اذهبي الى المحتوى

امانى يسرى محمد

العضوات
  • عدد المشاركات

    7675
  • تاريخ الانضمام

  • تاريخ آخر زيارة

  • الأيام التي فازت فيها

    60

مشاركات المكتوبهة بواسطة امانى يسرى محمد


  1.  


    1- طول العمر نعمة لا تُقدّر بثمن ، فكم من حبيب واريته الثرى ، وكم قريب دفنته البِلى ، فزادك الله بعدهم عمراً ، وأمدك بالحياة ، فاقدر هذه النعمة حق قدرها ، واغتنمه بما ينفعك .

    2- احمد الله على نعمة الإسلام ، فبها النجاة من النّار ودخول الجنّة ، فكم من سكّان الأرض من يسجد لبقرة ، ومن يدعو حجرة ، وأنت تسجد للواحد الصمد .

    3- اغتنم زيادة العمر واعمل على تقوية إيمانك ، فليس مثل الإيمان منزلة عند الله ، والنّاس تتفاوت منازلهم عند ربهم بالإيمان والعمل الصالح ؛ فاعقد العزم على أداء فرائض الله ، وأتبعها بالسنن ، فزيادة العمر مهلة تزداد بها الحجة عليك إن لم تُطع فيه ربك .

    4- غيّر كل طبع تكرهه من نفسك كسوء خلق ، وفظاظة قول ، وسوء عشرة ( وكن هيّناً ليّناً سهلاً ) فهؤلاء هم أهل الجنّة .
    حسّن معاشرتك للنّاس ، فأنتَ بالنّاس مادمت تعيش بينهم ؛ فجامل ، وتبسّم ، ولطّف منطقك ، واعف ، وتغافل ..تعش أطيب حياة


    5- كن مغتنماً لزمانك ولا يضيعُ عليك سبهللا ، فما خسر المرء شيئاً كخسارة الوقت ، ولا أتقن العبد أمراً كإتقانه إدارة الزمان .

    6- وازن بين الحقوق فهناك حقٌ لربك ، وحقٌ لوالديك ، وحقٌ لولدك ، وحقٌ لنفسك ..فأعط كل ذي حق حقه .

    7- احرص على زيادة العلم - فما رُفع أحدٌ بمثل العلم - فكن طالباً له ، كثير القراءة ، تشارك الأذكياء بعقولهم ، وتكسب خبرات صفوة الخلق ، واجتهد أن تضيف شيئاً في عامك ، وارتق في أهدافك ، وأعلى الأهداف ماقرّبك إلى ربك ، وأعلى منزلتك ، وزكت به نفسُك .

    8- روّح عن نفسك بالمباح ، فالترويح سبيل للجِدِّ بعده ، وإذا روّحت عن ووالديك وولدك وصديقك فاحتسب ذلك عند الله ليكون لك طاعة .

    9- اجتهد أن تكون لك كل خبيئة عمل صالح لا يعلم به أحدٌ إلا الله ، واكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك ، ولا تظهرها إلا في حال المصلحة الراجحة ، وأنسب الفضل لأهله .

    10- لا يكن عامك الحالي كعامك السابق ( فأنتَ في عام جديد ، فأضف إليه جديداً ) وزيادة العمر يعني نقصانه ، فليكن كل يوم جديد بالنسبة لك فرصة للتزوّد من الخيرات ، فلن ترحل من الدنيا بمثل الحسنات والباقيات الصالحات .

    11- واقعك الإجتماعي لابد من النظر فيه ، فإن كنتَ مقصراً في صلة رحمك ، أو حقوق جارك فاجتهد أن تصلحه ، فالصلة بركتها في الدارين ، وحُسن الجوار طيب في الحياة وأحدوثة جميلة عنك بعد الممات .

    12- كن جاداً في التعامل مع وسائل التواصل ، فلا يختلف اثنان أنّها اصبحت السارق الأعظم للوقت ، والمضيّع الأكبر لكثير من فرص الخير من طلب علم وقراءة قرآن بل زاحمت واجبات كثيرة كبِّر الوالدين ، ورعاية حق زوج وولد ، فتعامل معها بجدية وانضباط لئلا تكون سبباً لضياع زمانك وتفريطك بواجباتك .

    13- لا يحمل قلبك كل يوم إلا التفائل الحسن ، والظنّ الجميل بربه ، فالله كريم لطيف رحيم ، سيحقق الله لك الأماني ، وسترى ما تُحب ولئن تأخرتْ قليلاً فإنّك لا تدري ما هو الأصلح لك .
    ولئن أصابك ضر فما بعده خير ، ولئن غشيك مكروه فأيقن أنّ العاقبة أجمل .


    14- ابتعد عن اليأس في حياتك ، فمهما فشلت في مشاريع ، فأمامك الفرص قائمة ، لن تنتهي الدنيا بفقدان زوج ، أو فشل في دراسة ، أو خسارة تجارة ..
    لا زالت فرص النجاح تملأ حياتك ، وماعليك إلا الإستفادة من تجاربك وتصحيح الأخطاء ، والعزيمة على تحقيق مرادك ، واستعن بالله ولا تعجز .


    15- في كل حوائجك ، وفي كل أمر من أمورك كن كثير اللجوء إلى الله ، عظيم الاضطرار له ( وهذه الوصية جامعة ومهيمنة على جميع ماقبلها من الوصايا ) فكن أفقر الخلق لربك ، وأحوجهم لمولاك ، وأصدقهم طلباً ، وأحسنهم ظناً به ، وأبشر بعطايا لا تتخيلها .

    وفقك الله ، ورضي عنك ، وجعل مابقي من عمرك خير لك ممّا مضى ، وأبعد عنّا وعنك كل شر ، وختم لنا ولك بخير .
    وعام سعيد وعمر مديد بعطايا الرحمن .
     

    كتبه

    عادل بن عبدالعزيز المحلاوي
     
    صيد الفوائد

  2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات : 11]

    أيها الساخر : احفظ لسانك فالميزان سماوي لايحدده جاه او مال أو جمال بل يحدده قلب تقي نقي ..

    يقول الله تعالى(ويل لكل همزة لمزة) لكل من يحتقر الناس ويناديهم بغير أسمائهم فيسوء لهم سماعها ..(ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) هل يرضيك ان تكون ظالما ياعزيزي ؟! أخوك هو انت في موازين هذا الدين العظيم والمسلمون نفس واحده ، فهل تؤذي نفسك ؟!

    هناك كلمات وصفات يتداولها العامة ونعتبرها عادية .. ولو مزجت بماء البحر للوثته؟!!
    هي سهله على ألسنتنا لكنها عظيمة عند الله .. وكم يقال ويقال من كلام قاسي فيه احتقار واستهزاء ، وكم نلوث من بحار ونحن لاندري ونقع في خطايا ونحن غافلون ...
    لنمسك علينا ألسنتنا ونتذكر
    (وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصاد ألسنتهم)
    اللهم أمسك علينا ألسنتنا لاتنطق إلا بطاعتك .. ا
    للهم رضاك ..



    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (11)

               1- (لا يَسخرْ قومٌ من قومٍ عسىٰ أن يكونوا خيراً منهم .. ) وكم من مسخور به.. خيرٌ من الساخر!! / نايف الفيصل
    2-  (ﻻ يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم) سنة الله : رفع (المسخور) منه إن صبر واتقى /عقيل الشمري
    3-  ( ولا تنابزوا بالألقاب ) "روي عن ابن عباس قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله . -البغوي-" / أبو حمزة الكناني
              4-  " ولا تلمزوا أنفسكم " احتقار الآخرين احتقار لإنسانيتك الموزعة في شخوصهم. / عبد الله بلقاسم
               5- (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الظلم ليس سفك الدماء ونهب أموال الشعب فقط ، قد يكون المرء ظالما ولم يكلم أحدا./ وليد العاصمي
    6- }ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن{أفرد النساء بالذكر مع أنهن يدخلن في عموم قوله "لايسخر قوم من قوم" لأن السخرية منهن أكثر والله أعلم/ أبوحمزة الكناني
                7-  لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم" قد يكون خيراً عند ربك منك وأنت تضاعف له الحسنات وتستزيد لنفسك بضاعة مزجاة/ خواطر قرآنية
               8 -﴿لايسخرقوم من قومٍ عسى أَن يكونواخيرًامنهم﴾ أيهاالساخرأحفظ لسانك؛فالميزان سماوي لايحدده جاه أومال أوجمال،بل يحدده قلب تقي نقي / ابراهيم العقيل
               9 -   كلما ظن المفتونون أنهم قطعوا شوطا بتمجيد أخلاق الغرب ولمز أخلاق المسلمين صُعِقوا بفضيحة تردهم إلى نقطة البداية(بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) / سعود الشريم

    تأملات قرىنية
    حصاد التدبر


    52276880_342710066331821_7760199257474203648_n.jpg?_nc_cat=111&_nc_sid=8bfeb9&_nc_ohc=gLm-B78I_voAX_aqJI_&_nc_ht=scontent.fcai2-2.fna&oh=723d384727e53f7bddd71e1f0d4219fc&oe=5F654EF4


  3. الربع السابع من سورة الأنعام


    الآية 111: ﴿ وَلَوْ أَنَّنَا ﴾ أجَبْنا طلب هؤلاء المشركين، فـ ﴿ نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ ﴾ من السماء، ﴿ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى ﴾: يعني وأحيينا لهم الموتى، فكلموهم وشَهِدوا لهم بصِدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ﴾: أي ولو جمعنا لهم كل شيء طلبوه، فرأوه بأعينهم: ﴿ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ﴾ بما دعوتَهم إليه أيها الرسول ﴿ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ ذلك، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾ أن التوفيق للإيمان وقَبول الحق، إنما هو بيد الله تعالى وحده، وليس بأيديهم (كما يزعمون أنهم سيؤمنون لو رأوا الآيات).

