اذهبي الى المحتوى

امانى يسرى محمد

العضوات
  • عدد المشاركات

    7674
  • تاريخ الانضمام

  • تاريخ آخر زيارة

  • الأيام التي فازت فيها

    60

مشاركات المكتوبهة بواسطة امانى يسرى محمد


  1. سورة الإسراء :

    ============

    1/ قال تعالى في سورة الإسراء 1 : (سبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) عبّر جل ذكره بالتسبيح أمام ذكر الإسراء بنبيه وعبده محمد صلى الله عليه وسلم، وكان مقتضى الحال حسب ما يظهر لعقولنا الضعيفة أن يعبر بالحمد والثناء .. فما الحكمة في ذلك ؟..

    من الحكم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم صبيحة الإسراء بما حصل، ولو كان كذباً، لما تركه الله، فإن الله ينزه أن يمكّن شخصاً يكذب عليه مثل هذا الكذب من غير أن ينتقم منه، والله أعلم.

    ابن عثيمين - المنتقى من فرائد الفوائد ص114

     

    2/ قال تعالى في سورة الإسراء 9 :

    (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ..

    والقرآن يهدي للتي هي أقوم من هُدَى كتاب بني إسرائيل الذي في قوله :

    (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ) الإسراء 2 ..

    ففيه إيماء إلى ضمان سلامة أُمَّة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم .

    الطاهر بن عاشور - التحرير والتنوير المجلد الرابع عشر ص٣٣

     

    3/ قال تعالى في سورة الإسراء 23 : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ..

    في تعليق الحكم وهو الأمر بالإحسان بلفظ الوالدين المشتق من الولادة ؛ إيذان بعليتها في الحكم ، فيستحقان بالوالدية ، سواء أكانا مؤمنين أم كافرين ، بارين أو فاجرين ، محسنين إليه أو مسيئين .

    الشيخ عبدالحميد ابن باديس - مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير المجلد الأول ص٦٧

     

    4/ قال تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) سورة اﻹسراء 24

    أضيف الجناح إلى الذل ـ وهو الهون واللين ـ إضافة موصوف إلى صفة ـ أي اخفض جناحك الذليل ، و هذا ليفيد هوانه وانكساره عند حياطتهما حتى يشعر بأنهما مخدومان للاستحقاق ، لا متفضل عليهما بالإحسان .

    وفي ذكر هذه الصورة التي تشاهد من الطير تذكير بليغ مرقق للقلب موجب للرحمة وتنبيه للولد على حالته التي كان عليها معهما في صغره ، ليكون ذلك أبعث له على العمل وعدم رؤية عمله أمام ما قدما إليه .

    عبدالحميد ابن باديس ـ مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير (تفسير ابن باديس).

     

    5/ قال تعالى عن الوالدين : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) سورة اﻹسراء 24

    خص التربية بالذكر ، ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية ، فيزيده إشفاقاً لهما وحناناً عليهما .

    القرطبي ـ الجامع لأحكام القرآن .

     

    6/ قال تعالى : (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) سورة اﻹسراء

    وقال تعالى : (فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) سورة النساء 78

    فلو كان المؤمنون لا يفقهونه أيضاً لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى به .

    ابن تيمية ـ مجموع الفتاوى .

     

    7/ ويجب على أهل العلم أن يبينوا أن القرآن بيان وهدى وشفاء ، وإن ضَلَّ به من ضلَّ ؛ فإنه من جهة تفريطه ؛ كما قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)) الإسراء .

    شيخ الإسلام ابن تيمية - مجموع الفتاوى المجلد السادس ص٤٠٠

     

    8/ قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) سورة اﻹسراء 82

    ولم يقل الله  : وننزل من القرآن ما هو دواء ، فإن الدواء قد يصيب المحل ويحصل أثره ، وقد يتخلف لفقد شرط أو وجود مانع .

    أما القرآن فقد ذكر النتيجة مباشرة : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) .

    خالد السبت .

     

    9/ قال تعالى في سورة الإسراء 82: ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) ..

    فلله الحمد والشكر والثناء، على أن جعل كتابه هدى وشفاء ورحمة ونورا وتبصرة وتذكرة وعبرة وبركة وهدى وبشرى للمسلمين.

    فإذا علم هذا، علم افتقار كل مكلف لمعرفة معانيه والاهتداء بها، وكان حقيقاً بالعبد أن يبذل جهده ويستفرغ وسعه في تعلمه وتفهمه بأقرب الطرق الموصلة إلى ذلك.

    السعدي - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان

     

    10/ ما جالس القرآن أحد إلا فارقه بزيادة أو نقصان قال تعالى :

    (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) سورة اﻹسراء 82

    قتادة السدوسي - سنن الصالحين لأبي الوليد الباجي .

                    


     

    سورة الكهف :

    ===========  

    1/ ما جلست إلى القرآن الكريم أتلوه وأتملى تفسيره وبلاغته وإعجازه ، إلا أحسست أني في جو مزيج من مهابة تبعث الإيمان ، وسعادة تمنح السكينة ، ونور يضيء جوانب النفس بالعلم الصحيح والإقناع البليغ والإمتاع المعجز ، فأهتف من أعماق نفسي : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ۜ (1) قَيِّمًا) سورة الكهف

    ثم إني على تكراره أحس أن له بشاشة متجددة ، وأنه في كل قراءة يمنحني جديداً من المعرفة يتوج قديمها ، وطارفاً من البلاغة يزكي تليدها ، فأشعر بأني إزاء كنز لا تفنى عجائبه ، وبحر لا تحجب جواهره ، وزاد يغذي الروح رَوحاً وريحاناً ، وعطاء إلهي يتحف النفس إسلاماً وإيماناً .

    فأردد في سعادة غامرة قوله  : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) سورة اﻹسراء 82

    أحمد فرح عقيلان ـ من لطائف التفسير .

     

    2/ قال تعالى في سورة الكهف : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) سورة الكهف 13

    الفتية هم الشبان وهم أقبل للحق من الشيوخ عكس ما يظنه أكثر الناس .

    محمد بن عبدالوهاب - الدرر السنية .

     

    3/ قال تعالى في شأن أصحاب الكهف : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) سورة الكهف 18

    يعني في نومهم مرة يكونوا على اليمين و مرة على الشمال ولم يذكر الله الظهر و لا البطن لأن النوم على اليمين وعلى الشمال هو الأكمل .

    ابن عثيمين - تفسير سورة الكهف .

     

    4/ قال تعالى في شأن أصحاب الكهف : (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) سورة الكهف 18

    في هذه الآية دليل على جواز اتخاذ الكلب لحراسة الآدميين لأنه إذا جاز اتخاذ الكلب لحراسة الماشية و الحرث أو للصيد الذي هو كمال فاتخاذه لحراسة البيت من باب أولى .

    ابن عثيمين - تفسير سورة الكهف .

     

    5/ قال تعالى في سورة الكهف :

    (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)) ..

    والمقصود أن الله سبحانه نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات . فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه و قدوته فإن وجده كذلك فليبعد عنه .وإن وجده ممن غلب عليه ذكر

    الله تعالى واتباع السنة و أمره غير مفروط عليه بل هو حازم في أمره فليتمسك بغرزه .

    ابن القيم - الوابل الصيب .

     

    6/ قال تعالى : (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) سورة الكهف 28

    في هذه الآية إشارة إلى أهمية حضور القلب عند ذكر الله ، وأن الإنسان الذي يذكر الله بلسانه لا بقلبه تنزع البركة من أعماله وأوقاته حتى يكون أمره فرطاً عليه .

    ابن عثيمين ـ تفسير سورة الكهف .

     

    7/ قال تعالى في سورة الكهف : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) سورة الكهف 45

    قالت الحكماء : شبه الله  الدنيا بالماء ؛ لأن الماء لا يستقر في موضع ، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد ، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة ؛ كذلك الدنيا ، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى .

    ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها ، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعاً منبتاً ، وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مهلكاً ، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر .

    الجامع لأحكام القرآن للقرطبي .

     

    8/ قال تعالى في سورة الكهف 50 : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) ..

    ويشبه أن يكون تحت هذا الخطاب نوع من العتاب لطيف عجيب !وهو أني عاديت إبليس إذ لم يسجد لأبيكم آدم مع ملائكتي فكانت معاداته لأجلكم ثم كان عاقبة هذه المعاداة أن عقدتم بينكم وبينه عقد المصالحة !.

    ابن القيم - الداء والدواء

     

    9/ قال تعالى ذاكراً خبر موسى مع فتاه يوشع  : (فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا) سورة الكهف 62

    موسى  لم ينصب ، ولم يقل : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، إلا منذ جاوز الموضع الذي حده الله تعالى له . فلعل الحكمة في إنساء يوشع أن يستيقظ موسى  ، لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة وطلب علم ، بالتيسير عليه وحمل الأعباء عنه .

    وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات ، أن ييسرها ويحمل عنه مؤنتها ، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة . فما أورد الله تعالى قصص أنبيائه ليسمر بها الناس ، ولكن ليشمر الخلق لتدبرها ، واقتباس أنوارها ومنافعها عاجلاً وآجلاً .

    الناصر ـ محاسن التأويل للقاسمي .

     

    10/ قال تعالى عن قصة موسى والخضر عليهما السلام في سورة الكهف 71: (فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) ..

    قال الناصر في الانتصاف: بادر موسى بالإنكار؛ التهاباً وحمية للحق فقال : (أخَرَقتَها لِتُغرِقَ أَهلَها) ولم يقل (لتغرقنا) فنسي نفسه واشتغل بغيره في الحالة التي كل أحد فيها يقول: (نفسي نفسي) لا يلوي على مال ولا ولد، وتلك حالة الغرق. فسبحان من جبل أنبياءه وأصفيائه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة بهم.

    القاسمي - محاسن التأويل

     

    11/ قال تعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام : ( فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا) الكهف : 77

    وقال سبحانه : (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ) الكهف : 82

    عندما كان الحديث عن بخل ولؤم السكان جاء التعبير بكلمة ( أهل قرية ) لأن مادة ( قرى ) تدل على الجمع ومن مستلزماته الإمساك والبخل .

    بينما عندما جاء الحديث عن الغلامين والخوف من ضياع كنزهما جاء التعبير ب (المدينة ) لأن زحمة المدينة وكثرة الوجوه الغريبة فيها أليق بإضاعة المساكين والضعفاء ، كما أن التحايل والغبن يكثر في المدن أكثر منها في القرى.

    د. مصطفى مسلم - مباحث في إعجاز القرآن ص١٤٠

     

    12/ قال تعالى في سورة الكهف في قصة موسى والخضر : (فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) سورة الكهف 77

    لا بأس بالسؤال في بعض الأحوال لقوله تعالى : (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا)

    وأن من لم يعط يتعزى بهذه القصة . وكم ممن هان على الناس وهو جليل عند الله .

    محمد بن عبدالوهاب - الدرر السنية .

     

    13/ قال تعالى ذاكراً خبر موسى والخضر  : (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) سورة الكهف 82

    خدمة الصالحين ، أو من يتعلق بهم ، أفضل من غيرهما ، لأنه علل استخراج كنزهما ، وإقامة جدارهما ، بأن أباهما صالح .

    السعدي ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان .

     

    14/ قال تعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام : (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا) الكهف : 82 ..

    هنا ما قال : ( فأردنا ) ولا قال : ( فأردت ) ، بل قال : ( فأراد ربك) ؛ لأن بقاء الغلامين حتى يبلغا أشدهما ليس للخضر فيه أي قدرة.

    الشيخ ابن عثيمين - تفسير سورة الكهف ص١١٩

     

    15/ قال تعالى في قصة ذي القرنين في سورة الكهف : ( حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)) ..

    في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه ولا يتركون وماهم عليه.

    القرطبي - الجامع لأحكام القرآن

     

    16/ قال تعالى عن الكافرين في ختام سورة الكهف : (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)) سورة الكهف

    التعبير بكلمة حبط تعبير بليغ . فأصل الحبوط أن تكثر الدابة من العشب حتى ينتفخ بطنها فيقضى عليها . ولقد أكثر هؤلاء الكفرة من الأعمال الدنيوية مالا ورجالا وحطاما حتى انتفخت نفوسهم بها عجبا وزهوا وكبرا فكان حتفهم في ذلك فحبطت تلك الأعمال فذهبت هباء منثورا .

    مصطفى مسلم - مباحث في التفسير الموضوعي .

                    


     

    سورة مريم :

    ==========

    1/ قال تعالى في سورة مريم : ( يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسمُهُ يَحيى لَم نَجعَل لَهُ مِن قَبلُ سَمِيًّا (7)) ..

    هذه مِنّة من الله وإكرام لزكريا إذ جعل اسم ابنه مُبتكراً ، وللأسماء المبتكرة مزية قوّة تعريف المسمى لقلة الاشتراك ، إذ لا يكون مثله كثيراً مدة وجوده . وله مزية اقتداء الناس به من بعد حين يسمون أبناءهم ذلك الاسم تيمّناً واستجادة.

    الطاهر ابن عاشور - تفسير التحرير والتنوير المجلد السادس عشر ص١٣

     

    2/ قال تعالى في شأن مريم : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)) سورة مريم

    قد أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن خير ما تطعمه النفساء الرطب فلو كان شيء أحسن للنفساء من الرطب لأطعمه الله مريم وقت نفاسها بعيسى .

    الشنقيطي - أضواء البيان .

     

    3/ قال تعالى مخبراً عن المسيح ابن مريم عليه السلام في سورة مريم 31: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) ..

    أي معلماً للخير داعياً إلى الله مذكراً به مرغباً في طاعته .

    فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه والاجتماع به، بل تمحق بركة من لقيه واجتمع به.

    ابن القيم - رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ( الرسالة التبوكية)

     

    4/ إن الخلاف جبن ، وفشل ، وذهاب ريح ، والشاهد وحي الله ، لا يكاد يذكر الأحزاب بلفظ الجمع إلا في مقام الهزيمة والخلاف :

    (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ) سورة مريم 37 

    (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ) سورة الزخرف 65 ..

    ولا يكاد يذكر الحزب بلفظ مفرد إلا في مقام الخير والفلاح (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة المجادلة 22

    لقد مللنا جمع التكسير لكثرة ما تردد ، وسئمنا منه لكثرة ما تعدد ، ونتطلع للجمع السالم الصحيح يحدو و يغرد .

    علي عبدالخالق القرني ـ إيماض البرق في شجاعة سيد الخلق ( مطبوع ) .

      

    5/ قال تعالى في شأن إبراهيم عليه السلام :

    (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) سورة مريم 49

    في هذه الآية دليل على أن اعتزال الكفار والأوثان والبراءة منهم من فوائده :

    تفضل الله تعالى بالذرية الطيبة الصالحة على فاعله .

    الشنقيطي - أضواء البيان .

     

    6/ من كان له واعظ من نفسه كان له من الله حافظ ، فرحم الله من وعظ نفسه وأهله فقال : يا أهلي ..

    صلاتكم صلاتكم ..

    زكاتكم زكاتكم ..

    جيرانكم جيرانكم ..

    مساكينكم مساكينكم ..

    لعل الله أن يرحمكم يوم القيامة ، فإن الله أثنى على عبد كان هذا عمله ، فقال : (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)) مريم .

    الحسن البصري - تفسير الحسن البصري جمع أحمد المزيدي المجلد الثاني ص٢٦

                    


     

    سورة طه :

    ========

    1/ أما ما يذكره العـوام أن (يس) و (طه) من أسماء النبي فغير صحيح ليس في ذلك حديث صحيح، ولا حسن ولا مرسل ولا أثر عن صاحب إنما هذه الحروف مثل (ألم) و (حم) ونحوها.

    ابن القيم - تحفة المولود

     

    2/ قال تعالى في سورة طه : (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2)) ..

    قال قتادة رحمه الله : لا والله ما جعله الله شقاءً ، ولكن جعله رحمةً ونوراً، ودليلاً إلى الجنة  .

    تفسير الطبري - المجلد السادس عشر ص٩

     

    3/ قال سبحانه موصيا موسى وهارون  لما أرسلهما لفرعون :

    (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) سورة طه 44

    سبحانك ما أعظمك وأحلمك !

    يا من يتحبب إلى من يعاديه

    فكيف بمن يتولاه و يناديه .

    يزيد الرقاشي - تفسير القرآن العظيم لابن كثير .

     

    = هذه رحمتك بمن قال :

    (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) سورة النازعات 24

    فكيف رحمتك بمن قال :

    (سبحان ربي الأعلى) !..

    قتادة بن دعامة السدوسي .

     

    = هذا رفقك بمن يدعي الربوبية !..

    فكيف رفقك بمن يقر بالعبودية !..

    يحيى بن معاذ الرازي .


  2. سورة يوسف :

     

    ===========

     

    1/ قال تعالى في بيان رؤيا يوسف في سورة يوسف 4 : (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) ..

     

    ذكر جماعة من المفسرين أن القمر تأويله الأب والشمس تأويلها الأم، فاستقرأ بعض الناس من تقديمها وجوب بر الأم وزيادته على بر الأب.

     

    ابن الفرس - أحكام القرآن

     

     

     

    2/ قال تعالى في سورة يوسف 5 : (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) .. يعقوب عليه السلام عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك فإن الرجل يود أن يكون ولده خـيراً منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه.

     

    ابن العربي – أحكام القرآن

     

     

     

    3/ قال تعالى في سورة يوسف : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)) سورة يوسف

     

    يستفاد من هذه الآية أنه لا ينبغي للعاقل أن يستحقر أحدا فقد يكون زاهدا فيه وهو لا يعلم .

     

    محمد بن عبدالوهاب - الدرر السنية

     

     

     

    4/ قال تعالى في قصة يوسف  : (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) سورة يوسف 21

     

    ولا يزال لطف الله بعبده ، فبعد أن حجب الشيطان في قلوب إخوته معاني الأخوة ، قذف الله في قلب عزيز مصر معاني الأبوة .

     

    ناصر العمر ـ آيات للسائلين .

     

     

     

    5/ قال تعالى عن يوسف عليه السلام في سورة يوسف 22: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ..

     

    في هذه الآية دليل على أن الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى العباد سبب ينال به العلم، وتنال به خيرات الدنيا والآخرة.

     

    السعدي - فوائد مستنبطة من قصة يوسف

     

     

     

    6/ قال تعالى عن يوسف عليه السلام في سورة يوسف 24 : (كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ..

     

    محبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد، وكلما كان أكثر إخلاصاً وأشد توحيداً كان أبعد من عشق الصور. ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه.

     

    ابن القيم - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان

     

     

     

    7/ قال تعالى في شأن يوسف وامرأة العزيز في سورة يوسف 25: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) ..

     

    تأمل :

     

    المتبادر للذهن أن يكون الخطاب وألفيا سيدهما؛ لأن يوسف مملوك لدى العزيز..  فلماذا نسبت السيادة للمرأة فقط ؟..

     

    لأن يوسف مسلم والعزيز كافر ولا تكون أبداً السيادة للكافر على المسلم.

     

    البقاعي - نظم الدرر

     

    وجه آخر: وإنما لم يقل سيدهما؛ لأن ملكه ليوسف لم يكن صحيحاً فلم يكن سيداً له لأن استرقاق يوسف غير شرعي وهذا كلام ربه العليم بـأمره لا كلام من استرقه.

     

    الهرري - حدائق الروح والريحان

     

     

     

    8/ قال تعالى في سورة يوسف 30 : (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) ..

     

    لماذا قلن امرأة العزيز ولم يصرحوا باسمها ؟..

     

    أضفنها إلى زوجها؛ إرادة لإشاعة الخبر فإن النفس إلى سماع أخبار أولي الأخطار والمكانة أميل.

     

    البقاعي - نظم الدرر

     

     

     

    9/ إذا كانت مشاهدة مخلوق يوم (اخرُجْ عَليهِن) سورة يوسف 31 ..

     

    استغرقت إحساس الناظرات (وقطّعنَ أيدِيَهُن) وما شعرن ..

     

    فكيف بالحال يوم المزيد؟ ! لو أحببت المعبود لحضر قلبك في عبادته.

     

    ابن القيم – الفوائد

     

     

     

    10/ قال تعالى عن يوسف ودعوته لصاحبي السجن :

     

    (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)) سورة يوسف

     

    يستفاد من هذه الآية أنك لا تحقر عن التعليم من تظنه أبعد الناس عنه ولا تستبعد فضل الله فإن الرجلين من خدام الملوك الكفرة ومع ذلك وجه يوسف عليه السلام  لهما النصح طمعا في هدايتهما . بخلاف من يقول لبعض المدعوين : ليس هذا بأهل للعلم ، تعليمه إضاعة للعلم .

     

    محمد بن عبدالوهاب - الدرر السنية .

     

     

     

    11/ من قال أني لا أحب الدنيا فهو كذاب، فإن يعقوب عليه السلام لما طلب منه أبناءه أخاهم بنيامين قال في سورة يوسف 64 (هَلْ آمَنكُمْ عَليهِ إِلّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبل) فقالوا: (وَنزدَادُ كَيلَ بَعِيرٍ) يوسف : 65 .. فقال: خذوه.

     

    أبو الوفاء بن عقيل - صيد الخاطر

     

     

     

    12/ قال تعالى ذاكراً وصية يعقوب  لأبنائه : (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) سورة يوسف 87

     

    رغم كثرة المصائب وشدة النكبات و المتغيرات التي تعاقبت على نبي الله يعقوب  ، إلا أن الذي لم يتغير أبداً هو حسن ظنه بربه تعالى .

     

    صالح المغامسي ـ دمعة وتأملات في آيات قرآنية ( مطبوع ) .

     

     

     

    13/ طلب العفو من الشباب أسهل منه عند الشيوخ ألم تر إلى يوسف لما طلب منه إخوته أن يعفو عنهم قال في سورة يوسف 92: (لَا تَثرِيبَ عَليكُم اليَومَ) ..

     

    ولما طلبوا من يعقوب قال: (سَوفَ أسْتَغفِرُ لَكُم رَبّي) يوسف : 98 .

     

    عطاء الخراساني - تفسير ابن أبي حاتم

     

     

     

    14/ قال تعالى ذاكراً مخاطبة إخوة يوسف لأبيهم يعقوب  : (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) سورة يوسف

     

    قال المهايمي : صرحوا بالذنوب دون الله ، لمزيد اهتمامهم بها ، وكأنهم غلب عليهم النظر إلى قهره . وصرح يعقوب بذكر الرب دون الذنوب ، إذ لا مقدار لها بالنظر إلى رحمته التي ربى بها الكل . اهـ . وهذا من لطائف التنزيل ومحاسنها .

     

    القاسمي ـ محاسن التأويل .

     

     

     

    15/ قال يوسف عليه السلام بعد أن اجتمع إليه أهله في سورة يوسف 100:

     

    (وَقدْ أحسَنَ بِي إِذْ أخْرَجَني مِنَ السّجنِ وَجَاءَ بِكُم مّنَ البَدّو) ..

     

    إن قلت : لمذكر يوسف نعمة الله عليه في إخراجه من السجن دون إخراجه من الجب مع أنه أعظم نعمه؛ لأن وقوعه في الجب كان أعظم خطراً ؟..

     

    هذا من عظيم خلق يوسف؛ لأن في ذكر الجب توبيخاً وتقريعاً لإخوته بعد قوله: (لا تَثرِيبَ عَليكُم اليَومَ) يوسف 92 .. فعدل عن ذلك وذكر السجن.

     

    زكريا الأنصاري - فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن

     

                      

     


     

    سورة الرعد :

     

    ==========

     

    1/ قال تعالى لأهل جنته في سورة الرعد : (سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)) ..  ما السر في كونه سلَّم عليهم بلفظ النكرة ؟..

     

    لأن سلاماً منه سبحانه كافٍ من كل سلام ، ومغنٍ عن كل تحية ، ومقرب من كل أمنية ، فأدنى سلام منه - ولا أدنى هناك - يستغرق الوصف ، ويتم النعمة ، ويدفع البؤس ، ويطيب الحياة ، ويقطع مواد العطب والهلاك ، فلم يكن لذكر الألف واللام هناك معنى. 

     

    ابن القيم  - بدائع  الفوائد المجلد الثاني ص٣٨٦

     

                     

     

    سورة إبراهيم :

     

    ============

     

    1/ قال سهل التستري في قوله تعالى إبراهيم 11 : (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) قال : بتلاوة القرآن .

     

    ما أحسنَ ما قال ، فإن القرآن حوى جميع العلوم ، فمن قرأه قراءة تدبر وتفهم ، وعمل بمقتضاه فقد حصَّل الغاية القصوى التي ليس لأحد وراءها مرمى .

     

    الإمام القرطبي - التذكار في أفضل الأذكار ص٦٢

     

     

     

    2/ قال تعالى في سورة إبراهيم في وصف ما ينتظر أصحاب النار من العذاب :

     

    (مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) سورة إبراهيم

     

    الصديد : ما يسيل من جلود أهل النار من القيح والدم .

     

    فهل لكم بهذا طاقة ؟!..

     

    أم لكم عليه صبر ؟!..

     

    طاعة الله أهون عليكم يا قوم فأطيعوا الله ورسوله .

     

    قتادة بن دعامة السدوسي .

     

     

     

    3/ قال تعالى في سورة إبراهيم 34: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) ..

     

    ولو ذهبنا نستعرض لطفه سبحانه في نعمه الظاهرة لفنيت الأعمار ولم ندرك لها عداً ويكفي أن نذكر لطفه سبحانه في تيسير لقمة واحدة يتناولها العبد من غير كلفة يتجشمها وقد تعاون على إصلاحها خلق كثير .

     

    من مصلح الأرض وزارعها وساقيها وحاصدها ومنقيها وطاحنها وعاجنها وخابزها، وتيسير مضغها مما وضع الله في الفم من أسنان طاحنة وقاطعة ولسان يدير اللقمة ويسهلها للبلع ولعاب يسهل مرورها في المريء إلى آخر هذه الألطاف الربانية.

     

    عبد العزيز الجليل - ولله الأسماء الحسنى

     

                      

     


     

     

     

    سورة الحجر :

     

    ===========

     

    1/ قال تعالى في سورة الحجر : (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ) ..

     

    فكأنه قال: ولقد آتيناك عظيماً خطيراً فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور الدنيا.

     

    ابن عطية - المحرر الوجيز

     

     

     

    2/ قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) سورة الحجر

     

    فالقرآن هو النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها ، حقيرة ضئيلة ، فعليك أن تستغني به ، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا .

     

    الزمخشري ـ الكشاف .

     

                 

     


     

     

     

    سورة النحل :

     

    ===========

     

    1/ قال تعالى النحل 7: (وّإنَّ اللهَ بِكُم لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) أقرب الخلق إلى الله تعالى أعظمهم رأفة ورحمة، كما أن أبعدهم منه من اتصف بضد صفاته.

     

    ابن القيم - الروح

     

     

     

    2/ قال تعالى :

     

    (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ۙ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) سورة النحل 38

     

    لما سمع عمر بن ذر هذه الآية قال :

     

    ونحن نقسم بالله جهد أيماننا لتبعثن من يموت .

     

    أفتراك تجمع بين أهل القسمين في دار واحدة ؟!.

     

     

     

    3/ قال تعالى : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى) سورة النحل 61

     

    ذكر  أنه لو عاجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع من في الأرض ، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة ، لأن العجلة شأن من يخاف فوات الفرصة ، ورب السماوات والأرض لا يفوته شيء أراده .

     

    الشنقيطي ـ أضواء البيان .

     

     

     

    4/ قال تعالى في سورة النحل 68: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) ..

     

    فتأمل كمال طاعتها وحسن ائتمارها لأمر ربها تعالى، كيف اتخذت بيوتها في الجبال وفي الشجر وفي بيوت الناس حيث يعرشون أي: يبنون العروش وهي البيوت، فلا يرى للنحل بيت غير هذه الثلاثة البتة .

     

    وتأمل كيف أن أكثر بيوتها في الجبال، وهو البيت المقدم في الآية ثم الأشجار وهومن أكثر بيوتها، وأقل بيوتها بينهم حيث يعرشون .

     

    ابن القيم - مفتاح دار السعادة

     

     

     

    5/ قال تعالى في سورة النحل 89 : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) ..

     

    قال الإمام الشافعي : ( فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها ). 

     

    الرسالة ص ١٩

     

     

     

    6/ قال تعالى في سورة النحل 97: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ..

     

    فهذا خبر أصدق الصادقين ومخبره عند أهله عين اليقين بل حق اليقين، فلا بد لكل من عمل صالحاً وهو مؤمن أن يحييه الله حياة طيبة بحسب إيمانه وعمله، ولكن يغلط الجفاة الأجلاف في مسمى الحياة الطيبة حيث يظنونها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح أو لذة الرياسة والمال وقهر الأعداء والتفنن في أنواع الشهوات، ولا ريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم، بل يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان.

     

    ولكن أين هذه اللذة من اللذة بأمر، إذا خالط بشاشته القلوب سلا عن الأبناء والنساء والأوطان والأموال والإخوان والمساكن ورضي بتركها كلها والخروج منها رأسها وعرض نفسه لأنواع المكاره والمشاق وهو متحل بهذا منشرح الصدر به. والمقصود أن الهدى مستلزم لسعادة الدنيا وطيب الحياة والنعيم العاجل.

     

    ابن القيم - مفتاح دار السعادة

     

     

     

    7/ من لطيف ما حضرني وأنا أستشهد في هذا المقام بقوله عز وجل : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل 97

     

    أن أهل القرآن يدخلون في معنى الآية دخولاً أولياً ، وكأنهم المقصودون بذلك ، وكأن سعادتهم وحياتهم الطيبة كانت بإيمانهم وعلمهم بالقرآن وعملهم به وتلاوتهم ، من ثمَّ ناسب أن يأتي بعده مباشرة قوله سبحانه :

     

    ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) النحل 98 .

     

    د عبدالعزيز الحربي - تحزيب القرآن ص٣٢

     

                   


  3. تفسير الشيخ الشعراوي سورة سبأ٤٦-٤٧

    (قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )٤٦ سبأ

    يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ } لهؤلاء المكذبين المعاندين { إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } [سبأ: 46] الوعظ ليس إنشاءَ حكم، إنما هو تذكير بحكم سبق ونسيه الناس، فالواعظ يُبيِّن للناس أموراً يعرفونها ويؤمنون بها من الدين، لكم أَنْستهم الشهوات والغفلة هذه الأمور، فهو مُذكِّر بها، والعِظَة لا تكون إلا من مُحبٍّ لك حريص على مصلحتك.
    لذلك فالحق - تبارك وتعالى - يعطينا نموذجاً للوعظ في قصة لقمان حين يعِظ ولده: { { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ .. } [لقمان: 13].
     

    ومعنى { بِوَاحِدَةٍ } [سبأ: 46] يعني: موعظة واحدة فيها كل الآحاد، واستخدم السياق { إِنَّمَآ } [سبأ: 46] الدالة على القصر يعني: لا أعظكم إلا بواحدة، ما هي؟ { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ } [سبأ: 46] يعني: إياك أنْ تقوم لشهوة نفسك، أو لسيادة تحافظ عليها، إياك أنْ تقوم وأنت تريد الاستعلاء على هذا النبي، إنما يكون قيامك لله، يعني: تتجرد عن هواك، وتتجرَّد عن شهواتك وعن تعصُّبك.
    وما دُمْتَ تتودد إليهم أنْ يقوموا لله فلا بُدَّ أن لله تعالى مكانة في قلوبهم، وهو سبحانه في بالهم بدليل: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } [لقمان: 25]. { { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [الزخرف: 87].

     

    إذن: كانوا يؤمنون بأن الله تعالى هو خالقهم، وهو خالق السماوات والأرض؛ لأن هذه المسألة من الوضوح بحيث لا ينكرها منكر، مهما بلغ من الكفر والإلحاد، لماذا؟
    لأن مسألة الخَلْق لم يدَّعها أحد لنفسه؛ لأن الدعوى إنما تكون عند وقوع ليس بباطل يمكن أن يكون له رواج، لكن هذه المسألة واضحة، لا لَبْسَ فيها، ومهما بحثوا فلن يجدوا خالقاً لهم وللكون من حولهم إلا الله؛ لذلك يجادلهم بالمنطق في هذه المسألة فيقول: أنتم أمام أمرين: إما إنكم خلقتم هذا الخَلْق، أو أنكم خُلِقْتم من غير خالق.
    فالأولى مردودة؛ لأن أحداً لم يَدَّع الخَلْق، والأخرى مردودة؛ لأن أتفه من السماء والأرض، وأتفه من الإنسان لا بُدَّ له من صانع يصنعه، فالحذاء الذي تلبسه في قدميك، أليس له صانع؟

     

    إذن: السماء والأرض والإنسان لا بُدَّ أن لهم صانعاً على قدر عِظمهم، وكيف ينكرون هذه المسألة وهم يعترفون بعضهم لبعض بأبسط الأمور، ويعرفون صاحبها ويفخرون به، ففلان كان يئد البنات، وفلان كان عنده جفنة طعام يأكل منها كذا وكذا من الضِّيفان، وفلان كان أشجع العرب .. إلخ وكَثُر في شعرهم قولهم: أنا ابن فلان، وأنا ابن فلان.
     

    إذن: مسألة الخَلْق هذه لا يجرؤ أحد منهم على أنْ ينكرها، وما داموا يعترفون لله تعالى بالخَلْق، فعليهم أنْ يقوموا لهذا الإله الذي أقروا له بالخلق، وأنْ يُخلِصوا في قيامهم له، فلا يكون في بالهم أحد سواه، وعندها ثِقُوا تماماً أنكم ستصلون بهذا القيام إلى الحق؛ لأنه لا يُضَبِّبُ الحق في عقول الباحثين فيه إلا هوى النفس، كما قاله سبحانه: { { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } [المؤمنون: 71].
    والقيام المراد هنا لا يشترط فيه الجماعة ولا الجماهيرية؛ لأنه قيام للتفكُّر، فينبغي أنْ يكون
    { مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ .. } [سبأ: 46] مثنى: يعنى: اثنين اثنين، وفرادى: واحداً واحداً. بحيث يختلي كُلٌّ مع نفسه ليفكر في أمر محمد بواقعية وتجرُّد: كيف كان بينكم، وكيف كانت سيرته وأخلاقه، وهل جرَّبتم عليه كذباً، أو سحراً، أو كهانة؟ وهل سبق له أنْ ادَّعَى ما ليس له؟ هل رأيتم عليه قبل بعثته علامة من علامات الجنون؟ { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } [سبأ: 46].

    وهذا التفكُّر في حال رسول الله يحتاج إلى موضوعية؛ لذلك اختار أنْ ينفردوا به، إما مثنى مثنى، وإما فرادى، فالإنسان حين يكون بمفرده، فلا يوجد له نظير ينهزم أمامه، ولا نظير يهيجه على غير الحق، فرأيه في هذه الحالة يكون أقرب للصواب.
     

    والمنفرد إنْ تفكَّر وصل إلى الحق؛ لأنه لن يغشَّ نفسه، ولن يخدعها، ولن يستكبر أنْ يعود للحق، إما أن كانوا جماعة فلا بُدَّ أن يحاول كل منهم أنْ يثبت حجته، ولو اضطر للكذب وللخداع كما نراهم في مثل هذه المواقف، كُلٌّ يحلف أنه على الحق وغيره على الباطل.
    فكأن الحق بهذه الطريقة في التفكير يحمينا ويعصمنا من غوغائية الجماهيرية في الحكم، هذه الغوغائية التي نشاهدها مثلاً في المظاهرات، حيث يهتف كُلٌّ بما يريد، فتختلط الأصوات، وتتداخل الهتافات، فلا تستطيع أنْ تميزها.

     

    فالحق يُعلِّمنا كيفية التفكُّر مثنى أو فرادى، ويحمينا من الغوغائية.
    وهذه المسألة تأخذنا إلى اعتراض المستشرقين على قوله تعالى: { { يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [الأنبياء: 110].
    ووجه اعتراضهم: إذا كان الله تعالى يمتنُّ علينا بعلم ما نكتم، فما الميزة في علم الجهر، وكلنا يعلم الجهر؟ ونقول: الخطاب هنا للجماعة، فالحق سبحانه يعلم ما تكتمون جميعاً وما تعلنون، إنِ اختلطت أصواتكم وتداخلت فهو يعلمها، ويرد كلَّ صوتٍ إلى صاحبه، وعِلْم الجهر المختلط أعظم من علم المكتوم؛ لأن المكتوم يمكن أنْ تكونَ له أمارات تدل عليه، أمّا علم الجهر المختلط، فيصعب أنْ تُميِّز بعضه من بعض.
    كذلك إنْ كانوا مثنى مثنى، فالاثنان كما نقول: الرأي والرأي الآخر، ولو انهزم أحدهما أمام الآخر فهزيمته مستورة؛ لذلك دائماً ما نسمع من يقول لخصمه: أريد أن أجلس أنا وأنت على انفراد؟ لأنكما طرفا المسألة ولا يوجد طرف ثالث يُسبِّب لواحد منكما إحراجاً، أو إذلالاً، يتسبب في تغيُّر مسلكك أمامه.

     

    ومعنى { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ } [سبأ: 46] ليس القيام الذي يقابله القعود، إنما مَنْ قام بالأمر يعني: فعله وأدَّاه، وإنْ كان قاعداً، ومن ذلك نقول: فلان يقوم بأمر فلان، أو فلان يؤدي وظيفة فلان. أي: يقوم بها.
    ومعنى { مَا بِصَاحِبِكُمْ } [سبأ: 46] يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم { مِّن جِنَّةٍ } [سبأ: 46] جنون؛ لأنهم قالوا على رسول الله أنه مجنون، وعجيب منهم وهم أعرف الناس به، أنْ يصفوه بالجنون، وهم لم يَرواْ عليه علامة من علامات الجنون، ولم يصنع شيئاً مخالفاً لمجتمعه الذي عاش فيه، بل كانوا قبل البعثة يقولون عنه: الصادق الأمين، فكما ظهر كذبهم في قولهم (ساحر)، كذلك ظهر كذبهم في قولهم (مجنون).

