبر به سبحانه مرة واحدة، وانفعلت الكائنات للقدرة مرة واحدة، وتعددت استدامة انفعالات السامع بقدرة الله، في كل جزيئة من جزئيات الفعل، وأخذ الأمر ستة أيام. واستقر الأمر بعد ذلك واستتب، وسبحانه يقول:
{ثُمَّ استوى عَلَى العرش...} [الأعراف: 54].

 

ولابد أن نعرف العرش ما هو. وسبحانه يقول في ملكة سبأ: {... وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23].
فالعرش إذن هو سرير الملك؛ لأن الملك لا يجلس على العرش إلا بعد إن تستقر الأمور.
فكأن قوله: {استوى عَلَى العرش} كناية عن تمام الأمور؛ وخلقها وانتهت المسألة. لكن العلماء حين جاءوا في {استوى}، اختلفوا في فهمها؛ لأن العرش لو كان كرسياً يجلس عليه الله، لكان في ذلك تحييز لله ووضعه وضمه في جرم ما. وسبحانه منزه عن أن يحيزه شيء. ولذلك أخذ العلماء يتلمسون معاني لكلمة {استوى} منهم من قال: إن معناها هو قصد إليها بخلقه واختراعه، ومنهم من قال: المقصود بها أنه استعلى وارتفع أمره، ومنهم من قال: (صعد) أمره إلى السماء واستند إلى قوله الحق: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ...} [فصلت: 11].
وكلها معانٍ متقاربة. وجماعة من العلماء أرادوا أن يخرجوا من التشبيهات؛ فقالوا: المقصود ب (استوى) أنه استوى على الوجود، ولذلك رأوا أن وجود العرش والجلوس عليه هو سمة لاستقرار الملك. وحتى لا ندخل في متاهات التشبيهات، أو متاهات التعطيل نقول: علينا أن نأخذ كل شيء منسوب إلى الله في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
فحين يقول سبحانه: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ...} [الفتح: 10].
ونحن نفهم أن لليد مدلولاً، والقرآن لغة عربية يخاطبنا بها سبحانه، فالقول أن لله يداً فهذا دليل على قدرته. واستخدام الحق كلمة اليد هنا كناية عن القدرة. والإِنسان عليه أن يأخذ كل شيء منسوب إلى الله مما يوجد مثله في البشر، في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فنقول: سبحانه له يد ليست كيد البشر، وله وجود لكنه ليس كوجود البشر، وله عين ليست كعيون البشر. وله وجه ليس كوجه أحد من البشر. ولذلك حينما سئل سيدنا الإِمام مالك عن هذه المسألة قال لمن سأله: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة) وأراك رجل سَوْء! أخرجوه. نعم السؤال عنه بدعة لأنه يدخل بنا في متاهة التشبيه ومتاهة التعطيل، وهل سأل أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى الاستواء؟.. لا؛ لأنهم فهموا المعنى، ولم يعلق شيء من معناها في أذهانهم حتى يسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنهم فهموها بفطرتهم التي فطرهم الله عليها في إطار ما يليق بجلال الله وكماله.
وإن قال قائل: أرسول الله كان يعلم المعنى أم لا يعلم؟.. إن كان يعلم لأخبرنا بها، وإن لم يخبرنا فقد أراد أن يكتمها. وإن لم يكن قد علم الأمر.. فهل تطلب لنفسك أن نعلم ما لم يعلمه صلى الله عليه وسلم؟
أو أنّه صلى الله عليه وسلم ترك لكل واحد أن يفهم ما يريد ولكن في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والذين يمنعون التأويل يقولون: إياك أن تؤول اليد بالقدرة؛ لأنه إن قال: إن له يداً، فقل ليست كأيدينا في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}؛ لأنه سبحانه له حياة، وأنت لك حياة، أحياته كحياتك؟. لا، فلماذا إذن تجعل يده مثل يدك؟.. إذن لابد أن ندخل على كل صفة لله فننفي عنها التعطيل وننفي عنها التشبيه. ثم إن من يمنعون التأويل نقول لكل منهم: أنت ستضطر أخيراً إلى أن تؤول؛ لأن الحق يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ...} [القصص: 88].
ومادام {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فكل ما يطلق عليه شيء يهلك، ويبقى وجهه سبحانه فقط، فلو أنت قلت الوجه هو هذا الوجه، فكأن يده تهلك ورجله تهلك وصدره يهلك، وحاشا لله أن يحدث ذلك. وتكون قد دخلت في متاهة ما لها من آخر. لذلك نقول: لنأخذ النص وندخله في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وآية الاستواء على العرش هذه، مذكورة في سور كثيرة، وهي تحديداً في (سبعة مواضع)؛ في سورة الأعراف التي نحن بصددها، وسورة يونس، وسورة الرعد، وسورة طه، وسورة الفرقان، وسورة السجدة، وسورة الحديد.

 

وهنا يقول الحق بعد الحديث عن الاستواء على العرش: {يُغْشِي الليل النهار}.
الله سبحانه قد خلق السماء والأرض للخليفة في الأرض وهيأ له فيها أصول الحياة الضرورية ودلّه على ما يحتاج إليه، فماذا سيفعل هذا الخليفة؟.
لابد أن يقوم بكل مقومات الحياة، وإذا ما عمل فسيبذل جهداً، والجهد يقتضي راحة. ومن يشتغل ساعة لابد أن يرتاح ساعة. وإن اشتغل ساعتين ولم يسترح ساعة غُلب على نفسه.
ونحن نرى في الالة التي تعمل ثلاث ورديات يومياً أي التي تعمل لمدة الأربع والعشرين ساعة دون توقف أنها تُستهلك أكثر من الآلة التي تعمل ورديتين، والآلة التي تعمل وردية واحدة لمدة ثماني ساعات يطول عمرها أكثر. وكل إنسان يحتاج إلى الراحة. فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن الليل والنهار متعاقبان من أجل هذا الهدف: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ...} [القصص: 73].
أي لتسكنوا في الليل، وتبتغوا الفضل في النهار، فإن كنت لم تسترح بالليل فلن تقدر أن تعمل بالنهار، فمن ضروريات حركة الخلافة في الأرض أن يوجد وقت للراحة ووقت للعمل. لذلك أوضح سبحانه لنا: أنا خلقت الليل والنهار، وجعلت الليل سكناً إلى للراحة والبعد عن الحركة، والحق يقول هنا: {يُغْشِي الليل النهار...} [الأعراف: 54].
ويكون المعنى هنا أن النهار يغشي الليل، ولذلك تحدثنا من قبل عن تتابع الليل والنهار لنستنبط منها الدليل على أن الأرض كرة. {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62].
والليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، وفي مصر نكون في نهار مثلا، ويكون هذا الوقت في بلد آخر ليلاً، وإذا سلسلتها إلى أول ليل وإلى أول نهار، وأيهما الذي كان خلفه للثاني؟ فلن تجد؛ لأن كلا الاثنين خلقا معاً. ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة التسطيح وكانت الشمس قد خلقت مواجهة لسطح الأرض لكان النهار قد خلق أولاً ثم يعقبه الليل، ولو كانت الشمس قد خلقت غير مواجهة للسطح كان الليل سيأتي أولاً ثم تطلع الشمس على السطح ليوجد النهار. والحق سبحانه أراد من الليل والنهار أن يكون كلاهما خلفة للآخرة، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا كان الله سبحانه خلق الليل والنهار دفعة واحدة. كان لابد أن تكون الأرض كرة؛ ليغشى النهار الجزء المواجه للشمس، وليغشى الليل الجزء غير المواجه للشمس، وحين تدور الأرض يأتي النهار خلفة لليل، ويكون الليل خلفه للنهار. {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62].
{يُغْشِي الليل النهار} ويغشى النهار الليل وحذفت للاعتماد على الآيات السابقة التي منها قوله الحق سبحانه: {وَلاَ الليل سَابِقُ النهار...} [يس: 40].
أي أن الليل لا يسبق النهار وكذلك النهار لا يسبق الليل، وهذا دليل على أنهما خُلقاً دفعة واحدة.
والحق يقول هنا: {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر...}
فلا أحد من هذه الكائنات له اختيار أن يعمل أو لا يعمل، بل كلها مسخرة، ولذلك تجد النواميس الكونية التي لا دخل للإنسان فيها ولاختياراته دخل في أمورها تسير بنظام دقيق، ففي الوقت الفلاني ستأتي الأرض بين الشمس والقمر، وفي الوقت الفلاني سيقع القمر بين الأرض والشمس، وسيحدث للشمس خسوف، وكل أمر من هذا له حساب دقيق.

{يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر...} [الأعراف: 54].
والخلق إيجاد الأشياء من عدم، فبعد ان خلق الله الكون لم يترك شؤون الكون لأحد، بل سبحانه له الأمر بعد ذلك. وقيوميته؛ لأنه لم يزاول سلطانه في ملكه ساعة الخلق ثم ترك النواميس تعمل، لا، فبأمره يُعطل النواميس أحياناً، ولذلك شاء الحق أن تكون معجزات الأنبياء لتعطيل النواميس؛ لنفهم أن الكون لا يسير بالطبع أو بالعلة. لذلك يقول: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر}.
وإذا نظرت إلى كلمة (الأمر) تجد الحق يقول: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ...} [آل عمران: 154].
والمقصود هو الأمر الكوني، أما الأمور الاختيارية فلله فيها أمر يتمثل في المنهج، وأنت لك فيها أمر إما أن تطيع وإما أن تعصي، وأنت حر. {... أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} [الأعراف: 54].
وحين يقول سبحانه: {تَبَارَكَ الله} وقال من قبل: {أَحْسَنُ الخالقين}، فكل لفظ له معنى، ففي خلقه من البشر مواهب تَخْلق ولكن من موجود وأوضحنا ذلك.
وفي قول آخر يصف الحق نفسه: {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} [الأنعام: 62].
والناس تتعلم الحساب وخلقوا آلات حاسبة، وهي آلات تتم (برمجتها) وإعدادها وتهيئتها للجمع والطرح والضرب والقسمة، وكل حدث من الحساب يأخذ مدة. لكن الحق يحسب لكل البشر دفعة واحدة. لذلك فهو أسرع الحاسبين؛ لأنه ليس هناك حساب واحد، فأنت لك حساب مع الله، والآخر له حساب مع الله، والحساب مع الله متعدد بتعدد أفراد المحاسبين، وحساب الحق للخلق لا يحتاج إلى علاج، بل ينطبق عليها ما ينطبق على الرزق، ولذلك حينما سئل عليّ كرم الله وجهه:
- أيحاسب الله خلقه في وقت واحد؟
قال: وما العجب في ذلك ألم يرزقهم في وقت واحد؟
وانظر إلى القرآن تجد الحق {أَسْرَعُ الحاسبين} و{أَحْسَنُ الخالقين}، و{أَرْحَمُ الراحمين} و{خَيْرُ الوارثين}. وهذه هي الألفاظ التي وردت، ولله فيها مع خلقه صفة، لكن صفة الله دائما في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين}.
و{تَبَارَكَ الله} أي أنه- تعالى- تنزّه؛ لأن هناك فرقاً بين القدرة المطلقة- وهي قدرة الله- والانفعال للقدرة المطلقة بالإِرادة وب (كن) وهذا هو الانفعال والانقياد وللإِرادة والأمر.

 

نداء الايمان

image.png.c62fc35b8edd8fea2a39a1c1affb20b6.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}
 

الدعاء إنما يكون من عاجز يدعو أو قادراً على إنجاز وتحقيق ما عجز عنه أو يعينه عليه. وعندما تشعر أنك عاجز فأنت ترتكن إلى من له مطلق القدرة؛ لأن قدرتك محدودة. إذن فإن كنت تطغى أو تتكبر فاعرف مكانتك ومنزلتك جيداً وتراجع عن ذلك لأنك عرض زائل، والدعاء هو تضرع، وذلة، وخشوع، وإقرار منك بأنك عاجز، وتطلب من ربك المدد والعون. واستحضار عجزك وقدرة ربك تمثل لك استدامة اليقين الإِيماني. وما جعل ربنا للناس حاجات إلا من أجل ذلك؛ لأن الإِنسان إذا ما رأى الأشياء تنفعل له، ويبتكر ويخترع فقد يأخذه الغرور، فيأتي له بحاجة تعز وتعجز فيها الأسباب، فيقف ليدعو. ومن كان متكبراً وعنده صلف وغطرسة يذهب إلى رجل (غلبان) زاهد تجرد من الجاه والسلطان منقطع لعبادة الله ويقول له: أستحلفك برسول الله أن تدعو لي لأني في أزمة والذي يسأل الغلبان الزاهد هو رجل عزيز في قومه لكنه يظن أن الغلبان الزاهد أقرب إلى الله منه.
إذن الدعاء هو الضراعة وإظهار الذلة والخشوع لله؛ لكي يستديم اليقين الإِيماني. {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً...} [الأعراف: 55].

 

وإياك أن تدعو وفي بالك أن تقضي حاجتك بالدعاء، عليك بالدعاء فقط لقصد إظهار الضراعة والذلة والخشوع، ولأنك لو لم تدع فستسير أمورك كما قُدر لها، والدعاء هو إظهار للخشوع، وإياك أن تفهم أنك تدعو الله ليحقق لك مطالبك؛ لأنه سبحانه منزه أن يكون موظفاً عندك، وهناك نظام وضعه سبحانه لتحقيق مطالب العباد. ومن الناس من يطلب بالدعاء أشياء ضارة. {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11].
والإِنسان قد يتعلق قلبه بأماني قد تضره؛ لذلك نقول: لا تتعجل بالدعاء طلباً لأمنيات قد تكون شراً عليك، والحق العليم ينظم لنا أمورنا، وإياك أيضاً أن تيأس حين لا تجاب دعوتك التي في بالك؛ لأن الله يحقق الخير لعباده. ولو حقق لك بعضاً مما تدعو فقد يأتي منها الشر، ويترك الله لأقضيتك أموراً تبين لك هذا، وتقول: إن الشيء الفلاني الذي كنت أتمناه تحقق وجاء شراً عليّ. مثال ذلك قد تحجز لطائرة لكنك لا تلحق بها فقد أقلعت قبل أن تصل إليها وحزنت لأن بعضاً من مصالحك قد فاتك ولم يتحقق وتفاجأ بأن هذه الطائرة سقطت في البحر.

 

إذن، اجعل حظك من الدعاء هو الخشوع والتذلل والضراعة له سبحانه لا إجابتك إلى ما تدعو إليه، إنك دعوت لتطلب الخير، فدع الحق بقيوميته وعلمه يحقق لك الخير. واسمع قول الله: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإِسراء: 11].
إذن فحين يقول الحق: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} فسبحانه يطلب منا أن ندعوه لأننا سنواجه لحظات متعددة نعجز فيها عن أشياء، فبدلاً من أن تظل مقهوراً بصفة العجز عن الشيء اذكر أن لك رباً قويا مقتدراً، وساعة تذكر ذلك لن تأخذك الأسباب من حظيرة الإِيمان.

 

وقلنا من قبل: من له أب لا يحمل هماً للحياة، فإذا كان الذي له أب لا يحمل هماً لمطلوبات الحياة فمن له رب عليه أن يستحي ويعرف أن ربه سيوفر له الخير؛ لذلك يوضح سبحانه: إذا أعجزتكم الأسباب فاذكروا أن لكم رباً. وقد طلب منكم أن تدعوه، ولا تظن أن حظك من الدعاء أن تجاب إلى ما طلبت، بل ليكن حظك من الدعاء إظهار التذلل والخشوع لله؛ فقد يكون ما حدث لك نتيجة أنك قد اغتررت بنفسك. وقد سبق (قارون) إلى الغرور، فماذا حدث له؟.. لقد هزمه الحق وأنزل به شر العقاب. وقد يجعل الحق من تأبّى الأسباب وامتناعها عليك مغزى لتلتفت إلى الله، لكن لفتتك لله لا يصح أن تكون بغرض أن يقضي حاجتك، بل اجعل أساس لفتتك لله أن تظهر العجز أمامه والخضوع والخشوع؛ ليعيط ما لم يكن في بالك حين تدعو.

 

{ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً...} [الأعراف: 55].
خفية لها معنى وهو أن يكون الدعاء دعاءً مستوراً مختبئاً، ولها معنى آخر وهو أن تكون من الخوف أي أدعو ربكم خوفاً من متعلقات صفات الجلال كالجبار والقهار أو خوفا من أن يردها الله عليك فلا يقبلها منك.
ادعوا ربكم تضرعاً بذلة وانكسار وخضوع خفية بينك وبين ربك، فلا تجهر بالدعاء وتجعله عملك الوحيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا حينما كان في غزوة غزاها فنزل أصحابه وادياً، فلما نزلوا الوادي صاحوا بالتهليل والتكبير، فقال: (أيها الناس اربعوا على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصمَّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم).
والدعاء إلى الله خُفية يبتعد بك عن الرياء وهو أستر لك في مطلوباتك من ربك لأنه حين يوضح لك: ادعني في سرّك لأنني سميع عليم؛ فاعلم كل ما ظهر منك وما بطن، ادع بالخضوع والخشوع والتذلل لتنكسر فيك شهوة الكبرياء، وشهوة الغطرسة، وشهوة الجبروت.

وإذا ما نظرت إلى هذا تجد أن كثيراً من العلماء يقولون:
- نعرف قوماً يقرأون القرآن في محضرنا وما عرفنا لشفاههم حركة، وعرفنا قوماً يستنبطون الأحكام من كلام الله وما رأينا منهم انفعالاً يصرفهم عناً. إذن فالمسألة تعبر عن شغل باطني داخلي.

 

ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعدنا عن الرياء ويريد أن يستر علينا مطلوباتنا؛ لأن الإِنسان قد يطلب من الله سبحانه وتعالى ما يستحي أن يسمعه آخر. {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً...} [الأعراف: 55].
ولو نظرت إلى هذه الآية لوجدت أن كثيراً من الناس يخالفونها مخالفات جماعية؛ في الليل مثلاً تجد من يصعدون على المآذن أو يصيحون في مكبرات الصوت التي أغنتهم عن صعود المآذن، ويكون الواحد من هؤلاء نائما طول النهار لأن رفع الأذان هو عمله ليس غير، وبعد ذلك يظل يصرخ ويستغيث ويقول: (أن هذه ابتهالات).
بينما من الناس من هو نائم ليأخذ قسطه من الراحة ليؤدي عمله نهاراً، ولا أحد يطلب من هذا النائم إلا أنه وإذا جاء الفجر يستيقظ ويؤدي الصلاة. فلماذا نقلق الناس بهذا؟ إننا لابد أن ننبه هؤلاء الذين يظنون أنهم يذكرون الناس بدين الله، إنهم بعملهم هذا لا يسلكون الطريق الصحيح؛ لأننا لا يمكن أن نذكر الناس بالله ونصنع مخالفة أو نؤذي أحداً؛ فسبحانه يقول: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}.

 

والتضرع والخُفية تقتضي ألا أقلق الناس، أو أن أعلن الأمور التي أريدها لنفسي خاصة بصوت عال مثل من يأتي في ختام الصلاة ويقول دعاءه بصوت عال وهو رافع يديه، ولمثل هذا أقول: إن الله سبحانه وتعالى جعل لنا القنوت لندعو فيه، وترك كل مسلم أن يدعو بما ينفعل له. وأنت حين تدعو في ختام الصلاة قد يوجد مُصل مسبوق لحق الصلاة بعد أن سبقه الإمام بركعة أو باثنين أو بثلاث ويريد أن يكمل صلاته، وأنت حين ترفع صوتك بالدعاء حين تختم صلاتك إنما تفسد عليه إتمام صلاته. وتشغله بمنطوق من عندك وبكلام من عندك عن شيء واجب عليه. ومن بفعل ذلك إنما يفعله عن حسن نية، لكنه يسيء إلى عبادة آخر.
 

إذن فلابد أن ننتّبه إلى أن الله سبحانه وتعالى له مطلوبات، هذه المطلوبات قد تخالفها النفس لغرض ترى أنه حسن، لكن خذها في إطار: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103-401].
فلابد أن نتنبه إلى مثل هذه المسائل، وعلينا أن نوفر الراحة لمن ينام ليقوم ويصلي الصبح ويذهب إلى عمله؛ لذلك لا داعي أن يفتح إنسان (الميكروفون) ويعلو صوته بالدعاء، ومن يفعل ذلك يظن أنه يحرص على أمر مطلوب فيزعج النائم، بل ويزعج من يصلي بالليل أو (يشوش) على من يقرأ القرآن أو يستذكر بعضاً من العلم. إن على من يفعل ذلك أن يترك كل إنسان لانفعالاته، وأن يكون ملك نفسه وملك اختياره.
ويعطينا الحق سبحانه وتعالى صوراً كهذه فيقول: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم: 3-4].
إذن كلمة (خفي) موجودة في القرآن، ولابد أن نتنبه إلى الدعاء الخفي. {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} [الأعراف: 55].

 

إذن إن لم يكن تضرعاً وخفية فهو اعتداء في الدعاء؛ لأنك مكلف والله هو المُكلَف، وهو يقول لك: ادعوني تضرعاً وخفية.
فإن فعلت غير هذا تكن معتدياً، وعلى كل هؤلاء أن يفهموا أنهم معتدون فإما أن يكون الاعتداء في أسلوب الطلب وإما ان يكون الاعتداء في المطلوب.
لأن الحق حدد أسلوب الطلب فأوضح: ادعوني بخفاء، فإن دعوت في غير الخفاء تكن معتدياً على منهج الله. وكذلك قد يكون الاعتداء في المطلوب فلا يصح مثلاً أن تقول: إنني أدعوك يا رب أن تجعلني نبياً. إن ذلك لا يصح وربنا سبحانه وتعالى علمنا فيما سرده عن نوح. فقال: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 45-46].
وهنا نبه الحق نوحاً إلى الاعتداء في المطلوب فقال الحق: {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...} [هود: 46].
ولذلك نجد نوحاً يستغفر لأنه سأل ودعا الله هذا الدعاء عن غير علم، فلما عرف ذنبه استغفر الله وقال: {قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ...} [هود: 47].
وقال له الحق سبحانه: {اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ...} [هود: 48].

 

إذن فالذي لا يسمع منهج الله أو لا يطبقه في الدعاء يكون معتدياً على الحق سبحانه وتعالى، وسبحانه لا يحب المعتدين.