    الآية 112، والآية 113، والآية 114: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني وكما ابتليناك أيها الرسول بأعدائك من المشركين: ﴿ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ﴾: أي ابتلينا كل نبي بأعداء متمردين من قومه، وبأعداء متمردين من الجن، وهؤلاء المتمردون من الجن والإنس ﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾: أي يُلقي بعضهم إلى بعضٍ القولَ الباطل الذي زيَّنوه وحَسَّنوه وانتَقَوا له أحسن العبارات، لِيَغترَّ به سامِعُه، فيَضِل عن سبيل الله، ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾: يعني ولو أراد ربك لَحالَ بينهم وبين تلك العداوة، ولكنه ابتلاءٌ من الله لأنبيائه ليَرفع درجتهم، فما شاءه الله تعالى كان، وما لم يشأه لم يكن، ﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾: أي فاتركهم وكَذِبهم وتزيينهم للباطل، (وفي هذا تصبيرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم).

    وقد كان إيحاء شياطين الجن والإنس وتزيينهم للباطل: لِيَغترَّ به المشركون، ﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ ﴾: أي ولِتميل إليه ﴿ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ ﴾، ولا يعملون لها، ﴿ وَلِيَرْضَوْهُ ﴾: يعني ولِتحبَّه أنفسهم، ﴿ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾: أي ولِيكتسبوا ما هم مكتسبون من الشرك والمعاصي، وذلك نتيجةً لاقتناعهم بهذا الباطل المُمَوَّه المُزَيَّن، ففَعلوا ما تشتهيه أنفسهم، وما كانت تأمرهم به أهواؤهم، (وفي هذا تهديدٌ عظيم لهم).

    ثم قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ﴾: يعني أغيرَ اللهِ أطلبُ حَكَمًا بيني وبينكم في أني رسولٌ من عنده، ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ﴾: يعني وهو سبحانه الذي أنزل إليكم القرآن مُبَيَّناً واضحاً، فأيُّ شيءٍ يَغلب آيات القرآن في قوة الحُجَّة والبيان، هذا أولاً، وثانياً: ﴿ وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾: يعني وعلماء بني إسرائيل الذين آتاهم الله التوراة والإنجيل ﴿ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ ﴾: يعني يعلمون علمًا يقينيّاً أن هذا القرآن مُنَزَّلٌ عليك أيها الرسول ﴿ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ فهم مُقِرُّون ومعترفون بأنَّ ما يَنفيهِ المشركون هو حَقٌّ لا شك فيه، ﴿ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾: أي فلا تكونَنَّ من الشاكِّين في هذا الحق، بل تفكَّرْ فيهِ وتأمّلْ، حتى تصِل بذلك إلى اليقين، لأن التفكُر فيه- لا مَحالة- دافعٌ للشكّ، مُوصِلٌ لليقين، (وهذا- وإن كانَ خِطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم- فهو مُوَجَّهٌ للأمّةِ عموماً).

    الآية 115: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾ -وهي القرآن- ﴿ صِدْقًا ﴾ في الأخبار والأقوال، ﴿ وَعَدْلًا ﴾ في الأحكام، فـ ﴿ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾: أي فلا يستطيع أحد أن يبدِّل كلماته الكاملة، لا بالزيادة ولا بالنقصان، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾، ونظير قوله تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾، ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ السَّمِيعُ ﴾ لِمَا يقول عباده، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بظواهر أمورهم وبواطنها، والكل تحت قهره وسلطانه، فلا يتحركون إلا بمشيئته وإرادته، فلِذا لن يكون إلا ما يريدُ سبحانه.

    واعلم أنَّ قوله تعالى:  ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾: أي وقضى ربك أنها ستكون تامة، والمعنى: أي تَمَّ القرآن في كَوْنِهِ مُعجِزًا دالَّاً على صِدق محمد عليه الصلاة والسلام، وأنَّ كلماته كافية في بيان ما يحتاج إليه المُكَلَّفون- عِلمًا وعَملًا- إلى يوم القيامة.

    الآية 116: (﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: يعني ولو فُرِضَ أيها الرسول أنك أطعتَ أكثرَ أهل الأرض، فأخذت بآرائهم واستجبتَ لاقتراحاتهم: لأضلُّوك عن دين الله، والسبب في ذلك أن أكثرهم لا بصيرةَ له، ولا علم يَهتدي به، وكل ما يقولونه هو هوى النفس، ووسوسة الشيطان، و﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾: أي وما يسيرون إلا على ما ظنوه حقًّا بتقليدهم لآباءهم، ﴿ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾: يعني وما هم إلا يَكذبون في هذا الظن الناتج عن التخمين، وتقليد الآباء بدون علم أو دليل.

    الآية 118: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾: أي فكلوا أيها المسلمون من الذبائح التي ذُكِرَ اسمُ الله عليها عندَ ذَبْحها ﴿ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ حَقَّ الإيمان.

    الآية 119: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا ﴾: يعني وأيُّ شيء يمنعكم من أن تأكلوا ﴿ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾: يعني وقد بَيَّن سبحانه لكم جميع ما حَرَّمَ عليكم ﴿ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾: أي إلا ما دَعَتْ إليه الضرورة من أكل شيءٍ من المُحَرّمات فإنه مباحٌ لكم، كَمَن خاف على نفسه الهلاك من شدة الجوع (بشرط أن يكون غيرَ طالبٍ للمُحَرّم- لِلذّةٍ أو غير ذلك، ولا مُتجاوز- في أكلِهِ- ما يَسُدّ حاجته ويرفع اضطراره)، ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا ﴾ من الضالين ﴿ لَيُضِلُّونَ ﴾ أتباعهم عن سبيل الله في تحليل الحرام وتحريم الحلال، فيُفتونهم ﴿ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾ الذين يتجاوزون حدوده، وهو الذي يتولى حسابهم وجزاءهم.

    الآية 120: ﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾: يعني واتركوا -أيها الناس- جميع المعاصي، ما كان منها علانية، وما كان سرًّا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ﴾: يعني إن الذين يفعلون المعاصي سيُعاقِبهم ربهم يوم القيامة، بسبب ما كانوا يعملونه من السيئات، ولا ينجو منهم إلا من تاب، وقَبِلَ الله توبته، (فلذلك ينبغي للعبد أن يَبذل غاية جهده لِتَصِحّ توبته، حتى يقبلها الله تعالى).

    الآية 121: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾: يعني ولا تأكلوا من الذبائح التي لم يُذكَر اسمُ الله عليها عند الذبح، (كالميتة، وما ذُبِحَ للأصنام والأولياء والجن، وغير ذلك)، ﴿ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾: يعني وإنّ الأكل من تلك الذبائح لَخُروج عن طاعة الله تعالى، ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ ﴾: يعني وإنّ شياطين الجن لَيُلْقون بالشبهات حول تحريم أكل الميتة ﴿ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ﴾ من شياطين الإنس ﴿ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾ بهذه الشبهات، ﴿ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ﴾ في تحليل الميتة فـ ﴿ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾: أي فأنتم وَهُم في الشرك سواء، لأنهم أحَلُّوا لكم ما حَرَّمَ اللهُ عليكم فاعتقدتم حِلَّه، فكنتم بذلك عابدِيهم، لأن التحريم والتحليل مِن حق الرب وحده، لا مِن حق غيره، (وفي الآية دليل على أنّ مَن استحلَّ شيئاً مما حَرَّمَ الله تعالى: صارَ به مشركاً).

    الآية 122: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا ﴾ في الضلالةِ هالكاً حائراً ﴿ فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾: أي فأحيينا قلبه بالإيمان، ووفقناه لاتباع الرسل، ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾: يعني فأصبح يعيش بين الناس في أنوار الهداية، فهل هذا ﴿ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾: أي هل يتساوى هذا مع مَن يعيش في الجهالات والأهواء والضلالات، وهو ﴿ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾: أي وهو لا يهتدي إلى مَخرج من هذه الظلمات، ولا مُخلِّصَ له مما هو فيه؟ لا يستويان أبداً، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني وكما خُذِلَ هذا الكافر الذي يجادلكم، فزُيِّنَ له سُوءُ عمله فرآه حَسنًا: ﴿ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾: أي زُيِّنَ للجاحدين أعمالهم السيئة، لِيستوجبوا بذلك العذاب.