     

    ولو خَلاَ الواحد منهم إلى نفسه، ثم تفكَّر في شخص رسول الله لوصل بنفسه إلى الحق، ولو أدار في عقله هذه الاتهامات لوجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ منها، وما دام منفرداً في هذا التفكُّر، فلن يخجل أبداً أنْ يعود إلى الحق؛ لأنه لن ينهزم أمام أحد.
    وقد تناول القرآن الكريم كل افتراءاتهم على رسول الله، وأظهر بطلانها، فقال تعالى: { { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [الحاقة: 40-42].
    وقال: { { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [التكوير: 22].
    والحق - سبحانه وتعالى - هنا لم يذكر لنا نتيجة التفكُّر والبحث مثنى وفرادى؛ لأنه معلوم وواضح، إلا أنه قال عنه صلى الله عليه وسلم: { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [سبأ: 46].

     

    شيء آخر: هل آمن الناس كلهم برسول الله بعد أن سمعوا منه قرآناً مُعْجزاً لنقول: إن القرآن هو المعجزة التي تثبت صِدْق الرسول؟ نقول: لا، إنما منهم مَنْ لم يؤمن بعد أن سمع القرآن، ومنهم مَنْ آمن قبل نزول القرآن، وبمجرد أنْ قال محمد: إني رسول الله. وأولهم السيدة خديجة، والصِّدِّيق أبو بكر، فما حيثية إيمانهم برسول الله؟ وما المعجزة التي عرفوا بها صِدْقه؟ حيثيته ومعجزته عند هؤلاء سيرته صلى الله عليه وسلم فيهم أولاً، فهي كافية لأنْ يؤمنوا به إنْ قال: أنا رسول الله إليكم. أما القرآن فهو معجزة وتحدٍّ لمن جحد.
    لذلك نرى سيدنا رسول الله يُذكِّر قومه بهذه السيرة بينهم ويتخذها حجة له، "فلما بُعِث صعد إلى الصفا، ونادى في القوم، فلما اجتمعوا حوله قال: أرأيتم لو حدثتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي جاءت لتُغير عليكم، أكنتم مُصَدِّقي؟ قالوا: ما جرَّبنا عليك مِنْ كذب، فقال: أنا رسول الله إليكم فقالوا لِتَوِّهم: أنت كذاب تباً لك، أَلهذا جمعتنا؟" .

     

    "ورُوِي في إسلام سيدنا عبد الله بن سلام، وكان أحد أحبار اليهود أنه لما اطمأنَّ قلبه للإيمان بعد ما رأى من أوصاف رسول الله التي ذُكِرت في كتبهم، وتأكَّد أنه رسول الله ذهب إليه وقال: يا رسول الله لقد شرح الله صدري للإيمان، وتعلم يا رسول الله أن اليهود قوم بُهْتٌ، فإذا أسلمتُ قالوا فيَّ ما ليس فيَّ، فادْعُهُمْ يا رسول الله، واسألهم عني، وسوف أعلن إسلامي أمامهم بعد أنْ تسمع رأيهم فيَّ، وفعلاً دعاهم سيدنا رسول الله وسألهم: ما تقولون في ابن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحَبْرنا وابن حَبْرنا، وجمعوا له كل أوصاف المدح، عندها قال ابن سلام: أما وقد قالوا فيَّ ما قالوا: أشهد أنك رسول الله، فقالوا: بل أنت شرُّنا وابن شرِّنا.
    فقال: ألم أَقُلْ لك يا رسول الله أنهم قوم بُهْت؟" .
    وتلحظ أن الذين صادموا رسول الله في أول البعثة، والذين اتهموه بالكذب من أهله وأقرب للناس إليه، وعمه هو الذي قال له: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ وهنا موطن حكمة وحجة في بعثة سيدنا رسول الله، جعلها الله ليعلم الناس أن مكانة قريش وسيادتها في الجزيرة العربية لم تكن هي التي صنعت رسالة محمد ليسودوا بها العالم، فأعدى أعدائه كانوا من قريش، ولم يجد رسول الله نُصْرة في مكة، إنما كانت نصرته في يثرب.
    لذلك سبق أن قلنا: إن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد، لا أن العصبية لمحمد هي التي خلقتْ الإيمان به صلى الله عليه وسلم.

    image.png.3590e977c8c8e010d7390f1f0fc95c9a.png

     

    قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ٤٧-سبأ

    أجر: هو الجُعل مقابل عمل، وهذه العبارة قالها كل الرسل، فقد علَّمهم الله أنْ يقول الواحد منهم لقومه: { { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 109] كأنه في طيّ هذا الأسلوب، أنه لو كان هناك تقييم منصف لكنتُ أستحق أجراً على رسالتي ودعوتي؛ لأنني أجلب لكم بالهداية نفعاً كبيرا؛ لأنه ليس صفقة في هذه الدنيا الفانية، إنما نفعاً باقياً في حياة خالدة باقية.
    لكن الواقع أنني لا آخذ أجري منكم، إنما آخذه من الله؛ لأن العمل الذي أقوم به أكبر من أنْ تُقوِّموه بثمن، والحق - سبحانه وتعالى - هو الذي يُقوِّم عملي، وأنا واثق أنه سبحانه سيعطيني { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } [سبأ: 47].
    ومعنى: { فَهُوَ لَكُمْ } [سبأ: 47] يعني: إنْ كنتُ أخذتُ منكم أجراً، فسوف أعمل لكم بهذا الأجر، أو سيعود جزاؤه عليكم.

    وسبق أنْ قلنا: إن كل الرسل قالوا هذه العبارة إلا رسولين اثنين لم تَأْتِ هذه العبارة في سياق كَلامهما، هما: سيدنا إبراهيم، وسيدنا موسى عليهما السلام، مما يدل على أن هذه المسألة مبنية بحكمة كبيرة عالية، فلماذا إبراهيم وموسى بالذات من بين كل الرسل؟
    قالوا: لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام أول ما واجه المخالفين واجههم في عمه، فلما صادمه عمه، ورفض دعوته اعتزله، واكتفى بأن يدعو له، وليس من المعقول أنْ ينتظر أجراً من عمه؛ لذلك لم تأْتِ في كلامه مسألة الأجر هذه.
    كذلك موسى - عليه السلام - كانت أول دعوته لفرعون، الذي قال له: { { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [الشعراء: 18] يعني: إنْ كان يستحق أجراً على دعوته لفرعون، فسوف يستحي أن يطلب منه الأجر، وقد تربَّى في بيته، وفي رعايته.


    وكلمة { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ } [سبأ: 47] تحتمل معنيين: أنني أخذتُ أجراً وأعطيته لكم، أو أنا من الأصل لم أسألكم أجراً، ثم تختم الآية بقوله تعالى: { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [سبأ: 47] يعني شاهد علينا جميعاً، ويعلم ما قاسيته في سبيل دعوتكم إلى الحق، ويعلم ما فعلتموه معي من عناد وتعنُّت، وهو سبحانه سيُغلى أجري على قدر معاناتي وما تحملتُه في سبيل هدايتكم، والأخذ بأيديكم إلى ساحته.
    وإذا كان الإنسان إنْ عمل عملاً لا بُدَّ أنْ يكون له حَظٌّ منه ومَغْنم ومنفعة، فرسول الله لم يسألكم حتى الأجر على العمل، فبأيِّ شيء تتهمونه بعد ذلك؟

     

    بعد ذلك أراد الحق سبحانه أنْ يُوضِّح لنا أمراً يتعلق بالحق الذي جاء به رسول الله، فالكفار كانوا يعترضون على شخص رسول الله، بدليل قولهم: { { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا .. } [ص: 8]، وقالوا: { { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
    فهم يعترفون بالقرآن ويعلمون أنه ذِكْر، وأنه لا غبارَ عليه، المشكلة أنه نزل على هذا الرجل بالذات، ولم ينزل على واحد منهم من عظماء القوم؛ لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يقول إن إنزال مناهج الله للأرض لا بُدَّ أن تنزل على مصطفًى يصطفيه الله، لا مصطفًى يصطفيه الخَلْق، فلا معنى لقولهم: { { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
    لذلك يردُّ الحق سبحانه عليهم بالحجة: { { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [الزخرف: 32].
    وقال سبحانه: { { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124].
    ورحمة الله هي ما ينتفع به الناس، إما في الدنيا، وهذه رحمة تشمل المؤمن والكافر، وإما رحمة في الآخرة، وهذه للمؤمن دون الكافر، وهذه الرحمة الأخروية دائمة باقية في نعيم لا يفوتك ولا تفوته، فإذا كنتُ أقسم لكم أرزاقكم ومعيشتكم في الحياة الدنيا، فكيف أَكِلُ إليكم اختيار مَنْ يرحمكم في الآخرة؟ هل أقسم لكم الرحمة الموقوتة. وأترك لكم الرحمة الباقية؟

     

    التفاسير العظيمة

     

     


  4.  

    (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ)سبا 39

    تفسير  الشيخ الشعراوى

     

    بسط يعني يُوسِّع. ويقدر يعني: يُضيق، وقد ورد هذا المعنى قبل عدة آيات، لكن هنا يضيف لفتة جديدة، فيقول سبحانه بعدها مباشرة { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [سبأ: 39] وكأن الحق سبحانه يلفت أنظارنا إلى أن الخَلْق جميعاً خَلْقه وعباده، وهو قادر سبحانه أنْ يعطي الجميع، وأنْ يُوسِّع على الجميع، لكن يريد أنْ يتحابَّ الخَلْق، وأنْ يتكافل الناس؛ لذلك وسَّع على بعضهم، وضَيَّق على بعضهم، ثم أشار لمن وسَّع عليه ولوَّح له بجزاء الإنفاق، لينفق على أخيه الذي ضُيَّق عليه.
    وهذه الآية تعطينا ملخصاً لاقتصاد العالم كله؛ لأن معنى الاقتصاد موازنة المصروفات بالواردات، فالمصروفات لمصروف له، والواردات لوارد عليه، إذن: لا بُدَّ أن يكون في المكان الواحد فئة تعطي وفئة تأخذ، لا بُدَّ أن يكون فيها فقراء وأغنياء، لذلك الحق سبحانه لم يترك بَسْطة الغنى هكذا حرة، كذلك لم يترك تقتير الفقير، بل جعل لهذا مَبْذلاً، ولهذا مصدراً.
    فبعد أن أخبر سبحانه: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } [سبأ: 39] حكمها فقال: { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } [سبأ: 39] فالحق سبحانه يراعي مبدأ النفعية لصاحب المال، ويراعب حب الأغنياء للمال؛ لذلك يطمئنهم على أموالهم، ويتكفَّل هو سبحانه بأنْ يخلفها لهم.

     

    والحق سبحانه بسط الرزق للأغنياء وهم يحبون المال ولكنه يقول لهم: إذا أُحِلْت على غنى فاتبع، يعني: إنْ كان لك دَيْن عند فقير فأحالك بدينك إلى غنى قادر على السداد فتحوَّل؛ لأنك لا تضمن متى سيُوسِّع الله على الفقير ليُسدِّد ما عليه.
    وهكذا طمأن اللهُ الأغنياءَ بأنّ أموالهم لن تنقص بالإنفاق؛ لأنها أحيلت إلى الله وتكفَّل هو بالسداد.

     

    لذلك يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "ليس لك من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدقْتَ فأبقيْتَ" .
    "ولما أُهديَتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة تصدَّقَتْ بها السيدة عائشة، وأبقَتْ لرسول الله كتفها؛ لأنها تعلم أنه يحب الكتف، فلما عاد رسول الله سألها
    : ماذا صنعت بالشاة يا عائشة؟ قالت: ذهبتْ كلُّها إلا كتفها، فقال صلى الله عليه وسلم: بل بقيَتْ كلها إلا كتفها" .
    لماذا؟ لأنه مال تحوَّل إلى ذمة الله، وقد تعهد الله بأنْ يُخلفه، وما بالك إنْ كان الإخلاف من الله القائل: { { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } [النساء: 86].
    وأنت حييْتَ الله في الفقير بتحية فلا بُدَّ أن يردَّها لك بأحسن منها، بل ويُضاعفها لك أضعافاً كثيرة بما يفوق الحَصْر والعَدَّ، ومثَّلْنا لذلك بالحبة يزرعها الفلاح، فتُعطي سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، فإذا كان هذا عطاء الأرض المخلوقة لله تعالى، فما بالك بعطاء الخالق عز وجل؟

     

    فقوله تعالى: { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } [سبأ: 39] يريد سبحانه أنْ يُطمئن الغنيَّ بأن ماله لن ينقص، ويُطمئن الفقير بأنه لن يتخلَّى عنه، ولن يتركه للفقر، بدليل أنه سبحانه اقترض من أجله، فقال تعالى: { { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة: 245] فالله يقترض من الخَلْق للخَلْق، وهو قادر سبحانه أن يُوسِّع على الجميع، إنما الهدف أنْ يتعايش الناس بوداد المعونة، وأنْ يحب الغنيُّ الفقيرَ، ولا يحقد الفقير على الغني.
    لذلك تُختم الآية بقوله تعالى: { وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [سبأ: 39] قال سبحانه خير الرازقين؛ لأن الرازق: كل مَنْ يمدُّ لك يده بما تنتفع به، وعليه فأبوك بالنسبة لك رازق، والذي يعولك ويتكفَّل بك رازق، كذلك ربُّك عز وجل رازق، لكن فَرْق بينهما، فأبوك رازق؛ لأنه يأتي لك بالرزق، لكن إنْ سألته من أين هذا الرزق يقول: من عند الله، فهو سبب ومناول، أما الحق سبحانه فهو خالق الرزق؛ لذلك قال { وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [سبأ: 39].
    وسبق أنْ أوضحنا: إذا رأيتَ صفة مشتركة بين الخَلْق والخالق فاعلم أن الجهة مُنفكّة، فلكلٍّ ما يناسبه. إذن: حيثية الخيرية هنا أنه تعالى هو الرازق، وهو خالق الرزق، وهو الذى يُيسِّر لك أسبابه حتى يصل إليك.
    وقالوا: خيرية الله في الرزق ناشئة من ثلاث مسائل: الأولى: أنه سبحانه لا يُؤجِّل الرزق لوقت الحاجة إليه، إنما خلقه لك قبل أنْ يخلقك، وأعدَّ لك مُقوِّمات الحياة قبل أنْ يستدعيك إليها. الثانية: أنه لا يحاسبك على ما رزقك. الثالثة: لا يطلب منك ثواباً على ما وهبك.

     

    لهذا كله كان الحق سبحانه وما يزال خير الرازقين، وتأمل مثلاً فرعون لما ربَّى موسى عليه السلام امتنَّ عليه، فقال: { { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [الشعراء: 18].
    والمعنى: كان ينبغي عليك يا موسى أنْ تُجاملنا، وتحفظ جميلنا عليك، وألاَّ تصادمنا هذا الصدام.
    ومثل ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: { { حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } [يونس: 109].
    وقوله تعالى: { { .. فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14].
    في هذه الآيات كلها، الحق - تبارك وتعالى - راعَى مواهب الخَلْق وقدَّر حركتهم الإيجابية في الحياة؛ لذلك أثبتَ لهم صفة من صفاته وهي الخَلْق، ومعنى الخَلْق إيجاد شيء لم يكُنْ موجوداً، فالإنسان يُعَدُّ خالقاً حين يصنع من الرمل (الكريستال) مثلاً: والحق سبحانه لا يضنّ عليه فيسميه خالقاً، لكن إنْ كان الإنسان خالقاً، فالحق - سبحانه وتعالى - أحسن الخالقين، لماذا؟
    قالوا: حيثيات هذه الخيرية في عملية الخَلْق من عدة وجوه: منها: أولاً: أن الإنسان يَخلق من مادة موجودة، أما الخالق سبحانه فيخلق من لا شيء من العدم. ثانياً: صنعة الإنسان تظل على حالة واحدة، فلا تنمو ولا تتكاثر، أما خَلْق الله ففيه حياة، فهو يتغذَّى وينمو ويتكاثر .. الخ.
    ثم يقول الحق سبحانه:

     

    التفاسير العظيمة

     

     

    لا يتوفر وصف للصورة.

     

     


  5. من كتاب قواعد قرآنية -

    50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة - د. عمر المقبل

    القاعدة السابعة عشرة : {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين}

     

    {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين} [القصص: 26].

    هذه الآية الكريمة جاءت ضمن قصة موسى عليه السلام مع صاحب مدين ـ في سورة القصص ـ، والذي كان عاجزاً عن طلب الماء فخرجت ابنتاه للسقيا، بيد أنهما تأخرتا انتظاراً لصدور الناس عن البئر، إلا أن مروءة موسى وشهامته حملته على أن يبادر ـ من غير أن ينتظر سؤالهما ـ بقضاء حاجتهما، والسقيِ لهما، فأعجبَ هذا الفعلُ الفتاتين، فذكرتاه لوالدهما المقعد عن العمل، فأرسل في طلبه، فلما جاء وحدثه بخبره، قالت له إحداهما ـ وهي العالمة بعجز والدها عن القيام بمهام الرجال ـ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص: 26] فقولها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} تعليل لطلبها، فالقوة في العمل، والأمانة في أدائه على الوجه المطلوب.

     

    وهذا التنصيص على هذين الوصفين هو من وفور عقل هذه المرأة التي رأت اكتمال هاتين الصفتين في موسى عليه السلام، وهو دليل ـ كما سيأتي ـ أن هذا من المطالب التي يتفق عليها عقلاء البشر في كل أمة من الأمم، وشريعة من الشرائع.

     

    وقد أخذ العلماء ـ رحمهم الله ـ هذه الآية مأخذ القاعدة فيمن يلي أمراً من الأمور، وأن الأحق به هو من توفرت فيه هاتان الصفتان، وكلما كانت المهمة والمسؤولية أعظم، كان التشدد في تحقق هاتين الصفتين أكثر وأكبر.

     

    أيها الأخ الموفق:

    إن من تأمل القرآن الكريم وجد تلازماً ظاهراً وبيّناً بين هاتين الصفتين (القوة والأمانة) في عدة مواضع، ومن ذلك:
    ما وصف الله به مبلغ الوحي والرسالات إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ـ جبريل؛ ـ في قوله ـ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} [التكوير: 19 - 21] فانظر ـ يا عبدالله ـ كم وصفاً وصف الله به هذا الرسول الملكي الكريم؟! ومن ذلك وصفه بالقوة والأمانة، وهما من أعظم عناصر النجاح والكمال فيمن يؤدي عملاً من الأعمال.

    والموضع الثاني من المواضع التي لوحظ فيها وصف القوة والأمانة، فهو قول يوسف عليه السلام للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
    "أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه"(1).

    ولا يخفى أن إدارة أموال مجموعة من الأيتام تحتاج إلى هاتين الصفتين فكيف بإدارة أموال تتعلق بجماعة، أم كيف بإدارة أموال دولة بأكملها، ولهذا أبرزَ يوسفُ عليه السلام هاتين الصفتين، ومدح نفسه بهما، لا لذات المدح، بل لأن الوضع الاقتصادي في مصر آنذاك يقتضي مبادرة في ضبط إدارة أموالها، خصوصاً وقد كانت مقبلة ـ بحسب الرؤيا ـ على سنين عجاف مجدبات، تحتاج إلى حكمة وتعقل في الصرف.

    أما الموضع الثالث من المواضع التي لوحظ فيها وصف القوة والأمانة في القرآن الكريم فهو:
    ما جاء في قصة سليمان عليه السلام، وهو يعرض على من كان عنده أمر إحضار عرش بلقيس ملكة سبأ:
     {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}[النمل: 38، 39].

     

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: معلقاً على هذه المواضع الثلاثة بكلام نفيس، أنقل منه ما يناسب المقام:
    "وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة كما قال تعالى: {إن خير من استأجرت القوي الأمين}...، والقوة في كل ولاية بحسبها: فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها، فإن الحرب خَدْعَةٌ، وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر...، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.

     

    والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمناً قليلاً، وتركِ خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل من حَكم على الناس في قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]... إلى أن قال:
    "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوةً، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر...

    ثم قال: مبيناً منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج في هذا الباب:
    "ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل الرجل لمصلحةٍ مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان"

    ثم لخص كلامه الطويل في تعليقه على هذه الآية بقوله: "والمهم ـ في هذا الباب ـ معرفةُ الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود، فإذا عُرِفَتْ المقاصد والوسائل تَمَّ الأمر"(2).

     

    وكان: قد قال كلمة ينبغي أن نعيها جيداً ـ معشر المستمعين والمستمعات ـ:
    "ثم إن المؤدي للأمانة ـ مع مخالفة هواه، يثبته الله، فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده، فيذل أهله، ويذهب ماله، وفي ذلك الحكاية المشهورة، أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك؟ فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين أقفرتْ أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم - وكان في مرض موته- فقال: أدخلوهم علي، فأدخلوهم، وهم بضعةَ عشر ذكراً، ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بَنَيّ! والله ما منعتكم حقاً هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني!

     

    قال هذا العالم ـ الذي يحكي هذه القصة ـ: فلقد رأيت بعض بنيه، حمل على مائة فرس في سبيل الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها.
    قلت (والكلام لابن تيمية): هذا وقد كان خليفة المسلمين، من أقصى المشرق بلاد الترك، إلى أقصى المغرب، بلاد الأندلس وغيرها، ومن جزيرة قبرص، وثغور الشام والعواصم، إلى أقصى اليمن، وإنما أخذ كل واحدٍ من أولاده، من تركته شيئاً يسيراً، يقال: أقل من عشرين درهماً -! قال ـ أي هذا العالم الذي يحدث بهذه القصة القصة ويعظ ذلك الخليفة العباسي ـ: وحضرتُ بعض الخلفاء، وقد اقتسم تركتَه بنوه، فأخذ كلُّ واحدٍ منهم ستّمائة ألف دينار، ولقد رأيتُ بعضهم، يتكفف الناس - أي يسألهم بكفه!!

     

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله، ما فيه عبرة لكل ذي لب!"(3)

     

    ختاماً من أراد أن يتوسع في فهم معاني هذه القاعدة القرآنية العظيمة، فليراجع ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية".
    رزقنا الله وإياكم فهمَ كتابه والعمل به، وجعلنا وإياكم ممن يقوم بحق ما ولاه الله عليه، والحمد لله رب العالمين.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

     

    ________________

    (1)    تفسير السعدي: (400).
    (2)    ينظر: السياسة الشرعية ـ مع تعليق شيخنا العثيمين عليها ـ ص: (42-63) باختصار وتصرف.
    (3)    ينظر: السياسة الشرعية ـ مع تعليق شيخنا العثيمين عليها ـ ص: (29-31)، وسيرة عمر بن عبدالعزيز: (338).

     

    المسلم

    image.png.2ff7a895f6a1da710bf01853d558f6ef.png

     

     


  6. {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ○ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}
    [الشرح : ٧ - ٨]

    بهاتين الآيتين ختم الله تبارك وتعالى سورة الشرح.. وسورة الشرح ـ كما يقول صاحب التحرير والتنوير: "احتوت على ذكرِ عنايةِ الله تعالى برسوله بلطف الله له، وإزالةِ الغمّ والحرجِ عنه، وتيسير ما عسر عليه، وتشريفِ قدره؛ لِيُنَفِّسَ عنه؛ فمضمونُها شبيهٌ بأنه حجةٌ على مضمون سورة الضحى؛ تثبيتاً له بتذكيره سالف عنايته به، وإنارة سبيل الحق، وترفيع الدرجة؛ ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته ما كان لِيقطع عنه فضله، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم".

    ولكن ما المقصود بالنصب؟ وما هو الشيء الذي يتفرغ منه؟ وكيف يرغب إلى الله تعالى؟ وما الذي يمكن أن يستفيده المسلم من هذا الأمر، خصوصا ونحن مطالبون بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل أمر له هو أمر لأمته ما لم يأت مخصص يخصصه برسول الله

    لقد اختلف العلماء في هذا المعنى وذهبوا فيه مذاهب.. غير أنه لابد لمعرفة مقصود آخر السورة من معرفة معاني أوائلها. حيث يمتن الله تعالى في أوائل السورة على نبيه بأن شرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.. لأن الاستفهام إذا دخل على النفي قرره.. أي شرحنا لك صدرك.
    ومعنى الشرح الفسح والتوسعة، وإنما خص الصدر بذلك؛ لأنه محل العلوم والإدراكات، ومحل التفكر، ومحل التعقل، ومحل القناعات، هو محل للفهم، ومحل لاستقرار المعلومات، كل ذلك يكون في الصدر، ويكون في القلب.
    وإذا ضاق الصدر ضاق الفضاء مهما اتسع، وضاقت النفس، وقل الفهم والإدراك، وقل الصبر على التحمل، والنبي صلى الله عليه وسلم في أشد الحاجة إليه لتحمل أعباء الرسالة وما يواكبها من مشاكسات ومضايقات الأعداء، وما سيواجهونه به من الأذى والافتراء والتكذيب..

    لذلك يقول ابن جرير - رحمه الله: "شرح صدره بأن جعله محلا للوحي، جعله متحملاً لأعباء الرسالة، لأعباء الدعوة، وما تتطلبه من جهود، وأعمال، ومشقات، وما يلاقيه القائم بها، المتوظف بوظيفتها من الأذى، فإنه لن يسلم بحال من الأحوال من المناوئين، من الأعداء، من الخصوم الذين لا يقر لهم قرار، ولا يهنأ لهم بال إذا ظهرت الأنوار، أنوار النبوة، والرسالة".

    فلابد إذا من شرح الصدر لئلا يضيق ذرعاً، لئلا ينقطع، لئلا يتوقف، لئلا يتراجع، لئلا يتزعزع، بل يثبت، ويرسخ في هذا الطريق قدمه حتى يكون أثبت من الجبال الراسيات.
    هذا بالإضافة إلى الشرح الحسي حينما شُق صدره، وأُخرج منه ما أُخرج من علقة تتصل بحظ الشيطان منه - عليه الصلاة والسلام - فصار الصدر محلا قابلاً لهذه الأنوار، والوحي، والهدايات، والتنزيل برفع ودفع وإزالة ما يضاده من الأمور الحسية والمعنوية.

    ومع شرح الصدر كان أيضا وضع الوزر بمغفرة الذنب، ما تقدم منه وما تأخر، فإن للذنوب ثقلا على النفس والقلب والبدن، وهذا الثقل للذنوب يمنع من العبادات، ويثقل عن الطاعات، ويوهن القلب والبدن عن المسارعة للخيرات، فيُمنع القلب عندها من الانطلاق، والسير إلى الله تبارك وتعالى فيبقى معطلاً، مشغولاً بالخبائث، مشغولاً بالمعاصي التي ترهقه، وتثقله، وتقعده عن سيره، وسفره إلى ربه، وإلى الدار الآخرة.
    ومن ثم كان تطهير القلب من ذلك من النعم ولهذا امتن الله به على نبيه، {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما}(الفتح:1، 2)، {ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك}.
    فشرح الله له صدره، وطهر له قلبه، وغفر له ذنبه، ورفع له ذكره.. كل ذلك توطأة لما سيأتي من الأمر في نهاية السورة {فإذا
    فرغت فانصب وإلى ربك فارغب}.. أي شكرا لله على ما أنعم به عليك، وتفضل بكل ما سبق.

    الفراغ والنصب
    وقد اختلف العلماء في المفروغ منه والمنصوب فيه، فقال بعضهم: إذا
    فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل.. وقال بعضهم: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء.. وقال آخرون: إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربك.. وقال قوم: إذا فرغت من أمر دنياك، فانصب في عمل آخرتك.
    وربما يكون المقصود كل هذا وغيره، فإن الآية أطلقت ولم تحدد، أي إذا
    فرغت من أمر كنت تعمله فانتقل إلى عمل آخر مما يعود عليك بالنفع في أمر دنياك وآخرتك، والمقصود أن يكون مشتغلاً بطاعة الله مبلغاً للرسالة، ينتقل من عبادة إلى عبادة، من طاعة إلى طاعة، من عمل صالح إلى عمل صالح، بلا توقف، بلا انتظار، فالمسلم طالما في الحياة فعليه أن يجد ويعمل دائما في شيء يعود عليك نفعه في الدنيا والدين، ولا يبقى فارغا أبدا. فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل..

    قاعدة تربوية:
    وهذه قاعدة من قواعد تربية النفس، وتوجيه علاقتها مع الله عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح:7، 8].
    وإذا كان المسلم مطالبا بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخاطبا بما يخاطب به، فهو أيضا مطالب في حال الفراغ بالنصب.. أي إذا انتهى من طاعة أو عملٍ ما أن ينصب ويبدأ في عمل أو طاعة أخرى، وأن يرغب إلى ربه في الدعاء والعبادة، والتضرع والتبتل، لأن حياة المسلم الحق كلها لله، فليس فيها مجال لسفاسف الأمور.
    بل إن اللهو الذي تبيحه الشريعة لأصناف من الناس، أو في بعض الأوقات كالأعياد والأفراح؛ من أعظم مقاصده أن يستجم الإنسان ـ والاستجمام للجد مرة ثانيةً من الشغل النافع ـ وأن يعيش العبودية لله في جميع أحواله، فهو يعيشها في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي الحضر والسفر، وفي الضحك والبكاء، ليتمثل حقاً قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].


    لا للفراغ
    إن الإسلام يكره من أبنائه أن يكونوا فارغين من أي عمل ديني أو دنيوي! وبهذا نطقت الآثار عن السلف الصالح رحمهم الله:
    جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "إني أكره لأحدكم أن يكون خالياً سبهللاً لا في عمل دنيا، ولا دين".
    ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إني لأمقت أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل دنيا ولا آخرة".
    وسبب مقت ابن مسعود رضي الله عنه لهذا النوع من الناس؛ أن "قعود الرجل فارغاً من غير شغل، أو اشتغاله بما لا يعينه في دينه أو دنياه من سفه الرأي، وسخافة العقل، واستيلاء الغفلة".
    ولقد دلّ القرآن على أن هذا النوع من الناس الفارغين ـ وإن شئت فسمهم البطالين ـ ليسوا أهلاً لطاعة أو أمر مهم، بل تنبغي مجانبتهم؛ لئلا يُعدوا بطبعهم الرديء، كما قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف: 28].


    الجدية وسرعة الإنجاز
    ومن هدايات هذه الآية: أنها أبلغ وأعظم حادٍ إلى العمل، والجد في استثمار الزمن قبل الندم. وأنها تربي في المؤمن سرعة إنجاز الأمور وعدم التسويف، فإن التسويف في كل أمر شين وسبة وسوء مغبة، ومن عجز عن امتلاك يومه فهو عن امتلاك غده أعجز!
    وقد نهانا الله عنه بقوله: {سابقوا} {وسارعوا}، وكذا النبي بقوله: (اغتنم خمسا قبل خمس)، (وبادروا بالأعمال سبعا)...

    وقد عقَد الخطيب البغدادي بابًا في كتابه "اقتضاء العلمِ العملَ: "باب ذم التسويف"، وقد جاء فيه:
    عن الحسن البصري رحمه الله: "إيَّاك والتسويف؛ فإنَّك بيومك ولست بغَدِك، فإنْ يكنْ لك غد، فكُنْ في غَدٍ كما كُنتَ في اليوم، وإنْ لم يكن لك غدٌ لم تندمْ على ما فرَّطت في اليوم".
    وعن قتادة بن أبي الجلد قال: قرَأتُ في بعض الكتب: إنَّ (سوف) جُندٌ من جُندِ إبليس.
    وروى ابن أبي الدنيا عن عُقْبَةُ بْنُ أَبِي الصَّهْبَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، إِيَّاكُمْ وَالتَّسْوِيفَ.. سَوْفَ أَفْعَلُ، سَوْفَ أَفْعَلُ".
    ولا ترج فعل الصالحات إلى غد .. .. لعل غذا يأتي وأنت فقيد
    ونختم بوصية يوسف بن أسباط لأخيه: "أي أخي، إياك وتأميرَ التسويف على نفسك، وتمكينَه من قلبك؛ فإنه محلُّ الكلال، ومَوئِل التلف، وبه تُقطَع الآمال، وفيه تنقَطِع الآجال.. وبادِرْ يا أخي فإنَّك مُبادَرٌ بك، وأسرع فإنَّك مسروعٌ بك، وجِدَّ فإنَّ الأمرَ جدٌّ".
    إلى كم تجعل التسويف دأباً .. .. أما يكفيك إنذار المشيب؟
    أمــا يكفــيك أنّك كلّ حـين .. .. تمرّ بقـبر خـلٍّ أو قريب؟
    كأنّك قــد لحقت بهـم قريباً .. .. ولا يُغنيك إفراط النحيب لى

    الكلم الطيب

     

    لا يتوفر وصف للصورة.

     

    {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ○ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}
    [الشرح : ٧ - ٨]

    هل تريد أن يشرح الله صدرك ويضع عنك وزرك ؟ إلزم هذه الآية فهي أبلغ وأعظم دافع إلى العمل والجد في استثمار الزمن قبل الندم .

    هل تجد فراغاً في وقتك ؟
    {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} إعمل بحزم وقوة وثبات ... الفراغ فرصة للتقرب إلى الله ، فلا عطلة للمؤمن عن طاعة الله ، بل ينتقل من طاعة إلى طاعة .. وليس أجمل من وقت تدع به أشغال الدنيا وهمومها خلف ظهرك لتخلو بين يدي ربك بالنوافل ، فمن تمسك بركن قوي ياعزيزي كيف له أن يضعف ؟!! ..

    {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} إلى ربك .. إليه سبحانه وليس إلى غيره .
    (فارغب) ماذا ترغب ؟ عندما ترغب فيما عند الله يحبك الله ، أما إذا رغبت فيما عند الناس فإنهم يبغضونك . {إنا إلى الله راغبون} كل طريق إن خطوته لله انتظر فلاحه ، وكل نية جعلتها لله انتظر بركتها . عظّم رغبتك في إجابة دعائك وقبول عباداتك ، ولا تكن ممن فرغوا وأعرضوا عن ربهم فتكون من الخاسرين .

     


  7. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ٣٦-سبأ

     { إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [سبأ: 36] يبسط: يُوسع الرزق بكرمه، ويقدر: يعني: يضيقه على مَنْ يشاء بحكمته تعالى. والرزق لازمة من لوازم الربوبية التي خَلَقَتْ، والتي استدعت الإنسان للوجود، فلا بُدَّ أن تضمن له مقومات حياته.
     

    لكن الرازق سبحانه لا يرزق الناس جميعاً (بمسطرة) يعني بالتساوي؛ لأن الله تعالى يريد أن تكون المجتمعات متعاونة متكافلة، ولو أن كل إنسان كان عنده ما يكفيه ما احتاج أحد إلى أحد، وما حدث في المجتمع هذا الترابط وهذا الاتصال الجماعي.
     

    وسبق أنْ أوضحنا أن ترابط المجتمع لا بُدَّ أنْ يكون ترابط حاجة، لا ترابط تفضّل، فلو فرضنا أننا جميعاً تخرّجنا في الجامعة، أو أخذنا الدكتوراة، فمن (يكنس) الشوارع، ومن يمسح الأحذية؟ لو جعلنا هذه الأعمال تفضّلاً من بعضنا ما قَبِلها أحد.
     

    وقلنا: إن الرجل المتعجرف أو المتكبر أو الباشا لو عاد إلى بيته فوجد به رائحة كريهة فسأل فقالوا: المجاري بها كذا وكذا لا شكّ أنه لن يهدأ له بال حتى تنتهي هذه المشكلة، وربما ركب سيارته، وذهب بنفسه إلى السباك ليُخلِّصه من هذه المشكلة.
    نقول في هذه الحالة: إن السباك فاضل على الباشا في هذا الوقت، لأن الله أعطاه قدرة على نفسه لا يملكها الباشا أو حامل الدكتوراة، وهذا السباك ما تحمَّل مثل هذا العمل إلا لحاجته إليه وإلا ما قَبِلَه.
    لذلك أحسن الشاعر حين قال:

     

    النَّاس للنَّاسِ من بَدْوٍ وحَاضِرةٍ بَعْضٌ لبعْضٍ وإنْ لم يَشْعُروا خَدَمُ

     

    وهذه الخدمة تقوم على التداول، فالحق سبحانه لم يجعل ذرية كلها خادمة، وذرية مخدومة، إنما أنت خادم في شيء ومخدوم في شيء آخر، وهكذا كلنا خادم، وكلنا مخدوم، ليعلم الإنسان أياً كان أنه ابن أغيار، وأن سيادته ليست ذاتية فيه، فإنْ كان هو الأعلى عليه أنْ يُقدر هذا العلو ويعمل له ليظل على عُلُوه، فإنْ رأى الأدنى منه فلا يحقره، بل يُقدِّر له مهمته في خدمته، وأنه سيحتاج إليه في يوم ما في عمل لا يقدر هو عليه.
     

    لذلك يقول تعالى: { { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ.. } [النحل: 71] كثيرون يظنون أن الرزق هو المال، إنما الرزق كلمة عامة يُراد بها كل ما ينتفع به الإنسان، والحق سبحانه فضَّل بعضنا على بعض في هذه الأشياء، لكن أيُّ بعض فضَّل؟ وأيُّ بعض فضَّل عليه؟ أنت مُفضَّل فيما لك فيه موهبة، ومفضَّل عليه فيما لا موهبةَ لك فيه، وهكذا يتكاتف المجتمع ويتكامل، ويرتبط ارتباطَ حاجة لا ارتباطَ تفضُّل.
     

    وتأمل قوله تعالى: { { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } [الفجر: 15] وشكراً، وكثَّر الله خيرك أنْ نسبتَ الإكرام لربك { { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } [الفجر: 16] فيقول الحق (كَلاَّ) يعني: أنت كذاب في هذا القول؛ لأن بَسْط الرزق ليس دليلاً على التكرم، ولا تضييقه دليل إهانة. وإلا كيف يكون بَسْط الرزق دليلَ التكريم، والناس فيما يُرْزَقون لا يكرمون به اليتيم، ولا المسكين، ويأكلون التراث أكلاً لماً. { { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } [الفجر: 18-20].
     