 

نداء الايمان

 

image.thumb.png.ba4c084429a63ccde7431f8c5db1caf7.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
 

الأرض هي مكان الخليفة وهو الإِنسان، وفيها الأسباب الأصيلة لاستبقاء الحياة والسماء والأرض والشمس والهواء كلٌ مسخر لك. ولا تحتاج إلى تكليف فيه، فلا أنت تقول: (يا شمس أشرقي) أو (يا هواء هب) فكل ذلك مسخر لك. وأنت مطالب ألا تفسد فيما لك فيه اختيار؛ لأنك لا تستطيع أن تفسد قوانين الكون العليا، لا تستطيع أن تغير مسار الشمس ولا مسار القمر ولا مسار الريح، وأنت لن تستطيع إصلاح ما لا يمكن أن تقترب من إفساده، لأن أمره ليس بيدك لأنه لا اختيار لك فيه. وإنما يأتي الإِفساد من ملكات الاختيار الموجودة فيك، ولم يتركنا الله أحراراً فيها، بل حددها بمنهج يحمي حركة الحياة ب (افعل) و(لا تفعل)، فإذا كان سبحانه قد أنزل قرآناً، والقرآن فيه منهج يحمي اختيارك إذن فقد أعطاك عناصر الإِصلاح ولذلك يقول لك: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً...} [الأعراف: 56].
وهنا يعود الحق مرة أخرى للحديث عن الدعاء، فأولاً جاء بالأمر أن يكون الدعاء تضرعاً وخفية، وهنا يوضح الحق سبيلاً ثانيا للدعاء: {وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً}.
خوفاً من صفات جبروته وقهره، وطمعا في صفات غفرانه ورحمته؛ لأن لله صفات جمال وصفات جلال، وادعوه خوفاً من متعلقات صفات الجلال، وطمعاً في متعلقات صفات الجمال. أو خوفاً من أن تُرد وطمعاً فيما أنت ترجو. {... وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56].

 

إذن من الذي يحدد قرب الرحمة منه؟ إنه الإِنسان فإذا أحسن قربت منه الرحمة والزمام في يد الإِنسان؛ لأن الله لا يفتئت ولا يستبد بأحد. فإن كنت تريد أن تقرب منك رحمة الله فعليك بالإِحسان. {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين}.
ولذلك قلنا إن الحق سبحانه وتعالى يقول:
(لا أمل حتى تملّوا).[من حديث قدسي].
وأنت تدخل بيوت الله تصلى في أي وقت، وتقف في أي مكان لتؤدي الصلاة، إذن فاستحضارك أمام ربك في يدك أنت، وسبحانه حدد لك خمسة أوقات، ولكن بقية الأوقات كلها في يدك، وتستطيع أن تقف بين يدي الله في أي لحظة. وسبحانه يقول:
(ومن جاءني يمشي أتيته هرولة).[من حديث قدسي].

وهو جل وعلا يوضح لك: استرح أنت وسآتي لك أنا؛ لأن الجري قد يتعبك لكني لا يعتريني تعب ولا عي ولا عجز. وكأن الحق لا يطلب من العبد إلا أن يملك شعوراً بأنه يريد لقاء ربه. إذن فالمسألة كلها في يدك، ويقول سبحانه: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه).[من حديث قدسي].
 

وهكذا يؤكد لك سبحانه أن رحمته في يدك أنت وقد أعطاها لك، وعندما تسلسلها تجدها تفضلاً من الله، ولكن في يدك أنت. {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين}.
ونعلم أن فيه صفات لله وفيه ذات، فالذات(الله) وهو واهب الوجود، وله كل صفات الكمال وكل صفة لها متعلق؛ الرحمة لها متعلق والبعث له متعلق فمن أسمائه سبحانه (الباعث)؛ وإياك أن تغيب عن الذات، اجعل نفسك مسبحاً لذاته العلية دائماً. وقد تقول: يا رب أريد أن ترحمني في كذا، وقد لا ينفذ لك ما طلبت، لكن ذلك لا يجعلك تبتعد عن التسبيح للذات، لأن عدم تحقيق ما طلبت هو في مصلحتك وخير لك.

 

وقد وقف العلماء عند كلمة (قريب) هذه، وتساءل بعضهم عن سرّ عدم مجيء تاء التأنيث بعد لفظ الجلالة؟ ونعلم أن القرآن قد نزل بلغة العرب، وعند العرب ألفاظ يستوي فيها التذكير والتأنيث، وما يقال للمذكر مثلما يقال للمؤنث، فنقول: (رجل صبور)، و(امرأة صبور)، ولا نقول: صبورة ونقول: (رجل معطار) أي يكثر استخدام العطر، و(امرأة معطار) أي تكثر استخدام العطر. ونقول: قريب مثلما نقول: قتيل بمعنى مقتول. فيقال: (رجل قتيل) و(امرأة قتيل)، ولا يقال: (قتيلة) إلا إذا لم يذكر معها كلمة امرأة أو ما يدل على التأنيث، لأن القتيل للذكر وللأنثى.
هذه هي ألفاظ صحيح اللغة. وقد صنعت اللغة ذلك بأسانيد، فأنت حين نقول: (رجل صبور) أو (امرأة صبور) فالصبر يقتضي الجلد والعزم والشدة؛ لذلك لا نقول: (امرأة صبور) بل نأتي بالوصف المناسب للجَلَد والشدة. وإياك أن تضعفها بحكاية التأنيث، وكذلك (رجل معطار) و(امرأة معطار)، والرجل المعطار هو من تعرفه الناس من نفاذ رائحة عطره، والمرأة مبنية على الستر. فإن تعطرت فهي قد تشبهت بالرجل ويقال لها: (امرأة معطار)، وحين ننظر إلى كلمة (قريب) فهي من صيغة (فعيل) التي يستوي فيها المذكر والمؤنث؛ بدليل أن الله قال: {... وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].
والملائكة لفظها لفظ مؤنث، ولم يقل الحق (ظهيرة)، لأن (ظهير) يعني مُعين، والمعونة تتطلب القوة والعزم والمدد؛ لذلك جاء لها باللفظ المناسب الذي يدل على القوة وهو (ظهير). وكذلك قوله الحق: {... إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56].

 

و(قريب) بوزن (فعيل) بمعنى مفعول، ولعل بعض الناس يفهم أن (قريب) بمعنى فاعل أي قارب. مثل رحيم وراحم. أي أن رحمة الله هي التي تُقرب من المحسنين، والأمر ليس كذلك، فإن الرحمة هي المقروبة، والإحسان هو الذي يقرب إليها فيكون فعيل هنا بمعنى مفعول الذي يستوي فيه المذكر والمؤنث، أن يكون جاءت كذلك على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم، أو لأنه صفة لموصوف محذوف أي شيء قريب، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، أو أن الرحمة مصدر، وحق المصدر التذكير.
 

image.png.9667a1226ae53ee4ca3a22728543a6c3.png

 

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)}
 

وتصريف الرياح إهاجة للهواء في الكون، والإهاجة للهواء في الكون تأتي منها فوائد كثيرة للغاية، ونحن حين نجلس في مكان مكتظ وممتلئ بالأنفاس نقول لمن يجلس بجوار النافذة: لنهوي الغرفة قليلاً. وإن لم يكف هواء النافذة تأت بمروحة لتأخذ من طبقات الجو طبقة هواء جديدة فيها أوكسجين كثير. إذن فإرسال الرياح ضرورة حتى لا يظل الهواء راكداً. ويتلوث الجو بهذا الركود، ولو أن كل إنسان سيستقر في مكان مكتوم الهواء لامتلأ المكان بثاني أكسيد الكربون الخارج من تنفسه، ثم لا يلبث أن يختنق، ولذلك أراد الله حركة الرياح رحمة عامة مستمرة في كل شيء، وهي أيضاً رحمة تتعلق بالقوت كما تعلقت بمقومات الحياة من نفس وماء وطعام، وتصريف الرياح من أجل تجديد الهواء الذي تتنفسه، وكذلك تكوين الماء. لأن سبحانه القائل عن الرياح. {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ...} [الأعراف: 57].
والرياح هي التي تساعد في تكوين الأمطار التي تنزل على الأرض فتروي التربة التي نحرثها، هكذا تكون الرياح بشرى في ثلاثة أشياء: الشيء الأول تحريك طبقات الهواء وإلا لفسد الجو في الماء، لأن الرياح هي التي تحمل السحاب وتحركه وتنزل به هناك فرقاً بين بشرى، وبشراً؛ فالبشرى مفرد، وقد وردت في قوله الحق: {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى...} [هود: 69].
أي التبشير. لكن بشراً جمع بشير وهي كلمة مخففة، والأصل فيها بشر.
والحق يقول: {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير}.
وجمع البشير بُشُر مثل: نذير ونُذُر بضم الشين فسكنت تخفيفا، فتنطق بُشْراً وبُشُراً. {بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}.
هي بين يدي رحمته لأنها ستأتي لنا بالماء، وهو الرحمة في ذاته، وبواسطته يعطينا ري الأرض، ونحن نرتوي منه مباشرة أيضاً. ونلحظ كلمة الرياح إذا أطلقت بالجمع فهي تأتي للخير، أما حين يكون فيها شر فيأتي بكلمة(ريح) مفردة، مثل قوله: {... بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6].

 

فإذن عندما ترى كلمة(رياح) فاعلم أنها خير، أما كلمة (ريح) فاعلم أنها شر لماذا؟

أنت إذا كنت قاعداً في حجرة فيها فتحة نافذة يأتي منها الهواء، ويتسلط التيار على إنسان، فالإِنسان يصاب بالتعب؛ لأن الهواء يأتي من مكان واحد، لكن حين تجلس في الخلاء ويهب الهواء فأنت لا تتعبَ، لأن الرياح متعددة. ولكن الرياح تأتي كالصاروخ.
الرياح إذن يرسلها الحق بين يدي رحمته؛ حتى إذا أقلت أي حملت يقال:(أقل فلان الحمل) أي رفعه من على الأرض وحمله لأنه أقل من طاقته، لأنه لو كان أكثر من طاقته لما استطاع أن يرفعه عن الأرض، وما دام قد أقله فالحمل أقل بالنسبة لطاقته وبالنسبة لجهده، أقلت أي حملت، وما دامت قد حملت فجهدها فوق ما حملته، وإذا كان الجهد أقل من الذي حملته لابد أن ينزل إلى الأرض.
وأقلت سحاباً أي حملت سحاباً. نعرف أن السحاب هو الأبخرة الطالعة والصاعدة من الأرض ثم تتجمع وتصعد إلى طبقات الجو العليا، وتضربها الرياح إلى أن تصادف منطقة باردة فيحدث تكثيف للسحاب؛ فينزل المطر؛ ونرى ذلك في الماء المقطر الذي يصنعونه في الصيدلية؛ فيأتي الصيدلي بموقد وفوقه إناء فيه ماء ويغلي الماء فيخرج البخار ليسير في الأنابيب التي تمر في تيار بارد فيتكثف البخار ليصير ماء. {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ}.

 

وقال الحق: (سقناه) بضمير المذكر؛ لأنه نظر إلى السحاب في اسم جنسه، أو نظر إلى لفظه، وجاء بالوصف مجموعاً فقال: (ثقالا) نظراً إلى أن السحاب جمع سحابة فرق بينه وبين واحدة بالتاء، وما دامت السحب كلها داخلة في السّوق فليس لها تعددات فكأنها شيء واحد. {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} [الأعراف: 57].
السحاب لا يتجه إلى مكان واحد، بل يتجه لأماكن متعددة، إذن فالحق يوجه السحاب الثقال لأكثر من مكان. لكن الحق سبحانه وتعالى يقول: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ}.
والميت هو الذي لا حراك فيه وانتهى اختياره في الحركة، كذلك الأرض، فالماء ينزل من السماء على الأرض وهي هامدة ليس بها حركة حياة أي أن الله يرسل السحاب ويزجيه إلى البلد الميت في أي مكان من الأرض. {... فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].

 

إذن فالأرض التي لا يأتيها الماء تظل هامدة أي ليس بها حركة حياة مثل الميت. {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات...} [الأعراف: 57].
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا وينبهنا إلى القضية اليويمية التي نراها دائما في صور شتى، وهي أن الأرض تكون في بعض الأحيان جدباً، ثم يهبط عليها بعض المطر، وبمجرد أن ينزل المطر على الجبل، وبعد يومين من نزول المطر نجد الجبل في اليوم الثالث وهو مخضر، فمن الذي بذر البذرة للنبات هذا اليوم؟ إذن فالنبات كان ينتظر هذه المياه، وبمجرد أن تنزل المياه يخرج النبات دون أن يبذر أحد بذوراً، وهذا دليل على أن كل منطقة في الأرض فيها مقومات الحياة. {... فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57].

 

فالماء الذي ينزل على الأرض الميتة يحيي الأرض؛ لأنه سبحانه يخرج الحياة كل يوم، وحين يوضح لنا سبحانه أن سيبعثنا من جديد فليس في هذا أمر عجيب، وهكذا جعل الله القضية الكونية مرئية وواضحة لكل واحد ولا يستطيع أحد أن يكابر ويعاند فيها؛ لأنها أمر حسيّ مشاهد، ومنها نستنبط صدق القضية وصدق الرب

 

نداء الايمان

image.png.d98381be5fa6fd3b20681a1070f02dd0.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}


إذن الآية السابقة عالجت قضية البعث بضرب المثل بالآية الكونية الموجودة؛ فالرياح التي تحمل السحاب، والسحاب يساق إلى بلد ميت وينزل منه الماء فيخرج به الزرع. والأرض كانت ميتة ويحييها الله بالمطر وهكذا الإِخراج بالبعث وهذه قضية دينية، ويأتي في هذه الآية بقضية دينية أيضا: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً}.
والبلد الطيب هو البلد الخصب الذي لا يحتاج إلا لى المياه فيخرج منه الزرع، أما الذي خبث، فمهما نزل عليه الماء فلن يخرج نباته إلاّ بعد عناء ومشقة وهو مع ذلك قليل وعديم النفع.


وهنا يخدم الحق قضية دينية مثلما خدم القضية الدينية في البعث أولاً.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة؛ قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل فقه في دين الله تعالى، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به».


إذن فالمنهج ينزل إلى الناس وهم ثلاثة أقسام؛

القسم الاول: يسمع فينفع نفسه وينقل ما عنده إلى الغير فينفع غيره مثل الأرض الخصبة شربت الماء وقبلته، وأنبتت الزرع

القسم الثانى يحملون المنهج ويبلغونه للناس ولا يعملون به وينطبق عليهم قوله الحق: {... لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2].
صحيح سينتفع الناس من المنهج، ولذلك قال الشاعر:


خذ بعلمي ولا تركن إلى عملي ** واجن الثمار وخل العود للنار

ويقول صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة».
فستر المؤمن على المؤمن مطلوب وستر المؤمن على العالم آكد وأشدّ طلبا؛ لأن العالم غير معصوم وله فلتات، وساعة ترى زلته وسقطته لا تُذِعْها لأن الناس سينتفعون بعلمه. فلا تشككهم فيه،


والقسم الثالث هو من لا يشرب الماء ولا يسقيه لغيره أي الذي لا ينتفع هو، ولا ينفع غيره. {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كذلك نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58].


إذن منهج الله مثله مثل المطر تماماً؛ فالمطر ينزل على الأرض ليرويها وتخرج النبات وهناك أرض أخرى لا تنتفع منه ولكنها تمسكه فينتفع غيره، وهناك من لا ينتفع ولا ينفع، فكذلك العلم الذي ينزله الله على لسان رسوله. {والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كذلك نُصَرِّفُ الآيات}.
قلنا من قبل: إن الآيات تطلق على معانٍ ثلاثة: الآيات الكونية التي نراها واقعة في الكون مثل قوله الحق: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر...} [فصلت: 37].
وآيات هي آيات القرآن، والآيات التي تكون هي المعجزات للأنبياء. {كذلك نُصَرِّفُ الآيات} [الأعراف: 58].
الآيات هنا في الكونية كالماء الذي ينزل، إنه مثل المنهج، من أخذ به فاز ونجا، ومن تركه وغوى وكل آيات الله تقتضي




image.png



 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)}


بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطائعين وعن العاصين في الدنيا، وتكلم عن مواقف الآخرة الجزائية في أصحاب الجنة، وأصحاب النار والأعراف أراد أن يبين بعد ذلك أن كل دعوة من دعوات الله سبحانه أهل الأرض لابد أن تلقي عنتا وتضييقا، وتلقى إعراضاً، وتلقى إيذاء، إنه سبحانه يريد أن يعطي المناعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فيوضح له: لست أنت بادعاً من الرسل؛ لأن كل رسول جاء إلى قومه قوبل بالاضطهاد، وقوبل بالتكذيب، وقوبل بالنكرات، وقوبل بالإيذاء، وإذا كان كان كل رسول قد أخذ من هذا على قدر مهمته الرسالية زماناً محدوأ، ومكاناً محصوراً فأنت يا رسول الله أخذت الدنيا كلها زماناً ومكاناً، فلابد أن تكون مواجهاً لمصاعب تناسب مهمتك ورسالتك؛ فأنت في قمة الرسل، وستكون الإيذاءات التي تنالك وتصيبك قمة في الإيذاء، فلست بدعاً من الرسل، فوطّن نفسك على ذلك. وحين توطن نفسك على ذلك ستلقى كل إيذاء وكل اضطهاد بصبر واحتمال في الله، وقص الحق قصص الرسل على رسول الله، وعبر الله بالهدف من قص القصص بقول: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ...} [هود: 120].
فكأنا القصص تثبيت لفؤاده صلى الله عليه وسلم، فكلما أهاجه نكران، أو كلما أهاجه جحود، قص عليه الحق سبحانه قصة رسول قوبل بالنكران وقوبل بالجحود ليثبت به فؤاده صلى الله عليه وسلم وفؤاد أتباعه لعلهم يعرفون كل شيء ويوطنون أنفسهم على هذا العنت؛ فلم يقل الحق لأتباع محمد: إنكم مقبلون على أمر والأرض مفروشة لكم بالورود، لا. إنما هي متاعب لتجابهوا شر الشيطان في الأرض. والقصص له أكثر من هدى يثبت به فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم ويبين له أنه ليس بدعاً من الرسل، ويقوي نفوس أتباعه، لأنهم حينما يرون أن أهل الحق مع الأنبياء انتصروا، وهزم الجميع ووليّ الدبر، وأنهم منصورون دائما فهذا يقوي يقين المؤمنين، ويكسر من جهة أخرى نفوس الكافرين مثلما قال الحق عن واحد من أكابر قريش. {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم}.
قال الحق لهم ذلك عن واحد من أكابر قريش وهم لا يقدرون حينئذ أن يدافعوا أو يذودوا عن أنفسهم، وذهبوا وهاجروا إلى الحبشة حماية لأنفسهم من بطش هؤلاء الأكابر، وكل مؤمن يبحث له عمن يحميه، وينزل قوله الحق بعد ذلك في الوليد بن المغيرة {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم}، والوليد بن المغيرة سيد قومه، ويأتي يوم بدر فيوجد أنفه وقد ضرب وخطم ويتحقق قول الله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16].
فمن- إذن- يحدد ضربة قتال بسيف في يد مقاتل قبل أن يبدأ القتال؟ لقد حددها الأعلم بما يكون عليه الأمر.
وأيضا فقصص الرسل إنما جيء بها ليثبت للمعاصرين له أنه تلقى القرآن من الله؛ لأنه رسول أميّ؛ الأمة أمية، ولم يدّع أحد من خصومه أنه جلس إلى معلم، أو قرأ كتاباً، فمن أين جاءته هذه الأخبار إذن؟
واسمع قول الحق سبحانه وتعالى في الآيات التي يأتي فيها: (ما كنت) مثل قوله الحق: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر...} [القصص: 44].
ومثل قوله الحق: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48].
ومثل قوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ...} [آل عمران: 44].
فمن أين جاءت هذه الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه لم يجلس إلى معلم ولم يقرأ كتاباً؟ لقد جاءت كلها من الحق سبحانه وتعالى، وهذا دليل آخر على صدق رسالته.

 

وقصة سيدنا نوح من القصص التي وردت كثيراً في القرآن الكريم مثل قصة موسى عليه السلام، ومن العجيب أن لقطات القصة تنتشر في بعض السور، لكن السورة التي سميت بسورة نوح ليس فيها من المواقف التي تعتبر من عيون القصة، إنها تعالج لقطات أخرى؛ تعالج إلحاحه في دعوة قومه، وأنه ما قصّر في دعوتهم ليلاً ونهاراً، وسرّاً وعلانية، كلما دعاهم ابتعدوا، ولم تأت قصة المركب في سورة نوح، ولا قصة الطوفان، وهذه لقطات من عيون القصة، وكذلك لم تأت فيها قصته مع ابنه، بل جاء بها في سورة هود.
إذن كل لقطة جاءت لوضع مقصود، ولهذا رأينا قصة نوح في سورة (نوح) وقد خلت من عناصر مهمة في القصة، وجاءت هذه العناصر في سورة (هود) أو في سورة (الأعراف) التي نتناولها الآن بالخواطر الإِيمانية.