    الآية 123: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني ومِثلُ هذا الذي حصل مِن زعماء الكفار- في "مكة"- مِن الصدِّ عن دين الله تعالى: ﴿جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا﴾: أي جعلنا في كل قرية مجرمين، يتزعمهم أكابرهم، واعلم أن الأكابر جمع (أكبر)، وهم الرؤساء والعظماء، وقد خُصُّوا بالذكر لأنهم أقدر على الفساد والإفساد من عامة الناس، ﴿ لِيَمْكُرُوا فِيهَا ﴾: أي ليمكروا في هذه القرية بفِعل المنكرات والدعوة إلى ارتكابها، وبإفساد عقائد الناس وأخلاقهم وصَرْفِهِم عن الهدى بتزيين الباطل لهم، ﴿ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾، لأن عاقبة المكر تعودُ على الماكر بالعقوبة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾.

    الآية 124: ﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ ﴾: يعني وإذا جاءت حجة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المشركين من أهل مكة: ﴿ قَالُوا ﴾: أي قال بعض كبرائهم: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾: يعني لن نصدِّق بنبوته حتى يعطينا الله من النبوة والمعجزات مثل ما أعطى رسله السابقين، كعصا موسى وغيرها، قال الوليد بن المغيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت النُبُوَّة حقاً، لَكُنتُ أوْلَى بها منك، لأني أكبرُ سناً وأكثر منك مالاً)، وقال أبو جهل: (والله لا نرضى به أبداً، ولا نتبعه إلاَّ أن يأتينا وحيٌ كما يأتيه).

    فردَّ الله تعالى عليهم هذا العُلُوّ والتكبر بقوله: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾: يعني الله أعلم بالذين يستحقون حَمْلَ رسالته وتبليغها إلى الناس، فإنه سبحانه يجعلها في القلوب المشرقة والنفوس الزكية، لا في القلوب المظلمة والنفوس الخبيثة، و﴿ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ﴾: يعني وإن هؤلاء المجرمين -الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي، وأجرموا على غيرهم حيث أفسدوا قلوبهم وعقولهم- سوف يصيبهم ﴿ صَغَارٌ ﴾ أي ذل ومَهانة ﴿ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ يوم يلقونه، ﴿ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾: يعني ولهم عذابٌ قاسٍ لا يُطاقُ في نار جهنم بسبب كَيدهم للإسلام وأهله، وبسبب تضليلهم للناس.

    واعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أحياناً توقَدُ له النار، فيُقرِّب منها يديه، ثم يُبعِدهما إذا (لَسَعَتْهُ) ويقول: (ألَكَ على هذا صبرٌ يا بنَ الخطاب؟)، وذلك بمثابة التطبيق العملي لقوله تعالى- وهو يتحدث عن النار-: ﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ﴾- (أي تُذَكِّرُ المؤمن بنار الآخرة، التي تعادل سبعين ضعفاً من نار الدنيا)- ﴿ وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ﴾ (أي ويتمتع بها المسافرون بالدفء والنور وطهي الطعام).

    ومِن لطيف ما يُذكَر أن أحد الأخوة كان يتعمد أن يستغفر وهو يُمسِك بكوب (الشاي) الساخن، حتى يَحْمَرّ وجهه من سخونة الكوب، فيتركه، ثم يُمسكه مرة أخرى ويستغفر، وعندما سُئِلَ عن ذلك قال: (إنني عندما أشعر بِحَرّ النار: يَخرج الاستغفار من قلبي- بندمٍ شديد- على كل ذنبٍ فعلتُهُ في حق الله تعالى، لأنني لا أتحمل عذابه).

    الآية 125: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ ﴾: يعني فمَن يَشأ الله أن يوفقه لقَبول الحق: ﴿ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ﴾ ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾: أي يجعل صدره في حالة شديدة من الانقباض عن قَبول الهدى، كحال مَن يصعد في طبقات الجو العليا، فيُصاب بضيق شديد في التنفس، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني وكما يجعل الله صدور الكافرين شديدة الضيق والانقباض: ﴿ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ ﴾ أي العذاب ﴿ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ بآياته.

    الآية 126، الآية 127: ﴿ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ﴾: يعني وهذا الذي بيَّنَّاه لك أيها الرسول هو الطريق الموصل إلى رضا ربك وجنته، ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾: أي قد بينَّا البراهين لمن يتذكر من أهل العقول الراجحة، وهؤلاء ﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾: أي لهم يوم القيامة عند ربهم دار السلامة والأمان من كل مكروه وهي الجنة، ﴿ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾: أي وهو سبحانه متوليهم بالنصر والتأييد في الدنيا، وبالإنعام والتكريم في الآخرة، جزاءً لهم بسبب أعمالهم الصالحة.

     

    تفسير الربع الثامن من سورة الأنعام بأسلوب بسيط


     
    الآية 128: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ﴾: يعني واذكر أيها الرسول يوم يحشر الله الكفار مع أوليائهم من شياطين الجن فيقول: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ﴾: أي قد أضللتم كثيرًا من الإنس، ﴿ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ ﴾ كفار ﴿ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ﴾: أي قد انتفع بعضنا من بعض، ﴿ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ﴾: أي وبَلَغْنا الأجل الذي أجَّلْتَه لنا بانقضاء حياتنا في الدنيا، ﴿ قَالَ ﴾ الله تعالى لهم: ﴿ النَّارُ مَثْوَاكُمْ ﴾: أي مكان إقامتكم ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾: يعني إلا مَن شاء اللهُ عدم خلوده فيها من عُصاة الموحدين، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾.

    الآية 129، الآية 130: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني وكما سَلَّطْنا شياطين الجن على كفار الإنس، فكانوا أولياء لهم:  ﴿ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا ﴾: أي نُسلِّط الظالمين - من الإنس - بعضهم على بعض في الدنيا، جزاءً ﴿ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ من المعاصي.

    • ثم يخاطب اللهُ مُشرِكي الجن والإنس قائلاً: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ﴾ واعلم أن النصوص الواردة في القرآن والسُنَّة تدلُّ على أنَّ الرسل كانت من الإنس فقط، وأما الجن فكان منهم دُعاةٌ لقومهم، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني داعِيَ الجن فأتيتُهم فقرأتُ عليهم...) (انظر صحيح الترمذي: ج5 /382).

     وهؤلاء الرسل كانوا ﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾: يعني كانوا يُخبرونكم بآياتي الواضحة المشتملة على الأمر والنهي وبيان الخير والشر، ويحذرونكم لقاءَ عذابي يوم القيامة؟ ﴿ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا ﴾ بأنّ رُسلك قد بلَّغونا آياتك، وأنذرونا لقاء يومِنا هذا، فكذبناهم، ﴿ وَغَرَّتْهُمُ ﴾: أي وخدعَتْهم ﴿ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ بزينتها ﴿ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾.

    الآية 131: ﴿ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ ﴾: أي ذلك الإنذار إلى الجن والإنس بإرسال الرسل وإنزال الكتب، كان لأجل أنه تعالى لم يكن مِن شأنه ولا مِن حِكمته أن يكون ﴿ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ ﴾ منه سبحانه، ولا بظلمٍ منهم (وهو الشرك والمعاصي)،  ﴿ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴾ لم يُؤمَروا ولم يُنهَوا، ولم يَعلموا بعاقبة الظلم وما يَحِلّ بأهله من عذاب، ولكنه سبحانه أنذر الأمم من أجل إقامة الحُجَّة عليهم، وما عَذَّبَ أحدًا إلا بعد إرسال الرسل إليهم.

    واعلم أن كلمة: ﴿ أَنْ ﴾ المذكورة في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ ﴾ تسمى: (أنْ المُخَفَّفة من الثقيلة)، يعني كأنها كانت: ﴿ أَنّ ﴾ التي عليها شَدَّة، ولكنها خُفِّفَتْ فصارت: ﴿ أَنْ ﴾ التي عليها سكون، وعلى هذا يكون المعنى: ﴿ ذلك لأنَّه لم يكن رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْم ﴾، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا ﴾، والمعنى: (وَنُودُوا أَنَّ هذه الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا).

    الآية 132: ﴿ وَلِكُلٍّ ﴾: يعني ولِكُلّ عامل في طاعة الله تعالى أو معصيته: ﴿ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾: أي مراتب يُبَلِّغه الله إياها - بسبب عمله -، ويُجازيه عليها، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾.