    إذن: على الإنسان أنْ يتأدب مع الله فيما صنع؛ لأن الله يعلم كيف يرزق، وهو سبحانه يريد أنْ يجعل من الناس أُسْوة للناس، فالغني الذي افترى بماله يُبقيه الله حتى يرى فيه الفقير المفْترَى عليه، يرى فيه عقاب الله ليعلم أن لله تعالى ألوهية، ولله تعالى قيومية، لا يفلت الظالم من عقابها في الدنيا قبل الآخرة. وهذا المعنى خاطب الله به نبيه فقال: { { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [غافر: 77].
    ثم إن مسألة الرزق لا تتوقف على مهارة، أو شطارة، أو علم، فهناك مَنْ سعى للرزق وزرع واجتهد، لكن عند الحصاد جاءتْه جائحة اجتاحت زرعه فأهلكتْه، وكأن الحق سبحانه يقول لنا: إياك أنْ تفطن إلى ألوهية الأسباب، وتغفل ألوهية المسبب.

     

    والرزق مقسوم لصاحبه، وإنْ حمله غيره، فالجنين في بطن أمه غذاؤه من تكوينها ومن دمها، لكن هذا الدم وإنْ حملتْه الأم ليس رزقها، بدليل أنه إذا حدث الحمل توافر هذا الدم لغذاء الجنين، فإنْ لم يحدث الحمل نزل منها هذا الدم في عملية الحيض، ولم تنتفع به الأم، لماذا؟ لأنه ليس رزقها هي، وهذا يساعدنا في فهم قوله تعالى: { { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } [الإسراء: 31].
    لذلك قالوا: ليس كل ما تملك رِزْقاً لك، إنما رزقك ما انتفعتَ به،

    فالشيء يكون في ملكك وفي حوزتك تظن أنه لك، ثم يضيع منك، أو يُسرق أو يُؤمَّم أو تُصيبه جائحة .. إلخ بل أكثر من ذلك قد يكون طعاماً وتأكله بالفعل، ويتمثل في جسمك دماً يجري في عروقك، ثم يسيل منك بسبب جرح، أو عملية جراحية مثلاً: إذن: هذا الدم ليس رزقاً لك.
    فالمؤمن ينبغي أنْ يظمئن إذن إلى عملية الرزق، ويعلم أنها بقيومية الله التي ترزق المؤمن والكافر، وأن الرزق مقسوم لك، مُسمّى باسمك، فلا يأخذه غيرك مهما كان، فإنْ بُسِط لك فاحمد الله، وإن قُتِّر وضُيِّق عليك فاعلم أنها بحكمة الله، واقرأ: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر 21].

     

    ثم تُختم الآية بقوله تعالى: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [سبأ: 36] فالأكثرية لا يعلمون حكمة الله في تفاوت الأرزاق، وهذا يعني أن قلة منهم هم الذين يعلمون، فاللهم اجعلْنَا من هذه الأقلية.

     

    التفاسير العظيمة

     

    قد تكون صورة ‏تحتوي على النص '‏5 فلْ قَلِنَ إَِّ رَبّي يَبْسُطَ الرّزو لمَن يَشَْآءُ وَيَقْدِرُ لَكِنَّ أكثر ألنَّاس‏'‏

     


  8. (وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ٣٤-سبأ

    نلاحظ في هذه الآية أنها ذكرتْ النذارة، ولم تذكر البشارة، لماذا؟

    قالوا: لأن الحديث عن قرية استشرى فيها الفساد بحيث لم يَعُدْ لها إلا النذارة، فهؤلاء قوم كذَّبوا الرسل، ووقفوا من الدعوة موقفَ العداء والمكابرة. أما البشارة فتكون في عموم الدعوة، والحديث هنا عن دعوة خاصة بهؤلاء المكذبين.
     

    ومعنى { فِي قَرْيَةٍ } [سبأ: 34] أي: في أهل قرية، والقرية اسم للمكان، أو أن الله سبحانه جاء بالمكان وإنْ كان يريد المكين؛ لأن المكان كجماد مُسبِّح لله، فيفرح بالمؤمن المسبِّح فيه، ويحزن ويضيق بالكافر الذي يقيم فيه؛ لذلك يقول العربي القديم؛ فلان نبا به المكان يعني: المكان كرهه، ولما قالوا لرجل حكيم: أدريتَ أن فلاناً باع أرضه؟ قال: بل باعَتْه أرضه.
     

    وقوله { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } [سبأ: 34] جمع مُتْرف وترف يترف أي: تنعَّم. أما أترف فتعني أن النعمة أطغَتْه وفتنته، فالحق سبحانه لم يمنع عبده أنْ يتمتع بنعمه، المهم ألاَّ تُطغيه النعمة.
     

    وقد يكون الترف والتنعُّم استدراجاً من الله للعبد، وإملاءً له، ومَدًّا له في النعمة حتى يَطْغى بها، وتأمل مثلاً قول الله تعالى: { { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ } [الأنعام: 44] ولم يقُلْ لهم يعني ليس هذا الفتح في صالحهم مع أنه في ظاهرة نعمة { { أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ } [الأنعام: 44] وتعوَّدوا النعمة وأَلِفوها { { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً .. } [الأنعام: 44].
    لذلك، ليس من الصواب قولُكَ لأخيك: فتح الله عليم والصواب: فتح الله لك. واقرأ: { { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [الفتح: 1] { { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا .. } [فاطر: 2]

     

    وحكوْا لنا عن سياسي كبير كان له خصم، ففوجئوا بأنه أصدر قراراً بترقية هذا الخَصْم إلى منصب كبير، فتعجبوا: كيف يُرقى خصمه؟ فقال: أرفعه إلى منزلة عالية، حتى إذا سقط منها كان السقوط مؤلماً، وسبق أنْ قُلْنا: إذا أردتَ أنْ تُوقِع عدوك لا توقعه من فوق الحصيرة مثلاً.
    ومن الاستدراج بالنعمة والترف قوله تعالى: { { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } [الإسراء: 16].

     

    البعض يخطىء فَهْم هذه الآية، فيقول: { { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } [الإسراء: 16] أن الفسق مترتب على الأمر. والله سبحانه لا يأمر بالفسق، ولا يأمر بالفحشاء، وإنما يأمر بالطاعة والعبادة، كما قال سبحانه: { { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ .. } [البينة: 5] وقال: { { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ .. } [النحل: 90] فالمعنى: أمرنا مترفيها بما يأمر الله به، فما كان منهم إلا أنْ فسقوا فيها أي: فسقوا في الأمر، إذن: الفسق ليس مترتباً على الأمر، وإنما على مخالفة الأمر.
     

    الحق - سبحانه وتعالى - حين يعرض قضية الترف والإتراف يقول: أنا أنعمتُ على عبادي نعماً يتنعَّمون بها، إنما كنتُ أريد أنْ يستقبلوا هذه النعم بالشكر، وأنْ يُعدوا النعمة إلى غير المنعِّمين ليحصل في المجتمع المسلم التكافل الاجتماعي المطلوب، ولينزع هذا التكافل الغِلَّ والحقد من قلوب الفقراء على الأغنياء.
     

    فالفقير إذا رأى الغنى ينتفع بآثار النعمة، ويتمتع بها دونه، يحقد عليه، ويتمنى زوال نعمته، فإنْ نال منها شيء أحبَّ الغنى، وسأل الله له المزيد، هذا من ناحية الفقير.
     

    أما من ناحية الغنيِّ، فالحق سبحانه يعلم أن الإنسان عامة مطبوعٌ على النفعية لذاته وحب الخير لها؛ لذلك عامله الحق سبحانه بهذا المنطق، منطق النفعية حين يعطيه جزاءَ ما أنفق، ويثيبه على ما يفعل من الخير، قال له: الحسنة بعشر أمثالها، غُض طرفك عن المحارم في الدنيا أمتعك بالحور العين يوم القيامة .. الخ.
     

    لذلك يقولون: إن التدين نفعية عالية، فأنت مثلاً ما آثرتَ الفقير على نفسك، وما أعطيتَهُ ما في جيبك إلا لأنك تريد من الله تعالى أضعاف ما أعطيت. إذن: أنت حتى في تجارتك مع الله تحب النفع لنفسك.
     

    والحق سبحانه يعطي الغني وصاحب الهمة العالية الذي يكدح ويتعب ويُكوِّن الثروة، يعطيه حقه، ويحترم جهده وعرقه، ويحترم مشاعره النفعية، فحين يسـأله يسأله جزءاً من ماله، لا ماله كله، واقرأ قوله تعالى: { { إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [محمد: 36-37].
    ويُحبِّبهم في الإنفاق بنفس هذا المنطق: { { هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ .. } [محمد: 38].

     

    إذن: مسألة الإنفاق هذه تُخرِج ضِغْن الغني، كما أخرجتْ ضِغِن الفقير، فهي تُحدِث استطراقاً إيمانياً، واستطراقاً اقتصادياً في المجتمع، فصاحب المال يحمد الله على النعمة، ولا يبخل بها على الفقير، والفقير يحمد الله أنْ جعل النعمة في يد مَنْ يجود بها عليه، وهكذا يحدث التوازن في المجتمع.
     

    نعود إلى ما كُنَّا بصدده من قوله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [سبأ: 34] لماذا أنتم كافرون بما جاء به الرسل؟
    الحق - تبارك وتعالى - يريد من العباد ألاَّ يستعلي قوي على ضعيف، وألاَّ يستعلي غني على فقير، وألاَّ يستعلي عالم على جاهل، إنما يريد أن يعمَّ الخير، فمَنْ كانت عنده خَصْلة من خصال الخير عَدَّاها إلى غيره.
    أما هؤلاء فقد اختاروا الكفر، واطمأنوا إليه؛ لأن النعمة أطغتهم وأترفتهم، فمالوا إلى البذخ وإلى المظالم حتى عَشِقوا هذا كله، فلما جاء الدين ليُعدِّل من سلوكهم صادموه، وحاولوا طمسه والقضاء على دعوته؛ لأنهم ألفوا السيادة، وألِفُوا الطغيان، ولا يريدون أنْ تُسلب منهم هذه السيادة. وإلا لو أن العالم كان مستقيماً متوازناً ما كانت هناك حاجة للرسل، إذن: ما جاء رسول إلا بعد أنْ عَمَّ الفساد وطَمّ.
    وسبق أنْ قُلْنا: إن الحق سبحانه خلق في النفس الإنسانية مناعة إيمانية نتيجة الفطرة الأولية، لكن الشهوات وتقاليد الظالمين تطمس هذه الفطرة، فتحتاج إلى مُذكِّر يعيدها إلى الطبيعة والفطرة التي خلقها الله، لذلك قال سبحانه: { { إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } [الغاشية: 21] يعني: ليس بادئاً.
    والحق سبحانه يُبين أن الناس أمام الخير والشر أنواع ثلاثة، فقال الحق سبحانه وتعالى: { { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } [فاطر: 32].

     

    فالظالم لنفسه هو الذي يفعل السيئة، ولا يلوم نفسه، ولا يندم على سيئته، ولا يتوب منها، فهو يظلم نفسه؛ لأنه يحرمها الجزاء والنعيم الأبدي. والمقتصد هو الذي يتردد بين الحسنة والسيئة، فإنْ فعل سيئة تذكَّر ولام نفسه وتاب، ثم يفعل الحسنة لتُكفِّر السيئة، وهؤلاء قال الله فيهم: { { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 102].
    وقوله سبحانه: { { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [فاطر: 32] يُراد به أمة محمد صلى الله عليه وسلم: لأن الميراث يعني أن الموروث ينتقل من السابق إلى اللاحق، فأمة محمد ورثتْ الرسل جميعاً في كل أمورهم الخيرية، وتكفَّلَتْ بأن تردع الشر في كل نواحيه، وبذلك ورثوا الرسالات كلها؛ لأنهم يأمرون بالمعروف وينهوْن عن المنكر، كما قال سبحانه: { { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [آل عمران: 110].
    وقال تعالى أيضاً: { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143].
    فالرسول يشهد أنه بلَّغكم، وأنتم تشهدون أنكم بلَّغتم مَنْ بعدكم، رسولكم فوَّضه الله في أنْ يُشرِّع لكم، وفوَّضكم أنتم في أنْ تحملوا منهجه من بعده؛ لذلك انقطعتْ الرسالات بعده صلى الله عليه وسلم؛ لأن أمته ستقوم بمهمة الرسالة، وهذا دليل على أنها أمة، الخيرية فيها باقية إلى قيام الساعة.

     

    وقولهم: { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [سبأ: 34] بم أُرسِل الرسلُ؟ أُرسِلوا أولاً بقضية التوحيد، وأنه لا إله إلا الله، أرسلوا بالبلاغ عن الله، أرسلوا بمعجزات، أُرسلوا بأحكام ومناهج تحكم حركة الحياة. فهؤلاء كفروا بهذا كله لأنهم يريدون أنْ يعيشوا في ترفهم وظلمهم، وأنْ يستبدوا كما يشاؤون.
    لكن قولهم { بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } [سبأ: 34] دلَّ على غبائهم؛ لأنهم لم يقولوا مثلاً بما جئتم به، أو بما ادعيتموه، إنما بما أُرسِلتم به، فهم يعترفون بأنهم مُرسَلُون، فهذه كلمة الحق ساقها الله على ألسنتهم، كما ساقه على ألسنتهم في قولهم: { { لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ } [المنافقون: 7] وقولهم لما فتر الوحي عن رسول الله: إن رب محمد قلاه.
    إذن: هم يعترفون لرسول الله بالرسالة، والمرسل لا يُرسَل من مثله، إنما من جهة أعلى، فالرسالة ليست من عند محمد؛ { { قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [يونس: 16] لكن، ما علة هذا الكفر؟

     

    التفاسير العظيمة

     

    لا يتوفر وصف للصورة.

  9. (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )٢٨ -سبأ

    { أَرْسَلْنَاكَ .. } [سبأ: 28] أي: جعلناك رسولاً { إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ .. } [سبأ: 28] كلمة كافة تبين منزلة الرسول الخاتم، فقبل بعثة سيدنا رسول الله كان الرسول يُبعث لقوم مخصوصين، كما قال سبحانه وتعالى: { { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ .. } [آل عمران: 49].
    ذلك، لأن البشر لما تكاثروا كما قال سبحانه: { { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً .. } [النساء: 1] تفرَّقوا في أنحاء الأرض هنا وهناك، والعالم لا يزال في طفولة فطرته، ليس فيه ارتقاءات للقاء بين هذه الجماعات، فكانت جماعات منعزلة، لا اتصال بينها، ولكل بيئة منها داءاتها: فهؤلاء يُطفِّفون الكيل والميزان، وهؤلاء يعبدون الأصنام ... إلخ فيأتي الرسول إلى قوم مخصوصين ليعالج داءهم لا علاقة له بغيرهم.
    أما سيدنا رسول الله، فكان هو الرسول الخاتم المبعوث للناس كافّة؛ لأن الله تعالى عَلِم أزلاً أنه سيأتي على التقاء مع الدنيا كلها، وعلى اتصال بين الجماعات التي كانت مُتفرِّقة، وها نحن الآن نعيش عالم القرية الواحدة، وما يحدث في أقصى بلاد الدنيا نسمعه ونراه في وقته، وما دام العالم التقت مجتمعاته وقاراته، فالداءات واحدة؛ لذلك جاء رسول واحد ليعالج كل الداءات في كل المجتمعات، هذا معنى: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ .. } [سبأ: 28].

     

    ومعنى أنه صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل أنه مشهود له، وليس شاهداً لغيره، فقد أخذ الله تعالى العهد على الرسل، أنه إذا جاء محمد يشهدون له فشهدوا له جميعاً، أما هو صلى الله عليه وسلم فلم يشهد لأحد؛ لأنه لم يأْتِ بعده رسول.
     

    قال العلماء في كلمة { كَآفَّةً .. } [سبأ: 28] يعني: للناس جميعاً، ففي موضع آخر يقول تعالى: { { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً .. } [الأعراف: 158].
    يعني: لم تَعُدْ هناك خصوصية، لا زمانية ولا مكانية. وحين نتأمل كلمة { كَآفَّةً .. } [سبأ: 28] نجد لها مناسبة في واقع لغتنا، استقر على ألسنة العامة: نشاهد الخياط مثلاً حين يخيط ثوباً يُعمِل المقصَّ في القماش، فيقطعه إلى لُحمة وسُدة، لكن تخرج خيوط الثوب من خلال أطرافه كما نقول القماش (بينسِّل) فيجمع الخياط هذه الأطراف بعضها إلى بعض، بحيث تكون أطراف القماش إلى الداخل، وهذه العملية نسميها (كفكفة) القماش، أو نسميها الآن (السَّرفلة).
    ومن ذلك كلمة (كَافَّة) يعني: جَمْع شتات الناس في كل زمان ومكان، بحيث لا يخرج منهم جنس ولا جماعة، ولا يشذّ عن منهجه أحد.
    وعندنا في الفلاحين نبات ينمو على حوافِّ القنوات اسمه النجيل، وهو غير الحشيش المعروف، والنجيل لا يرتفع عن سطح الأرض، وتتشابك عيدانه وجذوره بحيث يمنع هذه الحوافّ أن تنهار، أو يسقط منها الردم فيسدّ القناة، فكأن النجيل أدى مهمة هي كفّ الردم ومنعه أنْ ينهار يعني: كفّ جنساً أن يشرد عن مهمته.

     

    وكلمة { كَآفَّةً .. } [سبأ: 28] من كفّ الشيء يكُفُّه، فهو كافٌّ، وزيدت تاء التأنيث للمبالغة، كما في عالم وعلاَّم وعلاَّمة، لذلك يقول ربنا عن نفسه سبحانه: { { عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } [التوبة: 78] فإنْ قُلْتَ: لماذا لم يَقُلْ علاَّمة؟ نقول: لأن علْم الله تعالى لا يترقى بلاغة وقِلَّة.
     

    فمعنى { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ .. } [سبأ: 28] يعني: تكفُّهم وتمنعهم عن كل شر يفسد الصلاح في الأرض، وهذه هي مهمة المنهج الذي جاء به سيدنا رسول الله؛ لذلك قال سبحانه: { { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا.. } [الأعراف: 56].
     

    إذن: كلمة { كَآفَّةً .. } [سبأ: 28] إما وَصْف للناس بمعنى جميعاً، وإما وَصْف لرسول الله بمعنى كافٌّ للناس عن الشر، والتاء للمبالغة.
     

    ومعنى { بَشِيراً وَنَذِيراً .. } [سبأ: 28] من البشارة، وهي أنْ تخبر بخير لم يَأْتِ أوانه بعد، ويقابلها النذارة، وهي أن تخبر بشرٍّ لم يأْتِ أوانه بعد، فمَيْزة البشارة أنها نخبرك بالخير القادم لك لتأخذ بأسبابه وتُقبل عليه وتجتهد في سبيله، وأنت مشتاق إليه، كذلك النذارة تحذرك من الخطر المقبل لتنصرف عن أسبابه وتدفعه عنك.
    ومثال ذلك: المعلم الذي يبشِّر التلميذ المجتهد بالنجاح والتفوق، وينذر المهمل بالفشل والرسوب، لماذا؟ لأنه يريد من المجتهد أنْ يزيد في اجتهاده، ومن الكسول المهمل أنْ يترك الكسل والإهمال ليتفوَّق هو الآخر.

     

    وقوله: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [سبأ: 28] أي: لا يعلمون أنك الرسول الخاتم، أو الرسول الذي جاء ليمنع الشر عن البشرية كلها ويصلح حركتها. وما دام أكثر الناس لا يعلمون، فمعنى ذلك أن القلة هي التي تعلم، وهذه القلة العالمة هي خميرة الخير في الوجود؛ لذلك نرى الناس مهما بالغوا في الإلحاد، وفي الخروج عن منهج الحق لا بُدَّ أن تخرج من بينهم هذه القلة التي تتمسك بالحق وتسعى إليه وتنادي به، فهي موجودة في كل زمان ومكان وإنْ قلَّتْ.
     

    التفاسير العظيمة

    image.png.baeda2bfd5d2f12153c00d383142e006.png


  10. اللغة العربية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
     
     
     

    ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [الشورى: 37]

    يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [الشورى: 37].

    في هذه الآية الكريمة يذكر الله تبارك وتعالى من صفات عباده المؤمنين: أنهم إذا ما غضبوا على أحد بسبب قوله أو فعله غفروا لمن غضبوا عليه؛ وذلك حتى يزول ما يشعرون به تجاه من غضبوا عليه من رغبة في الانتقام والإيذاء والعدوان، وبذلك تظل نفوسهم وقلوبهم سليمةً وصافيةً بعضهم تجاه بعض.

     

    وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوصني، قال: ((لا تغضب))، فردَّد مرارًا، قال: ((لا تغضب))؛ [رواه البخاري].

    فهذا الرجل هنا قد عُرف عنه الغضب، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم طالبًا أن يوصيه بأمر يسير عليه في هذه الحياة، وتستقيم به أموره، أوصاه صلوات ربي وسلامه عليه بما يحتاج إليه ويفيده، ويناسب حاله، وهو عدم الغضب؛ وذلك لأن الغضب من شأنه أن يجعل الإنسان يخرج عن عادته وحالته الطبيعية، ويجعل الدم يغلي في بدنه، راغبًا في تأديب من أغضبه والانتقام منه، فتراه يتلفظ بألفاظ ويتصرف بتصرفات غير محسوبة الآثار والعواقب والمآلات، ثم يندم على هذا القول أو الفعل الذي أقدم عليه في حال غضبه!

     

    وكما قال الشاعر:

    ولم أرَ في الأعداء حين اختبرتُهم        عدوًّا لعقل المرءِ أعدى من الغضبِ

     

    ففي لحظة غضبٍ يتفوَّه الإنسانُ بألفاظٍ سيئة، ويجرح مشاعر الآخرين، وفي لحظة غضب يسيء إلى والديه، وفي لحظة غضب يُطلِّق امرأته التي عاشت معه سنين عدة، وربما تكون هذه آخر طلقة له، فيقع في مشكلة ومعضلة يبحث لها عن حل عند المشايخ والقضاة، وفي لحظة غضب يضرب ابنه ضربًا مبرحًا، مؤذيًا بدنه ومدمرًا شخصيته، وفي لحظة غضب يتسبب في قطيعة أرحامه وأقاربه، وفي لحظة غضب يفقد الإنسان عقله ويقتل مسلمًا معصوم الدم والمال والعرض، وهكذا نرى أن هناك عواقبَ مدمرةً وآثارًا سيئة جدًّا يتسبب فيها الغضب للإنسان في حياته، وهذا هو الأصل فيه، ومن هنا قال الإمام جعفر الصادق رحمه الله: "الغضبُ مِفتاحُ كلِّ شرٍّ".

     

    وقد كتب الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إلى أحد عُمَّاله: "ألا تعاقب عند غضبك، وإذا غضبتَ على رجلٍ فاحبسه، فإذا سكن غضبك فأخرجه، فعاقبه على قدر ذنبه، ولا تجاوز به خمسة عشر سوطًا".

     

    من ابتُلي بسرعة الغضب وكان العامل الطبعي عنده قويًّا عليه أن يحاول جاهدًا أن يتحكم في غضبه، ويدرِّب نفسه على الصبر والحلم والعفو والتسامح مع الآخرين، ولا يستعجل في التعامل مع الأحداث والمواقف والمثيرات من حوله؛ لئلا يندم على قوله وتصرُّفه بعد ذلك، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))؛ [رواه البخاري ومسلم].

     

    وهناك عدد من الإرشادات والتوجيهات النبوية التي يمكن اتِّباعها للتخفيف من حدة الغضب وشدة الانفعال عند الإنسان، ومن ذلك: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فقد ورد عن سليمان بن صُرَدٍ رضي الله عنه أنه قال: استبَّ رجلانِ عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوسٌ، وأحدهما يسبُّ صاحبه مُغضبًا، قدِ احمرَّ وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلمُ كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم؟! قال: "إني لست بمجنون"؛ [رواه البخاري واللفظ له ومسلم].

     

    ومن ذلك أيضًا تغيير وضعه الذي هو عليه، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب؛ وإلا فليضطجع))؛ [رواه أحمد وأبو داود].

     

    يقول الإمام الخطابي رحمه الله في الحكمة من تغيير وضع الغاضب من القيام إلى القعود ومن القعود إلى الاضطجاع: "القائم متهيئ للحركة والبطش، والقاعد دونه في هذا المعنى، والمضطجع ممنوع منهما، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا تبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد".

    كما أن في تغيير وضعية الإنسان إشغالًا لباله وفكره وذهنه بأمر آخر، فيخف غضبه، وربما زال عنه.

     

    وإذا شعر الإنسان الغاضب بأنه لا يستطيع أن يصبر ويكظم غيظه يبتعد عن هذا المكان الذي هو فيه، والذي حضر فيه الشيطان حتى يهدأ، كما انتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوادي الذي نام فيه عن صلاة الفجر؛ لأنه وادٍ حضر فيه الشيطان.

     

    هذه هي بعض الإرشادات والتوجيهات النبوية التي تُعين الإنسان في التخفيف من حدة غضبه وانفعاله، ويحتاج الإنسان فيها إلى مجاهدة نفسه، والتدرب عليها فترةً من الزمن، وهذه الفترة قد لا تكون قصيرة، ولكن شيئًا فشيئًا تخف عنده حالة الغضب والانفعال وسرعة الاستجابة للمثيرات دون نظرٍ في العواقب، ويرى الآثار الحميدة لكظم الغيظ على حالته النفسية والصحية بل وحتى على من حوله من أفراد أسرته وأقاربه وأصحابه وبني مجتمعه وأمته.

     

     

     

    شبكة الالوكة

     

    image.png.ac619d47ed79f58ed8fdbacb883d544c.png

     


  11. { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ○ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح:٥-٦]



    سبب النزول:


    قال القرطبي رحمه الله تعالى: (والصحيح أن يقال: إن الله بعث نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم مُقلًّا مُخِفًّا، فعيَّره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالًا فاغتمَّ وظن أنهم كذبوه لفقره فعزاه الله، وعدَّد نعمه عليه، ووعده الغنى بقوله: فإن مع العسر يسرًا).


    ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5]، هذا مما يدخل السرور على قلبه صلى الله عليه وسلم، وما يبعث الأمل في نفسه وفي نفوس أصحابه، بأن بيَّن لهم سنة من سننه التي لا تتخلف، فقال: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾، المعنى: إذا تقرر عندك ما أخبرناك به من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، فاعلم أنه ما من عسر إلا ويعقبه يسرٌ، وما من شدة إلا ويأتي يبعدها الفرج، وما مِن غَمٍّ أو هم، إلا وينكشف، وتحل محله المسرة... وما دام الأمر كذلك، فتذرَّع أنت وأصحابك بالصبر، واعتصموا بالتوكل على الله، فإن العاقبة لكم.



    وليس هناك تكرار في الآية الثانية، بل قال القرطبي: (ثم ابتدأ فضلًا آخرَ من الآخرة، وفيه تأسية وتعزية له صلى الله عليه وسلم، فقال مبتدئًا: إن مع العسر يسرًا فهو شيء آخر، والدليل على ابتدائه، تعريه من فاء أو واو، أو غيرها من حروف النسق التي تدل على العطف، فهذا وعد عام لجميع المؤمنين، لا يخرج أحد منه؛ أي: إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرًا في الآخرة لا محالة، وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة.




    فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا




    { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ○ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح:٥-٦]

    أيها المهموم و المحزون و المكروب.. تأمل هاتين الآيتين.. إنها طبٌ للقلوب قالها علّام الغيوب .. ليت اليائس يدرك ذلك


    يقينا : مابعد الظلمة إلا النور ، وما بعد الضيق إلا السعة ، وما بعد الكرب إلا الفرج.. إنه وعد الله.. صدق الله وكذبت المواجع.


    الآيات بشاره عظيمة أنه كلما وُجد عسر وصعوبة فإن اليسر معه ويصاحبه ، حتى لو دخل العسر جحر ضُبٍ لدخل عليه اليسر فأخرجه . البشارات الجميلة ياعزيزي تختبئ خلف العسر دائماً ليفاجئ الله (صبرنا) بكرمه وعطاياه .

    الإبتلاءات هي المقياس الحقيقي لقوة الإيمان.. أَتعجّب كثيراً كيف نفقد القدرة على استشراف الفرج بعد الشدة . لماذا يأسرنا اليأس ويعزلنا الهم والله تعالى يبشرنا بالتيسير إن صبرنا؟!!



    التفاؤل والرضا والصبر والثقة بالله تفك الشدة وتشتتها ، دائما أقدار الله مبطنة بالرحمة مليئة بالخير حتى وإن كان ظاهرها عكس ذلك. ثق أن أيامك التي تراها حالكة السواد موحشة سيخلق الله لها فجراً باسماً مقترناً ب {إنا وجدناه صابراً} نم قرير العين واثقاً بوعد الله .


     

  12. وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ٢٣-سبأ

    قال العلماء: يُشترط للشفاعة شرط في المشفوع له أن يكون من أهل التوحيد، وشرط في الشافع أن يُؤذن له بالشفاعة، كما قال تعالى: { { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ .. } [البقرة: 255] فلا يقوم الشافع فيشفع مباشرة، إنما ينتظر أنْ يُؤذَن له بها، وهنا يضطرب المشفوع له ويفزع، ويكون قلقاً، يا ترى أيُؤذن للشافع؟ أم تُرَد شفاعته؟
     

    لذلك يقول تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ .. } [سبأ: 23] يعني: أُزيل عنها الفزع. فالتضعيف في (فُزِّع) أفاد إزالة الحدث المأخوذ منه الفعل، كما نقول (مرَّضه) يعني: أزال مرضه و (قشَّر البرتقالة) يعني: أزال قِشرتها ... إلخ.
     

    { قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ .. } [سبأ: 23] أي: قال القول الحق، وأذِن بالشفاعة لمن ارتضى.
     

    وقال تعالى: { وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ .. } [سبأ: 23] ولم يقُلْ تُقبل الشفاعة؛ لأن هدف الشافع أن تنفع الشفاعةُ المشفوعَ له، فإذا ما ذهب ليشفع له قال له المشفوع عنده: أنا لا أرضى أنْ تشفع للمشفوع له، فالذي انتفى نَفْع الشفاعة لا قبولها، ففَرْق بين أنْ توجد الشفاعة، وبين أنْ تنفع الشفاعة.
     

    وفي سورة البقرة آيتان في الشفاعة صدرهما واحد، لكن العَجُز مختلف، ففي الأولى: { { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } [البقرة: 48].
    والأخرى:
    { { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة: 123].
    وهاتان الآيتان من المواضع التي وقف أمامها المستشرقون، وظنوا فيها مأخذاً على كلام الله، فالمعنى واحد حتى اللفظ هو هو، لكن في الأولى قدَّم { { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ .. } [البقرة: 48] وفي الأخرى قدَّم { { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ .. } [البقرة: 123] وفي الأولى قال { { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [البقرة: 48].
    وهذا الاعتراض منهم نتيجة عدم الفهم عن الله، فالآيتان تتحدثان في الشفاعة عن نَفْسين. الأولى: النفس الشافعة. والأخرى: النفس المشفوع لها، الشافع له موقف مع الله، والمشفوع له، له موقف قبل ذلك؛ لأنه لم يأتِ بالشافع إلا لأنه لم يقدر على إنهاء المسألة بنفسه، فالضمير يعود في الآية الأولى على الشافع، وفي الأخرى على المشفوع له، كيف؟
    المعنى هنا: لا تجزي نفسٌ شافعة عن نفس مشفوع لها، النفس الشافعة هي التي يُقبل منها الشفاعة، والنفس المشفوع لها هي التي تنفعها الشفاعة، إذن: الآية الأولى تخصُّ الشافع؛ لأنه يذهب ليشفع فلا يُقبل منه، فيعرض أنْ يدفع هو العدل، ويكون كفيلاً فيما على المشفوع له، فلا يُقبل منه أيضاً.
    أما الآية الأخرى فهي في المشفوع له؛ لأنه يعرض أن يدفع ما عليه أولاً فلا يُقبَل منه عدل، فيبحث عمَّنْ يشفع له.

     

    وسُمِّيت شفاعة؛ لأن الشَّفْع يقابل الوتر، وصاحب الحاجة الذي يطلب الشفاعة واحد، فإذا انضم إليه الشافع، فهما اثنان يعني: شفع.
    ثم يقول سبحانه في ختام الآية: { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ } [سبأ: 23] عليٌّ أن يُناقَش في أي قرار يتخذه، وكبير يعني أكبر من الشافع، وأكبر من المشفوع له. فالحق سبحانه قال الحقُّ ونطق به، وهذا يعني أنه وقف بجانب الحق، فلم يعبأ بشافع مهما كانت منزلته، ولا بمشفوع له مهما كانت ذِلَّته ورِقَّته؛ لأنه سبحانه هو العليُّ الكبير.

     

    التفاسير العظيم

    image.png.c1aa6d558bd34b2a238c4f51c1451bc5.png

     


  13. من كتاب قواعد قرآنية -

    50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة - د. عمر المقبل

    القاعدة السادسة عشرة: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ)

     

    الحمد لله ما حمده الحامدون، وغفل عن ذكره الذاكرون، وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
    فهلم بادي الخير لنتدبر وقافين مع: (قواعد قرآنية)، لنتأمل جميعاً في قاعدة من القواعد القرآنية، التي يحتاجها الإنسان في مقام التمييز بين الأقوال والأفعال، والسلوكيات والمقالات، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100].

     

    والخبيث: ما يكره بسبب رداءته وخساسته، سواء كان شيئاً محسوساً، أو شيئاً معنوياً، فالخبيث إذاً يتناول: كل قول باطلٍ ورديء في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح من الفعال، فكل خبيث لا يحبه الله ولا يرضاه، بل مآله إلى جهنم، كما قال ـ: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37].

     

    وإذا تبين معنى الخبيث ههنا، فإن الطيب عكس معناه، فالطيب شامل: للطيب والمباح من الأقوال والأفعال والمعتقدات، فدخل في هذه القاعدة كل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الواجبات والمستحبات والمباحات.
    فلا يستوي الإيمان والكفر، ولا الطاعة والمعصية، ولا أهل الجنة وأهل النار، ولا الأعمال الخبيثة والأعمال الطيبة، ولا المال الحرام بالمال الحلال(1).

     

    وهذه القاعدة القرآنية هي صدر الآية الكريمة: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة: 100] والتي سيقت في معرض الحديث عن أنواع من المطاعم والمشارب والصيد، وتفصيل الحرام والحلال فيها.

     

    ولا ريب أن الغرض من الآية ليس مجرد الإخبار بأن الخبيث لا يستوي هو والطيب، فذلك أمرٌ مركوز في الفَطَر، بل الغرض هو الحث والترغيب في تتبع كل طيب من القول والعمل والاعتقاد والمكسب، والتنفير من كل خبيث من القول والعمل والاعتقاد والمكسب.

     

    ولما كان في بعض النفوس ميلٌ إلى بعض الأقوال أو الأفعال أو المكاسب الخبيثة، ولما كان كثيرٌ من الناس يؤثر العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، جاء التحذير من الخبيث بأسلوب عجيب يقطع الطريق على من قد يحتج بكثرة من يتناول هذا الخبيث، فقال ـ: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} وذلك أن في بعض الخبائث شيءٌ من اللذة الحسية أو المعنوية، كالحصول على مالٍ كثير لكن من طريق حرام، أو الوصول إلى اللذة الجسدية عن طريق الزنا، أو الخمر أو غيرهما من الملذات المحرمة، فهذه قد تغري الإنسان، وتعجبه، إلا أنه مع كثرة مقداره، ولذاذة متناوله، وقرب وجدانه، سبب للحرمان من السعادات الباقية الأبدية السرمدية التي إليها الإشارة بقوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ} [الكهف 46]، وإذا كان الأمر كذلك فالخبيث ولو أعجبك كثرته يمتنع أن يكون مساوياً للطيب الذي هو أعظمه: معرفة الله ومحبته، وطاعته، فتلك هي ـ والله ـ الحياة الطيبة التي وعد بها ـ من استقام على أمره، بأن يطيب عيشه في الدنيا والبرزخ والآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] هؤلاء هم الذين طابت أقوالهم وأفعالهم وحياتهم، فطاب مماتهم ورجوعهم إلى الله، كما قال ـ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِين} [النحل: 32] نسأل الله الكريم المنان من فضله الواسع العظيم.

     

    أيها المسلم:

    ولعظيم موقع هذه القاعدة وما دلّت عليه، فإن المتأمل للقرآن يجد عجباً من كثرة التأكيد على العمل بما دلّت عليه هذه القاعدة، ومن ذلك:

    1 ـ التأكيد على ضرورة العناية بالمكاسب الطيبة، ولم يستثن الله أحداً من عباده المؤمنين في الحث على هذا الأمر، بالإضافة إلى العمومات الآمرة بطيب المكسب، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين} [البقرة: 168] إلا أن الله تعالى خص الرسل عليهم الصلاة والسلام ـ الذين كانوا أطيب الناس حساً ومعنى ـ بخطاب خاص في هذه المسألة بالذات، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51].

     

    وكلُّ هذا يؤكد ضرورة العناية بهذا الباب العظيم الذي هو طيب المكسب، ولقد سلنا الصالح شديدي العناية بهذه المسألة، ولربما سافر أحدهم مئات الأميال، وتغرب عن وطنه، كل ذلك بحثاً عن لقمة طيبة حلال، حتى قال سفيان الثوري:: إن طلب الحلال هو عمل الأبطال.

     

    ولقد كان من أعظم أسباب العناية بطيب المكسب عند أسلافنا أمور، من أهمها:
    أ ـ أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
    ب ـ ومنها: أن هذه المكاسب مما تنبت عليها الأجساد.