إذن، كل قصة من القصص القرآني تجدها قد جاءت تخدم فكرة، ومجموعها يعطي كل القصة؛ لأن الحق حين يورد القصص فهو يأتي بلقطة في سورة لتخدم موقفاً، ولقطة أخرى تخدم موقفاً آخر وهكذا. وحين شاء أن يرسل لنا قصة محبوكة تماماً، جاء بقصة (يوسف) في سورة يوسف ولم يكررها في القرآن، لأنها مستوفية في سورة يوسف، اللهم إلا في آية واحدة: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً...} [غافر: 34].
لقد وردت في سورة يوسف حياة يوسف منذ أن كان طفلا حتى أصبح عزيز مصر، وهكذا نرى أن الحق حين يشاء أن يأتي بالقصة كتاريخ يأتي بها محبوكة، وحين يريد أن يلفتنا إلى أمور فيها مواقف وعظات، يوزع لقطات القصة على مواقع متعددة تتناسب وتتوافق مع تلك المواقع لتأكيد وخدمة هدف. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ...} [الأعراف: 59].
وساعة ترى (اللام) و(قد) فاعرف أن هذا قسم، وكأن الحق يقول: وعزتي وجلالي لقد أرسلت نوحاً. وهو بهذا يؤكد المقسم عليه.
والقوم هم الرجال خاصة من المعشر؛ لأن القوم عادة هم المواجهون للرسالة، والمرأة محتجبة؛ تسمع من أبيها أو من أخيها أو من زوجها، ولذلك قالت النساء للنبي: غلبنا عليك الرجال.
أي أننا لا نجد وسيلة لنقعد معك ونسألك، فاجعل لنا يوماً من أيامك تعظنا فيه، فجعل لهن يوماً؛ لأن المفروض أن تكون المرأة في ستر، وبعد ذلك ينقل لها الزوج المنهج. إن سمع من الرسول شيئاً، وكذلك الأب يقول لابنته، والأخ يقول لأخته.
فإذا تكلم الرسول يقال: إن الرسول واجه القوم، من قولهم هو قائم على كذا. وقيم على كذا. ولذلك الشاعر العربي يقول:
وما أدرى ولست أخال أدري ** أقوم آل حصن أم نساء

وجاء هنا بالقوم، والمراد بهم الرجال، والقرآن يقول: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ...} [الحجرات: 11].
إذن النساء لا تدخل في القوم؛ فالقوم هم المواجهون للرسول ومنهم تأتي المتاعب والتصلب في الرأي، ويكون الإِنكار والجحود والحرب منهم.
وسيدنا نوح عليه السلام دعا قومه ونبههم إلى ثلاثة أشياء: عبادة الله، فقال: {يَاقَوْمِ اعبدوا الله}، وبين لهم أنه ليس هناك إله سواه فقال: {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ}، وأظهر لهم حرصه وإشفاقه عليهم إذا خالفوا وعصوا فقال: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
وهكذا تكلم عن العقيدة في الإِله الواحد المستحق للعبادة، وليس آلهة متعددة، ونعبده أي نطيع أمره ونهيه، ولأنهم إن لم يفعلوا ذلك فهو يخاف عليهم من عذاب يوم عظيم، وهو عذاب يوم القيامة. أو أنّ الله كان قد أوحى له بأنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وعذاب يوم عظيم أي يوم الإِغراق، و(الخوف) مسألة تتعب تفكير من يستقبلها ويخاف أن يلقاها. فمن الذي يفزع بهذا؟
إن الذي يفزع هم الطغاة والجبابرة والسادة والأعيان ووجوه القوم، وكانوا قد جعلوا من أنفسهم سادة، أما سائر الناس وعامتهم فهم العبيد والمستضعفون. والذي يهاج بهذه الدعوة هم السادة لأنه ليس هناك إلا إله واحد، والأمر لواحد والنهي لواحد والعبادة والخضوع لواحد، ومن هنا فسوف تذهب عنهم سلطتهم الزمنية،

image.png.92fb79f6e4cf51a34e200beac5289bad.png

 

{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)}
والملأ هم سادة القوم وأعيانهم وأشرافهم، أو الذين (يملأون) العين هيئة ويملأون القلوب هيبة، ويملأون صدور المجالس بنية.
إنهم خائفون أن تكون دعوة نوح هي الدعوة إلى الطريق المستقيم وكلامه هو الهداية؛ فيمنّوا أنفسهم بأن هذا ضلال وخروج عن المنهج الحق: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.
أي غيبة عن الحق، أو في تيه عن الحق، و(مبين) أي محيط بصورة لا يمكن النفاذ منها.
ويرد نوح عليه السلام: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ...}.

image.png.16701531067f5f86ac4399cfb6277ab7.png


{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)}
هم قالوا له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، المتبادر أن يكون الرد: ليس في أمري ضلال، لكنه قال هنا: {لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ}، أقول ذلك لنعرف أن كل حرف في القرآن موزون لموضعه. هم قالوا له: {إنا لنراك في ضلال}، فيرد عليهم ليس بي ضلالة؛ لأن الضلال جنس يشمل الضلالات الكثيرة، وقوله يؤكد أنه ليس عنده ضلالة واحدة. وعادة نفي الأقل يلزم منه نفي الأكثر، مثلاً عندما يقول صديق: عندك تمر من المدينة المنورة؟ تقول له: ليس عندي ولا تمرة واحدة. أنت بذلك نفيت الأقل، وهذا أيضاً نفي للأكثر. {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ}.
وحين ينفي نوح عن نفسه وجود أدنى ضلالة فذلك لأنه يعرف أنه لم يأت من عنده بذلك، ولو كان الأمر كذلك لاتّهم نفسه بأن هواه قد غلبه، لكنه مرسل من عند إله حق. {... وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} [الأعراف: 61].
وقوله: {ولكني} استدراك فلا تقولوا: أنا في ضلال؛ فليس فيّ ضلالة واحدة، لكن أنا رسول يبلغ عن الله، الله لا يعطي غير الهدى.
{رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} أي من سيد العالمين ومن متولى تربية العالمين، ومن يتولى التربية لا يُنزل منهجاً يضل به من يربيهم، بل ينزل منهجاً ليصلح من يربيهم، وسبحانه قبل أن يأتي بهم إلى الوجود سخر لهم كل هذا الكون، وأمدهم بالأرزاق حتى الكافرين منهم، ومن يعمل كل ذلك لن يرسل لهم من يضلهم.
ويستمر البلاغ من نوح عليه السلام لقومه فيقول: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ...}.

image.png.14963e37006a08994b37d78223789907.png
 

{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)}
والبلاغ هو إنهاء الأمر إلى صاحبه؛ فيقال: بلغت المكان الفلاني.. أي انتهيت إليه. و(البلاغة) هي النهاية في أداء العبارة الجميلة، و(أبلغكم) أي أنهي إليكم ما حملنيه الحق من منهج هداية لحركة حياتكم. {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي}.
وكان يكفي أن يقول: (رسالة ربي) إلا أنّه قال: {رِسَالاَتِ رَبِّي} لأن أي رسول يأتي بالمنهج الثابت كما جاءت به الرسالات السابقة حتى لا يقول أحد: إنه جاء ليناقض ما جاء به الرسل السابقون، فما قاله به أي رسول سابق يقوله، ونعلم أنه كانت هناك صحف لشيت ولإِدريس. فقال: إنه يبلغ رسالته المتضمنة للرسالات السابقة سواء رسالة إدريس وهو اخنوخ، وكذلك شيت وغيره من الرسل.
أي أبلغكم كل ما جعله الله منهجاً لأهل الأرض من الأمور المستقيمة الثابتة، مثلما قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ...} [الشورى: 13].
وهو الأمور المستقرة الثابتة، العقدية، والأحكام التي لا تتغير. أو {رِسَالاَتِ رَبِّي}، لأنه كرسول يتلقى كل يوم قسطاً من الرسالة؛ فاليوم جاءت له رسالة يبلغها، وغداً تأتي له رسالة يبلغها، ولو قال: (الرسالة) لكان عليه أن ينتظر حتى تكتمل البلاغات من الله له ثم يقولها، لكنْ نوح كان يبلغ كل رسالة تأتيه في وقت إبلاغه بها؛ لذلك فهي (رسالات). أو لأن موضوع الرسالات أمر متشعب تشعباً يماثل ما تحتاج إليه الحياة من مصالح؛ فهناك رسالة للأوامر، ورسالة للنواهي، ورسالة للوعظ، ورسالة للزجر، ورسالة للتبشير، ورسالة للإِنذار، ورسالة للقصص، وهكذا تكون رسالات.
أو أن كل نجم- أي جزء من القرآن وقسط منه- يعتبر رسالة، فما يرسله الله في يوم هو رسالة للنبي، وغداً له رسالة أخرى وهكذا.
وقوله: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} لأن البلاغ يقتضي أن يقول لهم منهج الله، ثم يدعو القوم لاتباع هذا المنهج بان يرقق قلوبهم ويخاطبهم بالأسلوب الهادئ وينصحهم، والنصح أمر خارج عن بلاغ الرسالة.

ولنلتفت إلى فهم العبارة القرآنية. {وَأَنصَحُ لَكُمْ}.
 

والنصح أن توضح للإِنسان المصلحة في العمل، وتجرد نيتك مما يشوهه. وهل أنت تنصح آخر بأن يعود نفعه عليك؟ إنك إن فعلت ذلك تكون النصيحة متهمة، وإن نصحته بأمر يعود عليه وعليك فهذه نصيحة لك وله، ولكن حينما تقول: (نصحت لك) أي أن النصيحة ليس فيها مسألة خاصة بك، بل كل ما فيها لصالح من تبلغه فقط، وبذلك يتضح الفارق بين (نصحته) و(نصحت لك). {وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62].
وكأن سيدنا نوحاً يخاطب قومه: إياكم أن تظنوا أن ما أقوله لكم الآن هو كل العلم من الله، ولا كل علم الله، ولا كل ما علمني الله، بل أنا عندي مسائل أخرى سوف أقولها لكم إن اتقيتم الله وامتلكتم الاستعداد الإِيماني، وهنا سأعطيكم منها جرعات.
أو قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يعني أنه سيحدث لكم أمر في الدنيا لم يحصل للأمم السابقة عليكم وهو أن من يُكذب الرسول يأخذه الله بذنبه. وتلك التجربة لم تحدث مع قوم شيت أو إِدريس. {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا...} [العنكبوت: 40].
ولم يحدث مثل هذا العقاب من قبل نوح، وقد بين لهم نوح: أنا أعلم أن ربنا قد دبر لكم أن من يُكّذِّبَ سيأخذه أخذ عزيز مقتدر.
أو {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، أي أن الله أعلمني لا على قدر ما قلت لكم من الخير، لكنه سبحانه قد علمني أن لكل إخبار بالخير ميلاداً وميعاداً.


image.png.34a0b0de088fe37335f29497f0b866de.png


{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)}
{أَوَ عَجِبْتُمْ} وكان من الممكن أن يقول: (أعجبتم)، لكن ساعة أن يجيء بهمزة الاستفهام ويأتي بعدها بحرف عطف. فاعرف أن هناك عطفاً على جملة؛ أي أنه يقول: أكذَّبْتُم بي، وعجبتم من أن الله أرسل على لساني {ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ}. والذكر ضد النسيان، وأن الشيء يكون على البال، ومرة يتجاوز البال ويجري على اللسان.
 

وقد وردت معانٍ كثيرة للذكر في القرآن، وأول هذه المعاني وقمتها أن الذكر حين يطلق يراد به القرآن: {ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم} [آل عمران: 58].
وكذلك في قوله الحق: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
إذن يطلق الذِّكر ويراد به القرآن، ومرة يطلق الذكر ويراد به الصيت أي الشهرة الإِعلامية الواسعة. وقد قال الحق لرسوله عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ...} [الزخرف: 44].


أي أن القرآن شرف كبير لك ولأمتك وسيجعل لكم به صيتاً إلى يوم القيامة؛ لأن الناس سترى في القرآن على تعاقب العصور كل عجيبة من العجائب، وسيعلمون كيف أن الكون يصدق القرآن، إذن بفضل القرآن (العربي)، سيظل اسم العرب ملتصقا ومرتبطا بالقرآن، وكل شرف للقرآن ينال معه العرب شرفا جديدا.
أي أن القرآن شرف لكم. ويقول سبحانه: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ...} [الأنبياء: 10].
أي فيه شرفكم، وفيه صيتكم، وفيه تاريخكم، ويأتي الإسلام الذي ينسخ القوميات والأجناس، ويجعل الناس كلها سواسية كأسنان المشط. {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا...} [الحجرات: 13].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى».
وسيظل القرآن عربياً، وهو معجزة في لغة العرب، وبه ستظل كلمة العرب موجودة في هذه الدنيا. إذن فشرف القوم يجيء من شرف القرآن، ومن صيت القرآن. والحق يقول: {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1].
أي أن شرفه دائم أبداً. حين يأتي إلى الدنيا سبق علمي، نجد من يذهب إلى البحث عن أصول السبق في القرآن، ونجد غير المسلمين يعتنون بالقرآن ويطبعونه في صفحة واحدة، وعلى ورق فاخر قد لا يستعملونه في كتبهم. هذا هو القرآن ذو الذكر على الرغم من أن بعض المسلمين ينحرفون قليلاً عن المنهج، وقد يتناساه بعضهم، لكن في مسألة القرآن نجد الكل يتنبه. وكما قلت من قبل: قد تجد امرأة كاشفة للوجه وتضع مصحفاً كبيراً على صدرها، وقد تجد من لا يصلي ويركب سيارة يضع فيها المصحف، وكل هذا ذكر. وتجد القرآن يُقرأ مرتلاً، ويُقرأ مجوداً، ومجوداً بالعشرة ثم يسجل بمسجلات يصنعها من لا يؤمنون بالقرآن. وكل هذا ذكر وشرف كبير.

 

عرفنا أن (الذكر) قد ورد أولا بمعنى القرآن، وورد باسم الصيت والشرف: ويطلق الذكر ويراد به ما نزل على جميع الرسل؛ فالحق سبحانه يقول: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 1-2].
أي أن كل ما نزل على الرسل ذكر.

ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48].
إذن فالمراد بالذكر- أيضاً- كل ما نزل على الرسل من منهج الله.

ومرة يُطلق الذكر ويراد به معنى الاعتبار. والتذكير، والتذكر فيقول سبحانه: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله...} [المائدة: 90-91].
والمراد هنا بالذكر: الاعتبار والتذكر وأن تعيش كمسلم في منهج الله. ومرة يراد بالذكر: التسبيح، والتحميد. انظر إلى قوله الحق سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة...} [النور: 36- 37].
وهو ذكر لأن هناك من يسبح له فيها بالغدو والآصال وهم رجال موصوفون بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
وقد يُطلق الذكر ويراد منه خير الله على عبادة ويراد به كذلك ذكر عبادتهم له بالطاعة؛ فسبحانه يذكرهم بالخير وهم يذكرونه بالطاعة. اقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى: {... وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
وفي آية أخرى: {... إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
وما دام قد قال جل وعلا: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} أي ذكر الله لهم بالنعم والخيرات، فذكره فضل وإحسان وهو الكبير المتعال. فهناك إذن ذكر ثان، ذكر أقل منه، وهو العبادة لربهم بالطاعة،

هنا يقول الحق: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الاعراف: 63].
ما وجه العجب هنا؟

نعلم أن العجب هو إظهار الدهشة وانفعال النفس من حصول شيء علي غير ما تقتضيه مواقع الأمور ومقدماتها، إذن تظهر الدهشة ونتساءل كيف حدث هذا؟ ولو كان الأمر طبيعياً ورتيباً لما حدثت تلك الدهشة وذلك العجب.
وعجبتم لماذا؟ اقرأ- إذن- قول الحق سبحانه وتعالى: {ق والقرآن المجيد بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ...} [ق: 1-2].
موضع العجب هنا أن جاء لهم منذر ورسول من جنسهم؛ فمن أي جنس كانوا يريدون الرسول؟ كان من غبائهم أنهم أرادوا الرسول مَلَكاً. {بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 2].
وجاء العجب أيضاً في البعث. فتساءل الكافرون هل بعد أن ذهبنا وغبنا في الأرض وصرنا تراباً بعد الموت يجمعنا البعث مرة ثانية؟!
إذن فالعجب معناه إظهار الدهشة من أمر لا تدعو إليه المقدمات أو من أمر يخالف المقدمات.
العجب عندهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لأن نوحاً عليه السلام يريد منهم أن يبحثوا في الإِيمان بوجود إِله. وكان المنطق يقتضي أنه إذا رأوا شيئاً هندسته بديعة، وحكيمة، وطرأ عليها هذا المخلوق وهو الإِنسان ليجد الكون منسقاً موجوداً من قبله، كان المنطق أن يبحث هذا الإِنسان عمن خلق هذا الكون وأن يلحّ في أن يعرف مَن صنع الكون، وحين يأتي الرسول ليقول لكم من صنع هذا الكون، تتعجبون؟!

 

كان القياس أن تتلهفوا على من يخبركم بهذه الحقيقة؛ لأن الكون وأجناسه من النبات والجماد والحيوان في خدمتك أيها الإنسان. لا بقوتك خلقت هذا الكون ولا تلك الأجناس، بل أنت طارئ على الكون والأجناس، ألم يدر بخلدك أن تتساءل من صنع لك ذلك؟
إذن فالكلام عن الإِيمان كان يجب أن يكون عمل العقل، وقلت قديماً: هب أن إنساناً وقعت به طائرة في مكان، وهذا المكان ليس به من وسائل الحياة شيء أبداً، ثم جاع، ولم يجد طعاماً، وقهره التعب، فنام، ثم أفاق من هذه الإِغفاءة؛ وفوجئ بمائدة أمامه عليها أطايب الطعام والشراب وهو لا يعرف أحداً في المكان، بالله قبل أن يأكل ألا يتساءل عمن أحضرها؟!! كان الواجب يقتضي ذلك.
إذن أنتم تتعجبون من شيء تقتضي الفطرة أن نبحث عنه، وأن نؤمن به وهو الإِله الذي لا ينتفع بطاعاتنا أو بعبادتنا، ولا تعود عليه العبادة بشيء، بل تعود علينا، والعبادة فيها مشقات لأنها تلجم الشهوات وتعقل وتمنع من المعاصي والمحرمات، ولكن يُقابِل ذلك الثوابُ في الآخرة.
وهناك من قال: ولماذا لا يعطينا الثواب بدون متاعب التكليف؟ مادام لا يستفيد. إنّ العقل كاف ليدلنا- دون منهج- إلى ما هو حسن فنفعله، وما نراه سيئاً فلا نفعله، والذي لا نعرفه أهو حسن أم سيئ. ونضطر له نفعله، وإن لم نكن في حاجة له لا نفعله.

ونقول لها القائل: لكن من الذي أخبرك أن العقل كاف ليدلنا إلى الأمر الحسن، هل حسّن لك وحدك أم لك وللآخرين؟ فقد يكون الحسن بالنسبة لك هو السوء بالنسبة لغيرك لأنك لست وحدك في الكون.

ولنفترض أن هناك قطعة قماش واحدة، الحسن عندك أن تأخذها، والحسن عند غيرك أن يأخذها. لكن الحُسْن الحقيقي أن يفصل في مسألة ملكية هذه القطعة من القماش مَن يعدل بينك وبين غيرك دون هوى. وألاّ يكون واحد أولى عنده من الآخر. إذن لابد أن يوجد إله يعصمنا من أهوائنا بمنهج ينزله يبين لنا الحسن من السيء؛ لأن الحسن بالمنطق البشري ستصدم فيها أهواؤنا.
 

ومثال آخر: افرض أننا دخلنا مدينة ما، ورأينا مسكنا جميلا فاخرا وكل منا يريد أن يسكن فيه وكل واحد يريد أن يأخذه؛ لأن ذلك هو الحسن بالنسبة له، لكن ليس كذلك بالنسبة لغيره، إذن فالحسن عندك قد يكون قبيحاً عند الغير.
فالحسن عند بعض الرجال إذا رأى امرأة أن ينظر إليها ويتكلم معها، لكن هل هذا حسن عند أهلها أو أبيها أو زوجها؟ لا.

 

إنّ الذي تعجبتم منه كان يجب أن تأخذوه على أنه هو الأمر الطبيعي الفطري الذي تستلزمه المقدمات. فقد جاءكم البلاغ على لسان رجل منكم. ولماذا لم يقل الحق: لسان رجل؟ إننا نعلم أن هناك آية ثانية يقول فيها الحق: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ...} [آل عمران: 194].
كأنه يقول لهم: إن الوعد الذي وعده الحق لكم قد جاء لكم بالمنهج الذي نزل على الرسل. ومهمة الرسل صعبة؛ فليست مقصورة على التبليغ باللسان لأن مشقاتها كلها على كاهل كل رسول، ولا تظنوا أن ربنا حين اختار رسولاً قد اختاره ليدلله على رقاب الناس، لا. لقد اختاره وهو يعلم أن المهمة صعبة، والرسول صلى الله عليه وسلم- كما تعلمون- لم يشبع من خبز شعير قط، وأولاده وأهله- على سبيل المثال- لا يأخذون من الزكاة، والرسل لا تورث فجميع ما تركوه صدقة، وكل تبعات الدعوة على الرسول، وهذه هي الفائدة في أنه لم يقل على لسان رسول، لأن الأمر لو كان على لسان الرسول فقط لأعطى البلاغ فقط، إنما (على رجل منكم) تعطي البلاغ ومسئولية البلاغ على هذا الرجل. {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ...} [الأعراف: 63].
ما هو العجب؟ لقد كان العجب أن تردوا الألوهية والنبوة.

 

وبعضهم لم يرد الألوهية ورد فكرة النبوة على الإِنسان. وطالب أن يكون الرسول من الملائكة؛ لأن الملائكة لم تعص ولها هيبة ولا يُعرف عنها الكذب لكن كيف يصبح الرسول ملكاً؟ وهل أنت ترى الملك؟ إن البلاغ عن الله يقتضي المواجهة، ولابد أن يراه القوم ويكلموه، والملك أنت لن تراه. إذن فلسوف يتشكل على هيئة رجل كما تشكل جبريل بهيئة رجل. إذن أنتم تستعجبون من شيء كان المنطق يقتضي ألاّ يكون. {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94].
وقولهم هذا في قمة الغباء. فقد كان عليهم أن يتهافتوا ويقبلوا على الإِيمان؛ لأن الرسول منهم. وقد عرفوا ماضيه من قبل، وكذلك أنسوا به، ولو كانت له انحرافات قبل أن يكون رسولاً لخزي واستحيا أن يقول لهم: استقيموا. وما دام هو منكم وتعرفون تاريخه وسلوكه حين دعاكم للاستقامة كان من الواجب أن تقولوا لأنفسكم: إنه لم يكذب في أمور الدنيا فكيف في أمور الآخرة، ولم يسبق له أن كذب على خلق الله فكيف يكذب على الله؟ ولأنه منكم فلابد أن يكون إنساناً ولذلك قال الحق: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9].
وهنا في الآية التي نحن بصددها يقول الحق: {على رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

 

إذن فمهمته أن ينذر، والأنذار لقصد التقوى، والتقوى غايتها الرحمة، وبذلك نجد هنا مراحل: الإنذار وهو إخبار بما يسؤوك ولم يأت زمنه بعد وذلك لتستعد له، وتكف لأنه سيتبعك ويضايقك. والبشارة ضد الإنذار، لأنها تخبر بشيء سار زمنه لم يأت، وفائدة ذلك أن يجند الإنسان كل قوته ليستقبل الخير القادم. وأن يبتعد عن الشيء المخيف.
وهكذا يكون التبشير والإنذار لتتقي الشرور وتأخذ الخير، وبذلك يحيا الإنسان في التقوى التي تؤدي إلى الرحمة.
إذن فمواطن تعجبهم من أن يجيئهم رسول مردودة؛ لأن مواطن التعجب هذه كان يجب أن يلح عليها فطرياً، وأن تنعطف النفس إليها لا أن يتعجب أحد لأنها جاءت، فقد جاءت الرسالة موافقة للمقدمات، وقد جاء الرسول ولم يأت ملكاً ليكون قدوة.
وكذلك لم يرسله الله من أهل الجاه من الأعيان ومن صاحب الأتباع؛ حتى لا يقال إن الرسالة قد انتشرت بقهر العزوة، إن الأتباع كانوا موافقين على الباطل بتسلط الكبراء والسادة، فمخافة أن يقال: إن كل تشريع من الله آزره المبطلون بأتباعهم جاءت الدعوة على أيدي الذين ليس لهم أتباع ولا هم من أصحاب الجاه والسلطان. ولقد تمنى أهل الشرك ذلك ويقول القرآن على لسانهم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].

