اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

رباعيات العلامة ابن القيم رحمه الله (4)

المشاركات التي تم ترشيحها

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد: فمن المواضيع التي تكلم عليها العلامة ابن القيم رحمه الله في أكثر من كتاب من مصنفاته موضوع: الأحزان والهموم والغموم، وقد يسَّر الله الكريم، فجمعت بعضًا مما ذكره في تلك الكتب، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.

 

 

 

الهموم والأحزان عقوبات عاجلة:

 

الغموم والهموم والأحزان والضيق عقوبات عاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة؛ [الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب].

 

 

 

كراهة أمر مضى يُحدث الحزن، وتوقع مكروه في المستقبل يُحدث الهمَّ:

 

المكروه الوارد على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين: فإنه إما أن يكون سببه أمرًا ماضيًا فهو يحدث الحزن، وإما أن يكون توقع أمرٍ مستقبل فهو يحدث الهم؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

الهم والحزن يسطلهما الله على القلوب الفارغة من محبته وخوفه ورجائه:

 

من حكمة العزيز الحكيم أن سلَّط هذين الجندين على القلوب المعرِضة عنه، الفارغة من محبته وخوفه، ورجائه والإنابة إليه، والتوكل عليه، والأنس به، والفرار إليه، ليردها بما يبتليها من الهموم والأحزان والآلام القلبية عن كثير من معاصيها وشهواتها.

 

 

 

القلب خُلق لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده، والسرور به، والابتهاج بحبه، والرضا عنه، والتوكل عليه، ودوام ذكره، وأن يكون أحب إليه من كل ما سواه، وهذا بمنزلة الغذاء والصحة... فإذا فقد غذاءه... فالهموم والغموم والأحزان مسارعة من كل صوب إليه؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

الكسالى أكثر الناس همًّا وغمًّا وحزنًا:

 

تجد الكسالى أكثر الناس همًّا، وغمًّا، وحزنًا، ليس لهم فرح، ولا سرور، بخلاف أرباب النشاط، والجد في العمل أي عمل، فإن كان النشاط في عمل هم عالمون بحسن عواقبه، وحلاوة غايته، كان التذاذهم بحبه، ونشاطهم فيه أقوى؛ [روضة المحبين ونزهة المشتاقين].

 

 

 

من أسباب الهموم والغموم والأحزان:

 

تحصل الهموم والغموم والأحزان من جهتين:

 

أحدهما: الرغبة في الدنيا والحرص عليها.

 

الثاني: التقصير في أعمال البر والطاعة؛ [عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين].

 

 

 

معاشرة الثقلاء تجلب الهموم والعموم:

 

الثقلاء والبغضاء معاشرتهم تُوهِن القُوى، وتجلب الهمَّ والغم، وهي للروح بمنزلة الحمَّى للبدن، وبمنزلة الرائحة الكريهة؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة تجلب الغموم والهموم:

 

ترك فضول النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطة، والأكل، والنوم، فإن هذه الفضول تستحيل آلامًا، وغمومًا، وهمومًا في القلب، تحصره، وتحبسه، وتضيقه، ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

الهم والحزن يضعفان العزم، ويوهنان القلب:

 

الحزن... نهى سبحانه عنه في غير موضع؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127]، وقال تعالى: ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40]، فالحزن هو بلية من البلايا التي نسأل الله دفعها وكشفها؛ ولهذا يقول أهل الجنة: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34]، فحمدوه سبحانه أن أذهب عنهم تلك البلية ونجاهم منها؛ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن))؛ فالهم والحزن قرينان؛ وهما الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يُستقبل فهو الهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الحزن مما يُستعاذ منه، وذلك لأن الحزن يُضعف القلب، ويُوهن العزم، ويُغير الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة: 10]؛ فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب على المصائب التي يُبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض والألم ونحوهما؛ [طريق الهجرتين وباب السعادتين].

 

 

 

وقال رحمه الله:" الهم والحزن يضعفان العزم، ويوهنان القلب، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه، ويقطعان عليه طريق السير، أو ينكسانه إلى وراء، أو يعوقانه، ويوقفانه أو يحجبانه عن العلم الذي كلما رآه شمر إليه، وجدَّ في سيره فهما حمل ثقيل على ظهر السائر؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

التوحيد والاستغفار أعظم دواء لإزالة الهموم والغموم والأحزان:

 

الهم يكون على مكروه يُتوقع في المستقبل يهتم به القلب، والحزن على مكروه ماض من فوات محبوب، أو حصول مكروه إذا تذكره أحدث له حزنًا، والغم يكون على مكروه حاصل في الحال يوجب لصاحبه الغم، فهذه المكروهات هي من أعظم أمراض القلب وأدوائه، وقد تنوع الناس في طرق أدويتها والخلاص منها، وتباينت طرقهم في ذلك تباينًا لا يحصيه إلا الله، بل كل أحد يسعى في التخلص منها بما يظن أو يتوهم أنه يخلصه منها، وأكثر الطرق والأدوية التي يستعملها الناس في الخلاص منها لا يزيدها إلا شدة لمن يتداوى منها بالمعاصي على اختلافها من أكبر كبائرها إلى أصغرها، وكمن يتداوى منها باللغو واللعب، والغناء وسماع الأصوات المطربة، ونحو ذلك، فأكثر سعي بني آدم أو كله إنما هو لدفع هذه الأمور والتخلص منها، وكلهم قد أخطأ الطريق إلا من سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله لإزالتها، وهو دواء مركب من مجموع أمور متى نقص منها جزء، نقص من الشفاء بقدره، وأعظم أجزاء هذا الدواء هو التوحيد والاستغفار.

 

 

 

قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19]، وفي الحديث: ((فإن الشيطان يقول: أهلكتُ بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله...))... فالتوحيد يُدخل العبد على الله، والاستغفار والتوبة يرفع المانع ويزيل الحجاب الذي يحجب القلب عن الوصول إليه، فإذا وصل القلب إليه زال عنه همه وغمه وحزنه، وإذا انقطع عنه حضرته الهموم والغموم والأحزان، وأتته من كل طريق، ودخلت عليه من كل باب؛ [شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل].

 

 

 

وقال رحمه الله: أعظم أسباب شرح الصدر التوحيدُ، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

أشرح الناس صدرًا، وأرفعهم ذكرًا أتبعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

أتْبَعُ الناس لرسوله صلى الله عليه وسلم أشرحهم صدرًا، وأوضعهم وزرًا، وأرفعهم ذكرًا، وكلما قويت متابعته علمًا وعملًا، وحالًا واجتهادًا، قويت هذه الثلاثة حتى يصير صاحبها أشرح الناس صدرًا، وأرفعهم في العالمين ذكرًا، وأما وضع وزره فكيف لا يُوضع عنه وزره ومن في السماوات والأرض ودواب البر والبحر يستغفرون له؟

 

 

 

وهذه الأمور الثلاثة متلازمة، كما أضدادها متلازمة، فالأوزار والخطايا تقبض الصدر وتضيقه، وتخمل الذكر وتضعه، وكذلك ضيق الصدر يضع الذكر ويجلب الوزر، فما وقع أحد في الذنوب والأوزار إلا من ضيق صدره وعدم انشراحه، وكلما ازداد الصدر ضيقًا كان أدعى إلى الذنوب والأوزار؛ لأن مرتكبها إنما يقصد بها شرح صدره، ودفع ما هو فيه من الضيق والحرج، وإلا فلو اتسع بالتوحيد والإيمان ومحبة الله ومعرفته وانشرح بذلك، لاستغنى عن شرحه بالأوزار؛ [الكلام على مسألة السماع].

 

 

 

وقال رحمه الله: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر، وقرة العين، وأكمل الخلق متابعة له، أكملهم انشراحًا ولذة وقرة عين، وعلى حسب متابعته ينال العبد من انشراح صدره، وقرة عينه، ولذة روحه ما ينال؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

من سلَّم أمره لله استراح من الهموم والغموم:

 

من... علِم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير، وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحته من العبد، وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد منه لنفسه، وأرحم به منه لنفسه، وأبر به منه بنفسه، وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة، ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر، فألقى نفسه بين يديه، وسلم الأمر كله إليه، وانطرح بين يديه انطراح عبدٍ مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر، له التصرف في عبده بكل ما يشاء، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه، فاستراح حينئذٍ من الهموم والغموم، والأنكاد والحسرات، وحمَّل كله وحوائجه ومصالحه من لا يبالي بحملها، ولا تثقله، ولا يكترث بها، فتولاها دونه، وأراه لطفه وبره ورحمته وإحسانه فيها، من غير تعبٍ من العبد، ولا نصبٍ، ولا اهتمام منه؛ لأنه صرف اهتمامه كله إليه، وجعله وحده همَّه، فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه، وفرغ قلبه منها، فما أطيب عيشه! وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه!

 

 

 

وإن أبى إلا تدبيره لنفسه، واختياره لها، واهتمامه بحظه، دون حق ربه، خلاه وما اختاره، وولاه ما تولى، فحضره الهم، والغم، والحزن، والنكد، والخوف، والتعب، وكسف البال، وسوء الحال، فلا قلب يصفو، ولا عمل يزكو، ولا أمل يحصل، ولا راحة يفوز بها، ولا لذة يتهنأ بها، بل قد حيل بينه وبين مسرته وفرحه وقرة عينه؛ [الفوائد].

 

 

 

الإيمان بالقدر والرضا والصبر تدفع الأحزان:

 

ما مضى لا يُدفع بالحزن، بل بالرضا، والحمد، والصبر، والإيمان بالقدر، وقول العبد: قدَّر الله وما شاء فعل؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

سؤال الله عز وجل ذهاب الحزن والهم والغم بالقرآن:

 

قوله صلى الله عليه وسلم: ((وأن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي))، لما كان الحزن والهم والغم يضادُّ حياة القلب، واستنارته، سأل أن يكون ذهابها بالقرآن، فإنها أحرى ألَّا تعود، وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد، فإنها تعود بذهاب ذلك؛ [الفوائد].

 

 

 

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تذهب الهم:

 

عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: ((قلت: يا رسول الله، إني أُكْثِرُ الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت، قلت: الربع؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير، قلت: النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير، قال: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذًا تُكفى همك، ويُغفر لك ذنبك))؛ [أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح].

 

 

 

وسُئل شيخنا أبو العباس عن تفسير هذا الحديث، فقال: "كان لأبي بن كعب دعاء يدعو به لنفسه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يجعل له منه ربعه صلاة عليه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ((إن زدت فهو خير لك))، فقال له: النصف؟ فقال: ((إن زدت فهو خير لك)) إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها؛ أي: أجعل دعائي كله صلاةً عليك، قال: ((إذًا تكفى همك، ويغفر لك ذنبك))؛ لأن من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً، صلى الله عليه بها عشرًا ومن صلى الله عليه كفاه همه، وغفر له ذنبه، هذا معنى كلامه رضي الله عنه"؛ [جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام].

 

 

 

نفي الخوف والحزن عن متبع هدى الله:

 

قوله تعالى: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38]، فالله سبحانه جعل اتباع هداه وعهده الذي عهده إلى آدم سببًا ومقتضيًا لعدم الخوف والحزن... وهذا الجزاء ثابت بثبوت الشرط، منتفٍ بانتفائه.

 

 

 

ونفي الخوف والحزن عن متبع الهدى نفي لجميع أنواع الشرور، فإن المكروه الذي ينزل بالعبد متى علم بحصوله فهو خائف منه أن يقع به، وإذا وقع به فهو حزين على ما أصابه منه، فهو دائمًا في خوف وحزن، فكل خائف حزين، وكل حزين خائف، وكل من الخوف والحزن يكون على فوات المحبوب وحصول المكروه؛ [مفتاح دار السعادة].

 

 

 

التوكل على الله والاستسلام له مما يدفع الهموم:

 

ما يُستقبل لا يُدفع أيضًا بالهم، بل إما أن يكون له حيلة في دفعه، فلا يعجز عنه، وإما ألَّا تكون له حيلة في دفعه فلا يجزع منه... ويأخذ له عدته... ويستجن بجُنة حصينة من التوحيد، والتوكل، والانطراح بين يدي الرب تعالى، والاستسلام له؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

الجهاد يدفع الهموم والغموم:

 

تأثير الجهاد في دفع الهم والغم، فأمر معلوم بالوجدان فإن النفس متى تركت صائل الباطل... اشتد همها وغمها، وكربها وخوفها، فإذا جاهدته لله، أبدل الله ذلك الهم والحزن فرحًا ونشاطًا وقوةً؛ فلا شيء أذهب لجوى القلب وغمه وهمه وحزنه من الجهاد؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

من كان الله معه فالحزن بعيد عنه:

 

قال تعالى حكاية عن نبيه أنه قال لصاحبه: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40]؛ فدلَّ على أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه، فما له وللحزن؟ وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له، فعلى أي شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأي شيء يفرح؟ قال الله تعالى ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58]؛ [طريق الهجرتين وباب السعادتين].

 

 

 

دفع الهموم والغموم بالإقبال على الله وإيثار مرضاته على كل شيء:

 

قال بعض العلماء: فكرت فيما يسعى فيه العقلاء، فرأيت سعيهم كله في مطلوب واحد، وإن اختلفت طرقهم في تحصيله، رأيتهم جميعهم إنما يسعون في دفع الهم والغم عن نفوسهم، فهذا بالأكل والشرب، وهذا بالتجارة والكسب، وهذا بالنكاح، وهذا بسماع الغناء، وهذا باللهو واللعب، فقلت: هذا مطلوب العقلاء، ولكن الطرق كلها غير موصلة إليه، بل لعل أكثرها إنما يوصل إلى ضده، ولم أرَ في جميع هذه الطرق طريقًا موصلةً إلا الإقبال على الله ومعاملته وحده، وإيثار مرضاته على كل شيء؛ [الداء والدواء].

 

 

 

تطهير القلب من الصفات المذمومة تشرح الصدر:

 

إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه، وتحول بينه وبين البُرء، فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرح صدره، ولم يخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه، لم يحظَ من انشراح صدره بطائل؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

المؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشًا، وأنعمهم بالًا، وأشرحهم صدرًا:

 

أي نعيم أطيب من شرح الصدر؟ وأي عذاب أمر من ضيق الصدر؟

 

 

 

المؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشًا، وأنعمهم بالًا، وأشرحهم صدرًا، وأسرهم قلبًا، وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر)).

 

 

 

هل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ وأي عذاب أشد من الخوف، والهم، والحزن، وضيق الصدر، وإعراضه عن الله والدار الآخرة، وتعلقه بغير الله، وانقطاعه عن الله، بكل وادٍ منه شعبه؟ وكل شيء تعلق به وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب؛ [الداء والدواء].

 

 

 

الفرح والسرور شفاء للهموم والأحزان:

 

الغم والهم والحزن أمراض للقلب، وشفاؤها بأضدادها من الفرح والسرور، فإن كان بحق اشتفى القلب وصح وبرئ من مرضه، وإن كان بباطل توارى ذلك واستتر ولم يزل، وأعقبه أمراضًا هي أصعب وأخطر؛ [إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].

 

 

 

الإيمان يشرح الصدر:

 

النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويوسعه، ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد، ضاق وخرج، وصار في ضيق سجن وأصعبه؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

العلم يشرح الصدر ويوسعه:

 

العلم يشرح الصدر، ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل للعلم المورث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلم النافع، فأهلُه أشرح الناس صدرًا؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

دوام ذكر الله عز وجل له تأثير عجيب في شرح الصدر:

 

دوام ذكره على كل حال، وفي كل موطن، فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه وحبسه وعذابه؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

محبة الله عز وجل أشرح شيء لصدر العبد:

 

للمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر وطيب النفس ونعيم القلب، لا يعرفه إلا من له أحس به، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد، كان الصدر أفسح وأشرح، ولا يضيق إلا عند رؤية البطالين الفارغين من هذا الشأن؛ فرؤيتهم قذًى عينه، ومخالطتهم حمى روحه.

 

الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتنعمبعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

الصلاة تدفع الهموم والأحزان والغموم:

 

في لذة ذكر الله، والإقبال عليه، والصلاة بالقلب والبدن من المنفعة الشريفة العظيمة، السالمة عن المفاسد الدافعة للمضار غِنًى وعوض للإنسان – الذي هو إنسان... واللذة الحاصلة بذكر الله والصلاة... أدفع للهموم والغموم والأحزان؛ [روضة المحبين ونزهة المشتاقين].

 

 

 

الشجاعة تشرح الصدر:

 

الشجاعة: فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، متسع القلب، والجبان أضيق الناس صدرًا، وأحصرهم قلبًا، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذة له؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

الإحسان إلى الناس يشرح الصدر:

 

الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرًا، وأنكدهم عيشًا، وأعظمهم همًّا وغمًّا؛ [زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

تسلية المهموم تذهب همه:

 

قال يعقوب بن بختان: "وُلد لي سبع بنات، فكنت كلما وُلد لي ابنة، دخلت على أحمد بن حنبل فيقول لي: يا أبا يوسف، الأنبياء آباء بنات، فكان يُذهب قولُه همي"؛ [تحفة المودود بأحكام المولود].

 

 

 

وختامًا فالحذر من إزالة الهموم بالذنوب، فإنها لا تزول، ولكنها تتوارى، ثم تعود أعظم مما كانت؛ يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "السكر... صاحبها يحصل له لذة وسرور بها، يحمله على تناولها؛ لأنها تغيب عنه عقله، فتغيب عنه الهموم والغموم والأحزان تلك الساعة، ولكن يغلط في ذلك، فإنها لا تزول، ولكن تتوارى، فإذا صحا عادت أعظم ما كانت، فيدعوه عودها إلى العود، كما قال الشاعر:

 

وكأس شربت على لذةٍ space.gif
وأخرى تداويت منها بها
space.gif
space.gif

 

وتلك اللذة أجلب شيء للهموم والغموم عاجلًا وآجلًا؛ [روضة المحبين ونزهة المشتاقين].

 

 

فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ

 

شبكة الالوكة

 


 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فالقلوب لا تُسَرُّ ولا تسعد ولا تطمئنُّ إلا بمعرفة الله سبحانه وتعالى، ومحبَّته، وحُسْن الظن به، والخوف منه، والتوكُّل عليه، والإنابة إليه، والأُنْس به، ومن أعجب الأشياء أن تجد قلبَ مسلمٍ يعرض عن هذه الأعمال القلبية، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله، في كتابه "الفوائد": من أعجب الأشياء: أن تعرفه ثم لا تُحِبُّه، وأن تسمع داعِيه ثم تتأخَّر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيرَه، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرَّض له، وأن تذوق ألمَ الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأُنْس بطاعته، وأن تذوق عُصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومُناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلُّق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه! وأعجبُ من هذا علمُك أنك لا بُدَّ لك منه، وأنك أحوجُ شيءٍ إليه وأنت عنه مُعْرِض، وفيما يُبعِد عنه راغب.

 

ومن هذه حاله فَقَدْ نسي ربَّه، فأنساه الله جل جلاله ذاتَه ونفسَه، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه "مفتاح دار السعادة": من نسي ربَّه أنساه ذاته ونفسه، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه؛ بل نسي ما به صلاحُه وفلاحُه في معاشه ومعاده، فصار معطلًا مهملًا بمنزلة الأنعام السائمة؛ بل ربما كانت الأنعام أخبرَ بمصالحها منه؛ لبقائها على هداها التام الذي أعطاها إياه خالقها، وأما هذا فخرج عن فطرته التي خُلِقَ عليها، فنسي ربَّه، فأنساه نفسه وصفاتها، وما تكمل به وتزكو به وتسعدُ به في معاشها ومعادها.

 

أما مَن وفَّقه الله عز وجل، فكان قلبُه مطمئنًا بالله، وقرَّت عينُه به، فقد سعد وفاز في نفسه، وفرح وأنس به كلُّ قريب وحبيب، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين": مَن قرَّتْ عينُه بالله قرَّتْ به كلُّ عينٍ، وأنس به كلُّ مستوحشٍ، وطاب به كُلُّ خبيثٍ، وفرح به كلُّ حزينٍ، وأمِنَ به كُلُّ خائف، وشهد به كلُّ غائب، وذكَّرت رؤيتُه بالله، فإذا رُئي ذُكِرَ الله.

 

قد اطمأنَّ قلبُه بالله، وسكنت نفسُه إلى الله، وخلصت محبَّتُه لله، وقَصَرَ خوفه على الله، وجعل رجاءه كلَّه لله، فإن سَمِعَ سَمِعَ بالله، وإن أبْصَر أبْصَر بالله، وإن بطش بطش بالله، وإن مشى مشى بالله، فبه يسمع، وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشي، فإذا أحبَّ أحبَّ لله، وإذا أبغض أبغض لله، وإذا أعطى فلله، وإذا منع فلله.