     

    ولهذا فإن مما يوصى به كثرة الصدقة كلما كثر المال، أو قويت فيه الشبهه، كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم من يتعاطون التجارة، حيث يقول صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أهل السنن ـ: من حديث قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نسمى السماسرة ـ فقال: "يا معشر التجار! إن الشيطان والإثم يحضران البيع ـ وفي لفظ: إنه يشهد بيعكم الحلف واللغو فشوبوه بالصدقة ـ، فشوبوا بيعكم بالصدقة" قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

     

    وإذا كان هذا شأن هذه المسألة ـ أعني طيب المكسب ـ فعلى الناصح لنفسه أن يجتهد في طيب مكسبه، والحذر من أي شيء يكدره، خصوصاً وقد اتسعت على الناس اليوم أنواع من المكاسب المحرمة فضلاً عن المختلطة والمشتبهة، كبعض الشركات الموجودة في أسواق الأسهم المحلية والعالمية.

     

    2 ـ ومن هدايات هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} أنه لا يصح ـ أبداً ـ أن نجعل الكثرة مقياساً لطيب شيءٍ ما، وصحته وسلامته من المحاذير الشرعية، وهذا أمرٌ يصدق على الأقوال والأفعال والمعتقدات، بل يجب أن نحكم على الأشياء بكيفيتها وصفتها وبمدى موافقتها للشرع المطهر.

     

    تأمل ـ مثلاً ـ في قلة أتباع الرسل وكثرة أعدائهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] ، وهذا مما يؤكد على الداعية أهمية العناية بالمنهج وسلامته، وأن لا يكون ذلك على حساب كثرة الأتباع! وهذا موضعٌ لا يفقهه إلا من وفقه الله تعالى، ولا يصبر عليه إلا من أعانه الله وسدده؛ لأن في الكثرة فتنة، وفي القلة ابتلاء.

     

    وإليك مثالاً ثالثاً يجلي لك معنى هذه القاعدة بوضوح، وهو أن تتأمل في كثرة المقالات والعقائد الباطلة وكيف أن المعتقد الحق هو شيء واحدٌ فقط، قال ـ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]!

     

    والله الذي لا إله غيره، ما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيّب مثلها وأحسن، مع أمن من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، والعاقل حين يتحرر من هواه، ويمتلئ قلبه من التقوى، ومراقبة الله تعالى، فإنه لا يختار إلا الطيب، بل إن نفسه ستعاف الخبيث، ولو كان ذلك على حساب فوات لذات، ولحوق مشقات؛ فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، مسلياً نفسه بقوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77].
    جعلنا الله وإياكم من الذين طابت أقوالهم وأفعالهم، فطاب منقلبهم ومآلهم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

     

    _______________

    (1) ينظر: مفردات الراغب: (272)، وتفسير ابن جزي والسعدي لهذه الآية.

     

    موقع المسلم

     

    image.png.d9b78ce8e0938280bc17d1989986c25a.png


  14. قصة سبأ

    تفسير سورة سبأ للشيخ الشعراوي

    21-15

     

    (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)١٥-سبأ

     

    ينقلنا الحق - تبارك وتعالى - من قصة سليمان عليه السلام إلى أهل سبأ، فما العلاقة بينهما؟

    المتأمل في سور القرآن وآياته يجد بينها ترابطاً وانسجاماً، والمناسبة هنا أن سيدنا سليمان كانت له أبرز قصة في الإيمانيات والعقائد مع بلقيس ملكة سبأ، فبينهما إذن علاقة، وهذه النقلة لها مناسبتها.
    وقصة سليمان والهدهد وبلقيس قصة مشهورة، وبها دلالات إيمانية عظيمة في العقيدة، وفي بيان أن الحيوان عنده دراية بالعقيدة، وبأسرار الله في كونه.

     

    و (سَبَأ) عَلَم على رجل اسمه عمرو بن عامر، ويُلقِّبونه بمزيقباء وأبوه (ماء السماء) وقد سأل كرَّة بين نسيك رضي الله عنه سيدنا رسول الله عن سبأ فقال: (كذا وكذا ...) وكان له عشرة أولاد هم: أزد، وكِنْدة، ومَذْحج، وأشعريون، وأنمار، وغسان، وعاملة، ولَخْم، وجُذَام، وخثعم.
    وقد كوَّن كل واحد منهم قبيلة كبيرة. ستة من هؤلاء ذهبوا إلى اليمن، وأربعة ذهبوا إلى الشام، الذين ذهبوا إلى اليمن عاشوا في خيرها الوفير، فَيُروى أن بلقيس لما رأتْ ماء المطر يسيح في الوديان وتتشرَّبه الأرض، فلا يستفيدون به، فكَّرت في بناء سد بين جبلين يحجز ماء المطر، وجعلت به عيوناً كالتي عندنا في القناطر الخيرية مثلاً، تفتح عند الحاجة وتعطي الماء بقدر؛ لذلك زاد الخير والنماء في اليمن، حتى سُمِّيت اليمن الخصيب واليمن السعيد.

     

    إلا أن عرافة عندهم أو امرأة حكيمة ذات رأي قالت لسبأ هذا: إن السد سيخرب ويُغْرق ماؤه اليمن فاخرج منها، وفعلاً خرج سبأ إلى الحجاز والشام، حيث ذهب الغساسنة إلى الشام، والمناذرة إلى العراق، وأنمار إلى المدينة، وأزد إلى عمان في الأردن.
     

    واسم سبأ بعد أنْ كان عَلَماً على شخص تعدَّى إلى أنْ صار اسماً لقبيلة، ثم اسماً للمكان الذي يسكنونه.
     

    وقوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ .. } [سبأ: 15] أي: المكان الذي يسكنونه، والمكان الذي يعيش فيه الإنسان يُسمَّى (سكن) أو (بيت) أو (منزل)، ولكل منها معنى. والسكن هو المكان الذي يتخذه الإنسان ليسكن إليه وليطمئن فيه، ويرتاح من حركة الحياة والعمل، والإنسان لا يسكن إلا في مكان تتوفر فيه مُقوِّمات الحياة والأمن.
    لذلك فإن سيدنا إبراهيم عليه السلام لما وضع زوجته وولده عند البيت دعا ربه: { { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ .. } [إبراهيم: 37].
    فقد كان هذا المكان جَدْباً لا زرع فيه ولا ماء، ولا مُقوِّم من مقومات الحياة إلا الهواء ومعنى { { أَسْكَنتُ .. } [إبراهيم: 37] أي: وطَّنْتهم في هذا المكان.

     

    أما المنزل فهو المكان تنزل فيه مرة أو عدة مرات، ثم ترحل عنه لا تقيم فيه إقامة دائمة، فهو كالاستراحات التي تُجعل للطوارئ، ولا يقيم فيها أهلها إلا عدة أيام في السنة كلها.
    ومن ذلك ما "رُوِى أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ببدر سأله الصحابي الجليل الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أهذا منزل أنزلكه الله؟ أن هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة قال: إذن لا أراه لك بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نُعَوِّر (نفسد) ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي" .

     

    إذن: السكن فيه دوام واستقرار، أما المنزل فهو استراحة، إنْ شئتَ نزلتَ به، وإنْ شئتَ رحلتَ عنه.
    أما البيت فيُلاحظ فيه البيتوتة، والإنسان لا ينام نوماً مريحاً إلا في مكان يأمن فيه على نفسه وعلى ماله،

    فإن الخائف وكذلك الجوعان لا ينام.
    ومن السكن قوله تعالى في بني إسرائيل: { { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [الإسراء: 104].

     

    أخذ أحد المستشرقين هذه الآية، وجعلها دليلاً على أن الأرض كلها مُبَاحة لليهود، كيف وهم في الأرض،

    وأنت حين تريد هذا الأمر تقول: اسكن القاهرة، اسكن طنطا مثلاً، فتعين لي مكاناً، لكن { ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ } [الإسراء: 104] لها معنى آخر، هو التقطيع الذي قال الله عنه: { { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً .. } [الأعراف: 168].
    يعني: ليس لهم وطن مخصوص، وسوف ينساحون في الدنيا كلها، ولن يتمكن أحد من ضربهم والقضاء عليهم، وهم على هذه الحالة من التقطيع، حتى يأتي أمر الله، ويجمعهم في مكان واحد، وعندها سيسهل القضاء عليهم.

     

    ومعنى كلمة { آيَةٌ .. } [سبأ: 15] نقول: فلان آية في الكرم، وفلان آية في الأدب .. إلخ، والمراد شيء عجيب نادر الوجود،

    والحق سبحانه حدثنا عن أنواع ثلاثة من الآيات:

    آيات كونية مثل: { { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ.. } [فصلت: 37] { { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ .. } [فصلت: 39].
    وآيات بمعنى معجزات وخوارق للعادة، تأتي على أيدي الرسل لتؤيدهم وتثبت صدْقهم في البلاغ عن الله، كما في قوله تعالى: { { ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ .. } [القصص: 32].
    ثم تُطلق الآيات على آيات الكتاب الحاملة لأحكام الله في القرآن الكريم، وهذه كلها - سواء كانت آيات كونية، أو معجزات، أو آيات القرآن - كلها عجائب، وإن كانت هذه العجائب واضحة في الآيات الكونية وفي المعجزات، فهي أيضاً واضحة في آيات الكتاب الحكيم، فالقرآن عجيبة في تنظيم حياة الناس بدليل أن الكافر به سيُضطر إلى الأخذ بأحكامه والانصياع لقوانينه، لا على أنها دين، ولكن على أنها قوانين حياة.

     

    وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بأحكام الطلاق التي طالما نقدوها وهاجموها، واتهموا دين الله - ظلماً وجهلاً - بالقسوة، ثم بعد ذلك نراهم يلجئون إليه، ولا يجدون حلاً لبعض مشكلاتهم إلا في الطلاق وفي الرجوع إلى أحكام الله، مع أنهم غير مؤمنين به، وهذا منتهى الغَلَبة لدين الله أن يرجع إليه الكافر به، إنها غلبة الحق وغلبة الحجة.
     

    وسبق أنْ قُلْنا: إن أحد المستشرقين سألنا في سان فرانسيسكو قال: في القرآن { { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [الصف: 9].
    وبعد أربعة عشر قرناً من الزمان ما زال في الدنيا يهودية ومسيحية وبوذية ... إلخ، وهذا الكلام يدل على عدم فَهْم لمعنى الآيات، فليس المراد { { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ .. } [الصف: 9] أن يصبح الناس جميعاً مؤمنين، بدليل قوله تعالى { { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ .. } [الصف: 9].
    إذن: فالدين سيظهر ظهور حجة وظهور غلبة على تقنيناتهم، وسوف يطرأ عليهم من مشكلات الحياة ما لا يجدون له حلاً إلا في شرع الله، وهذا هو الظهور المراد في الآية.


    ثم يوضح الحق - تبارك وتعالى - ماهية الآية التي كانت لسبأ في مسكنهم، فيقول سبحانه: { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ .. } [سبأ: 15] وما دام الله تعالى وصف هاتين الجنتين بأنهما آية، فلا بُدَّ أن فيهما عجائب، وأنهما يختلفان عن الجِنَان التي نعرفها.
    وقد حدَّثنا العلماء عن هذه العجائب فقالوا عن هاتين الجنتين: لا تجد فيهما عقرباً، ولا حية، ولا ذباباً، ولا برغوثاً ... إلخ، فإنْ طرأ عليهما طارئ، وفي جسمه قُمَّل فإنه يموت بمجرد أنْ يدخل إحدى هاتين الجنتين، وهذه كلها عجائب في الجنتين.

     

    ونلاحظ هنا أن الآية مفرد والعجائب كثيرة؛ لأن كلمة آية تُطْلَق على الجمع أيضاً، ومن ذلك قوله تعالى في سيدنا عيسى عليه السلام: { { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً .. } [المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين، قالوا: لأن الأمر العجيب الذي جمعهما واحد، فعيسى عليه السلام وُلِد من لا ذكورة، وأمه حملتْ وولَدتْ كذلك من لا ذكورة، فالآيتان آية واحدة.
    ومعنى: { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ .. } [سبأ: 15] يحتمل أنْ يكون لكل واحد منهم جنتان، واحدة عن اليمين، والأخرى عن الشمال، وبيته في الوسط، ويحتمل أن تكون الجنتان لأهل سبأ جميعاً، بمعنى أنها جِنَان موصولة عن اليمين، وجِنَان موصولة عن الشمال وَصْلاً لا يُميَّز بسور ولا حائط، مما يدل على أن الأمن كان مستتباً بينهم، وقد شاهدنا مثل هذا في أمريكا، حيث الحقول والمزارع ممتدة متصلة لا يفصلها إلا مجرد سِلْك بسيط.

     

    وقوله سبحانه { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ .. } [سبأ: 15] كيف نفهم { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ .. } [سبأ: 15] والناس جميعاً يأكلون من رزق الله؟ قالوا: الناس يأكلون من رزق الله بالأسباب، إنما هذا رزق الله مباشرة بلا أسباب؛ لذلك يقول تعالى في موضع آخر { { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ .. } [طه: 81].
    فليس كل الرزق طيباً للأكل، إنما هنا { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ .. } [سبأ: 15] أي: كله طيب، وكله حلو، فالفاكهة في هاتين الجنتين لا يصيبها عطب، ولا يطرأ على ثمارها ما يطرأ على الثمار من فساد؛ لذلك سيقول سبحانه في آخر الآية: { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } [سبأ: 15].

     

    ونعرف أن البساتين مؤونة الخدمة فيها قليلة؛ لذلك نرى الفلاح حين يضيق بزراعة الأرض وأجور العمالة يلجأ إلى زراعة الحدائق والبساتين المثمرة؛ لأنها أقلّ تكلفة، ولا تحتاج إلى رعاية كثيرة إلا وقت الإثمار.
    والحق سبحانه يقول في غير هذا الموضع: { { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [الواقعة: 63-64] فأثبت لهم عملاً وحرثاً، إنما المسألة هنا في هاتين الجنتين، فهي عطاء من الله بلا عمل وبلا أسباب، فالله سبحانه هو الزارع، وقد خصَّها بالجو اللطيف، لا حرَّ ولا قرَّ، ولا سآمة، ولا مخافة، ولا زهد في نعمة من النعم لتكرارها.

     

    إذن لا عمل لهم في حدائقهم ينتج ما يستمتعون به، إنما عملهم أنْ يشكروا المُنعِمَ سبحانه ليزيدهم من الخيرات، وشكْر النعمة هو حكمة العبد مع مولاه؛ لذلك قال سبحانه عن لقمان: { { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ .. } [لقمان: 12] ما هذه الحكمة؟ { { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ.. } [لقمان: 12] لأن شكر النعمة يزيدها.
     

    وقوله سبحانه: { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ .. } [سبأ: 15] يعني: تعطيك طيب الأشياء بدون منغصات فيها؛ لأن هناك أشياء تعطيك طيباً تهنأ به، لكنها تتعبك وتنغِّصك فيما بعد.
    أما هذه البلدة فما فيها طيب تأكله هنيئاً مريئاً؛ لأنها رزق الله بدون أسباب من العباد، لكن حين يتدخل العباد في عطاء الله تظهر في النعم متاعب ومنغِّصات، وهذا ما نعاني منه الآن بسبب التدخل في المزروعات بالمواد الكيماوية والمبيدات الحشرية، التي أفسدت علينا حياتنا، وجاء ضررها أكثر من نفعها حتى أصبحنا نعزو كل الأمراض إلى تدخّلنا في عطاء الله، ولو تركنا الأرض تُروى بماء السماء كما كان في البداية لذُقْنا الخير بلا مُنغِّصات، فمن الضروري أن نتأدب مع الله في عطائه.

     

    لذلك تجد كثيراً من المترفين والمثقفين وأهل العلم والفلاسفة يحبون الخروج من ضوضاء المدن وتلوث هوائها ومياهها وما فيها من صخب ويخرجون إلى الريف أو البراري، يهربون من الآثار الضارة للحضارة الحديثة إلى الخلاء، حيث يعيش راعي الأغنام، حيث الطبيعة كما خلقها الله، وحيث الفطرة السليمة التي لم يتدخل فيها البشر.
    تذكرون في الماضى، كنا نقاوم دودة القطن مقاومة يدوية طبيعية، فلما تقدمت العلوم جاءوا بمادة (دى دى تي) للقضاء على دودة القطن، لكن هذه المادة السامة أماتتْ كل شيء في الحقول، قضَتْ على الأسماك في الترع والمصارف، وقضتْ على (أبى قردان) صديق الفلاح، ولوَّثت الماء والمزروعات ... إلخ. أما دودة القطن فهي الوحيدة التي أخذت مناعة، وأصبحت كما قلنا (كييفة) دى دى تي.
    أما سبأ فكانت { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ .. } [سبأ: 15] بكل ما فيها من طيب الماء والهواء والتربة لم يُصِبْها تلوث من أىِّ نوع، وإذا كانت البلدة نفسها طيبة، فما بالك بما عليها؟

     

    وفى الآية طلبان { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ .. } [سبأ: 15] وفيها تحذير: إياك أنْ تغتر بالنعمة، وتظن أنها أصبحت ملكاً لك، وتنسى المنعم بها عليك، إياك أنْ تكون كالذي قال الله فيه { { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7].
    إياك أن تظن أنك أصيل في هذه المسألة، وظلّ دائماً على ذِكْر بأن المنعم هو الله، وأن ما أنت فيه هو من عطاء الله، ثم بعد ذَلك عليك أن تشكره سبحانه؛ لأن الشكر قيد النعم.
    وفي موضع آخر، تكلم الحق سبحانه عن شكر النعمة فقال: { { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13] والحمد لله أنه سبحانه لم يقُلْ: وقليل من عبادي الشاكر، وتعلمون أن الشكور صيغة مبالغة من الشكر، أو الشكور هو الذي يشكر على النعمة، ثم يشكر الله على أن ألهمه أنْ يشكر على النعمة، فكأنه قدَّم الشكر مرتين.

     

    ثم لم يَقْصُر النعمة على أهل سبأ في الدنيا وحَسْب، إنما تعدَّت نعمته عليهم إلى الآخرة، ففى الدنيا { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ .. } [سبأ: 15] وفي الآخرة { وَرَبٌّ غَفُورٌ } [سبأ: 15] يعني: يتجاوز عنكم إنْ حدثت منكم زَلَّة أو هفوة.

    قد تكون صورة ‏حمام سباحة‏

    ثم يُبيِّن الحق سبحانه النتيجة وردَّ فِعْلهم
    (فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ١٦ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ)١٧
     

    { فَأَعْرَضُواْ .. } [سبأ: 16] أي: عن المأمور به، وهو { { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ .. } [سبأ: 15] فلم يأكلوا من رزق الله، إنما أكلوا من سعيهم ومهارتهم - على حدِّ زعمهم - وهذه أول الخيبة، ثم لم يشكروا الله على هذه النعم؛ لأن النعم أترفتهم فنسوا شكرها.
     

    وفَرْق بين ترف وأترف، نقول: ترف فلان أن تنعَّم. لكن أترف فلان، أي: غرَّته النعمة؛ لذلك قال تعالى: { { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا .. } [الإسراء: 16].
    فلا بأس أنْ تتنعم، لكن المصيبة أن تُطغيك النعمة، وتغرّك، وأول طغيان بالنعمة أن تنسبها إلى نفسك فتقول: بمجهودي وشطارتي كالذي قال: { { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ .. } [القصص: 78] ثم أنْ تنسى المنعِم، فلا تشكره على النعمة.
    وفي موضع آخر لخَّص لنا الحق سبحانه هذه القضية في قوله سبحانه { { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [النحل: 112].
    وقال في قوم سيدنا نوح عليه السلام: { { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } [الجن: 16].

     

    إذن: صيانة النعمة بشكرها والاعتراف بها كلها منسوبة إلى المنعِم سبحانه، وحتى نحن على مستوى البشر نقول: فلان هذا حافظ للجميل، فنزيده ولا نبخل عليه بجميل آخر وآخر، فما بالك بالحق سبحانه وتعالى؟!
     

    وكلمة الإعراض تُعطِي شيئاً فوق الإهمال وفوق النسيان؛ لأن الإعراض أنْ تنصرف عن مُحدِّثك وتعطيه جانبك كما تقول لمَنْ لا يعجبك حديثه (اعطني عرض كتافك).
    إذن: الإعراض تَرْك متعمَّد بلا مبالاة، أما السهو أو النسيان أو الخطأ أو عند النوم، فهذه كلها أمور مُعْفىً عنها، قد رفعها الله عنَّا رحمة بنا، فربُّك عز وجل لا يعاملك إلا على اليقظة والانتباه وتعمد الفعل.
    واقرأ إنْ شئتَ قول ربك: { { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [طه: 124].
    لماذا؟ لأن الإعراض فيه شبهة عدم اعتناء بالآمر، فالنكبة فيه أشدُّ على خلاف أنْ تكون معتنياً بالآمر، وبعد ذلك تتهم نفسك لأيِّ سبب آخر.
    ويقول تعالى أيضاً في الإعراض: { { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ .. } [فصلت: 51] وسوف يأتي الجزاء على قدر الإعراض، كما بيَّن الحق سبحانه في قوله: { { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ .. } [التوبة: 34-35].
    كما نقول: أنت ربيتَ مَنْ سيقتلك فيما بعد، كذلك هؤلاء كنزوا الأموال ليتمتعوا بها قليلاً في دنيا فانية، ثم يلاقون تبعة ذلك يوم القيامة، نار تكوى جباههم وجنوبهم وظهورهم، حتى يتمنى الواحد منهم - والعياذ بالله - لو أنه قلَّل منها حتى يُقلل من مواضع الكيِّ.
    وتأمل هذا الترتيب: جباههم وجنوبهم وظهورهم، فسوف تجده نفس ترتيب الإعراض عن المحتاج الذي سأل صاحب المال في الدنيا، فأول ما يراه يشيح عنه بوجهه، ثم يعطيه جانبه، ثم يدير إليه ظهره، فيأتي الجزاء من جنس العمل وبنفس تفاصيله.

     

    فماذا كانت نتيجة هذا الإعراض؟ يقول تعالى: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ .. } [سبأ: 16] أي: بعد أن انهار سدُّ العرم، فسال ماؤه، فأغرقهم، ومن العجيب أن الله تعالى جعل من الماء كل شيء حي، لكن إذا أراده سبحانه وسيلة هلاك أهلك، وبه أهلك اللهُ قومَ نوح، وبه أهلك فرعونَ وجنوده، وهذا من طلاقة قدرة الله، حيث يوجه الشيء للحياة فيُحيى، وللهلاك فيُهلك.
    وبعد أنْ أفزعهم سيل العرم لماذا أرادوا الإقامة بعد ذلك أقاموا في أماكن لا ماء فيها، فإذا أرادوا الماء جلبوه من الآبار بالقِرَب، وكأن الماء أحدث لديهم (عقدة).

     

    وهذه القضية القديمة لها عندنا قصة حديثة: كنا ونحن في الأزهر نلبس (القفاطين) و (الكواكيل)، وكان لنا زميل حالته رقيقة، وكان لا يملك إلا (كاكولة) واحدة لبسها حتى بليت وتمزقت، فكان يمدّ يده من وقت لآخر إلى مكان القطع ويحاول أن يداريه، حت صارت عادة عنده، ثم رزقه الله بأخ له توظف واشترى له (كاكولة) جديدة، فلما لبسها صارت يده تمتد إلى نفس الموضع، وتحاول ستر القطع الغير موجود في الجديدة، فقال له أحد الزملاء: ما لك؟ فقال: القديمة رعباني.
     

    والسيل: أن يسيل الماء على وجه الأرض بعد أن تشرَّبت منه قَدْر حاجتها، فما فاض عليها سال من مكان لآخر، والحق سبحانه يعلمنا: قبل أنْ نبحث عن مصادر الماء لا بُدَّ أنْ نبحث عن مصارفه حتى لا يغرقنا، واقرأ: { { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي .. } [هود: 44].
    فالأمر الأول للأرض أنْ تبلع الماء وتتشرَّبه، ثم يا سماء أمسكي ماءك؛ لذلك إذا تشبَّعت الأرض بالماء نقول: الأرض (عنِّنت) يعني: امتلأت بالمياه الجوفية، فإنْ كانت أرضاً زراعية لا تُخْرِج زرعاً، وإن كانت في المدن أضرَّت بالمباني، وفاضتْ في الشوارع وكسرت المواسير ... إلخ، ويعرف أهمية الصرف مَنْ يتعاملون مع الأرض.

     

    وسيل العَرِم منسوب إلى العرم، وله إطلاقات متعددة، فالعرم هي الحجارة التي تُبنى بها السدود، أو هو الجُرْذ (الفأر) الذي نقب السد، وأحدث به فجوة نفذ منها الماء، فوسّعها وجعلها عيناً.
    وقد رأينا ما فعله الماء في تحطيم خط بارليف، حيث هدى الله أحد مهندسينا جزاه الله خيراً إلى فكرة استخدام ضَخِّ الماء بقوة لإزالة الساتر الترابي الذي كان عقبة في طريقنا للاستيلاء على هذا الخط المنيع وتحطيمه، وفعلاً كانت فكرة أدهشتْ العالم كله.
    والعَرِم جمع مفرده عرمة مثل لَبِن ولبنة، لكن اللبن هو الطوب (النىّ) أو الطين، أما العرم فهو الطوب المتحجر.

     

    ثم يقول سبحانه: { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ .. } [سبأ: 16] من صفاتهما أنهما { ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ .. } [سبأ: 16] يعني: أبدلهم الله بالجنتين السابق وصفهما بجنتين أُخْريين، لكن ثمارهما { أُكُلٍ خَمْطٍ .. } [سبأ: 16] يعني: ثمر مُرّ تعافُه النفس، وأشجارهما { وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } [سبأ: 16].
    والأثل: هو شجر الطرفاء، وهو قليل النفع لا ثمر له، والسدر: هو شجر النبق المعروف، وهو شجر قليل الفائدة. فكيف يُسمى هذا جنة؟ قالوا: سماها الحق جنة على سبيل التهكم، وإلا فليس في الجنة مثل هذا الشجر. ونلحظ أن الحق سبحانه رحيم بهم حتى في العقاب، فلم يجعلها خاوية ولا شيء فيها.

     

    ثم يقرر الحق تبارك وتعالى أن ما نزل بهم ليس ظلماً لهم، إنما جزاء ما فعلوا { ذَٰلِكَ .. } [سبأ: 17] يعني: ما سبق ذِكْره من الأكل الخمط والأثل والسدر { جَزَيْنَاهُمْ .. } [سبأ: 17] أي: جزاءً لهم { بِمَا كَفَرُواْ .. } [سبأ: 17] والكفر سَتْر النعمة، وهؤلاء ستروا نعمة الله حين ظنوا أنهم يأكلون من جَهْدهم وسعيهم وملكهم، وستروا نعمة الله حين لم يلتفتوا إلى المنعم سبحانه ولم يشكروه، فما أطاعوا في { { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ .. } [سبأ: 15] وما أطاعوا في { { وَٱشْكُرُواْ لَهُ .. } [سبأ: 15].
     

    ثم يُنزه الحق سبحانه نفسه بهذا الاستفهام التقريري: { وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } [سبأ: 17] وجاء بالكفور وهي صيغة مبالغة، ولم يقل سبحانه: الكافر، وهذا من رحمته سبحانه بعباده، فهو سبحانه لا يجازي منهم إلاَّ الكفور أي: المُصِرّ على الكفر المتمادي فيه.
     


    (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ )١٨
    هذه نعمة أخرى يمتنُّ الله بها على أهل سبأ، فمعنى { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ .. } [سبأ: 18] بين أهل سبأ { وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا .. } [سبأ: 18] والمراد بلاد الشام التي قال الله فيها قصة الإسراء: { { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } [الإسراء: 1].
    والقرى جمع قرية، وهي اسم لمكان متواضع البناء، به مقومات الحياة الضرورية، فإذا نزلْتَه وجدت به قِرَى يعني طعاماً وشراباً.

     

    ونعلم أن أهل اليمن كانوا أهل تجارة بين اليمن والشام، فجعل الله لهم في طريق تجارتهم { قُرًى ظَاهِرَةً .. } [سبأ: 18] يعني: متقاربة متواصلة، كانت بمثابة استراحات في الطريق مثل (الرست) وذلك لبُعْد المسافة بين اليمن والشام في رِحْلَتْي الشتاء والصيف، فأراد الحق سبحانه أنْ يُيسِّر لهم تلك الرحلات، وأنْ يقطعوها بلا مشقة.
     

    { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ .. } [سبأ: 18] يعني: جعلنا سيرهم على مسافات متقاربة، فالقرى الظاهرة لهم في سيرهم والقريبة منهم بحيث يمرون بها ويروْنَها على طريقهم بلا مشقة، قرى مُوزَّعة على مسافات الطريق، بحيث كلما ساروا مسافة وجدوا قرية على سابلة الطريق.
    وهذا يعني أنهم سيأمنون، لا يخيفهم شيء، وأنهم لا يحتاجون لِحَمْل زاد، فالقرى التى سيمرون بها تكفيهم مؤنة الطريق، ويجدون بها حاجتهم، وهذا أيضاً يعني أنهم لن يحتاجوا إلى دواب كثيرة للحمل.
    والسير أي في الصباح ويقال كذلك للغدوة والروحة، ثم يُؤنسهم الحق سبحانه بهذا الأمر { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } [سبأ: 18] بحيث يسير في الغدوة إلى مكان يقيل فيه، ويسير في الرواح إلى مكان يبيت فيه يعني: محطة للقيلولة ومحطة للبيتوتة. وهذا السير في ظل أمن وأمان ضَمِنه لهم الحق سبحانه، فلا يروعهم شيء لا من الناس، ولا من الوحوش.

     

    وحين نقارن بين قوله تعالى هنا { آمِنِينَ } [سبأ: 18] وبين قوله تعالى عن قريش: { { ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش: 4] نجد أن الأمن يتوفر بالإطعام والأمان من الخوف، وهنا قال { آمِنِينَ } [سبأ: 18] ولم يَقُل من خوف؛ لأن معنى { آمِنِينَ } [سبأ: 18] أي: الأمن التام آمنين من الخوف، وآمنين من الجوع؛ لأنه لم يُذكر مع { آمِنِينَ } [سبأ: 18] متعلق.

     


    (فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)١٩

    تامل هذا التعنت وهذا البطر لنعمة الله، حيث لم يعجبهم أنْ قَاربَ الله لهم بين القرى، فطلبوا { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [سبأ: 19] يعني: افصل بين هذه القرى بصحارٍ شاسعة، بحيث لا يستطيع السفر فيها إلا الأغنياء والقادرون الذين يملكون المطايا القوية القادرة على الحمل.
    إذن: نظرتهم في هذه المسألة نظرة اقتصادية كلها جشع وطمع، فهم يريدون أنْ يحرموا الفقراء وغير القادرين من السفر للتجارة معهم، فحين تتقارب القرى وتكثر الاستراحات على طول الطريق، فلا يكاد المسافر يتجاوز قرية إلا بدَتْ له الأخرى من بعيد، فهذا يُسهِّل السفر على الفقراء الذين يركبون الدواب الضعيفة، فوسائل الامتطاء تختلف حسب قدرات الناس، فواحد على جواد، وواحد على ناقة، وواحد على حمار.

     

    وقُرْب المسافات بين القرى شجَّع الفقراء على السفر لرحلة الشام؛ لذلك طلب هؤلاء أنْ يباعد الله بين هذه القرى فهو مطلب جَشِع أنانى؛ لذلك قال تعالى بعدها: { وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ .. } [سبأ: 19] نعم ظلموا أنفسهم؛ لأنهم حرموها من الراحة التي جعلها الله لهم، وظلموا أنفسهم لأنهم أرادوا أنْ يحتكروا هذه التجارة، وألاَّ يخرج إليها غيرهم من الفقراء، أو ظلموا أنفسهم لأنهم أثبتوا لها عدم اكتمال الإيمان؛ لأن الإيمان لا يكتمل للمؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهؤلاء يحبون أنْ يستأثروا بالنعمة لأنفسهم، ويحرموا منها غيرهم.
    لكن، كيف تكون المباعدة التي طلبوها في طريق تجارتهم؟ عرفنا من علم الهندسة أن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين، فاستقامة الطريق تُيسِّر الحركة فيه، وتقلِّل الوقت والمجهود، والمباعدة لا تكون إلا بتحطيم بعض القرى لتبعد المسافة بينها، أو بأنْ يلتوي الطريق، أو يدور هنا وهناك.

     

    فكانت نتيجة هذا الجشع والبطر { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ .. } [سبأ: 19] أى: أحدوثة يتحدث بها الناس أو (حدوتة) تُحكى، كما لو وقع مجرم في أيدي رجال الشرطة، فجعلوه عبرة لغيره حتى تحاكَى الناس به، كذلك أهل سبأ جعلهم الله عبرة لغيرهم حتى صارت سيرتهم مثلاً يُضرب، يقولون في المثل العربي الدال على التفرُّق: تفرقوا أيدي سبأ، يعني: تفرقوا بعد اجتماع كما تفرَّق أهل سبأ.
    ومعنى { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ .. } [سبأ: 19] أي: التمزيق والتفريق بكل أنواعه وطرقه، بحيث يتناول التمزيق كل الأجزاء مهما صَغُرَتْ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ .. } [سبأ: 19] يعني: فيها عبر وعظات يستفيد منها العاقل في حياته.

     

    { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [سبأ: 19] صبار وشكور من صيغ المبالغة، صبَّار مبالغة من الصبر؛ لأن هؤلاء ظلموا الفقراء واضطهدوهم، وأرادوا أنْ يقطعوا عليهم سبيل النعمة، وأن يستأثروا به لأنفسهم وقد تكرر منهم ذلك؛ لذلك لم يقل لكل صبار؛ لأنهم تحملوا من الأذى ما يحتاج إلى صبر كثير.
     

    وسبق أنْ قُلْنا: لو علم الظالم ما أعدَّه الله للمظلوم لضَنَّ عليه بالظلم، ويكفي المظلوم أن الله تعالى سيكون في جانبه يوم القيامة.
    ومن الغباء أن الظالم حين يتنبه إلى ظلمه وتهدأ شِرَّته وعصبيته يريد أنْ يُكفِّر عن ظلمه، فيسعى في أبواب الخير، ويبني مسجداً مثلاً أو مدرسة ... إلخ يظن أن له ثوابها، والحقيقة أن الثواب لمن ظلمهم وأخذ أموالهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: { { وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47].

     

    وقال أيضاً { شَكُورٍ } [سبأ: 19] يعني: كثير الشكر لله أنْ أقْدره على أن يصبر؛ لذلك قالوا: ما صبرت وإنما صبَّرناك.
     


    (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ )20

    { وَلَقَدْ .. } [سبأ: 20] توكيد باللام مرة وبقد أخرى { صَدَّقَ .. } [سبأ: 20] حقق وأكد { عَلَيْهِمْ .. } [سبأ: 20] على أهل سبأ وأمثالهم ممَّن اتبعوه { إِبْلِيسُ ظَنَّهُ .. } [سبأ: 20] ما ظَنُّ إبليس؟ ظنُّه أن شهوات البشر ستُمكِّنه من إغوائهم، ونحن نعلم قصته لمَّا أمره الله بالسجود لآدم فأَبَى وقال مهدداً: { { بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] وقال: { { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82] وكان لا يزال فيه بقية من حياء، فقال: { { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [الحجر: 40].
    فظنُّ إبليس أنه قال: لقد أغويتُ أباهم وقدرْتُ عليه حين أغويته، فأكل من الشجرة مع أنه كان أول الخَلْق وأقواهم، وقد كلَّفه الله مباشرة وكلَّفه بشيء واحد، وهو أنْ يأكل من كل ثمار الجنة، عدا هذه الشجرة، ومع ذلك قدرْتُ عليه. إذن: فأنا أقدر على ذريته؛ لأنهم أقلُّ منه قوةً، وقد كلَّفهم الله تكليفاً غير مباشر، وكلَّفهم بتكاليف متعددة، فأنا أقدر عليهم من قدرتي على أبيهم.
    وهذا الظن من إبليس ليس عِلْماً للغيب، إنما هو قياس قاس ذرية آدم على أبيهم، فإذا كان آدم هو المخلوق الأول الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته وكلَّفه مباشرة ولم يُكلِّفه إلا بأمر واحد، ومع ذلك قدرْت عليه فأنا على ذريته أقدر، هذا قياس لم يصل إليه إبليس ولايةً ولا كرامةً؛ لذلك سماه ظناً.

     

    فلما قدر إبليس على ذرية آدم وأغواهم بالفعل قال: ظني جاء في محله؛ لأنهم بالفعل اتبعوه { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ .. } [سبأ: 20] ثم يأتي هذا الاستثناء { إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [سبأ: 20] فجاء هذا الاستثناء مطابقاً للاستثناء الأول { { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [الحجر: 40].


     
    (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ )21

    ما أغوى إبليس بني آدم هل لهم عذر في هذا الإغواء؟ وهل الذنب هنا ذنب إبليس؟ الحق سبحانه يخبر عنه وعنهم هذا الخبر في سياق قصة سبأ: { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ .. } [سبأ: 21]، وقد التقط إبليس هذه العبارة وجعلها حُجَّة له يوم القيامة، فإذا قال له البشر يوم القيامة: أنت سبب ضلالنا وغوايتنا قال: { { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ .. } [إبراهيم: 22].
    يعني: لا تلوموني ولا تظلموني، فقد كنتم (على تشويره) مني، وليس لي عليكم من سلطان: لا سلطان قوة أقهركم بها وأجبركم على طاعتي، ولا سلطان حجة أقنعكم به، والفرق بين سلطان القهر وسلطان الحجة أنك تفعل مع الأول وأنت غير راض فأنت مُكْره، أمّا مع سلطان الحجة والمنطق فإنك تفعل ما يُطلَب منك عن رضا واقتناع.