 

ولقد كان تمنيهم أن ينزل القرآن على رجل عظيم بمعاييرهم، وهذه شهادة منهم بان القرآن في ذاته منهج ومعجزة. ولم يتساءلوا: وهل القرآن يشرف بمحمد أو محمد هو الذي يشرف بالقرآن؟ إن محمداً يشرف بالقرآن؛ لذلك يقول الحق: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي...} [هود: 27].
وهذه هي العظمة؛ لأن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم لم يكونوا من الذين يفرض عليهم الواقع أن يحافظوا على جاههم ويعملوا بسطوتهم وبطشهم وبقوتهم، ويفرضوا الدين بقوة سلطانهم، لا، بل يمر على أتباع رسول الله فترة ضعاف مضطهدون، ويؤذوْن ويهاجرون، فالمهمة في البلاغ عن الله تأتي لينذر الرسول، ويتقى الأتباع لتنالهم الرحمة نتيجة التقوى، والتقوى جاءت نتيجة الإنذار.

image.png.7b2b8d7b5bff6989cf3624fa690f82a7.png
 

{فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)}
وهنا يتكلم الحق عن حكاية الإنجاء، ونعلم المقدمة الطويلة التي سبقت إعداد سيدنا نوح عليه السلام للرسالة، فقد أراد الله أن يتعلم النجارة، وأن يصنع السفينة. {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ...} [هود: 38].
ولم يجيءالحق هنا بسيرة الطوفان التي قال فيها في موضع آخر من القرآن: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} [القمر: 11].
وجاء الحق هنا بالنتيجة وهي أنهم كذبوه. {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ...} [الأعراف: 64].

 

وكانت هذه أول حدث عقابي في تاريخ الديانات؛ لأن رسالة نوح عليه السلام هي أول رسالة تعرضت إلى مثل هذا التكذيب ومثل هذا العناد وكان الرسل السابقون لنوح عليهم البلاغ فقط، ولم يكن عليهم أن يدخلوا في حرب أو صراع، والسماء هي التي تؤدب، فحينما علم الحق سبحانه وتعالى أنه بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلم ستبلغ الإِنسانية رشدها صار أتباع محمد مأمونين على أن يؤدبوا الكافرين.
وفي تكذيب نوح عليه السلام يأتينا الحق هنا بالنتيجة.
{فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ} ولم يقل الحق: كيف أنجاه ولم يأت بسيرة الفلك، بل أخبر بمصير من كذبوه، ويأتي بالعقاب من جنس الطوفان. {... وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} [الأعراف: 64].

 

هناك (أعمى) لمن ذهب بصره كله من عينيه كلتيهما، وهناك أيضا عَمِه وأَعْمَهُ، والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر.. أي ذهبت بصيرته ولم يهتد إلى خير.
ثم انتقل الحق إلى رسول آخر. ليعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة فيه أيضاً. فبعد أن جاء بنوح يأتي بهود.

 

نداء الايمان

image.png.df626f99be6567f7d0ee3fc9f62c9aeb.png

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

 

(قصة هود عليه السلام وقوم عاد )

 

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)}
 

ساعة ما تسمع: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} أي أرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً، و(أخاهم) موقعها الإِعرابي (مفعول به) ويدلنا على ذلك قوله في الآية السابقة: {أَرْسَلْنَا نُوحاً}، وكذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. وكلمة (أخاهم) تُشْعرُ بأشياء كثيرة؛ إنه من جنسهم، ولغته لغتهم، وأنسهم به، ويعرفون كل شيء وكل تاريخ عنه، وكل ذلك إشارات تعطى الأنس بالرسول؛ فلم يأت لهم برسول أجنبي عاش بعيداً عنهم حتى لا يقولوا: لقد جاء ليصنع لنفسه سيادة علينا بل جاء لهم بواحد منهم وأرسل إليهم (أخاهم) وهذا الكلام عن (هود).
 

إذن كان هود من قوم عاد، ولكن هناك رأي يقول: إن هودا لم يكن من قوم عاد، ولأنَّ الأخوة نوعان: أخوَّة في الأب القريب، أو أخوّة في الأب البعيد، أي من جنسكم، من آدم؛ فهو إما أخ من الأب القريب، وإمّا أخ من الأب البعيد. وقد قلنا من قبل: إن سيدنا معاوية كان يجلس ثم دخل عليه الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين، رجل بالباب يقول إنه أخوك، فتساءلت ملامح معاوية وتعجب وكأنه يقول لحاجبه: ألا تعرف إخوة أمير المؤمنين؟ وقال له: أدخله، فأدخله. قال معاوية للرجل: أي إخوتي أنت؟!
قال له: أخوك من آدم.
فقال معاوية: رحم مقطوعة- أي أن الناس لا تتنبه إلى هذه الأخوة- والله لأكونن أول من وصلها. {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65].

 

ونلاحظ أن الحق قال على لسان سيدنا نوح لقومه: {... فَقَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59].

وأرسل الحق هوداً إلى عاد، لكن قول هود لقوم عاد يأتي: {قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}.
وهنا (قال) فقط من غير الفاء؛ وجاء في قول نوح: (فقال). وهذه دقة في الأداء لننتبه؛ لأن الذي يتكلم إله ورب، فتأتي مرة ب (فاء) وتأتي مرة بغير (فاء) رغم أن السياق واحد، والمعنى واحد والرسول رسول، والجماعة هم قوم الرسول.

ونعلم أن (الفاء) تقتضي التعقيب، وتفيد الإِلحاح عليهم، وهذا توضحه سورة نوح؛ لأن الحق يقول فيها: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 5-10].
إذن فالفاء مناسبة هنا، لكن في مسألة قوم هود نجد أن سيدنا هوداً قال لهم مرة أو اثنتين أو ثلاث مرات، لكن بلا استمرار وإلحاح، وهذا يوضح لنا أن إلحاح نوح على قومه يقتضي أن يأتي في سياق الحديث عنه ب: (فقال) وألا تأتي في الحديث عن دعوة سيدنا هود. وقد يتعجب الإِنسان لأن مدة هود مع عاد لا تساوي مدة نوح مع قومه، وقد جاء الإِيضاح بزمن رسالة سيدنا نوح في قوله الحق: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً...} [العنكبوت: 14].
ظل سيدنا نوح قُرابة ألف سنة يدعو قومه ليلاً ونهاراً سرًّا وعلانية، لكنهم كانوا يفرون من الإِيمان، لذلك يأتي الحق في أمر دعوة نوح بالفاء التي تدل على المتابعة. أما قوم عاد فلم يأت لهم (بالفاء). بل جاء ب (قال): {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ...} [الأعراف: 65].

 

وقال نوح من قبل: {... يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59].
وفي مسألة قوم عاد قال: {يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}.
ومع أن الأسلوب واحد والمعاني واحدة، وكان ذلك يقتضي الإِنذار، لكن لم يقل الحق ذلك؛ لأن نوحاً عنده علم بالعذاب الذي سوف ينزل؛ لأنها كانت أول تجربة، لكن سيدنا هود لم يكن عنده علم بالعذاب.
العملية التي حدثت لنوح مع قومه وإهلاكهم بالغرق كانت أولية بالنسبة له؛ فالله سبق أن أعلمه بها، وحين ذهب هود إلى قوم عاد كانت هناك سابقة أمامه، وأخذ ربنا المكذبين لنوح بالعذاب، لذلك ألمح سيدنا هود فقط إلى احتمال العذاب حين قال: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ}.
أي أن العذاب قد ينتظركم وينالكم مثل قوم نوح.

 

image.png.ee4e4c2ee36142894743f299818ca7c0.png


{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)}
في هذه الآية جاء قوله: {الذين كَفَرُواْ}،

وفي قصة نوح قال سبحانه: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ} ولم يأت فيها بالذين كفروا

لأن قوم نوح لم يكن فيهم من آمن وكتم إيمانه وأخفاه، بخلاف عاد قوم هود فإنه كان فيهم رجل اسمه مرثد بن سعد آمن وكتم وستر إيمانه، فيكون قوله تعالى في شأنهم: {الذين كَفَرُواْ} قد جاء مناسبا للمقام، لأن فيهم مؤمنا لم يقل ما قولوا من رميهم لسيدنا هود بالسفاهة حيث قالوا ما حكاه الله عنهم بقوله: {... إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} [الأعراف: 66].
أما قوم نوح فقد قالوا: {... إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأعراف: 60].
فقال لهم نوح عليه السلام: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ...} [الأعراف: 61].

 

ما الفرق بين الضلال والسفاهة؟
الضلال هو مجابنة حق، والسفاهة طيش وخفة وسخافة عقل، وأضافت عاد اتهاماً آخر لسيدنا هود: {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين}.
والظن رجحان الأمر بدون يقين، فهناك راجح، ومرجوح، أو أن الظن هنا هو التيقن. على حد قوله سبحانه: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ...} [البقرة: 46].
أي يتيقنون، وجاء بالرد من سيدنا هود:

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)}
وفي هذا القول نفي للاتهام بالسفاهة، وإبلاغ لهم بأنه مبلّغ عن الله بمنهج تؤديه الآية التالية
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)}
وسبق أن قال سبحانه على لسان نوح: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ...} [الأعراف: 62].
 

فلماذا قال في قوم نوح: {أَنصَحُ لَكُمْ}، وقال هنا في عاد: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}؟
لقد قال الحق: {أَنصَحُ لَكُمْ} في قوم نوح لأن الفعل دائماً يدل على التجدد، بينما يدل الاسم على الثبوت. ونظراً إلى أن نوحاً عليه السلام كان يلحّ على قومه ليلاً ونهاراً، وإعلاناً وسرًّا، لذلك جاء الحق بالفعل: {أَنصَحُ لَكُمْ} ليفيد التجدد، ولكن في حالة قوم هود جاء سبحانه بما يفيد الثبوت وهو قوله: {نَاصِحٌ أَمِينٌ}؛ لأن هوداً عليه السلام لم يلح ويكرر على قومه في دعوتهم إلى الإِيمان كما كان يفعل نوح عليه السلام.
 

ويقول الحق على لسان سيدنا هود:
{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)}
 

جاء الحق هنا بالذكر للإِنذار فقال: {لِيُنذِرَكُمْ} فقط، وليس كما قال في قوم نوح: {وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لأن الإِنذار لم يأت لمجرد الإِنذار، بل لنرتدع ونتقي، لِكي نُرحم، إذن فحين يأتي بأول الحلقة وأول الخيط وهو الإِنذار فنحن نستنتج الباقي وهو التقوى لنصل إلى الرحمة: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}.
وهذا كلام جديد؛ لأن قوم نوح هم أول قوم عُذّبوا حين لم يؤمنوا، وجاء سيدنا هود إلى عاد بعد ذلك، يبلّغهم وينذرهم ليأخذوا العبرة من نوح وقومه: {... واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً فاذكروا آلآءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69].
ويذكرهم سيدنا هود أن الحق قد أعطى لهم أجساماً فارعة فيها بسطة وطول، ويقال: إن الطويل منهم كان يبلغ طوله مائة ذراع، والقصير منهم كان يبلغ طوله ستين ذراعاً، ويأمرهم سيدنا هود أن يذكروا آلاء الله، أي نعمه عليهم، وأول النعم أن أرسل إليهم رسولاً يأخذ بأيديهم إلى مناطق الخير.

 

فماذا كان ردهم؟
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)}
كان المنطق أن يعبدوا الله وحده لا أن يعبدوا الشركاء الذين لا ينفعوهم ولا يضرونهم، ولا يسمعونهم. بل إن الواحد منهم كان يرى الهواء يهب على الصنم، فيميل الصنم ويقع على الأرض وتنكسر رقبته، فيذهب إلى الحداد ليعيد تركيب رأس جديد للصنم، فكيف يعبد مثل هذا الصنم؟ لكنهم قالوا لهود: نحن نقلد آباءنا ولا يمكن أن نترك ما كان يعبد آباؤنا لأننا على آثارهم نسير. وإن كان إلهك ينذرنا بعذاب فأتنا به إن كنت من الصادقين. وهكذا وضح أنه لا أمل في اقتناعهم بالدعوة إلى الإِيمان.
فماذا يقول الحق بعد ذلك؟

 

يجيء القول الفصل على لسان سيدنا هود:
{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)}
لقد كان يكلمهم ويكلمونه، قالوا له: ائتنا بالعذاب، فقال لهم: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ}، فكيف يقول وقع؟ لقد قال ذلك لأنه يخبر عن الله. و(وقع) فعل ماض، لكنا نعلم أن كلام الله مجرد عن الزمان ماضياً كان أو حاضرا، أو مستقبلا، لقد قال سيدنا هود: (وقع) والعذاب لم يقع بعد، لكن لما كان قوله بلاغاً عن الله فإنّه يؤكد وقوع العذاب حتماً؛ لأن الذي أخبر به قادر لما كان قوله بلاغاً عن الله فإنّه يؤكد وقوع العذاب حتماً؛ لأن الذي أخبر به قادر على إنقاذه في أي وقت، ولا إله آخر ولا قوة أخرى قادرة على أن تمنع ذلك. والذي وقع عليهم هو الرجس، والرجس أي التقذير، ضد التزكية والتطهير. وغضب الله الواقع لم تحدده هذه الآية. لكن لابد أن له شكلاً سيقع به.
ويسائلهم هو ساخراً: {أتجادلونني في أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ}، وكل اسم يكون له مسمى، وهذه الأسماء أنتم أطلقتموها على هذه الآلهة، هل لها مسميات حقيقة لِتُعبد؟. لا، بل أنتم خلعتم على ما ليس بإله أنه إله، وهذه أسماء بلا مسميات، وأنتم في حقيقة الأمر مقلدون لآبائكم. وما تعبدونه أسماء بلا سلطان من الإِله الحق. {مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71].
أي ليس لهذه الأسماء من حجة على ما تقولون، بدليل أنهم كانوا يسمون في الجاهلية إلهاً باسم (العزّى) وعندما يكسرونه لا يجدون عزاً ولا شيئاً؛ لأن هذا الإِله المزعوم لم يدفع عن نفسه، فكيف يكون إلهاً وقيّوما على غيره؟ وكذلك سموا (اللات) أي الله ومضاف له التاء، وعندما يكسرونه لا يجدون له قوة أو جبروتاً أو طغياناً.
ويقول هود لقومه ما يؤكد وقوع العذاب: {... فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} [الأعراف: 71].
وقوله: {فانتظروا}، جعلنا نفهم قوله السابق: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} بأن الرجس والغضب قادمان لا محالة. صحيح أنه عبر عن ذلك بالفعل الماضي، ولكن لنقرأ قوله الحق: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ...} [النحل: 1].
و(أتي) فعل ماضٍ، وفي الظاهر أنه يناقض قوله: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} لأن الاستعجال يدل على أنّ الحدث لم يأت زمنه بعد. ولكن لنا أن نعلم أن الذي أخبر هو الله، ولا توجد قوة ثانية تغير مرادات الله أن تكون أو لا تكون.

image.png.262d113cbe3149149c115a8e22b681b8.png

 

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}
ونلاحظ أن الحق قد بين وسيلة نجاة سيدنا نوح: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ}.
أما هنا في مسألة عاد فلم يوضح لنا وسيلة النجاة، بل قال سبحانه: {فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72].
وقوله: {فَأَنجَيْنَاهُ} تدل على أن عذاباً عاماً وقع، إلا أن ربنا أوحى لسيدنا هود أن يذهب بعيداً عن المكان هو والذين معه قبل أن يقع هذا العذاب. وكان العرب قديماً إذا حزبهم أمر، أو دعتهم ضرورة إلى شيء خرج عن أسبابهم يذهبون إلى بيت الله؛ ليضرعوا إلى الله أن يخلصهم منه، حتى الكفرة منهم كانوا يفعلون ذلك. كما حدث من عاد حين أرسل الله إليهم سيدنا هودا نبيًّا فكذبوه وازدادوا عتوًّا وتجبراً فأصابهم جدب وظل ثلاث سنوات فما كان منهم ألا أن فزعوا إلى الكعبة لكي يدعوا ربهم أن يخفف عنهم العذاب، وذهب واحد منهم اسمه (قيل بن عنز)، وآخر اسمه (مرثد بن سعد) الذي كان يكتم إسلامه على رأس جماعة منهم إلى مكة، وكان لهم بها أخوال من المعاليق؛ من أولاد عمليق بن لاوث بن سام بن نوح، وكانوا هم الذين يحكمون مكة في هذا الوقت، وعلى رأسهم واحد اسمه (معاوية بن بكر)، فنزلوا عنده، وأكرم وفادتهم على طريقة العرب، واستضافهم ضيافة ملوك وأمراء، وجاء لهم بالقيان والأكل والشراب، فاستمرأوا الأمر، وظلوا شهراً، فقال معاوية بن بكر: لقد جاءوا لينقذوا قومهم من الجدب وما فكروا أن يذهبوا إلى الكعبة، ولا فكروا في أن يدعوا ربنا وأخاف أن أقول لهم ذلك فيقولوا إنه ضاق بنا. وتكون سبّة فيّ. وأخذ يفكر في الأمر. وكان عنده مغنيتان اسمهما (الجرادتان). فقالت المغنيتان: قل في ذلك شعراً، ونحن نغنيه لهم، فقال معاوية:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ** لعل الله يمطرنا غماماً

فيسقى أرض عاد إن عادا ** قد أمسوا لا يبينون الكلاما

فلما غنتا، والغناء فيه ترديد وخصوصاً إذا كان غناءً موجهاً (ألا يا قيل ويحك قم فهينم) وهينم: أي ادعوا الله، ألم تحضر من أجل الدعاء لعل الله يمطرنا الغمام على أرض عاد، وينتهي الجدب، وقد بلغ منهم الجهد أنهم لا يبينون الكلام، فتنبه القيل، وتنبه مرثد بن سعد، وكان قد نمى إلى علم (القيل) أن مرثد بن سعد مؤمن بهود عليه السلام، فرفض أن يصحبه معه، وبالفعل ذهب قيل وأخذ يدعو الله، فسمع هاتفاً يقول له: (اختر قومك) وقد رأى سحابة سوداء وسحابة حمراء وسحابة بيضاء، ونبهه الهاتف أن يختار سحابة تذهب لقومه من بين الثلاثة، فاختار السحابة السوداء، لأنها أكثر السحاب ماء، وهو على قدر اجتهاده اختار السحابة السوداء، وعادوا لبلادهم ليجدوا السحابة السوداء فقال لهم: أنا اخترت السحابة لأنها توحى بماء كثير منهمر، وقال الحق في هذا الأمر: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا...} [الأحقاف: 24].
أي أن هذه هي السحابة التي قال عليها: (قيل) سوف تعطينا المطر.

فيرد الحق عليهم ويقول لهم: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ...} [الأحقاف: 24-25].
إذن فقولهم السابق لسيدنا هود الذي أورده الحق هنا في سورة الأعراف: {... فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 70].
أي أن عذابهم يتأكد بالمطر والريح الذي جاء به قول سيدنا هود هنا في سورة الأعراف: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ}.
ولم يفلت من العذاب إلا من آمن مصداقاً لقوله الحق: {فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72].

 

لقد يسّر الحق الانقاذ لسيدنا هود ومن آمن معه ليهجروا المكان لحظة ظهور السحاب، فقد سمع هود هاتفاً يؤكد له أن في هذا السحاب العذاب الشديد، فأخذ الجماعة الذين آمنوا معه وهرب إلى مكة، وتم إهلاك الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب رسولهم ورفضهم الإِيمان بربهم.
 

نداء الايمان

image.png.35c08b0f016d1b5aaaaf79408fd39bfe.png

 
  •  

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

(قصة قوم ثمود و ناقة صالح )

 

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)}
 

لقد قال سيدنا صالح لثمود مثلما قال سيدنا هود لعاد، وحمل لهم الإِنذار ليتقوا فيرحموا، قال سيدنا صالح: {يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ}.
إذن فالإِنذار للتقوى وللوصول إلى الرحمة والفلاح، ولذلك أقول دائماً: إن القرآن حينما يتعرض لأمر قد لا يأتي به مفصلا ولكن سياقه يوحي بالمراد منه، ولا يكرر وذلك ليربي فينا ملكة الاستيقاظ إلى استقبال المعاني.

والمثال على ذلك في قصة الهدهد مع سيدنا سليمان، يقول القرآن على لسان سيدنا سليمان: {وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} [النمل: 20].
ويهدد سيدنا سليمان الهدهد قائلاً: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ...} [النمل: 21].
ثم جاء الهدهد ليقول: {... وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22].
ثم أرسل سيدنا سليمان الهدهد إلى قوم سبأ قائلاً: {اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28].
وبعد هذه الآية مباشرة قال القرآن: {قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29].
وكأن الهدهد قد ذهب بالكتاب، ورماه إلى ملكة سبأ، وقالت هي الرد مباشرة. إذن لم يكرر القرآن ما حدث، بل جعل بعضاً من الأحداث متروكاً للفهم من السياق.

 

وكذلك هنا في قوله الحق: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ...} [الأعراف: 73].
وكلمة (أخاهم) هنا تؤكد أن سيدنا صالحاً كان مأنوساً به عند ثمود، ومعروف التاريخ لديهم، سوابقه في القيم والأخلاق معروفة لهم تماماً وأضيفت ثمود له لأنه أخوهم. وقد جاءت دعوته مطابقة لدعوة نوح وهود. {... قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73].
والبنية هي الدليل على الصدق في البلاغ عن الله، وهي الناقة.

 

فما قصة الناقة؟

هل خرج لهم بناقة ونسب ملكيتها لله؟ بطبيعة الحال، لا، بل لابد أن تكون لها قصة بحيث يعلمون أن هذه الناقة ليست لأحد من البشر. وحين قام سيدنا صالح بدعوته، تحداه السادة من قومه، وقالوا: نقف نحن وأنت، نستنجد نحن بآلهتنا، وأنت تستنجد بإلهك، وإن غلبت آلهتنا تتبعنا، وإن غلب إلهك نتبعك، وجلسوا يدعون آلهتهم، فلم يحدث شيء من تلك الآلهة، وهنا قالوا لسيدنا صالح: إن كنت صادقاً في دعوتك، هذه الصخرة منفردة أمامك في الجبل اسمها (الكاثبة) فليخرج ربك لنا من هذه الصخرة ناقة هي عشراء كالبخت- أحسن أنواع الإِبل- فدعا الله سبحانه وتعالى، وانشقت الصخرة عن الناقة، وخروج الناقة من الصخرة لا يدع مجالاً للشك في أنها آية من الله ظهرت أمامهم. إنها البينة الواضحة. لقد انشقت الصخرة عن الناقة ووجدوها ناقة عشراء، وَبْرَاء- أي كثيرة الوَبَر- يتحرك جنينها بين جنبيها ثم أخذها المخاض فولدت فصيلاً، وهكذا تتأكد الإِلهية دون أن يجرؤ أحد على التشكيك فيها، وهي ناقة من الله وهو القائل: {... نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13].
وأوضح لهم سيدنا صالح أنها ناقة الله، وترونها رؤية مشهدية وهذه الناقة لها يوم في الماء لتشرب منه، ويوم تشربون أنتم فيه. وكان الماء قليلاً عندهم في الآبار. {... لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155].
أي لابد من تخصيص يوم لتشرب فيه هذه الناقة، ولكم أنتم وإبلكم وحيواناتكم يوم آخر، وكان من عجائب هذه الناقة أن تقف على العين وتشرب فلا تدع فيها ماءً، وهي كمية من المياه كانت تكفي كل الإِبل. وبعد ذلك تتحول كل المياه التي شربتها في ضرعها لبناً، فيأخذون هذا اللبن.