 

قد اتخذ الله وحده معبوده ومرجوَّه ومخوفه، وغاية قصده ومنتهى طلبه، واتَّخذ رسولَه وحدَه دليلَه وإمامَه وقائدَه وسائقَه، فوحَّد الله بعبادته ومحبَّته وخوفه ورجائه، وأفرد رسوله بمتابعته والاقتداء به والتخلُّق بأخلاقه والتأدُّب بآدابه.

للعلامة ابن القيم دُرَر عن الأعمال القلبية جمعتُ بعضًا منها، اللهَ أسألُ أن ينفع بها.

 

عبودية الله جل جلاله:

إذا أصبح العبد وأمسى وليس همُّه إلَّا الله وحده تحمَّل الله سبحانه حوائجه كلها، وحَمَلَ عنه كلَّ ما أهمَّه، وفرَّغ قلبه لمحبَّتِه، ولسانه لذكرِه، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدُّنْيا همُّهُ حمَّلهُ اللهُ همومَها وغُمومَها وأنكادَها، ووكَّله إلى نفسه، فشغل قلبَه عن محبَّتِه بمحبةِ الخَلْق، ولسانه عن ذكره بذكرِهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم...فكُلُّ مَن أعرض عن عبودية الله...ومحبته بُلي بعبودية المخلوق وخدمته؛ [كتاب: الفوائد].

 

هجرة القلب إلى الله ورسوله:

الهجرة إلى الله ورسوله فرضُ عَيْنٍ على كُلِّ أحَدٍ في كُلِّ وقتٍ، ولا انفكاك لأحد من وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد؛ إذ الهجرة هجرتان:

هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، وليس المراد الكلام فيها.

 

والهجرة الثانية: هجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، وهي هجرة تتضمَّن (مِن) و(إلى)، فيُهاجِر بقلبه من محبَّة غير الله إلى محبَّتِه، ومن عبودية غيره إلى عبوديَّتِه، ومن خوف غيره ورجائه والتوكُّل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكُّل عليه، ومِن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذُّلِّ له والاستكانة له إلى دعاء ربِّه وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له.

 

وهذا هو بعينه معنى الفِرار إليه؛ قال تعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50]، فالتوحيد المطلوب من العبد هو الفِرار من الله إليه.

 

وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه، فكلما كان داعي المحبة في قلب العبد أقوى، كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علمًا، ولا يتحرك بها إرادة.

 

وعن هاتين الهجرتين يُسأل كلُّ عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويُطالب بهما في الدنيا، فهو مطالب بهما في الدور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار؛ [كتاب: الرسالة التبوكية].

 

أهمية الأعمال القلبية وشدة حاجة المسلم إليها:

الله سبحانه وتعالى هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له، وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه، ولا معين على المطلوب غيره، وما سواه هو المكروه المطلوبُ بُعْدُه، وهو المعينُ على دفعه.

 

الله سبحانه خلق الخَلْقَ لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقرُّ عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحبَّ إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحبَّ إليهم من الإيمان به، ومحبتهم له، ومعرفتهم به.

 

العبد لا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربِّه، وأنْسِه به، وطاعته له، وإقباله عليه، وطمأنينته بذكره، وعمارة قلبه بمعرفته، والشوق إلى لقائه، فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعَّم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه، ومن عبد غيره وأحبَّه- وإن حصل له نوع من اللذَّة والمودَّة والسكون إليه والفرح والسرور بوجوده- ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهي الذي هو عذب في مبدئه، وعذاب في نهايته.

 

فحاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرُّب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظيرٌ تُقاس به؛ [كتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين].

 

اللذة التامة والفرح والسرور، وطيب العيش، والنعيم، إنما هو في معرفة الله، وتوحيده والأُنْس به، والشوق إلى لقائه، واجتماع القلب والهمِّ عليه، فإن أنكد العيش عيش من قلبه مُشتَّت، وهَمُّه مفرَّق؛ فاحرص أن يكون همُّك واحدًا، وأن يكون هو الله وحده، فهذا غاية سعادة العبد، وصاحب هذه الحال في جنة معجَّلة قبل جنة الآخرة وفي نعيم عاجل؛ [كتاب: رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه].

 

ليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبته، وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه، والزُّلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد، والله تعالى ينزل العبد من نفسه حيث يُنزله العبد من نفسه.

 

فمن كان لذكر أسمائه وصفاته مبغضًا، وعنها مُعرضًا نافرًا ومُنفرًا، فالله له أشد بغضًا، وعنه أعظمُ إعراضًا، وله أكبر مقتًا؛ [كتاب: الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية].

 

من علامات معرفة العبد بربِّه:

من علامات المعرفة: الهيبة، فكلما ازدادت معرفة العبد بربِّه، ازدادت هيبته له، وخشيته إياه، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]؛ أي: العلماء به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا أعرفُكم باللهِ، وأشدُّكم له خشيةً))؛ [كتاب: روضة المُحبِّين ونزهة المشتاقين].

 

معرفة الله سبحانه وتعالى:

معرفة الله سبحانه نوعان:

الأول: معرفة إقرار، وهي التي يشترك فيها الناس، البر والفاجر، والمطيع والعاصي.

 

والثاني: معرفة تُوجِب الحياء منه، والمحبة له، وتعلُّق القلب به، والشوق إلى لقائه، وخشيته والإنابة إليه، والأنس به، والفِرار من الخَلْق إليه.

 

ولهذه المعرفة بابان واسعان:

الباب الأول: باب التفكُّر والتأمُّل في آيات القرآن كلها، والفهم الخاص عن الله ورسوله.

 

والباب الثاني: التفكُّر في آياته المشهودة، وتأمُّل حِكْمته فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعَدْله وقيامه بالقسط على خلقه.

 

وجماع ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها، وتفرُّده بذلك وتعلُّقها بالخَلْق والأمر، فيكون فقيهًا في أوامره ونواهيه، فقيهًا في قضائه وقدره، فقيهًا في أسمائه وصفاته، فقيهًا في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدري؛ [كتاب الفوائد].

 

من ثمار المعرفة بالله عز وجل:

من عرف الله، صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كلُّ شيءٍ، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنِسَ بالله، واستوحش من الناس، وأورثته المعرفة الحياء من الله، والتعظيم له، والإجلال، والمراقبة، والمحبَّة، والتوكُّل عليه، والإنابة إليه، والرِّضا به، والتسليم لأمره؛ [كتاب: روضة المحبِّين ونزهة المشتاقين].

 

المعرفة تثمر المحبة والخوف والرجاء.

 

المعرفة تثمر حسن الخلق؛ [كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين].

 

معرفة الله جل جلاله من أعظم أسباب النظر إلى وجهه سبحانه:

أعظم نعيم الآخرة ولذاتها: النظر إلى وجه الربِّ جل جلاله، وسماع كلامه منه، والقرب منه، كما ثبت في الحديث الصحيح في حديث الرؤية: ((فواللهِ ما أعطاهم شيئًا أحَبَّ إليهم مِن النَّظَرِ إليه))، وفي النسائي ومسند الإمام أحمد من حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: ((وأسألُكَ لذَّةَ النَّظَرِ إلى وجْهِكَ، والشوق إلى لقائكَ)).

 

وإذا عرف هذا، فأعظم الأسباب التي تُحصل هذه اللذة هو أعظم لذات الدنيا على الإطلاق، وهو لذة معرفته سبحانه ولذة محبته، فإن ذلك هو جنة الدنيا ونعيمها العالي، ونسبة لذاتها الفانية كتفلةٍ في بحرٍ، فإن الروح والقلب والبدن إنما خلق لذلك، فأطيبُ ما في الدنيا معرفته ومحبَّته، وألذُّ ما في الجنة رؤيتُه ومشاهدتُه، فمحبَّتُه ومعرفتُه قُرَّةُ العيون، ولذة الأرواح، وبهجة القلوب، ونعيم الدنيا وسرورها؛ بل لذَّات الدنيا القاطعة عن ذلك تنقلب آلامًا وعذابًا، ويبقى صاحبها في المعيشة الضَّنْك، فليست الحياة الطيبة إلا بالله.

والمقصود أن أعظم لذَّات الدنيا هو السبب الموصِّل إلى أعظم لذة في الآخرة؛ [كتاب: الداء والدواء].

 

الأنس بالله:

متى رأيت نفسك تهربُ من الأُنْس به إلى الأُنْس بالخلق، ومن الخلوة مع الله إلى الخلوة مع الأغيار، فاعلم أنك لا تصلُح له؛ [كتاب: بدائع الفوائد].

 

من منازل ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]: منزلة الأُنْس بالله، والأنس ثمرة الطاعة والمحبة، فكُلُّ مطيعٍ مستأنس، وكُلُّ عاصٍ مستوحشٌ، كما قيل:

فإنْ كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ space.gif
فَدَعْها إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ space.gif

 

space.gif
space.gif

الله جعل للقلوب نوعينِ من الغذاء: نوعًا من الطعام والشراب الحسِّي، وللقلب منه خلاصته وصفوه، والثاني غذاء روحاني معنوي، خارج عن الطعام والشراب من السرور والفرح والابتهاج واللذة، والعلوم والمعارف؛ [كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين].

 

تعظيم الله عز وجل وتوقيره:

مَن عظُم وقارُ الله في قلبه أن يعصيهُ، وقَّره في قلوب الخلق أن يُذلوه.

 

من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خالٍ من تعظيم الله وتوقيره، فإنك تُوقر المخلوق وتُجِلُّه أن يراك في حال لا تُوقِّر الله أن يراك عليها! ومن كان كذلك، فإن الله لا يُلقي له في قلوب الناس وقارًا ولا هيبةً؛ بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم، وإنْ وقَّروه مخافة شرِّه فذاك وقار بغض لا وقار حب؛ [كتاب: الفوائد].

 

الذنوب...تُضعِف في القلب تعظيم الربِّ جل جلاله، وتُضعِف وقاره في قلب العبد،...ولو تمكَّن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرَّأ على معاصيه،...فإن عظمة الله وجلاله في قلب العبد وتعظيم حرماته تحول بينه وبين الذنوب،...وكيف ينتهك عبدٌ حرمات الله، ولا يطمع ألَّا ينتهك الناس حرماته؟! أم كيف يهون عليه حقُّ الله، ولا يُهوِّنه الله على الناس؟! أم كيف يستخفُّ بمعاصي الله، ولا يستخفُّ به الخَلْق؟! [كتاب: الداء والدواء].

 

الإنابة إلى الله:

الإنابة هي عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يُفارِقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبَّتِه، وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله؛ [كتاب: الفوائد].

 

الإنابة: الرجوع إلى الله، وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه، وهي تتضمَّن المحبَّة والخشية، فإن المنيب مُحِبٌّ لمن أناب إليه، خاضِعٌ له، خاشعٌ ذليلٌ، والناسُ في إنابتهم على درجات متفاوتة؛ فمنهم المنيب بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي، وهذه الإنابة مصدرها مطالعة الوعيد، والحامِل عليها العلم والخشية والحذر، ومنهم المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقُرُبات، فهو ساعٍ فيها بجهده، وقد حُبِّب إليه فعل الطاعات وأنواع القُرُبات، وهذه الإنابة مصدرُها الرجاء، ومطالعة الوعد والثواب، ومحبَّة الكرامة من الله، وهؤلاء أبسط نفوسًا من أهل القسم الأول، وأشرح صدورًا، وجانبُ الرجاء ومطالعة الرحمة والمِنَّة أغلبُ عليهم، وإلَّا فكُلُّ واحدٍ من الفريقين منيبٌ بالأمرين جميعًا؛ ولكن خوف هؤلاء اندرج في رجائهم، فأنابوا بالعبادات، ورجاء الأوَّلين اندرج تحت خوفهم، فكانت إنابتهم بترك المخالفات.

 

ومنهم المنيب إلى الله بالتضرُّع، والدعاء، والافتقار إليه، والرغبة، وسؤال الحاجات كلها منه، ومصدر هذه الإنابة: شهود الفضل، والمِنَّة، والغِنى، والكَرَم، والقدرة، فأنزلوا به حوائجهم، وعَلَّقوا به آمالَهم، ومنهم المنيب عند الشدائد والضرَّاء فقط إنابة اضطرار، لا إنابة اختبار؛ كحال الذين قال الله فيهم: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ [الإسراء: 67]، وقوله: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65]؛ [كتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين].

 

الافتقار إلى الله:

قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15] بيَّن سبحانه في هذه الآية أنَّ فقر العباد إليه أمرٌ ذاتيٌّ لهم، لا ينفكُّ عنهم، كما أنَّ كونه غنيًّا حميدًا أمرٌ ذاتيٌّ له، فغِناه وحمده ثابتٌ له لذاته لا لأمر أوجبه...كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

والفقرُ لي وصفُ ذاتٍ لازم أبدًا space.gif
كما الغِنى أبدًا وصف له ذاتي space.gif

 

space.gif
space.gif

الفَقْرُ فقرانِ فقرُ اضطرارٍ، وهو فقر عام لا خروج لبرٍّ ولا فاجرٍ عنه، وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا ولا ثوابًا ولا عقابًا؛ بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ومصنوعًا.

 

والفقر الثاني: فقر اختياري هو نتيجة علمين شريفين: أحدهما معرفة العبد بربِّه، والثاني معرفته بنفسه، فمتى حصلت له هاتانِ المعرفتانِ أنتجا له فقرًا هو عين غِناه، وعنوان فلاحِه وسعادتِه.

 

وتفاوُت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوُتهم في هاتين المعرفتين، فمَنْ عرَف ربَّه بالغِنى المطلق عرَف نفسَه بالفقر المطلق، ومَن عرَف ربَّه بالقدرة التامَّة عرَف نفسَه بالعجز التام، ومَن عرَف ربَّه بالعِزِّ التام عرَف نفسَه بالمسكنة التامَّة، ومَن عرَف ربَّه بالعلم التام والحكمة عرَف نفسَه بالجهل.

 

ومِن ههنا خُذِلَ مَنْ خُذِلَ ووُفِّقَ مَنْ وُفِّقَ، فحُجب المخذول عن حقيقته، وأُنْسِي نفسه، فنسى فقره وحاجته وضرورته إلى ربِّه، فطغى وبغى وعتا، فحقت عليه الشقوة، قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7]، وقال: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل:5-10].

 

فأكْمَلُ الخَلْق أكملُهم عبوديةً، وأعظمُهم شهودًا لفقره وحاجته وضرورته إلى ربِّه وعدم استغنائه عنه طرفة عين؛ ولهذا كان مِن دُعائه صلى الله عليه وسلم: ((أصلِحْ لي شأنِي كلَّه، ولا تكِلْني إلى نَفْسِي طرفةَ عينٍ، ولا إلى أحَدٍ مِن خلقِك)).

 

وكان يدعو ((يا مُقلِّب القلوبِ ثبِّتْ قَلْبي على دِينِك)) يعلم صلى الله عليه وسلم أن قلبه بيد الرحمن عز وجل، لا يملك هو منه شيئًا، وأن الله عز وجل يصرفه كما يشاء، كيف وهو يتلو قول الله عز وجل: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء: 74]؛ ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلةً، وأعظمهم عنده جاهًا، وأرفعهم عنده منزلةً، لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربِّه عزَّ وجل.

 

جملة نعت الفقير حقًّا أنه المتخلي من الدنيا تظرُّفًا، والمتجافي عنها تعفُّفًا، لا يستغني بها تكثُّرًا، ولا يستكثر منها تملُّكًا، وإن كان مالكًا بهذا الشرط لم تضرَّه؛ بل هو فقيرٌ غِناه في فقره، وغنيٌّ فقرُه في غِناه.

 

ومن نعته أنه يعمل على موافقة الله في الصبر والرِّضا والتوكُّل والإنابة، فهو عامل على مراد الله منه لا على موافقة هواه، خاضِعٌ متواضِعٌ، سليم القلب، سَلِس القيادة للحقِّ، سريع القلب إلى ذكر الله، بريءٌ من الدعاوى، لا يدَّعي بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله، زاهِدٌ في كلِّ ما سوى الله، راغبٌ في كلِّ ما يُقرِّب إلى الله، قريبٌ من الناس، أبعدُ شيءٍ منهم، يأنَسُ بما يستوحشون منه، ويستوحش ممَّا يأنسون به، مُتفرِّدٌ في طريق طلبه، لا تُقيِّده الرسوم، ولا تملكه العوائد، ولا يفرح بموجود، ولا يأسَف على مفقود.

 

مَن جالسَه قرَّتْ عينُه به، ومَن رآه ذكَّرته رؤيتُه بالله، قد حمل كلَّه ومؤنته عن الناس، واحتمل أذاهم، وكفَّ أذاه عنهم، وبذل لهم نصيحته، وسبَّل لهم عرضه ونفسه لا معاوضة ولا لذلة وعجز، لا يدخل فيما لا يعنيه، ولا يبخل بما لا ينقصه، وصفه الصدق والعِفَّة والإيثار والتواضُع والحِلْم والوقار والاحتمال، لا يتوقع لما يبذله للناس منهم عِوَضًا، ولا مدحة، لا يعاتب، ولا يخاصم، ولا يطالب، ولا يرى له على أحدٍ حقًّا، ولا يرى له على أحدٍ فضلًا، مقبل على شأنه، مكرم لإخوانه، بخيل بزمانه، حافظ للسانه، مسافر في ليله ونهاره، ويقظته ومنامه، لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إلى مطلبه؛ [كتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين].

 

الغِنى بالله عز وجل:

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس الغِنى عن كثرة العَرَضِ؛ ولكن الغِنى غِنَى النفسِ))، ومتى استغنت النفس استغنى القلب...وفي القلب فاقة عظيمة، وضرورة تامَّة، وحاجة شديدة، لا يسدُّها إلا فوزه بحصول الغِنى الحميد الذي إن حصل للعبد حصل له كُلُّ شيءٍ، وإن فاتَه فاتَه كُلُّ شيء، فكما أنه سبحانه الغنيُّ على الحقيقة ولا غنيَّ سواه، فالغِنى به هو الغِنى في الحقيقة ولا غِنى بغيره البتة، فمن لم يستغنِ به عمَّا سواه تقطَّعَتْ نفسُه على السوى حسرات، ومَن استغنى به زالَتْ عنه كلُّ حسرة، وحضره كُلُّ سرورٍ وفرحٍ، والله المستعان.

 

والغِنى بالحق تبارك وتعالى عن كلِّ ما سواه، وهي أعلى درجات الغِنى، فأول هذه الدرجة: أن تشهد ذِكْرَ الله عز وجل إيَّاك قبل ذِكْرِك له، وأنه تعالى ذَكَرَك فيمن ذكَرَه من مخلوقاته ابتداءً قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدَّر خلقك ورزقك وعملك وإحسانه إليك ونِعَمه عليك حيث لم تكن شيئًا البتة، وذكرك سبحانه بالإسلام فوفَّقك له واختارك له دون مَن خذله، قال تعالى: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الحج: 78]، فجعلك أهلًا لما لم تكن أهلًا له قط؛ وإنما هو الذي أهَّلَك بسابق ذكره، فلولا ذكره لك بكُلِّ جميلٍ أولاكه لم يكن لك إليه سبيل.

 

ومَن الذي ذكَّرك باليقظة، حتى استيقظتَ، وغيرُك في رقدةِ الغفلةِ معَ النوَّام؟! ومَن الذي ذكَّرك سواه بالتوبة حتى وفَّقك لها، وأوقعها في قلبك، وبعث دواعيك عليها، وأحيا عزماتك الصادقة عليها، حتى تُبتَ إليه، وأقبلت عليه، فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذَّتها؟! ومَن الذي ذكَّرك سواه بمحبَّتِه حتى هاجَتْ من قلبك لواعجها، وتوجَّهت نحوه سبحانه ركائبُها، وعمر قلبك بمحبَّتِه بعد طول الخراب، وآنسك بقُرْبه بعد طول الوحشة والاغتراب؟! ومَن تقرَّب إليك حتى تقرَّبْتَ إليه، ثم أثابَكَ على هذا التقرُّب تقرُّبًا آخر، فصار التقرُّب منك محفوفًا بتقرُّبَينِ منه تعالى: تقرُّب قبله، وتقرُّبٍ بعده، والحبُّ منك محفوفًا بحبَّين منه: حبٍّ قبله، وحُبٍّ بعده، والذكر منك محفوفًا بذِكْرين: ذِكْرٍ قبله، وذِكْرٍ بعده.

 

فلولا سابق ذِكْره إياك لم يكن من ذلك كله شيء، ولا وصل إلى قلبك ذرة ممَّا وصل إليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكُّل عليه والإنابة إليه والتقرُّب إليه، فهذه كلها آثاره ذكره لك.

 

ثم إنه سبحانه ذكَّرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأنفاس، فله عليك في كل طرفة عين ونَفَس نِعَمٌ عديدة ذكَّرك بها قبل وجودِك، وتعرَّف بها إليك، وتحبَّب بها إليك، مع غِناه التامِّ عنك وعن كل شيء، وإنما ذلك مُجرَّد إحسانه وفضله وجُوده، وإذا هو الجواد المحسن لذاته، لا معاوضة، ولا لطلب جزاء منك، ولا حاجةٍ دَعَتْه إلى ذلك، كيف وهو الغَني الحميد؟! فإذا وصل إليك أدنى نِعَمه منه، فاعلم أنه ذكَّرَك بها، فلتعظم عندك لذكره لك بها، فإنه ما حقرك مَن ذكَّرك بإحسانه، وابتدأك بمعروفه، وتحبَّب إليك بنِعْمَتِه، هذا كُلُّه مع غِناه عنك.