     

    وربنا عز وجل حذرنا من إبليس ووسوسته ونزغه، وعلمنا أننا لن نقهره إلا بالله خصوصاً بهذه (الروشتة) التي قال الله فيها: { { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ .. } [فصلت: 36].
    مجرد أنْ تُذكِّره بالله يخنس ويهرب ويتراجع، فهو يقدر عليك وحدك، فإنْ لجأتَ إلى ربك خاف وفَرَّ؛ لأنه لا قدرةَ له، ولا كيد مع ذكر الله، لذلك

    قال بعض العارفين: قل هذه الكلمة بقوة وكأنك تراه وتصرعه.
    فماذا نفعل إنْ جاء لأحدنا وهو يقرأ القرآن؟ قالوا: يقطع قراءته، ويقول بصوت أعلى وبأسلوب مغاير لقراءته: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقد حاولنا أن نُقرِّب هذا المعنى لأذهان الناشئة فقلنا: لو أن أحد الأغنياء مثلاً يجلس في (الشرفة) ليلاً، فرأى لصاً يحاول دخول بيته، فقام من مكانه، وقال (إحم) ماذا يصنع اللص؟ يهرب، فإنْ قال في نفسه لعلها مصادفة، ثم عاد في الليلة التي بعدها، فتنبَّه له صاحب البيت، وقال (إحم) عندها يفرّ بلا عودة، فصاحب البيت متنبه غير غافل.
    كذلك، قَوْل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يُفزع الشيطان ويطرده، فإنْ عاد إليك مرة ومرة فقُلْ كلما شعرت بوسوسته ونزغاته: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، عندها سيعلم أنك (فقسته)، وأنه لا مدخل له إليك.

     

    وقد عرف الشيطان حين جادل ربه من أين يدخل على ابن آدم، فقال: { { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] فهو كما ذكرنا، لا يقعد في خمارة مثلاً، إنما يقعد في المسجد، فهو يعلم أنك في عبادة، وكُل مُناه أنْ يُفسِد عليك عبادتك، أَلاَ تراه يُذكّرك في الصلاة ما نسيتَ من مهمات الحياة، وعلى المؤمن أنْ يقدِّر موقفه بين يدي الله، وألاّ ينشغل بأي شيء وهو في حضرة ربه.
     

    فالصلاة هي الصراط المستقيم الذي سيقعد لك الشيطانُ عليه؛ لذلك علَّمنا فقهاؤنا - رحمهم الله ورضي الله عنهم - أنْ نغيظ الشيطان، فإذا وسوس لك في الصلاة بحيث لا تدري، أصليتَ ركعتين أم ثلاثاً، فاعتبرها ركعتين وابْنِ على الأقل، كذلك في الوضوء وأمثاله من العبادات، لتغيظه وتُيئسه منك.
    وظاهرة السهو في الصلاة في الحقيقة ظاهرة صحية فهي الإيمان، فلا تُمرِض نفسك بها، وكُنْ قويَّ الإيمان وتشجِّع على هذا العدو، وقُلْ له: لن أعطيك الفرصة لتفسد عليَّ لقائي مع ربي، قل هذا (واشخط شخطة إيمان) فإنك تحرقه، وإن عاد فَعُدْ، واعلم أن كيد الشيطان كان ضعيفاً { { إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفاً } [النساء: 76].
    فلا قدرة له عليك ما دُمْت في معية الله، وما دُمْت ذاكراً لله، عندك تنبُّه إيماني، وتنبُّه عقدي.

     

    وسبق أنْ حكينا قصة الإمام أبي حنيفة لما جاءه رجل يستفتيه ويقول: يا إمام، لقد كنتُ أخفيتُ مالاً في مكان في الصحراء، وعلَّمته بحجر، فجاء السيل فطمسه حتى ضللتُ مكانه، فضحك الإمام وقال للرجل بما لديه من خبرة وتمرُّس ومَلَكة في الفتيا: يا بنى ليس في هذا علم، لكني سأحتال لك، اذهب بعد أنْ تصلي العشاء، فتوضأ وضوءاً جديداً بنية أنْ يهديك الله إلى ضالتك وصَلِّ لله ركعتين، ثم أخبرني ماذا حدث.
    فعل الرجل ما أوصاه به الإمام، فجاءه إبليس ليفسد عليه صلاته وقال له: إن المال في مكان كذا وكذا، فراح فوجد المال، ثم عاد إلى الإمام فأخبره فقال: والله لقد علمتُ أن الشيطان لا يدعك تُتِم ليلتك مع ربك.
    إذن: فَثِق بكلمة (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) وقُلْها بقوة إيمان، أيقول الله قَوْلة يأتي واقع الحياة من المؤمن به ليكذبها؟ وجَرِّبها أنت بنفسك.

     

    وقوله تعالى: { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ .. } [سبأ: 21] ما دام أنه ليس لإبليس سلطان على بني آدم، وما دام أنهم على (تشويرة) منه، فلا بُدَّ أنَّ إيمانهم غير راسخ، وأنهم نَسُوا حكماً من أحكام الله؛ لأنه سبحانه حذرهم منه ووصف لهم طريقة التغلب عليه فلم يفعلوا.
    فكانت غواية إبليس لهم { لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ .. } [سبأ: 21] أي: عِلْم وقوع، وإلا فالحق سبحانه يعلم ما سيكون منهم أزلاً، لكن لا بُدَّ أنْ يحدث منهم الفعل لتقوم الحجة عليهم كالمعلم الذى يرى على تلميذه علامات الفشل، فيحذره، فحين يدخل الامتحان ويرسب فيه يأتي يعاتب أستاذه أنه بشَّره بالرسوب فيقول المعلم: وهل أمسكتُ بيدك ومنعتُك من الإجابة، لقد حكمتُ عليك من خلال المقدمات التي رأيتها منك.
    ومع ذلك كان من الممكن أنْ يغشَّ هذا التلميذ في الامتحان وينجح رغم ما قاله المعلم؛ لأن علمه عِلْمٌ ناقص، أما علم الحق سبحانه فعِلْم تام. إذن: فعِلْم الوقوع ألزم للحجة.

     

    ثم يقول سبحانه: { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ } [سبأ: 21] حفيظ صيغة مبالغة من الحفظ، فالله تعالى حفيظ على الكنوز وعلى الأرزاق وعلى العلم وعلى كل شيء، كما قال سبحانه: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر: 21] وما دام الله تعالى هو الحفيظ، فلا أحدَ يستطيع أنْ يخل بهذه القضية.

     

    التفاسير العظيم

    image.png.2a424d5d351bccba5dfb0b55a220658b.png

     


  15. { بسم الله الرحمن الرحيم }

    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:

    فللمعاصي التي يرتكبها الإنسان بجوارحه أثرها العظيم على بدنه, ونفسه, وقلبه,

     

    قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للسيئة لظلمة في القلب, وسواداً في الوجه, ووهناً في البدن, ونقصاً في الرزق, وبغضاً في قلوب الخلق.

     

    وقال الحسن رحمه الله : إن العبد المؤمن ليعمل الذنب فلا يزال به كئيباً.

     

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المعاصي سبب المصائب, وقال: العمل السيئ مثل الكذب – مثلاً- يعاقب صاحبه في الحال بظلمة في القلب, وقسوة, وضيق في صدره, ونفاق, واضطراب, ونسيان ما تعلمه, وانسداد باب علم كان يطلبه, ونقص في يقينه, وعقله, واسوداد وجهه, وبغضه في قلوب الخلق, واجترائه على ذنب آخر من جنسه, أو من غير جنسه, وهلم جراً, إلا أن يتداركه الله برحمته.

     

    وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: الذنوب والمعاصي تضر, ولا شك أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان.

     

    وآثار الذنوب والمعاصي كثيرة جداً, وقد ذكرها وفصلها العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم النافع " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي " والموفق من استشعر خطورة الذنوب فسارع بالتوبة منها فسلم من أضرارها في الدنيا, وآثامها في الآخرة.

     

    المعاصي القلبية:

    عندما تذكر المعاصي لا يدور في خلد الكثيرين إلا المعاصي الجسدية, ويغفلون عن ما هو أشدّ منها, وهي المعاصي القلبية, يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: واعلم أن كثيراً من الناس يسبق إلى ذهنه من ذكر الذنوب: الزنا والسرقة ونحو ذلك...لكن الذنوب تتنوع, وهي كثيرة الشعب, كالتي من باب الضلال في الإيمان, والبدع التي هي من جنس العلو في الأرض بالفساد, والفخر, والخيلاء, والحسد, والكبر, والرياء.

     

    حكم المعاصي القلبية:

    المعاصي القلبية: منها كفر, ومنها معاصي: كبائر, وصغائر, يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: والمحرمات التي عليه – يعني القلب - ..نوعان: كفر ومعصية, فالكفر: كالشك والنفاق, والشرك, وتوابعها,

     

    والمعصية نوعان: كبائر, وصغائر...

    فالكبائر: كالرياء, والعجب, والكبر, والفخر, والخيلاء, والقنوط من رحمة الله, واليأس من روح الله, والأمن من مكر الله, والفرح والسرور بأذى المسلمين, والشماتة بمصيبتهم, ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم, وحسدهم على آتاهم الله من فضله, وتمنى زوال ذلك عنهم, وتوابع هذه الأمور..ومن الصغائر: شهوة المحرمات وتمنيها.

     

    الغفلة عن المعاصي القلبية:

    غفلة بعض الناس عن المعاصي القلبية, جعلتهم يتهاونون في ارتكابها يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: فواجبات القلوب أشد وجوباً من واجبان الآبدان, وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس, بل من الفضائل والمستحبات, فتراه...يتحرج من فعل أدنى المحرمات, وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشدّ تحريماً وأعظم إثماً.

     

    خطورة المعاصي القلبية:

    الكبائر إما أن تكون ظاهرة وهي التي تكون بالجسد وإما أن تكون باطنة وهي التي تفعل بالقلب,

    وقد قدمها الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله في كتابه " الزواجر عن اقتراف الكبائر " على الكبائر الظاهرة, معللاً ذلك بقوله: الباب الأول: في الكبائر الباطنة وما يتبعها وقدمتها لأنها أخطر ومرتكبها أذل العصاة وأحقر, ولأن معظمها أعم وقوعاً, وأسهل ارتكاباً, وأمرّ ينبوعاً, فقلّما ينفك إنسان عن بعضها....ولقد قال بعض الأئمة: كبائر القلوب أعظم من كبائر الجوارح لأنها كلها توجب الفسق والظلم, وتزيد كبائر القلوب بأنها تأكل الحسنات, وتوالي شدائد العقوبات.

    ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله: والمحرمات التي عليه – يعني القلب - ...أشد تحريماً من الزنا, وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة.

     

    آثار المعاصي القلبية:

    إن للمعاصي القلبية آثاراً عظيمة, منها: أنها تمرض القلب, وهذا المرض يفسد به تصوره للحق وإرادته له, فلا يرى الحق حقاً, أو يراه على خلاف ما هو عليه, أو ينقص إدراكه له, وتفسد به إرادته له, فيبغض الحق النافع, أو يحب الباطل الضار, أو يجتمعان له وهو الغالب, ذكر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله. ومنها: أنها قد تكون سبباً في سوء الخاتمة, يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنه لا يطلع عليها الناس. ومنها: أنها من أسباب الوقوع في الأمراض والأزمات النفسية, فما يعانيه كثير من الناس اليوم من قلق والآلام نفسيه من أهم أسبابها الوقوع في المعاصي القلبية ومنها: أنها من أسباب حرمان حلاوة الإيمان, ولذة الطاعة.

     

    الوقاية من المعاصي القلبية:

    من رام أن يتجنب الوقوع في المعاصي القلبية, فعليه أن يعمر قلبه بالطاعات القلبية, كمحبة الله ورسوله علية الصلاة والسلام, والإخلاص, والتوكل, والخوف, والرجاء, والصبر, والرضا, والشكر, والصدق, والحياء, والإنابة, ونحوها, فهي سد منيع يحجر من امتلأ قلبه منها من الوقوع في المعاصي القلبية, وإن مما يعين المسلم على ذلك بعد توفيق له أمور, منها:

    * قراءة القرآن الكريم بتدبر: قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فلا شيء أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فإنه...الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله. وقال العلامة السعدي رحمه الله: تدبر القرآن يزيد في علوم الإيمان وشواهده, ويقوي الإرادة القلبية, ويحث على أعمال القلوب من التوكل والإخلاص والتعلق بالله الذي هو أصل الإيمان.

    * دوام ذكر الله عز وجل: قال العلامة ابن القيم رحمه الله: من أراد محبة الله عز وجل فليهج بذكره.

    * طلب العلم الشرعي: قال الله عز وجل:{ {إنما يخشى الله من عباده العلماء} } [فاطر:28] وهذا حصر لخشيته في أولي العلم, فمن طلب العلم ونيته الانتفاع به, وتزكية نفسه, أورثه العلم الخشية والتعظيم لله.

    * القراءة في سيرة أصحاب القلوب الربانية: في مقدمتهم نبينا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم, وأصحابه, وسلف هذه الأمة وصالحيها.

    * الدعاء والتضرع بصلاح القلب وزكاته: فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ( «اللهم إني أسالك قلباً سليماً » ) [أخرجه أحمد والترمذي]

     

    ومن وقع في معاصي قلبية فينبغي له المبادرة بالتوبة منها, يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكثير من الناس لا يستحضر عند التوبة إلا بعض المتصفات بالفاحشة أو مقدماتها, أو بعض الظلم باللسان أو اليد, وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: وأكثر المتنزهين عن الكبائر الحسية...في كبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها, ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها. ويقول العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: يجب على الإنسان أن يطهر قلبه تطهيراً كاملاً من كل زغل وخبث, وأن يعني بطهارة قلبه أكثر مما يعتني بطهارة بدنه, لأن طهارة القلب عليها المدار, وبها تكون طهارة الأعمال الظاهرة.

    والكلام عن المعاصي القلبية لا يعني التهوين أبداً من المعاصي الجسدية, فلا بد من مجاهدة النفس في اجتناب المعاصي القلبية والجسدية معاً, وسرعة التوبة منها في حال الوقوع في شيء منها, حفظنا الله وجميع إخواننا المسلمين من الوقوع في المعاصي القلبية والجسدية.

     

    كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

     

    طريق الاسلام

     

    image.png.ff332efe672e506c089dbb955c443d9a.png

     

     

  16. (وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ)١٢-سبأ

     

    كما آتينا داود منّا فضلاً، وكان من هذا الفضل أنْ أوَّبَتْ معه الجبال، وألنَّا له الحديد، كذلك كان من فضل الله على ولده سليمان أنْ طوَّعنا له الريح، وجعلناها تأتمر بأمره.


    وسبق أنْ بينَّا أن كلمة الريح إنْ وردت مفردة، فهي في الشر والعذاب، وإنْ جاءت جمعاً دلَّت على الخير والرحمة، واقرأ قوله تعالى: { { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ } [الذاريات: 41-42] وقال: { { بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الأحقاف: 24].
    وفي الرياح قال: { { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ .. } [الحجر: 22].
    وبيان ذلك، أن الريح إنْ كانت مفردة تُعَدّ ريحاً مدمرة؛ لأنها تأتي من ناحية واحدة، والذي يقيم الأشياء ويحفظ توازنها أن الرياح تحيط بها من كل جانب فتستقيم، فالذي يدعم ناطحات السحاب مثلاً الهواء الذي يحيط بها، فإنْ أفرغتَ الهواء من ناحية منها انهارتْ نحو هذه الناحية؛ لذلك كانت الريح الواحدة من جنس العذاب، والرياح من جنس الرحمة، ألاَ ترى الأعاصير تدمر؛ لأنها تأتي من جهة واحدة؟

     

    لكن، هل سخَّر الله تعالى لسليمان الرياح؟ أمْ سخَّر له الريح؟

    قالوا: لم تُسخَّر لسليمان الرياح كلها، إنما ريحاً مخصوصة وظَّفها له وطوَّعها لأمره، وهذه الريح أعظتْ سليمان عليه السلام عزَّة ومنعة. بحيث لا يَقْوَى أحد على مواجهته أو التصدي له.
    لذلك كان هو - عليه السلام - النبي والملك الذي لم يحاربه أحد، ولم يجرؤ أحد على منازعته مُلْكَه ولا نبوته. كيف وفي يده من القوة ما لم يتوفر لغيره، فسلطانه سلطان قَهْر إنْ أراد شيئاً أذعن الجميع لإرادته.
    أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فجاءت دعوته لاستمالة القلوب، لا لإرغام القوالب؛ لذلك خاطبه ربه بقوله: { { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء: 4].

     

    ومعنى: { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ .. } [سبأ: 12] الغدو: السير أول النهار، والرواح: العودة آخر النهار

    { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ .. } [سبأ: 12] أى: أذبْنا له النحاس، كما ألنَّا لأبيه الحديد، فهذه واحدة من الأفضال التي خصَّ الله بها سيدنا سليمان، تذكرون قصة السد الذي بناه ذو القرنين، فلما انتهى من بنائه قال: { { آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [الكهف: 96] يعني: نحاساً مُذَاباً، بحيث لا يستطيع أحد أنْ ينقبه.
    ثم يذكر الحق سبحانه أمراً آخر مما خصَّ به سليمان عليه السلام: { وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ .. } [سبأ: 12] ومعنى { بِإِذْنِ رَبِّهِ .. } [سبأ: 12] أن المسألة كلها تسخير من الله لنبيه سليمان، وليس أمراً ذاتياً من عنده.
    لذلك قال:
    { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا .. } [سبأ: 12] أي: يميل، أو ينحرف عنه، أو يعصاه { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [سبأ: 12] فأَمْر سليمان للجن من باطن أَمْر الله، ومَنْ يَعْصِ أمره كأنه عَصَى أمرنا.

     

     

    (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ)١٣-سبأ

    المحاريب: جمع محراب، ويُطلق على القصر الفخم الواسع، وعلى المكان الذي يتخذه الناس للعبادة، ومنه قوله تعالى: { { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً .. } [آل عمران: 37].
    والتماثيل: جمع تمثال، وهو ما يُنحَت من الحجر مثلاً، أو يُصوَّر على هيئة إنسان، أو حيوان، أو طائر .. إلخ. وفي مسألة التماثيل بالذات يطرأ سؤال: أيمتنُّ الله على نبيه سليمان بأن الجن تصنع له التماثيل مع ما عُرِفَ عنها من أنها رمز للإشراك بالله، وقد حطمها الأنبياء ونهَوْا عن عبادتها من دون الله؟
    قالوا: حُطِّمت التماثيل لَمَّا اتخذها الناس للعبادة والألوهية، وكانت من قبل لا تتخذ للعبادة، بل للخدمة، وللدلالة على الإهانة والإذلال، ألم نَرَ في الآثار القديمة كرسياً أو مائدة تقوم على هيئة مجموعة من الأسود مثلاً؟

     

    وحتى الآن توجد قصور تقوم شُرفاتها على هيئة رجل مُنْحَنٍ يحمل الشرفة بدلاً من الخرسانة التي نصنعها نحن الآن، إذن: كانت التماثيل تدل على الإذلال والإهانة، فلما عُبِدت أُمِرنا بتحطيمها وتحريمها.
    وقوله: { وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ .. } [سبأ: 13] الجفان: جمع جَفْنة، وهي القصعة المعروفة { كَٱلْجَوَابِ.. } [سبأ: 13] كالحوض الواسع الكبير، وهذا كناية عن كرمه وكثرة إطعامه الطعامَ { وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ .. } [سبأ: 13] أي: قدور ثابتة لِكِبرها، فهى لا تُرفع ولا تُحرَّك من مكان لآخر لعِظَمها.

     

    لذلك حُدِّثنا في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن مطعم قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جفنة (قصعة طعام) كنت أستظل بها في اليوم القائظ في مكة، وهذا دليل على سِعَتها وكِبَرها وكثرة من يُطْعمون منها.
     

    ولما بنى الملك عبد العزيز آل سعود الرياض جعل بها قُدوراً للطعام، وكان القِدْر يسع الجمل يقف بداخله، وأذكر أنني أول ما ذهبت إلى مكة دخلت المبرَّة، فوجدت بها قدوراً واسعة، فوقفتُ في إحداها فوسعتني.
    ومعنى { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً .. } [سبأ: 13] أى: شُكْراً لله على نعمه، لا لتقوتوا أنفسكم فحسب، إذن: فربُّك يُعلِّمك: لا تعمل على قدر حاجتك فحسب؛ لأن في مجتمعك مَنْ لا يقدر على العمل، فاعمل أنت أيها القادر على قَدْر طاقتك، وخُذْ لنفسك ما يكفيك، وتصدَّق بما فاض عنك لغير القادرين. ومعلوم أن شكر النعمة يقيدها أي يديمها بل ويزيدها، كما قال سبحانه: { { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ .. } [إبراهيم: 7].
    أو: المعنى { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً .. } [سبأ: 13] أن أقدركم على العمل حتى تعولوا مَنْ لا يقدر على العمل { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13] يعني: قليل من الناس مَنْ يقابل نعمة الله بالشكر.

     

    لذلك رُوِي أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - سمع في الطريق رجلاً يقول: اللهم اجعلني من القليل، فتعجَّب عمر من دعوة الرجل، ولم يفهم معناها، فسأله عنها، فقال الرجل، سمعت الله يقول: { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13] وأنا أرجو أن أكون منهم، فقال عمر متعجباً: كل الناس أعلم منك يا عمر؟!
    فمن الناس مَنْ عنده مَلَكة التقاط المعاني وتوظيفها، من ذلك ما يُحكَى من أن رجلاً كان يسير في سوق البطيخ في بغداد وهو صائم في يوم حار، فمرَّ برجل يبيع شراباً مثل العرقسوس مثلاً، وينادي: غفر الله لمن شرب مني، فمال إليه وقال له: اسْقِني، فقال له صاحبه: تذكر أنك صائم، فقال: والله لقد رجوتُ دعوتَه.
    رجل آخر كان يسعى بين الصفا والمروة، والمسعى زمان - أنتم لم ترونَهُ - كان عبارة عن شارع به دكاكين وبيع وشراء وحركة قبل أنْ يُطوِّر بهذا الشكل الحالي، وكان به رجل يبيع الخيار وينادي: العشرة بريال يا خيار، فسمعه رجل يسعى، فقال متعجباً: إذا كان الخيار العشرة بريال، فَبِكم يكون الأشرار؟!


    image.thumb.png.3f52dfba4f9f71858a36543b695a4c3a.png

     

     

    (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ١٤-سبأ

    إن من الأشياء التي سخَّرها الله لسليمان ليحقق له مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده أنْ سخَّر له الريح وسخَّر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل .. إلخ.
    وتسخير الجن يعني: أن الله سبحانه وتعالى سخَّر له أخفَّ الخَلْق حركة وأخفاها وهم الجن؛ لأن للجن طبيعة مخصوصة؛ لذلك قال الله عنهم: { { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ .. } [الأعراف: 27].
    ولهم أيضاً خِفَّة في مزاولة الأعمال بأن يقصروا زمنها، وأنْ يكثروا حملها، والدليل على ذلك أن سليمان - عليه السلام - حينما طلب عرش بلقيس، وكان في سبأ قال لجلاَّسه: { { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [النمل: 38] فلم يتكلم أحد من الإنس؛ لأن سليمان قيَّد الإتيان بزمن فوق قدرة البشر، وقد طلب سليمان العرش بعد أنْ علم أن قوم سبأ قد خرجوا وهم في الطريق إليه، ويريد مَنْ يحضر عرش بلقيس قبل أن يصلوا إليه.
    حتى الجن لم يتعرض لهذه المهمة جنيٌّ عادي، إنما عفريت من الجن { { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن ٱلْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ .. } [النمل: 39].

     

    وكلمة (عفريت) تعني: أنه الماهر من الجن، الشاطر الذي يأتي بما لا يأتي به غيره من بني جنسه، وهذا يدل على أن الجن منهم العفريت الماهر ومنهم (اللبخة) يعني: مثلنا تماماً. وما زلنا في لغتنا العامية نقول: فلان عفريت يعني: ماهر يجيد ما لا يجيده الآخرون.
    لكن، كان في مجلس سليمان مَنْ هو أمهر من العفريت وأكثر منه خبرة وخفَّة، إنه الذي أُوتي قَدْراً من العلم { { قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ .. } [النمل: 40].
    فإن كان العفريت سيأتي بعرش بلقيس قبل أنْ يقوم سليمان من مقامه، وربما أقام سليمان في مقامه هذا ساعة أو عدة ساعات، لكن الذي عنده علم من الكتاب تعهد بأنْ يأتي به { { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ .. } [النمل: 40] وارتداد الطَّرْف لا يحتاج إلى زمن طويل، فالطرف يطرف في الدقيقة الواحدة عدة مرات.
    لذلك صوَّر الحق سبحانه سرعة الاستجابة لهذا الفعل، فقال: { { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [النمل: 40].
    ولم يتعرَّض السياق لتفاصيل الإتيان بالعرش، ولم يذكر حتى أن سليمان أمره بالإتيان به، بل: { { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ .. } [النمل: 40] هكذا مباشرة؛ لأن الفعل نفسه لم يستغرق وقتاً، وكذلك جاء التعبير سريعاً مباشراً.

     

    والحق - سبحانه وتعالى - يعلم أن الجن كانوا يَسْترقون السمع قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فقد منعهم الله من استراق السمع، فقال سبحانه: { { فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } [الجن: 9].
    وهذه واحدة من ميزات رسالته صلى الله عليه وسلم، فقبل رسول الله صينَ سر السماء جُلُّه. وبعده صلى الله عليه وسلم صِينَ سرُّ السماء كلُّه. قبل رسول الله كان الجن يصعدون في السماء يسترقُون السمع، ويلتقطون بعض كلام الملائكة، ثم يوحونه إلى أوليائهم من شياطين الإنس، كما قال سبحانه: { { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ .. } [الأنعام: 121].
    ثم يخبرون الناس بما علموا، ويدَّعُون أنهم يعلمون الغيب، وفعلاً تأتي الأحداث كما أخبروا، فيغشُّون الناس ويخدعونهم ويفتنونهم؛ لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يفضح الجن في هذه المسألة، فقال:

     

    { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ .. } [سبأ: 14] أي: على سليمان، وكلمة (قَضَيْنَا) تعني: أن الموت قضاء، لا مندوحة عنه، ولا يترتب على سبب من مرض أو كِبَر أو غيره، وكما قُلْنا: والموت من دون أسباب هو السبب، يعني: مات لأنه يموت.
    لذلك يخاطب الحق سبحانه الأحياء، بما فيهم سيدنا رسول الله بقوله: { { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30] ويخاطبه هو صلى الله عليه وسلم أولاً قبل أنْ يخاطب أمته بهذه الحقيقة.
    ومعنى (ميِّت) أى: تؤول إلى الموت، فنحن ونحن أحياء ميِّتون أي: سنموت، أما الذي مات بالفعل فيسمى (مَيْت) بسكون الياء، كما قال الشاعر:

    * ومَا الميْتُ إلاَّ مَا إلَى القَبْر يُحْمَلُ

     

    لذلك، فإن العلماء لما أعطوْنَا صورة حِسِّية للموت قالوا: مع حياتك التي بدأت انطلق معها سهم الموت إليك، فعُمْرك بمقدار وصوله إليك، فنحن - وإنْ كنا أحياء - ميتون.
     

    وقوله تعالى: { مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ .. } [سبأ: 14] أي: دلَّ الجن، فضمير الغائبين في (دَلَّهُم) يعود على معلوم من السياق الأول في: { { وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ .. } [سبأ: 12].
    قالوا في قصة سيدنا سليمان عليه السلام أنه كان يعبد الله ويشكره بمقدار ما أنعم عليه وما أعطاه من الملْك، فمع كل هذه النِّعم كان يقضي الأسبوع والشهر ولا يأكل إلا الخشكار، وهي (الردة) التي نعرفها، وهي آخر درجة في الدقيق، والتي نسميها في الفلاحين السِّن، وهو طعام الفقراء والعبيد، أما السادة والأغنياء فيأكلون الدقيق الفاخر أو (نمرة واحد).
    وسبحان الله، أظهر العلم الحديث أن الفائدة في هذا السنّ الذي يأكله الفقراء، لدرجة أنه أصبح يُوصَف كدواء، ويجعلونه الآن على هيئة أقراص كعلاج لبعض الأمراض، حتى أن أهل الرفاهية الذين عاشوا على الدقيق الفاخر وتغذَّوْا طوال حياتهم على الخبز السياحي والقطايف .. إلخ. يأتي الواحد منهم في أواخر حياته فيُحرِّم عليه الطبيب كل هذه الأنواع ولا يجد له دواء إلا في السنِّ وفي الردة التي ما ذاقها طوال حياته، وكأنها معادلة لا بُدَّ أنْ تتم بين الأغنياء والفقراء.
    وهذه البحوث التي أظهرت لنا أهمية (الردة) تلفتنا وتُفهمنا معنى قول الله سبحانه وتعالى وقسمه: { { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } [الرحمن: 12].

     

    كذلك كان سيدنا سليمان يعبد الله واقفاً، لا على هيئة مريحة، فكان يشق على نفسه شكراً لله، ويقف عابداً لله حتى يتعب، فيراوح بين قدميه، ثم يستعين بالعصا يتكىء عليها من شدة تعبه.
    وقد قضى الله عليه الموت، وهو على هذه الهيئة، فلم يكتشف الجن موته، وظلوا يعملون بين يديه ويجتهدون خوفاً منه عليه السلام.

     

    وأراد الحق سبحانه أن يُنهى بموت سليمان مسألة شغلتْ الجن والإنس، هي قضية علم الجن للغيب، أراد سبحانه أن يفضح الجن، وأنْ يُظهر عجزهم عن علم الغيب، فالغيب لا يعلمه إلا الله.
     

    مات سليمان واقفاً متكئاً على عصاه، وظل على هذه الحالة حتى سلَّط الله على عصاه دابة الأرض، كما قال سبحانه: { مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ .. } [سبأ: 14].
    البعض يفهم أن { دَابَّةُ الأَرْضِ .. } [سبأ: 14] الأرض التي تقابل السماء، لكن المراد الدابة التي تَقْرِض كما نقول: قرض الفأر كذا وكذا، وفعلها قرض يقرض قَرْضاً. مثل: ضرب يضرب ضرباً، وهذه الدابة هي العتة التي تصيب الخشب وتأكله.
    هذه الدابة أو العتة ظلتْ تنخر في العصا حتى اختلَّ توازن سليمان عليه السلام، فسقط على الأرض { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [سبأ: 14] أي: ما مكثوا وما ظلُّوا في العذاب المهين. ومعنى خَرَّ: سقط بلا نظام، كما جاء في قوله تعالى: { { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ .. } [النحل: 26].
    فالخرور انهيار بلا نظام وبلا ترتيب، وعندها فقط عَلِم الجن بموت سليمان، وكذلك الإنس، وعلموا أنهم لا يعلمون الغيب، ولو علموا الغيب لاكتشفوا موته، وما لبثوا في العمل، وفي التعب والعذاب طوال هذه المدة، عندها انكشف أمرهم، وعُلم كذبهم وادعاؤهم معرفة الغيب.

     

    وقوله تعالى: { مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [سبأ: 14] يدل على أن الجن يتعب من العمل ويطرأ عليه ما يطرأ على كل حىٍّ من تعب وإجهاد.
    والمِنْسأة هي العصا من الفعل نَسَأ بمعنى أخَّر، وسُميَتْ العصا منسأة؛ لأن الإنسان يزجر بها الهوام والحيوانات الضارية التي تؤذيه ويؤخرها عنه ويبعدها ويُردعها؛ لذلك سميت منسأة.
    وسيدنا موسى - عليه السلام - قال في عصاه لما سأله ربه: { { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [طه: 17-18].
    وقد أطال موسى الحديث مع الله؛ لأن الله تعالى آنسه أن يطيل حين قال له { { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [طه: 17] ولم يقل له مثلاً: ما بيدك؟ ثم مَنِ الذي يخاطبه ربه ولا يطيل الحديث معه سبحانه وتعالى؟ ومع ذلك تدارك موسى أمره، فقال مُجْمِلاً { { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [طه: 18].
    ونفهم من قوله تعالى: { مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [سبأ: 14] أن العمل الذي كانوا فيه كان عملاً شاقاً وفيه إهانة لهم؛ لأن الجن يظنون أن لهم خيرية على الإنس، وأنهم جنس تسامى على البشر، بدليل قول أبيهم من قبل: { { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12].
    فمن الإهانة لهم، ومن العذاب أنْ يُسخَّروا لواحد من الإنس، ويعملون له، ويأتمرون بأمره، فالعمل الذي كانوا يعملونه لسليمان إنْ لم يكُنْ مُرهقاً لهم بدنياً فهو مرهق نفسياً، ولم لا وقد سخَّرهم مَنْ هو أدنى منهم - على حسب ظنهم.
    ولسائل أنْ يسأل: كيف يكون في العذاب المهين مَنْ يخدم نبياً ويعاشره؟ نقول: هذه الشبهة جاءتْ من كلمة الجن، ففهمنا أن الجن كلهم كانوا مُسخَّرين لسليمان، والحقيقة أن الجنَّ سُمِّي كذلك؛ لأنه مستور الفعل لا نراه، والذي سخر من الجن هم الشياطين، كما قال سبحانه: { { وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } [ص: 37].
    وقال: { { وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ .. } [الأنبياء: 82] وهؤلاء هم أصحاب العذاب المهين، أما مؤمنو الجن فلم يكونوا مُسخَّرين.

     

    وكلمة (خَرَّ) بمعنى سقط توحي بأن كرامة الإنسان في روحه، وفي السر الذي وضعه الله فيه، فهذا سليمان نبي الله بجلالة قدره ومكانته عند ربه يقول عنه { فَلَمَّا خَرَّ .. } [سبأ: 14] وكأنه جماد سقط على الأرض؛ لأن الروح حينما تفارق الجسد يصير كالجماد، كالعصا وكالحجر.
    وسبق أنْ قًلْنا: إن الروح ساعة تُسلَب من الجسد أول ما ينسى ينسى اسمه مهما كان عظيماً، ويقولون: الجثة ثم إذا ما وُضِعَتْ في النعش يقولون: الخشبة.
    سبحان الله، لم يَعُد لهذه المادة أية صفة، بل ويسارع الأهل والأحبة إلى الخلاص منها ودفنها بأسرع ما يمكن، ولو بقيتْ عندهم لا يتحملها أحد منهم، لما يطرأ عليها من تغيُّر ورائحة يتأذى منها أقرب الأقارب.

     

    التفاسير العظيمة

     


  17. (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ)١٠

    (أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )١١-سبأ


    بعد أن فتح الحق سبحانه باب التوبة لعباده، وأعطاهم الأمل حتى الكافرين منهم، وبعد أنْ فعلوا برسول الله ما فعلوا، وسعَوْا في آيات الله معاجزين ما يزال الحق سبحانه رحيماً بهم، حريصاً عليهم، فيلفت أنظارهم إلى واسع رحمته.
    وكأنه سبحانه يقول لهم: لا تستكثروا أفعالكم وذنوبكم أمام رحمة الله، ولا تصدَّنكم هذه الذنوب عن التوبة والعودة إلى الله، وإنْ كنتم أذنبتمْ، فمن الرسل مَنْ حدثت هفوة من بعضهم مع أنهم أنبياء، فكأن الحق سبحانه مع هذا كله يلتمس لهم عذراً.

     

    لذلك ذكر بعدها حكاية سيدنا داود: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً .. } [سبأ: 10] وفي موضع آخر بيَّن ما كان من أمر سيدنا داود: { { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ص: 24].
    إذن: لا تخجلوا أنْ تُنيبوا إلى الله؛ لأن سيدكم الذي أعطيته كذا وكذا لمَّا حدثتْ منه هفوة استغفر وخَرَّ راكعاً وأناب، يريد سبحانه أنْ يُحنِّن قلوبهم ليعودوا إلى أحضان ربهم.

     

    كذلك سيدنا سليمان حدثتْ منه هفوة، فابتلاه الله وعاقبه، فتاب واستغفر، واقرأ: { { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً .. } [ص: 34] والجسد يعني: أنه أصبح لا يستطيع الحركة في ذاته { { ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ } [ص: 34-35] فماذا كان من أمره بعد أن استغفر { { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ * وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } [ص: 36-38].
    لذلك يُقال: إن سيدنا سليمان ركب البساط مرة، فداخله شيء من الزَّهْو أو الإعجاب، فمال به البساط، فقال له: اعتدل يا بساط، فقال: أُمرنا أنْ نطيعك ما أطعتَ الله. والمعنى: أنك ما سخَّرتنا، إنما سخَّرنا اللهُ لك.
    ومعنى (الفضل) الشيء الزائد، وقد أعطى الله داود عليه السلام نِعَماً كثيرة لم يُعْطِها لكثير من الأنبياء، أعطاه الاصطفاءَ وأعطاه المنهج، وزاده نعمة أخرى خاصة به، وهي أنه ألان له الحديد، كما قال سبحانه: { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ * أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ .. } [سبأ: 10-11].

     

    وكلمة { مِنَّا .. } [سبأ: 10] دلتْ على أن النعمة ليست من ذاتك، إنما من الله، فتقديم الجار والمجرور هنا أفاد قصْر النعمة على المنعِم سبحانه، ومثلها الجار والمجرور في قوله تعالى في قصة سيدنا موسى عليه السلام: { { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي .. } [طه: 39].
    كأن الحق سبحانه يقول لنبيه موسى عليه السلام: لقد أخذك آل فرعون، والتقطوك من اليم في وقت كانوا يقتلون فيه الأطفال، وقد جئتَهم في صورة تدعو إلى الشك، لكنهم أحبوك، ورأوا فيك قرَّة عَيْن لهم، وأنت وقتها أسمر اللون، كبير الأنف، جعد الشعر يعني: ليس فيك ما يلفت النظر، لكن تذكَّر أنِّي ألقيتُ عليك محبة مني أنا، فأحبوك.
    والفضل من الله يأتي الناس جميعاً، لكن الرسل لهم نِعَم متميزة، وفضل أعظم في صورة معجزات، ويُبيِّن الحق سبحانه فضله على نبيه داود بقوله: { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [سبأ: 10].
    (يا جبال) نداء، فالله ينادي الجبال؛ لأنها تسمع وتعي هذا النداء { أَوِّبِي .. } [سبأ: 10] يعني: رجِّعي معه ما يقول وما يقرأ من الزبور أو من الذكر، وهنا دليل على أنه يفهم قول الجبال، وأنها تفهم قوله، وتُردِّد خلفه، إذن: للجبال منطق ولغة أفهمها اللهُ نبيَّه داود.