 

صحيح أن الناقة منعتهم المياه لكنهم أخذوا منها اللبن الذي يطعمونه، ولأنها ناقة الله كان لابد أن تأخذ هيكلاً وحجماً يناسبها وكمية من الطعام والشراب مناسبة لتقيم بها حياتها، وكمية إدرار اللبن مناسبة لشربها وطعامها وحجمها، فمادامت منسوبة لله فلابد أن فيها مواصفات إعجازية، وكان الفصيل الذي ولدته معها، وكان إذا ما جاء الحر في الصيف تسكن الناقة في المشارف العالية، وبقية النوق تنزل في الأرض الوطيئة، وحين يأتي الشتاء تنزل إلى المناطق المنخفضة.
والمعروف أن مدائن صالح كانت منطقة شديدة الحرارة، ويمكن لمن يزور المدينة أو (تبوك) أن يمر عليها.

 

كانت الناقة حرة في اختيار المكان الذي تعيش فيه صيفاً أو شتاءً فلا أحد بقادر أن يمسها بسوء. وكانت هناك امرأتان لهما نياق. وناقة الله تغلب نياق المرأتين في المراعي والماء. فأحضرت المرأتان رجلاً يطلق عليه: (أُحَيْمر ثمود: واسمه قُدار بن سالف) ليقتلها، فقتل الناقة، فلما قتلت الناقة، طلع ابنها الفصيل على جبل يسمى (قارة) وخار ثلاثة أصوات، فنادى سيدنا صالح: يا قوم أدركوا هذا الفصيل، لعل الله بسبب إدراككم له يرفع عنكم العذاب، فراحوا يتلمسونه فلم يجدوه وأعلم الله صالحاً النبي أن العذاب قادم، ففي اليوم الأول تكون وجوههم مصفرة، وفي اليوم الثاني تكون محمرة، وفي اليوم الثالث تكون مسودّة، فقد كانت الناقة هي ناقة الله المنسوبة له سبحانه، وقد تأكدوا بالأمر المشهدي من ذلك، وكان من الواجب عليهم ساعة أن وجدوا الآية الكونية المشهودة أن يأخذوا منها العبرة، وأنها مقدمة للشيء الموعود به. لكنَّ الغباء أنساهم أنها ناقة الله. {... هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73].
وبالفعل حدث العذاب بعد أن قتل أحميرثمود الناقة.

image.png.addd226cbb71ad81a13a0f9608612961.png

.
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)}
ومن قبل قال الحق لقبيلة عاد: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ...} [الأعراف: 69].
وهنا قال الحق: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ}.
لأن عاداً هم الخلفاء الأقرباء منهم، وقصتهم مازالت معروفة ومعالمها واضحة، أما قصة نوح فهي بالتأكيد أقدم قليلاً من قصة عاد.
ويذكرهم الحق أيضاً أنه جعل في الأرض منازل يسكنونها، فاتخذوا من سهولها قصوراً، والسهل هو المكان المنبسط الذي لا توجد به تلال أو صخور أو جبال، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، وكان عمر الإِنسان منهم يطول لدرجة أن البيت ينهدم مرتين في العمر الواحد للإِنسان. ولذلك قرروا أن يتخذوا من الجبال بيوتاً لتظل آمنة، وحين يرى الإِنسان مدائن صالح منحوتة في الجبل فهي فرصة لأن يتأمل عظمة الحق في تنبيه الخلق إلى ما يفيدهم وهي بالفعل من نعم الله، ويقول سبحانه: {... فاذكروا آلآءَ الله وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74].
وآلاء الله- كما عرفنا- هي نعمه التي لا تحصى، وينبههم إلى عدم نشر الفساد في الأرض.

image.png.d28513c07eba43b49745163a3c4dde50.png
 

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)}
ونعرف أن هناك سادة، وهناك أتباعاً. ومن قبل قال الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا...} [البقرة: 166].
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها حوار بين السادة وبين المستضعفين الذين لا جاه لهم لا جبروت يُحافظ عليه، ورأوا دعوة الإِيمان ووجدوا فيها النفع لهم فأقبلوا عليها، أما الملأ وهم السادة الأشراف الأعيان الذين يملأون العين هيبة، والقلوب مهابة فقد قالوا لمن آمن من المستضعفين- لأن هناك مستضعفين ظلوا على ولائهم للكفر- قال هؤلاء الملأ من المستكبرين لمن آمن من المستضعفين: {... أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 75].

 

image.png.96d7c366854c9b5ada509119c7cf551a.png

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)}
إذن فقد أعلنوا الكفر بالقول وضموا إليه بالعمل وهو قتل الناقة
{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)}
والعقر: هو الذبح بالنسبة للنوق.
وهم هنا يقولون أيضاً مثلما قال السابقون لهم: {... ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} [الأعراف: 77].
و(الصادقين) تؤول أيضاً إلى المرسلين. لقد اتهموا صالحاً عليه السلام بالكذب كنبي مرسل لهم برغم حدوث الآية الواضحة وهي خروج الناقة من الجبل، لذلك يحل عليهم غضب الله في قوله الحق: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ...}.

image.png.f4633403e1e87a4f15bc89cce6276284.png
 

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)}
والرجفة هي الهزة التي تحدث رجة في المهزوز. ويسميها القرآن مرة بالطاغية في قوله الحق: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5].
والتي أصبحوا من بعدها (جاثمين)، وهو التعبير الدقيق الذي يدل على أن الواحد منهم إن كان واقفاً ظل على وقوفه، وإن كان قاعداً ظل على قعوده، وإن كان نائماً ظل على نومه. أو كما نقول: (إنسخطوا على هيئاتهم).
(فالجاثم) هو من لزم مكانه فلم يبرح أو لصق بالأرض.

image.png.87f69dd4129d29d909cb7780c542be98.png
 

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}
فهل كان سيدنا صالح يخاطبهم وهم موتى؟. نعم يخاطبهم إنصافاً لنفسه وإبراء لذمته، مثلما يقع واحد في ورطة فيقول له صديقه: لا أملك لك شيئاً الآن: فقد نصحتك من قبل. أو أن شريراً قد قتل، فتقول له: (ياما نصحتك). وأنت تتكلم لكي تعطي لنفسك براءة العذر، (أو كما فعل صلى الله عليه وسلم مع قتلى بدر وناداهم واحداً واحداً بعد أن ألقوا جثثهم في قليب بدر، وقال صلى الله عليه وسلم: يا أهل القليب، يا فلان، يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال الصحابة:
- أو تكلمهم يا رسول الله وقد جيَّفوا. قال: والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني).
وكأن سيدنا صالح قال ذلك ليتذكروا كيف أبلغهم رسالات الله ومنهجه ونصح لهم وتحنن عليهم أن يلتزموا بمنهج الله، لكنهم لم يستمعوا للنصح. ولم يحبوا الناصحين؛ لأن الناصح يريد أن يُخرج المنصوح عما ألفه من الشر، وعندما ينصحه أحد يغضب عليه.

 

نداء الايمان

image.png.7c83bfd6027fcd9862d165696d74d3f7.png

 
  •  

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

قصة سيدنا لوط عليه السلام وقومه

 

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)}
وكما قال الحق: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً} وقال: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}، {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} فهو هنا يأتي باسم (لوط) منصوباً لأنه معطوف على من سبقه من أصحاب الرسالات.
وما هو زمان الإِرسال؟ إن قوله الحق: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} يفيد أن زمن القول كان وقت الإِرسال. وهي الإِشارة القرآنية ذات الدلالة الواضحة على أن الرسول حين يبعث ويرسل إليه ويبَّلغ الرسالة لا يتوانى لحظة في أداء المهمة، فكأن تبليغ الرسالة تزامن مع قوله: {يَاقَوْمِ}. والأسلوب يريد أن يبين لك أنه بمجرد أن يقال له: (بلغ) فهو يبلغ الرسالة على الفور، وكأن الرسالة جاءت ساعة التبليغ فلا فاصل بينهما. {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف: 80].

 

وكلمة (قومه) تعني أنه منهم، ولماذا لم يقل: (أخاهم لوطاً)؟

وهذه لها معنى يفيد أن السابقين من الرسل كانوا من بيئة الأقوام الذين أرسلوا إليهم؛ فعاد كان (هود) من بيئتهم و(ثمود) كان صالح من بيئتهم وإذا كان الحق لم يقل (أخاهم لوطاً) فلنلحظ أنه أوضح أنه قد أرسله إلى قومه، وهذه تنبهنا إلى أن لوطاً لم يكن من هذا المكان، لأن لوطاً وإبراهيم عليهما السلام كانا من مدينة بعيدة، وجاء إلى هذا المكان فراراً من الاضطهاد هو وإبراهيم عليهما السلام، وهذا يبين لنا أن لوطاً طارئ على هذا المكان، ولم يكن أخاهم المقيم معهم في البيئة نفسها. ولكنهم (قومه) لأنه عاش معهم فترة فعرف بعضهم بعضاً، وعرفوا بعضاً من صفاته، وأنسوا به.
 

أقول ذلك لننتبه إلى دقة أداء القرآن، فمع أن القصص واحد فسبحانه يضع لنا التمييز الدقيق، ولم يقل لهم لوط: إن ربي نهاكم عن هذه العملية القذرة وهي إتيان الرجال. بل أراد أن يستفهم منهم استفهاماً قد يردعهم عن العملية ويقبحها.
وكان استفهام سيدنا لوط هو استفهام تقريع، واستفهام إنكار، فلم يقل لهم: إن ربنا يقول لكم امتنعوا عن هذا الفعل، بل يستنكر الفعل كعمل مضاد للفطرة، واستنكار فطري. {... أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80].
وهذا يدل على أنه يريد أن يسألهم سؤالاً إنكاريًّا ليحرجهم، لأن العقل الفطري يأبى هذه العملية: {أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين}.
أي أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لأنها عملية مستقذرة؛ لأن الرجل إنما يأتي الرجل في محل القذارة، لكنهم فعلوها، وهذا الفعل يدل على أنها مسألة قد تشتهيها النفس غير السويَّة. ولكنها عملية قذرة تأباها الفطرة السليمة.

 

وكلمة (فاحشة) تعطينا معنى التزيد في القبح؛ فهي ليست قبحاً فقط، بل تَزَيُّدٌ وإيغال وتعمق في القبح ومبالغة فيه؛ لأن الفاحشة تكون أيضاً إذا ما أتى الرجل أنثى معدة لهذه العملية لأنه لم يعقد عليها، ولم يتخذها زوجا، وعندما يتزوجها تصير حِلاًّ له، لكن إتيان الذكر للذكر هو تزيد في الفحش.
 

وإذا كان هذا الأمر محرماً في الأنثى التي ليست حلالاً له ويعد فاحشة، فالرجل غير مخلوق لمثل هذا الفعل ولا يمكن أن يصير حلالاً، يكون إتيانه فاحشة بمعنى مركّب. {... أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80].
وقلنا من قبل: إن (من) قد تأتي مرة زائدة، ويمكنك أن تقول إنها زائدة في كلام الإنسان، لكن من العيب أن تقول ذلك في كلام ربنا. وقوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين}.
أي ما سبقكم أحد من العالمين، و(أحد) هي الفاعل، وجاءت (من) لتوضح لنا أنه لم يأت بها أحد ابتداءً، مثلما قلنا قديماً، حين تأتي لواحد لتقول له: (ما عندي مال). فأنت قد نفيت أن يكون عندك مال يعتد به. وقد يكون معك من بداية ما يقال له أنه مال

وقوله الحق: {... مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين}.[الأعراف: 80].
يعني أنه لم يسبقكم أي أحد من بداية ما يقال له أحد، وسبحانه يريد بذلك أن ينفيها أكثر، و(من) التي في قوله: {مِّن العالمين} هي تبعيضية أي ما سبقكم بها أحد (من بعض) العالمين. فما هذا الأمر؟ لقد سماها فاحشة، وهي تزيد في القبح ووصفة لها بأنها لم يأتها أحد من العالمين جعلها مسألة فظيعة للغاية.
لأننا حين نبحث هذه المسألة بحثاً عقلياً نجد أن الإنسان مخلوق كخليفة في الأرض وعليه استبقاء نوعه؛ لأن كل فرد له عمر محدود، ويخلف الناس بعضهم بعضاً، ولابد من بقاء النوع، وقد ضمن الله للإنسان الأقوات التي تبقيه، وحلل له الزواج وسيلة لإبقاء النوع، ومهمة الخلافة تفرض أن يخلف بعضنا بعضاً.
وكل خليفة يحتاج إلى اقتيات وإلى إنجاب. و(الاقتيات) خلقه الله في الأرض التي قدر فيها أقواتها.
والنوع البشري جعل منه سبحانه الذكر والأنثى ومنهما يأتي الإنجاب الخلافي؛ فهو محمول أولاً في ظهر أبيه نطفة، ثم في أمه جنيناً ثم تضعه لترعاه مع والده ويربيه الاثنان حتى يبلغ رشده. وهذه خمس مراحل، وكل مرحلة منها شاقة، فحمل الأم في الطفل تسعة شهور هو أمر شاق؛ لأن الإِنسان منا إن حمل شيئاً طوال النهار سيصاب بالتعب، لكن الأم تحمل الجنين تسعة أشهر، وأراد الله أن يكون الحمل انسيابياً بمعنى أن الجنين في نشأته الأولى لا يبلغ وزنه إلا أقل القليل، ثم يكبر بهدوء وبطء لمدة تسعة شهور حتى يكتمل نموه.
وهذا الجنين كان صغيراً في بدء تكوينه، ثم صار وزنه غالباً ثلاثة كيلو جرام في يوم ولادته، وبين بدء تكوينه إلى لحظة ميلاده هناك فترة زمنية ينمو فيها هذا الجنين تدريجياً، وبشكل انسيابي، فهو لا يزيد في الوزن كل ساعة، بل ينمو في كل جزء من المليون من الثانية بمقدار يناسب هذا الجزء من الثانية، وهذا يعني أن الجنين ينمو انسيابيا بما يناسب الزمن.
نلاحظ ذلك أيضاً في أثناء التدريب على رياضة حمل الأثقال أنهم لا يدربون اللاعب الناشئ على حمل مائة كيلو جرام من أول مرة بل يدربونه على حمل عشرين كيلو جراماً في البداية، ثم يزاد الحمل تباعاً بما لا يجعل حامل الأثقال في عنت، ويسمون ذلك: انسياب التدريب؛ لأن حمل هذه الأثقال يحتاج إلى تعود، ولهذا لا يتم تدريبه على حمل الأثقال فجأة، بل بانسياب بحيث لا يدرك الزمن مع الحركة، كذلك النمو، فأنت إذا نظرت إلى طفلك الوليد ساعة تلده أمه، وسأقدر جدلاً أنك ظللت تنظر إليه دائماً، فهو لا يكبر في نظرك أبداً؛ لأنه ينمو بطريقة غير محسوسة لديك، لكنك لو غبت شهراً عنه وتعود لرؤيته ستدرك نموه، وهذا النمو الزائد قد تجمع في الزمن الفاصل بين آخر مرة رأيته فيها قبل غيابك وأول مرة تراه بعد عودتك.
ومن لطف الله- إذن- في الحمل أن الجنين ينمو انسيابياً، ولذلك يزداد الرحم كل يوم من بدء الحمل إلى آخر يوم فيه، وترى الأم الحامل، وهي تسير بوهن وتبطئ في حركتها، ثم يأتي الميلاد مصحوباً بمتاعب الولادة وآلامها، وبعد أن يولد المولود تستقبله رعاية أمه وأبيه، ويأخذ سنوات إلى أن يبلغ الرشد. ونعلم أن أطول الأجناس طفولة هو الإنسان، ولذلك نجد الأب الذي يريد الإنجاب يتحمل مع الأم متاعب التربية، وقد قرن الله هذا الأمر بشهوة، وهي أعنف شهوة تأتي من الإِنسان، وبعد ميلاد الطفل نجد المرأة تقول: لن أحمل مرة أخرى، ولكنها تحمل بعد ذلك.

 

إذن كأن الشهوة هي الطُعم الموضوع في المصيدة ليأتي بالصيد وهو الإِنجاب؛ لذلك قرن الحق الإِنجاب بالشهوة لنقبل عليها، وبعد أن نقبل عليها، ونتورط فيها نتوفر ونبذل الجهد لنربي الأولاد. فإذا أنت عزلت هذه الشهوة عن الإِنجاب والامتداد تكون قد أخللت وملت عن سنة الكون، لأنك ستأخذ اللذة بدون الإِنجاب، وإذا تعطل الإِنجاب تعطلت خلافة الأرض، والشيء الآخر أن الرجل في الجماع يلعب دور الفاعل، وفي الشذوذ وهو العملية المضادة التي فعلها قوم لوط ينقلب الرجل إلى منفعل بعد أن كان فاعلاً. {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80].
 

والفاحشة هي العملية الجنسية الشاذة، ولم يحددها سبحانه من البداية كدليل على أنها أمر معلوم بالفطرة، فساعة يقول: {أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} يعرفون ما فعلوا. وإن افترضنا أن هناك أغبياء أو من يدعون الغباء ويرفضون الفهم، فقد جاء بعدها بالقول الواضح: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً...}.

image.png.464b7c84ef4317edd28f815e58842645.png


{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)}
والإِسراف هو تجاوز الحد، والله قد جعل للشهوة لديك مصرفاً طبيعياً منجبا، وحيث تأخذ أكثر من ذلك تكون قد تجاوزت الحد، ولقد جعل الله للرجل امرأة من جنس البشر وجعلها وعاء للإِنجاب، وتعطيك الشهوة وتعطيها أنت الشهوة، وتعطيك الإِنجاب، وتشتركان من بعد ذلك في رعاية الأولاد. وأي خروج عما حدده الله يكون الدافع إليه هو الشهوة فحسب لكي ينبغي أن يكون الدافع إلى هذه العملية مع الأنثى هو الشهوة والإنجاب معا؛ لبقاء النوع، ولذلك وصف الحق فعل قوم لوط: {... بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}. ويأتي الحق سبحانه بما أجابوا به عن سؤال سيدنا لوط: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ...}.

image.png.77a0c0bbd9b42e7bd469aab674e49feb.png


{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)}
وبذلك تمادى هؤلاء القوم رافضين أن يقبح أحد لهم الشذوذ؛ لذلك قالوا: {أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ...}.
وما هي الحجة التي من أجلها إخراج لوط والذين آمنوا معه من القرية؟ {... أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82].
فهل التطهر عيب! لا، لكنهم عاشوا في النجاسة وألفوها، ويرفضون الخروج منها، لذلك كرهوا التطهر. والمثال على ذلك حين نجد شاباً يريد أن ينضم إلى صداقة جماعة في مثل عمره، لكنه وجدهم يشربون الخمور، فنصحهم بالابتعاد عنه، ووجدهم يغازلون النساء فحذرهم من مغبة الخوض في أعراض الناس، لكن جماعة الأصدقاء كرهت وجوده بينهم لأنه لم يألف الفساد فيقولون: لنبتعد عن هذا المستقيم المتزهد المتقشف، وكأن هذه الصفات صارت سُبة في نظر أصحاب المزاج المنحرف، مثلهم مثل الحيوان الذي يحيا في القذارة، وإن خرج إلى النظافة يموت.

 

image.png.7cc1285119036ddf647c0d365e360bc4.png

 

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)}
وهم حين أرادو طرد لوط وأهله، إنما كانوا يجازفون.
إنهم بذلك قد تعجلوا العقاب، وجاءهم العقاب وأنجى الحق سبحانه لوطاً وأهله بتدبير حكيم لا يحتاج فيه سبحانه إلى حد، وإذا تساءل أحد: ومن هم أهل لوط الذين أنجاهم الله معه؟ أهم أهل النسب أم أهل التدين والتبعية؟. إن كان أهله بالنسب فالحق يستثني منهم (إمرأته)، وهذا دليل على أن أهل البيت آمنوا بما قاله لوط وكذلك الأتباع أيضاً {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين}.

 

إذن كان مع لوط أيضاً بعض من أهله وبعض من الأتباع، وكانوا من المتطهرين، والتطهر هو أن يترفع الإنسان عن الرجس والسوء. ولذلك نجد سيدنا شعيباً حين ينصح وقومه: {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ...} [الأعراف: 85].
ويتعجب القوم سائلين شعيباً: {أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ...} [هود: 87].
إنهم يتعجبون من أن الصلاة تنهى عن ذلك، لقد أعمى ضلالهم بصيرتهم، فلم يعرفوا أن الصلاة تنهى عن كل شيء. وكذلك فعل بعض من الكافرين حين اتهموا سيدنا رسول الله بأنه مجنون: {وَقَالُواْ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6].
ومن قولهم يتأكد غباء تفكيرهم، فماداموا قد قالوا: {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} فمن الذي نزل هذا الذكر؟، والذكر هو القرآن، والذي نزله هو الله سبحانه وتعالى فكيف يعترفون بالقرآن كذكر، ثم يتهمون الرسول بأنه (مجنون)؟، لأنهم ماداموا قد قالوا عن القرآن إنه ذكر، وإنه قد نزل عليه، ولم يأت به من عنده، فكيف يكون مجنوناً؟ إنهم هم الكاذبون، وقولهم يؤكد أن فكرهم نازل هابط.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق يقول سبحانه: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} [الأعراف: 83].

إن إمرأة سيدنا لوط لم تدخل في الإنجاء لأنها من الغابرين

و(غبر) تأتي لمعان متعددة

فهي تعني إقامة ومكثا بالمكان، أو تعني أي شيء مضى، كما يقال: هذا الشيء غبرت أيامه؛ أي مضت أيامه، ولسائل أن يقول: كيف تأتي الكلمة الواحدة للمعنى ونقيضه؟ فغبر تعني بقي، وغبر أيضاً تعني مضى وانتهى. نقول: إن المعنى ملتق هنا في هذه الاية، فمادام الحق ينجيه من العذاب الذي نزل على قوم لوط في القرية فنجد زوجته لم تخرج معه، بل بقيت في المكان الذي نزل فيه العذاب، وبقيت في الماضي، وهكذا يكون المعنى ملتقيا. فإن قلت مع الباقين الذين آتاهم العذاب فهذا صحيح. وإن قلت إنها صارت تاريخاً مضى فهذا صحيح أيضاً: {إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين}.
ونحن لا ندخل في تفاصل لماذا كانت امراته من الغابرين؛ لأن البعض تكلم في حقها بما لا يقال، وكأن الله يدلس على نبي من أنبيائه، لا، نحن لا نأخذ إلا ما قاله الحق بأنها كانت مخالفة لمنهجه وغير مؤمنة به.

 

ونلاحظ أيضاً أن الحق تحدث عن امرأة نوح وامرأة لوط في مسألة الكفر؛ فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا...} [التحريم: 10].
ودقق النظر في كلمة {تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} وتساءل البعض عن معنى الخيانة وهل المقصود بها الزنا؟
.