 

الدرجة الثانية من درجات الغِنى بالله: دوام شهود أوَّليته تعالى...فالعبد إذا فتح الله لقلبه شهود أوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإله الحق الكامل في أسمائه وصفاته، الغني بذاته عما سواه، الحميد المجيد بذاته قبل أن يخلق من يحمده ويعبده ويمجده، فهو معبودٌ محمودٌ حيٌّ قيُّومٌ، له المُلْك، وله الحمدُ في الأزل والأبَدِ، لم يَزَلْ ولا يزال موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، وكل شيء سواه فإنما كان به، وهو تعالى بنفسِه ليس بغيره، فهو القيُّوم الذي قيام كل شيءٍ به، ولا حاجة به في قيُّومته إلى غيره بوجه من الوجوه، فإذا شهد العبدُ سبقَه تعالى بالأولية ودوام وجوده الحق، وغاب بهذا عمَّا سواه من المحدثات.

 

وليس هذا مختصًّا بشهودِ أوَّليته تعالى فقط؛ بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الربِّ جَلَّ جلالُه يُستغنى بها بقَدْرِ حظِّه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها.

 

الدرجة الثالثة من درجات الغِنى بالربِّ جَلَّ جلالُه: الفوز بوجوده: هذا الغنى أعلى درجات الغِنى....فمَنْ طلب الله بصِدْق وَجَدَه، ومَن وَجَدَه أغناه وجودُه عن كلِّ شيءٍ...ومَن وَصَل إلى هذا الغِنى قرَّت به كلُّ عين؛ لأنه قرَّت عينُه بالله والفوز بوجوده، ومَن لم يصل إليه تقطَّعَت نفسُه على الدنيا حسرات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن أصبحَ والدنيا أكبرُ همِّه جعل اللهُ فقرَهُ بين عينيه، وشتَّت عليه شملهُ، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما قُدِّر له، ومن أصبحَ والآخرة أكبرُ همِّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شَمْلَه، وأتَتْهُ الدُّنْيا وهي راغمة...)).

 

فهذا هو الفقر الحقيقي والغِنى الحقيقي، وإذا كان هذا غِنى مَنْ كانت الآخرةُ أكبرَ همِّه، فكيف من كان الله عز وجل أكبر همِّه، فهذا من باب التنبيه والأولى؛ [كتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين].

 

مراقبة الله جل جلاله:

السكينة فعيلة من السكون، وهو طمأنينة القلب واستقراره، وأصلها في القلب، ويظهر أثرُها على الجوارح.

 

وثمرة هذه السكينة: الطمأنينة للخير تصديقًا وإيقانًا، وللأمر تسليمًا وإذعانًا، فلا تدع شبهةً تعارض الخير، ولا إرادةً تعارض الأمر؛ بل لا تمر معارضات السوء بالقلب إلا وهي مجتازة مرور الوساوس الشيطانية التي يُبْتلى بها العبد؛ ليقوى إيمانُه، ويعلو عند الله ميزانه، بمدافعتها وردِّها وعدم السكون إليها، فلا يظُن المؤمن أنها لنقص درجته عند الله.

 

وأسبابها الجالبة لها: استيلاء مراقبة العبد لربِّه عز وجل حتى كأنه يراه، وكلما اشتدت هذه المراقبة أوجبت له من الحياء، والسكينة، والمحبة، والخضوع، والخشوع، والخوف والرجاء ما لا يحصل بدونها، فالمراقبةُ أساسُ الأعمال القلبية كلِّها، وعمودُها الذي قيامها به؛ [كتاب: أعلام الموقِّعين عن ربِّ العالمين].

 

عدم الأمن مِن مَكْر الله جل وعلا:

الذي يخافه العارفون بالله من مكره: أن يؤخِّر عنهم عذاب الأفعال، فيحصل منهم نوع اغترارٍ، فيأنسوا بالذُّنوب، فيجيئهم العذاب على غِرَّةٍ وفترة.

 

وأمر آخر: وهو أن يغفلوا عنه وينسوا ذكره، فيتخلَّى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته فيُسرِع إليهم البلاءُ والفتنةُ، فيكون مكرُه بهم تخلِّيه عنهم، وأمرٌ آخرُ: أن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما لا يعلمونه من نفوسهم، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون، وأمر آخرُ: أن يمتحنهم ويبتليهم بما لا صبر لهم عليه، فيُفتنون به، وذلك مكر؛ [كتاب: الفوائد].

 

حُسْن الظنِّ بالله عز وجل:

حُسْن الظَّنِّ يكون مع الإحسان، فإن المحسن حسن الظن بربِّه أنه يُجازيه على إحسانه، ولا يخلف وعده، ويقبل توبته، وأما المُسيء المُصِرُّ على الكبائر والظلم فإن وحشة المعاصي والظلم والإجرام تمنعه من حسن الظَّنِّ بربِّه.

 

وحسن الظن ينفع من تاب، وندم، وأقلع، وبدل السيئة الحسنة، واستقبل بقيَّة عمره بالخير والطاعة... فحسن الظَّنِّ إن حمل على العمل، وحثَّ عليه، وساق إليه، فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور.

 

كثير من الجُهَّال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه، وضيعوا أمرَه ونهيَه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين.

 

وربَّما اتَّكَل بعضُ المغترين على ما يرى مِن نِعَم الله عليه في الدنيا، وأنه لا يغيَّر به، ويظن أن ذلك من محبَّة الله له...وهذا من الغرور، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتَ اللهَ عز وجل يُعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبُّ، فإنما هو استدراج، ثم تلا: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44].

 

أحسن الناس ظنًّا بربِّه أطوعهم له... وكلما حَسُن ظنُّه حَسُن عملُه؛ [كتاب: الداء والدواء].

 
 


 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

 

فالقلب مضغة صغيرة؛ لكنها مؤثرة في جميع حواسِّ الإنسان وجوارحه، فإن كان القلب سليمًا فلن يتكلم اللسان إلا بخير، ولن تسمع الأُذُن إلا ما ينفع، ولن تشاهد العين ما يُغضِب الله عز وجل، ولن تمشيَ القدمانِ إلى أماكن تُنتهَك فيها محارمُ الله، ولن تبطش اليدانِ إلَّا في سبيل الله.

 

 

 

ولطبيب القلوب العلامة ابن القيم رحمه الله دُرَرٌ نفيسة عن القلب، بثَّها في العديد من مصنفاته، وقد يَسَّر الله الكريم فجمعتُ بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.

 

 

 

القلب الطاهر:

 

قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 1 - 4]، وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب ها هنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأخلاق والأعمال.

 

 

 

القلب الطاهر-لكمال حياته ونوره وتخلُّصه من الأدران والخبائث- لا يشبع من القرآن، ولا يتغذَّى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذي لم يُطهِّرْه الله، فإنه يتغذَّى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة.

 

 

 

حرم الله سبحانه الجنة على مَنْ في قلبه نجاسة وخبث، ولا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره، فإنها دار الطيبين؛ ولهذا يُقال لهم: ﴿ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73]؛ أي: ادخلوها بسبب طيبكم...فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا مَن فيه شيء من الخبث.

 

 

 

الله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يدخل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفًا على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا طيب طاهر، فهما طهارتان: طهارة البدن، وطهارة القلب.

 

 

 

برُّ القلب وفجوره:

 

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار: 13] إشارة هذه الآية أن برَّ القلب يُوجب نعيم الدنيا، ﴿ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 14] إشارة هذه الآية أن فجوره يوجب جحيمها؛ [كتاب: الكلام على مسألة السماع].

 

 

 

استقامة القلب:

 

استقامة القلب بشيئين:

 

أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدَّم عنده على جميع المحابِّ، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره، سبق حُبُّ الله تعالى حُبَّ ما سواه...وما أسهلَ هذا بالدعوى! وما أصعبَه بالفعل! وما أكثر ما يُقدم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبُّه كبيره أو شيخه أو أهله على ما يحبُّه الله تعالى! فهذا لم تتقدَّم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحابِّ، وسنة الله تعالى فيمن هذا شأنه أن يُنكد عليه محابه ويُنغصها عليه، فلا ينال شيئًا منها إلا بنكد وتنغيص، جزاءً له على إيثاره هواه وهوى مَن يُعظِّمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى...قد قضى الله عز وجل قضاءً لا يُردُّ ولا يُدفَع، أنَّ مَن أحبَّ شيئًا سواه عذَّبَه به ولا بُدَّ، وأن مَن خاف غيره سلَّطه عليه، وأن مَن اشتغل بشيء غيره كان شؤمًا عليه، ومَن آثر غيره لم يُبارِك له فيه، ومَن أرضى غيرَه بسخطه أسخطه عليه ولا بُدَّ.

 

 

 

الأمر الثاني الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنهي وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي...فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعيُنِهم، وخشية العقوبات الدنيوية...فهذا ليس فعله وتركه صادرًا عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي؛ [كتاب: الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب].

 

 

 

القلوب ثلاثة:

 

قلب خالٍ من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مُظلم، قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه بيتًا ووطنًا، وتحكَّم فيه بما يريد، وتمكَّن منه غاية التمكُّن.

 

 

 

القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان وأوقد فيه مصباحه؛ لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية، فللشيطان هناك إقبال وإدبار، ومحاولات ومطامع، فالحرب دُول وسِجال، وتختلف أحوال هذا الصِّنْف بالقلة والكثرة، فمنهم من أوقات غلبته لعدوِّه أكثر، ومنهم من أوقات غلبة عدوِّه له أكثر، ومنهم مَن هو تارة وتارة.

 

 

 

القلب الثالث: قلب محشوٌّ بالإيمان، قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حُجُب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في قلبه إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد، لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حُرسِت بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان ليتخطَّاها رُجِم فاحترق، وقد مُثِّل ذلك بمثال حسن وهو ثلاثة بيوت: بيت للملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره، وبيت للعبد فيه كنوز العبد وذخائره وجواهره، وليس فيه جواهر الملك وذخائره، وبيت خالٍ صفر لا شيء فيه، فجاء اللص ليسرق من أحد البيوت، فمن أيها يسرق؟ فإن قلت: من البيت الخالي، كان محالًا؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يُسرَق، وإن قلت: يسرق من بيت الملك، كان ذلك كالمستحيل الممتنع، فإن عليه من الحرس...ما لا يستطيع اللص الدنو منه، كيف وحارسه الملك نفسه؟! فلم يبق للصِّ إلا البيت الثالث، فهو الذي يشُنُّ عليه الغارة.

 

 

 

فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمُّل، ولينزله على القلوب، فإنها على منواله؛ [كتاب: الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب].

 

 

 

وقال رحمه الله: انقسام القلوب إلى صحيح وسقيمٍ وميت: القلب الصحيح هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلَّا مَن أتى الله به...وهو الذي قد سلم من كل شهوة تُخالِف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله.

 

 

 

القلب الصحيح: هو الذي هَمُّه كله في الله، حبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابِّه.

 

القلب الثاني: الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربَّه، ولا يعبده بأمره، وما يحبُّه ويرضاه؛ بل هو واقف مع شهواته ولذَّاته، ولو كان فيها سخط ربِّه وغضبه.... الهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائسه، والغفلة مركبه...الدنيا تسخطه وترضيه.

 

القلب الثالث: له حياة وبه علة، فله مادتان تمده، هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لِما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكُّل عليه ما هو مادة حياته، وفيه من محبَّة الشهوات والحسد والكِبْر والعُجْب...ما هو مادة هلاكه؛ [كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].

 

 

 

الطرق التي يُصاب منها القلب:

 

جماع الطرق والأبواب التي يصاب منها القلب وجنوده أربعة، فمن ضبطها وعدلها، وأصلح مجاريها، وصرفها في محالها اللائقة بها - ضبطت وحفظت جوارحه ولم يشمت به عدوُّه؛ وهي: الحرص والشهوة والغضب والحسد.

 

 

 

فهذه الأربعة هي أصول مجامع طرق الشر والخير، وكما هي طرق إلى العذاب السرمدي، فهي طريق إلى النعيم الأبدي؛ [كتاب: التبيان في أيمان القرآن].

 

 

 

صدأُ القلب، وجلاؤه:

 

وصدأُ القلب بأمرين: بالغفلة، والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر، فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبًا على قلبه، وصدؤه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل؛ لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم، فلم تظهر فيه صور الحقائق كما هي عليه.

 

 

 

فإذا تراكم عليه الصدأ واسودَّ، وركبه الرانُ، فسد تصوُّره وإدراكه، فلا يقبل حقًّا، ولا ينكر باطلًا، وهذا أعظم عقوبات القلب، وأصل ذلك من الغفلة، واتِّباع الهوى، فإنهما يطمسان نور القلب، ويُعميان بصَرَه، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]؛ [كتاب: الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب].

 

 

 

فرح القلب وابتهاجه:

 

ابتهاج القلب وسروره وفرحه بالله وأسمائه وصفاته وكلامه ورسوله ولقائه أفضلُ ما يعطاه؛ بل هو أجل عطاياه، والفرح في الآخرة بالله ولقائه بحسب الفرح به ومحبَّته في الدنيا، فالفرح بالوصول إلى المحبوب يكون على حسب قوة المحبَّة وضعفها، فهذا شأن فرح القلب.

 

 

 

وله فرح آخر، وهو فرحه بما مَنَّ الله به عليه من معاملته والإخلاص له والتوكُّل عليه والثقة به وخوفه ورجائه، وكلما تمكَّن في ذلك قوي فرحُه وابتهاجه؛ [كتاب: الروح].

 

 

 

القلب المطمئن:

 

قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج والاضطراب عنه، وهذا لا يتأتَّى بشيء سوى ذكر الله البتة، وأما ما عداه فالطمأنينة إليه وبه غرور، والثقة به عجز.

 

 

 

قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا مردَّ له: أن من اطمأنَّ إلى شيء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته، كائنًا مَن كان؛ بل لو اطمأنَّ العبد إلى علمه وحاله وعمله سُلِبه وزايَلَه.

 

 

 

وقد جعل الله سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضًا لسهام البلاء، ليُعلِم عباده وأولياءه أن المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.

 

 

 

وها هنا سِرٌّ لطيفٌ يجب التنبيه عليه والتنبيه له، والتوفيق له بيد من أزِمَّة التوفيق بيديه، وهو أن الله سبحانه جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان كمالًا إن لم يحصل له وإلا فهو في قلق واضطراب وانزعاج بسبب فقد كماله الذي جُعل له مثاله...جَعَلَ كمال القلب ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه وإرادته، ومحبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والشوق إليه، والأنس به، فإذا عدم القلبُ ذلك كان أشد عذابًا واضطرابًا من العين التي فقدت النور الباصر، ومن اللسان الذي فقد قوة الكلام والذوق، ولا سبيل له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه، ولو نال من الدنيا وأسبابها ومن العلوم ما نال، إلا بأن يكون الله وحده هو محبوبه وإلهه ومعبوده وغاية مطلوبه، ويكون هو وحده مستعانه على تحصيل ذلك؛ [كتاب: الروح].

 

 

 

القلب السليم:

 

قال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89] فهذا هو السليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشبهة التي تُوجِب اتِّباع الظن، ومرض الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السليم: الذي سَلِم من هذا وهذا؛ [كتاب: الروح].

 

 

 

وقال رحمه الله: القلب السليم الذي لا ينجو من عذاب الله إلا مَن أتى الله به هو القلب الذي...قد سلَّم لربِّه، وسلَّم لأمره، ولم تبق فيه منازعة لأمره، ولا معارضة لخبره، فهو...لا يريد إلا الله، ولا يفعل إلا ما أمره الله، فالله وحده غايته وأمره وشرعهُ ووسيلته وطريقته، لا تعترضه شبه تحول بينه وبين تصديق خبره؛ لكن لا تمر عليه إلا وهي مُجتازة، تعلم أنه لا قرار لها فيه، ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه، ومتى كان القلب كذلك فهو سليم من الشرك، وسليم من البدع، وسليم من الغي، وسليم من الباطل، وكلُّ الأقوال التي قيلت في تفسيره فذلك ينتظمها؛ [كتاب: مفتاح دار السعادة].

 

 

 

وقال: قد أثنى الله تعالى على خليله بسلامة قلبه فقال: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 83، 84]، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغِلِّ والحقد والحسد والشُّحِّ والكِبْر وحب الدنيا، فهذا القلب السليم في جنة معجَّلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي الجنة يوم المعاد، ولا تتم له سلامتُه مطلقًا حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تُخالِف السُّنَّة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص، وهذه الخمسة حُجُب عن الله وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمَّن أفرادًا لا تنحصر؛ [كتاب الداء والدواء].

 

 

 

القلب الرقيق:

 

رقَّة القلب...ناشئة من صفة الرحمة التي هي كمال، والله إنما يرحم من عباده الرحماء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقَّ الناس قلبًا،... فرقَّةُ القلب رحمة ورأفة.

 

 

 

والقلب...إذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد، وامتلأ مِن محبَّة الله وإجلاله رقَّ وصارت فيه الرأفةُ والرحمةُ، فتراه رقيقًا رحيمًا، رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، يرحم النملة في جُحْرها، والطير في وكْرِها، فضلًا عن بني جنسه، فهذا أقرب القلوب من الله تعالى، قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالعيال.

 

 

 

والله سبحانه إذا أراد أن يرحم عبدًا أسكن في قلبه الرأفة والرحمة، وإذا أراد أن يُعذِّبه نزع من قلبه الرحمة والرأفة، وأبدله بهما الغلظة والقسوة؛ [كتاب: الروح].

 

 

 

أبغض القلوب إلى الله:

 

أبغض القلوب إلى الله: القلب القاسي، قال تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 22]، وقال: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [البقرة: 74]؛ [كتاب: الروح].

 

 

 

عبودية القلب:

 

مَن تأمَّل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال القلب بأعمال الجوارح، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يُميَّزُ المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينهما، وهل يُمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه، وعبودية القلب أعظمُ من عبودية الجوارح وأكبر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت؛ [كتاب: بدائع الفوائد].

 

 

 

خشوع القلب:

 

الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق:

 

إن خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوعُ الجوارح.

 

 

 

وأمَّا خشوع النفاق، فيبدو على الجوارح تصنُّعًا وتكلُّفًا، والقلب غير خاشع، وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يُرى الجسد خاشعًا، والقلب غير خاشع؛ [كتاب: الروح].

 

 

 

القلب القاسي:

 

الجبال أخبر عنها فاطِرُها وبارِيها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت ولتصدَّعَتْ من خشيته، فيا عجبًا من مضغةِ لَحْمٍ أقسى من هذه الجبال! تسمع آيات الله تُتْلى عليها، ويُذكرُ الرب تبارك وتعالى، فلا تلينُ ولا تخشع، ولا تُنيب، فليس بمُستنكر لله عز وجل ولا يخالف حكمته أن يخلق لها نارًا تُذيبها إذا لم تلِن لكلامه وذكر زواجره ومواعظه.

 

 

 

فمن لم يلِن لله في هذه الدنيا قلبه، ولم ينب إليه، ولم يُذبه بحبِّه والبكاء من خشيته، فليتمتع قليلًا، فإن أمامه المُلين الأعظم، وسيُرَدُّ إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم؛ [كتاب: مفتاح دار السعادة].

 

 

 

وقال رحمه الله: ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله.

 

خلقت النار لإذابة القلوب القاسية.

 

إذا قسا القلب قحطت العين.

 

قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة؛ [كتاب: الفوائد].

 

 

 

أمراض القلب:

 

القلب يعترضهُ مرضان يتواردان عليه، إذا استحكما فيه كان هلاكه وموته، وهما: مرض الشهوات، ومرض الشبهات، وهذان أصلُ داء الخلق إلَّا مَن عافاه الله.

 

 

 

وقد ذكر الله تعالى هذين المرضين في كتابه: أما مرض الشبهات، وهو أصعبهما وأقتلهما للقلب، ففي قوله تعالى في حقِّ المنافقين: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10]، وأمَّا مرض الشهوة، ففي قوله: ﴿ يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ [الأحزاب: 32]؛ أي: لا تَلِنَّ بالكلام فيطمعَ الذي في قلبه فجورٌ وزِنا.

 

 

 

وللقلب أمراض أُخَر مِن: الرياء، الكِبْر، والعُجْب، والحسد، والفخر، والخُيلاء، وحبِّ الرياسة والعلوِّ في الأرض، هذه الأمراض كلُّها متولدة عن الجهل، ودواؤها العلم.