     

    وقد تناولنا مسألة تسبيح الجمادات لمَّا تعرضنا لقوله تعالى: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .. } [الإسراء: 44] ورددنا قول مَنْ قال إنه تسبيح الحال لا تسبيح المقال؛ لأن الله قال { { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .. } [الإسراء: 44] وما دام قد حكم سبحانه أننا لا نفقه تسبيحهم، فهو تسبيح بالقول.
    والذين قالوا بتسبيح الدلالة استعظموا أنْ يكون للجبل كلام ولغة وتفاهم، لكل هل للجبل كلام معك أنت؟ للجبل كلام مع ربه وخالقه الذي قال: { { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [الملك: 14].
    إذن: ما دَخْلك أنت في هذه المسألة؟ ولماذا تنكرها؟
    وتأمل قوله سبحانه: { { وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ .. } [الرعد: 13] فجمع بين تسبيح الرعد وهو جماد وتسبيح الملائكة، وهم على أجناس المخلوقات، وأين وجه الدلالة في تسبيح الملائكة؟ فلماذا العجب، وقد ثبت أن لكل شيء لغة تناسبه، وقد رأينا لغة للهدهد، ولغة للنمل .. إلخ.

     

    فعظمة سيدنا داود أنه فهم لغة الجبال، وسمع تسبيحها، ووافق تسبيحُها تسبيحَه، كذلك { وَٱلطَّيْرَ .. } [سبأ: 10] يعني: يا طير أوِّب مع داود، وردِّد معه التسبيح.
    { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [سبأ: 10] وهذه معجزة أخرى لسيدنا داود،

    وإذا قال الله عدة أشياء، ثم حدث في الواقع أنه صدق في واحدة، ألاَ أُصدِّقه في الأخرى؟
    فإذا قال سبحانه { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [سبأ: 10] فلا بُدَّ أن نصدِّق بذلك، وأن نعتقد أن الحديد صار في يد سيدنا داود مثل طين الصلصال الذي يشكِّله الأطفال كيفما أرادوا، لأن البعض يرى أن { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [سبأ: 10] يعني: علَّمه الله أن النار تذيب الحديد، ولو أن الأمر كذلك فليس فيه معجزة، ولا ميزة على غيره من الناس.

     

    وللحديد ميزات عدة، وأنواع مختلفة، وتتوقف مدى أهميته على مدى صلابته، ولأهميته أنزله الله من عَلٍ كما أنزل الكتب؛ لذلك تكلم سبحانه في سورة الحديد عن الرسل مثل موسى وعيسى - عليهما السلام - وتكلم عن إنزال الكتب، وقال عن الحديد: { { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ .. } [الحديد: 25].
    ومعلوم أن الإنزال يأتي من جهة العلو، فالحق سبحانه أنزل الكتب ينطق بها الرسل لهداية المهتدى الذي يسمع، وأنزل الحديد لردع العاصي وزَجْره، ففي الحديد بأس شديد في وقت الحرب، ومنافع للناس في وقت السلم.

     

    لذلك قال تعالى بعدها: { { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحديد: 25] ينصره في أيِّ شيء؟ ينصره في الحديد، وفي استخدامه وقت الحروب، وسيدنا داود - عليه السلام - آتاه الله، وأنزل عليه هذا وهذا: الكتاب للهداية، والحديدَ للحرب.
     

    لذلك قال له: { أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ .. } [سبأ: 11] يعني: دروعاً واسعة، وهي عُدة الحرب يلبسها الجندي على مظانِّ الفتك، وخاصة على الصدر؛ لأن بداخله القلب والرئتين، ولم يقُلْ له اعمل فأساً ولا محراثاً مثلاً؛ لأن هذه لمنافع الأرض، والله يريد ما يحمي المنهج ويزجر العاصي.
    وكانت الدروع قبله تُصنع ملساء يتحرك عليها السيف ويتزحلق، وربما أصاب منطقة أخرى من الجسم، وكانت تُصْنع على قدر ما يحمي الصدر، فعلَّمه الله أنْ تكون واسعة لتحمي أكبر قدر ممكن من الجسم، فقال { أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ .. } [سبأ: 11].
    وعلَّمه كذلك أن تكون على شكل حلَقٍ متداخلة
    { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ .. } [سبأ: 11] يعني: أحكم تداخل هذه الحِلَق بعضها في بعض، حتى إذا ما نزل عليها السيف ثبت على إحداها ولم يتحرك.
    وكان درع الإمام علي - كرَّم الله وجهه ورضي عنه - ليس لها ظهر، فقالوا له: أَلاَ تتخذ لدرعك ظهراً؟ فقال: ثكلتني أمي، إنْ مكَّنْتُ عدوي من ظهري.

     

    فتأمل أن الله تعالى لم يُعلِّم نبيه داود أولاً وسائل السلم، إنما علَّمه أولاً وسائل الحرب وإعداد العُدة لمن نقض كلمة الله، وحاد عن منهجه، علَّمه أنْ يُعِد له ما استطاع من قوة.
     

    ومعنى: { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ .. } [سبأ: 11] اجعلها بتقدير دقيق وإحكام في النسج، قال العلماء: السرد: الحِلَق التي يتكون منها الدرع، وبها خروق تُوضع فيها المسامير التي تثبت الحِلَق بعضها إلى بعض.
    فمعنى { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ .. } [سبأ: 11] يعني: لا تجعل الخُرْق واسعاً، لا يثبت فيه المسمار، ولا تجعله ضيِّقاً فيغلق المسمار الحلقة، وقال آخرون: { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ .. } [سبأ: 11] يعني: اعمل منها على قدر ما تحتاج، ولهذا المعنى قصة:

     


    كان يصنع داود الدرع بأربعة آلاف يعيش منها حتى تنفد، فيصنع درعاً آخر وهكذا، فلما أمره الله بصناعة الدروع قال { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ .. } [سبأ: 11] يعني: اجعلها على قَدْر حاجتك، ولا تبالغ فيها.
    ثم يقول سبحانه: { وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [سبأ: 11] كأن الحق سبحانه يقول لنبيه داود: تذكَّر حين تعمل ما طُلِب منك أنِّي بصير بعملك مُطلع عليه، وهذه التذكرة لنبي مأمون على التصرف، فما بالك بنا نحن؟
    إننا نلاحظ العامل يتقن عمله طالما يراه صاحب العمل، فإنْ غاب عنه أهمل العمل وغَشَّه، فالله يحذرنا من هذه المسألة.
    هكذا ورد أمر سيدنا داود في هذا الموضع مختصراً، وإنْ كانت له قصص في مواضع أخرى.

     

    التفاسير العظيم

    image.png.7c336b93f15b15ecf190df71f4c9011d.png


  18. ﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ﴾ [التكوير: 26]

    لا يكاد القرآن كله ينطِق إلا بحقيقة الساعة، الإنسان ينسى هذه الحقيقة أو بالأحرى يتناساها؛ حقيقة الساعة، قضية الخلق، قضية الوجود، ينسى وظيفته الأساسية، ينسى ماهيَّته، من هو؟

    الإنسان يعيش حياته المادية معيشةَ الأنعام، يتمتَّع بالمال والنساء وبالشهوات

    ألا يُفكِّر هذا الإنسان في مغزى حياته؟! ألا يسأل نفسَه قائلًا: ما هو الهدف من وجودي؟ ها أنتَ ذا تتمتَّع وتأكُل وتشرَب، وسوف يأتيك وقتٌ اسمه الموت وتنتهي، إن لم نُفكِّر في الموت فهو يُفكِّر فينا، إذا أغفلتَ الموت من حياتك، إذا طردْتَ فكرة الفناء مِن ذهنك، فذلك لن يُخرِجَها من الوجود، فإن كانت الحياة فَيضًا من الذكريات تَصُبُّ في بحر النسيان، فإن الموت هو الحقيقة الراسخة التي ستأتي يومًا ما، كالذي يُريد أن ينسى شيئًا وهو فيه،

    يقول تعالى في آية تجعل المسلم يراجع نفسه مع ربِّه: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].

    فأين تذهبون وإلى أين تفرون .. يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر .. فلا مفر منه إلا إليه فخير لكم أن تفروا إليه من اليوم منيبين إليه معترفين بذنوبكم بين يديه مطهرين نفوسكم وقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم من كل زلل وغي .. ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين .. وتزودوا ليوم المعاد ولا تلهكم دار الغرور والهوان فتنسيكم ما كتبه الله على أهلها من البوار والفناء .. كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور .. فأعدوا ليوم الدين عدته ومن أراد الفوز والنجاة فليعمل حتى تأتيه بغيته فإن المولى جل وعلا أبى أن يكون الفوز إلا لأهل التقوى الذين حصلوا طرقها وأسبابها فوعدهم ووعده الحق بقوله: start-icon.gif ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا end-icon.gif [مريم:72]. وقال عز وجل: start-icon.gif إن للمتقين مفازا end-icon.gif [النبأ:31]. وقال سبحانه: start-icon.gif ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون end-icon.gif[النور:52]. من التقوى أن يستعد العبد ليوم البعث والنشور فالتقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.

     

    لا يتوفر وصف للصورة.

     

    {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}(التكوير : ١٠-٢٦)

    بين الله تعالى لنا في كتابه الكريم طريق الخير وطريق الشر ، وقال لنا { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فماذا فعلنا؟؟!
    أعزائي :

     

    {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ } هل مانعمله اليوم نحب أن نراه في صحائف أعمالنا غدا ؟؟
     

    هي صحيفتك إنك تملي فيها الآن ، وستطوى ، ثم تنشر عليك يوم القيامة .. فانظر ماذا تملي ... وانظر إلى شوارعنا وحياتنا اليوم . راجع أوراقك قبل أن تعرض عليك يوم الحساب أمام الله تعالى ، ذلك يوم لاينفع فيه الندم .

    قل ماتشاء ، واسمع ماتشاء ، وشاهد ماتشاء ، لكن تذكر : {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} وهذا القرآن بين أيدينا ؟؟ لقد جعله الله {هدى وشفاء} {ونوراً مبيناً} {وموعظة للمتقين} فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ؟.. هو سؤال يهز أركاننا ويستوقفنا قبل أن نستكمل حياتنا العبثية . ألا نجيب رب العالمين ؟ إلى أين المسير ؟؟..

     

     


  19. قال ابن القيم رحمه الله :-

    الذنوب تدخل العبد تحت لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لعن على معاصي والتي غيرها أكبر منها فهي أولى بدخول فاعلها تحت اللعنة.

    فلعن الواشمة
    والمستوشمة والواصلة والموصولة والنامصة والمتنمصة والواشرة والمستوشرة ولعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده ولعن المحلل والمحلل له ولعن السارق ولعن شارب الخمر وساقيها وعاصرها ومعتصرها وبائعها و مشتریها وآكل ثمنها وحاملها والمحمول إليه.

    ولعن من غير منار الأرض وهي أعلامها وحدودها ولعن من لعن والديه ولعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا يرميه بسهم ولعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ولعن من ذبح لغير الله ولعن من أحدث حدثا أو آوى محدثا ولعن المصورين ولعن من عمل عمل قوم لوط.

    ولعن من سب أباه وأمه ولعن من کمه أعمى عن الطريق ولعن من أتی بهيمة ولعن من وسم دابة في وجهها، ولعن من ضار مسلما أو مكر به ولعن زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ولعن من أفسد امرأة على زوجها أو مملوكا على سيده ولعن من أتى امرأة في دبرها وأخبر أن من باتت مهاجرة لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ولعن من انتسب إلى غير أبيه وأخبر أن من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه ولعن من سب الصحابة.

    وقد لعن الله في كتابه من أفسد في الأرض وقطع رحمه وآذاه و آذی رسول الله صلى الله عليه وسلم
    ولعن من كتم ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى ولعن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالفاحشة ولعن من جعل سبيل الكافرين أهدى من سبيل المسلمين.

    ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل ولعن الراشي والمرتشي والرائش - وهو الواسطة في الرشوة - ولعن على أشياء أخر غير هذه.

    📙المصدر: كتاب/الجواب الكافي ص (73-74)

    image.png.40fc19947ca2b2ea0f5b31f527e3b181.png

    معاشر المؤمنين: لو أن رجلًا أبغضه جيرانه، وطردوه، وكرهوه وأبعدوه، لتساءلنا، ماذا فعل؟ وما الذي اقترفته يداه؟ حتى يُطرد ويبعد.ً؟.

     

    ولو أن رجلًا في شركته، أو عمله طرده رؤساؤه، أو توقفوا عن إكرامه وترقيته، لتساءلنا ماذا فعل وما الذي اقترفته يداه، حتى جوزي بهذا الطرد والإبعاد؟.

     

    ولو أن رجلًا أقصته قبيلته وجماعته، فأصبح مبغوضًا مكروهًا، طريدًا، لتساءلنا جميعا عن السبب.

     

    واليوم -ويا للأسف- بعض المسلمين يرتكبون ألوانًا وأصنافًا وأنواعًا من الأعمال التي توجب الطرد والإقصاء والإبعاد، ليس عن الملك ولا عن الأمير والوزير، ولا عن الجار والقريب، ولا عن الصديق والحبيب، بل هو طرد وإبعاد عن رحمة الله العزيز الكريم -- دون أن يشعروا.

     

    لذا سنغوص وإياكم في ظلال القران الكريم والسنة النبوية لنتأمل في الآيات والأحاديث التي جاء فيها لعن من الله، ولعن من نبيه -‘-، لأقوام بسبب أفعال وتصرفات وصفات قاموا بها، وأوجبت لهم ذلك البعد والطرد والإقصاء.

     

    واللعن، أيها الكرام هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله عزوجل.

     

    واللعن و الطرد من الرحمة لا يكون إلا لله وحده، فهو سبحانه يطرد من يشاء من رحمته، أو يدخل من يشاء في رحمته: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].

     

    أيها المسلمون:

    لقد أصبح اللعن والقذف عادة عند فئة من الناس في هذا الزمان حتى أصبح وكأنه تحية عند البعض مع أن اللعن كبيرة من كبائر الذنوب، فما بالك فيمن يكون هذا دأبه مع أبنائه وإخوانه وزوجته وأصحابه، واللعن ليس من اخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فعنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ « إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً ». [رواه مسلم ] وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: « لَمْ يَكُنِ النبي -صلى الله عليه وسلم- سَبَّابًا ولاَ فَحَّاشًا ولاَ لَعَّانًا.

     

    وكثرة اللعن سبب لدخول النار كما في الحديث المتفق عليه عن ابي سعيد الخدري «يا معشر النساء تصدقن، ولو من حليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة: وما لنا أكثر أهل النار؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير))[متفق عليه].

     

    و عَنْ عائشة -رضي الله عنها-أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فَلَعَنَتْ بَعِيرًا لَهَا فَأَمَرَ بِهِ النبي -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُرَدَّ وقَالَ « لاَ يَصْحَبُنِى شَىْءٌ مَلْعُونٌ ». [رواه أحمد]..

     

    وما بالنا بمن يلعن أقرب الناس إليه؛ لأتفه الاسباب.

    وما بالنا بمن جعلوا اللعنة فاكهة يتفكهون بها وهم يتضاحكون؟!.نسأل الله العافية.

     

    قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش والبذيء» [صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله، وهو لا يشعر 1/ 17. وصحيح مسلم: كتاب الإيمان باب سباب المسلم فسوق وقتاله كفر 2/ 54].

     

    بل إن اللعانين يُحرمون في الآخرة من الشفاعة لغيرهم روى الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه قول النبي ص: «إن اللعانين لا يكونون يوم القيامة شفعاء ولا شهداء».

     

    ولعن المؤمن كقتله؛ لأن القاتل يقطع من قَتَله عن منافع الدنيا، والذي يلعن المؤمن يريد أن يقطعه عن نعيم الآخرة، وعن رحمة الله التي وسعت كل شيء، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من لعن مؤمنًا، فهو كقتله»[ صحيح البخاري: كتاب الأدب (6105) عن ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه-، وروى مسلف في الإيمان (110) بعضه].

     

    وفي سنن أبي داود عن النبي قال: «إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبوابها دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينًا وشمالًا، فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان أهلًا، وإلا رجعت إلى قائلها».

     

    أخي المسلم:

    إياك ثم إياك أن تلعن شخصا بعينه مسلما أو كافرا عاصيًا أو طائعا؛ لأنك لا تدري بما يختم له.

     

     

    عباد الله:

    سنعيش وإياكم مع هؤلاء الملعونين في القران والسنة. وهم سبعة وستون صنفا سنعيش مع بعض منهم.

     

     

    أولًا: الملعونون في القرآن: وهم خمسة عشر.

     

    أولهم ورئيسهم وزعيمهم وكبيرهم إبليس عليه اللعنة: ولُعن لرفضه وتحديه للأمر الرباني أمر رب العالمين بالسجود لآدم وتكبره وغروره وحسده لآدم قال تعالى: ﴿ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ﴾ [النساء: 117].

     

    وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الحجر: 35]، وإذا أردنا أن نلعن إبليس فيجوز خاصة في الصلاة والأفضل التعوذ منه. عن أبي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ « أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ». ثُمَّ قَالَ « أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ ». ثَلاَثًا. وبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِى الصَّلاَةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ورَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ. قَالَ « إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِى وجْهِى فَقُلْتُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قُلْتُ أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ واللَّهِ لَوْلاَ دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ ولْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ». [رواه مسلم].

     

     

    الصنف الثاني من الملعونين في القرآن وهم أكثر الناس لعنًا في القرآن هم يهود بني إسرائيل، قتلة الأنبياء آكلي الربا من وضعوا السم لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم--صلى الله عليه وسلم- قال تعالى عن اليهود: ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 60].

     

    اليهود لُعنوا لكفرهم وهم يعلمون انه الحق قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88]. ﴿ اليهود لُعنوا لكتمانهم الحق بعدما جاءهم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].

     

    اليهود لُعنوا لتحريفم التوراة والكتب المنزلة واستهزائهم بالدين، قال تعالى: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 46].

     

    اليهود لُعنوا لنقضهم ميثاق الله الذي واثقهم إياه عندما رفع فوقهم الطور، قال تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [المائدة: 13].

     

    اليهود لُعنوا لتطاولهم على مقام الله رب العالمين، قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64].

     

    اليهود لُعنوا لعصيانهم أنبيائهم فحلت عليهم دعوة ولعنة أنبيائهم، وقد لعنهم داوود في مزاميره وعيسى في إنجيله﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ [المائدة: 78].

     

    عباد الله:

    أبعد هذه اللعنات على اليهود نطمع في السلام معهم، أبعد أن تجرؤا على الله ونقضوا العهود معه نثق في عهودهم؟ ونجري نحو التطبيع معهم حاشا وكلا.

     

     

    الصنف الثالث من الملعونين هم الكاذبين:

    انظر لآية المباهلة التي ساجلها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود ﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وأَبْنَاءكُمْ ونِسَاءنَا ونِسَاءكُمْ وأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾[آل عمران: 61]، وقال تعالى: ﴿ والْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾[النور: 7]. عَنْ عائشة -رضي الله عنها-قَالَتْ: «مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْكَذِبِ ولَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُحَدِّثُ عِنْدَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- بِالْكِذْبَةِ فَمَا يَزَالُ في نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً» [من سنن الترمذي -قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ].

     

    المؤمن قد يبخل قد يجبن لكنه لا يكذب بأي حال من الأحوال. يقول -صلى الله عليه وسلم-: «تحرّوا الصدق، وإن رأيتم أن الهلكة فيه، فإن فيه النجاة».

     

     

     

    الصنف الرابع من الملعونين في القرآن الظالمين: قال تعالى: ﴿ ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ ويَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18]. والظلم درجات أعظمه الكفر، والشرك ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].

     

    ومن أعظم الظلم سفك الدماء، وقذف الابرياء، والخوض في الاعراض، وأكل أموال الناس بالباطل.

     

    كل الذنوب تهون إلا ظلم العباد. ﴿ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ولَهُمْ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [غافر: 52].

     

    ﴿ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الإنسان: 31].

     

    عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.

     

     

    الصنف الخامس من الملعونين في القرآن أهل النفاق: من يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، أهل النفاق المذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء والى هؤلاء. يدعون الصلاح وهم مفسدون في الارض هم أشد على الاسلام من اليهود والنصارى.

     

    قال تعالى: ﴿ وعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ والْمُنَافِقَاتِ والْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ ولَعَنَهُمُ اللَّهُ ولَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 68]، وقال تعالى في سورة الأحزاب عنهم: ﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 60]﴿ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ﴾ [الأحزاب: 61].

     

     

    والصنف السادس من الملعونين في القرآن هم أهل الكفر وخاصة الأمم السابقة التي كفرت: قال تعالى عنهم ﴿ وأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ويَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾ [هود: 60]﴿ وأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً ويَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ﴾ [هود: 99].

     

    ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾  [البقرة: 161].

     

     

    ومن الملعونين في القران سابعا قاتل النفس لمحرمة بغير الحق: قال تعالى: ﴿ ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾[النساء: 93].

     

     

    وقال صلى الله عليه وسلم: « مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» [رواه ابن ماجة وضعفه الألباني].

     

    وقال صلى الله عليه وسلم: « لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ »[ رواه الترمذي والنسائي]. ونظر ابن عمر ك يوما إلى الكعبة، فقال: «ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك».

     

    ومن الملعونين في القرآن. ثامنا شجرة الزقوم فهي من شجر جهنم: قال تعالى: ﴿ ومَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ والشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ونُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 60]،، ومن المفسرين من قال أن الشجرة الملعونة في القرآن

     

    ومن الملعونين في القرآن تاسعا: الذين يؤذون الله ورسوله، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [الأحزاب: 57].

     

    قال المفسرون نزلت هذه الآية في الذين قذفوا أم المؤمنين عائشة ~ ولهذا يقول اﻟﻨﺒﻲ صلى الله عليه وسلم: «ﻣﻦ ﺁﺫاﻧﻲ ﻓﻘﺪ ﺁﺫﻯ اﻟﻠﻪ».

     

    فالإيذاء لرسول الله هو ايذاء لله؛ فمن يسب صحابته، ويتكلم في عرضه لعنه الله في الدنيا والاخرة وله عذاب مهين.

     

    والإيذاء لله يكون أيضا بمعنى إغضاب الله تعالى بالقول الذي لا يليق به سبحانه، كقولهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181]، وقولهم: ﴿ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 30].

     

    وبعضهم يسُبُّ الدهر، والله يقول في الحديث القدسي: « يؤذيني عبدي، وما كان له أنْ يؤذيني، يسبُّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقلِّبُ الليل والنهار »[ أخرجه البخاري في: التفسير، باب: قوله تعالى: وما يهلكنا إلا الدهر (4452)، ومسلم].

     

    ومن الملعونين في القران عاشرا: الذين يقذفون المؤمنين والمؤمنات بالفاحشة، ويتحدثون بالقول يحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم، ويتكلمون في أعراض المؤمنين والمؤمنات والغافلين والغافلات في مجالسهم واستراحاتهم، وعلى وسائل التواصل ويرمونهم بالفحش والزور والبهتان.

     

    هؤلاء يتقلبون في اللعن، و الطرد، و الإبعاد، يشعرون أو لا يشعرون قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23].

     

    ومن الذين يُلعنون و يُبعدون ويُطردون عن الرحمة الحادي عشر: الذين يقطعون أرحامهم، فبالرغم من تيسر أسباب التواصل، بين المشرق والمغرب الا أن هناك من يقطعون أرحامهم لأدنى سبب.

     

    وفاتهم أنهم يتقلبون في لعنة من الله وهم لا يشعرون، قال تعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد: 22، 23].و وفي صحيح البخاري مرفوعًا: «من أحب أن يُبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه».

     

    وأخرج أبو داوود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم».

     

    ومن الملعونين في كتاب الله عزوجل ثاني عشر الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات:

    قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].

     

    إنّ مَن بخل بعلمه، بالنور الذي يحمله، بالهدى الذي في صدره، لَهُو أشدّ ذمًّا ومَقتًا وبخلًا ممن بخل بماله.

     

    إنّ أهل الباطل ودعاة التخلف، يبذلون ما عندهم من الباطل، وينشرونه بين الناس، ويودّون أن لو يصل باطلهم إلى كل إنسان على وجه هذه الدنيا. بينما يستحي كثير من شباب الإسلام؛ أن يُعلِّم جاهلًا آية من كتاب الله، أو حديثًا من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولذلك يقول رسول الهدى: «من سُئل عن علم يعلمه فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار» [أخرجه أحمد (2/263)، وأبو داود في العلم (3658)، والترمذي وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة (223)].

     

    ومن ناحية أخرى فإن العالم عليه أن يقول كلمة الحق ولا يخاف في الله لومة لائم.

     

    عباد الله: لقد مدح الله في كتابه الذين يبلغون رسالاته بكلّ أمانة وصيانة، لا يمنعهم خوف ولا ملامة، قال جل وعلا: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 39].

     

     

    هؤلاء هم الملعونون في القرآن الكريم، أما الملعونون في الحديث النبوي الشريف:

    فأولهم «اليهود والنصارى»: عن عائشة -رضي الله عنها-- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه الذي مات فيه «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا». [رواه البخاري].،

    وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدا لا تجعلوا ﺑﻴﻮﺗﻜﻢ ﻗﺒﻮﺭا، ﻭﺻﻠﻮا ﻋﻠﻲ ﺣﻴﺚ ﻣﺎ ﻛﻨﺘﻢ، ﻓﺈﻥ ﺻﻼﺗﻜﻢ ﺗﺒﻠﻐﻨﻲ».

     

    لماذا النهي عن اتخاذ القبور مساجد؟ حتى لا يُعبد من فيها من دون الله.

     

    حتى لا تُدعى من دون الله.

     

    حتى لا يأتي من يقول حج الى كربلاء قبر الحسين خيٌر من ثمانين حجة الى بيت الله الحرام.

     

    ثانيًا من الملعونين في السنة ثمانية أصناف غالبهم من النساء، وهن الواشمات والمتنمّصات والواصلات ومتفلجات الأسنان الأمامية للحُسْن: ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن الواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة، والواصلة والمستوصلة، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله.

     

    أما الوشم: فهو أثر وخز الجلد بالإبر. والواشمة: هي التي تفعله. والمستوشمة: هي التي تطلبه.

     

    والنامصة هي التي تزيل شعر الحاجب أو ترققه وتدققه، والمتنمصة: هي التي تطلب ذلك.

     

    والواصلة هي التي تصل شعرها أو شعر غيرها بشعر آخر، والمستوصلة: هي التي تطلب ذلك.

     

    والمتفلجات للحُسن: هن اللاتي يَفْرِجن بين أسنانهن بالمبرد ونحوه، وهو مختص عادة بالثنايا والرباعيات.

     

    فتأملوا كم لعنة اجتمعت هنا؟

    أيها الأحبة في الله: لا حرج على نسائنا في زينتهن، وليطلبن ما شئن من كمال ذلك، ولكن دون تعدٍّ لحدود الله تعالى، وأوامر رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

     

    عباد الله: ثالثا: ومما جلب على الناس الشؤم والضنك والشقاء بأصنافه وألوانه، ومحق البركات، وتتابع اللعنات: أكل الربا، فقد تهاون به الناس، بل بعضهم أصبح يتعامل بالربا مضاعفًا. فهذا مع خسارته ملعون في الدنيا، ملعون في الآخرة قصي طريد بعيد عن الله -¸-؛ فقد لعن رسول الله -‘- آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: "هم سواء"[رواه مسلم].

     

    ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278، 279]، حرب رهيبة معروفة المصير مقرّرة العاقبة، فأين الإنسان الضعيف الفاني من هذا الوعيد؟!

     

    وفي الحديث «الرِّبا نيِّفٌ وسبعون بابًا، أَهونُها مِثل أن ينكِحَ الرّجل أمَّه» [أخرجه الطبراني في الأوسط (7151) عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (4/117): "فيه عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة"، وحكم عليه أبو حاتم بالانقطاع كما في العلل لابنه (1/381)، ولكن له شواهد يصحّ بها، ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1871)].

     

    ومن الملعونين على لسان الحبيب رابعا: السارق، الذي يسرق حقوق الناس وأموالهم، ولو كان قضيبًا من أراك، فمن الناس من يكون له نفس دنيئة لا تكف عن السرقة، وهو في خير تراه يسرق من عمله دباسة، ويسرق الأقلام ويسرق الأوراق، ويسرق أمورًا ليست ذات بال، ولكن تعودت نفسه الدناءة، فيسرق ويفرح بسرقته، وكأنها غنيمة غنمها من غزوة، رفعت فيها راية الإسلام.

    وهذا نوع من البلاء إذا استمرأه صاحبه لا يقوى على تركه.

     

    وقد حدثت امرأة عن زوجها أنه مستور، ودخله يكفيه وزيادة، قالت: لكنه ابتلي بمرض السرقة، وتسأل عن حكم الأكل مما يأتي به؟

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله السارق، - يسرق البيضة فتقطع يده، أو يسرق الحبل، فتقطع يده[رواه البخاري].

     

    ومن الملعونين من لعن والديه عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ والِدَهُ [رواه مسلم].

     

    عاق والديه لا يوفق دنيا ولا اخره وفي المتفق عليه ﻋﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ، ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: «ﺇﻥ ﻣﻦ ﺃﻛﺒﺮ اﻟﻜﺒﺎﺋﺮ ﺃﻥ ﻳﻠﻌﻦ اﻟﺮﺟﻞ ﻭاﻟﺪﻳﻪ» ﻗﻴﻞ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻭﻛﻴﻒ ﻳﻠﻌﻦ اﻟﺮﺟﻞ ﻭاﻟﺪﻳﻪ؟ ﻗﺎﻝ: «ﻳﺴﺐ اﻟﺮﺟﻞ ﺃﺑﺎ اﻟﺮﺟﻞ، ﻓﻳﺴﺐ ﺃﺑﺎﻩ، ﻭﻳﺴﺐ ﺃﻣﻪ» يعني أن هذا اللعان الطعان الفاحش البذيء يبتدئ من يتشاجر معه، أو يختلف معه عند أتفه سبب، وأدنى أمر، فيبدؤه باللعنة، فيقوم الملعون بالرد على اللاعن ابتداءً، فيكون الذي لعن أولًا هو الذي تسبب في لعن والديه، فيلعنه الله.

     

    هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

     

    اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.

     

     

    د. أمير بن محمد المدري

    شبكة الالوكة

     


  20. مرض والدي بضعف في عضلة القلب، ورغم المتابعة الطبية المستمرة فإن العضلة استمرت في التدني إلى أن وصلت إلى الحد الأدنى الذي يستطيع الإنسان أن يحيا به لدرجة أننا كنا حين نضع جهاز قياس النبض والأكسجين في إصبعه (مقياس التأكسج النبضي) كان الجهاز لا يلقط أي إشارة؛ لضعف النبض بشكل كبير.

     

     

     

    أصبح الوالد عاجزًا عن المشي والحركة والبلع أيضًا، ولم يكن أمام الأطباء أي حل سوى إبقائه حيًّا بالمغذيات الوريدية، ثم ساءت أوردته فلم يعد هناك أي وريد قابل لإدخال إبرة فيه، ثم أصبح الوالد شبه فاقد للوعي وعاجزًا حتى عن الكلام أغلب النهار؛ لقلة الغذاء الواصل إليه من جهة، ولضعف القلب من جهة أخرى، فقرر الأطباء أنه لا بد من إدخال أنبوب عبر الأنف إلى المعدة لإدخال الطعام، وهنا انقسم أهل البيت إلى مؤيد ومعارض، رأي مؤيد لإدخال الأنبوب وحجتهم أنه يجب أن نفعل ما بوسعنا لنحافظ على حياته؛ لأن عدم إيصال الغذاء إليه هو نوع من القتل، ورأي آخر يرفض ذلك؛ لأن إدخال الأنبوب هو عملية مؤلمة. ويقترح أن نتركه بدون غذاء لنخفف عنه زمن المعاناة مع الألم والمرض خصوصًا أن الأطباء أقروا بأنه لا يوجد طريقة للشفاء.

     

     

     

    توفي والدي بعد ذلك ببضعة أيام رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه مع الصدِّيقين والأخيار.

     

     

     

    وكثيرًا ما نسمع عن حالات مشابهة سواء لكبار السن الذين يبلغون شيخوخة متأخرة أو لغيرهم ممن يصاب بمرض عضال؛ كالسرطان في مراحله الأخيرة أو الفشل الكُلوي الذي لا تجدي معه أي علاجات أو مع المعاقين إعاقات جسيمة بالغة أو حتى مع من يصاب بحادث مميت، فحين يقرر الأطباء أنه لا أمل في شفائهم من الناحية الطبية ويبلغون مراحل عميقة من المرض والألم يختلف من حولهم هل يريحون المريض من العذاب ويجعلونه يرقد في سلام بإعطائه حقنة مميتة مثلًا أو بإعطائه حقنة ليس فيها سم إنما فيها فقط جرعة زائدة من مسكن الألم تخفف ألمه لكنها أيضًا تؤدي إلى الموت وتوقف القلب، أو أن يتوقفوا عن إعطائه الدواء أو الغذاء أو أن يفصلوه عن آلة هي سبب في بقائه حيًّا، وهدفهم من ذلك كله أن يرحموا مريضهم من الألم عن طريق قتله فيخلصونه من معاناته، ويسمى هذا الإجراء عالميًّا بالقتل الرحيم، أم هل يواصلون إنقاذ حياة مريضهم بكل الطرق الممكنة ليعيش أيامًا أو أشهرًا أو سنواتٍ -حسب مراد الله- رغم معاناته من الألم والعذاب.

     

     

     

    والقتل الرحيم هو أي إجراء يتخذه الطبيب بطلب من المريض أو أقرباء المريض بهدف تعجيل موت المريض الميؤوس من شفائه سواء بإعطائه دواء أو حقنة قاتلة أو بمنع الدواء أو الغذاء أو الأكسجين عنه أو بفصله عن جهاز يجعله قادرًا على الحياة؛ لأنه يقوم بدور بدلًا عن جهاز لا يعمل في جسم المريض كالجهاز التنفسي مثلًا[1]، فالمريض الذي في غيبوبة ولا تعمل رئتاه يحتاج إلى جهاز يساعده على التنفس ويحتاج إلى جهاز يتناول من خلاله الغذاء كالمغذيات الوريدية؛ لأن جهازه الهضمي لا يعمل؛ لأنه في غيبوبة وهكذا.

     

     

     

    لكن هناك حالات أخرى لا تعتبر قتلًا رحيمًا، وهي أن يكون المريض في حكم الطب والشرع ميتًا فعليًّا رغم وجود بعض مظاهر الحياة فيه. فهو ميت لأن الدماغ بكامل أجزائه (المخ والمخيخ وجذع الدماغ) كلها توقفت عن العمل بشكل تام ونهائي، ولا يمكن إعادتها إلى الحياة. وتظل مظاهر الحياة موجودة في الإنسان فهو يتنفس وقلبه ينبض لكن ذلك بسبب الأجهزة الموصولة في جسمه مما يعطينا إيحاء كاذبًا بأنه حي لكنه عمليًّا وطبيًّا يعتبر ميتًا، فعند فصل الجهاز عنه سيتوقف النبض والتنفُّس؛ لأن الدماغ قد مات أساسًا، ففي هذه الحالة اتخاذ أي إجراء طبي مما سبق الإشارة إليه لا يعتبر قتلًا رحيمًا؛ لأن المريض طبيًّا يعتبر ميتًا، فرفع أجهزة الإنعاش عنه أو إيقاف الدواء والغذاء عنه لا يعتبر قتلًا رحيمًا[2].

     

     

     

    ولقد انقسم العالم إلى مؤيد ومعارض لهذه الفكرة، فهناك دول تقر القتل الرحيم وتسمح به وفقًا للقانون ودول أخرى تجرمه وتحرمه، والسبب في اختلافهم هو أن القانون الذي يبيح أو يحرم هو من صُنْع البشرِ والبشرُ لا يتفقون فيما بينهم، فيرى مؤيدو هذه الفكرة أن القتل الرحيم في مصلحة المريض ليتخلص من آلامه الجسدية والنفسية؛ لأنه من حقه أن يتصرف بجسده ويقرر مصيره وما دامت نهايتنا الموت فمن حقنا أن نختار أن نحيا بصورة كريمة ونموت بصورة كريمة. كما أن التخلص من المرضى الميؤوس من شفائهم يوفر خسائر مادية على أهل المريض وعلى الدولة.

     

     

     

    ويرى الفريق المعارض أن القانون هو من صنع البشر ومن ثمَّ فهو قابل للخطأ؛ لأن أفكار الناس قد يكون مصدرها النفس والشيطان، وعلينا أن نشك دومًا في أفكار الإنسان ولا نقبلها إلا بعد أن نعرضها على كلام الخالق، فإن اتفقت مع كلام الخالق فهي خير، وإن لم تتفق فهي شر تحت قناع الخير، ويكفي البشرية معاناة من قوانين شرعنت الشرور؛ كالحق في الزنا والإجهاض، والحق في المثلية والتحوُّل الجنسي، والحق في شرب الخمر وتعاطي الحشيش، والحق في سب الإله والأنبياء والمقدسات، والحق في إبادة أمم بأكملها؛ كوقوف العالم كله ضد فلسطين مع المغتصب المجرم إسرائيل رغم أن كل ذلك هو شرٌّ واضح لكل ذي عقل؛ ومن ثمَّ فالقانون لا ينبغي أن يكون هو الحاكم أو المرجعية في صنع القرار وإنما كلام الخالق فقط؛ لأنه هو العدل التام. والشرائع السماوية الصادرة من الإله المنزَّه عن المصالح جميعها تحرم وتجرم كل فعل ينتقص من كرامة الإنسان وحقوقه؛ ومن ثمَّ تحرم القتل الرحيم بل إنه لا يوجد في الإسلام قتل رحيم وقتل قاسٍ إنما يوجد قتل مشروع؛ وهو أن يقتل المعتدي الذي قام بجريمة يستحق أن يقتل بسببها بأمر من القاضي، أو قتل غير مشروع؛ وهو أن يقتل إنسان بريء لم يرتكب جريمة يستحق عليها القتل، وقتل مريض لمجرد أنه مريض ميؤوس من شفائه هو قتل غير مشروع حتى لو طلب هو بنفسه ذلك.