ونقول: ربنا لا يدلس على نبي له، لكن أن تؤمن الزوجة أو تكفر، فهذه مسألة اختيارية. وكأن الله سبحانه يوضح لنا أن الرسول مع أنه رسول من الله إلا أنه لا يستطيع أن يفرض إيماناً على امرأته؛ فالمسألة هي حرية الاعتقاد. وانظر إلى التعبير القرآني: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ}.
إياك أن تظن أن أيًّا منهما متكبرة على زوجها؛ لأن الحق يقول: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا} أي أن إمرة وقوامة الرجل مؤكدة عليها، يشير إلى ذلك قوله: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ} لكن الإِيمان هو مسالة اختيار، وهذا الاختيار متروك لكل إنسان، وأكد الحق ذلك في مسألة ابن سيدنا نوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46].
وحاول البعض أن يلصق تهمة الزنا بامرأة نوح وامرأة لوط، وهم في ذلك يجانبون الصدق، إنه محض افتراء، وقد نبهنا الحق إلى ذلك فقال عن امرأة نوح وامرأة لوط: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا} [التحريم: 10].
ولنفهم أن الاختيار في العقيدة هو الذي جعلهما من الكافرين، وأن الرسولين نوحاً ولوطاً لم يستطيعا إدخال الإيمان في قلبي الزوجتين؛ حتى يتأكد لدينا أن العقيدة لا يقدر عليها إلا الإِنسان نفسه

ولذلك ضرب سبحانه لنا مثلاً آخر: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11].
فهذه زوجة فرعون المتجبر؛ الذي (ادّعى الألوهية)، لكنه لا يقدر أن يمنع امرأته من أن تؤمن بالله، وهكذا نجد نبيًّا لا يقدر أن يقنع امرأته بالإِيمان، ونجد مدّعي الألوهية عاجزاً عن أن يجعل امرأته كافرة مثله، وهذا يدل على أن العقيدة أمر اختياري محمي بكل أنواع الحماية؛ حتى لا يختار الإِنسان دينه إلا على أساس من اقتناعه لا على أساس قهره.
وضرب الله مثلاً آخر: {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ...} [التحريم: 12].

 

ونلاحظ أن الحق لم يأت بأسماء زوجتي نوح ولوط، وكذلك لم يأت باسم امرأة فرعون، لكنه أورد لنا اسم مريم واسم والدها. فلماذا كان الإِبهام أولاً؟

لنعلم أنه من الجائز جدًّا أن يحصل مثل هذا الأمر لأي امرأة، فقد تكون تحت جبار وكافر، وتكون هي مؤمنة، وقد تكون تحت عبد مؤمن ولا يلمس الإِيمان قلبها. {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين}.[الأعراف: 83].
فكلمة (أنجيناه) تشير إلى أن عذاباً سيقع في المكان الذي فيه قوم لوط، ولأنه سبحانه شاء أن يعذب جماعة ولا يعذب جماعة أخرى، فلابد أن يدفع الجماعة التي كتب لها النجاة إلى الخروج. وهذا الخروج أراده لهم من يكرهونهم، فقد قالوا: {... أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82].
لكن ربنا هو الذي أخرجهم، والإِخراج كان من العذاب الذي نزل بهؤلاء المجرمين؛ إنه كان لإِنجاء لوط وأهله مما نزل بهؤلاء الفجرة.

 

image.png.1498c97e1ab7fe0b3d2d122e1e5dd64d.png


{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}
فهل كان ذلك المطر مثل المطر الذي ينزل عادة؟ لا، بل هو مطر من نوع آخر. فسبحانه يقول: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 33-34].
يقول الحق: إنه سبعذبهم بالمطر، فلننتبه أنه ليس المطر التقليدي، بل إنه يعذبهم ويستأصلهم بنوع آخر من المطر.
وقوله: (انظر) أي فاعتبر يا من تسمع هذا النص، وهذه القصة تبين وتوضح أن الله لا يدع المجرمين يصادمون دعوة الله على لسان رسله دون عقاب.

 

نداء الايمان

image.png.c9dc341d67e25879d18ff610d3a77c9a.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)}


(مدين) هو ابن من أبناء سيدنا إبراهيم جاء واستقر في هذا المكان، فهو علم على شخصه، وعلم على المكان الذي أقام فيه وسمي المكان باسمه، فلما تكاثر أبناؤه وصاروا قبيلة أخذت القبيلة اسمه. إذن ف (مدين) اسم عَلَمٌ على ابن إبراهيم، وأطلق على المكان الذي استقر فيه من طور سيناء إلى الفرات، وأطلق على القبيلة: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً}.
الحق سبحانه وتعالى هنا يكرر (أخ) ليبين لك؛ أنه إن قسا عليهم مرة فسيحنو عليهم مرة أخرى؛ لأنهم إخوة له ومأنوس بهم، وفيهم عاش ويعرفون عنه كل شيء، وكان مدين قد تزوج من رقبة ابنة سيدنا لوط، وحين تكاثر الاثنان صاروا قبيلة، ويبلغهم سيدنا شعيب بالقضية العقدية التي يبلغها كل رسول: {يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ}.

 

والعبادة هي الطاعة للأمر والطاعة للنهي، وأنت لا تطيع أمر آمر ولا نهي ناه إلا إذا كان أعلى منك، لأنه إن كان مساويا لك، فبعد أن يقول لك: (افعل كذا) ستسأله أنت: لماذا؟، وبعد أن ينهاك عن شيء ستسأله أيضاً: لماذا؟. لكن الأب حينما يقول لطفله: أنت لا تفعل الشيء الفلاني، فالابن لا يناقش؛ لأنه يعرف أن أباه هو من يطعمه ويشربه ويكسوه، وحين يكبر الطفل فهو يناقش؛ لأن ذاتيته تتكون، ويريد أن يعرف الأمر الذي سيقدم عليه. {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ...} [الأعراف: 85].
 

ومادام قد قال لهم: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} فهو رسول قادم ومرسل من الله، ولابد أن تكون معجزة يثبتها، إلا أن شعيباً لم يأت لنا بالمعجزة، إنما جاء بالبينة.

{قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان...} [الأعراف: 85].
لأن كل المعاصي والكفر تدفع إلى الإخلال في الكيل والميزان، وإذا كان شعيب قد قال ذلك لقومه فلابد أن الإخلال في الكيل والميزان كان هو الأمر الشائع فيهم. فيأتي ليعالج الأمر الشائع. وهم كانوا يبخسون الكيل والميزان.

ويظن الناس في ظاهر الأمر أنها عملية سهلة، وأن القبح فيها قليل، والاختلاس فيها هين يسير، فحين يبخس في الميزان ولو بجزء قليل، إنما يأخذ لنفسه في آخر الأمر جزءاً كبيراً. وأنت ساعة تكيل وتزن وتطفف فأنت تفعل ذلك في من يشتري. وستذهب أنت بعد ذلك لتشتري من أناس كثيرين سيفعلون مثلما فعلت، فإذا ما وفيت الكيل والميزان، فأنت تفعل ما هو في مصلحتك، لأنك تنشر العدل السلوكي بين الناس بادئاً بنفسك، ومصالحك كلها مع الآخرين.
 

إنك حين تبيع أي سلعة ولو كانت بلحاً وتنقص في الميزان، وستحقق لنفسك ربحاً ليس فيه حق، وإن كنت تكيل قمحاً لتبيعه وأنقصت الكيل، فأنت تأخذ ما ليس لك، والقمح والبلح هما بعض من مقومات حياتك؛ لأنك تحتاج إلى سلع كثيرة عند من يزن، وعند من يكيل، فإن أنقصت الميزان أو الكيل فلسوف يفعلون مثلما فعلت فيما يملكون لك، وبذلك تخسر أنت ويصبح الخسران عاماً.
 

{فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ...} [الأعراف: 85].
وإذا كانت الخسارة في الكيل والميزان طفيفة ومحتملة، فمن باب أولى ألا نبخس الناس أشياءهم فلا نظلمهم بأخذ أموالهم والاستيلاء على حقوقهم، فلا نسرف لأن السارق يأخذ ما تصل إليه يده، ولا نغتصب، ولا نختلس، ولا نرتشي، لأنه إذا كان وفاء الكيل هو أول مطلوب الله منكم مع أن الخسارة فيه طفيفة، إذن فبخس الناس أشياءهم يكون من باب أولى.

 

ويتابع سبحانه: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا...} [الأعراف: 85].
وبذلك نكون أمام أكثر من أمر جاء بها نبي الله شعيب: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} وهذه العبادة لتربي فيهم مهابة وتزيدهم حباً واحترامً للآمر الأعلى، وكذلك ليخافوا من جبروته سبحانه. وبعد ذلك ضرورة يكون الأمر بالوفاء بالكيل والميزان، والزجر عن أن يبخسوا الناس أشياءهم، ثم النهي والتحذير من الإِفساد في الأرض {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}، والإِصلاح الذي يطلبه الله منا أن نستديمه أو نرقيه إنما يتأتى بإيجاد مقومات الحياة على وجه جميل.

 

مثال ذلك الهواء وهو العنصر الأول في الحياة المسخرة لك؛ يصرّفه سبحانه حتى لا يفسد. والنعيم الثاني في الحياة وهو الشراب؛ إنه سبحانه ينزل لك الماء من السماء، ثم القوت الذي يخرجه لك من الأرض. والمواشي التي تأخذ منها اللبن، والأوبار، والأصواف، والجلود، كل ذلك سخره الله لك، وهذا إصلاح في الأرض، لكن هل هذه كل المقومات الأساسية؟ لا؛ لأنه إن وجدت كل هذه المقومات الأساسية ثم وجد الغصب، والسرقة، والرشوة، والاختلاس، فسيفسد كل شيء، ولا يعدل كل ذلك ويقيمه ويجعله سويا إلا الدين؛ لأنه كمنهج يمنع الإِفساد في الأرض. {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا...} [الأعراف: 85].
 

إذن فهذه الأشياء التي هي إيفاء الكيل والميزان يأتي الأمر بها، ثم يتبعها بما ينهى عنه وهو ألا نبخس الناس أشياءهم وألا نفسد في الأرض بعد إصلاحها، كل ذلك يجمع المنهج. أوامر ونواهي، وقد يبدو في ظاهر الأمر أنها مسائل تقيد حرية الإنسان، فنقول: لا تنظر إلى نفسك أيها الإِنسان وأنت بمعزل عن المجتمع الواسع، فأنت لا تملك من مصالحك إلا أمراً واحداً، وهذا الأمر الذي تملكه أنت من مصالحك يكون أقل الأشياء عندك، ولكن الأمور الأخرى التي تحتاج إليها هي بيد غيرك، فإن أنت وفيت الكيل والميزان.
فذلك خير لك؛ فالذي يقيس لك القماش لا يغشك، والذي يزن لك ما ليس عندك لا يغشك، والذي يكيل لك الذي ليس عندك لا يغشك، إذن فأنت واحد منهي عن أن تفعل ذلك، وجميع الناس منهيون أن يفعلوا ذلك معك، وبذلك تكون أن الكاسب.
وإذا جئت إلى قوله تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ}، فأنت مأمور ألا تبخس الناس أشياءهم، وكل الناس مأمورون ألا يبخسوك شيئاً، وإذا أفسدت في الأرض بعد إصلاحها فالناس مأمورون أيضاً ألا يفسدوا هذه الأرض وبذلك تكون احظ منهم في كل شيء. ولذلك يجب على كل مكلف حين يستقبل تكليفاً قد يكون شاقاً على نفسه أن يتأمل هذا التكليف وأن يقول لنفسه: إياك أن تنظر إلى مشقة التكليف على نفسك، ولكن انظر إلى ما يؤديه لنفسه: إياك أن تنظر إلى التكليف لك: لاتنظر إلى محارم غيرك، فقد أمر غيرك ألا ننظر محارمك، وفي هذا عزة لك. وإذا أمرك التكليف ألا تضع يدك في جيب غيرك وتسرق، فقد أمر كل الناس ألا يضعوا أيديهم في جيوبك ليسرقوك، وبهذا نعيش في أمان.

 

وإذا طلب التكليف منك وأنت غني أن تخرج زكاة مالك إياك أن تقول: مالي وتعبي وعرقي؛ لأن المال مال الله، وأنت كإنسان مخلوق ليس لك إلا توجيه الحركة، والحركة تكون بطاقة مخلوقة لله، والعقل الذي خطط مخلوق لله، والانفعال الذي انفعل لك في الأرض من خلق الله، ولكن الحق احترم عملك وناتجه وفرض عليك أن تخرج منه زكاة مقدرة. فإياك أن تقول: أنه يأخذ مني، لماذا؟ لأن عالم الأغيار باد وظاهر أمامك، وكم رأيت من قوي ضعف، ومن غني افتقر، فإذا كان سبحانه قد طلب منك أن تعطي الفقير وتقويه، فإن افتقرت فسيفعل لك ذلك، وفي ذلك تأمين حياتك؛ لأنك تعيش في مجتمع فلا تأس على نفسك إن مرت بك الأغيار لأن مجتمعك الإيماني لن يتركك، أنت أو أولادك، ويقول الحق: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9].
 

فإن أردت أن تطمئن على أولادك الصغار بعد موتك فانظر للأيتام في مجتمعك وكن أبا لهم، وحين تصير أنت أباً لهم، وهذا أب لهم، وذلك أب لهم، سيشعر اليتيم أنه فقد أبا واحداً، لكنه يحيا في مجتمع إيماني أوجد له من كل المؤمنين آباء، فلا يحزن، وكذلك لن تخاف على أولادك إن صاروا أيتاماً بعد أن غادرتهم إلى لقاء ربك؛ لأنك رعيت اليتامى وعشت في مجتمع يرعاهم. ولكنك تحزن عندما ترى يتيماً مضيعاً في مجتمع لا يقوم على شأنه وتقول لنفسك: أنا إن مت سيضيع أبنائي هكذا.
 

وهكذا تكون تكاليف الإيمان هي تأميناً للحياة. ومثال ذلك حين نقول للمرأة: تحجبي، ولا تبدي زينتك لغير محارمك، قد تظن المرأة في ظاهر الأمر أننا ضيقنا على حريتها، لأنها تنسى أن المنهج يؤمن لها قبح الشيخوخة، لأنها حين تتزوج صغيرة، ثم يصل عمرها فوق الأربعين ويتغير شكلها من متاعب الحمل وتربية الأبناء، ثم يرى زوجها فتاة في العشرين وغير محتشمة قد تفتنه وتصرفه عن زوجته، وينظر إلى زوجته نظر غير المكترث بها، وغير الراغب فيها. فالشرع قد أمر بالحجاب للمرأة وهي صغيرة؛ ليصون لها زوجها إن صارت كبيرة غير مرغوب فيها. فإن منعها وهي صغيرة فقد منع عنها وهي كبيرة؛ كل ذلك إذن من تأمينات المنهج للحياة.
 

إذن فإيفاء الكيل، وعدم إبخاس الناس أشياءهم وعدم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها خير للجميع في الدنيا، بالإضافة إلى خير الآخرة، ولذلك يذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {... ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.[الأعراف: 85].
و(ذلكم) إشارة إلى ما سبق من الأمر بعبادة الله فلا إله غيره وإلى الآمر باستيفاء الكيل والميزان، وألا نبخس الناس أشياءهم، وألا نفسد في الأرض بعد إصلاحها، ووضع الحق ذلك في إطار {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} على الرغم من أن الخير سيأتي أيضاً لغير المؤمن، وهكذا تكون كلمة (خير) تشمل خيراً في الدنيا، وخيراً في الآخرة للمؤمن فقط. أما الكافر فسيأخذ الخير في الدنيا فقط، ولا خير له في الآخرة، فإن كنتم مؤمنين فسيضاعف الخير لكم ليصير خيراً دائماً في الدنيا والآخرة.

 

image.png.8a04b84cf86911a3f6439aa63354b38f.png

 

{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)}
 

وقوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ} أي لا تقعدوا على كل طريق، لأن من يقعد على الطريق قد يمنع من يحاول الذهاب ناحية الرسول. والشيطان قد قال: {... لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16].
فحين تقعدون على كل صراط يصير كل منكم شيطاناً والعياذ بالله؛ لأن الشيطان قال لربنا: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم}، وهنا ينهى الحق عن القعود بكل صراط؛ لأن الصراط سبيل، وحين يجمع الحق السبل لينهي عنها، إنما ليذكرنا أن له صراطاً مستقيماً واحداً، وسبيلاً واحداً يجب علينا أن نتبعه. ولذلك يقول: {فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ...} [الأنعام: 153].
إذن فللشيطان سبل متعددة وسبيل الاستقامة واحد، لأن للطرق المتعددة غوايات منوعة، فهذا طريق يغوي بالمال، وذلك يغوي بالمرأة، وذاك يغوي بالجاه. إذن فالغوايات متعددة.
أو أن الهداية التي يدعو إليها كل رسول شائعة في كل ما حوله؛ فمن يأتي ناحية أي هداية يجد من يصده. ومن يطلب هداية الرسول يلقى التهديد والوعيد، والمنع عن سبيل الحق. ولماذا يفعلون ذلك؟ تأتي إجابة الحق: {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً}.

 

إنهم يبغون ويودون شريعة الله معوجة ومائلة عن الاستقامة، أو تصفونها بأنها غير مستقيمة لتصدوا الناس عن الدخول فيها، ولتنفروا منها، مثال ذلك السخرية من تحريم الخمر والادعاء بأنها تعطي النفس السرور والانسجام. إن الواحد من هؤلاء إنما ينفر من شريعة الله، ويدعي أنها شريعة معوجة، فنجد من يحلل الربا؛ لأن تحريم الربا في رأيهم السقيم المنحرف يضيق على الناس فرصهم. إنهم يبغون شريعة الله معوجة ليستفيدوا هم من اعوجاجها، وينفروا الناس منها.

 

{... واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين}.[الأعراف: 86].

نعلم أن كل ردع، وكل توجيه يهدف إلى أمرين اثنين: ترغيب وترهيب، وعلى سبيل المثال نجد المدرس يقول للتلاميذ: من يجتهد فسنعطيه جائزة، وهذا ترغيب، ويضيف الأستاذ للتلاميذ: ومن يقصر في دروسه فسنفصله من المدرسة؛ وهذا ترهيب. وما دام الناس صالحين لعمل الخير ولعمل الشر بحكم الاختيار المخلوق فيهم لله فلابد من مواجهتهم بالأمرين بالترغيب في الخير والترهيب من الشر.
والحق هنا يقول في الترغيب: {واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}.
وكأنه يطالبهم بأن يكونوا أصحاب ذوق وأدب، فنحن نعلم أن مدين تزوج وأنجب عدداً من الذرية وكانوا قلة في العدد فكثرهم حتى صاروا قبيلة، وكانوا ضعافاً فقواهم، وكانوا فقراء فأغناهم، فمن صنع فيكم ولكم كل هذه المسائل ألا يصح أن تطيعوا أوامره. كان عليكم أن تطيعوا أوامره. وهذا ترغيب وتحنين.
ونعلم أن شعيباً هو خامس نبي جاء بعد نوح، وهود، وصالح، ولوط. لذلك يذكرهم الحق بما حدث لمن كذبوا الأنبياء الأربعة السابقين. وقد يكون قوم نوح معذورين لأنهم كانوا البداية، فلم يسبقهم من أخذ بالعذاب لتكذيب رسلهم، ثم صارت من بعد ذلك قاعدة هي أن من يكذب الرسل يلقى العذاب، مصداقا لقوله الحق: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ...} [العنكبوت: 40].

 

فإذا كان شعيب ينذرهم بأن ينظروا كيف كان عاقبة المفسدين ممن سبقوهم فهذا تذكير بمن أغرقهم ومن أخذتهم الصيحة، ومن كفأ وقلب ودمر ديارهم، ومن جاء لهم بمطر من سجيل، فإن لم يعرفوا واجبهم نحو الله الذي أنعم عليهم بأن كانوا قليلاً فكثرهم، فعليهم أن يخافوا عاقبة المفسدين. إذن فقد جمع لهم بين الترغيب والترهيب.

 

image.png.44c4858be4f55012195751b2a09e53b1.png


{وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)}
 

وهذا القول يوضح لنا أن طائفة آمنت، وطائفة لم تؤمن، ثم جاء الأمر للطائفتين، فأمر المؤمنين بالصبر تأنيس لهم، وأمر الكافرين بالصبر تهديد لهم.
وهذه دقة القرآن في الأداء وعظمة البيان والبلاغة. إذن، فكلمة: فاصبروا نفعت في التعبير عن الأمر بالصبر للذين آمنوا، ونفعت في كشف المصير الذي ينتظر الذين لم يؤمنوا، فصبر الكافرين مآله وعاقبته، إما أن يخجلوا من أنفسهم فيؤمنوا، وإما أن يجدوا العذاب، وصبر المؤمنين يقودهم إلى الجنة، وأن الذي يحكم هو الله وهو خير الحاكمين؛ لأن المحكوم عليهم بالنسبة له سواء، فلا أحد منهم له أفضلية على أحد، ولا أحد منهم قريبه، وإلا قرابة القربى والزلفى إليه، وسبحانه هو العادل بمطلق العدل، ولا يظلم أحداً.

image.png.32d884fce7139b03dadf38b92f0a4aa6.png


{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)}
 

علمنا من قبل أن الملأ هم السادة، والأعيان الذين يملأون العيون هيبة، ويملأون القلوب هيبة، ويملأون الأماكن تحيزاً. وقد استكبر الملأ من قوم شعيب عن الإيمان به، طغوا وهددوه بأن يخرجوه من أرضهم. وقالوا مثلما قال من سبقوهم. فقد نادى بعض من قوم لوط بأن يخرجوا لوطاً ومن آمن معه من قريتهم. قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].
وكلمة (قرية) تأخذ في حياتنا وضعاً غير وضعها الحقيقي، فالقرية الآن هي الموقع الأقل من المدينة الصغيرة. لكنها كانت قديماً البلد الذي توجد فيه كل متطلبات الحياة، بدليل أنهم كانوا يقولوا عن مكة (أم القرى).

 

وقد وضع شعيباً ومن آمن معه بين أمرين: إما أن يخرجوهم حتى لا يفسدوا من لم يؤمن فيؤمن، وإما أن يعودوا إلى الملة.
وهنا (لفتة لفظية) أحب أن تنتبهوا إليها في قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} لأن العود يقتضي وجوداً سابقاً خرج عنه، ونريد أن نعود إلى الأصل، فهل كان شعيب والذين آمنوا معه على ملتهم ثم آمنوا والمطلوب منه أنهم يعودون؟
علينا أن ننتبه إلى أن الخطاب هنا يضم شعيباً والذين معه. وقد يصدق أمر العودة إلى الملة القديمة على الذين مع شعيب، ولكنها لا تصدق على شعيب لأنه نبي مرسل، وهنا ننتبه أيضاً إلى أن الذي يتكلم هنا هم الملأ من قوم مدين، ووضعوا شعيباً والذين آمنوا معه أمام اختيارين: إما العودة إلى الملة، وإمَّا الخروج، ونسوا أن الحق قد يشاء تقسيماً آخر غير هذين القسمين. فقد يوجد ويريد سبحانه أمراً ثالثاً لا يخرج فيه شعيب والذين آمنوا معه، وأيضاً لا يعودون إلى ملة الكفر، كأن تأتي كارثة تمنع ذلك.

