اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)

المشاركات التي تم ترشيحها

بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)

في مجال القَصص القرآني نجد من أنبياء بني إسرائيل الذين كثُر حديث القرآن عنهم: نبي الله موسى عليه السلام، فهو أكثر نبي فصَّل القرآن قصتَه، وذكر أحواله المختلفة، وتناول جوانب متعددة من حياته الأسرية، وحياته الدعوية، ومن يتأمل في قصة يوسف وقصة موسى- خاصة الجوانب التي ذكرت من قصة موسى في سورة القصص- يلاحظ وجُوهًا متقاربة، وأحوالًا متشابهة.

إن نبي الله يوسف عليه السلام هو ابن يعقوب الملقب بإسرائيل عليه السلام، وكان ليعقوب اثنا عشر ابنًا، نشأت عنهم اثنتا عشرة قبيلة من بني إسرائيل، فجاء موسى بن عمران من نسل أحد أبناء يعقوب، وهو لاوي بن يعقوب عليه السلام، وكان بين موسى ويعقوب آباء، كان يعقوب هو الجد الرابع أو الخامس لموسى، كما ذكر بعض أهل العلم

عباد الله، تبدأ القصة - في حديثنا عن المقارنة بين القصتين - بالإلقاء لكلا النبيَّيْنِ الكريمين؛ فيوسف أُلقي في الجب - يعني: البئر- وموسى أُلقي في اليمِّ- يعني: نهر النيل- وقد ألقت يوسف في الجُبِّ أيدٍ تريد أن تتخلَّص منه، وألقت موسى في اليمِّ يدٌ تريد أن تُخلِّصَه، فأيدي الإلقاء في الجُبِّ أيدٍ كارهة ليوسف، وهي أيدي إخوته الذين حسدوه لمزيد حبِّ أبيهم له، فأرادوا الخلاص منه بهذا الفعل الشائن؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [يوسف: 10]، ثم قال: ﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [يوسف: 15]، وأما يد إلقاء موسى في اليمِّ فهي يدٌ مُحِبَّة، رحيمة حانية، أرادَتْ أن تُخلِّصه من أيدي جنود فرعون الذين يسعون وراء مواليد بني إسرائيل من الذكور لقتلهم؛ لأن فرعون قد أُخبِر عن طريق بعض الكهنة -كما قيل- بأن زوال مُلْكِه سيكون على يد غلام من بني إسرائيل؛ فألهمَ اللهُ أمَّ موسى أن ترضعه حتى يشبع، ثم تُلقيه في اليمِّ، ففعلت ذلك عن ثقة بالله تعالى، وتصديق بوعده الذي لا يتخلَّف بردِّه إليها حيًّا؛ قال تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]، وبعد الإلقاء في الجُبِّ واليمِّ جاء الإنقاذ لهما إلى بَرِّ الأمان؛ فيوسف عليه السلام أنقذَتْه أيدٍ تجارية، فباعَتْه بثمنٍ بخسٍ دراهمَ معدودة، حتى وصل إلى عزيز مصر، فعاش في قصره رقيقًا؛ قال تعالى عن يوسف: ﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 19 - 21]، وأما موسى فوصل إلى أيدي علية القوم؛ وهم آل فرعون الذين يقتلون الأطفال؛ ولكنهم لما كانوا جنودًا مأمورين لم يستعجلوا في قتل موسى حتى تصدُر إليهم الأوامر بذلك من قِبَل فرعون؛ فلذلك حملوا موسى إلى قصر فرعون، فلما رآه فرعون وزوجته تبايَنَتْ نظرتُهما إليه؛ فأما فرعون فقد أراد التخلُّص منه على طريقته المعهودة من أجل غايته المقصودة، وأمَّا زوجته فإنها حينما لم يكن لها ولدٌ؛ فقد تملَّكَتْها عاطفةُ الأمومة، فطلبت إبقاءه وتربيته في قصرها؛ رجاء أن يكون قُرَّةَ عينٍ لهما، فنفَّذ فرعون طلب زوجته، فأبقى موسى حيًّا؛ قال تعالى: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [القصص: 8، 9].


بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)



ونلاحظ في هذا الفصل من فصول حياتي هذين النبيَّيْنِ الكريمَينِ أمورًا:
الأول: أنهما كليهما من أولاد يعقوب.
الثاني: أن كليهما فُقِد عن أسرته.
الثالث: أن كليهما ناله الإلقاء في الماء.
الرابع: أن كليهما لم يدم طويلًا في الماء بل أُنْقِذ منه.
الخامس: أن كليهما وصل إلى قصر في مصر؛ فيوسف استقرَّ في قصر عزيز مصر، وموسى استقرَّ في قصر ملك مصر فرعون.

السادس: أن كلَّ مُستقبِلٍ مكرِمٌ لكلٍّ منهما في ذينك القصرين؛ رجاء نفعه أو اتخاذه ولدًا، فقد نطق العزيز وامرأة فرعون بجملة متفقة؛ قال تعالى عن العزيز: ﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [يوسف: 21]، وقال عن امرأة فرعون: ﴿ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص: 9].


بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)


ومما اشترك فيه يوسف وموسى عليهما السلام: حزن الوالدين الشديد على فَقْدِهما؛ فيوسف قد احتال إخوته على أبيهم لأخْذِه للعب معهم، وهم عازمون على التخلُّص منه، فألقوه في الجُبِّ، ثم عادوا إلى أبيهم، فأخبروه الخبر الكاذب بهلاك يوسف بين براثن الذئب ومخالبه، فأدخلوا على أبيهم يعقوب بذلك حزنًا عميقًا، استمرَّ معه سنين عددًا، حتى ذهب بَصَرُ يعقوب من شدة الحزن والبكاء على يوسف؛ قال تعالى: ﴿ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: 16 - 18]، وقال تعالى أيضًا بعد فَقْدِ بنيامين في مصر: ﴿ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف: 81 - 84].

وأما أُمُّ موسى فقد حزنت على فراقه حزنًا كبيرًا، حتى أصبح قلبها فارغًا من شواغل الدنيا إلا من ذكر موسى، ومن شدة وَجْدِها عليه وشوقها إليه، وقد قاربت أن تخبر أن لها ولدًا مفقودًا؛ ولكن الله ربط على قلبها فلم تُبِحْ بسرِّها؛ قال تعالى: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 10].


بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)


ومما اشترك فيه هذان النبيَّان الكريمان أن الله قد وعد والديهما بنجاة ولَدَيهما، وعودتهما إليهما سالمينِ، وكانا على يقين من حياتهما بعد فقدهما؛ ولذلك أرسلا أولادهما للبحث عنهما؛ قال تعالى عن يعقوب: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 86-87]، وقال عن أم موسى: ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]، وقال أيضًا: ﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [القصص: 11].



أما أخت موسى، فعادَتْ بالخبر سريعًا إلى أمِّها حينما وجدته في قصر فرعون، وأما إخوة يوسف فلم يرجعوا بخبره إلى أبيه، إلا بعد سنوات عقب رحلة تجارية قاموا بها من الشام إلى مصر، حصلت فيها بعض الأحداث.


بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)


و إن من الملاحظ في هذا الفصل من القصتَينِ أن الله تعالى قد جعل سببين مختلفين لعودة يوسف وموسى لأسرتيهما؛ فأما سبب عودة يوسف إلى أبيه، فهو الرحلة التجارية لإخوة يوسف، التي تخللتها أحداث منها: أخذ يوسف لأخيه بنيامين محتجزًا مكرمًا لديه حتى يصل به إلى أبيه يعقوب بعد أن عرَفَ أن أصحاب القافلة هم إخوته، وبعد محاورةٍ وأحوالٍ جَرَتْ بين يوسف وإخوته في مصر، عاد يوسف إلى أبيه الأسيف عليه، فاجتمع به في مصر؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ [يوسف: 88 - 94].

وأما سبب عودة موسى إلى أمِّه فهو حاجته للارتضاع؛ إذ لم يقبَل ثديَ امرأةٍ غير ثدي أُمِّه، وكان ذلك بقدرة الله تعالى وحكمته ورحمته بأمِّ موسى؛ فقال تعالى: ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [القصص: 12، 13].


بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)

والملاحظ في هذا الفصل من القصتَينِ أيضًا: أن القرآن الكريم وصف حال عودة يوسف، وفصَّل فيها، بخلاف قصة عودة موسى، ولعل من أسباب ذلك: طول مدة فَقْدِ يوسف، وأثر ذلك في يعقوب وصحَّته، وأما موسى فقد بقي مدة يسيرة، ثم عاد إلى أُمِّه، فيعقوب عليه السلام فرح فرحًا عظيمًا بحياة يوسف ومعرفة مكان وجوده، فرجع إليه بَصَرُه بعد عَماه؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف: 96 - 98].


بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)


ومما اشترك فيه النبيَّانِ الكريمانِ: أن كليهما وصل إلى بيت مُلْك، وإلى يد امرأة؛ فأما يوسف فعاش في ذلك البيت مولًى؛ لكنه لقي من صاحبه الإكرام والإنعام، غير أن نعمته لم تسلم من كدر في آخر عهده بذلك البيت؛ إذ ابتُلي بامرأة العزيز؛ حيث راوَدَتْه عن نفسه، ثم آل أمره بسبب تمنُّعه عنها إلى دخول السجن؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21]، ثم قال: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف: 23]، إلى أن قال: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يوسف: 35]، وأما موسى فعاش في قصر فرعون كما يعيش أبناء الكبراء في نعمة وعناية، ولقي من امرأة فرعون الاحتفال والحفاوة والحب والحنان والخير الكثير؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [القصص: 9].


بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)


و لقد وصف الله تعالى كلا الرسولين الكريمين بآيةٍ واحدةٍ متفقة الألفاظ وهي قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 22]، إلا أنه زاد في وصف موسى لفظ: "واستوى"، فقال: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص: 14]، والسبب: أن موسى أُوحي إليه في سِنِّ الأربعين من عمره، وهي سِنُّ كمال القوة، وأما يوسف فأُوحي إليه قبل ذلك، كما قيل؛ ولذلك لما زاد موسى بالسن والقوة زيد في وصفه بقوله: "واستوى"، وقيل في سبب الزيادة بوصف الاستواء: أن موسى ورد في الأحاديث وصفه بكمال القوة البدنية، وطول القامة؛ فلهذا زيد وصفه بالاستواء لذلك السبب والله أعلم.


بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)

ومما اشترك فيه النبيَّانِ الكريمانِ يوسف وموسى عليهما السلام: التنعُّم الكبير، والبلاء الكثير؛ فيوسف مرَّتْ حيَّاته بطورين: طور البلاء والرق، وطور التنعُّم والعِزِّ؛ ففي الطور الأول: ابتُلي بعداوة إخوته حتى أُلقي في الجُبِّ، وابتُلي ببيعه حتى صار رقيقًا في بيت العزيز، وابتُلي بمراودة امرأة العزيز؛ مما أدَّى به ذلك إلى دخول السجن، ولبثه فيه سنوات، وبعد هذا كله جاء الطور الثاني؛ وهو طور التنعُّم والعِزِّ، وسيأتي في نهاية القصة.

وموسى كذلك مرَّ بطورين مخالفين لطوري يوسف، فقد ابتدأتْ حياتُه بالتنعُّم والعِزِّ في بيت فرعون، ثم جاء الطور الثاني: طور البلاء، فقد ابتُلي بقتل القبطي من غير عمد؛ انتصارًا لرجل من بني إسرائيل، حتى آل الأمر إلى تآمُر الملأ عليه من أجل قتله، فخرج عن مصر إلى مدين، فاستقرَّ فيها ثماني سنوات أو عشرًا، بعيدًا عن أهله وبلده؛ قال تعالى: ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص: 15]، ثم قال تعالى: ﴿ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 18 - 21].

بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)

وأما النهاية لقصتي هذين النبيين الكريمين، فهي أنه قد صار كلٌّ منهما في مهمة عامة كانت هي خاتمة فصول قصته؛ فيوسف عليه السلام خرج من السجن إلى الجاه العريض، والعز المنيف، والتمكين في أرض مصر، بعد مرور فصول من الابتلاء عليه؛ حيث صار على خزائن مصر، فجاءت الحاجة بأهله من الشام حتى اجتمعوا إليه في مصر، وخرُّوا له سُجَّدًا، وبذلك تحقَّقَتْ رؤياه، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 99 - 101].