     

     

     

    كما أنه لا تجوز تسمية القتل بالرحيم؛ فالقتل فيه قسوة ووحشية، ولا يمكن أن يتناسب مع الرحمة بأي حال من الأحوال. فكيف نحرم إنسانًا من الحياة برقة وحنان وعطف؟! والقتل ليس أسلوبًا رحيمًا ولا فيه إنقاذ للإنسان من المعاناة؛ بل ربما تكون المعاناة والصبر هي الرحمة بعينها؛ لما فيها من تكفير ذنوب المريض ورفع درجاته.

     

     

     

    كما أنه لا يوجد في الإسلام مبدأ الغاية تبرِّر الوسيلة، فإن كانت الغاية نبيلة وهي التخفيف من ألم ومعاناة المريض فإنه يجب أيضًا أن تكون الوسيلة نبيلة بإعطائه الأدوية والدعم النفسي اللازم، أما استخدام وسيلة شريرة؛ وهي القتل لتحقيق غاية نبيلة؛ وهي رحمة المريض من المعاناة، فإن هذا لا يجوز. ومثلها أنه لا يجوز أن تسرق لتنفق ما سرقته في كفالة يتيم. فالسرقة هي وسيلة قذرة، ولا يجوز استخدامها لتحقيق هدف نبيل أبدًا، كما لا يجوز أن تستعمل مال الربا لتعالج مريضًا، فالله طيِّب ولا يقبل إلا طيبًا، ويجب أن تكون الغاية والوسيلة كلتاهما معًا نبيلتين؛ ليقبل الله تعالى العمل. فالإسلام يحرم قتل الرحمة بكل أشكاله سواء كان بطلب المريض أو أقربائه كما لا يجوز قتل أي إنسان؛ لأنه مصدر لنشر العدوى مثلًا، ولا يجوز قتل إنسان؛ لأن علاجه يكلف أموالًا، الحالة الوحيدة التي يجوز فيها قتل إنسان هو أن يقوم بجريمة يستحق عليها عقوبة القتل.

     

     

     

    ونعود إلى رأي الشرع في القتل الرحيم ونلخصه في النقاط الآتية:

     

    لا يجوز بأي حال من الأحوال قتل المريض الميؤوس من شفائه أو اتخاذ أي إجراء مباشر متعمد بهدف إنهاء حياته، فهذا القرار لا يجوز أن يتخذه الطبيب ولا أسرة المريض ولا المريض نفسه[3].

     

     

     

    يجوز في حال المريض الميؤوس من شفائه -مع قناعة الطبيب بعدم جدوى العلاج- يجوزعدم اتخاذ أي إجراء بل يترك ليأخذ المرض أدواره الطبيعية دون تدخل طبي فمثلًا إن وجد الطبيب مريض سرطان لا يُرجى شفاؤه وهو في مرحلة متأخرة جدًّا وأصيب بفشل كُلوي والطبيب يعلم أن الغسيل الكُلوي لن ينفعه بل سيزيد من آلامه فهنا لا يعمل له غسيل كُلوي -إجراء فعَّال- بشرط أن يؤيد ذلك أطباء متخصصون ثقات. كما يجوز عدم كتابة أي دواء لمريض في مرحلة متأخرة من المرض إن اعتقد الطبيب أن الدواء لن ينفعه.

     

     

     

    إذا توفي المريض دماغيًّا (بمعنى أنه ميت ولا يمكن عودته للحياة بإقرار الطبيب الأمين المتخصص) فيجوز أن يقرر الطبيب فصل المريض عن الأجهزة الطبية التي تجعل قلبه يتحرك؛ لأن الأجهزة لا تجعل المريض حيًّا، فهو ميت بشكل واقعي لكن الأجهزة تعطيه مجرد مظاهر للحياة وليست حقيقة الحياة، وهذا الإجراء ليس قتلًا أساسًا[4].

     

     

     

     

    كما أنه وفقًا للشريعة الإسلامية يحق للمريض سواء كان ميؤوسًا من شفائه أو غير ميؤوس من شفائه- التوقف عن استخدام الأدوية إذا اقتنع أنه لن ينتفع، فالتداوي في الإسلام من المباحات يصبح واجبًا إن غلب الظن أن العلاج والدواء ينفع ويفيد، ولا يصبح واجبًا إن اعتقد المريض أو الطبيب أنه لا ينفع[5]. وما دام من حق المريض الامتناع عن تناول الدواء والعلاج، فلماذا أصلًا سيطلب من الطبيب أن يساعده على الموت ولديه خيار بأن يمكث في منزله ولا يتناول الدواء؟

     

     

     

    لكن إن كان المريض يبحث عن علاج عند الطبيب فليس من حقه كمريض ولا من حق الطبيب مساعدته على إنهاء حياته.

     

     

     

    إن فكرة القتل الرحيم هي فكرة مشوهة ومريضة؛ ولذلك وُجِّهت لها العديد من الانتقادات، ومنها:

     

    1- الحياة مقدسة ولا يجوز المساس بها، ولقد جاءت الشريعة الإسلامية ولها مقاصد أو أهداف كبرى رئيسية خمسة؛ وهي (حفظ النفس والمال والعرض والعقل والدين) فحفظ النفس من أهم مقاصد الشريعة؛ لأن الروح أو الحياة هي نفحة من الرحمن؛ ولذلك فهي مقدسة؛ لأن منح الله للإنسان هذه الروح هو نوع من التشريف الإلهي.

     

     

     

    2- حياة الإنسان ليست ملكه لا يجوز لأي إنسان أن يبيع أو يحرق سيارة جاره؛ لأنها ليست ملكه، وكذلك حياة الإنسان ليست ملكًا له ليقرر الحفاظ عليها أو إنهاءها إلا في حالة الدفاع عن النفس أو الدفاع عن الآخرين فقط. فلقد منحه الله الحياة والروح دون إذنه، فهي ملك لله وحده، وهو وحده يقرر متى إنهاؤها، وما الإنسان إلا مجرد مستخدم لهذه الروح. وأمره الله أن يحافظ عليها ولا يضرها بأي وسيلة، فعن أبي سعيد سعد بن سنان الخُدْري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَار))[6]، فالروح أمانة، وستعود إلى خالقها حين يأذن. وليس من حق الإنسان أن يحكم على روحه بالإعدام بسبب الألم أو المرض أو الإعاقة أو أي سبب آخر.

     

     

     

    3- ليس من حق الإنسان اختيار متى ينهي اختباره، فنحن في دار اختبار وابتلاء وهي الدنيا، وكل المصائب التي فيها أصابتنا بأمر الله ولم تخطئنا. فالله قرر أن يختبر بعض الناس بالفقر وبعضهم الآخر بالمرض وآخرين بالحروب وغيرهم بالحرمان من نعمة معينة، وهو وحده يقرر مادة الاختبار وكيفيتها ونوعيتها ومدتها لكل إنسان. ولا يحق لنا أن ننهي اختبارنا متى ما شئنا بالتخلُّص من حياتنا وإنما هذا الحق هو فقط لمن أوجد جسدنا وروحنا من العدم ليختبرنا من خلالهما أنصبر أم نكفر؛ وعليه لا يجوز للمريض الميؤوس من شفائه أن ينهي حياته؛ لأنه يعاني من الألم بل عليه أن يصبر ويحتسب الأجر من الخالق، وفي الصحيحين عن جندب بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينًا فحز يده فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: "بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة"[7]بمعنى أن الرجل المجروح انتحر بقطع وريد في يده فحرم الله عليه الجنة؛ لأنه لم يصبر، بل إن مجرد تمنِّي الموت هو إثم يحاسب عليه الإنسان فكيف بمن يطلبه بمساعدة الآخرين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدُكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي))[8].

     

     

     

    4- الموت ليس حلًّا للتخلص من المعاناة، فمن يعتقد أن الموت هو الحل المناسب لتخليص المريض من معاناته فهو إنسان جاهل لا يعلم أن المعاناة الحقيقية أو النعيم الحقيقي سيبدأ بعد الموت، فمَنْ لقي الله وهو راضٍ عنه فهو منعم بعد الموت وإلى الأبد، ومن لقي ربَّه وهو منتحر طالب للقتل الرحيم فهو في العذاب والألم والمعاناة إلى الأبد، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سُمًّا فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردَّى من جبل فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا))[9].

     


    5- الله أرحم بعباده من جميع المخلوقات؛ لأنه هو خالقهم من العدم، فالمريض لن يرحم نفسه أكثر من الله، وكذلك الطبيب وأقارب المريض لن يرحموه ويحبوه أكثر من الله. فالله أحنُّ علينا من ألف كتف ومن ألف سند، وأحنُّ علينا من آبائنا وأمهاتنا؛ بل إن كل الرحمة التي يتراحم بها الناس في كوكب الأرض بما فيها الرحمة الموجودة في قلوب أنصار الموت الرحيم كلهم هي أقل من 1% من الرحمة الموجودة في الكون. فعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، أمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة))[10].

     

     

     

    6- فإن سلمنا وآمنا بذلك فلا بد أن تكون معاناة المريض فيها رحمة من الله ولو لم نفهمها وندركها بعقولنا القاصرة. ويكفينا لنفهم مدى رحمة الله ما ترويه لنا قصص السيرة. فبعد غزوة الطائف كانت هناك امرأة فقدت ولدها وكانت تبحث عنه، فلما وجدته فرحت فرحًا شديدًا وأخذته وضمته بقوة ثم أرضعته وكان الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم وصحابته ينظرون إلى هذا الموقف فسألهم رسول الله: ((أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟))، فقالوا: لا وَاللَّهِ وَهِي تَقْدِرُ عَلَى أَلَّا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا))[11]، فإن كان الله أرحم بنا من أمهاتنا فعلينا أن نستسلم ونرضى بقضائه ولا نعترض عليه ولا نبحث عن حلول نعتقد أنها رحيمة بنا، وهي حلول تجلب سخط الله وغضبه علينا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29].

     

     

     

    7- القتل الرحيم يقتل الوازع الأخلاقي في البشرية. فتخيَّل معي أن الروح ستصبح يومًا تقاس بكمية الوقت والمال والجهد المبذول من أجلها. وستصبح هذه الثلاثية المادية أهم من الروح ذاتها. ففكرة القتل الرحيم من ضمن معانيها المبطنة (من الأفضل أن تكون ميتًا إن كنت مريضًا مرضًا لا شفاء منه لكن من الأفضل أن تكون حيًّا إن كنت معافًى)، فمفهوم وقيمة الحياة هنا غير متساوٍ، فهناك أرواح تستحق العيش؛ ولذلك القانون لا يشرع لها أحقية الموت بينما هناك أرواح لا تستحق أو على الأقل استحقاقهم للعيش فيه نظر فقط بسبب مرضهم؛ ولذلك القانون يتيح لهم الحق في الموت. وهذه الفكرة تغرس في نفس المريض الشعور بالألم، فالمجتمع يتيح له حرية الموت وكأنه يقول له: أنت عبء ثقيل علينا ولا نريدك إلا وأنت صحيح البدن متناسيًا الجهد والعطاء والجميل الذي حصل عليه من هذا العضو في أثناء صحته.

     

     

     

    وهل من الأخلاق أن نطلب من الناس أن يعيشوا بدون معاناة أو ألم؟! أليس الصمود والتحدي والتجلد والصبر وعدم اليأس أمام المصاعب أليست كل هذه معاني أخلاقية تجعلنا أكثر إيمانًا وقوة، فلماذا نريد سلبها من المريض؟! إن المعاناة جزء أساسي في الحياة بل إن الإنسان يستحيل أن يعيش بدون معاناة؛ لأنه في دار المعاناة والاختبار والابتلاء؛ بل إن شرعنة القتل الرحيم ستولد أجيالًا ضعفاء عاجزين عن الصبر ومستسلمين، ومجتمع بهذه الصفات هو مجتمع سقيم آيل للسقوط.

     

     

     

    8- إن تشريع القتل الرحيم يشجع المجتمع على الكسل والإهمال وتراجع خدمات الرعاية الطبية، فهذا التشريع سيجعل الأبحاث العلمية أكثر كسلًا لقلة أو انعدام الدافع للحفاظ على حياة المرضى الميؤوس من شفائهم. فما دام هناك حل مريح ورخيص وهو إعطاء الإنسان الحق في إبرة الموت، فما هو الدافع لاستمرار الأبحاث العلمية لإطالة عمر هؤلاء؟! وما الداعي لبذل جهود الرعاية الصحية في رعاية المحتضرين وتخفيف معاناتهم والبحث عن علاج لحالاتهم؟! وما الداعي لرعاية كبار السن والمجانين ومرضى الزهايمر والسرطان وغيرهم ما دام يوجد حل أسهل؟! وأيضًا هل سيثق المجتمع بالأطباء والمراكز الصحية بعد أن يتحولوا إلى قتلة أم سيفضل الناس إبقاء أحبائهم في البيوت خوفًا من أن يقنعهم الآخرون بالموت؟!

     

     

     

    9- القتل الرحيم سيجعل عدد مَن يموت بهذه الطريقة أكبر وأكثر مع مرور الزمن، ومما لا شكَّ فيه أن تشريع القتل الرحيم للمرضى الميؤوس من شفائهم سيشجع شريحة كبيرة في المجتمع على المطالبة بحقهم في الموت ليس فقط المرضى. وسيواجه المجتمع مشكلة في إقناع الضعفاء بأن ما يواجهونه لا يستحق أن ينهوا حياتهم من أجله، فالمراهق الذي يواجه مشكلة عاطفية والطالب الذي رسب في الامتحان والموظف الذي تم طرده من عمله وغيرهم ملايين ذوو مشاكل أسهل أو أكثر تعقيدًا، كلهم سيطالبون بالتخلص من معاناتهم، فالمعاناة لا تنحصر في الألم الجسدي؛ بل إن الألم النفسي أشد وأنكى؛ بل إني لا أستبعد أن يطالب الطفل بإنهاء حياته؛ لأنه خسر في لعبة من ألعاب الفيديو. وهذه الثمار المرة ستحصدها البشرية؛ لأنها نشرت ثقافة أن قيمة الروح والحياة من حق المخلوق، وهل سنحقق الرحمة حين يكون عدد المنتحرين في المجتمع أكثر من عدد المولودين أم أننا سننقرض من كوكب الأرض بسبب أفكارنا الشيطانية التي سمحنا لها بالنمو؟! والغريب في الموضوع أن دعوات القتل الرحيم للإنسان تتزايد مع تزايد دعوات إلغاء عقوبة الإعدام على المجرمين مع أن الأول بريء والثاني مذنب. كما تتزايد دعوات قتل الإنسان برحمة مع تزايد دعوات حماية الحيوانات من الذبح مع أن الأول كائن مفكر قادر على تغيير العالم إلى الأفضل؛ بل وقادر على توفير حياة أفضل للحيوانات في حين أن الثاني كائن لا عقل له، فأيهما أكثر قيمة وأهمية للدفاع عنه؟!

     
    شبكة الالوكة

  21. (وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ )

     [سبأ: 5]

    تفسير الشعراوي

     

    السعي هو المشي الحثيث وقطع المسافة، فما معنى { سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا .. } [سبأ: 5] ألم تسمع قولهم: سعى فلان بفلان عند السلطان مثلاً؟ والمراد: أنه نَقَل إلى السلطان ما يُغضبه وما يُحزنه من هذا الشخص، وهذه التي نسميها في العامية وبين الموظفين (ضربه زُنْبَة) هي هنا بنفس هذا المعنى.
     

    { سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا .. } [سبأ: 5] يعني: ضربوا فيها (زُنَب) وألَّبوا الناس عليها ليزهد فيها مَنْ كان مُقْبلاً عليها، ويخرج منها مَنْ كان فيها ويتملَّص منها، سعَوْا في آيات الله وهي القرآن ليبطلوه وليصرفوا الناس عنه، لماذا؟ لأنهم واثقون من أثر القرآن في القلوب، فلو أعطاه الناسُ آذانهم لابد وأنْ يؤثر فيهم ويجذبهم إلى ساحة الإيمان، فتنفعل به قلوبهم. وتلهج به ألسنتهم.
    وهؤلاء هم الذين قالوا: { { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت: 26] ولو كان القرآن كلاماً عادياً غير ذي أثر لَمَا نَهوْا عن سماعه، ولما شوَّشوا عليه، وخافوا من سماعه.

     

    ومعنى { مُعَاجِزِينَ .. } [سبأ: 5] مفردها مُعَاجز: اسم فاعل من عَاجَزَ مثل: قَاتَل ومقاتل، وعاجز مثل نافس، والمنافسة الأصل فيها التسابق في التنفس، وقد رُوى أن سيدنا عمر وسيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مَرَّا ببحيرة، فقال عمر: هيا بنا نتنافس يعني: نغطس تحت الماء، لنرى أيّنا أطول نَفَساً من الآخر، ومعروف أن طول فترة الغطس تدل على قوة التنفس وسلامة الرئة، وأنها تحتوى مخزوناً أكبر من الهواء، ثم أُطلِقت المنافسة على كل مسابقة.
    ومثل نافس: عَاجَزَ يعنى: حاول كُلٌّ من الطرفين إثبات عجز الآخر. تقول: عاجزني يعني: جعلني أفعل فعلاً أعجز عنه، فكأنهم يريدون بسعيهم في آيات الله أنْ يُثبِتوا عجزها، وأن يُعجِزوا الدعوة أنْ تبلغ مداها، ويُعجِزوا رسولَ الله أنْ يتمم رسالته، ويُعْجزوا منهج الله أن يصل إلى خلق الله.
    لكن يُعاجزون مَنْ؟ يُعاجزون الله؟ كيف وهو سبحانه الذي أرسل الرسل، وتكفَّل بنصرتهم وعدم التخلِّي عنهم، وما كانت الحروب والقتال بين الرسل والمكذبين إلا سبباً يأتي من خلاله نصر الله، كما قال سبحانه: { { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [التوبة: 14].
    وقال سبحانه: { { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 171-172].

     

    إذن: مَنْ سيُعاجزون؟ ربما يُقبل أنْ يُعاجزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يُعاجزوا المؤمنين، أما الحق سبحانه فهو الغالب القادر، وهل يستطيع أحد أنْ يُعجز الله، ويتغلب عليه سبحانه، فيجعله عاجزاً، وهو سبحانه القادر الغالب؟
     

     

    فمعنى { سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا .. } [سبأ: 5] أي: وضعوا المكايد والعراقيل في طريقها: ليفسدوا أمر الدعوة، وحتى يردُّوها على رسول الله في فمه الذي قالها { مُعَاجِزِينَ .. } [سبأ: 5] حالة كونهم معاجزين، يعني: يسيرون مع خالقهم في مضمار واحد، الله يريد أن يُعجزهم، وهم يريدون أنْ يُعجزوا الله، وأنْ يكونوا في مكان القدرة الإلهية العليا؛ ليثبتوا أن الدعوة باطلة.
     

    ثم يُبيِّن سبحانه جزاء هؤلاء المعاجزين: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } [سبأ: 5] الرِّجز والرُّجز هو الحِمْل الثقيل، وأصله الذنب، وما يترتب عليه من عقوبة؛ لذلك يقول تعالى: { { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } [المدثر: 5] أي: الذنب الكبير، أو العقوبة المترتبة عليه، والمعنى: لا تفعل الذنب، ولا ما يؤدي للعقوبة، وإذا هجرتَ الذنب لا تأتي العقوبة.
     

    وقد وُصف العذاب هنا بأنه { عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } [سبأ: 5] والعذاب يُوصَف مرة بأنه أليم، ومرة بأنه مهين، ومرة بأنه عظيم، وهي أوصاف تدل على مَعَانٍ مختلفة لحال واحدة

    فهو أليم أي: يؤلم صاحبه، فإنْ كان جَلْداً يدعى التحمُّل فله عذاب مهين يُهينه، ويحطُّ من كرامته، وهو الذي يتعالى أو يظنُّ نفسه عظيماً.
    والعذاب المهين ليس بالضرورة أن يكون مؤلماً، فمن الناس مَنْ يؤلمه التوبيخ والتقريع، فإن أردتَ ضخامة العذاب من حيث القدر، فهو عذاب عظيم.
    إذن: إن أردتَ الإيلام فهو عذاب أليم، وإنْ كان قليلاً في قدره، وإنْ أردتَ التحقير والإهانة فهو عذاب مهين، وإنْ أردتَ ضخامة العذاب فهو عذاب عظيم.

     

    المصدر

    التفاسير العظيمة

    image.png.03bfa5d28342edff0fcda3f1c5b115a6.png

     


  22. من كتاب قواعد قرآنية -

    50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة - د. عمر المقبل

    القاعدة الخامسة عشرة: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)

     

    الحمد لله الذي حمد نفسه في السماوات والأرض، وحمد نفسه في الآخرة والأولى، وصلى الله وسلم وبارك على سيد ولد آدم، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
    فليس مثل ملتقانا بهاءا، ونضرة، لأن حديثنا لا يزال يتردد ويتجدد في آي من القرآن، ورسمه واسمه: (قواعد قرآنية)، لنتأمل جميعاً في قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي تبعث الأمل في نفوس أهل الإيمان، وتملأ قلوبهم ثقةً ويقيناً، وراحة وطمأنينة، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].

     

    وهذه الآية الكريمة جاءت مرةً على لسان موسى ج وهو يبشر قومه الذين آمنوا به، بحسن العاقبة لهم في الدنيا قبل الآخرة، والتمكين في الأرض إن هم لازموا التقوى.

     

    وجاءت هذه القاعدة بلفظ مقارب، في خطاب الله تعالى لنبيه محمد ج في خواتيم سورة طه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

     

    وجاءت هذه القاعدة ـ أيضاً ـ بعد انتهاء قصة قارون، في خواتيم سورة القصص، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

     

    ومن المعلوم أن العاقبة هنا لا تنحصر في الآخرة التي ضمن الله النجاة فيها للمتقين، كما في قوله ـ: {والآخرة عند ربك للمتقين}، بل هي عامة في الدنيا والآخرة، ولكن قبل أن نسأل: أين صدق هذه القاعدة، فلنسأل: أين تحقيق التقوى على الوجه الصحيح؟! وإلا فوعد الله لا يتخلف!

     

    أيها القارئ المسدد:

    إن أدنى تأمل لمجيء هذه الآيات ـ مع تنوع سياقاتها ـ ليوضح بجلاء اطراد هذه القاعدة، فقد أخبر بها ربنا جل وعلا في قوله: {والعاقبة للتقوى}، وبعد قصة قارون قوله:{والعاقبة للمتقين}، وبشر بها موسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام.

     

    "وحقيقة العاقبة: أنها كل ما يعقب أمراً، ويقع في آخره من خير وشر، إلا أنها غلب استعمالها في أمور الخير، فالمعنى: أن التقوى تجيء في نهايتها عواقب خير.
    واللام ـ في قوله "للتقوى" و "للمتقين" للملك، تحقيقاً لإرادة الخير من العاقبة؛ لأن شأن لام الملك أن تدل على نوال الأمر المرغوب، وإنما يطرد ذلك في عاقبة خير الآخرة، وقد تكون العاقبة في خير الدنيا ـ أيضاً ـ للتقوى.
    وجاءت هذه الجملة بهذا الأسلوب لتؤكد معنى العموم، أي: لا تكون العاقبة إلا للتقوى، فهذه الجملة أرسلت مجرى المثل"(1).

     

    فما أحوجنا ونحن نشاهد ما نشاهد: إن على المستوى الفردي أو الجماعي أن نتأمل هذه القاعدة، ولنبدأ بالإشارة إلى المستوى الجماعي:
    فإن أمة الإسلام تمر منذ قرون بحالة من الضعف والتفرق وتسلط الأعداء على كثير من أهله، وهذه حالٌ تجعل بعض الناس من المنتسبين للإسلام ـ وللأسف ـ يبحث عن موطئ قدم خارج دائرة بلاد الإسلام، فيذهب غرباً أو شرقاً، بحثاً عن مبادئ أخرى، ومذاهب مختلفة، لا تمت إلى الإسلام بصلة، بسبب شعوره البائس بهزيمة داخلية وما تعانيه الأمة الإسلامية من تفرق وتشرذم، وفي الوقت ذاته: انبهاره بالتقدم المادي، وما يوجد في تلك البلاد من محاسن تتعلق بحقوق الإنسان، وغيرها من المجالات.

     

    والمؤلم في أمثال هؤلاء أنهم لم يروا من حضارة الشرق أو الغرب إلا الجانب الإيجابي والحسن، وعميت أبصارهم، أو تعاموا عن الجوانب المظلمة ـ وما أكثرها ـ! هذه الحضارة التي اعتنت بالجسد، وأهملت الروح، وعمرت الدنيا وخربت الآخرة، وسخّرت ما تملكه من أسباب مادية في التسلط على الشعوب المستضعفة، وفرض ثقافتها، وأجندتها على من تشاء!

     

    وعلى سبيل المثال: فإن نظام الثورة الفرنسية الذي قرر مبادئ حقوق الإنسان والمساواة بين البشر ـ كما يزعم واضعوه ـ لم يمنعه من إبادة ثلث سكان جزيرة هاييتي؛ لأنهم تمردوا على العبودية! كما أن القائد الفرنسي المشهور نابليون ـ الذي أنجبته الثورة الفرنسية ـ جاء إلى بلاد مصر، ليحتلها ويقيم نظاماً استعمارياً فيها.

     

    والأمثلة كثيرة لا يتسع المقام لسردها، فضلاً عن التفصيل فيها، ولكن لعل من المناسب أن نُذكّر بقضية الساعة هذه الأيام، وهي قضية انهيار النظام الاقتصادي الرأسمالي! الذي قام على مصادمة منهج الله العادل في شأن المال، فرأى أربابه صدق ما توعد الله به أكلة الربا من المحق، وفي كل يوم نسمع عن مليارات ضائعة، وشركات عالمية أفلست، حينها قال من قال: لا بد من العودة إلى المنهج الإسلامي في الاقتصاد! وصدق الله: {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}، وصدق الله: {والعاقبة للتقوى}.

     

    ألا ما أحوج الدول الإسلامية، والجماعات الإسلامية في بقاع الأرض إلى أن يتدبروا هذه القاعدة جيداً، وأن يتأملوا جيداً في العواقب التي جناها مخالفوا التقوى في الأنظمة والحكم والسلوك، ومن تدبر مجيء قوله تعالى ـ على لسان موسى وهو يخاطب قومة المضطهدين عدة قرون ـ: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} [الأعراف: 128] من تدبرها عرف حاجة الدول والمجتمعات لتدبر هذه الآية جيداً، وأن وعد الله لا يتخلف لمن اتقاه دولاً كانوا أو شعوباً، تأمل معي قول مَنْ عواقب الأمور كلها إليه ـ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 41]}.

     

    ومن أراد أن يعرف الآثار السيئة التي لقيها العالم من بعد المسلمين عن دينهم، وخسارة العالم لعظيم مبادئ الإسلام فليقرأ كتاب الشيخ أبي الحسن الندوي:: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟!.

     

    أما على المستوى الفردي، فإن الحديث فيها يحتاج إلى بسط أكثر، ولكن حسبنا في مقامنا هذا أن نشير إشارة مُذِكّرة بأهمية هذه القاعدة في حياتنا اليومية:
    فإن آية القصص: {والعاقبة للمتقين} جاءت بعد قصة قارون الذي لم يصبر على شهوة المال!

     

    وفي هذا إشارة إلى حاجة العبد ـ رجلاً كان أو امرأة ـ لتدبر هذه القاعدة جيداً، خصوصاً وهو يعيش في جو من المغريات والفتن والصوارف عن دين الله ـ يتدبرها ويتأملها؛ لتهوّن عليه الصبرَ عن الشهوات والملذات المحرمة... فكلما دعته نفسه إلى ما يخالف التقوى فليذكرها بحسن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة..

     

    وكذلك الداعية إلى الله، من أحوج ما يكون إليها وهو يسير في طريق الدعوة الطويل، والمليء بالابتلاء بالخير أو بالشر، وخصوصاً إذا كان لا يجد معيناً ولا ناصراً، بل قد يجد مناهضاً ومعادياً!

     

    يقول شيخنا العلامة ابن باز: ـ بعد أن ذكر شيئاً مما تعرض له إمام الدعاة محمد ج من أذى وابتلاء، قال:
    "فكيف يطمع أحد بعد ذلك أن يسلم؟ أو يقول متى كنت متقياً أو مؤمناً فلا يصيبني شيء؟ ليس الأمر كذلك بل لابد من الامتحان , ومن صبر حَمِدَ العاقبة , كما قال الله جل وعلا: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}،{وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} فالعاقبة الحميدة لأهل التقوى, متى صبروا واحتسبوا وأخلصوا لله وجاهدوا أعداءه وجاهدوا هذه النفوس , فالعاقبة لهم في الدنيا والآخرة , كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} فأنت ـ يا عبد الله ـ في أشد الحاجة إلى تقوى ربك، ولزومها، والاستقامة عليها، ولو جرى ما جرى من الامتحان, ولو أصابك ما أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء الله, أو من الفسقة والمجرمين فلا تبالِ , واذكر الرسل - عليهم الصلاة والسلام - , واذكر أتباعهم بإحسان , فقد أوذوا، واستهزئ بهم، وسخر بهم، ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، فأنت يا أخي كذلك اصبر وصابر"(2).

     

    ومفهوم هذه القاعدة القرآنية المحكمة: أن كل من لم يكن تقياً في أحواله، أو أفعاله، فلا عاقبة له حسنة، وإن أمهل زماناً، أو تُركَ دهراً، وهذه سنة الله في خلقه، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية: يستدل بهذه القاعدة القرآنية: (والعاقبة للمقتين) وبأمثالها ـ إبان هجوم التتار على بلاد الإسلام ـ وكان يقسم بالله أن التتار لن ينصروا، بل سيخذلون وينكسرون، وكان مما قاله حينها: "واعلموا - أصلحكم الله - أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون، والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم ومنتقم لنا منهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن عاقبته، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين" (3).

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،،

     

    ______________

    (1)    التحرير والتنوير - (9 / 193) بتصرف يسير.
    (2)    مجموع فتاوى ابن باز (2 / 289).
    (3)    ينظر: مجموع الفتاوى (3 / 125)، و (28 / 419).

     

    image.png.f01380916f1c42b2d8fee0ee6423f9ef.png


  23. سورة يوسف :

     

    ===========

     

    1/ قال تعالى في بيان رؤيا يوسف في سورة يوسف 4 : (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) ..

     

    ذكر جماعة من المفسرين أن القمر تأويله الأب والشمس تأويلها الأم، فاستقرأ بعض الناس من تقديمها وجوب بر الأم وزيادته على بر الأب.

     

    ابن الفرس - أحكام القرآن

     

     

     

    2/ قال تعالى في سورة يوسف 5 : (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) .. يعقوب عليه السلام عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك فإن الرجل يود أن يكون ولده خـيراً منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه.

     

    ابن العربي – أحكام القرآن

     

     

     

    3/ قال تعالى في سورة يوسف : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)) سورة يوسف

     

    يستفاد من هذه الآية أنه لا ينبغي للعاقل أن يستحقر أحدا فقد يكون زاهدا فيه وهو لا يعلم .

     

    محمد بن عبدالوهاب - الدرر السنية

     

     

     

    4/ قال تعالى في قصة يوسف  : (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) سورة يوسف 21

     

    ولا يزال لطف الله بعبده ، فبعد أن حجب الشيطان في قلوب إخوته معاني الأخوة ، قذف الله في قلب عزيز مصر معاني الأبوة .

     

    ناصر العمر ـ آيات للسائلين .

     

     

     

    5/ قال تعالى عن يوسف عليه السلام في سورة يوسف 22: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ..

     

    في هذه الآية دليل على أن الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى العباد سبب ينال به العلم، وتنال به خيرات الدنيا والآخرة.

     

    السعدي - فوائد مستنبطة من قصة يوسف

     

     

     

    6/ قال تعالى عن يوسف عليه السلام في سورة يوسف 24 : (كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ..

     

    محبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد، وكلما كان أكثر إخلاصاً وأشد توحيداً كان أبعد من عشق الصور. ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه.

     

    ابن القيم - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان

     

     

     

    7/ قال تعالى في شأن يوسف وامرأة العزيز في سورة يوسف 25: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) ..

     

    تأمل :

     

    المتبادر للذهن أن يكون الخطاب وألفيا سيدهما؛ لأن يوسف مملوك لدى العزيز..  فلماذا نسبت السيادة للمرأة فقط ؟..

     

    لأن يوسف مسلم والعزيز كافر ولا تكون أبداً السيادة للكافر على المسلم.

     

    البقاعي - نظم الدرر

     

    وجه آخر: وإنما لم يقل سيدهما؛ لأن ملكه ليوسف لم يكن صحيحاً فلم يكن سيداً له لأن استرقاق يوسف غير شرعي وهذا كلام ربه العليم بـأمره لا كلام من استرقه.

     

    الهرري - حدائق الروح والريحان

     

     

     

    8/ قال تعالى في سورة يوسف 30 : (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) ..

     

    لماذا قلن امرأة العزيز ولم يصرحوا باسمها ؟..

     

    أضفنها إلى زوجها؛ إرادة لإشاعة الخبر فإن النفس إلى سماع أخبار أولي الأخطار والمكانة أميل.

     

    البقاعي - نظم الدرر

     

     

     

    9/ إذا كانت مشاهدة مخلوق يوم (اخرُجْ عَليهِن) سورة يوسف 31 ..

     

    استغرقت إحساس الناظرات (وقطّعنَ أيدِيَهُن) وما شعرن ..

     

    فكيف بالحال يوم المزيد؟ ! لو أحببت المعبود لحضر قلبك في عبادته.

     

    ابن القيم – الفوائد

     

     

     

    10/ قال تعالى عن يوسف ودعوته لصاحبي السجن :

     

    (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)) سورة يوسف

     

    يستفاد من هذه الآية أنك لا تحقر عن التعليم من تظنه أبعد الناس عنه ولا تستبعد فضل الله فإن الرجلين من خدام الملوك الكفرة ومع ذلك وجه يوسف عليه السلام  لهما النصح طمعا في هدايتهما . بخلاف من يقول لبعض المدعوين : ليس هذا بأهل للعلم ، تعليمه إضاعة للعلم .

     

    محمد بن عبدالوهاب - الدرر السنية .

     

     

     

    11/ من قال أني لا أحب الدنيا فهو كذاب، فإن يعقوب عليه السلام لما طلب منه أبناءه أخاهم بنيامين قال في سورة يوسف 64 (هَلْ آمَنكُمْ عَليهِ إِلّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبل) فقالوا: (وَنزدَادُ كَيلَ بَعِيرٍ) يوسف : 65 .. فقال: خذوه.

     

    أبو الوفاء بن عقيل - صيد الخاطر

     

     

     

    12/ قال تعالى ذاكراً وصية يعقوب  لأبنائه : (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) سورة يوسف 87

     

    رغم كثرة المصائب وشدة النكبات و المتغيرات التي تعاقبت على نبي الله يعقوب  ، إلا أن الذي لم يتغير أبداً هو حسن ظنه بربه تعالى .

     

    صالح المغامسي ـ دمعة وتأملات في آيات قرآنية ( مطبوع ) .

     

     

     

    13/ طلب العفو من الشباب أسهل منه عند الشيوخ ألم تر إلى يوسف لما طلب منه إخوته أن يعفو عنهم قال في سورة يوسف 92: (لَا تَثرِيبَ عَليكُم اليَومَ) ..

     

    ولما طلبوا من يعقوب قال: (سَوفَ أسْتَغفِرُ لَكُم رَبّي) يوسف : 98 .

     

    عطاء الخراساني - تفسير ابن أبي حاتم

     

     

     

    14/ قال تعالى ذاكراً مخاطبة إخوة يوسف لأبيهم يعقوب  : (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) سورة يوسف

     

    قال المهايمي : صرحوا بالذنوب دون الله ، لمزيد اهتمامهم بها ، وكأنهم غلب عليهم النظر إلى قهره . وصرح يعقوب بذكر الرب دون الذنوب ، إذ لا مقدار لها بالنظر إلى رحمته التي ربى بها الكل . اهـ . وهذا من لطائف التنزيل ومحاسنها .

     

    القاسمي ـ محاسن التأويل .

     

     

     

    15/ قال يوسف عليه السلام بعد أن اجتمع إليه أهله في سورة يوسف 100:

     

    (وَقدْ أحسَنَ بِي إِذْ أخْرَجَني مِنَ السّجنِ وَجَاءَ بِكُم مّنَ البَدّو) ..

     

    إن قلت : لمذكر يوسف نعمة الله عليه في إخراجه من السجن دون إخراجه من الجب مع أنه أعظم نعمه؛ لأن وقوعه في الجب كان أعظم خطراً ؟..

     

    هذا من عظيم خلق يوسف؛ لأن في ذكر الجب توبيخاً وتقريعاً لإخوته بعد قوله: (لا تَثرِيبَ عَليكُم اليَومَ) يوسف 92 .. فعدل عن ذلك وذكر السجن.

     

    زكريا الأنصاري - فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن

     

                      

     


     

    سورة الرعد :

     

    ==========

     

    1/ قال تعالى لأهل جنته في سورة الرعد : (سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)) ..  ما السر في كونه سلَّم عليهم بلفظ النكرة ؟..

     

    لأن سلاماً منه سبحانه كافٍ من كل سلام ، ومغنٍ عن كل تحية ، ومقرب من كل أمنية ، فأدنى سلام منه - ولا أدنى هناك - يستغرق الوصف ، ويتم النعمة ، ويدفع البؤس ، ويطيب الحياة ، ويقطع مواد العطب والهلاك ، فلم يكن لذكر الألف واللام هناك معنى. 

     

    ابن القيم  - بدائع  الفوائد المجلد الثاني ص٣٨٦

     

                     

     

    سورة إبراهيم :

     

    ============

     

    1/ قال سهل التستري في قوله تعالى إبراهيم 11 : (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) قال : بتلاوة القرآن .