 

لقد عزل الملأ من قوم شعيب أنفسهم عن المقادير العليا، لأن الله قد يشاء غير هذين الأمرين، فقد يمنعكم أمر فوق طاقتكم أن تُخْرِجوا؛ شعيباً ومن آمن معه؛ بأن يصيبكم ضعف لا تستطيعون معه أن تخرجوهم، أو أن يسلط الله عليكم أمراً يفنيكم وينجي شعيباً والذين آمنوا معه. إذن أنت أيها الإِنسان الحادث، العاجز لا تفتئت ولا تفتري وتختلق على القوة العليا في أنك تخير بين أمرين قد يكون لله أمر ثالث لا تعلمه، ويأتي الرد على لسان مَن آمنوا مع شعيب: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88].
لقد سأل شعيب والذين معه: أيمكن أن يتم قهر أحد على أن يترك الإِيمان إلى الكفر، كأن الكافرين قد تناسوا أن التكليف مطمور في الاختيار، فالإِنسان يختار بين سبيل الإِيمان وسبيل الكفر.

 

image.png.bb080869d2ed43b8a0b82b06e9a2158a.png


{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)}
 

وقولهم: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} أي أنهم يعلمون أن العودة إلى مثل هذه الملة لون من الكذب المتعمد على الله. لأن الكذب أن تقول كلاماً غير واقع، وتعلن قضية غير حقيقية ثم قلت على مقتضى علمك فهذا مطلق كذب. لكن إن كنت عارفاً بالحقيقة ثم قلت غيرها فهذا افتراء واختلاق وكذب. والذين آمنوا مع شعيب عليه السلام يعلمون أن الملة القديمة ملة باطلة، وهم قد شهدوا مع شعيب حلاوة الإِيمان بالله؛ لذلك رفضوا الكذب المتعمد على الله. ويقولون بعد ذلك: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله...} [الأعراف: 89].
 

قد عرفوا أن التكليف اختيار وهم قد اختاروا الإِيمان، وأقروا وأكدوا إيمانهم بأنه سبحانه له طلاقة القدرة، فقالوا: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}. فمشيئته سبحانه فوق كل مشيئة. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم كلَّها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقَلْبٍ واحدٍ يصرفُه حيث شاء».
وألم يقل سيدنا إبراهيم وهو أبو الأنبياء والرسل: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام...} [إبراهيم: 35].
لم يقل: واجنبنا. بل قالها واضحة ودعا ربًّه أن يبعده وينأى به وببنيه أن يعبدوا الأصنام، لأنه يعلم طلاقة قدرته سبحانه. إذن فمن آمنوا مع شعيب احترموا طلاقة القدرة في الحق؛ لذلك قالوا: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا...} [الأعراف: 89].
ولكن الله لا يشاء لمعصوم أن يعود، وسبحانه يهدي من آمن بهداية الدلالة ويمده بالمزيد من هداية المعونة إلى الطريق المستقيم.

 

ويتابع أهل الإيمان مع شعيب. {... وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89].
جاء قولهم: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} لأن خصومهم من الملأ بقوتهم وبجبروتهم قالوا لهم: انتم بين أمرين اثنين: إما أن تخرجوا من القرية، وإما أن تعودوا في ملتنا. وأعلن المؤمنون برسولهم شعيب: أن العود في الملة لا يكون إلا بالاختيار وقد اخترنا ألا نعود. إذن فليس أمامهم إلا الإخراج بالإجبار؛ لذلك توكل المؤمنون على الله ليتولاهم، ويمنع عنهم تسلط هؤلاء الكافرين. {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89].

 

وساعة نسمع كلمة (افتح) أو (فتَح) أو (فَتْح) نفهم أن هناك شيئاً مغلقاً أو مشكلاً، فإن كان من المُحسّات يكون الشيء مغلقاً والفتح يكون بإزالة الأغلاق وهي الأقفال، وإن كان في المعنويات فيكون الفتح هو إزالة الإشكال، والفتح الحسي له نظير في القرآن، وحين نقرأ سورة يوسف نجد قوله الحق: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأبانا مَا نَبْغِي هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا...} [يوسف: 65].
وكلمة {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ} تعني أن المتاع الذي معهم كان مغلقاً واحتاج إلى فتح حسي ليجدوا بضاعتهم كما هي. وأيضاً يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا...} [الزمر: 73].
ومادام هناك أبواب تفتح فهذا فتح حسي، وقد يكون الفتح فتح علم مثلما نقول: ربنا فتح علينا بالإيمان والعلم، ويقول الحق: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ...} [البقرة: 76].
فما دام ربنا قد علمهم من الكتاب الكثير فهذا فتح علمي. ويكون الفتح بسوق الخير والإمداد به. والمثال على ذلك قوله الحق: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا...} [فاطر: 2].
وكذلك قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض...} [الأعراف: 96].
والبركات من السماء كالمطر وهو يأتي من أعلى، وهو سبب فيما يأتي من الأسفل أي من الأرض.
والفتح أيضاً بمعنى إزالة إشكال في قضية بين خصمين، ففي اليمن حتى الآن، يسمون القاضي الذي يحكم في قضايا الناس (الفاتح) لأنه يزيل الإشكالات بين الناس. وقد يكون (الفتح) بمعنى (النصر)، مثل قوله الحق: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ...} [البقرة: 89].
لقد كانوا ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لينتصروا به على الذين كفروا، ومن الفتح أيضاً الفصل في الأمر من قوله الحق هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين...} [الأعراف: 89].
وهذا القول هو دعاء للحق: احكم يا رب بيننا وبين قومنا بالحق بنصر الإِيمان وهزيمة الكفر، وأنت خير الفاتحين فليس لك هوى ضد أحد أو مع أحدٍ من مخلوقاتك

 

image.png.435c7205ab6e31b373b5dcf678ed9af3.png

 

{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)}


وهنا يقول الملأ من قوم مدين لمن آمنوا ولمن كان لديهم الاستعداد والتهيؤ للإِِيمان محذرين لهم من اتباع شعيب حتى لا يظل الملأ والكبراء وحدهم في الضلال: وساعة نرى (اللام) في (لئن) نعلم أن هنا قَسَماً دلّت عليه هذه (اللام). وهنا أيضاً (إن) الشرطية، والقسم يحتاج إلى جواب، والشرط يحتاج كذلك إلى جواب، فإذا اجتمع شرط وقسم اكتفينا بالإِتيان بجواب المتقدم والسابق منهما، مثل قولنا: (والله إن فعلت كذا ليكونن كذا): {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ}.
وماذا سيخسرون؟ سيخسرون لأنهم كانوا سيأخذون أكثر من حقهم حين يطففون الكيل ويخسرون الميزان، والقوي يأخذ من الضعيف؛ فإذا ما ارتبطوا بالمنهج واتبعوه خسروا ما كانوا يأخذونه من تطفيف الكيل وبخس وخسران الميزان بمنهج. وهذه هي الخسارة في نظر المنحرف.

 

image.png.a65b62631979a4f817f530502f27d878.png


 

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)}
 

والرجفة هي الهزّة العنيفة التي ترج الإِنسان رجًّا غير اختياري، وصاروا بها جاثمين أي قاعدين على ركبهم؛ ولا حراك بهم؛ ميتين، وفي هيئة الذلة. وهذا يدل على أن كلا منهم ساعة أُخِذ تذكر كل ما فعله من كفر وعصيان، وأراد استدراك ما فاته من مخالفاته للرسول، وأخذ يوبخ نفسه ويندم على ما فعل، ولم تأخذه الأبهة والاستكبار، لأن هناك لحظة تمر على الإِنسان لا يقدر فيها أن يكذب على نفسه، ولذلك نجد أن من ظلم وطغى وأخذ حقوق الغير ثم يأتيه الموت يحاول أن ينادي على كل من بغى عليه أو ظلمه ليعطيه حقه لكنه لا يجده. ولذلك يسمون تلك اللحظة أنها التي يؤمن فيها الفاجر، لكن هل ينفع إيمانه؟ طبعاً لا. في هذه الحالة لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.

 

image.png.03583a5396911fa3ce630ef4af3bef38.png


{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)}
وغنى بالمكان: أقام به؛ فحين صاروا جاثمين وخلت منهم الديار، كأنهم لم تكن لهم إقامة إذ استؤصلوا وأهلكوا إهلاكاً كاملا، وإذا كان هؤلاء المكذبون قد قالوا: {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} فيكون مآلهم هو ذكره ربنا بقوله: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين}.


 

image.png.8c26cbcadb911bf2eb53963f478ba79d.png


 

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)}
 

و(تولى عنهم) أي تركهم وسار بعيداً عنهم، وحدثهم متخيلاً إياهم {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ}، فكأن المنظر العاطفي الإنساني حين رأى كيف أصبحوا، وتعطف عليهم وأسى من أجلهم، لكن يرد هذا التعاطف متسائلا متعجباً {فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ}؟ إنهم نوع من الناس لا يحزن عليهم المؤمن. فما بالنا بنبي ورسول؟ إنه يحدث نفسه وكأنه يقول: ما قصرت في مهمتي، بل أبلغتكم رسالاتي التي تلقيتها من الله، والرسالات إذا جمعت فالمقصود منها أو رسالته ورسالة الرسل السابقين في الأمور التي لم يحدث فيها نسخ ولا تغيير، أو رسالاته أي في كل أمر بلغ به؛ لأنه كان كلما نزل عليه حكم يبلغه لهم. أو أن لكل خير رسالة، ولكل شر رسالة، وقد أبلغهم كل ما وصله من الله، ولم يقتصر على البلاغ بل أضاف عليه النصح، والنصح غير البلاغ، فالبلاغ أن تقول ما وصلك وينتهي الأمر، و(النصح) هو الإلحاح عليهم في أن يثوبوا إلى رشدهم وأن يتبعوا نهج الله.

 

نداء الايمان

image.png.6c5d1937daa804194417cefd9d75688b.png
 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)}

عرفنا من قبل أن القرية هي البلد الجامع لكل مصالح سكانها في دنياهم.
والمقصود هنا أن القرية التي يرسل إليها الحق رسولاً ثم تُكَذِّب فسبحانه يأخذ أهلها بالبأساء والضراء. والبأساء هي المصيبة تصيب الإنسان في أمر خارج عن ذاته؛ من مال يضيع، أو تجارة تبور وتهلك، أو بيت يهدم، والضراء هي المصيبة التي تصيب الإنسان في ذاته ونفسه كالمرض، ويصيبهم الحق بالبأساء والضراء لأنهم نسوا الله في الرخاء فأصابهم بالبأساء والضراء لعلهم يرجعون إلى ربهم ويتعرفون إليه، ليكون معهم في السراء والضراء. والحق يقول: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ...} [يونس: 12].



وكان من الواجب على الإنسان أنه ساعة ما تمسه الضراء أن يتجه إلى خالقه، ولقد جعل الله الضراء وسيلة تنبيه يتذكر بها الإنسان أن له ربا، وفي هذه اللحظة يجيب الحق الإنسان المضطر، ويغيثه مصداقاً لقوله الحق: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
وإذا صنع الله مع المضطر هذا فقد يثوب إلى رشده ويقول: إن الإله الذي لم أجد لي مفزعاً إلا هو، لا يصح أن أنساه.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يذكرنا بطلاقة قدرته حين يقول: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ...} [الأنعام: 43].
وكأنه سبحانه يطلب منا حين تجيء البأساء أن نفزع إليه ولا نعتقد أننا نعيش الحياة وحدنا، بل نعيش في الحياة بالأسباب المخلوقة لله وبالمسبب وهو الله، فالذي عزت عليه الأسباب وأتعبته يروح للمسبب، ولذلك يأخذ سبحانه أية قرية لا تصدق الرسل بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون وذلك رحمة بهم.
ويقول: {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ...} [الأنعام: 43].
فهل يتركهم الله في السراء والضراء دائماً؟ لا، فهو سبحانه يجيئهم ويبتليهم بالبأساء والضراء ليلفتهم إليه، فإذا لم يلتفتوا إلى الله، فسبحانه يبدل مكان السيئة الحسنة،



image.png.7f95c9ca40e3b9cd8eb7a0625079e5

{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)}

يعطي سبحانه بعد ذلك لهم الرزق، والعافية، والغنى؛ لأن الحق إذا أراد أن يأخذ جباراً أخذ عزيز مقتدر فهو يمهله، ويرخي له العِنان ليتجبر- كفرعون- من أجل أن يأخذه بغتة، كأنه يسقط من أعلى، فيعليه من أجل أن ينزل به- كما يقولون- على جذور رقبته: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ}.
(عَفَوْا) أي كثروا عدداً ومالاً وقوة أي أنه ما أخذهم سبحانه بالبأساء والضراء إلاِّ وكان القصد منها أن يلفتهم إليه، فلم يلتفتوا، فيمدهم ويعطي لهم العافية وما يسرّهم، ثم يصيبهم بالعذاب بغتة. {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95].



ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن تكلم على خلافة الإِنسان في الأرض، وأنه أمده بكل ما تقوم به حياته، وأمده بالقيم بواسطة مناهج السماء، وأنزل المنهج مبينا ما أحل، وما حرم بعد أن كانوا يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، فبيّن لهم الحق أن الذي خلق الخلق عالم بما يصلحهم فأحله، وعالم بما يفسدهم فحرّمه، فليس لكم أن تقترحوا على الله حلالاً، ولا حراماً، ولكن بعض المشككين في منهج الله قالوا- ومازالوا يقولون-: إذا كان الله قد أحل شيئاً وحرم شيئاً فلماذا خلق ما حرم؟ ونقول: لقد خلق سبحانه كل شيء لحكمة قد تكون لغير الطعام والشراب والكسوة، فبعض الأشياء يكون مخلوقاًَ لمهمة وإن لم تكن مباشرة لك؛ فالبترول مثلاً مخلوق لمهمة أن يوجد طاقة، لذلك لا نشربه.
والخنزير مخلوق لحكمة لا نعلمها نحن، وإنما يعلمها من خلق، لأنه من الجائز أن يكون أداة لالتقاط الميكروبات التي تنشأ من عفن الأشياء التي يستعملها الناس في حياتهم، إذن فكل شيء مخلوق لحكمة، فلا تخرج أنت حكمة الأشياء من غير مراد خالقها؛ لأن صانع الصنعة هو الذي يحدد الشيء الذي يوجد وينشئ القوة لها. ونحن نعلم- مثلاً- أن أنواع الوقود كثيرة، فهناك (البنزين) النقي جداً ويرقمونه برقم (1) وهو مخصص للطائرة، ووقود السيارة وهو (البنزين) رقم (2). فإذا استخدمنا وقود ماكينة وآلة بدل ماكينة أخرى أفسدناها. كذلك خلق الله الإنسان وسخر له كل المخلوقات وأوضح: هذا يصلح لك مباشرة، وهذا مخلوق ليخدمك خدمة غير مباشرة فدعه في مكانه.



وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى مواقف الجنة، ومواقف النار، ومواقف أصحاب الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم؛ وبعد أن بين المنهج كله أراد أن يبين أن ذلك ليس نظرياً، وإنما هو واقع كوني أيضاً. ففرق بين الشيء يقال نظرا، والشيء يقع واقعاً، فقص علينا قصص الأنبياء حين أرسلهم إلى أقوامهم، فمن كذب بالرسل أخذه الله أخذ عزيز مقتدر بواقع يشهده الجميع؛ فذكر نوحا مع قومه، وذكر عاداً وأخاهم هوداً، وذكر ثمود وأخاهم صالحاً، ومدين وأخاهم شعيباً، وقوم لوط وسيدنا لوطا.
وبين ما حدث للمؤمنين بالنجاة، وما حدث للكافرين بالعطب والإذلال، ويوضح الحق سبحانه وتعالى: أنني آخذ الناس بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، لأن الإنسان مخلوق أفاض الله عليه من صفات جلاله، ومن صفات جماله الشيء الكثير، فالله قوي، وأعطى الإنسان من قوته. والله غني وأعطى الإنسان من غناه، والله حكيم وأعطى الإنسان من حكمته، والله عليم وأعطى الإنسان من علمه.



وإذا أردت أن تستوعب ما يقربك إلى كمال العلم في الله، فانظر ما علمه لكل خلق الله. ومع ذلك فعلمهم ناقص. ويريدون إلى العلم الذاتي في الحق سبحانه وتعالى، وربما غر الإنسان بالأسباب وهي تستجيب له، فهو يحرث ويبذر ويروي، وإذا بالأرض تعطيه أكلها. وهو يصنع الشيء فيستجيب له. كل ذلك قد يغريه بأن الأشياء استجابت لذاتيته فيذكره الله: أن أذكر من ذللها لك. {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6-7].


وساعة ما يجد الإِنسان أن كل الأسباب مواتية له فعليه أن يذكر الله. إن الإِنسان بمجرد إرادة أن يقوم من مكانه فهو يقوم. وبمجرد إرادة أن يصفع أحداً فهو يصفعه؛ لأن الأبعاض التي في الإِنسان خاضعة لمراده، فإذا كانت أبعاضك خاضعة لمراداتك أنت، وأنت مخلوق، فكيف لا يكون الكون كله مراداً للحق بالإِرادة؟ فإذا استغنى الإِنسان بالأسباب، فالحق يلفته إليه. فالقادر الذي كان بفتوته يفعل. سلب الله منه القدرة بالمرض؛ فيمد يده ليساعده إنسان على القيام والذي اعتز بشيء يذله الله بأشياء. لماذا؟ حتى يلفته إلى المسبِّب، فلا يُفتن بالأسباب.


ويدع لنا الحق سبحانه وتعالى في كونه عجائب، ونجد العالم وقد تقدم الآن تقدماً فضائيًّا واسعاً، واستطاع الإِنسان أن يكتشف من أسرار كون الله ما شاء، ولكن الحق يصنع لهم أحياناً أشياء تدلهم على أنهم لا يزالون عاجزين. فبعد أن تكتمل لهم صناعة الآلات المتقدمة يكتشفون خطأ واحداً يفسد الآلة ويحطمها، وتهب زوبعة أو إعصار يدمر كل شيء، أو يشتعل حريق هائل. فهل يريد الله بكونه فساداً وقد خلقه بالصلاح؟ لا، إنه يريد أن يلفتنا إلى ألا نغتر بما أوتينا من أسباب. فالذين عملوا (الرادار) لكي يبين لهم الحدث قبل أن يقع، يفاجئهم ربنا- أحياناً- بأشياء تعطل عمل (الرادار)، فيعرفون أنهم مازالوا ناقصي علم.


إذن فالأخذ بالبأساء، والأخذ بالضراء، سنة كونية الإِنسان فاهماً وعالماً أنه خليفة في الأرض لله. وفساد الإِنسان أن يعلم أنه أصيل في الكون، فلو كنت أصيلاً في الكون فحافظ على نفسك في الكون ولا تفارقه بالموت.
وإن كنت أصيلاً في الكون فذلل الكون لمراداتك. ولن تستطيع؛ لأن هناك طبائع في الكون تتمرد عليك، ولا تقدر عليها أبداً.



وترى أكثر من مفاعل ذري ينفجر بعد إحكامه وضبطه لماذا؟! ليدل على طلاقة القدرة وأن يد الله فوق أيديهم، إذن فأخذ الناس بالبأساء والضراء، وبالشيء الذي نقول إنه شر إنما هو طلب اعتدال للإِنسان الخليفة، حتى إذا اغتر يرده الله سبحانه وتعالى من الأسباب إلى المسبِّب. وحين يأخذ الله قوماً بالبأساء التي تصيب الإِنسان في غير ذاته: مال يضيع، ولد يفقد، بيت يهدم، أو يأخذهم بالضراء وهي الأشياء التي تصيب الإِنسان في ذاته، فلذلك ليسلب منهم أبهة الكبرياء، فلا يجدون ملجأ إلا أن يخضعوا لرب الأرض والسماء، ولكي يتضرعوا إلى الله، ومعنى التضرع- كما عرفنا- إظهار الذلة لله. وإذا لم يُجْدِ وينفع فيهم هذا، وقالوا: لا، إن البأساء والضراء مجرد سنن كونية، وقد تأتي للناس في أي زمان أو مكان. نقول لهم: صحيح البأساء والضراء سنن كونية من مكوّن أعلى من الكون، فإذا لم يرتدعوا بالبأساء والضراء ويرجعوا إلى ربهم ويتوبوا إليه يبتليهم الله بالنعماء، فهو القائل: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].


فالمجتمعات حين تبتعد عن منهج السماء نجد الحق ينتقم منهم انتقاماً يناسب جرمهم، ولو أنه أخذهم على حالهم المتواضع فلن تكون الضربة قوية؛ لذلك يوسع عليهم في كل شيء حتى إذا ما سلب منهم وأخذهم بغتة وفجأة تكون الضربة قوية قاصمة ويصيبهم اليأس والحسرة.


وقديماً قلنا تعبيراً ريفيًّا هو: إن الإِنسان إن أراد أن يوقع بآخر لا يوقعه من على حصيرة، إنما يوقعه من مكان عال. وربنا يعطي للمنكرين الكثير ويمدهم في طغيانهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وقد دلت وقائع الحياة على هذا، ورأينا أكثر من ظالم وجبار في الأرض والحق يملي له في العلو ويمد له في هذه الأسباب ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ولو بواسطة حارسه. {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95].
وقد يضبط الإِنسان أشياء تُعْلمه بواقع الشر في مستقبله. مثلها مثل (الرادار) الذي يكشف لنا أي خطر في الأفق قبل أن يأتي، وحين يقول سبحانه: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي ليس عندهم حساب ولا مقاييس تدلهم على أن شرًّا يحيق بهم.
وأنت لو نظرت إلى هذه المسألة لوجدت الإِنسان بعقله وفكره الذي لم يسلك فيه طريق الله بل سلك فيه السبيل غير الممنهج بمنهج الله، وبينما لا يلتفت الانسان إلى مجيء الكارثة، ويتساءل: لماذا تجري هذه الحيوانات؟! إنه في هذه الحالة يكون أقل من الحيوانات؛ لأن الحيوان من واقع الأحداث في بلد تحدث فيه الزلازل يكون أول خارج من منطقة الزلزال، إنَّ الله قد سلبه هذه المعرفة حتى تتمكن منه الضربة، إننا نجد الحمار يجري ليغادر مكان الزلزال، بينما يظل الإِنسان واقفاً حتى يحيق ويحيط به الخطر، فأي إحساس وأي استشعار عند الحيوان؟ إنه استشعار غريزي خلقه ربه فيه؛ لأنه سلب منه التعقل فأعطاه حكمة الغرائز.
وما دام الحق قد نبه الإِنسان بالبأساء فلم يلتفت، وبالضراء فلم ينتبه إلى المنهج؛ لذلك يأتي له الحق ويمد له بالطغيان.
لكن أهل الإِيمان أمرهم يختلف، فيقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) }.