     الآية 133:  ﴿ وَرَبُّكَ ﴾ هو ﴿ الْغَنِيُّ ﴾ عن خَلقه، وكل خَلقه محتاجون إليه، وهو سبحانه ﴿ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ الواسعة، ومع ذلك فـ  ﴿ إِنْ يَشَأْ ﴾ سبحانه إهلاككم بسبب عصيانكم وتمَرُّدِكم: ﴿ يُذْهِبْكُمْ ﴾ ﴿ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ ﴾: يعني ويُوجِدُ قومًا غيركم يَخلفونكم من بعد فنائكم، ويعملون بطاعته تعالى ﴿ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ﴾: يعني وذلك كما أوجدكم أنتم مِن نَسل قومٍ آخرين كانوا قبلكم.

    الآية 134: ﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ ﴾: يعني إنَّ الذي يَعدكم به ربكم أيها المشركون - من مَجِيء السَّاعة، ومن العذاب الذي ينتظركم - لَواقعٌ بكم لا محالة، ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾: يعني ولن تُعجِزواربكم إذا ظننتم أنكم ستهربون عند مجيء ذلك الوعد، فهو قادرٌ سبحانه على إعادتكم وإن صرتم ترابًا وعظامًا.

    فالوعدُ آتٍ وأنتم لا تستطيعون الهرب منه، ولا يَقدر أحدٌ أن يمنعَ اللهَ تعالى مِن تحقيق ما وعد، فاللهُ غالبٌ على أمره، يفعل ما يريد، لأنه لا إله إلا هو، فإذا وعد، فلابد أن يتحقق وعده، وأما الذي يُخلِفُ الوعدَ من الخَلق، فهذا أمرٌ مُتوَقَّع منه، لأنه ربما يكون قد وَعَدَ بشيء - كانَ يَظن أنه في إمكانه فعله - وبعد ذلك خرج هذا الشيء عن حدود إمكانياته، فهو ليس له سيطرة على الأشياء، أما إذا كانَ مَن وَعَدَ قادرًا، ولا يوجد إلهٌ آخر يُناقضه فيما وَعَدَ به، فلابد أن يتحقق وعده ووعيده.

    ولذلك حينما يَحكم اللهُ حُكمًا ما، فالمؤمن يأخذ هذا الحكم قضية مُسَلَّمة؛ لأنه لا إلهَ مع الله سيُغَيِّر هذا  الحكم، ومثالُ ذلك أنه تعالى قال عن أَبِي لَهَبٍ: ﴿ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾، وهذا وَعيدٌ من الله تعالى في أمرٍ - لهم فيه اختيار -، ومع ذلك لم يُسلموا، لأنه لا يوجد إلهٌ سواه لِيُغير ما أخبرَ به.

    الآية 135: ﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ﴾: أي اعملوا على طريقتكم - التي أنتم عليها من مخالفتي وعداوتي - بكل ما أوتيتم من قوة، فـ ﴿ إِنِّي عَامِلٌ ﴾ على طريقتي التي شرعها لي ربي جَلّ وعَلا، ولن أتركها مهما فعلتم، ثم هَدَّدَهُم تعالى بقوله: ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ - عند حلول العذاب بكم - ﴿ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ : أي مَنِ الذي ستكون له العاقبة الحسنة؟ ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾: يعني: إنه لا يفوز برضوان الله وجَنَّتِه مَن تجاوزَ حَدَّهُ وظَلم، فأشركَ مع اللهِ غيره.

    الآية 136:  ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا ﴾: يعني وجعل المشركون لله تعالى جُزءًا مما خلق من الزروع والثمار والأنعام يقدمونه للضيوف والمساكين ﴿ فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ﴾، ﴿ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ﴾أي وجعلوا جُزءًا آخر من هذه الأشياء لشركائهم من الأصنام، ﴿ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ﴾: يعني فما كان مُخَصَّصًا لشركائهم فإنه يَصِل إليها وحدها، ولا يُعطون منها للضيوف والمساكين، ﴿ وَمَا كَانَ لِلَّهِ ﴾: يعني وما كان مُخَصَّصًا لله تعالى ﴿ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ﴾: أي فإنهم يذبحون منه للأصنام، ﴿ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾: أي بئس حُكم القوم وقِسمتهم، وذلك لعدم وجود عَدلٍ عندهم - في عقيدتهم الفاسدة - بينَ الله تعالى وبين شركائهم.

    الآية 137: ﴿ وَكَذَلِكَ : يعني وكما زيَّنَ الشيطانُ للمشركين أن يجعلوا لله تعالى من الحرث والأنعام نصيبًا، ولشركائهم نصيبًا: ﴿ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ﴾: أي زيَّن لهم شركاؤهم - من شياطين الإنس والجن - أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر ﴿ لِيُرْدُوهُمْ ﴾: أي لِيوقعوا هؤلاء الآباء في الهلاك بقتل النفس التي حَرَّمَ اللهُ قتلها إلا بالحق، ﴿ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ﴾: يعني ولِيَفتنوهم عن دينهم الحق الذي جاءهم به إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، فيَخلِطونه لهم بالشِرك فيَضِلوا ويَهلكوا، ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ ألاَّ يفعلوا ذلك: ﴿ مَا فَعَلُوهُ ﴾ ولكنه شاءَ ذلك لِعِلمِهِ بسوء حالهم ومقاصدهم، ﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾: أي فاتركهم وشأنهم فيما يفترونه مِن كذب، فسيحكم الله بينك وبينهم.

    الآية 138: ﴿ وَقَالُوا ﴾: أي وقال المشركون: ﴿ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ﴾: أي إنّ بعضَ هذه الإبل والزرع حرام، فـ  ﴿ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ ﴾: يعني لا يأكلها إلا مَن يأذنون له، وذلك حسب ادِّعائهم الكاذب، ﴿ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا ﴾: أي وزعموا أنّ بعض الإبل لا يَحِلّ ركوبها والحملُ عليها بحالٍ من الأحوال، ﴿ وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ﴾: أي وزعموا أن بعض الإبل لا يَذكرون اسمَ الله عليها في أي شأن من شئونها، وقد فعلوا ذلك ﴿ افْتِرَاءً عَلَيْهِ ﴾: أي كذبًا منهم عليه سبحانه، لأنه سبحانه ما حَرَّمَ ذلك عليهم، وإنما حَرَّموه هُم بأنفسهم، ثم قالوا: (حَرَّمَه الله علينا)، ولِذا تَوَعَّدهم الله تعالى على هذا الكذب بقوله: ﴿ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾.

    الآية 139: ﴿ وَقَالُوا ﴾: أي وقال المشركون: إنّ  ﴿ مَا فِي بُطُونِ ﴾ بعض ﴿ هَذِهِ الْأَنْعَامِ ﴾ من الأجِنَّة ﴿ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ﴾: أي مُباحةٌ لرجالنا، ومُحَرَّمة على نسائنا (هذا إذا وُلِدَ الجنين حَيًّا)، ﴿ وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً ﴾: يعني وإذا وُلِدَ الجنين مَيِّتًا: ﴿ فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ﴾: أي فإنه يكونُ مُباحاً لرجالهم ولنسائهم معاً، (وقد كانوا يَستحلون أكْل المَيْتة)، ثم تَوَعَّدهم الله تعالى بقوله: ﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ﴾: أي سيعاقبهم الله على هذا الكذب بما يستحقون من العذاب، لأنهم شرَّعوا لأنفسهم من التحليل والتحريم ما لم يأذن به الله،  ﴿ إِنَّهُ حَكِيمٌ ﴾ في قضائه وشرعه ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بما نسبوه إليه كذباً.

    وقد سَمَّى الله تعالى الكذب بـ (الوصف) في قوله: ﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ﴾، لأنهم وصفوا بعض الأجِنَّة بأنها حرام، ووصفوا بعضها بأنها حلال، وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ﴾.

    الآية 140: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ ﴾: أي قد هَلَكَ الذين قتلوا أولادهم، لأنهم أطاعوا شياطينهم فيما زيَّنَتْ لهم، وذلك ﴿ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾: أي لِضِعف عقولهم وجَهلهم، ﴿ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ﴾: أي وقد خسروا أيضاً لأنهم حَرَّموا ما أحَلَّهُ الله لهم، كذباً عليه سبحانه، ﴿ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾: أي قد بَعُدوا عن الحق، وما كانوا من أهل الهدى والرشاد، (إذِ التحليل والتحريم من خصائص الله تعالى وحده، فالحلال ما أحَلَّهُ الله، والحرام ما حَرَّمه الله).