 

 

 

فأمراض القلوب أصعبُ من أمراض الأبدان؛ لأن غاية مرض البدن أن يُفضي بصاحبه إلى الموت، وأمَّا مرضُ القلب فيُفضي بصاحبه إلى الشقاء الأبدي، ولا شفاء لهذا المرض إلا بالعلم؛ ولهذا سمى الله تعالى كتابه شفاءً لأمراض الصدور، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]، فحاجة القلب إلى العلم ليست كالحاجة إلى التنفُّس في الهواء بل أعظم.

 

 

 

وبالجملة، فالعلم للقلب مثل الماء للسَّمك إذا فقده مات؛ [كتاب: مفتاح دار السعادة].

 

 

 

وقال رحمه الله: القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ؛ [كتاب: الروح].

 

 

 

وقال رحمه الله: قد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها؛ بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تُؤلِمه جراحات القبائح، ولا يُوجِعه جهله بالحق وعقائده الباطلة.

 

 

 

القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشُّبْهة أو الشهوة، حيث لا يقدر على دفعهما إذا وردا عليه، والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك، وهو يدفعه بقوَّته وصحَّتِه.

 

 

 

مرض القلب...نوع لا يتألم به صاحبه في الحال...كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات، وهذا النوع هو أعظم النوعين ألمًا؛ ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم...وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض.

 

 

 

كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن، ويشقى بما يشقى به البدن، فكذلك البدن يتألم كثيرًا بما يتألم به القلب، ويُشقيه ما يُشقيه؛ [إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].

 

 

 

العين مرآة للقلب:

 

جعل سبحانه العينين... مرآتين للقلب، يظهر فيهما ما هو مُودَع فيه من الحب والبغض، والخير والشر، والبلادة والفطنة، والزيغ والاستقامة.

 

 

 

فيُستدل بأحوال العين على أحوال القلب، وهو أحد أنواع الفراسة الثلاثة، وهي: فراسة العين والأذن والقلب، فهما- أي: العينان - مرآة لما في القلب...ولذلك يستدل بأحوال العين على أحوال القلب من رضاه وغضبه، وحبه وبغضه، ونفرته وقُربِه؛ [كتاب: التبيان في أيمان القرآن].

 

 

 

غِنى القلب:

 

غِنى القلب: "سلامته من السبب"؛ أي: من الفقر إلى السبب، وشهوده، والاعتماد عليه، والركون إليه، والثقة به، فمن كان معتمدًا على سبب، غنيًّا به، واثقًا به، لم يطلق عليه اسم "الغني"؛ لأنه فقير إلى الوسائط؛ بل لا يُسمَّى صاحبه غنيًّا إلا إذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب، بعد الوقوف على رحمته وتصرُّفه وحسن تدبيره؛ فلذلك يصير صاحبه غنيًّا بتدبير الله عز وجل.

 

 

 

فمن كمُلت له السلامة مِن عِلَّة الأسباب، ومِن عِلَّة المنازعة للحكم، بالاستسلام له، والمسالمة أي بالانقياد لحكمه...حصل الغِنى للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته....ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر، وهو مخاصمة الخَلْق بعد الخلاص من منازعة الربِّ، فإن مخاصمة الخَلْق دليلٌ على فقره إلى الأمر الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومَن كان فقيرًا إلى حظٍّ من الحظوظ يسخط لفوته، ويخاصم الخلق عليه، لا يُطلَق عليه اسم الغني حتى يسلم الخلق من خصومته لكمال تفويضه إلى وليِّه وقيُّومِه ومتولِّي تدبيره.

 

 

 

فمتى سلم العبد مِن عِلَّة فقره إلى السبب، ومِن عِلَّة منازعته لأحكام الله عز وجل، ومِن عِلَّة مخاصمته للخَلْق على حظوظ استحق أن يكون غنيًّا بتدبير مولاه، مفوضًا إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئًا من أحكامه، ولا يُخاصِم عبادَه إلَّا في حقوق ربِّه، فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل: ((اللهُمَّ لك أسلَمْتُ وبِكَ آمنْتُ، وعليكَ توكَّلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ))؛ [كتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين].

 

 

 

القلب الميت المظلم:

 

القلب الميت المظلم الذي لم يعقل عن الله ولا انقاد لما بُعث به رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يصف سبحانه هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها؛ ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم من جميع جهاتهم، فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأعمالهم مظلمة، وأقوالهم مظلمة، وأحوالهم كلها مظلمة، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة؛ [كتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية].

 

 

 

القلب الحي المستنير:

 

القلب الحي المستنير هو الذي عقل عن الله، وفهِم عنه، وأذعن وانقاد لتوحيده ومتابعة ما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ [كتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية].

 

 

 

القلب خُلِق لمعرفة فاطِره ومحبَّتِه وتوحيده والسرور به:

 

القلب خُلِقَ لمعرفة فاطره ومحبَّته وتوحيده والسرور به والابتهاج بحبه، والرِّضا عنه، والتوكُّل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحبَّ إليه من كل ما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، وأجلَّ في قلبه من كل ما سواه؛ [كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد].

 

 

 

القلب الزجاجي:

 

وأصحُّ القلوب: القلب الرقيق الصافي الصلب، فهو يرى الحقَّ من الباطل بصفائه، ويقبله ويؤثره برقته، ويحفظه ويحارب عدوَّه بصلابته، وهذا القلب الزجاجي، فإن الزجاجة جمعت بين الأوصاف الثلاثة؛ [كتاب: الروح].

 

 

 

من أنفع الأمور للقلب:

 

قصر الأمل: العلم بقرب الرحيل، وسرعة انقضاء مدَّة الحياة، وهو من أنفع الأمور للقلب، فإنه يبعثه على...انتهاء الفرص...ويثير ساكن عزماته إلى دار البقاء، ويحثُّه على قضاء جهاز سفره وتدارُك الفارط، ويزهده في الدنيا، ويُرغِّبه في الآخرة؛ [كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين].

 

 

 

حال القلب مع الملك والشيطان:

 

إذا تأمَّلْتَ حال القلب مع الملك والشيطان رأيت أعجب العجائب؛ فهذا يلمُّ به مرةً، وهذا يلمُّ به مرةً، فإذا ألمَّ به الملَكُ حدث من لمته الانفساح والانشراح، والنور والرحمة، والإخلاص والإنابة، ومحبة الله وإيثاره على ما سواه، وقصر الأمل، والتجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور، فلو دامت له تلك الحالة، لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه؛ ولكن تأتيه لَمَّة الشيطان، فتُحدِث له من الضيق والظلمة، والهَمِّ والغَمِّ والخوف، والسخط على المقدور، والشك في الحق، والحرص على الدنيا وعاجلها، والغفلة عن الله ما هو من أعظم عذاب القلب.

 

 

 

ثم للناس في هذه المحنة مراتب لا يُحصيها إلَّا الله عز وجل: فمنهم من تكون لمَّة الملك أغلب عليه من لمَّة الشيطان وأقوى، فإذا ألم به الشيطان وجد من الألم والضيق والحصر وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة القلب، فيُبادر إلى مَحْوِ تلك اللَّمَّة، ولا يدعها تستحكم؛ فيصعب تداركها، ومنهم مَن تكون لَمَّة الشيطان أغلب عليه من لَمَّة الملك وأقوى...فيموت القلب فلا يحس بما ناله الشيطان، مع أنه غاية العذاب والألم والضيق والحصر؛ ولكن سُكْر الشهوة والغفلة حَجَبَ عنه الإحساسَ بذلك المؤلم؛ [كتاب: التبيان في أيمان القرآن].

 

 

 

القلب ومعرفته بأسماء الله عز وجل وصفاته:

 

ليست حاجة الأرواح قطُّ إلى شيءٍ أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبَّته وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه والزُّلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلَّا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبدُ بها أعلم، كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر، كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد.

 

 

 

والله تعالى ينزل العبد من نفسه حيث يُنزلُه العبدُ من نفسه، فمن كان لِذِكر أسمائه وصفاته مُبغضًا، وعنها معرضًا، نافرًا ومنفرًا، فالله له أشدُّ بغضًا، وعنه أعظم إعراضًا، وله أكبرُ مقتًا، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب ذكر الأسماء والصفات قوته وحياتهُ، ونعيمه وقُرة عينه، لو فارقه ذكرها ومحبتها ساعة لاستغاث: ((يا مُقلِّبَ القلوبِ، ثَبِّتْ قلبي على دينك))، والقلب الثاني: قلب مضروب بسياط الجهالة، فهو عن معرفة ربِّه ومحبَّته مصدود، وطريق معرفة أسمائه وصفاته كما أُنزلت عليه مسدود، قد قمَّشَ شُبهًا من الكلام الباطل، وارتوى من ماءٍ آجن غير طائل، تعجُّ منه آياتُ الصفات وأحاديثها إلى الله عجيجًا، وتضجُّ منه إلى مُنزلها ضجيجًا ممَّا يُسمُّونه تحريفًا وتعطيلًا، مُزجى البضاعة من العلم النافع الموروث عن خاتم الرسل والأنبياء؛ لكنه مليء بالشكوك والشُّبَه والجِدال؛ [كتاب: الكافية الشافعية في الانتصار للفرقة الناجية].

 

 

 

قلب العاصي:

 

لو فتَّش العاصي عن قلبه لوجد حشوه المخاوف والانزعاج والقلق والاضطراب؛ وإنما يواري عنه شهودَ ذلك سُكْرُ الغفلة والشهوة، فإن للشهوة سُكرًا يزيد على سكر الخمر، وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب؛ ولهذا ترى العاشق والغضبان يفعل ما لا يفعله شارب الخمر؛ [كتاب: الروح].

 

 

 

القرآن شفاء لأمراض القلب:

 

أنفع الأغذية: غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية: دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: 57]، وجماع أمراض القلب...أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين... ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه.

 

 

 

القرآن...شفاؤه لمرض الشهوات...بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة، بالترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده.

 

 

 

القرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة، فيصلح القلب، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فُطِرَ عليها، فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية... فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يُزكِّيه ويُقوِّيه، ويُؤيِّده ويُفرحُه، ويسُرُّه ويُنشِّطه؛ [كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].

 

 

 

زكاة القلب:

 

القلب إذا تخلَّص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلَّصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة، زكا ونما، وقوي واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له وأطاعت.

 

 

 

القلب لا سبيل له إلى زكاته إلَّا بعد طهارته كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30]، فجعل الزكاة بعد غضِّ البصر وحفظ الفرج؛ [إغاثة اللهفان].

 

 

 

من علامات صحة القلب:

 

كلما صحَّ القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة، وقرب منها، حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.

 

 

 

من علامات صحة القلب: ألَّا يفتر عن ذكر ربِّه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويُذكر به، ويذاكره بهذا الأمر...وإذا فاته وِرْده وجد لفواته ألمًا أعظم من تألُّم الحريص بفوات ماله وفقده.

 

 

 

ومن علامات صحة القلب: أنه لا يزال يضرب على صاحبه، حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلَّق به تعلُّق المحبِّ المضطرِّ إلى محبوبه؛ لذا لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برِضاه وقُرْبه والأُنْس به.

 

 

 

ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همُّه وغمُّه بالدنيا، واشتدَّ عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقُرة عينه وسرور قلبه.

 

 

 

ومنها: أن يكون أشحَّ بوقته أن يذهب ضائعًا من أشد الناس شُحًّا بماله.

 

 

 

ومنها: أن يكون اهتمامُه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك مِنَّة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله؛ [كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].

 

 

 

وفي الختام يقول طبيب القلوب العلامة ابن القيم رحمه الله: القلب يمرضُ كما يمرض البدن، وشفاؤهُ في التوبة والحمية، ويصدأُ كما تصدأ المرآةُ وجلاؤهُ الذكر، ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوعُ ويظمأُ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفةُ والمحبة والتوكل والإنابة والخدمةُ؛ [كتاب: الفوائد].

 
شبكة الالوكة

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

 

فمن علماء السلف المتقدمين الذين لهم باع في التصنيف في مختلف الفنون: العلامة ابن القيم رحمه الله، وتتميز مصنفاته بعددٍ من المميزات؛ منها: حصره لأسباب الشيء، أو فوائده، أو مراتبه، أو أنواعه، ونحو ذلك، في عدد معين: ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، عشرة...إلخ، مما يجعله يرسخ في الذهن، ويسهل تذكره واسترجاعه.

 

 

 

وقد يسَّر الله الكريم لي فجمعتُ بعضًا من المسائل التي حصرها في عشرة، وقد ذكرت في نهاية كل مسألة، اسم الكتاب الذي نقلتُ منها بالجزء والصفحة، مع ملاحظة أن جميع الإحالات على طبعة مجمع الفقه الإسلامي، ما عدا كتاب "زاد المعاد"، فعلى الطبعة الرابعة عشرة لمؤسسة الرسالة بلبنان، هذا وأسأل الله الكريم أن ينفع الجميع بها.

 

 

 

الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها:

 

أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أُريد به.

 

الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.

 

الثالث: دوام ذكره على كل حالٍ: باللسان والقلب، والعمل، والحال.

 

الرابع: إيثار محابِّه على محابِّك عند غلبات الهوى.

 

الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها.

 

السادس: مشاهدة بِره وإحسانه وآلائه ونِعمه الباطنة والظاهرة.

 

السابع: وهو من أعجبها، انكسار القلب بين يديه.

 

الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه.

 

التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرت كلماتهم.

 

العاشر: مباعدة كل سببٍ يحول بين القلب وبين الله عز وجل؛ [مدارج السالكين:3/381].

 

 

 

أسباب تمحو الذنوب:

 

التوبة النصوح.

 

الاستغفار.

 

الحسنات الماحية.

 

المصائب المكفِّرة.

 

دعاء المسلمين لهم في حياتهم وبعد موتهم.

 

الامتحان في البرزخ.

 

وفي موقف القيامة.

 

شفاعة من يأذن الله له في الشفاعة.

 

صدق التوحيد.

 

رحمة أرحم الراحمين.

 

فهذه عشرة أسباب تمحو أثر الذنوب.

 

[إعلام الموقعين:3/212].

 

 

 

مراتب الجود:

 

إحداها: الجود بالنفس، وهو أعلى المراتب.

 

الثانية: الجود بالرئاسة... والإيثار في قضاء حاجة الملتمس.

 

الثالثة: الجود بالعلم وبذله، وهو أعلى مرتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال؛ لأن العلم أشرف من المال.

 

الرابعة: الجود بالنفع بالجاه؛ كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه.

 

الخامسة: الجود بالصبر والاحتمال والإغضاء، وهذه مرتبة شريفة من مراتبه... ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار.

 

السادسة: الجود براحته ورفاهيته وإجمام نفسه، فيجود بها نصبًا وكدًّا في مصلحة غيره.

 

السابعة: الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه.

 

الثامنة: الجود بالعرض؛ كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنه، كان إذا أصبح قال: اللهم إنه لا مال لي فأتصدق به الناس، وقد تصدَّقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهم في حلٍّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم)، وفي هذا الجود من سلامة الصدر، وراحة القلب، والتخلص من معاداة الخلق.

 

التاسعة: الجود بالخُلُق والبشر والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر والاحتمال والعفو، وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان... والعبد لا يمكنه أن يسعَ الناس بماله، ويُمكنُه أن يسعهم بخُلقه واحتماله.

 

العاشرة: الجود بترفيه ما في أيدي الناس عليهم، فلا يلتفت إليه، ولا يتشرف له بقلبه، ولا يتعرض له بحاله ولا لسانه؛ [مدارج السالكين:3/6].

 

 

 

أشياء ضائعة لا ينتفع بها:

 

علم لا يُعمل به.

 

عمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء.

 

مال لا ينفق منه فلا يستمتع به جامعه في الدنيا، ولا يقدمه أمامه إلى الآخرة.

 

قلب فارغ من محبة الله، والشوق إليه، والأنس به.

 

بدن معطل من طاعته وخدمته.

 

محبة لا تتقيدُ برضا المحبوب، وامتثال أوامره.

 

وقت معطل عن استدراك فارط، أو اغتنام بر وقُربة.

 

فكر يجول فيما لا ينفع.

 

خدمة من لا تُقربك خدمتهُ إلى الله ولا تعود عليك بصلاح دنياك.

 

خوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله وهو أسير في قبضته، ولا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.

 

وأعظم هذه الإضاعات إضاعتان هُما أصل كل إضاعةٍ: إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد كلُّه في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاحُ كلُّه في اتباع الهدى والاستعداد للقاء؛ [ الفوائد:162].

 

 

 

أشياء يؤذي انحباسها ومدافعتها:

 

الدم إذا هاج، والمني إذا تبيَّغ.

 

والبول، والغائط، والريح، والقيء، والعطاس، والنوم، والجوع، والعطش.

 

وكل واحد من هذه العشرة يُوجب حبسهُ داء من الأدواء بحسبه؛ [زاد المعاد:4/7].

 

 

 

فوائد غضِّ البصر:

 

أحدُها: تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته، فأضرُّ شيءٍ على القلب إرسال البصر، فإنه يُريه ما يشتدُّ طلبُه، ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه.

 

الفائدة الثانية: أنه يورث القلب نورًا، وإشراقًا في العين، وفي الوجه والجوارح.

 

الفائدة الثالثة: أنَّه يُورث صحة الفراسة، فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب صحت الفراسة؛ لأنه يصيرُ بمنزلة المرآة التي تظهرُ فيها المعلوماتُ كما هي.

 

الفائدة الرابعة: أن يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب.

 

الفائدة الخامسة: أنَّه يُورث قُوَّة القلب، وثباته، وشجاعته.

 

الفائدة السادسة: أنه يُورث القلب سرورًا، وفرحةً، وانشراحًا أعظم من اللذَّة والسرور الحاصل بالنظر، وذلك لقهره عدوه بمخالفته، ومخالفة نفسه وهواه.

 

الفائدة السابعة: يخُلِّصُ القلبَ من أسر الشَّهوة، فإن الأسير هو أسيرُ شهوته وهواه.

 

الفائدة الثامنة: أنَّه يسدُّ عنه بابًا من أبواب جهنم، فإن النظر بابُ الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل.

 

الفائدة التاسعة: أنه يقوِّي عقله، ويزيده، ويثبته.

 

الفائدة العاشرة: أنه يخُلِّص القلب من سُكر الشَّهوة، ورَقْدة الغفلة، فإن إطلاق البصر يُوجب استحكام الغفلة عن الله، والدار الآخرة، ويوقع في سكر العشق.

 

وفوائد غضِّ البصر وآفات إرساله أضعافُ أضعاف ما ذكرنا، وإنما نبهنا عليها تنبيهًا؛ [روضة المحبين:153]، وذكر عشر فوائد في [الداء والدواء:415].

 

 

 

فوائد إخفاء الدعاء:

 

وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:

 

أحدها: أنه أعظم إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمعُ دعاءه الخفيَّ.

 

ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم، ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تُسألُ برفع الأصوات، وإنما تخفض عندهم الأصوات، ويخفى عندهم الكلام بمقدار ما يسمعوه.

 

ثالثها: أنه أبلغُ في التضرع والخُشوع الذي هو رُوح الدعاء ولُبُّهُ ومقصوده.

 

رابعها: أنه أبلغُ في الإخلاص.

 

خامسها: أنه أبلغُ في جمعية القلب على الله تعالى في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه.

 

سادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدًّا، أنه دال على قرب صاحبه من الله، فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.

 

سابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يملُّ والجوارح لا تتعب.

 

ثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد من القواطع والمشوشات والمضعفات، فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد... وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية والخبيثة من الجن والإنس، فشوَّشت عليه ولا بد، ومانعته وعارضته.

 

تاسعها: أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه، والتبتلُ إليه، ولكل نعمة حاسد على قدرها دقَّت أو جلَّت، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة... وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد.

 

عاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، فهو ذكر وزيادة، وقد قال تعالى: ﴿ وَاذكُر رَبَّكَ في نَفسِكَ تَضَرُّعًا وَخيفَةً وَدونَ الجَهرِ مِنَ القَولِ ﴾ [الأعراف/205]، فأمر نبيه أن يذكره في نفسه؛ [بدائع الفوائد:3/842].

 

 

 

أنواع البكاء:

 

البكاء أنواع:

 

أحدها: بكاء الرحمة، والرقة.

 

الثاني: بكاء الخوف والخشية.

 

الثالث: بكاء المحبة والشوق.

 

الرابع: بكاء الفرح والسرور.

 

الخامس: بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله.

 

السادس: بكاء الحزن.

 

والفرق بينه وبين بكاء الخوف، أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه، أو فوات محبوب، وبكاء الخوف يكون لِما يتوقع في المستقبل من ذلك.

 

والفرق بين بكاء السرور والفرح، وبين بكاء الحزن، أن دمعة السرور باردة، والقلب فرحان، ودمعة الحزن حارة، والقلب حزين.

 

السابع: بكاء الخَور والضَّعف.

 

الثامن: بكاء النفاق، وهو أن تدمع العين، والقلب قاسٍ، فيُظهر صاحبهُ الخشوع، وهو من أقسى الناس قلبًا.