 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)}


أي أنهم لو آمنوا بالموجود الأعلى، واتقوا باتباع منهجه أمراً باتباع أمراً ونهيًا تسلم آلاتهم، لأن الصانع من البشر حتى يصنع آلة من الآلات، يحدد ويبيّن الغاية من الآلة قبل أن يبتكرها، ويصمم لها أسلوب استخدام معين، وقانون صيانة خاصا لتؤدي مهمتها، فما بالنا بمن خلق الإِنسان، إذن فالبشر إذا تركوا رب الإِنسان يضع منهج صيانة الإِنسان لعاش هذا الإِنسان في كل خير، وسبحانه وتعالى أوضح أنهم إن اتقوا، تأت لهم بركات من السماء والأرض، فإن أردتها بركات مادية تجدها في المطر الذي ينزل من أعلى، وبركات من الأرض مثل النبات، وكذلك كنوزها التي تستنبط منها الكماليات المرادة في الحياة.


وما معنى البركة؟.

البركة هي أن يعطي الموجودُ فوق ما يتطلبه حجمه؛ كواحد مرتبه خمسون جنيهاً ونجده يعيش هو وأولاده في رضا وسعادة، ودون ضيق، فنتساءل: كيف يعيش؟ ويجيبك: إنها البركة. وللبركة تفسير كوني لأن الناس دائماً- كما قلنا سابقاً- ينظرون في وارداتهم إلى رزق الإِيجاب، ويغفلون رزق السلب. رزق الإِيجاب أن يجعل سبحانه دخلك آلاف الجنيهات ولكنك قد تحتاج إلى أضعافهم، ورزق السلب يجعل دخلك مائة جنيه ويسلب عنك مصارف كثيرة، كأن يمنحك العافية فلا تحتاج إلى أجر طبيب أو نفقة علاج.


إذن فقوله: {بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} أي أن يعطي الحق سبحانه وتعالى القليل الكثير في الرزق الحلال، ويمحق الكثير الذي جاء من الحرام كالربا، ولذلك سمى المال الذي نخرجه عن المال الزائد عن الحاجة سماه زكاة مع أن الزكاة في ظاهرها نقص، فحين تملك مائة جنيه وتخرج منها جنيهين ونصف الجنيه يكون قد نقص مالك في الظاهر. وإن أقرضت أحداً بالربا مائة جنيه فأنت تأخذها منه مائة وعشرة، لكن الحق سمى النقص في الأولى نماء وزكاة، وسمى الزيادة في الثانية محقا وسحتاً، وسبحانه قابض باسط. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
إذن فلو أخذ الإِنسان قانون صيانته من خالقه لاستقامت له كل الأمور، لكن الإِنسان قد لا يفعل ذلك. ويقول الحق: {ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.



وهكذا نعلم أن الأخذ ليس عملية جبروت من الخالق، وإنما هي عدالة منه سبحانه؛ لأن الحق لو لم يؤاخذ المفسدين، فماذا يقول غير المفسدين؟. سيقول الواحد منهم: مادمنا قد استوينا والمفسدين، وحالة المفسدين تسير على ما يرام، إذن فلأفسد أنا أيضاً. وذلك يغري غير المفسد بأن يفسد، ويعطي لنفسه راحتها وشهوتها، لكن حين يأخذ الله المفسدين بما كانوا يكسبون، يعلم غير المفسد أن سوء المصير للمفسد واضح، فيحفظ نفسه من الزلل.
كان القياس أنه يقول سبحانه: بما كانوا يكتسبون، لأن مسألة الحرام تتطلب انفعالات شتى، وضربنا المثل من قبل بأن إنساناً يجلس مع زوجته، وينظر إلى جمالها ويملأ عينيه منها، لكن إن جلس مع أجنبية وأراد أن يغازلها ليتمتع بحسنها، فهو يناور ويتحايل، وتتضارب ملكاته بين انفعالات شتى، وهو يختلف في ذلك عن صاحب الحلال الذي تتناسق ملكاته وهو يستمتع بما أحل له الله، ولكنْ هؤلاء المفسدين تدربوا على الفساد فصار دربة تقرب من الملكة فقال فيهم الحق: إنهم يكسبون الفساد، ولا يجدون في ارتكابه عنتا.




image.png


{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)}


ونلاحظ وجود ذ (همزة استفهام) و(فاء تعقيب) في قوله: {أَفَأَمِنَ} وهذا يعني أن هناك معطوفاً ومعطوفاً عليه، ثم دخل عليهما الاستفهام، أي أنهم فعلوا وصنعوا من الكفر والعصيان فأخذناهم بغتة، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا وعذابنا بياتاً أو ضحى كما صنع بمن كان قبلهم من الأمم السابقة؟ هم إذن لم يتذكروا ما حدث للأمم السابقة من العذاب والدمار.


ويوضح الحق أن الذين كذبوا من أهل القرى، هل استطاعوا تأمين أنفسهم فلا يأتيهم العذاب بغتة كما أتى قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب؟ والبأس هو الشدة التي يؤاخذ بها الحق سبحانه الأمم حين يعزفون عن منهجه. وما الذي جعلهم يأمنون على أنفسهم أن تنزل بهم أهوال كالتي نزلت بمن سبقهم من الأمم.


وحين يتكلم الحق عن الأحداث فهو يتكلم عما يتطلبه الأحداث من زمان ومكان؛ لأن كل حدث لابد له من زمن ولابد له من مكان، ولا يوجد حدث بلا زمان ولا مكان، والمكان هنا هو القرى التي يعيش فيها أهلها، والزمان هو ما سوف يأتي فيه البأس، وهو قد يأتي لهم وهم نائمون، أو يأتي لهم ضحى وهم يلعبون، وهذه تعابير إلهية، والإِنسان إذا ما كان في مواجهة الشمس فالدنيا تكون بالنسبة له نهاراً. والمقابل له يكون الليل. وقد يجيء البأس على أهل قرية نهاراً، أو ليلاً في أي وقت من دورة الزمن، ونعلم أن كل لحظة من اللحظات للشمس تكون لمكان ما في الأرض شروقاً، وتكون لمكان آخر غروباً، وفي كل لحظة من اللحظات يبدأ يوم ويبدأ ليل، إذن أنت لا تأمن يا صاحب النهار أن يأتي البأس ليلاً أو نهاراً، وأنت يا صاحب الليل لا تأمن أن يكون البأس نهاراً أو ليلاً.
وأهل القرى هم الذين قال الله فيهم: {... ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
وماداموا قد كذبوا فمعنى ذلك أنهم لم يؤمنوا برسول مبلغ عن الله، وتبعاً لذلك لم يؤمنوا بمنهج يحدد قانون حركتهم ب (افعل) و(لا تفعل).
إذن فنهارهم هو حركة غير مجدية، وغير نافعة، بل هي لعب في الحياة الدنيا، وليلهم نوم وفقد للحركة، أو عبث ومجون وانحراف، وكل من يسير على غير منهج الله يقضي ليله نائماً أو لاهيًا عاصيًّا، ونهاره لاعباً؛ لأن عمله مهما عظم، ليس له مقابل في الآخرة من الجزاء الحسن.





{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)}


و(الأمن) هو الاطمئنان إلى قضية لا تثير مخاوف ولا متاعب، ويقال: فلان (آمن)؛ أي لا يوجد ما يكدر حياته. والحق يقول: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله} ونحن نسمع بعض الكلمات حين ينسبها الله لنفسه نستعظمها، ونقول: وهل يمكر ربنا؟ لأننا ننظر إلى المكر كعملية لا تليق.. وهنا نقول: انتبه إلى أن القرآن قد قال: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ...} [فاطر: 43].
إذن ففيه مكر خير، ولذلك قال الحق: {... والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54].
والمكر أصله الالتفاف. وحين نذهب إلى حديقة أو غابة نجد الشجر ملتف الأغصان وكأنه مجدول بحيث لا تستطيع أن تنسب ورقة في أعلى إلى غصن معين؛ لأن الأغصان ملفوفة بعضها على بعض، وكذلك نرى هذا الالتفاف في النباتات المتسلقة ونجد أغصانها مجدولة كالحبل.



إذن فالمكر مؤداه أن تلف المسائل، فلا تجعلها واضحة. ولكي تتمكن من خصمك فأنت تبيت له أمراً لا يفطن إليه، وإذا كان الإِنسان من البشر حين يبيت لأخيه شرًّا، ويفتنه فتناً يُعمي عليه وجه الحق وليس عند الإِنسان العلم الواسع القوي الذي يمكر به على كل من أمامه من خصوم لأنهم سيمكرون له أيضاً.
وإذا كان هناك مكر وتبييت لا يكتشفه أحد فهو مكر وتبييت الله لأهل الشر، وهذا هو مكر الخير؛ لأن الله يحمي الوجود من الشر وأهله بإهلاكهم. {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99].



وهناك من يسأل: هل أمن الأنبياء مكر الله؟ نقول نعم. لقد آمنوا مكر الله باصطفائهم للرسالة، وهناك من يسأل: كيف إذن لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون؟!
نقول: لقد جاء في منهج الرسل جميعاً أن الذي يأمن مكر الله هو الخاسر؛ لأن الله هو القادر، وهو الذي أنزل المنهج ليختار الإِنسان به كسب الدنيا والآخرة إن عمل به، وإن لم يعمل به يخسر طمأنينة الإِيمان في الدنيا وإن كسب فيها مالا أو جاها أو علماً، ويخسر الآخرة أيضاً.




image.png


{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)}
و{يَهْدِ} أي يبين للذين يرثون الأرض طريق الخير، ومعنى {يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ} أن الأرض كانت مملوكة لسواهم، وهم جاءوا عقبهم. وحين يستقرئ الإِنسان الوجود الحضاري في الكون يجد أن كل حضارة جاءت على أنقاض حضارة، وما في يدك وملكك جاء على أنقاض ملك غيرك، والذي يأتي على أنقاض الغير يسمى إرثاً، ومادمتم قد رأيتم أنكم ورثتم عن غيركم كان يجب أن يظل في بالكم أن غيركم سيرثكم.



إذن فالمسألة دُوَلٌ، ويجب ألا يغتر الإِنسان بموقع أو منصب، ونحن نرى في حياتنا من يحتل منصباً كبيراً، ثم يُقال ويعزل عن منصبه، أو يحال إلى التقاعد ويأتي آخر من بعده. ولذلك يقال: لو دامت لغيرك ما وصلت إليك. فإن كنت صاحب مكانة وقد أحسنت الدخول إلى وضعك وإلى جاهك، وإلى منصبك؛ فيجب أن تفطن وتتذكر الخروج قبل الدخول إلى هذا المنصب حتى لا يعز عليك فراقه يوماً.
واحذر أن تحسن الدخول في أمر قبل أن تحاول أن تحسن الخروج منه.
واستمع إلى قول الشاعر في هذا المعنى:
إن الأمير هو الذي يُمسي أميراً يوم عزلهْ ** إن زال سلطان الإِمارة لم يزل سلطانُ فضلِهْ


وحين يقول الحق: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض}.
نلحظ أنه سبحانه لم يجعل المهديين هنا على وضع المفعول، فلم يقل: أو لم يهد الذين، بل قال: {يَهْدِ لِلَّذِينَ}، فما الحكمة في ذلك؟. نعرف أن (الهداية) هي الدلالة على الطريق الموصل للغاية، وقد تعود فائدته عليك، أي أنك قد هَدَيْت غيرك لصالحك. وقد تكون الهداية وهي الدلالة على فعل الخير لأمر يعود على الذي هَدَى وعلى المَهْدِيّ معاً، لكن إذا كانت الهداية لا تعود إلا لك أنت، ولا تعود على مَن هداك، أتشك في هدايته لك؟ لا، إن من حقك أن تشك في الهداية إذا كان هذا الأمر يعود على من هَدَى، أو يعود أمرها على الاثنين؛ ففي ذلك شبهة لمصلحة، لكن إذا كان الأمر لا يعود على من يَهْدِي ويعود كله لمن يُهْدَي فليس في ذلك أدنى شك.



ولذلك يقول الحق سبحانه في حديثه القدسي: (... يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإِنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإِنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني ِ فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المَخْيط إذا أُدْخِلَ البحر).


إذن فحين يهديهم الحق إلى الصراط المستقيم فما الذي يعود عليه سبحانه من صفات بهذا العمل؟ لقد خلقكم بصفات الكمال فيه، فلن ينشئ خلقه لكم صفة من صفات الكمال زائدة على ما هو له، وهكذا نرى أن كل هداية راجعة إلى المَهْدِيّ. وبذلك يتأكد قوله: {يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض} ما هو مصلحتهم. {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].
والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن المشيئة يقول: {لَّوْ نَشَآءُ} ويحدد أسباب المشيئة وهو قوله: {أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}، وهكذا نعلم أن المشيئة ليست مشيئة ربنا فقط لا، بل هي أيضاً مشيئة العباد الذين ميزهم بالاختيار، وسبحانه يقول: {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً...} [الرعد: 31].
وما الذي يمنعه سبحانه أن يشاء هداية الناس جميعاً؟. لا أحد يمنع الخالق، ولكنه سبحانه خلق خلقاً مهديين بطبيعتهم، لا قدرة لهم على المعصية وهم الملائكة، وجعل سائر أجناس الأرض مسخرة مسبحة، وذلك يثبت صفة القدرة، فلا يستطيع أحد أن يخرج عن مراد الله، ولكن هذا لا يعطي صفة المحبوبية للمشرع الأعلى، ثم إنه سبحانه خلق خلقاً لهم اختيار في أن يطيعوا وأن يعصوا.



فالمخلوق الذي اختصه سبحانه بقدرة الاختيار في أن يؤمن وأن يكفر، وأن يطيع وأن يعصي، ثم آمن يكون إيمانه دليلا على إثبات صفات المحبوبية للإِله.
إذن المقهورون على الفعل أثبتوا القدرة، والمختارون الفعل أثبتوا المحبوبية للمشروع الأعلى، ويتابع سبحانه في الآية نفسها: {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}.[الأعراف: 100].
ونلاحظ أن الحق لم يقل أنه لو نشاء أصبناهم لذنوبهم وذلك رحمة منه، بل جعل العقاب بالذنوب التي يختارونها هم، وكذلك جعل الطبع على القلوب نتيجة للاختيار. وسبق أن تكلمنا في أول سورة البقرة. عن كلمة (الطبع)؛ وهو الختم: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ...} [البقرة: 7].
لأن القلوب وعاء اليقين الإِيماني؛ فحين يملأ إنسان وعاء اليقين الكفر، فهذا يعني أنه عشق الكفر وجعله عقيدة عنده؛ لذلك يساعده الله على مراده، وكأنه يقول له: أنا سأكون على مرادك، ولذلك أطبع على قلبك فلا يخرج ما فيه من الكفر، ولا يدخل فيه ما خرج منه من الإِيمان الفطري الذي خلق الله الناس عليه. لأنك أنت قد سَبَّقت ووضعت في قلبك قضية يقينية على غير إيمان؛ لأن أصول الإِيمان أن تُخْرِج ما في قلبك من أي اعتقاد، ثم تستقبل الإِيمان بالله، ولكنك تستقبل الكفر وترجحه على الإِيمان.



إن الله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه: قلب يؤمن، وقلب لا يؤمن، بل جعل قلباً واحداً، والقلب الواحد حيز، والحيز- كما قلنا- لا تداخل للمحيَّز فيه؛ فحين نأتي بزجاجة فارغة ونقول: إنها (فارغة) فالذي يدل على كذب هذه الكلمة أننا حين نضع فيها المياه تخرج منها فقاقيع الهواء، وخروج فقاقيع الهواء هو الذي يسمح بدخول المياه فيها؛ لأن الزجاجة ليست فارغة، بل يخيل لنا ذلك؛ لأن الهواء غير مرئي لنا.


ولو كانت الزجاجة مفرغة من الهواء دون إعداد دقيق قي صناعتها لتلك المهمة لكان من الحتمي أن تنكسر. والقلب كذلك له حيز إن دخل فيه الإِيمان بالله لا يسع الكفر، وإن دخل فيه الكفر- والعياذ بالله لا يسع الإِيمان، والعاقل هو من يطرح القضيتين خارج القلب، ثم يدرس هذه ويدرس تلك، وما يراه مفيداً لحياته ولآخرته يسمح له بالدخول. أما أن تناقش قضية الإِيمان بيقين قلبي بالكفر فهذه عملية لا تؤدي إلى نتيجة. {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].
أي أو لم يتبيّن للذين يُستخلفون في الأرض من بعد إهلاك الذين سبقوهم بما فعلوا من المعاصي والكفر فسار هؤلاء القوم سيرة من سبقهم وعملوا أعمالهم وعصوا ربهم أن لو نشاء فعلنا بهم من العذاب كما فعلنا بمن قبلهم وقوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي السماع المؤدي إلى الاعتبار والاتعاظ فكأنهم لم يسمعوا.



 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)}
 

هذا هو المراد في سرد القصص بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوضحه الحق في موضع آخر من القرآن فقال: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ...} [هود: 120].
فإذا ما حدث لك من أمتك وقومك شيء من العناد والإِصرار والمكابرة فاعلم أنك لست بدعاً من الرسل؛ لأن كل رسول قد قابلته هذه الموجة الإِلحادية من القوم الذين خاطبهم. وإذا كان رسول يأخذ حظه من البلاء بقدر ما في رسالته من العلو فلابد أن تأخذ أنت ابتلاءات تساوي ابتلاءات الرسل جميعاً. {تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} [الأعراف: 101].
والطبع- كما قلنا- هو الختم؛ لأن قلوبهم ممتلئة بالضلال؛ لذلك يعلنون التكذيب للرسول. وقد طبع الله على قلوبهم لا قهراً منه، ولكن لاستبطان الكفر وإخفائه في قلوبهم.

image.png.49b9bb8890e4485552bf95479661f8dd.png


{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}
 

وهؤلاء الذين كذبوا الرسل، وردوا منهج الله الذي أرسله على ألسنة رسله. كانت لهم عهود كثيرة. فما وفوا بعهد منها، مثال ذلك: العهد الجامع لكل الخلق، وهو العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم من صلبه حين مسح الله على ظهر آدم، وأخرج ذريته وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172].

وقد يقف العقل في أخذ مثل هذا العهد على الذرية الموجودة في آدم؛ لذلك نقول: إذا قال الله فقد صدق عَقِلْنا ذلك أو لم نعقله، إنك لو نظرت إلى (آحاد البشر)، أي إلى الأفراد الموجودين، تجد نفسك وغيرك يجد نفسه نسلاً لآبائكم، وهذا يدل على أنَّ الإِنسان وجد من حيوان منوي حي انتقل إلى بويضة حيّة من أمه فنشأ هذا الإنسان. ولو طرأ على الحيوان المنوي موت، أو طرأ على البويضة موت امتنع الإِنسال.
 

إذن فكل إنسان منا جزء من حياة أبيه، وأبوه جزء من حياة والده، ووالده جزء من حياة أبيه، وإن سلسلت ذلك فسنصل لآدم، فكل واحد من ذرية آدم إلى أن تقوم الساعة فيه جزئ حي من آدم. ومادام فيه جزئ حي من آدم فقد شهد الخلق الأول، ولذلك حين يسألهم الله سؤال التقرير ويقول: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؟ فيقولون: {بلى}.
 

وضربنا المثل لنقرب وقلنا إن الذرة الشائعة في شيء، تشيع في أضعاف الشيء، وسبق أن قلنا: إننا إذا جئنا بمادة حمراء- مثلاً- في حجم سنتيمتر مكعب، ثم أذبناها في قارورة، وبذلك يصبح كل جزء في القارورة فيه جزء من المادة الملونة، وإن أخذت القارورة وألقيتها في برميل واسع، هنا تصير كل قطرة من البرميل فيها جزيء من المادة الحمراء، وإن أخذت ماء البرميل وألقيته في البحر فكل ذرة في البحر الواسع يصير فيها جزيء من المادة الملونة، وهكذا يقرب من ذهن كل منا أن في كل إنسان جزيئاً من آدم، وقد شهد هذا الجزئ العهد الأول.

ولقائل أن يسأل: كيف يخاطب الله الذر الذي كان موجوداً في ظهر آدم؟.

نقول: كما خاطب الأرض وخاطب السماء، فهو القائل: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11].
إذن فعدم إدراكنا لكيفية الخطاب بين رب ومربوب، لا يقدح في أن هذه المسألة لها أصل ولها وجود.
وهذا بالنسبة للعهد الأول، وبعده العهد الثاني الذي أخذه الله على رسله، مصداقاً لقوله الحق: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].

 

ثم هناك عهود خاصة أنشأتها الأحداث الخاصة، مثلما يقول الحق سبحانه وتعالى: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [يونس: 22].
إنهم لا يسلمون أنفسهم للعطب، ولا يغترون بجاههم وبالأسباب التي عندهم لأنها قد امتنعت، ولذلك لا يغشون أنفسهم بل يلجأون صاغرين إلى الله قائلين: {... لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [يونس: 22].
هكذا نرى أنهم أعطوا العهد في حادثة، فلما أنجاهم الله أعرضوا، وفي ذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ...} [يونس: 12].
إذن فالعهد إما أن يكون عهداً عاماً وإما أن يكون عهداً خاصًّا.

 

والحق يقول: {وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}.
أي أن حال وشأن أكثرهم ظل على الفسق ونقض العهد والخروج عنه؛ لأن العهد إطار يحكم حركة المختار فيما أعطاه على نفسه من المواثيق، وهو حر في أن يفعل أو لا يفعل، لكنه إذا عاهد أن يفعل أصبح ملزماً ووجب عليه أن ينفذ العهد باختياره، لأنه إذا قطع العهد على نفسه فعليه أن يحكم حركته في إطار هذا العهد، فإن خرج بحركته عن إطار هذا العهد فهذا هو الفسق، والأصل في الفسق أنه خروج الرطبة من القشرة لأن القشرة تصنع سياجاً على الثمرة بحيث لا تُدخل إلى الثمرة شيئاً مفسداً من الخارج، ويقال: فسقت الرطبة أي خرجت عن قشرتها. كأن ربنا جعل التكليف تغليفاً حماية للإِنسان من العطب، فإذا ما خرج عن الدين مثل خروج الرطبة عن الغطاء والقشرة صار عرضة للتلوث وللميكروبات؟، فسمى الله الخارج على منهجه بالفاسق، لأنه خرج عن الإِطار الذي جعله الله له ليحميه من المفاسد، ومن العطب الذي يقع عليه.

 

image.thumb.png.7e2008852f0d9f6fb340338d176b38d8.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×