     

    تفسير الربع الأخير من سورة الأنعام بأسلوب بسيط

     
     الآية 151: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ وهو ﴿ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ مِن مخلوقاته في عبادته، بل اصرفوا جميع أنواع العبادة له وحده، كالخوف والرجاء والدعاء، وغير ذلك، ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾: يعني: وعليكم بتأدية حقوق الوالدين (وذلك بالقول الكريم اللَيِّن، وبطاعة أمْرهما - في غير معصية الله - وبالإنفاق عليهما، وإكرام صديقهما ومَن له تعلُّق بهما، وصِلة رَحِمِهما، والدعاء لهما، وطلب رِضاهما)، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 3507)، فاعلم أنه لن يَرضى عنك الله سبحانه وتعالى حتى يَرضى عنك والداك ولو كنتَ أعبَد أهل الأرض، ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ﴾: أي مِن أجل فقرٍ نزل بكم، فـ ﴿ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾: أي ولا تقربوا كبائر الآثام، ولا تَجهَروا بفِعلها أمام الناس، ولا تفعلوها سِرَّاً، ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ﴾ قتْلَها ﴿ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ وهو قتل القاتل، أو رَجْم الزاني المتزوج حتى يموت، أو قتل المُرْتَدّ عن الإسلام، (ويكون تنفيذ ذلك القتل عن طريق وَلِيِّ الأمر، وهو حاكِمُ البلد)، ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ المذكور من الأوامر والنواهي هو ما ﴿ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ ربكم ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾: أي لتكونوا من العقلاء الراشدين، لأنَّ مَن يُشرِك بربه صَنَماً، أو يُسيء إلى أبويه، أو يَقتل أولاده، أو يَفجُر بنساء الناس، أو يقتلهم: لا يُعتبر عاقلاً أبداً، إذ لو كان له عقل: ما أقدَمَ على هذه العظائم من الذنوب والآثام.
     
     الآية 152: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾: يعني إلا بما يُصلِح أمواله لِيَنتفِع بها، وذلك باستثمارها له ﴿ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾: أي حتى يصل إلى سن البلوغ ويكون راشدًا، فإذا بلغ ذلك فسَلِّموا إليه ماله، ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾: أي بالعدل الذي يكونُ به تمامَ الوفاء، وإذا بذلتم جهدكم في ذلك، فلا حرجَ عليكم فيما قد يكونُ مِن نَقص، فإننا ﴿ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ﴾: أي وإذا تكلمتم فتَحرَّوا العدلَ في قولكم، سواء كان الأمر يتعلق بخبر أو شهادة أو حُكم أو شفاعة، ﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾: يعني ولو كان الذي تعلَّقَ به القول ذا قرابةٍ منكم، فلا تميلوا معه بغير الحق، ولا يَحمِلَنَّكم الهوى والتعُّصب للغير على ترْك العدل، ﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ﴾: يعني وأوفوا بما عَهِدَ الله به إليكم من الالتزام بشريعته، ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ المتلوُّ عليكم من الأحكام هو ما ﴿ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ ربكم ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾: أي لعلكم تتذكرون، وتجتنبون ما حُرِّمَ عليكم.

     الآية 153: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ﴾: يعني ومما وَصّاكم اللهُ به أن هذا الإسلام هو طريق الله تعالى المستقيم ﴿ فَاتَّبِعُوهُ ﴾ ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾: أي ولا تسلكوا سُبُلَ الضلال فتُفَرِّقكم، وتُبعِدكم عن سبيل الله المستقيم، ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ أي التوَجُّه نحو الطريق المستقيم، وعدم اتباع سُبُلَ الضلال، هو ما ﴿ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ ربكم ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ عذابه بفِعل أوامره، واجتناب نواهيه.

     الآية 154: ﴿ ثُمَّ ﴾ أخبِرْهم أيها الرسول أننا ﴿ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ وهو التوراة ﴿ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ﴾: أي تمامًا لِنِعمتنا على المحسنين من بني إسرائيل، ﴿ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من أمور دينهم، ﴿ وَهُدًى ﴾ لهم من الضلالة، وبيان للطريق المستقيم، ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ لهم ﴿ لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾: أي رجاء أن يُصدِّقوا بالبعث بعد الموت، وبالحساب والجزاء، ويعملوا لذلك.

    • الآية 155، والآية 156، والآية 157: ﴿ وَهَذَا ﴾ القرآن هو ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ ﴾ على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ مُبَارَكٌ ﴾: يعني كثير الخير والنفع ﴿ فَاتَّبِعُوهُ ﴾ فيما يأمر به ويَنهى عنه، ﴿ وَاتَّقُوا ﴾ الله، فلا تخالفوا له أمرًا ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾: أي رجاء أن يرحمكم، فتنجوا من عذابه، وتفوزوا بجنته.

     وقد أنزلنا إليكم هذا القرآن ﴿ أَنْ تَقُولُوا ﴾: يعني لِئَلاَّ تقولوا - يا كفار العرب -: ﴿ إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ ﴾ من السماء ﴿ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ وهم اليهود والنصارى، ﴿ وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴾: يعني وقد كنا عن قراءة كتبهم في شُغل، وليس لنا بها علم ولا معرفة.

    ﴿ أَوْ تَقُولُوا ﴾: يعني ولِئَلاَّ تقولوا - أيها المشركون -: ﴿ لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ ﴾: يعني لو أنَّا أُنزِلَ علينا كتابٌ من السماء كما أُنزل على اليهود والنصارى: ﴿ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ﴾: أي لكنَّا أشدَّ استقامةً على طريق الحق منهم، فإنه لا عُذرَ لكم الآن ﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾: يعني فقد جاءكم كتابٌ بلسانٍ عربيٍ مبين، وتلك حُجَّةٌ عليكم مِن ربكم، لأنه نزل بلسانكم، ﴿ وَهُدًى ﴾: أي وإرشاد إلى طريق الحق، ﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ لهذه الأمة.

    ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾: يعني فلا أحد أشد ظلمًا ممن كذَّب بحجج الله تعالى الواضحة، ﴿ وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾: أي وأعرض عنها، ﴿ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴾: يعني سنعاقب هؤلاء المعرضين عقابًا شديدًا في نار جهنم بسبب إعراضهم عن آياتنا، وصَدِّهم عن سبيلنا.

    • الآية 158: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ ﴾: يعني هل ينتظر هؤلاء المُعرضون ﴿ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ - وهم مَلَكُ الموت وأعوانه لقبض أرواحهم -، ﴿ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ﴾ عَزّ وَجَلّ يومَ القيامةِ لِيَفصِلَ بينهم بالقضاءِ العادل - إتيَاناً حقيقيٌّاً بذاتِهِ، على الوجهِ اللائق به سُبحانه -، وليس كما يقول البعضُ بأنه يأتي أمرُهُ فقط، ففي صحيح مُسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال - وهو يتحدث عن يوم القيامة -: (حتى إِذا لم يَبقَ إِلا مَن كان يَعبُدُ اللهَ تعالى مِن بَرٍّ وفاجر: أَتاهُمْ رَبُّ العالمين سبحانهُ وتعالى في أدنَى صورةٍ مِن التي رأوهُ فيها،...)، ﴿ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ ﴾: يعني أو هل ينتظرون أن تأتي بعض أشراط الساعة وعلاماتها الدالة على مجيئها، وهي طلوع الشمس من مغربها؟ ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ ﴾: يعني فحين تطلع الشمس من مغربها: ﴿ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ﴾: أي لا يَنفعُ نفساً أن تؤمن بعد ظهور هذه العلامة، طالما أنها لم تكن آمنتْ قبل ذلك، ﴿ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾: يعني وإن كانت مؤمنة: فلا يُقبل منها كَسْب عمل صالح في تلك اللحظة، طالما أنها لم تكن عاملة به قبل ظهور هذه العلامة، لأن باب التوبة يكونُ مفتوحاً إلى هذا اليوم (وهو يوم طلوع الشمس من مغربها)، ثم بعد ذلك يُغلَق، قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري -: (لا تقومُ الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس: آمَنَ مَن عليها، فذلك حين لا ينفعُ نفساً إيمانُها لم تكن آمنتْ من قبل).

     وذلك لأنه إذا وُجِدَت تلك العلامات: صار الأمرُ يَقينيَّاً، ولم يَبق للإيمان فائدة، لأنه أصبح إيماناً اضطرارياً لا اختيارياً، كإيمان الغريق والحريق ونحوهما، مِمَّن إذا رأى الموت، أقلَعَ عما هو فيه.

    ﴿ قُلِ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ انْتَظِرُوا ﴾ مجيء ذلك اليوم، لتعلموا مَن مِنَّا على الحق ومَن على الباطل، فـ ﴿ إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ ذلك اليوم، وعلى يقينٍ بمجيئه.

     الآية 159: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ﴾: أي جعلوا دينهم مَذاهب تُعادي بعضها بعضاً، وذلك بعد أن كانوا مجتمعين على توحيد الله والعمل بشرعه، ﴿ وَكَانُوا شِيَعًا ﴾: أي فأصبحوا فرقاً وأحزاباً، إنك أيها الرسول ﴿ لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾، بل أنت بريءٌ منهم، و ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾، ثم يُجازي كُلاًّ بما عمل.

    • الآية 161: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾: أي إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم المُوصِل إلى جنته، وهو دين الإسلام، فهداني ﴿ دِينًا قِيَمًا ﴾: أي ديناً معتدلاً لا عِوَجَ فيه، قائماً بأمر الدنيا والآخرة، ثم زادَهُ مَدحًا بقوله: ﴿ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ مُذَكِّرًا لهم - لِتقليدهم الآباء- بأنه دين أبيهم الأعظم إبراهيم الذي كان ﴿ حَنِيفًا ﴾: أي مائلاً عن الباطل إلى الحق، ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ مع الله غيره.