 

التاسع: البكاء المستعار والمستأجر عليه، كبكاء النائحة بالأجرة.

 

العاشر: بكاء الموافقة، وهو أن يرى الرجُلُ الناس يبكون لأمر ورد عليهم، فيبكي معهم، ولا يدري لأي شيء يبكون، ولكن يراهم يبكون فيبكي؛ [زاد المعاد 1/184].

 

 

 

حروز يستدفع بها شر الشيطان:

 

أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان، قال تعالى:﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت:36].

 

الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين [الفلق، والناس].

 

الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي.

 

الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة.

 

الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة.

 

الحرز السابع: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) مائة مرة.

 

الحرز الثامن: وهو من أنفع الحروز من الشيطان، وهو كثرة ذكر الله عز وجل.

 

الحرز التاسع: الوضوء والصلاة، وهذا من أعظم ما يتحرز به منه، ولا سيما عند ثوران قوة الغضب والشهوة... فإنها نار والوضوء يُطفئُها، والصلاة إذا وقعت بخشوعها... أذهبت ذلك كله، وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه.

 

الحرز العاشر: إمساك فضول النظر، والكلام، والطعام، ومخالطة الناس، فإن الشيطان إنما يتسلط على آبن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة؛ [بدائع الفوائد:2/809].

 

 

 

ملحوظة: الحرز السادس: ذكر فيه قراءة أول سورة "حم" إلى الآية الثالثة مع قراءة آية الكرسي، لحديث عند الترمذي، في سنده عبدالرحمن بن أبي بكر المليكي، قال الإمام الترمذي: "هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم في عبدالرحمن بن أبي مليكة المُلكي من قبل حفظه".

 

وقد ضعف الحديث العلامة الألباني برقم (544) في ضعيف الترمذي.

 

 

 

أسباب يندفعُ بها شر الحاسد عن المحسود:

 

أحدها: التعوذ بالله تعالى من شره، والتحصن به، واللجأ إليه.

 

السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، فمن اتقى الله تولى الله حفظه.

 

السبب الثالث: الصبر على عدوه، وألا يقابله ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلًا، فما نُصِرَ على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه.

 

السبب الرابع: التوكل على الله، فـ ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفعُ بها العبد ما لا يُطيقُ من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، فإن الله كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه، فلا مطمع فيه لعدو.

 

السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به، والفكر فيه، فإذا خطر بباله بادَر إلى محو ذلك الخاطر، والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به، وهذا باب عظيم النفع، لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العلية.

 

السبب السادس: الإقبال على الله والإخلاص له، فما سعادة من دخل في هذا الحصن.

 

السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطن عليه أعداءَه... فما سُلِّط على العبد من يؤذيه إلا بذنبٍ يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبدُ من ذنوبه أضعافُ ما يعلمه منها، وما ينساه مما عمله وعلمه أضعاف ما يذكره، فليس للعبد إذا بُغي عليه وأُوذي، وتسلَّط عيه خصومُه، شيءٌ أنفعُ له من التوبة النصوح، وعلامة سعادته أن يعكس فِكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها، والله يتولى نُصرتهُ وحفظه والدفع عنه ولا بُدَّ، فما أسعده من عبدٍ، وما أبركها من نازلة نزلت به، وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع، فما كلُّ أحد يُوفَّقُ لهذا.

 

السبب الثامن: وهو من أصعب الأشياء على النفس وأشقِّها عليها، ولا يوفَّق له إلا من عظُم حظُّه من الله وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذًى وشرًّا وبغيًا وحسدًا، ازدادت إليه إحسانًا وله نصيحة وعليه شفقة.

 

واسمع ما الذي يُسهِّل هذا على النفس، ويُطيبه لها وينعمها به: اعلم أن لك ذنوبًا بينك وبين الله تخافُ عواقبها، وترجوه أن يعفو عنها، ويغفرها لك، ويهبها لك، ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة، حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تُؤمله، فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابلك به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقهُ وتقابل به إساءتهم، ليعاملك الله هذه المعاملة، فإن الجزاء من جنس العمل.

 

السبب التاسع: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، ودفع العين، وشر الحاسد.

 

السبب العاشر: تجريد التوحيد والتَّرحُّل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه آلات بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها، لا تضرُّ ولا تنفعُ إلا بإذنه، فهو الذي يمسُّ عبده بها؛ قال تعالى: ﴿ وَإِن يَمسَسكَ اللَّـهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلّا هُوَ وَإِن يُرِدكَ بِخَيرٍ فَلا رادَّ لِفَضلِهِ ﴾ [يونس/107]، فإذا جرد العبدُ التوحيد، فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى، والله يتولى حفظه والدفع عنه، فإن الله يدفع عن الذين آمنوا، وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه، فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع، وإن مزج مُزج له؛ [بدائع الفوائد:2/764].

 

 

 

أسباب الصبر على المعصية:

 

الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:

 

أحدها: علمُ العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانةً لعبده وحمايةً عن الدنايا والرذائل، كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره، وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلَّق عليها وعيدٌ بالعذاب.

 

السبب الثاني: الحياء من الله عز وجل، فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه، وأنه بمرأى منه ومستمع، وكان حيًّا حييًّا، استحيا من ربه أن يتعرض لمساخطه.

 

السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنبًا إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصر لم ترجع إليه.

 

السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده، والإيمان به وبكتابه ورسوله، وهذا السبب يَقْوى بالعلم واليقين، ويضعف بضعفهما؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28].

 

السبب الخامس: قِصَرُ الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، فهو حريص على ترك ما يضره.

 

السبب السادس: محبة الله سبحانه، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحبَّ لمن يحب مطيع، وكلما قوى سلطان المحبة في القلب، كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها.

 

السبب السابع: شرف النفس وزكاؤها وفضلها، وأنفتهُا وحميتها - أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتُحقرها، وتسوي بينها وبين السفلة.

 

السب الثامن: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية، وقبح أثرها، والضر الناشئ منها، من سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمه وحزنه وألمه، وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوه... إلخ.

 

السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس... ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد بطالته وفراغه.

 

السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها، وهو: ثبات شجرة الإيمان في القلب فصبر العبد على المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه؛ [طريق الهجرتين:2/588].

 

 

 

أسباب الصبر على البلاء:

 

الصبر على البلاء ينشأ من أسباب عديدة:

 

أحدها: شهود جزائها وثوابها.

 

الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.

 

الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن تخلق، فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاء.

 

الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها، وهو الصبر بلا خلاف بين الأمة... فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلا بد له منه، وإلا تضاعفت عليه.

 

الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في رفع تلك المصيبة.

 

السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه.

 

السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيَّأه بتسخُّطه وشكواه، فيذهب نفعه باطلًا.

 

الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لا يحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهية هذا الدواء ومرارته، فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره؛ قال الله تعالى: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216].

 

التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه... فإن ثبت اصطفاه واجتباه... وجعل أولياءه وحزبه خدمًا له وعونًا له، وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرِدَ... وتضاعفت عليه المصيبة، وهو لا يشعر.

 

العاشر: أن يعلم أن سبحانه يربِّي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته.

 

فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر، فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنِّه وكرمه؛ [طريق الهجرتين وباب السعادتين:2/600].

 

 

 

مشاهد تعين العبد على الصبر فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه:

 

ها هنا للعبد عشرة مشاهد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه:

 

أحدها: أن ما جرى الله بمشيئة الله وقضائه وقدره... وإذا شهد هذا استراح.

 

المشهد الثاني: مشهد الصبر، فيشهد وجوبه، وحسن عاقبته، وجزاء أهله، وما يترتب عليه من الغبطة والسرور، وتخلصه من ندامة المقابلة والانتقام.

 

المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم، فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لغبش في بصيرته، فإنه ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا.

 

المشهد الرابع: مشهد الرضا، وهو فوق مشهد العفو والصفح، وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، سيما إن كان ما أُصيبت به سببه القيام لله.

 

المشهد الخامس: مشهد الإحسان، وهو أرفع مما قبله، وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان، فيُحسن إليه كلما أساء هو إليه، ويُهون عليه هذا علمه بأنه قد ربح عليه، وأنه قد أهدى إليه حسناته، ومحاها من صحيفته، فأثبتها في صحيفة من أساء إليه، فينبغي لك أن تشكره.

 

ويهونه عليك أيضًا: علمك بأن الجزاء من جنس العمل، فإذا كان هذا عملك في إساءة مخلوق إليك عفوت عنه، وأحسنت إليه، مع حاجتك وضعفك وفقرك وذُلِّك، فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك، يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك.

 

المشهد السادس: مشهد السلامة وبرِّ القلب، وهذا مشهد شريف لمن عرفه وذاق حلاوته... فإن القلب إذا اشتغل بشيءٍ فاته ما أهم عنده وخير له منه، فيكون مغبونًا، والرشيد لا يرضى بذلك، ويراه من تصرفات السفيه.

 

المشهد السابع: مشهد الأمن، فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام أَمِنَ ما هو شر من ذلك، وإذا انتقم واقعة الخوف ولا بد... والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيرًا، فكم من حقيرٍ أردى عدوه الكبير.

 

المشهد الثامن: مشهد الجهاد، وهو أن يشهد تولد أذى الناس له عن جهاده في سبيل الله، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن، فإن أراد أن يُسلم إليه الثمن، فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها، فلا حقَّ له على من آذاه، ولا شيء له قِبَلَه، إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع، فإنه قد وجب أجره على الله.

 

المشهد التاسع: مشهد النعمة، وذلك من وجوه:

 

أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه أن جعله مظلومًا يرتقب النصر، ولم يجعله ظالِمًا يرتقب المقت والأخذ، فلو خيِّر العاقل بين الحالتين - ولا بد من إحداهما - لاختار أن يكون مظلومًا.

 

ومنها: أن يشهد نعمة الله عليه في التكفير من خطاياه... فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك، فلا تنظر إلى كراهة الدواء ومن كان على يديه، وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك، وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته.

 

ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها.

 

ومنها توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة... وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قِبَلَ الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض، فالعاقل يعدُّ ذخرًا ليوم الفقر والفاقة.

 

المشهد العاشر: مشهد الأسوة، وهو مشهد لطيف شريف جدًّا، فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه، فإنهم أشدُّ الناس امتحانًا بالناس.

 

المشهد الحادي عشر: وهو أجل المشاهد وأرفعها: مشهد التوحيد، فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله تعالى، والإخلاص له ومعاملته، وإيثار مرضاته، والتقرب إليه، وقرت عينه بالله، وابتهج قلبه بحبه والأنس به، واطمأن إليه، وسكن إليه، واشتاق إلى لقائه، واتخذه وليًّا من دون ما سواه، بحيث فوض إليه أمور كلها، ورضي به وبأقضيته... فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البتةَ، فضلًا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسرُّه بطلب الانتقام والمقابلة؛ [مدارج السالكين:3/51].

 

 

 

ملحوظة: ذكر أنها عشرة، وقد زاد واحدة.

 

أسأل الله الرحيم أن يغفر للعلامة ابن القيم، وأن يجزيه خيرًا عما قدم للإسلام والمسلمين، وأن يجمعنا وإياه في دار كرامته، مع الذين أنعم الله من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

 

فالعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى من العلماء الذين لهم مصنفات نافعة ومفيدة في مواضيع متنوعة؛ منها: ما صنفه في موضوع الصلاة، فله في ذلك كتابان: الأول: الصلاة، والثاني: رفع اليدين في الصلاة، وله مع درر متفرقة عن موضوع الصلاة في سائر كتبه، ولا غرور أن يكثر كلامه رحمه الله عن الصلاة، فقد كان له عناية عملية بها، قال تلميذه الحافظ ابن رجب رحمه الله: وكان رحمه الله تعالى ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى.

 

 

 

وقد يسَّر الله الكريم لي، فجمعت بعضًا مما ذكره عن الصلاة في كتبه، ما عدا كتابيه السابقين، وقد ذكرت اسم كل كتاب نقلت منه، أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع.

 

 

 

كتاب "تهذيب سنن أبي داود"

 

سر افتتاح الصلاة بلفظ "الله أكبر":

 

وفي افتتاح الصلاة بهذا اللفظ- المقصود منه: استحضار هذا المعنى وتصوره- سرٌّ عظيم يعرفه أهل الحضور، المصلون بقلوبهم وأبدانهم، فإن العبد إذا وقف بين يدي الله عز وجل، وقد علم أنه لا شيء أكبر منه، وتحقق قلبه ذلك، وأشربه سره، استحيا من الله، ومنعه وقاره وكبرياؤه أن يشغل قلبه بغيره، وما لم يستحضر هذا المعنى فهو واقف بين يديه بجسمه، وقلبه يهيم في أودية الوساوس والخطرات.

 

 

 

فلو كان الله أكبر من كل شيء في قلب هذا، لما اشتغل عنه، وصرَف كليَّة قلبه إلى غيره، كما أن الواقف بين يدي الملك المخلوق لما لم يكن في قلبه أعظم منه، لم يشغل قلبه بغيره، ولم يصرفه عنه.

 

 

 

كتاب "رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه"

 

 

الصلاة التي تقر بها العين، ويستريح بها القلب:

 

الصلاة التي تقر بها العين، ويستريح بها القلب هي التي تجمع ستة مشاهد:

 

المشهد الأول: الإخلاص؛ وهو أن يكون الحامل عليها والداعي إليها رغبة العبد في الله، ومحبته له، وطلب مرضاته، والقرب منه، والتودد إليه، وامتثال أمره، وخوفًا من عقابه، ورجاءً لمغفرته وثوابه.

 

 

 

المشهد الثاني: مشهد الصدق والنصح؛ وهو أن يفرغ قلبه لله فيها، ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله، وجمع قلبه عليها، وإيقاعها على أحسن الوجوه ظاهرًا وباطنًا.

 

 

 

المشهد الثالث: مشهد المتابعة والاقتداء؛ وهو أن يحرص كل الحرص على الاقتداء في صلاته بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويصلي كما كان يصلي.

 

 

 

المشهد الرابع: مشهد الإحسان؛ أن يعبد الله كأنه يراه، وهو أصل أعمال القلب كلها، فإنه يوجب الحياء، والإجلال، والتعظيم، والخشية، والمحبة، والإنابة، والتوكل، والخضوع لله سبحانه، والذل له، ويقطع الوساوس وحديث النفس، ويجمع القلب والهم على الله.

 

 

 

المشهد الخامس: مشهد المنة؛ وهو أن يشهد أن المنة لله سبحانه، كونه أقامه في هذا المقام وأهله له، ووفَّقه لقيام قلبه وبدنه في خدمته، فلولا الله سبحانه لم يكن شيء من ذلك، وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد، وكلما كان العبد أعظم توحيدًا، كان حظه من هذا المشهد أتم، وفيه من الفوائد أنه يحول بين القلب وبين العجب بالعمل ورؤيته، ومن فوائد أنه يضيف الحمد إلى وليِّه ومستحقه، فلا يشهد لنفسه حمدًا؛ بل يشهده كله لله.

 

 

 

المشهد السادس: مشهد التقصير؛ وهو أن العبد لو اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد، وبذل وسعه فهو مقصِّر، وحقُّ الله سبحانه عليه أعظم.

 

 

 

وإذا شهد العبد من نفسه أنه لم يوفِّ ربه في عبوديته حقه، ولا قريبًا من حقه، علِم تقصيره، ولم يَسعه مع ذلك غير الاستغفار والاعتذار من تقصيره وتفريطه، وعدم القيام بما ينبغي له من حقه.

 

 

 

كتاب "الكلام على مسألة السماع"

 

 

الصلاة قرة عين المحبين ولذة أرواح الموحدين:

 

لا ريب أن الصلاة قرة عين المحبين، ولذة أرواح الموحدين، ومحكُّ أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمته المهداة إلى عبيده، هداهم إليها، وعرفهم بها؛ رحمةً بهم، وإكرامًا لهم؛ لينالوا بها شرف كرامته، والفوز بقربه، لا حاجة منه إليهم؛ بل منَّة منه وفضلًا منه عليهم، وتعبد بها القلب والجوارح جميعًا، وجعل حظ القلب منها أكمل الحظين وأعظمهما، وهو إقباله على ربه سبحانه، وفرحه وتلذذه بقربه، وتنعمه بحبه، وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميل حقوق عبوديته حتى تقع على الوجه الذي يرضاه.

 

 

 

تكرير الأفعال والأقوال في ركعات الصلاة غذاءً للقلب والروح:

 

شرع تكرير هذه الأفعال والأقوال؛ إذ هي غذاء القلب والروح، التي لا قوام لهما إلا بها، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل حتى يشبع، والشرب حتى يروى؛ ولهذا قال بعض السلف: مثل الذي يصلي ولا يطمئن في صلاته كمثل الجائع، إذا قُدِّم إليه طعام، فتناول منه لقمة أو لقمتين، ماذا تغني عنه؟!

 

 

 

سرّ الصلاة ولبها:

 

سر الصلاة ولبُّها هو إقبالُ العبد على الله بكليته، فكما أنه لا ينبغي له أن يصرف وجهه عن قبلة يمينًا وشمالًا، فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربه إلى غيره.

 

 

 

وللإقبال في الصلاة ثلاث منازل: إقبال على قلبه، فيحفظه من الوساوس والخطرات المبطلة لثواب صلاته أو المُنقِصة له، وإقبال على الله بمراقبته حتى كأنه يراه، وإقبال على معاني كلامه، وتفاصيل عبودية الصلاة ليعطيها حقها؛ فباستكمال هذه المراتب الثلاث تكون إقامة الصلاة حقًّا.

 

 

 

قرة العين بالصلاة:

 

لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: جُعِلت قرة عيني في الصوم، ولا في الحج والعمرة؛ وإنما قال: ((جُعِلت قرة عيني في الصلاة))، وتأمل قوله: ((جُعِلت قرة عيني في الصلاة)) ولم يقل: بالصلاة؛ إعلامًا بأن عينه إنما تقر بدخوله فيها، كما تقر عين المُحب بملابسته محبوبه، وتقر عين الخائف بدخوله في محل أمنِه، فقرة العين بالدخول في الشيء أكمل وأتم من قرة العين به قبل الدخول، ولما جاء إلى راحة القلب من تعبه، قال: ((يا بلال، أرحنا بالصلاة))؛ أي: أقمها؛ لنستريح بها من مقاساة الشواغل، كما يستريح التعبان إذا وصل إلى نُزله وقرَّ فيه، وتأمل كيف قال: ((أرحنا بها))، ولم يقل: أرحنا منها، كما يقول المتكلف بها الذي يفعلها تكلفًا وغرمًا؛ فالفرق بين مَن كانت الصلاة لحوائجه قيدًا، ولقلبه سجنًا، ولنفسه عائقًا، وبين مَن كانت الصلاة لقلبه نعيمًا، ولعينه قرة، ولحوائجه راحة، ولنفسه بستانًا ولذة.

 

كتاب "طريق الهجرتين وباب السعادتين"

 

 

لا ألذ لقلب المصلي، ولا أقر لعينه من الصلاة إن كان محبًّا

 

الصلاة محك الأحوال، وميزان الإيمان، بها يُوزن إيمان الرجل، ويتحقق حاله ومقامه، ومقدار قربه من الله، ونصيبه منه، فإنها محل المناجاة والقربة، ولا واسطة فيها بين العبد وبين ربه، فلا شيء أقر لعين المحب، ولا ألذ لقلبه، ولا أنعم لعيشه منها إن كان محبًّا، فلا شيء أهم إليه من الصلاة؛ كأنه في سجن وضيق وغم حتى تحضر الصلاة، فيجد قلبه قد انفسح وانشرح واستراح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: ((يا بلال، أرحنا بالصلاة))، ولم يقل: أرحنا منها، كما يقول المبطلون الغافلون.

 

 

 

فالصلاة قرة عيون المحبين، وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون هم الفراغ منها إذا دخلوا فيها، كما يحمل الفارغ البطال همها حتى يقضيها بسرعة، فلهم فيها شأن، وللنقارين شأن، يشكون إلى الله سوء صنيعهم بهم إذا ائتموا بهم، كما يشكو الغافل المعرض تطويل إمامه، فسبحانه من فاضل بين النفوس، وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم.

 

 

 

وبالجملة فمن كانت قرة عينه في الصلاة؛ فلا شيء أحب إليه، وأنعم عنده منها، وبوده أن لو قطع عمره بها غير مشتغل بغيرها؛ وإنما يسلي نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب، فهو دائمًا يثوب إليها، ولا يقضي منها وطرًا، فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة، فإنها الميزان العادل، الذي وزنه غير عائل.

 

 

 

كتاب "الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب"

 

 

الالتفات المنهي عنه في الصلاة: التفات القلب، والتفات البصر:

 

الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى، والثاني: التفات البصر.