     

    ما أحسنَ ما قال ، فإن القرآن حوى جميع العلوم ، فمن قرأه قراءة تدبر وتفهم ، وعمل بمقتضاه فقد حصَّل الغاية القصوى التي ليس لأحد وراءها مرمى .

     

    الإمام القرطبي - التذكار في أفضل الأذكار ص٦٢

     

     

     

    2/ قال تعالى في سورة إبراهيم في وصف ما ينتظر أصحاب النار من العذاب :

     

    (مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) سورة إبراهيم

     

    الصديد : ما يسيل من جلود أهل النار من القيح والدم .

     

    فهل لكم بهذا طاقة ؟!..

     

    أم لكم عليه صبر ؟!..

     

    طاعة الله أهون عليكم يا قوم فأطيعوا الله ورسوله .

     

    قتادة بن دعامة السدوسي .

     

     

     

    3/ قال تعالى في سورة إبراهيم 34: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) ..

     

    ولو ذهبنا نستعرض لطفه سبحانه في نعمه الظاهرة لفنيت الأعمار ولم ندرك لها عداً ويكفي أن نذكر لطفه سبحانه في تيسير لقمة واحدة يتناولها العبد من غير كلفة يتجشمها وقد تعاون على إصلاحها خلق كثير .

     

    من مصلح الأرض وزارعها وساقيها وحاصدها ومنقيها وطاحنها وعاجنها وخابزها، وتيسير مضغها مما وضع الله في الفم من أسنان طاحنة وقاطعة ولسان يدير اللقمة ويسهلها للبلع ولعاب يسهل مرورها في المريء إلى آخر هذه الألطاف الربانية.

     

    عبد العزيز الجليل - ولله الأسماء الحسنى

     

                      

     


     

     

     

    سورة الحجر :

     

    ===========

     

    1/ قال تعالى في سورة الحجر : (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ) ..

     

    فكأنه قال: ولقد آتيناك عظيماً خطيراً فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور الدنيا.

     

    ابن عطية - المحرر الوجيز

     

     

     

    2/ قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) سورة الحجر

     

    فالقرآن هو النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها ، حقيرة ضئيلة ، فعليك أن تستغني به ، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا .

     

    الزمخشري ـ الكشاف .

     

                 

     


     

     

     

    سورة النحل :

     

    ===========

     

    1/ قال تعالى النحل 7: (وّإنَّ اللهَ بِكُم لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) أقرب الخلق إلى الله تعالى أعظمهم رأفة ورحمة، كما أن أبعدهم منه من اتصف بضد صفاته.

     

    ابن القيم - الروح

     

     

     

    2/ قال تعالى :

     

    (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ۙ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) سورة النحل 38

     

    لما سمع عمر بن ذر هذه الآية قال :

     

    ونحن نقسم بالله جهد أيماننا لتبعثن من يموت .

     

    أفتراك تجمع بين أهل القسمين في دار واحدة ؟!.

     

     

     

    3/ قال تعالى : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى) سورة النحل 61

     

    ذكر  أنه لو عاجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع من في الأرض ، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة ، لأن العجلة شأن من يخاف فوات الفرصة ، ورب السماوات والأرض لا يفوته شيء أراده .

     

    الشنقيطي ـ أضواء البيان .

     

     

     

    4/ قال تعالى في سورة النحل 68: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) ..

     

    فتأمل كمال طاعتها وحسن ائتمارها لأمر ربها تعالى، كيف اتخذت بيوتها في الجبال وفي الشجر وفي بيوت الناس حيث يعرشون أي: يبنون العروش وهي البيوت، فلا يرى للنحل بيت غير هذه الثلاثة البتة .

     

    وتأمل كيف أن أكثر بيوتها في الجبال، وهو البيت المقدم في الآية ثم الأشجار وهومن أكثر بيوتها، وأقل بيوتها بينهم حيث يعرشون .

     

    ابن القيم - مفتاح دار السعادة

     

     

     

    5/ قال تعالى في سورة النحل 89 : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) ..

     

    قال الإمام الشافعي : ( فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها ). 

     

    الرسالة ص ١٩

     

     

     

    6/ قال تعالى في سورة النحل 97: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ..

     

    فهذا خبر أصدق الصادقين ومخبره عند أهله عين اليقين بل حق اليقين، فلا بد لكل من عمل صالحاً وهو مؤمن أن يحييه الله حياة طيبة بحسب إيمانه وعمله، ولكن يغلط الجفاة الأجلاف في مسمى الحياة الطيبة حيث يظنونها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح أو لذة الرياسة والمال وقهر الأعداء والتفنن في أنواع الشهوات، ولا ريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم، بل يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان.

     

    ولكن أين هذه اللذة من اللذة بأمر، إذا خالط بشاشته القلوب سلا عن الأبناء والنساء والأوطان والأموال والإخوان والمساكن ورضي بتركها كلها والخروج منها رأسها وعرض نفسه لأنواع المكاره والمشاق وهو متحل بهذا منشرح الصدر به. والمقصود أن الهدى مستلزم لسعادة الدنيا وطيب الحياة والنعيم العاجل.

     

    ابن القيم - مفتاح دار السعادة

     

     

     

    7/ من لطيف ما حضرني وأنا أستشهد في هذا المقام بقوله عز وجل : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل 97

     

    أن أهل القرآن يدخلون في معنى الآية دخولاً أولياً ، وكأنهم المقصودون بذلك ، وكأن سعادتهم وحياتهم الطيبة كانت بإيمانهم وعلمهم بالقرآن وعملهم به وتلاوتهم ، من ثمَّ ناسب أن يأتي بعده مباشرة قوله سبحانه :

     

    ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) النحل 98 .

     

    د عبدالعزيز الحربي - تحزيب القرآن ص٣٢

     

                   

    فهد بن عبد الله الجريوي

    صيد الفوائد


  24. الحمد لله العفو الكريم، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، جعل الحياة الدنيا دارًا للابتلاء والاختبار، ومحلًّا للعمل والاعتبار، وجعل الآخرة دارين، دارًا لأهل كرامته وقربه من المتقين الأبرار، ودارًا لأهل غضبه وسخطه من الكفار والفجار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار، ومن تبِعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار؛ أما بعد:

     

    يا أيها الناس، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33].

     

     

     

    العنصر الأول: حتمية الرجوع إلى الله:

     

    أمة الإسلام، أخرجنا الله تعالى إلى هذه الدار وجعلها دار ابتلاء وامتحان، وأخبرنا أننا إليه راجعون، وأن الدنيا ممرٌّ لا مقر، فقال الله تعالى وهو يحدثنا عن حتمية الرجوع إليه - عَزَّ وَجَلَّ – ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].

     

     

     

    "ترقَّبوا وخافوا يومًا يَردُّكم الله سبحانه وتعالى إليه، فلا تملكون من أموركم شيئًا فيه، فإذا ملكتم المال في الدنيا، ففي هذا اليوم لَا تملكون شيئًا، وإذا ملكتم المنح والمنع اليوم ففي اليوم الآخر لَا تملكون شيئًا، وفي هذا اليوم ﴿ تُوَفَّى كلُّ نَفْسٍ ما كسَبَتْ ﴾؛أي: جزاء ما كسبت إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وكأن ما توفاه عين ما كسبت للمماثلة بين الجزاء والعمل، ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾؛أي لَا ينقصون شيئًا من ثواب ما عملوا، ولا يعاقبون على ما لم يعملوا[1].

     

     

     

    وقال تعالى: ﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [يونس: 4]، ستأتي ربك وستجرع إليه، ولكن على أية حال ترى أنت من السعداء أم أنك من الأشقياء؟ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [طه: 74 - 76].

     

     

     

    العنصر الثاني: التعريف بيوم القيامة:

     

    الشمس كورت، لُفَّت وذهب ضوؤها، النجوم انكدرت وتناثرت، الجبال نُسفت وسيِّرت، فأصبحت كالقطن المنفوش، العشار عطِّلت، الأموال تُركت، التجارات والعقارات والأسهم نُسيت، السماء كُشطت ومُسحت وأُزيلت، البحار سُجِّرت، وإلى كُتَلٍ من الجحيم تحوَّلت، الجحيم سُعِّرت وأُوقدت، والجنة أُزلفت وقُرِّبت.

     

     

     

    ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2].

     

     

     

    إنه يوم القيامة، يومُ الصاخةِ والقارعةِ والطامةِ، ويومُ الزلزلةِ والآزفةِ والحاقة، يومَ يقومُ الناس لرب العالمين، يومٌ عظيم وخَطْبٌ جَسِيم، يوم مقداره خمسون ألف سنة، يجمع الله فيه الخلائق أجمعين، من لدُن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة؛ ليفصل بينهم ويحاسبَهم.

     

     

     

    وتدنو الشمس من الخلائق مقدارَ مِيل، ويفيضُ العرقُ منهم بحسب أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حِقْوَيه، ومنهم يبلغ إلى مَنْكِبَيه، ومنهم من يُلْجِمه العرق إلجامًا، وتبقى طائفة في ظل الله جل جلاله، يوم لا ظل إلا ظله.

     

     

     

    لقد صور الله تعالى لنا يوم القيامة في كتابه بأبدع تصوير وأبلغ تعبيرٍ، حتى إن الذي يقرأ تلك الآيات ليرى القيامة كأنها رأي العين، وتأمل الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابْن عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "‌مَنْ ‌سَرَّهُ ‌أَنْ ‌يَنْظُرَ ‌إِلَى ‌يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ: سُورَةَ هُودٍ"[2].

     

     

     

    العنصر الثالث: الوقاية من أهوال يوم القيامة:

     

    الأول: كن من المتقين تكن من الفائزين:

     

    اعلموا عباد الله أن من أعظم أسباب السلامة من أهوال يوم القيامة - أن ترجع إلى الله وأنت في قافلة المتقين، تأملوا أيها الأحباب إلى تلك القافلة وهي تزف في عرصات يوم القيامة؛ قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ﴾ [مريم: 85، 86].

     

     

     

    يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا، واتَّبعوا رسله، وصدقوهم فيما أخبروهم، وأطاعوهم فيما أمروهم به، وانتهوا عما زجروهم أنه يحشرهم يوم القيامة، وفدًا إليه، والوفد هم القادمون ركبانًا ومنه الوفود، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة، وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه، وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم، فإنهم يساقون عنفًا إلى النار ﴿ وِرْدًا ﴾عطاشًا، وقال ابن أبي حاتم عن ابن مرزوق ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا، قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحًا، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول لا، إلاّ أن الله قد طيَّب ريحك وحسَّن وجهك، فيقول: أنا عملك الصالح، وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا، فهلم اركبني فيركبه، فذلك قوله: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا، قال ابن عباس: ركبانًا، وقال أبو هريرة ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا ﴾، قال: على الإبل، وقال الثوري: على الإبل النوق، وقال قتادة: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا ﴾ قال: إلى الجنة، عن ابن النعمان بن سعيد قال: كنا جلوسًا عند علي رضي الله عنه، فقرأ هذه الآية ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا، قال: لا والله ما على أرجلهم يُحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم ترَ الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة.

     

     

     

    ثانيًا: كن من أهل العدل تكن على منابر من نور:

     

    عباد الله، أما العادلون ففي مقام رفيع، يجلسون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين عن زُهَيْرٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «‌إِنَّ ‌الْمُقْسِطِينَ ‌عِنْدَ ‌اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»[3].

     

     

     

    ثالثًا: كن من المتحابين في ذات الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ: ‌‌«‌أَيْنَ ‌الْمُتَحَابُّونَ ‌بِجَلَالِي؟ ‌الْيَوْمُ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي»[4].

     

     

     

    عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101]، قَالُوا: فَنَحْنُ نَسْأَلُهُ إِذًا، قَالَ: «‌إِنَّ ‌لِلَّهِ ‌عِبَادًا ‌لَيْسُوا ‌بِأَنْبِيَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ وَمَقْعدِهِمْ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: وَفِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ أَعْرَابِيُّ، فَقَامَ فَحَثَى عَلَى وَجْهِهِ وَرَمَى بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْهُمْ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْشَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى، وَقَبَائِلَ شَتَّى مِنْ شُعُوبِ الْقَبَائِلِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا، وَلَا دُنْيَا يَتَبَاذَلُونَ بِهَا، يَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللَّهِ، يَجْعَلُ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ قُدَّامَ الرَّحْمَنِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلَا يَخَافُونَ»[5].

     

     

     

    رابعًا: جاهد نفسك لتكون من أولياء الرحمن:

     

    فهم أهل الأمن والسلامة من أهوال يوم القيامة فمعهم حصانة ربانية، فهم لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ولا يعطشون إذا عطش الناس، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ‌سَبَقَتْ ‌لَهُمْ ‌مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 101-103].

     

     

     

    يقول أبو السعود رحمه الله ﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر، بيان لنجاتهم من الأفزاع بالكلية بعد بيان نجاتِهم من النار؛ لأنهم إذا لم يُحزُنْهم أكبرُ الأفزاع لا يحزنهم ما عداه بالضرورة؛ عن الحسن رضيَ الله عنه أنَّه الانصرافُ إلى النار، وعن الضحاك حتى يطبَقَ على النار، وقيل: حين يُذبح الموتُ في صُورةِ كبشٍ أملحَ، وقيل: النفخةُ الأخيرة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النمل: 87]، وليس بذاك فإن الآمنَ من ذلك الفزع من استثناه الله تعالى بقوله: ﴿ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ [النمل: 87]، لا جميعُ المؤمنين الموصوفين بالأعمال الصالحة، على أن الأكثرين على أن ذلك في النفخة الأولى دون الأخيرة؛ كما سيأتي في سورة النمل: ﴿ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ [الأنبياء: 103]؛ أي: تستقبلهم مهنِّئين لهم، ﴿ هذا يَوْمُكُمُ ﴾ على إرادةِ القولِ؛ أيْ: قائلين هذا اليومُ يومُكم، ﴿ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 103] في الدنيا، وتبشرون بما فيه من فنون المَثوبات على الإيمان والطاعات، وهذا كما ترى صريحٌ في أنَّ المرادَ بالذين[6].

     

     

     

    خامسًا: احذر ذنوب الخلوات فإنها أصل الانتكاسات:

     

    وإذا أردت أخي المسلم أن تقي نفسك من أهوال يوم القيامة، فاحذر ذنوب الخلوات، فإنها أصل الانتكاسات، توهَّم نفسك الآن واقف في عرصات يوم القيامة، وبينما أنت كذلك إذا رأيت رجلًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم معه أعمال كأمثال الجبال من الحسنات، فهذا قيام ليل وهذا صيام رمضان، وهذه صدقات وتلك قراءة للقرآن، وفجأة يجعلها الله تعالى هباءً منثورًا، ترى ما الذي ضيعها، اسمع إلى كلام نبيك صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «‌لَأُلْفِيَّنَ ‌أَقْوَامًا ‌مِنْ ‌أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا», فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا لِكَيْ لَا نَكُونُ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»[7].

     

     

     

    إذا أغلقت دونك الباب، واسْدِلت على نافذتك الستائر، وغابت عنك أعينُ البشر، فتذكر مَنْ لا تخفى عليه خافية، تذكر من يرى ويسمع دبيبَ النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، جل شأنه وتقدس سلطانه، أخشى بارك الله فيك أن تَزِلَّ بك القدم بعد ثوبتها، وأن تنحرف عن الطريق بعد أن ذقتَ حلاوته، واشرأبَّ قلبك بلذته؛ يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "أجمع العارفون بالله بأن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات".

     

     

     

    فهل يفرط موفَّقٌ بصيد اقتنصه، وكنز نادر حَصَّله؟ احذر سلمك الله، فقد تكون تلك الهفوات المخفية سببًا لتعلُّق القلب بها؛ حتى لا يقوى على مفارقتها، فيُختمَ له بها، فيندمَ ولات ساعة مندمٍ؛ يقول ابن رجب الحنبلي عليه رحمة الله: "خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس".

     

     

     

    خامسًا: احذر الغدر فإنه فضيحة يوم القيامة:

     

    أخي في الله، إذا أردت أن تقي نفسك نارًا حرُّها شديد وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد، يوم أن ترجع إلى الله تعالى، فاحذر الغدر فإنه فضيحة على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ‌يُرْفَعُ ‌لِكُلِّ ‌غَادِرٍ ‌لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ"[8].

     

     

     

    والغادر: الذي يواعد على أمر ولا يفي به، واللواء: الراية العظيمة لا يمسكها إلا صاحبُ جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعًا له، فالغادر تُرفع له راية تسجل عليها غدرته، فيُفضَح بذلك يوم القيامة، وتجعل هذه الراية عند مؤخرته؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ ‌عِنْدَ ‌اسْتِهِ ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ»[9].

     

     

     

    وكلما كانت الغدرة كبيرة عظيمة، ارتفعت الراية التي يُفضَح بها في يوم الموقف العظيم؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلَا وَلَا ‌غَادِرَ ‌أَعْظَمُ ‌غَدْرًا ‌مِنْ ‌أَمِيرِ عَامَّةٍ»[10].

     

    سابعًا: لا تظلم أحد لأنك إلى الله تعالى راجع:

     

    أحبتي في الله، إذا علمنا أننا إلى الله تعالى راجعون، وأننا عن أعمالنا مسؤولون، وجب علينا أن نتحلل من المظالم قبل أن نرجع إلى الله تعالى، فالظلم ظلمات يوم القيامة.

     

     

     

    فتوهَّم نفسك عبد الله وأنت واقف بين يدي الله، انظر إلى هؤلاء الذين شخصت أبصارُهم، وصارت أفئدتهم هواءً، يسألون الرجعة فلا يجابون، ترهَق وجوههم الذلة.

     

     

     

    أيها الموحِّدون، تدبَّروا معي هذا المشهد الذي يخلع القلب، تدبَّروا الحديث، عيشوا مع هذا الحديث الذي يكاد يخلع القلب إن تدبرناه ووعيناه، تصوَّر معي هذا المشهد في أرض المحشر، ها هو الظالم في أرض المحشر يقف بين يدي الله في ذلٍّ وخشوع وانكسارٍ، لا يرتد إليه طرفه، شخص ببصره، لا يلتفت أعلى ولا أسفل ولا يَمنة ولا يَسرة، لا يرتد إليه طرفه، وقفز قلبه من جوفه! الشمس فوق الرؤوس، تكاد حرارتها تصهَر العظام، والزحام يكاد يخنق الأنفاس، والعرق يكاد يغرق الناس، وجيء بجهنم ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها! تزفر وتُزمجر غضبًا لغضب الجبار جل وعلا، فإن الله قد غضب في هذا اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، في هذه اللحظات ومع هذا الهول يرى الظالم نفسه وقد أحيط بمجموعة من الناس، من أنتم؟! من هؤلاء؟! هؤلاء هم الذين ظلمهم في الدنيا! ظلم من ظلم ونسِي! فيتعلق المظلومون بالظالم، يتعلق كلُّ مَن ظلمته بك يوم القيامة، يجرونه جرًّا ليوقفوه بين يدي الله جل وعلا، هذا يتعلق به من يده، وهذا يجره من ظهره، وهذا يَجُرُّه من لحيته، يتعلقون به ليوقفوه بين يدي الملك جل جلاله، فإذا ما وقف بين يدي الله تبارك وتعالى، وأذن الله لدواوين المظالم أن تُنْصَبَ، وللقصاص أن يبدأ، يقول هذا: يا رب، هذا شتمني، والآخر يقول: يا رب، ظلمني، والآخر يقول: يا رب، اغتابني، والآخر يقول: يا رب، غشَّني في البيع والشراء، والآخر يقول: يا رب، وجدني مظلومًا وكان قادرًا على دفع الظلم، فجامل ونافق الظالم وتركني، والآخر يقول: يا رب، جاورني فأساء جواري، سترى كل من عاملته في الدنيا - نسيته أو تذكَّرته - قد تعلق بك بين يدي الله جل وعلا، كلٌّ يطالب بحقه، وأنت واقف يا مسكين! ما أشد حسرتك في هذه اللحظات، وأنت واقف على بِساط العدل بين يدي رب الأرض والسماوات، إذا شوفِهت بخطاب السيئات، وأنت مفلس عاجز فقير مهين، لا تملك درهمًا ولا دينارًا، لا تستطيع أن ترد حقًّا، ولا تملك أن تبدي عذرًا، فيقال: خذوا من حسناته إلى من ظلمهم في الدنيا، تنظر إلى صحيفتك التي بين يديك، فتراها قد خلت من حسنات تعِبتَ في تحصيلها طول عمرك، فتصرخ وتقول: أين حسناتي؟! أين صلاتي؟! أين زكاتي؟! أين دعوتي؟! أين علمي؟! أين قرآني؟! أين بري؟! أين عملي الصالح؟! أين طاعاتي؟! فيقال: نقلت إلى صحائف خصومك الذين ظلمتهم في الدنيا! وقد تفنى حسناتك ويبقى أهل الحقوق ينادون الله جل وعلا أن يعطيهم حقَّهم من الظالم، فيأمر الحق سبحانه أن يؤخذ من سيئات من ظلمتهم في دنياك لتُطرح عليك، فتصرخ وتقول: يا رب، هذه سيئات والله ما قاربتها، والله ما عملتها، فيقال لك: نعم، إنها سيئات من ظلمتهم في الدنيا، فتمد عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعلك تنجو في هذه اللحظات ولست بناجٍ؛ لأن الله قد حرم الظلم على نفسه، وحرَّم الظلم على العباد، فيقرع النداء سمعك ويخلع قلبك؛ قال الله جل وعلا: ﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:42-52].

     

     

     

    ثامنًا: احذر أن تُطرَد من حوض صاحب الشفاعة صلى الله عليه وسلم:

     

    يا من يعلم أنه إلى الله راجع، احذر كل الحذر أن تُطرد من حوض صاحب الشفاعة - صلى الله عليه وسلم - توهَّم نفسك الآن وأنت واقف على حوض صاحب الحوض، والناس قد لهثت ألسنتهم من شدة العطش، والحبيب - صلى الله عليه وسلم - يسقي أصحابه، وبينما هو كذلك إذا رأيت الملائكة تَطرُد أقوامًا من على الحوض؛ ينظر النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة إليهم وهم يطردون، تُرى ما الخطأ أو الذنب الذي وقع فيه هؤلاء؟ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ‌سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا، لَيَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ‌ثُمَّ ‌يُحَالُ ‌بَيْنِي ‌وَبَيْنَهُمْ»)[11].

     

     

     

    تاسعًا: الخوف من الله:

     

    معاشر الموحدين، إن الخوف من الله تعالى ومن سخطه، يحمل الإنسان منا على طاعة الله تعالى، والمسارعة إلى فعل الخيرات وترك المنكرات، فالخوف سوطٌ تُساق به النفوس الشاردة عن بابه - سبحانه وتعالى - وهو شرط الإيمان؛ كما أخبر بذلك الملك الديان: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175].

     

     

     

    فهيَّا إخوة الإسلام لنرى كيف سيكون الخوف من الله تعالى سبيلًا من سبل النجاة، فالخوف من الله يرفع الخوف عن الخائف يوم القيامة؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا قَالَ: "‌وَعِزَّتِي ‌لَا ‌أَجْمَعُ ‌عَلَى ‌عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أخفته يوم القيامة"[12].

     

     

     

    عاشرًا: كن من أهل سورتي البقرة وآل عمران:

     

    في ذلك اليوم العظيم العصيب الشديد، والقرآن ظل لأصحابه، بل سورة البقرة وآل عمران تظلان صاحبهما يوم القيامة؛ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ شَافِعٌ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‌اقْرَؤُوا ‌الزَّهْرَاوَيْنِ: ‌الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ يُحَاجَّانِ عَنْ أَهْلِهِمَا"، ثُمَّ قَالَ: "اقْرَؤُوا الْبَقَرَةَ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ"[13]؛ أي: تظلان من قرأهما وحفِظهما، وعقَل معناهما وعمل بهما، فلك من أجر الظل في البقرة وآل عمران بقدر ما معك من مصاحبتهما.

     

     

     


    [1] زهرة التفاسير (2/ 1062).

    [2] أخرجه أحمد (2/ 27) (4806) و(2/ 36) (4934) و(2/ 100) (5755) قال: حدثنا عبد الرزاق. وفي (2/ 37) (4941). والترمذي (3333) انظر: الصحيحة (1081)

    [3] رواه مسلم (1827)، وابن منده في «الرد على الجهمية» رقم (73).

    [4] أخرجه الدارمي (2757)، ومسلم (2566)، وابن حبان (574)، والبيهقي في "الشعب" (8990)، والبغوي (3462).

    [5] أخرجه أحمد (5/ 343، رقم 22957) والطبراني (3/ 290، رقم 3433) قال الهيثمي (10/ 276): رجاله وُثِّقوا.

    [6] إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (6/ 87).

    [7] أخرجه ابن ماجه (2/ 1418، رقم 4245)، قال البوصيري (4/ 246): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، والروياني (1/ 425، رقم 651)، وأخرجه أيضًا الطبراني في الأوسط (5/ 46، رقم 4632).

    [8] أخرجه البخاري (5/ 2285، رقم 5823)، ومسلم (3/ 1359، رقم 1735).

    [9] أخرجه مسلم (3/ 1361، رقم 1738)، وأبو يعلى (2/ 441، رقم 1245).

    [10] أخرجه مسلم (3/ 1361، رقم 1738)، وأخرجه أيضًا أبو يعلى (2/ 419، رقم 1213).

     

    [11] أخرجه البخاري (7050) و(7051) وأخرجه مسلم (2290) و(2291).

     

    [12] أخرجه أيضًا: ابن حبان (2/406، رقم 640)، والدارقطني في العلل (8/38، رقم 1396).

     

    [13] صحيح مسلم (1/ 553 رقم 804).

     

    السيد مراد سلامة

    صيد الفوائد

     

  25. سورة الأنفال :

    ============

    1/ قال الرازي : ( مِنْ أرضى الدعاء أن يُنادي العبد ربه بقوله : يا رب ) .

    ولهذا المعنى فإنه لما كان المشركون مرتابين في أمر محمد عليه الصلاة والسلام منكرين لحق الألوهية لم يرد في دعائهم ( يا رب ) وإنما قالوا : (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) الأنفال : 32

    وليس في القرآن دعاء بقول : ( اللهم ) إلا وهو مقترن باسم آخر من أسماء الله عدا هذه الآية ، ولعل السر في ذلك هو المعنى الذي ذكرناه وهو أن الدعاء كان من غير المؤمنين .

    د. ظافر العمري - مجازات النداء وحقيقته وأغراضهما في الخطاب القرآني - مجلة الشاطبي العدد السادس ص٢٠٩

     

    2/ قال تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) سورة اﻷنفال

    تأمل قوله تعالى لنبيه  : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ..

    كيف يفهم منه أنه إذا كان وجود بدنه وذاته فيهم دفع عنهم العذاب وهم أعداؤه ؟!. فكيف وجود سره ، والإيمان به ، ومحبته ، ووجود ما جاء به إذا كان في قوم أو كان في شخص ؟ ..

    أفليس دفعه للعذاب عنهم بطريق الأولى والأحرى ؟!.

    ابن القيم ـ إعلام الموقعين .

     

    3/ قال تعالى عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) سورة اﻷنفال 33

    فأشارت هذه الآية إلى أن محبة الرسول ، وحقيقة ما جاء به ، إذا كان في القلب ؛ فإن الله لا يعذبه في الدنيا ولا في الآخرة .. وإذا كان وجود الرسول في القلب مانعاً من تعذيبه ، فكيف بوجود الرب تعالى في القلب !!..

    ابن القيم ـ الكلام في مسألة السماع .

     

    4/ قال تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) سورة اﻷنفال

    ما ألهم الله عبدا الاستغفار و هو يريد أن يعذبه .

    إبراهيم بن أدهم - مواعظ إبراهيم بن أدهم جمع صالح الشامي .

    استأجر بكر المزني حمالا فكان هذا الحمال طوال سيره مع بكر يقول استغفر الله الحمد لله يكررها ولا يقول غيرها .

    فقال له بكر : يا هذا أو ما تحسن أن تقرأ شيئا من كتاب الله ؟ قال : بلى والله إني أحسن كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته . و لكني أجد نفسي بين حالين اثنين بين ذنب مني إلى الله صاعد فأستغفر الله منه وما بين نعمة من الله نازلة علي فأحمد الله عليها ... فقال بكر محدثا نفسه : حمال أفقه منك يا بكر .

    عدة الصابرين لابن القيم .

     

    5/ قال تعالى في سورة الأنفال 64: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ)، وقال تعالى في سورة الأنفال 65 : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) ، وقال تعالى في سورة آل عمران 176: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ناداه بالنبي كما ناداه بالرسول في بعض المواضع، ولم يناده باسمه العلمي قط، فإن مواجهة العظماء بأسمائهم ليست من عادة الكرماء.

    القونوي – حاشية القونوي على تفسير البيضاوي

                   


     

    سورة التوبة :

    ===========

    1/ قال تعالى : (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)) سورة التوبة

    المقصود بهذه الآية المشركين ومعلوم أن كل مشرك فاسق فما وجه قوله تعالى (وَأَكْثَرُهُمْ) ؟..

    المراد بالفسق في الآية نوع خاص منه وهو فسق نقض العهود ولا يلزم أن جميع المشركين متصفون به .

    البغوي - معالم التنزيل .

     

    2/ قال تعالى في سورة التوبة 28: (إنَّمَا المُشرِكُونَ نَجّسٌ) نجاسة المشرك عينية؛ ولهذا جعل سبحانه المشرك نَجَساً بفتح الجيم ولم يقل إنما المشركون نجِِس بالكسر فإن النَجَس عين النجاسة والنجِس (بالكسر) هو المتنجس، فأنجس النجاسة الشرك كما أنه أظلم الظلم.

    ابن القيم - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان

     

    3/ قال تعالى عن مانعي زكاة الذهب والفضة في سورة التوبة 35: (يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) ظهر لي في هذه الآية معنى: وهو أن كي هذه المواضع الثلاثة هي أشد على الإنسان من غيرها، وهي متضمنة لجهاته الأربع، الأمام والخلف واليمين والشمال، وهذه الوجوه التي يُخرج منها الإنسان. فلما منعوا الواجب عليهم منعاً تاماً من جميع جهاتهم جوزوا بنقيض مقصودهم.

    السعدي - المواهب الربانية من الآيات القرآنية

     

    4/ قال تعالى في أبي بكر وهجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم : (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) التوبة 40 .. ألا ترى كيف قال : ( لا تَحْزَنْ ) ، ولم يقل : لا تخف ؛ لأن حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم شغله عن خوفه على نفسه .

    السهيلي - الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام المجلد الثاني ص٣١٥

     

    5/ قال تعالى في ذكر مخاطبة رسول الله  لأبي بكر في الغار : (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) سورة التوبة 40

    فإن من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به بقلبه وعمله وإن لم يصحبه ببدنه فإن الله معه .

    ابن القيم - الكلام على مسألة السماع .

     

    6/ قال تعالى في سورة التوبة : (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)  .. في هذه الآيات دليل على أنّ من أسرَّ سريرة خصوصًا السريرة التي يمكر فيها بدينه ويستهزئ به وبآياته ورسوله ؛ فإن الله تعالى يظهرها ويفضح صاحبها ويعاقبه أشد العقوبة .

    الشيخ السعدي - تيسير الكريم الرحمن ص ٦٦٥

     

    7/ قال تعالى في سورة التوبة : (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)) .

    الحزن على فوات الطاعة من ثمرة حبها والاهتمام بها ؛ لأن المرء لا يحزن إلا على ما عز عليه .

    العز بن عبدالسلام - شجرة المعارف والأحوال ص١٣٢

     

    8/ تقديم الأموال على الأنفس في الجهاد وقع في جميع القرءان إلا في موضع واحد قدمت فيه الأنفس وهو قوله تعالى في سورة التـوبة 111: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) .

    فما الحكمة من ذلك ؟..

    تقديم الأنفس هنا هو الأولى؛ لأنها هي المشتراة بالحقيقة وهي مورد العقد وهي السلعة التي استامها ربها وطلب شراءها لنفسه وجعل ثمن هذا العقد رضاه وجنته .والأموال تبع لها فإذا ملك المشتري النفس ملك مالها فإن العبد وما يملكه لسيده .فحسن تقديم النفس على المال في هذه الآية حسناً لا مزيد عليه.

    ابن القيم - بدائع الفوائد

     

    9/ قال تعالى في قصة كعب بن مالك وصاحبيه في غزوة تبوك في سورة التوبة 118: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا) ..

    يتبادر للذهن أن المقصود بالذين خلفوا أي تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل هذا صحيح ؟..

    ليس الذي ذكر مما خلفنا تخلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا .

    كعب بن مالك رضي الله عنه- صحيح البخاري

    قد فسرها كعب بالصواب فليس ذلك تخلفهم عن الغزو؛ لأن الله لو أراد ذلك لقال وعلى الثلاثة الذين تخلفوا.

    ابن القيم - مدارج السالكين

     

    10/ قال تعالى في سورة التوبة : (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)) .

    من تعلم علماً ؛ فعليه نشره وبثه في العباد ونصيحتهم فيه ؛ فإن انتشار العلم عن العالم من بركته وأجره الذي ينمي ، وأما اقتصار العالم على نفسه وعدم دعوته إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وترك تعليم الجهال ما لا يعلمون ؛ فأي منفعة حصلت للمسلمين منه ؟!.. وأي نتيجة نتجت من علمه ؟!.. وغايته أن يموت فيموت علمه وثمرته ، وهذا غاية الحرمان لمن آتاه الله علمًا ، ومنحه فهمًا .

    الشيخ السعدي - تيسير الكريم الرحمن ص٦٩٤

                     


     

    سورة يونس :

    ===========

    1/ قال تعالى في سورة يونس 5: (هُوَ الّذِي جَعَلَ الشّمْسَ ضِياءً وَالقَمَرَ نُوراً) ..

    فجعل الشمس ضياءً لانتفاع الناس بضيائها في مشاهدة ما تهمهم مشاهدته بما به قوام أعمال حياتهم في أوقات أشغالهم.

    وجعل القمر نوراً للانتفاع بنوره انتفاعاً مناسباً للحاجة التي قد تعرض إلى طلب رؤية الأشياء في وقت الظلمة وهو الليل .

    ولذلك جعل نوره أضعف لينتفع به بقدر ضرورة المنتفع فمن لم يضطر إلى الانتفاع به لا يشعر بنوره، ولا يصرفه ذلك عن سكونه الذي جعل ظلام الليل لحصوله.

    محمد الطاهر بن عاشور ـ التحرير والتنوير

     

     

    2/ ذكر الله الرياح في القرآن جمعاً ومفردة، فحيث كانت في سياق الرحمة أتت مجموعة وحيث وقعت في سياق العذاب أتت مفردة ..

    وسر ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمهاب والمنافع وإذا هاجت منها ريح أُنشأ لها ما يقابلها ما يكسر سورتها ويصدم حدتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات ..

    وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرها حتى تنتهي إلى حيث أُمرت. ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ) سورة يونس 22 ..

    فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الإفراد؛ لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها. فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد تسيرها فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح. وأكد هذا المعنى بوصفها بالطيب دفعاً لتوهم أن يكون ريحاً عاصفة بل هي مما يفرح بها لطيبها . فلينزه الفطن بصيرته في هذه الرياض المونقة المعجبة التي ترقص القلوب لها فرحاً ويغتذي بها عن الطعام والشراب فالحمد لله الفتاح العليم . فتبارك من أحيا قلوب منشاء من عباده بفهم كلامه، وهذه المعاني ونحوها إذا تجلت للقلوب رافلة في حللها، فإنها تسبي القلوب وتأخذ بمجامعها.

    ابن القيم – بدائع الفوائد

     

    3/ قال تعالى عن القرآن في سورة يونس 57: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) .

    وقال تعالى عن العسل في سورة النحل 69 : (فِيهِ شِفَاءٌ للنّاسِ) ..

     لم يصف الله في كتابه بالشفاء إلا القرآن والعسل فهما الشفاءان .

    القرآن شفاء القلوب من أمراض غيها وضلالها وأدواء شبهاتها وشهواتها .

    والعسل شفاء الأبدان من كثير من أسقامها وأخلاطها وآفاتها .

    ولقد أصابني أيام مـقامي بمكة أسقام مختلفة ولا طبيب هناك ولا أدوية فكنت استشفي بالعسل وماء زمزم ورأيت فيهما من الشفاء أمراً عجباً .

    وتأمل إخباره سبحانه وتعالى عن القرآن بأنه نفسه شفاء وقال عن العسل فيه شفاء للناس وما كان نفسه شفاء أبلغ مما جعل فيه شفاء.

    ابن القيم - مفتاح دار السعادة

     

    4/ قال تعالى في سورة يونس 94: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ) ..

    في الآية تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم.

    البيضاوي - تفسير البيضاوي

               


     

    سورة هود :

    =========

    1/ قال تعالى في سورة هود : (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) سورة هود 90

    وقال سبحانه في سورة البروج : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) سورة البروج 14

    ما ألطف اقتران اسم الودود بالرحيم وبالغفور .

    فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبه وكذلك قد يرحم من لا يحبه والرب تعالى يغفر لعبده إذا تاب إليه و يرحمه و يحبه مع ذلك فإنه يحب التوابين .

    ابن القيم - التبيان في أيمان القرآن

    2/ قال تعالى : (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) سورة هود 113

    وإذا كان الوعيد في الركون إلى الظلمة فكيف حال الظلمة أنفسهم ؟!..

    نسأل الله العافية من الظلم .

    السعدي ـ تيسير الكريم الرحمن .

     

    3/ قال عثمان التميمي : رأيت جريراً وما يَضُم شفتيه من التسبيح فقلت له :

    وما ينفعك هذا وأنت تقذف المحصنات ؟.. فقال : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ( إنَّ الحَسَناتِ يُذهِبنَ السّيئَاتِ ) هود : 114 وعدٌ من الله حق .

    الصفدي - الوافي بالوفيات المجلد الحادي عشر ص81

     

                 

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×