     الآية 162، والآية 163: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ﴾: أي وما أذبحه تقرُّباً إلى ربي، ﴿ وَمَحْيَايَ ﴾: أي وما أفعله في حياتي من طاعات، ﴿ وَمَمَاتِي ﴾: أي وما أُوصِي به لِيُفعَل بعد وفاتي، كل ذلك أجعله خالصاً ﴿ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ الذي ﴿ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴾ في ألُوهِيَّتِه ولا في رُبُوبيَّته ولا في صفاته وأسمائه، ﴿ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ﴾: أي وبذلك التوحيد الخالص أمرني ربي جَلّ وعَلا، ﴿ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾: يعني وأنا أول مَن أسلَمَ وخضع وانقادَ لأوامر اللهِ تعالى مِن هذه الأمة.

     واعلم أن الله تعالى قد اختص الصلاة والذبح بالذِكر دونَ سائر العبادات، لِشَرَف هاتين العبادتين وفَضلِهما، ودَلالتهما على محبة الله تعالى، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان والجوارح، وبالذبح الذي هو بَذْل ما تحبه النفس من المال، لِمَا هو أحَبّ إليها وهو الله تعالى.

     الآية 164: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾: يعني أغيرَ الله أطلب رباً إلهاً معبوداً أعبده، وهو خالقُ كل شيء ومالِكُه ومُدَبِّرُه؟، ﴿ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ﴾: يعني واعلموا أنه لا تكسب نفسٌ مِن خيرٍ إلا وهو لها، ولا تكسب مِن شَرّ إلا وهو عليها، ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾: أي ولا تحمل نفسٌ إثمَ نفسٍ أخرى، إلا إذا كانت سبباً في إضلالها (ولم تَتُب عن ذلك الإضلال)، ﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ من أمر الدين.

     الآية 165: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ﴾: يعني والله سبحانه هو الذي جعلكم تَخْلُفون مَن سَبقكم في الأرض بعد أن أهلكهم، وذلك لتعمروها بطاعة ربكم، ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ ﴾ في الرزق والقوة ﴿ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾ ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ ﴾: أي لِيَبْلُوَكُمْ فيما أعطاكم مِن نِعَمِه، فيَظهر للناس الشاكرُ مِن غيره، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ﴾ لِمَن كَفر به وعصاه ولم يَتُب، ﴿ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ ﴾ لِمَن شَكَره، وعمل صالحا وتاب من المعاصي، ﴿ رَحِيمٌ ﴾ به.

    شبكة الالوكة

  4. المقدمة:

    الحمـد لله الذي أنزل على عبده الكتـاب... وأوضح الطريق المستقيم بأوضح البيان.

    طمس الجاهلية وأظهر الحق، فجعل الناس سواسية إلا بالتقوى.

     

    نحمده تبارك وتعالى عدد خلقه ورضا نفسه ومداد كلماته، وأشـهد أن لا إلـه إلا الله الـعـزيـز الـوهـاب، وأشـهد أن سيـدنا محمَّـدًا عبـده ورسـوله، اللـهـم صـل وسلـم وبـارك عليـه وعـلى الآل والأصحـاب... ما تعاقب الليل والنهار.

     


    المرتبة الأولى: الغش في الدين:

    أما بعد: فإن الغش إذا ذكر انصرف الذهن إلى قبح الخداع والمكر عدم النصح لأهل الإسلام، والغش خبث السريرة مع إظهار الحسن وهي صفة أصيلة في أهل النفاق، وإذا أردنا أن نفهم الغش على مستوياته المختلفة فإن أعظمه وأشده فتكًا وجرمًا الغش في الدين، وذلك أن يغير المرء أحكام الله وقد ورد التحذير من جناية مثل هذا الفعل في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116].

     

    هذا الباب كم من أناس أوغلوا فيه وأسرفوا إسرافًا لن يكون معه في الدنيا صلاحًا ولا في الآخرة حجة وفلاحًا، فليس بالهين أن تفسد على الناس دينهم بما أعطاك الله من لسان فصيح وقول مليح وحظوة عند من لا يخاف الله ويرعى الدار الآخرة.

     


    المرتبة الثانية: غش النفس:

    وقد ورد في الحديث: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ، وسُبْحانَ اللهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلأُ- ما بيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها»[1].

     

    هذا البيان لطهارة الإنسان ظاهرًا بالوضوء، وداخلًا بالإيمان حال كونه حامدًا شاكرًا لنعمة التوفيق لطاعة الرحمن، غاديًا إلى ربه ينصب قدميه في بيت من بيوته راكعًا ساجدًا، باذلًا لجاهه وماله، صابرًا على طاعة الله صابرًا على ترك معصية متأدبًا مع الله عند حلول المصائب والنكبات متصبرًا ومتحليًّا بصفات أهل القرآن يقدم نفسه قربانًا للواحد الديان تجارة لن تبور، هذا هو النصح للنفس.

     

    أما من أعرض وتولى ولم يقم بذلك رأسًا ولم يكن له في الحق أساسًا، فقد ظلم نفسه وغشَّها، وضيع الأمانة وخان الرسالة، فمثل هذا يقبل على الله وهو من المفاليس.

     

    فالأول نصح لنفسه فزكاها فأفلح والثاني غشَّها فدساها فخاب وخسر.

     


    المرتبة الثالثة: غش الرعية:

    بكلام بين واضح قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «كلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعِيَّتِه»، ما من أحد إلا وتحت يده أناس قد ولاه الله عليهم بولاية خاصة أو عامة، وهذه أمانة قد ينجو الإنسان بنفسه ولكن يهلك بغيره، وذلك كما ورد في حديث البشير النذير: «ما مِن عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَومَ يَمُوتُ وهو غاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عليه الجَنَّةَ»[2].

     

    ـ فالراعي ولي ليس له أن يتصرف إلا بما أولاه الله على رعيته، فيلزمه النصح لهم بكل أنواع النصح سواء في معاشهم في الحياة الدنيا، أو معادهم يوم القيامة، فإن لم يجهد في هذا فقد ارتكب كبيرة من الكبائر، فكما حرمهم النصح في الدنيا وهو نوع رحمة بالرعية حرمه الله من رحمته يوم القيامة.

     


    المرتبة الرابعة: غش الناس في المعاش:

    فغش الناس في معاملاتهم مما يولد الكثير من تنافر الناس وبغضهم وكراهيتهم لبعضهم البعض، ويفسد عليهم معاشهم، وقد كان رسول الله في جولة في السوق فـمرَّ علَى صُبرةٍ مِن طعامٍ فأدخلَ يدَهُ فيها، فَنالَت أصابعُهُ بللًا. فقال: «يا صاحبَ الطَّعامِ ما هذَا؟» قال: أصابَتهُ السَّماءُ يا رسولَ اللَّهِ. قال: «أفَلا جعلتَهُ فَوقَ الطَّعامِ؛ حتَّى يراهُ النَّاسُ» ثمَّ قال: «مَن غشَّ فلَيسَ منَّا»[3].

     

    من خادع الناس وغشهم في تجارتهم ومعاشهم فليس على منهج ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا تهديد صريح في خروج الغاش عن المنهج الرباني الذي وضعه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ورتب عليه خيري الدنيا والآخرة، فالغاش في المعاملات بائع لدينه بعرض من الدنيا زهيد حقير قلَّ أو كثر.

     

    أقول ما سمعتم.. واستغفروا الله إنَّ الله غفور رحيم.

     


    الخطبة الثانية

    الحمد لله الذي جعلنا مسلمين، وأكمل لنا الدين، وختم لنا بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

     

    أما بعد:

    فكما أن الشريعة أتت لتنظيم حياة الناس، فقد راعت أمر آخرتهم أشد الرعاية؛ ليعيش الإنسان لدنياه وآخرته، وإن مما نؤكد عليه في سياق هذا الموضوع قضايا أوجزها في النقاط التالية:

    الأولى: ديننا شمولي يعني بالفرد والمجتمع تنظيمًا دقيقًا متوازنًا يجعل من الإنسان محور الاستخلاف على الأرض فلا تقوم الدنيا على وفق المنهج الرباني إلا بالنصح.

     

    الثانية: ليس أحد من المسلمين إلا ولديه واجبات وعليه حقوق ينظمها الشرع علمًا متلقى وعملًا واقعيًا منفذ يشترك فيه الناس زرافات ووحدانًا فالفرد لا يغش المجتمع والمجتمع لا يعين الفرد عليه.

     

    الثالثة: الإسلام يستوعب ما قدم وما حدث من صور الأحوال فهما تنوع الغش فهو في دائرة الغش الذي رسمه الشرع ووضع إطاره الخارجي فلا يخرج ما دخل منه ولا يدخل ما خرج منه.