 

 

 

وكلاهما منهي عنه، ولا يزال الله مقبلًا على عبده ما دام العبد مقبلًا على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره، أعرض الله تعالى عنه.

 

 

 

ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو قلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان، فأوقفه بين يديه، وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينًا وشمالًا، أو قد انصرف قلبه عن السلطان، فلا يفهم ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضرًا معه، فما ظن هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟! أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتًا مُبعدًا، وقد سقط من عينيه؟! فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب، المقبل على الله تعالى في صلاته، الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحيا من ربه تعالى أن يقبل على غيره، أو يلتفت عنه، وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله عز وجل، والآخر ساهٍ غافل، فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه وبينه حجاب لم يكن إقبالًا ولا تقربًا، فما الظن بالخالق عز وجل.

 

 

 

وإذا أقبل على الخالق عز وجل، وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس، والنفس مشغوفة بها، ملأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالًا، وقد ألهته الوساوس والأفكار، وذهبت به كل مذهب؟!

 

 

 

الشيطان يغار من الإنسان إذا قام في الصلاة:

 

العبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام، وأقربه، وأغيظه للشيطان، وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه؛ بل لا يزال به يعدهُ ويُمنيه ويُنسيه، ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهوِّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها، فيتركها.

 

 

 

فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحُول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما قد نسي الشيء والحاجة، وأَيِس منها، فيُذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله عز وجل، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبلُ على ربه عز وجل الحاضرُ بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها، بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تُكفرُ سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله عز وجل بقلبه وقالبه، فهذا إذا انصرف منها وجد خفَّة من نفسه، وأحس بأثقال قد وضعت عنه، فوجد نشاطًا وراحةً وروحًا، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال في سجن وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها، لا منها، فالمحبُّون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال، أرحنا بالصلاة))، ولم يقل: أرحنا منها.

 

 

 

وقال صلى الله عليه وسلم: ((وجُعِلت قرة عيني في الصلاة))، فمن جُعِلت قرة عينه في الصلاة، فكيف تقر عينه بدونها، وكيف يطيق الصبر عنها؟!

 

 

 

مراتب الناس في الصلاة:

 

الناس في الصلاة على أقسام خمسة:

 

أحدها: الظالم لنفسه؛ وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها.

 

 

 

الثاني: من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها؛ لكنه قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة، فذهب مع الوساوس والأفكار.

 

 

 

الثالث: من حافظ على حدوها وأركانها، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهدة عدوه؛ لئلا يسرق منه صلاته، فهو في صلاة وجهاد.

 

 

 

الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها؛ لئلا يضيع منها شيئًا؛ بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها قد استغرق قلبه شأن الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها.

 

 

 

الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك؛ ولكن مع هذا قد أخذ قلبه، ووضعه بين يدي ربه عز وجل، ناظرًا بقلبه إليه، مراقبًا له، ممتلئًا من محبته وعظمته، كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات، وارتفعت حجبها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه عز وجل، قرير العين به.

 

 

 

فالقسم الأول: معاقب، والثاني: محاسب، والثالث: مُكفَّر عنه، والرابع: مُثاب، والخامس: مُقرب؛ لأن له نصيب ممن جعلت قرة عينه في الصلاة، فمن قرت عينه بصلاته في الدنيا قرَّت عينه بقربه من ربه عز وجل في الآخرة، وقرَّت عينه أيضًا به في الدنيا، ومن قرَّت عينه بالله قرَّت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.

 

 

 

فضل الصلاة على القراءة والذكر والدعاء:

 

لما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه كانت أفضل من كُل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛ لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.

 

 

 

كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد"

 

 

من منافع الصلاة:

 

الصلاة مجلبة للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، مطردة للأدواء، مقوِّية للقلب، مبيِّضة للوجه، مُفرحة للنفس، مُذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، منورة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مُبعدة من الشيطان، مُقربة من الرحمن.

 

 

 

وبالجملة: فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتلي رجلان بعاهة أو داءٍ أو محنة أو بلية إلا كان حظُّ المصلي منهما أقلَّ، وعاقبته أسلم.

 

 

 

وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا، ولا سيما إذا أُعطيت حقها من التكميل ظاهرًا وباطنًا، فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة، ولا استجلبت مصالحهما بمثل الصلاة، وسرُّ ذلك أن الصلاة صلة بالله عز وجل، وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتقطع عنه من الشرور أسبابها، وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل، والعافية والصحة، والغنيمة والغنى، والراحة والنعيم، والأفراح والمسرات، كلها محضرة لديه، ومسارعة إليه.

 

 

 

والصلاة شأنها في تفريح القلب وتقويته، وشرحه وابتهاجه ولذته أكبر شأن، فهي من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهي منهاة عن الإثم، ودافعة لأدواء القلوب، ومطردة للداء عن الجسد، ومُنورة للقلب، ومُبيضة للوجه، ومنشطة للجوارح والنفس، وجالبة للرزق، ودافعة للظلم، وناصرة للمظلوم، وقامعة لأخلاط الشهوات، وحافظة للنعمة، ودافعة للنقمة، ومُنزلة للرحمة، وكاشفة للغُمَّة، ونافعة من كثير من أوجاع البطن.

 

 

 

المواضع التي كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيها في الصلاة:

 

وأما المواضع التي كان يدعو فيها في الصلاة، فسبعة مواضع:

 

أحدها: بعد تكبيرة الإحرام في محل الاستفتاح.

 

 

 

الثاني: قبل الركوع وبعد الفراغ من القراءة في الوتر، والقنوت العارض في الصبح قبل الركوع إن صح ذلك، فإن فيه نظرًا.

 

 

 

الثالث: بعد الاعتدال من الركوع، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ((سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ)).

 

 

 

الرابع: في ركوعه كان يقول: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)).

 

 

 

الخامس: في سجوده، وكان فيه غالب دعائه.

 

 

 

السادس: بين السجدتين.

 

 

 

السابع: بعد التشهد وقبل السلام.

 

 

 

وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة، أو المأمومين، فلم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم أصلًا، ولا روي عنه بإسناد صحيح، ولا حسن.

 

 

 

وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر، فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه، ولا أرشد إليه أمته، وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، وهذا هو اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة، فإذا سلَّم منها، انقطعت تلك المناجاة، وزال ذلك الموقف بين يديه، والقرب منه.

 

 

 

اللهم وفقنا لأداء الصلاة وإقامتها على الوجه الذي يرضيك عنا، وأن نكون متبعين لهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك.

 
شبكة الالوكة

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

أحمد الله بمحامده التي هو لها أهل، والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه، محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد:

فإن مطالعة كتب العلامة الرباني وشيخ الإسلام الثاني ابن قيم الجوزية - رحمه الله - مما يثري المطَّلع بجملة كبيرة من الفوائد العظام، ولا سيما تلك الاستنباطات والتقسيمات المبنية على الاستقراء التام والتتبُّع الجاد؛ فهي تشكل كنزًا معلوماتيًّا، وهي جزء كبير من ذلكم البنك المعلوماتي العجيب، تشد لها الرحال، وتعمل لها المطي، ويعلم ذلك المطالع لذلكم الكم الكبير من تراثه - رحمه الله.

 

وإن منها - كما ذكرنا - تلك الفوائد التي تضم التقسيمات...، وقد اخترت أن أذكر لكم في هذه السلسلة من المقالات جملة منها، وسوف أخص بالذكر فيها ما كان منها مندرجًا تحت الرقم أربعة؛ إذ هي مما انفرد به ابن القيم عن غيره، حتى عن شيخه - رحم الله الجميع؛ ولذلك سميتها: رباعيات العلامة ابن القيم (رحمه الله)، وسوف أذكرها بشيء من الاختصار، والتصرف بحذف، أو تقديم وتأخير؛ إذ القصد هنا أمران اثنان:

الأول: جمعها من مظانها؛ ليتسنى لمن يريد الوقوف عليها الرجوع إليها - مجتمعة - في مكان واحد.

 

والثاني: الإشارة إليها؛ إذ المقصود الاستفادة منها وحسب.

 

وقد وضعت لها عناوين تلخص مضامينها وتوضحها، بعضها من وضع ابن القيم - رحمه الله، وبعضها من عندي.

 

وإلى هذه الرباعيات فنقول، منها:

غاية الكمال:

قال ابن القيم - رحمه الله -: في قوله - عز وجل -: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ [1] لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].

 

"قال الشافعي -رضى الله عنه-: لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم[2]، وبيان ذلك: أن المراتب أربعة، وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله:

إحداها: معرفة الحق.

الثانية: عمله به.

الثالثة: تعليمه من لا يحسنه.

الرابعة: صبره على تعلمه، والعمل به، وتعليمه.

فذكر -تعالى- المراتب الأربعة في هذه السورة"[3].

 

الأسباب مع مسبباتها[4]:

وقال - رحمه الله -: "والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع:

[الأول]: محبوب يفضي إلى محبوب.

[والثاني]: ومكروه يفضي إلى محبوب.

وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة إلى ما يحبه وما يكرهه.

 

والثالث: مكروه يفضي إلى مكروه.

والرابع: محبوب يفضي إلى مكروه.

وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه؛ إذ الغايات المطلوبة من قضائه وقدره الذي ما خلق ما خلق، ولا قضى ما قضى إلا لأجل حصولها - لا تكون إلا محبوبة للرب، مرضية له"[5].

 

أسئلة السائلين:

وقال - رحمه الله -: "أسئلة السائلين لا تخرج عن أربعة أنواع لا خامس لها:

الأول: أن يسأل عن الحكم، فيقول: ما حكم كذا وكذا؟

والثاني: أن يسأل عن دليل الحكم.

والثالث: أن يسأل عن وجه دلالته.

والرابع: أن يسأل عن الجواب عن معارضيه"[6].

 

أنواع الحب:

وقال - رحمه الله -: "وها هنا أربعة أنواع من الحب يجب التفريق بينها، وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينها:

أحدها: محبة الله، ولا تكفي وحدها في النجاة من الله؛ من عذابه، والفوز بثوابه؛ فإن المشركين وعبَّاد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله.

 

الثاني: محبة ما يحب الله، وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة، وأشدهم فيها.

 

الثالث: الحب لله وفيه، وهي من لوازم محبة ما يحب الله، ولا يستقيم محبة ما يحب الله إلا بالحب فيه وله.

 

الرابع: المحبة مع الله، وهى المحبة الشركية، وكل من أحب شيئًا مع الله، لا لله ولا من أجله ولا فيه، فقد اتخذه ندًّا من دون الله، وهذه محبة المشركين.

 

وبقي قسم خامس - ليس مما نحن فيه - وهي المحبة الطبيعية، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه؛ كمحبة العطشان للماء، والجائع للطعام، ومحبة النوم، والزوجة، والولد؛ فتلك لا تذم إلا إن ألهت عن ذكر الله وشغلته عن محبته؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [المنافقون: 9]، وقال تعالى: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [النور: 37]"[7].

 

أحاديث الكي:

وقال - رحمه الله -: "تضمنت أحاديث الكي[8] أربعة أنواع:

أحدها: فعله.

والثاني: عدم محبته له.

والثالث: الثناء على من تركه.

والرابع: النهي عنه.

ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى؛ فإن فعله يدل على جوازه،، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه، فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه، بل يفعل خوفًا من حدوث الداء.. والله أعلم"[9].

 

أنواع الفروسية:

وقال - رحمه الله -: "والفروسية أربعة أنواع:

أحدها: ركوب الخيل، والكر والفر بها.

الثاني: الرمي بالقوس.

الثالث: المطاعنة بالرماح.

الرابع: المداورة بالسيوف، فمن استكملها استكمل الفروسية"[10].

 

القزع[11]:

وقال - رحمه الله -: " القزع أربعة أنواع:

أحدها: أن يحلق من رأسه مواضع من ها هنا وها هنا، مأخوذ من تقزع السحاب، وهو تقطعه.

الثاني: أن يحلق وسطه ويترك جوانبه، كما يفعله شمامسة النصارى.

الثالث: أن يحلق جوانبه ويترك وسطه، كما يفعله كثير من الأوباش والسفل.

الرابع: أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره، وهذا كله من القزع، والله أعلم"[12].

 

الملتزم الطاعة لله:

وقال - رحمه الله -: "الملتزم الطاعة لله لا يخرج التزامه لله عن أربعة أقسام:

أحدها: التزام بيمين مجردة، نحو قوله: "والله لأتصدقن".

 

الثاني: التزام بنذر مجرد، نحو: "لله علي أن أتصدق".

 

الثالث: التزام بيمين مؤكدة بنذر، نحو: "والله إن شفى الله مريضي، فعلي صدقة كذا".

 

الرابع: التزام بنذر مؤكد بيمين، نحو: "إن شفى الله مريضي، فوالله لأتصدقن"، وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [التوبة: 75]، فهذا نذر مؤكد بيمين، وإن لم يقل فيه: فعليَّ؛ إذ ليس ذلك من شرط النذر، بل إذا قال: إن سلمني الله تصدقت، أو لأتصدقن، فهو وعد وعده الله؛ فعليه أن يفي به، وإلا دخل في قوله: ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 77]"[13].

 

شروط الواقفين:

وقال - رحمه الله -: "شروط الواقفين أربعة أقسام:

[الأول]: شروط محرمة في الشرع.

[الثاني]: وشروط مكروهة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

[الثالث]: وشروط تتضمن ترك ما هو أحب إلى الله ورسوله.

[الرابع]: وشروط تتضمن فعل ما هو أحب إلى الله ورسوله.

فالأقسام الثلاثة الأول لا حرمة لها ولا اعتبار، والقسم الرابع هو الشرط المتبع الواجب الاعتبار، وبالله التوفيق"[14].

 

ما يبتلى به العبد:

وقال - رحمه الله -: "البلاء الذي يصيب العبد في الله، لا يخرج عن أربعة أقسام، فإنه:

[الأول]: إما أن يكون في نفسه، وقد يكون بتلفها تارة، وبتألمها بدون التلف.

[الثاني]: أو في ماله.

[الثالث]: أو في عِرضه.

[الرابع]: أو في أهله ومن يحب.

فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله"[15].

 

النضال:

وقال - رحمه الله -: "النضال[16] على أربعة أقسام:

[الأول]: مفاضلة.

[الثاني]: ومحاطة.

[الثالث]: ومبادرة.

[الرابع]: ومباعدة.

وكلها جائزة، إلا المباعدة؛ فإن فيها خلافًا، وليس على منعها دليل"[17].

 

الدور:

وقال - رحمه الله -: "الدور أربعة أقسام:

[الأول]: دور حكمي.

[الثاني]: ودور علمي.

[الثالث]: ودور معي.

[الرابع]: ودور سبقي تقدمي"[18].

 


[1] الإنسان: اسم جنس محلى باللام، فيوجب العموم.

[2] وهو بنحوه في الاستقامة (2/ 259) لشيخه ابن تيمية، وفي تفسير القرآن العظيم (1/ 82) لابن كثير، قال الشافعي - رحمه الله -: "لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم"، وقال ابن تيمية - رحمه الله -: "وهو كما قال"؛ انظر: مجموع الفتاوى (28/ 152).

[3] مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 56).

[4] سيأتي معنا في السلسلة الثانية من رباعيات العلامة ابن القيم - رحمه الله -: أقسام الناس في طلب الأسباب وأنهم أربعة.

[5] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 420).

[6] إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 167).

[7] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 134).

[8] انظرها: في المرجع المشار إليه بعد.

[9] زاد المعاد (4/ 58).

[10] الفروسية (ص: 440).

[11] سيأتي معنا في السلسلة الثانية من رباعيات العلامة ابن القيم - رحمه الله -: حلق الرأس، وأنه أربعة أنواع.

[12] تحفة المودود بأحكام المولود (ص:100).

[13] إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 147)

[14] إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 121).

[15] إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (2/ 193).

[16] الرمي.

[17] الفروسية (ص:389).

[18] بدائع الفوائد (1/ 196).

 
شبكة الالوكة

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

 

أحمد الله بمحامده التي هو لها أهل، والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه، محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد:

 

فقد سبق معنا السلسلة الأولى من رباعيات العلامة ابن القيم رحمه الله، وسنذكر في هذا المقال السلسلة الثانية، ومنها:

 

العبودية والاستعانة:

 

قال - رحمه الله -: "فالأقسام أربعة:

 

الأول: محبوب لنفسه وذاته، مستعان بنفسه، فهذا أعلى الأقسام، وليس ذلك إلا لله وحده، وكل ما سواه فإنما ينبغي أن يحب تبعًا لمحبته، ويستعان به لكونه آلة وسببًا.

 

 

 

الثاني: محبوب لغيره ومستعان به - أيضًا - كالمحبوب الذي هو قادر على تحصيل غرض محبه.

 

 

 

الثالث: محبوب مستعان عليه بغيره.

 

 

 

الرابع: مستعان به غير محبوب في نفسه.

 

 

 

فإذا عرف ذلك، تبين مَن أحقُّ هذه الأقسام الأربعة بالعبودية والاستعانة، وأن محبة غيره واستعانته به إن لم تكن وسيلة إلى محبته واستعانته، وإلا كانت مضرة على العبد، ومفسدتها أعظم من مصلحتها، والله المستعان وعليه التكلان"[1].

 

 

 

ذكر حكمه صلى الله عليه وآله وسلم في العدد:

 

وقال - رحمه الله -: "هذا الباب قد تولى الله - سبحانه - بيانه في كتابه أتم بيان وأوضحه وأجمعه؛ بحيث لا تشذ عنه معتدة، فذكر أربعة أنواع من العدد، وهي جملة أنواعها:

 

النوع الأول: عدة الحامل بوضع الحمل مطلقًا، بائنة كانت أو رجعية، مفارقة في الحياة أو متوفى عنها، فقال: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4].

 

 

 

النوع الثاني: عدة المطلقة التي تحيض، وهي ثلاثة قروء؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228].

 

 

 

النوع الثالث: عدة التي لا حيض لها، وهي نوعان:

 

صغيرة لا تحيض، وكبيرة قد يئِست من الحيض.

 

 

 

فبين الله - سبحانه - عدة النوعين بقوله: ﴿ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ﴾ [الطلاق: 4]؛ أي: فعدتهن كذلك.

 

 

 

النوع الرابع: المتوفى عنها زوجها، فبين عدتها - سبحانه - بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234]، فهذا يتناول المدخول بها وغيرها، والصغيرة والكبيرة، ولا تدخل فيه الحامل؛ لأنها خرجت بقوله: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4]، فجعل وضع حملهن جميع أجلهن، وحصره فيه، بخلاف قوله - في المتوفى عنهن -: ﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾ [البقرة: 228]؛ فإنه فعل مطلق لا عموم له، وأيضًا فإن قوله: ﴿ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4]، متأخر في النزول عن قوله: ﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾ [البقرة: 228]، وأيضًا فإن قوله: ﴿ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234]، في غير الحامل بالاتفاق؛ فإنها لو تمادى حملها فوق ذلك تربصته، فعمومها مخصوص اتفاقًا، وقوله: ﴿ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4] غير مخصوص بالاتفاق، هذا لو لم تأتِ السنة الصحيحة بذلك، ووقعت الحوالة على القرآن، فكيف والسنة الصحيحة موافقة لذلك مقررة له؟!

 

 

 

فهذه أصول العدد في كتاب الله مفصلة مبينة، ولكن اختلف في فهم المراد من القرآن ودلالته في مواضع من ذلك، وقد دلت السنة - بحمد الله - على مراد الله منها"[2].

 

 

 

الحلم والعلم:

 

وقال - رحمه الله -: "قال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم، والناس ها هنا أربعة أقسام:

 

الأول: فخيارهم من أوتي الحلم والعلم.

 

الثاني: وشرارهم من عدمهما.

 

والثالث: من أوتي علمًا بلا حلم.

 

والرابع: عكسه"[3].

 

 

 

العلم والقصد:

 

وقال - رحمه الله -: "الناس أربعة أقسام:

 

الأول: ضال في علمه، غاوٍ في قصده وعلمه، وهؤلاء شرار الخلق، وهم مخالفو الرسل.

 

 

 

الثاني: مهتدٍ في علمه، غاوٍ في قصده وعمله، وهؤلاء هم الأمة الغضبية، ومن تشبه بهم، وهو حال كل من عرف الحق ولم يعمل به.

 

 

 

الثالث: ضال في علمه، ولكن قصده الخير وهو لا يشعر.

 

 

 

الرابع: مهتدٍ في علمه، راشد في قصده، وهؤلاء ورثة الأنبياء، وهم وإن كانوا الأقلين عددًا، فهم الأكثرون عند الله قدرًا، وهم صفوة الله من عباده، وحزبه من خلقه"[4].

 

 

 

الأموال التي يأخذها القضاة:

 

وقال - رحمه الله -: "الأموال التي يأخذها القضاة أربعة أقسام:

 

الأول: رشوة: والرشوة حرام، وهي ضربان:

 

رشوة ليميل إلى أحدهما بغير حق، فهذه حرام عن فعل حرام، على الآخذ والمعطي، وهما آثمان.