وأما موسى عليه السلام فقد رجع من مدين إلى مصر رسولًا من الله إلى فرعون وقومه، فدعاهم إلى دين الله، فأبى فرعون قبول دعوته، فخرج موسى ببني إسرائيل من مصر، فتبعهم فرعون وجنوده، فأهلك اللهُ فرعون ومَنْ معه في اليمِّ، ونجَّى موسى وبني إسرائيل، فسار بهم في صحراء سيناء في طريقه إلى بيت المقدس، إذ كان قد طلب منهم أن يدخلوا الأرض المقدَّسة، ويقاتلوا الجبَّارين فيها، لكنَّ بني إسرائيل أبوا عليه ذلك، فضرب عليهم التيه في سيناء أربعين سنة، وفي تلك المدة مات موسى عليه السلام، وهذه النهاية من قصة كليم الله تناولَتْها آياتٌ كثيرةٌ من القرآن العظيم في سورة القصص وغيرها.

بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)

في هاتين القصتَينِ تجلَّى الحبُّ والبغض، والأُلْفة والعداوة، والإحسان والإساءة، والقُرْب والبُعْد، وظهر في القصتَينِ: حنان الأبوَّة والأمومة وحزنهما، ونفع الأُخوَّة وضرُّها.

وصُوِّر في القصتين: الحزن والفرح في أحوال مختلفة؛ حزنُ الفَقْد والفِراق، وفرح العودة والتلاقي، وحزن البلاء، وفرح النجاة منه، وحزن العداوة، وفرح إذابتها.


بين قصتي يوسف وموسى عليهما السلام (قراءة تدبرية)




من هذه المقارنة بين هاتين القصتَينِ نتعلَّم:

أن الابتلاء عنصر ملازم للحياة الإنسانية، غير أن الله تعالى يبسط على الصالحين من عباده أجنحة لطفه وعنايته، ويُسخِّر لهم من عباده مَنْ يُخفِّفُون عنهم شدَّة وَطْأته.

ونتعلم من هاتين القصتَينِ: أن الفرج يعقب الشدَّة، طالت الشدَّة أم قصرت، وأن المحن تخفي في طواياها المنح، ورُبَّ أمرٍ أحزن أوَّلُه، أفرَح آخِرُه.

ونتعلم من هاتين القصتَينِ: أن الثقة بالله تعالى، وحسن الظن به طريق إلى المطالب الحميدة، والخروج من المآزق الشديدة.

ونتعلم من هاتين القصتين: أن مفارقة الولد لوالديه تحزنهما حزنًا شديدًا، وهذا يستدعي كمال بِرِّ الأولاد بالوالدين، وحسن رعايتهما، والقيام بحقِّهما.


ونتعلم من هاتين القصتَينِ: أن الأخت قد تنفع أخاها، والأخ قد يضُرُّ أخاه في جوِّ العداوة والحسد.


ونتعلم من هاتين القصتين: أن اختيار الله لعبده خيرٌ من اختيار العبد لنفسه، والموقف الصحيح في ذلك: أن يرضى المسلم بما قدره الله عليه، ويحسن الظن بالله، ويثق بحسن بلائه، فمن فعل ذلك، خفَّ بلاؤه، وقلَّ عناؤه، وقرب فرجُه، وتيسَّر مخرجُه، وأُجِرَ على مصائبه، وسما في مناقبه.


هذا وصلوا وسلموا على من أُمِرْتم بالصلاة والسلام عليه.


عبدالله بن عبده نعمان العواضي

شبكة الالوكة

image.png.617a40a249deb1759fd5f56aa4921b3b.png
تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ الحب الحقيقي للنبي ﷺ ليس في إقامة مولدٍ لم يشرعه، وإنما في اتباع سنته، وإحياء ما أحياه، واجتناب ما نهى عنه، قال ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [رواه مسلم]

×