     

    رابعًا: أهل الإسلام جسد واحد يضمهم دين واحد ويجمعهم هدف واحد، فمن غشَّ مسلمًا فإنما يغش نفسه فليحقه من الإثم والعدوان ومعصية الديان والانحراف عن هدي سيد الأنام ما يعود عليه بالخزي والعار.

     

    الدعاء: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾.

     

    (اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنا مِنْهُ وَمَا لَمْ نعْلَمْ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنا مِنْهُ وَمَا لَمْ نعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِنا خَيْرًا).

     

    اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وجعل هذا البلد أمنا مستقرا وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.

     

    اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللَّهُمَّ أبعد عنهم دعاة السوء والضلال والمفسدين يا رب العالمين، اللَّهُمَّ أنصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللَّهُمَّ انصر من نصر الدين، وخَذِّل من خذَل الدين، واحفظ بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، ومن كل شر وفتنة، ومن كل بلاء ومحنة يا حيٌّ يا قيوم يا قريب يا مجيب يا سميع الدعاء.

     

    عبادَ الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 90 ، 91]، فاذكروا الله يذكركم، واشكُروه على نعمه يزِدْكم، ولذِكْرُ الله أكبرَ، والله يعلمُ ما تصنعون.

     

    [1] مسلم (223).

    [2] مسلم (142).

    [3] أخرجه الترمذي (1315) وصححه الألباني.


    د. عطية بن عبدالله الباحوث
    شبكة الالوكة


     

  5. القاعدة الثانية والثلاثون : { وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ }

     
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فهذا لقاء جديد مع قاعدة قرآنية، تربوية إيمانية، وثيقة الصلة بالواقع الذي تعيشه الأمة اليوم بالذات، وهي تعيش هذه التغيرات المتسارعة، والتي خالها البعض خارجةً عن سنن الله تعالى، وليس الأمر كذلك، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } [الحج:47].

    وهذه القاعدة الكريمة جاءت في سياق تهديد الكفار الذين قابلوا الدعوة إلى الإسلام بالتكذيب والجحود، والاستهزاء والسخرية، قال تعالى:
    { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)} [الحج].

    فقوله عز وجل: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ...} معطوف على قوله تعالى: { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ } والمعنى: أن هؤلاء الكفار يقولون: " لو كان محمد صادقاً في وعيده لعُجَّلَ لنا وعيدُه، فكانوا يسألونه التعجيل بنزول العذاب استهزاء، كما حكى الله عنهم في قوله سبحانه: { وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} [الأنفال]، وفي قوله سبحانه:
    { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (28)} [السجدة] فذكر ذلك في هذه الآية بمناسبة قوله عز وجل: { فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } الآية"،
    وحكي: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ } بصيغة المضارع للإشارة إلى تكريرهم ذلك تجديدا منهم للاستهزاء وتوركا على المسلمين "(التحرير والتنوير 17/210).

    ثم جاء التعقيب على هذه المقالة الآثمة، بهذه القاعدة التي تسكب اليقين والطمأنينة في نفس النبي ج ونفوسِ أتباعه من المؤمنين المضطهدين، الذين امتلأت آذانهم من استهزاء هؤلاء الكفار، فقال الله ـ وهو أصدق من وعد وأصدق من وفّى ـ: { وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ }.

    وإذا تقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن هذه القاعدة القرآنية: { وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } لا تختص بهذا المعنى الذي وردت الآية في سياقه ـ وهو تعذيب الكفار ـ بل هي عامة في كل ما وعد الله به، إذ لا مكره لربنا جل وعلا، ولا راد لأمره ومشيئته، ولكن الشأن في تحقق العباد بفعل الأسباب المتعلقة بما وعد الله به ـ كما سيأتي بعد قليل ـ.

    كما أن هذه القاعدة القرآنية: { وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } دلّت على معنى يُقَرّرُ بعض اللغويين خلافه، وهو أنه اشتهر عند كثيرين أن الوعد خاص بالخير، والوعيد متعلق بالشر، وينشدون في هذا البيتين المشهورين:
    ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي * ولا انثنى عن سطوة المتهدد
    فإني وإن أوعدته أو وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

    وهذه القاعدة التي نحن بصددها تخالف هذا الإطلاق، يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله ـ بعد أن ذكر عدة شواهد تؤكد خطأ هذا الإطلاق ـ: "ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى:
    { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)} [الحج] فإنه قال في هذه الآية في النار: { وَعَدَهَا اللَّهُ } بصيغة الثلاثي الذي مصدره الوعد، ولم يقل أوعدها، وما ذكر في هذه الآية، من أن ما وعد به الكفار من العذاب واقع لا محالة، وأنه لا يخلف وعده بذلك، جاء مبينا في غير هذا الموضع... ثم ذكر جملة من الشواهد، ثم قال: وبالتحقيق الذي ذكرنا: تعلم أن الوعد يطلق في الخير والشر كما بينا ".

    ولنعد ـ أيها القراء الأكارم ـ إلى هدايات هذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ }، فإنه إذا تقرر عمومها في الخير والشر، فإنها ـ بلا ريب ـ من أعظم ما يجدد الفأل في نفوس أهل الإسلام، في الثبات على دينهم ومنهجهم الحق، بل وتزيدهم يقيناً بما عليه أهل الكفر والملل الباطلة من ضلال وانحراف، وبيان هذا: أن المؤمن لا يزال يرى إما بعين البصر أو البصيرة صدق ما وعد به أولياءه في الدنيا، كيف لا؟! وهو يقرأ نماذج مشرقة في كتاب الله عز وجل؟!

    ألسنا ـ يا أهل القرآن ـ نقرأ قول ربنا عز وجل ـ في سورة آل عمران في سياق الحديث عن غزوة أحد ـ:
    { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ }[آل عمران: 152]؟

    أين نحن عن فواتح سورة الروم التي يقول الله تعالى فيها:
    { الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} .
    وهذه الآيات من سورة الروم، تشير إلى سبب كبير في ضعف اليقين تجاه الوعود الربانية، ألا وهو: التعلق بالدنيا، والركون إليها، ولهذا فإنك لو تأملتَ لوجدت أن أضعف الناس يقيناً بموعود الله هم أهل الدنيا، الراكنين إليها، وأقواهم يقيناً هم العلماء الربانيون، وأهل الآخرة، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.

    ولا يشكل على هذا ما يمر على القارئ من آيات قد يفهم منها أن فيها نوعاً من التردد في تصديق وعد الله، أو الشك في ذلك، كقوله تعالى:
    { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة]، وكقوله عز وجل:
    { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} [يوسف]، فإن هذه الآيات إنما تحكي حالةً عارضة تمر بالإنسان ـ بسبب ضعفه حيناً، وبسبب استعجاله أحياناً ـ وليست حالةً دائمةً، وإذا كان الشك في موعود الله لا يصح أن ينسب إلى آحاد المؤمنين، فهو من الأنبياء والمرسلين أبعد وأبعد، ولكن ـ ولحكمة بالغة ـ جاءت هذه الآيات لتطمئن المؤمنين من هذه الأمة أن حالات اليأس التي قد تعرض للعبد مجرد عرْض بسبب شدة وطأة أهل الباطل، أو تسلط الكفار، فإنها لا تؤثر على إيمانه، ولا تقدح فيه صدقه وتصديقه؛ ولهذا ـ والله تعالى أعلم ـ يأتي مثل هذا التثبيت في بعض الأحوال التي تعترض نفوس أهل الإيمان فترة نزول الوحي، كقوله تعالى:
    { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)} إلى قوله تعالى: { وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)} [إبراهيم].

    والمؤمن ليس من شأنه أن يقترح أجلاً لإهلاك الكفار، أو موعداً نصرة الإسلام، أو غيرِ ذلك من الوعود التي يقرأها في النصوص الشرعية، ولكن من شأنه أن يسعى في نصرة دينه بما يستطيع، وأن لا يظل ينتظر مضي السنن، فإن الله لم يتعبدنا بهذا، وعليه أن يفتش في مقدار تحققه بالشروط التي ربطت بها تلك الوعود، فإذا قرأ ـ مثلاً ـ قول الله عز وجل:
    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }[محمد: 7] فعليه هنا أن يفتش عن أسباب النصر التي أمر الله بها هل تحققت فيه فرداً أو في الأمة على سبيل المجموع؛ ليدرك الجواب على هذا السؤال: لماذا لا تنتصر الأمة على أعدائها؟!

    ولو ذهب الإنسان إلى تعداد الآيات الموضحة لهذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } لطال به المقام، ولكن حسبنا ما ذكر، ولعلنا نختم حلقتنا بهذه اللطيفة المتصلة بهذه القاعدة: ذلك أن هذه القاعدة تضمنت تمدّح الله بهذا، وثناءه على نفسه، ويتضح لك هذا المعنى إذا قرأت ما حكاه الله تعالى عن إبليس ـ وهو يخطب في حزبه وأوليائه في جهنم ـ حيث يقول: { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } [إبراهيم:22] ،
    فسبحان مَنْ تمدح بالكمال وهو أهلٌ له، وسبحان من وعد فأوفى، ومن أوفى بعهده من الله؟
    وإلى لقاء قاعدة أخرى بإذن الله،والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
     

  6. القسم الأول

    لنقرأ قوله تعالى: ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين.. فنجد :

    1- العلم :

    سمة أهل الفضل ومناط التشريف ونور الفكر الذي يكرم صاحبه على غيره.