 

 

 

ورشوة يعطاها؛ ليحكم بالحق، واستيفاء حق المعطي من دين ونحوه، فهي حرام على الحاكم دون المعطي؛ لأنها للاستنقاذ، فهي كجعل الآبق، وأجرة الوكلاء في الخصومة.

 

 

 

الثاني: وهدية، وأما الهدية فضربان:

 

هدية كانت قبل الولاية، فلا تحرم استدامتها.

 

وهدية لم تكن إلا بعد الولاية، وهي ضربان:

 

مكروهة، وهي الهدية إليه ممن لا حكومة له.

 

وهدية ممن قد اتجهت له حكومة؛ فهي حرام على الحاكم والمهدي.

 

 

 

الثالث: وأجرة، إن كان للحاكم رزق من الإمام من بين المال، حرُم عليه أخذ الأجرة، قولًا واحدًا؛ لأنه إنما أجرى له الرزق؛ لأجل الاشتغال بالحكم، فلا وجه لأخذ الأجرة من جهة الخصوم، وإن كان الحاكم لا رزق له فعلى وجهين[5]:

 

أحدهما: الإباحة؛ لأنه عمل مباح، فهو كما لو حكماه، ولأنه مع عدم الرزق لا يتعين عليه الحكم، فلا يمنع من أخذ الأجرة، كالوصي وأمين الحاكم يأكلان من مال اليتيم بقدر الحاجة.

 

 

 

الرابع: ورزق، وأما الرزق من بيت المال، فإن كان غنيًّا لا حاجة له إليه، احتمل أن يكره؛ لئلا يضيق على أهل المصالح، ويحتمل أن يباح؛ لأنه بذل نفسه لذلك، فصار كالعامل في الزكاة والخراج"[6].

 

 

 

أقسام الناس في طلب الأسباب[7]:

 

وقال - رحمه الله -: "والناس في هذا المقام أربعة أقسام:

 

الأول: فأعجزهم من لم يبذل السبب ولم يكثر الطلب، فذاك أمهن الخلق.

 

 

 

والثاني: مقابله، وهو أحزم الناس، مَن أدلى بالأسباب التي نصبها الله تعالى مفضية إلى المطلوب، وسأل سؤال من لم يدل بسبب أصلاً، بل سؤال مفلس بائس ليس له حيلة ولا وسيلة.

 

 

 

والثالث: من استعمل الأسباب وصرف همته إليها، وقصر نظره عليها، فهذا وإن كان له حظ مما رتبه الله تعالى عليها، لكنه منقوص منقطع، نصب الآفات والمعارضات، لا يحصل له إلا بعد جهد، فإذا حصل فهو وشيك الزوال، سريع الانتقال، غير معقب له توحيدًا ولا معرفة، ولا كان سببًا لفتح الباب بينه وبين معبوده.

 

 

 

الرابع: مقابله، وهو رجل نبذ الأسباب وراء ظهره، وأقبل على الطلب والدعاء والابتهال، فهذا يحمد في موضع، ويذم في موضع، ويشتبه الأمر في موضع.

 

 

 

فيحمد عند كون تلك الأسباب غير مأمور بها؛ إذ فيها مضرة عليه في دينه، فإذا تركها وأقبل على السؤال والابتهال والتضرع لله، كان محمودًا.

 

 

 

ويذم حيث كانت الأسباب مأمورًا بها، فتركها وأقبل على الدعاء، كمن حصره العدو وأُمِر بجهاده، فترك جهاده، وأقبل على الدعاء والتضرع أن يصرفه الله عنه، وكمن جهده العطش وهو قادر على تناول الماء فتركه وأقبل يسأل الله تعالى أن يرويه، وكمن أمكنه التداوي الشرعي فتركه وأقبل يسأل العافية، ونظائر هذا.

 

 

 

ويشتبه الأمر في الأسباب التي لا يتبين له عواقبها، وفيها بعض الاشتباه، ولها لوازم قد يعجز عنها، وقد يتولد عنها ما يعود بنقصان دينه، فهذا موضع اشتباه وخطر، والحاكم في ذلك كله الأمر، فإن خفي فالاستخارة، وأمر الله وراء ذلك"[8].

 

 

 

الأمور التي يقال: هي شرور:

 

وقال - رحمه الله -: "فالأمور التي يقال هي شرور:

 

إما أن تكون أمورًا عدمية.

 

أو أمورًا وجودية.

 

 

 

فإن كانت عدمية، فإنها إما أن تكون:

 

[الأول]: عدمًا، لأمور ضرورية للشيء في وجوده؛ كالإحساس والحركة والنفس للحيوان.

 

 

 

[الثاني]: أو ضرورية له في دوام وجوده وبقائه؛ كقوة الاغتذاء والنمو للحيوان المغتذي النامي.

 

 

 

[الثالث]: أو ضرورية له في كماله؛ كصحته وسمعه وبصره وقوته.

 

 

 

[الرابع]: وإما أن تكون غير ضرورية له في وجوده ولا بقائه ولا كماله، وإن كان وجودها خيرًا من عدمها؛ كالعلم بدقائق المعلومات التي العلم بها خير من الجهل، وليست ضرورية له"[9].

 

 

 

النوع الإنساني:

 

وقال - رحمه الله -: "النوع الإنساني أربعة أقسام:

 

أحدها: لا من ذكر ولا أنثى، وهو خلق أبيهم وأصلهم آدم.

 

 

 

الثاني: خلقه من ذكر بلا أنثى؛ كخلق أمهم حواء من ضلع من أضلاع آدم، من غير أن تحمل بها أنثى، أو يشتمل عليها بطن.

 

 

 

الثالث: خلقه من أنثى بلا ذكر؛ كخلق المسيح عيسى ابن مريم.

 

 

 

الرابع: خلق سائر النوع الإنساني من ذكر وأنثى، وكل هذا ليدل عباده على كمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته"[10].

 

 

 

انقسام الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

 

وقال - رحمه الله -: "انقسم الناس بعد رسول الله أربعة أقسام:

 

[الأول]: قسم لم يريدوا الدنيا، ولم ترِدْهم؛ كالصِّدِّيق ومن سلك سبيله.

 

 

 

[الثاني]: وقسم أرادتهم الدنيا، ولم يريدوها؛ كعمر بن الخطاب ومن سلك سبيله.

 

 

 

[الثالث]: وقسم أرادوا الدنيا، وأرادتهم؛ كخلفاء بني أمية، ومن سلك سبيلهم، حاشا عمر بن عبد العزيز؛ فإنها أرادته، ولم يردها.

 

 

 

[الرابع]: وقسم أرادوها، ولم تردهم، كمن أفقر الله منها يده، وأسكنها في قلبه، وامتحنه بجمعها.

 

ولا يخفى أن خير الأقسام القسم الأول، والثاني إنما فضل؛ لأنه لم يردها، فالتحق بالأول"[11].

 

 

 

إرادة الله - عز وجل - وثوابه:

 

وقال - رحمه الله -: "الناس في هذا المقام أربعة أقسام:

 

أحدهم: من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه؛ فهؤلاء أعداؤه حقًّا، وهم أهل العذاب الدائم، وعدم إرادتهم لثوابه:

 

إما لعدم تصديقهم به.

 

وإما لإيثار العاجل عليه، ولو كان فيه سخطه.

 

 

 

والقسم الثاني: من يريده ويريد ثوابه، وهؤلاء خواص خلقه؛ قال الله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 29]، فهذا خطابه لخير نساء العالمين أزواج نبيه.

 

 

 

وقال الله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19]، فأخبر أن السعي المشكور: سعيُ مَن أراد الآخرة، وأصرح منها: قوله لخواصِّ أوليائه - وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم - في يوم أُحد: ﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152]، فقسمهم إلى هذين القسمين اللذين لا ثالثَ لهما.

 

 

 

وقد غلط من قال: فأين من يريد الله؟! فإن إرادة الآخرة عبارة عن إرادة الله - تعالى - وثوابه؛ فإرادة الثواب لا تنافي إرادة الله.

 

 

 

والقسم الثالث: مَن يريد مِن الله، ولا يريد الله، فهذا ناقص غاية النقص، وهو حال الجاهل بربه، الذي سمع أن ثَمَّ جنة ونارًا، فليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق، لا يخطر بباله سواه ألبتة، بل هذا حال أكثر المتكلمين المنكرين رؤية الله تعالى، والتلذذ بالنظر إلى وجهه في الآخرة، وسماع كلامه، وحبه، والمنكرين على من يزعم أنه يحب الله، وهم عبيد الأجرة المحضة، فهؤلاء لا يريدون الله تعالى وتقدس...

 

 

 

والقسم الرابع - وهو محال -: أن يريد الله ولا يريد منه، فهذا هو الذي يزعم هؤلاء: أنه مطلوبهم، وأن من لم يصل إليه ففي سيره علة، وأن العارف ينتهي إلى هذا المقام، وهو أن يكون الله مراده، ولا يريد منه شيئًا، كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال: قيل لي: ما تريد؟ فقلت: أريد ألا أريد، وهذا في التحقيق عين المحال الممتنع؛ عقلًا وفطرة، وحسًّا وشرعًا..."[12].

 

 

 

العلم والمال:

 

وقال - رحمه الله -: "أهل الدنيا أربعة أقسام:

 

الأول: خيرهم من أوتي علمًا ومالًا؛ فهو محسن إلى الناس وإلى نفسه بعلمه وماله.

 

 

 

الثاني: ويليه في المرتبة من أوتي علمًا، ولم يؤتَ مالًا، وإن كان أجرهما سواء، فذلك إنما كان بالنية، وإلا فالمنفق المتصدق فوقه بدرجة الإنفاق والصدقة، والعالم الذي لا مال له إنما ساواه في الأجر بالنية الجازمة المقترن بها مقدورهما، وهو القول المجرد.

 

 

 

الثالث: من أوتي مالًا، ولم يؤتَ علمًا، فهذا أسوأ الناس منزلة عند الله؛ لأن ماله طريق إلى هلاكه، فلو عدمه لكان خيرًا له؛ فإنه أعطي ما يتزود به إلى الجنة، فجعله زادًا له إلى النار.

 

 

 

الرابع: من لم يؤتَ مالًا ولا علمًا، ومن نيته أنه لو كان له مال، لعمل فيه بمعصية الله، فهذا يلي الغني الجاهل في المرتبة، ويساويه في الوِزر بنيته الجازمة المقترن بها مقدورها، وهو القول الذي لم يقدر على غيره.

 

 

 

فقسم السعداء قسمين، وجعل العلم والعمل بموجبه سبب سعادتهما، وقسم الأشقياء قسمين، وجعل الجهل وما يترتب عليه سبب شقاوتهما؛ فعادت السعادة بجملتها إلى العلم وموجبه، والشقاوة بجملتها إلى الجهل"[13].

 

 

 

حلق الرأس[14]:

 

وقال - رحمه الله -: "حلق الرأس أربعة أقسام:

 

الأول: شرعي: كالحلق في الحج والعمرة.

 

 

 

الثاني: وشركي: كحلق الرأس للشيوخ؛ فإنهم يحلقون رؤوس المريدين للشيخ، ويقولون: احلق رأسك للشيخ فلان، وهذا من جنس السجود له؛ فإن حلق الرأس عبودية مذلة، وكثير منهم يعمل المشيخة الوثنية، فترى المريد عاكفًا على السجود له، ويسميه: وضعَ رأسٍ وأدبًا، وعلى التوبة له، والتوبة لا ينبغي أن تكون لأحد إلا لله وحده، وعلى حلق الرأس له، وحلق الرأس عبودية لا تصلح إلا لله وحده، وكانت العرب إذا أمنوا على الأسير جزُّوا نواصيه وأطلقوه، عبودية وإذلالًا له؛ ولهذا كان من تمام النسك وضع النواصي لله عبودية وخضوعًا وذلًّا.

 

 

 

الثالث: وبدعي: وهو كحلق كثير من المطوعة والفقراء، يجعلونه شرطًا في الفقر، وزيًّا يتميزون به عن أهل الشعور من الجند والفقهاء والقضاة وغيرهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الخوارج أنه قال: ((سيماهم التحليق))[15]، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لصبيغ بن عسل، وقد سأله عن مسائلَ، فأمر بكشف رأسه، وقال: "لو رأيتك محلوقًا، لأخذت الذي فيه عيناك، حتى أن تكون من الخوارج"[16].

 

 

 

ومن حلق البدعة: الحلق عند المصائب بموت القريب ونحوه، فأما المرأة فيحرم عليها ذلك، وقد برئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من: (الحالقة، والصالقة، والشاقة)[17].

 

 

 

فالحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة.

 

والصالقة: التي ترفع صوتها بالويل والثبور ونحوه.

 

والشاقة: التي تشق ثيابها.

 

وأما الرجل فحلقه لذلك بدعةٌ قبيحة، يكرهها الله ورسوله.

 

 

 

الرابع: ورخصة وحاجة: وهو كالحلق لوجع، أو قمل، أو أذى في رأسه من بثور ونحوها، فهذا لا بأس به"[18].

 

 


[1] إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1 /43).

[2] زاد المعاد (5 /526) باختصار.

[3] إعلام الموقعين عن رب العالمين (4 /218).

[4] التبيان في أقسام القرآن (ص: 150-151).

[5] كذا لم يذكر - رحمه الله - إلا وجهًا واحدًا، ولعله لأمرين:

الأول: أنه يتضح منه الوجه الآخر، وهو المنع.

والثاني: أن هذا هو الراجح عنده، والله أعلم.

[6] بدائع الفوائد (3 /668).

[7] تقدم معنا في السلسلة الأولى من رباعيات العلامة ابن القيم - رحمه الله -: أن الأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع.

[8] بدائع الفوائد (3 /698)، وانظر للفائدة: مقال رباعيات ابن القيم (رحمه الله) 3، الوسائل والمقاصد.

[9] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:181).

[10] طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:203).

[11] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص:210).

[12] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2 /81).

[13] مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1 /179).

[14] تقدم معنا في السلسلة الأولى من رباعيات العلامة ابن القيم - رحمه الله -: القزع، وأنه أربعة أنواع.

[15] أخرجه البخاري رقم: (7123)، وغيره، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه.

[16] تاريخ دمشق (23 /412) لابن عساكر، وقال شيخ الإسلام في الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص:195): " وهو مشهور " وقال - أيضًا -: " رواه الأموي وغيره بإسناد صحيح "، وبمثله قال محمد أنور شاه في إكفار الملحدين في ضروريات الدِّين (ص:99).

[17] أخرجه البخاري رقم: (1234) ومسلم رقم: (104)، وغيرهما، عن أبي موسى - رضي الله عنه.

[18] أحكام أهل الذمة (3 /1291-1294)

شبكة الالوكة

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

أحمد الله بمحامده التي هو لها أهل، والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه، محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد:

فقد سبق معنا في مقالتين: السلسلة الأولى والثانية، ذكر جملة من رباعيات العلامة ابن القيم (رحمه الله)، وسنذكر في هذا المقال السلسلة الثالثة، ومنها:

المخالطة:

قال - رحمه الله -: "الناس فيها أربعة أقسام، متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما، دخل عليه الشر:

أحدها: مَن مخالطته كالغذاء، لا يستغنى عنه في اليوم والليلة؛ فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه، هكذا على الدوام، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بالله -تعالى- وأمره، ومكايد عدوه، وأمراض القلوب وأدويتها، الناصحون لله -تعالى- ولكتابه ولرسوله، ولخلقه، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله.

 

القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عند المرض، فما دمت صحيحًا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات، والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها، فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من:

القسم الثالث: وهم من مخالطته كالداء، على اختلاف مراتبه وأنواعه، وقوته وضعفه.

 

فمنهم: من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا، ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا، أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف.

 

ومنهم: من مخالطته كوجع الضرس، يشتد ضربًا عليك، فإذا فارقك سكن الألم.

 

ومنهم: من مخالطته حمى الروح، وهو الثقيل البغيض العَثِل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به، فهو يحدث من فيه كلما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة، التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض، ويذكر عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال: "ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر!"[1].

 

ورأيت يومًا عند شيخنا - قدس الله روحه - رجلًا من هذا الضرب، والشيخ يحمله، وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إلي وقال: مجالسة الثقيل حمى الربع، ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى، فصارت لها عادة، أو كما قال.

 

وبالجملة: فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة.

 

ومن نكد الدنيا على العبد: أن يبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بد من معاشرته ومخالطته؛ فليعاشره بالمعروف، حتى يجعل الله له فرجًا ومخرجًا.

 

القسم الرابع: من مخالطته الهلاك كله، ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لأكله ترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس - لا كثَّرهم الله - وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول الله، الداعون إلى خلافها، ﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ [الأعراف: 45] فيجعلون البدعة سنة، والسنة بدعة، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا:

إن جردت التوحيد بينهم قالوا: تنقصت جناب الأولياء والصالحين.

وإن جردت المتابعة لرسول الله قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين.

 

وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير، قالوا: أنت من المشبهين.

 

وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله، من المعروف، ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر، قالوا: أنت من المفتنين.

 

وإن اتبعت السنة، وتركت ما خالفها، قالوا: أنت من أهل البدع المضلين.

 

وإن انقطعت إلى الله تعالى، وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا، قالوا: أنت من الملبِّسين.

 

وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم، فأنت عند الله تعالى من الخاسرين، وعندهم من المنافقين.

 

فالحزمُ كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم، وألا تشتغل بإعتابهم، ولا باستعتابهم، ولا تبالي بذمهم ولا بغضبهم؛ فإنه عينُ كمالِك، كما قال:

وإذا أَتَتْك مَذَمَّتي مِن ناقصٍ space.gif
فهي الشَّهادةُ لي بأنِّيَ كاملُ space.gif

 

وقال آخر:

وقد زادني حبًّا لنفسيَ أنَّني space.gif
بغيضٌ إلى كل امرئ غير طائل[2]space.gif

 

الروابط بين جملتين:

وقال - رحمه الله -: "الروابط بين جملتين هي الأدوات التي تجعل بينهما تلازمًا لم يفهم قبل دخولها، وهي أربعة أقسام:

أحدها: ما يوجب تلازمًا مطلقًا بين الجملتين، إما بين ثبوت وثبوت، أو بين نفي ونفي، أو بين نفي وثبوت، وعكسه في المستقبل خاصة، وهو حرف الشرط البسيط كـ: (إن)؛ فإنها تلازم بين هذه الصور كلها، تقول: إن اتقيت الله أفلحت، وإن لم تتق الله لم تفلح، وإن أطعت الله لم تخب، وإن لم تطع الله خسرت؛ ولهذا كانت أم الباب وأعم أدواته تصرفًا.

 

القسم الثاني: أداة تلازم بين هذه الأقسام الأربعة تكون في الماضي خاصة، وهي: (لما)، تقول: لما قام أكرمته، وكثير من النحاة يجعلها ظرف زمان، وتقول: إذا دخلت على الفعل الماضي فهي اسم، وإن دخلت على المستقبل فهي حرف، ونص سيبويه على خلاف ذلك، وجعلها من أقسام الحروف التي تربط بين الجملتين، ومثال الأقسام الأربعة: لما قام أكرمته، ولما لم يقم لم أكرمه، ولما لم يقم أكرمته، ولما قام لم أكرمه.

 

القسم الثالث: أداة تلازم بين امتناع الشيء، لامتناع غيره، وهي: (لو)، نحو: لو أسلم الكافر نجا من عذاب الله.

 

القسم الرابع: أداة تلازم بين امتناع الشيء ووجود غيره، وهي: (لولا)، نحو: لولا أن هدانا الله لضللنا"[3].

 

مراتب الصبر:

وقال - رحمه الله -: "المراتب أربعة:

إحداها: مرتبة الكمال، وهي مرتبة أولي العزائم، وهي: الصبر لله وبالله، فيكون في صبره مبتغيًا وجه الله، صابرًا به، متبرئًا من حوله وقوته، فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها.

 

الثانية: ألا يكون فيه لا هذا ولا هذا؛ فهو أخس المراتب، وأردأ الخلق، وهو جدير بكل خذلان، وبكل حرمان.

 

الثالثة: مرتبة من فيه صبر بالله، وهو مستعين متوكل على حوله وقوته، متبرئ من حوله هو وقوته، ولكن صبره ليس لله؛ إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه، فهذا ينال مطلوبه، ويظفر به، ولكن لا عاقبة له، وربما كانت عاقبته شر العواقب، وفي هذا المقام خفراء الكفار، وأرباب الأحوال الشيطانية؛ فإن صبرهم بالله، لا لله، ولا في الله، ولهم من الكشف والتأثير بحسب قوة أحوالهم، وهم من جنس الملوك الظلمة؛ فإن الحال كالمُلك يعطاه البر والفاجر، والمؤمن والكافر.

 

الرابع: من فيه صبر لله، لكنه ضعيف النصيب من الصبر به، والتوكل عليه، والثقة به، والاعتماد عليه، فهذا له عاقبة حميدة، ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه؛ لضعف نصيبه من: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، فنصيبه من الله: أقوى من نصيبه بالله، فهذا حال المؤمن الضعيف، وصابر بالله لا لله: حال الفاجر القوي، وصابر لله وبالله: حال المؤمن القوي، ((والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف))[4]، فصابر لله وبالله عزيز حميد، ومن ليس لله ولا بالله مذموم مخذول، ومن هو بالله لا لله قادر مذموم، ومن هو لله لا بالله عاجز محمود، فبهذا التفصيل يزول الاشتباه في هذا الباب، ويتبين فيه الخطأ من الصواب، والله سبحانه وتعالى أعلم"[5].

 

الهدى والشقاوة:

وقال - رحمه الله -: في قوله - عز وجل -: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123] "فنفى عن متبع هداه أمرين: الضلال والشقاء.

 

قال عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما -: "تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه: ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123]"[6].

 

والآية نفت مسمى الضلال والشقاء عن متبع الهدى مطلقًا، فاقتضت الآية: أنه لا يضل في الدنيا ولا يشقى، ولا يضل في الآخرة ولا يشقى فيها، فإن المراتب أربعة:

هدى وشقاوة في الدنيا، وهدى وشقاوة في الآخرة، لكن ذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - في كل دار أظهر مرتبتيها، فذكر الضلال في الدنيا؛ إذ هو: أظهر لنا وأقرب من ذكر الضلال في الآخرة، وأيضًا: فضلال الدنيا أضل ضلال في الآخرة، وشقاء الآخرة مستلزم للضلال فيها، فنبه بكل مرتبة على الأخرى، فنبه بنفي ضلال الدنيا على نفي ضلال الآخرة؛ فإن العبد يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه[7]..."[8].

 

تفسير:

وقال - رحمه الله -: في قوله - عز وجل -: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172]: "فالأقسام أربعة:

أحدها: استواء حالتهم وقت أخذ العهد ووقت سقوطهم في العلم والمعرفة.

 

الثاني: استواء الوقتين في عدم ذلك.

 

الثالث: حصول المعرفة عند السقوط، وعدمها عند أخذ العهد، وهذه الأقسام الثلاثة باطلة، لا يقول بواحد منها.

 

الرابع: معرفتهم وفهمهم وقت أخذ العهد، دون وقت السقوط، وهذا يقوله كل من يقول: إنه أخرجهم من صلب أبيهم آدم، وكلمهم وخاطبهم، وأشهد عليهم ملائكته، وأشهدهم على أنفسهم، ثم ردهم في صلبه، وهذا قول جماهير من السلف والخلف، واعتمدوا على ما ذكرنا من هذه الآثار، مرفوعها وموقوفها"[9].

 

الوسائل والمقاصد:

وقال - رحمه الله -: "... فالأقسام أربعة لا خامس لها:

أحدها: معطل الأسباب، معرض عنها.

 

الثاني: مكب عليها، واقف مع جمعها وتحصيلها.

 

الثالث: متوصل بها إلى ما يضره ولا ينفعه، في معاشه ومعاده، فهؤلاء الثلاثة في الخسران.

 

الرابع: متوصل بها إلى ما ينفعه في معاشه ومعاده، وهو الرابح؛ قال -تعالى-: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15، 16]"[10].

 

مر السهم على اليد:

وقال - رحمه الله -: "وهو على أربعة أنواع:

[الأول]: منهم: من يجريه على عقدة إبهامه.

 

[الثاني]: ومنهم: من يجريه على سبابته، ويميل إبهامه عن السهم.

 

[الثالث]: ومنهم: من يرفع إبهامه، ويجعل سبابته تحتها، فيصير كأنه عاقد ثلاثة عشر[11]، فيجري السهم على ظفر إبهامه.

 

[الرابع]: ومنهم: من يجريها على طرفي أصبعيه السبابة والإبهام، فيكون كأنه عاقد ثلاثين[12].

 

فمن أجراها على عقدة إبهامه فهو عيب عند الحذاق؛ لأنه لا يخلو أن يضربه فيه الريش، فيجرحه، وربما ضربه السهم فعقر أصبعه.

 

وأما من يجريها على سبابته، وهو أحسن قليلًا من الأول، وكلاهما مذهب أهل الاستواء في قبضته، وليسا بجيدين.

 

وأما من يجريها على أصل ظفري أصبعيه الإبهام والسبابة، كعاقد ثلاثين، فهو مذهب التوسط، وهو أحمد المذاهب.

 

وأما من وقف إبهامه، فيجريها على طرف ظفره، كعاقد ثلاث عشرة فهو مذهب أهل التحريف، وهو رديء جدًّا؛ لأن صاحبه يحرف قبضته تحريفًا شديدًا، ويوقف إبهامه، فإن هو أمال قوسه قليلًا سقط السهم من على ظفره، وهو رديء في الحرب، لا يكاد يستقيم له رمي؛ لسرعة سقوط سهمه"[13].

 

الذرائع:

وقال - رحمه الله -: "القسم من الذرائع نوعان:

أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.

 

والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته، فها هنا أربعة أقسام:

الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة.

 

الثاني: وسيلة موضوعة للمباح؛ قصد بها التوسل إلى المفسدة.

 

الثالث: وسيلة موضوعة للمباح، لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبًا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها.

 

الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها.

 

فمثال القسم الأول والثاني: قد تقدم.

 

ومثال الثالث: الصلاة في أوقات النهي، ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانَيْهم، وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها، وأمثال ذلك.

 

ومثال الرابع: النظر إلى المخطوبة، والمستامة، والمشهود عليها، ومن يطؤها، ويعاملها، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر، ونحو ذلك"[14].

 

إدراك الحق وتنفيذه:

وقال - رحمه الله -: "في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾ [ص: 45]، فالأيدي: القوة في تنفيذ الحق، والأبصار: البصائر في الدين، فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه، وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام:

[الأول]: فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق، وأكرمهم على الله تعالى.

 

القسم الثاني: عكس هؤلاء، من لا بصيرة له في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، وهم أكثر هذا الخلق، الذين رؤيتهم قذى للعيون، وحمى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار.

 

القسم الثالث: من له بصيرة في الهدى، ومعرفة به، لكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه، وهذا حال المؤمن الضعيف، ((والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله منه))[15].

 

القسم الرابع: من له قوة وهمة وعزيمة، لكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميز بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، بل يحسب كل سوداء تمرة، وكل بيضاء شحمة، يحسب الورم شحمًا، والدواء النافع سمًّا، وليس في هؤلاء من يصلح للإمامة في الدين، ولا هو موضعًا لها سوى القسم الأول.

 

قال الله -تعالى-: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]، فأخبر سبحانه أن بالصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين، وهؤلاء هم الذين استثناهم الله - سبحانه - من جملة الخاسرين، وأقسم بالعصر - الذي هو زمن سعي الخاسرين والرابحين - على أن من عداهم فهو من الخاسرين، فقال -تعالى-: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3]، فلم يكتفِ منهم بمعرفة الحق والصبر عليه، حتى يوصي بعضهم بعضًا، ويرشده إليه، ويحثه عليه؛ وإذا كان مَن عدا هؤلاء خاسرًا، فمعلوم أن المعاصي والذنوب تعمي بصيرة القلب، فلا يدرك الحق كما ينبغي، وتضعف قوته وعزيمته، فلا يصبر عليه، بل قد تتوارد على القلب حتى ينعكس إدراكه كما ينعكس سيره، فيدرك الباطل حقًّا، والحق باطلًا، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، فينتكس في سيره، ويرجع عن سفره، إلى مستقر النفوس المبطلة التي رضيت بالحياة الدنيا، واطمأنت بها، وغفلت عن الله وآياته، وتركت الاستعداد للقائه.

 

ولو لم يكن في عقوبة الذنوب إلا هذه وحدها، لكانت كافية داعية إلى تركها، والبعد منها، والله المستعان"[16].

 

حال الزوجين مع الأبناء:

وقال - رحمه الله - في قوله -تعالى-: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 49، 50] "فقسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام، اشتمل عليها الوجود..."[17].

 


[1] لم أجده مع كثرة ما بحثت عنه.

[2] بدائع الفوائد (2/ 498).

[3] بدائع الفوائد (1/ 47).

[4] أخرجه مسلم رقم: (2664) عن أبي هريرة - رضي الله عنه.

[5] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 169-170).

[6] أخرجه الحاكم (2/ 381) بنحوه، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 136)، ولفظه: "ضمن الله لمن اتبع القرآن: ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة"، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي: "صحيح"، والأثر له طرق عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفًا، وقد روي مرفوعًا ولا يصح؛ انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة (10/ 34) رقم: (4532)، وانظر: الدر المنثور (4/ 311)، وللفائدة انظر: مجموع الفتاوى (19/ 77)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 89) لابن تيمية، والصواعق المرسلة (3/ 845) لابن القيم.

[7] أخرج أحمد (3/ 314)، والحاكم (4/ 348) واللفظ له، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مات على شيء، بعثه الله عليه))، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في التلخيص: "على شرط مسلم"، وقال الألباني: "وهو كما قالا"؛ السلسلة الصحيحة (1/ 510) رقم: (283)، وصححه شعيب الأرناؤوط، مع تضعيفه لإسناد أحمد؛ لأن فيه راويًا مبهمًا.

[8] مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 35).

[9] أحكام أهل الذمة (2/ 1001).

[10] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص:135)، وانظر للفائدة: مقال رباعيات ابن القيم (رحمه الله) 3، أقسام الناس في طلب الأسباب.

[11] وهذه إشارة إلى طريقة معروفة تواطأت عليها العرب في عقود الحساب، وهي أنواع من: الآحاد، والعشرات، والمئين، والألوف، وانظر للفائدة: سبل السلام شرح بلوغ المرام (1/ 189) لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني - رحمه الله.

[12] وهذه إشارة إلى طريقة معروفة تواطأت عليها العرب في عقود الحساب، وهي أنواع من: الآحاد، والعشرات، والمئين، والألوف، وانظر للفائدة: سبل السلام شرح بلوغ المرام (1/ 189) لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني - رحمه الله.

[13] الفروسية (ص: 486).

[14] إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 165).

[15] تقدم.

[16] الجواب الكافي (ص: 63).

[17] تحفة المودود بأحكام المولود (ص:20).

 
شبكة الالوكة

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

أحمد اللهَ بمحامده التي هو لها أهل، والصلاة والسلام على خاتم رسلِه وأنبيائه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وبعد:

فقد سبق معنا السلسلة الأولى، والثانية، والثالثة، من رباعيَّات العلاَّمة ابن القيِّم (رحمه الله)، وسنذكر في هذا المقال السلسلة الرابعة، ومنها:

أقسام الصبر باعتبار محله[1]:

قال رحمه الله: "البابُ الخامس في انقسامه - يعني: الصبر - باعتبار محلِّه:

الصبر ضربان:

ضرب بدني.

وضرب نفساني.

 

وكل منهما نوعان:

اختياري.

واضطراري.

 

فهذه أربعة أقسام:

الأول: البدني الاختياري؛ كتعاطي الأعمال الشاقَّة على البدن اختيارًا وإرادة.

الثاني: البدني الاضطراري؛ كالصبر على ألم الضربِ والمرض والجراحاتِ والبرد والحَرِّ وغير ذلك.

الثالث: النفساني الاختياري؛ كصبر النَّفس عن فعل ما لا يحسن فعله شرعًا ولا عقلاً.

الرابع: النفساني الاضطراري؛ كصبر النفس عن محبوبها قهرًا إذا حِيل بينها وبينه.

 

فإذا عرفتَ هذه الأقسام، فهي مختصَّة بنوع الإنسان دون البهائم، ومشاركة للبهائم في نوعين منها:

وهما صبر البدن والنَّفس الاضطراريَّين، وقد يكون بعضها أقوى صبرًا من الإنسان، وإنَّما يتميَّز الإنسانُ عنها بالنوعين الاختياريين، وكثير من النَّاس تكون قوَّة صبرِه في النوع الذي يشارِك فيه البهائم لا في النوع الذي يخصُّ الإنسان، فيعدُّ صابرًا وليس من الصابرين"[2].

 

أهل الصبر والمرحمة:

قال رحمه الله: "الحادي والعشرون: أنَّه سبحانه خصَّ أهل الميمنة بأنهم:

[الأول]: أهل الصبر والمرحمة الذين قامَت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرَهم، فقال تعالى: ﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴾ [البلد: 17، 18]، وهذا حصرٌ لأصحاب المَيمنة فيمن قام به هذان الوصفان، والنَّاس بالنسبة إليهما أربعةُ أقسام، هؤلاء خيرُ الأقسام.

[الثاني]: وشرُّهم من لا صبر له ولا رحمة فيه، ويليه:

[الثالث]: من له صبرٌ ولا رحمة عنده، ويليه:

القسم الرابع: وهو من له رحمة ورِقَّة ولكن لا صبر له"[3].

 

أقسام الناس في الإخلاص للمعبود، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

وقال رحمه الله: "لا يكون العبد متحققا ب﴿ ـإِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [الفاتحة: 5]، إلاَّ بأصلين عظيمين:

أحدهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

والثاني: الإخلاص للمعبود؛ فهذا تحقيق﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾.

 

والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين - أيضًا - إلى أربعة أقسام:

أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة، وهم أهل: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ حقيقة؛ فأعمالهم كلُّها لله، وأقوالُهم لله، وعطاؤهم لله، ومَنْعهم لله، وحبُّهم لله، وبُغضهم لله، فمعاملتهم ظاهرًا وباطنًا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاءً ولا شكورًا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلبَ المحمدةِ والمنزلة في قلوبهم، ولا هربًا من ذمِّهم...، وكذلك أعمالهم كلُّها وعبادتهم موافِقة لأمر الله، ولما يحبُّه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل سواه...

 

الضرب الثاني: مَن لا إخلاص له ولا متابعة؛ فليس عمله موافقًا لشرع، وليس هو خالصًا للمعبود؛ كأعمال المتزيِّنين للناس، المرائين لهم بما لم يشرعه اللهُ ورسوله، وهؤلاء شِرار الخلق وأَمْقتهم إلى الله عزَّ وجل...

 

الضرب الثالث: من هو مخلِص في أعماله لكنَّها على غير متابعة الأمر؛ كجهَّال العبَّاد، والمنتسبين إلى طريق الزُّهد والفقر، وكل من عبَدَ اللهَ بغير أمره واعتقد عبادته هذه قُربة إلى الله...

 

الضرب الرابع: مَن أعمالُه على متابعة الأمر لكنَّها لغير الله؛ كطاعة المرائين، وكالرَّجل يقاتل رياءً وحميَّة وشجاعة، ويحجُّ ليقال، ويقرأ القرآن ليقال، فهؤلاء أَعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها؛ لكنَّها غير صالحة فلا تُقبل..."[4].

 

أقسام الصوفية:

وقال رحمه الله: "الصوفية أربعة أقسام:

[الأول]: أصحاب السوابق.

[الثاني]: وأصحاب العواقب.

[الثالث]: وأصحاب الوقت.

[الرابع]: وأصحاب الحقِّ"[5].

 

الحقوق المالية الواجبة لله تعالى:

وقال رحمه الله: "الحقوق المالية الواجبة لله تعالى أربعة قسام:

أحدها: حقوق المال؛ كالزَّكاة، فهذا يثبت في الذِّمَّة بعد التمكُّن من أدائه، فلو عجز عنه بعد ذلك لم يسقط، ولا يثبت في الذِّمَّة إذا عجز عنه وقت الوجوب، وألحق بهذا زكاة الفِطر.

 

القسم الثاني: ما يجب بسبب الكفَّارة؛ ككفارة الأَيْمان والظهار والوَطء في رمضان وكفَّارة القتل، فإذا عجز عنها وقت انعقادِ أسبابها، ففي ثبوتها في ذمَّته إلى الميسرة أو سقوطها قولان مشهوران في مذهب الشافعي وأحمد.

 

القسم الثالث: ما فيه معنى ضمان المتلف؛ كجزاء الصَّيد، وأُلحق به فِدية الحَلق والطِّيب واللِّباس في الإحرام، فإذا عجز عنه وقت وجوبِه ثبت في ذمَّته؛ تغليبًا لمعنى الغرامة وجزاء المتلَف، وهذا في الصيد ظاهر، وأمَّا في الطِّيب وبابِه، فليس كذلك؛ لأنَّه ترفُّه لا إتلاف؛ إذ الشَّعر والظُّفر ليسا بمتلفين، ولم تجب الفِدية في إزالتها في مقابلة الإتلاف؛ لأنَّها لو وجبَت لكونها إتلافًا، لتقيَّدَت بالقيمة، ولا قيمة لها؛ وإنَّما هي من باب الترفُّه المحض كتغطية الرَّأس واللباس، فأي إتلاف ها هنا؟ وعلى هذا فالراجح من الأقوال أنَّ الفدية لا تجب مع النِّسيان والجهل.

 

القسم الرابع: دم النُّسك؛ كالمتعة والقِرَان، فهذه إذا عجز عنها وجب عليه بدلُها من الصِّيام، فإن عجز عنها ترتَّب في ذِمَّته أحدهما، فمتى قدر عليه لَزِمه، وهل الاعتبار بحال الوجوب أو بأغلظ الأحوال؟ فيه خلاف"[6].

 

الإيمان والقرآن:

وقال رحمه الله: "فجعل النَّاس أربعة أقسام:

[الأول]: أهل الإيمان والقرآن، وهم خِيار الناس.

الثاني: أهل الإيمان الذين لا يقرؤون القرآن، وهم دونهم؛ فهؤلاء هم السُّعداء.

 

والأشقياء قسمان:

أحدهما: من أُوتي قرآنًا بلا إيمانٍ؛ فهو منافق.

والثاني: من لا أوتي قرآنًا ولا إيمانًا"[7].

 

فوائد عيادة المرضى:

وقال رحمه الله: "فيها أربعة أنواع من الفوائد:

[الأول:] نوع يرجع إلى المريض.

[الثاني:] ونوع يعود على العائد.

[الثالث:] ونوع يعود على أهل المرِيض.

[الرابع:] ونوع يعود على العامَّة"[8].

 

أنواع المُفتين:

وقال رحمه الله: "المفتون الذين نصبوا أنفسَهم للفتوى أربعة أقسام:

النوع الأول: العالِم بكتاب الله وسُنَّة رسوله وأقوالِ الصحابة، فهو المجتهد في أحكام النوازِل، يقصد فيها موافقةَ الأدلَّة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهاده تقليده لغيره أحيانًا...

 

النوع الثاني: مجتهد مقيَّد في مذهب من ائتمَّ به، فهو مجتهدٌ في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذِه وأصولِه، عارف بها، متمكِّن من التخريج عليها، وقياسِ ما لم ينص من ائتمَّ به عليه على منصوصه من غير أن يكون مقلِّدًا لإمامه لا في الحكم ولا في الدَّليل، لكن سلَك طريقَه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه ورتَّبه وقرَّره، فهو موافِق له في مقصده وطريقه معًا...

 

النوع الثالث: من هو مجتهدٌ في مذهبِ من انتسب إليه، مقرِّر له بالدليل، متقِن لفتاويه عالم بها، لا يتعدَّى أقوالَه وفتاويه ولا يخالفها، وإذا وجد نصَّ إمامه لم يعدِل عنه إلى غيره ألبتة...

 

النوع الرابع: طائفة تفقَّهَت في مذاهب من انتسبَت إليه، وحفظَت فتاويه وفروعه، وأقرَّت على أنفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه، فإن ذكروا الكتابَ والسنَّة يومًا في مسألة، فعلى وجه التبرُّك والفضِيلة، لا على وجه الاحتجاجِ والعمل، وإذا رأوا حديثًا صحيحًا مخالفًا لقول مَن انتسبوا إليه أَخَذوا بقوله وتركوا الحديثَ...

ففتاوى القسم الأول: من جنس توقيعات الملوكِ وعلمائهم.

وفتاوى النوع الثاني: من جنس توقيعات نوَّابهم وخلفائهم.

وفتاوى النَّوع الثالث والرابع: من جنس توقيعات خلفاء نوَّابهم.

 

ومَن عداهم فمتشبِّع بما لم يُعط، متشبِّه بالعلماء، محاكٍ للفضلاء، وفي كل طائفة من الطوائف متحقق فقيه، ومحاكٍ له، متشبِّه به، والله المستعان"[9].

 

أقسام الذنوب:

وقال رحمه الله: "الذُّنوب تنقسم إلى أربعة أقسام:

[الأول]: ملَكيَّة.

[الثاني]: وشيطانيَّة.

[الثالث]: وسبعيَّة.

[الرابع]: وبهيميَّة..."[10].

 

 


[1] وتقدم معنا في "رباعيات العلامة ابن القيم (رحمه الله) 3" مراتب الصبر.

[2] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص:13).

[3] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص:60).

[4] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 83).

[5] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (3/ 130).

[6] بدائع الفوائد (4/ 836).

[7] مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 55).

[8] زاد المعاد (4/ 106).

[9] إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 232).

[10] الجواب الكافي (86).

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×