    2- شكر الله وحمده:

    فهما عليهما السلام يحمدان الله تعالى أنْ أكرمهما بالعلم ( إنما يخشى الله من عباده العلماءُ ) وكثيراً ما نجد الأرزاق متنوعة فهذا يعطى مالاً وذاك علماً والآخر وسامة وغيره أخلاقاً ، فنجد العلم والأخلاق سيدي الموقف . وقد أحسن الشاعر حافظ إبراهيم في قوله:
    فالناس هذا حظه مال وذا * علم ، وذاك مكارم الأخلاق
    فالمال إن لم تدّخره محصنا * بالعـلـم كـان نهايـة الإملاق
    والعلم إن لم تكتنفه شمائل * تعـلـيه كان مطيـة الإخفـاق
    لا تحسبنّ العلم ينفع وحدَه * مـا لـم يُـتـَوّجْ ربّـُه بخـلاق

    3- الهمة العالية :

    فقد علما أن النبوّة والعلم والحكمة رفعتهما على كثير من عباد الله المؤمنين

    4- الإرث:

    قال تعالى : وورث سليمانُ داودَ . وقد نعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة. ، فما الذي ورثه سليمان من أبيه داود عليهما السلام؟ نقول: إنّ الإرث هنا في النبوة والعلم – وهذا ما نجده في دعاء زكريا عليه السلام يسأل الله تعالى ولداً صالحاً يرثه في الدعوة والعلم والنبوّة:
    -وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا .
    وهذا ما نفهمه من قول يعقوب عليه السلام حين أخبره ابنه يوسف برؤياه فأوّل الرؤيا بالنبوة والمكانة العالية الرفيعة الموصلة بجديه إبراهيم وإسحاق عليهما السلام ، وبهذه النبوة تتم النعمة على آل يعقوب وتكتمل فضائل الاجتباء:
    - وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

    5- الاعتراف بالفضل:

    " إن هذا لهو الفضل المبين." واعتراف سليمان بفضل الله يرفع مقامه ، وتأمل في قوله عليه السلام " (- عُلّمنا منطق الطير ..، وأوتينا من كل شيء ) وهما الفعلان المبنيان للمجهول يدلان على إسناد الفضل إلى الله ، فمنه الخير كله. فهو سبحانه من علّم وهو سبحانه من أعطى ، فله الخير وله المنّ الكرم .
    أما قارون فقد شقي حين جحد فضل الله سبحانه عليه وادّعى الذكاء والقدرة في جمع المال ولم يرْع ذمة الله ولا أدى حقّ المال ، وعاش مستكبراً يأبى النصيحة ويزدري الناس:
    - إِ نَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
    - وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ .
    - قالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ .
    وكيف لا يُسأل المجرمون عن ذنوبهم؟! هذا ما سألنيه أحدهم فقلت له : ياهذا ؛ هؤلاء أهون على الله أن يحاسبهم إنما تلطقطهم ألسنة النيران إلى سواء الجحيم بالذلة والصغار . ونجد في المقابل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أن الله عز وجل يكرم خاصة المؤمنين الصالحين بدخول الجنة دون حساب ولا عقاب واقرأ معي قوله صلى الله عليه وسلم :
    ( سبعون ألفاً يدخلون الجنة دون حساب ولا عقاب )

    6- الترتيب في الحديث:

    - وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ، فهم يوزعون. ذكر الأقوى ( الجنّ، ثم الإنس ، ثم الطير) ذكر الأهمّ فالأقل أهمية . وهذا من أساليب التربية القرآنية
    - إننا نجد هذا الترتيب في القرآن كثيراً كقوله تعالى: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث" فذكر من الشهوات أشدها : النساء ، ثم البنين ثم المال الذي يُصرف على النساء والبنين ، ثم ذكر من المال أفضله : الذهب ، وأتبعه بالفضة . أما الخيل فهي عند العرب أفضل من الأنعام ( الإبل والبقر والغنم) وهذا الحيوانات بأنواعها أفضل عند العرب من الزرع . إنه ذكر الأهم فالأقل أهمية.
    - ولا ننس الكلمتين ( يوزعون ، وأوزعني ) من وزع ، فالأولى تعني أن أوائل الجيش ينتظرون في أماكنهم حتى يكتمل مجيئ أواخرهم ، والثانية :أوزعني تعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي (من الإلهام والعون ). وجمال الكَلِم القرآني ذلك الجناس اللفظي المختلف المعنى المؤتلف المبنى .
    - واقرأ قوله تعالى : " ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" وهذا يذكرنا بالرجل الصالح في سورة الأحقاف " ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه كرها ووضعته كرها حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي ، إني تبت إليك وإني من المسلمين" فالدعاء واحد يختلف قليلاً بين نبي ورجل صالح .. وأصلح لي في ذريتي.. إن الكلام في جله واحد

    7- علمنا منطق الطير

    -فرْقٌ بين عُلـِّمنا منطق الطير وفهمنا لغة الطير، فالفهم قد لا يعني القدرة على الحديث أما الأولى ( عُلّمنا منطق الطير ) ففيها القدرة على الحديث بلغة الطير، وهذا أبلغ في التعبير عن المراد ، وسبحان من أنزل القرآن على نبيه عربياً بيناً لا لبس فيه.
    - وداوود كذلك علم منطق الطير : وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ .
    - إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ .
    وهذا لم يختص به داوود وسليمان به وحدهما فهناك آثار تدل على فهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فقد ورد في الأحاديث أن جملاً شكا صاحبه الذي يتعبه في العمل ويحمّله فوق طاقته. فنبهه النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذر وأعلن أنه سيعامل جمله معاملة طيبة .
    - كما أن الحصا يُسمع تسبيحها في كف الرسول صلى الله عليه وسلم

    8- الطيور والحيوانات أمم أمثالنا:

    - ويجتمع جيش النبي سليمان ويحشده ثم يسير به .. حتى إذا أتوا على وادي النمل.
    - والحيوانات والطيور والحشرات أمم متكاملة لها نظامها وحياتها الخاصة المنظمة " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم."
    - نملة عاقلة تنصح ( ولا بد للعاقل أن ينصح غيره وهذا واجبه.) فتنادي شعبها خائفة عليهم أن ييباد تحت وطأة جيش سليمان فتنادي بملء فيها" يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده"
    - فلا حاجة للمجابهة لسبب الضعف ،أو الضآلة ،أو توقع الخسارة الكبيرة .وقد يسيء البعض لعدم معرفتهم أو انتباههم :
    { وهم لا يشعرون} وهذا النصح من حسن التدبير .
    - إنّ الحاكم أو الوجيه( النملة) تخاف على قومها من الإبادة. فهي ( رحيمة بهم) .
    - والنبي سليمان عليه السلام حريص على الرحمة بالحيوان ، فتبسم ضاحكاً من قولها ، وأوقف جيشه حتى غارالنمل في الأرض
    - فماذا تقول بمن يقتل الناس بعشرات الآلاف ليبقى حاكماً لمن يبقى حياً من الأمة بعد إذلالها لا سمح الله. ؟! هؤلاء الحكام أسوأ من الشياطين وألعن من الأبالسة وأحقر من الرويبضات فهل يعقلون أم على قلوب أقفالها؟!

    -9انتماء الرجل الصالح للصالحين

    " ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين"
    - نجد البر بالوالدين
    - طلب العون من الله على شكر النعمة.
    - وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين
    - نجد في سورة يوسف " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين . "
    - ونحن نقول : اللهم احشرنا في عبادك الصالحين .

    10 الاهتمام بالجنود

    - النبي القائد سليمان عليه السلام يتفقد الطير.
    - هناك حذف في قوله : ( مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ) وكأنه يقول: ( أهو موجود لا أراه ) أم هو غائب فعلاً ؟ ولعله يريد أن يقول : لا أود أن يكون واحد من جندي غائباً دون إذن ولا عذر.
    - ونرى الحزم في التعامل مع الجنود : ( لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ) والسلطان المبين هو الدليل على سبب الغياب. العقوبة أولاً إن كان مهملاً متهاوناً ، والقتل ثانياً إن تجاوز في غيابه حد الجندية على مبدأ درهم وقاية خير من قنطار علاج فالتسيب إذا غاب الحزم مشكلة يصعب حلها، ولا عقوبة إن كان من غيابه فائدة مرجوّة.
    - إن الحزم دون ظلم يحفظ النظام

    11- الجندي شجاع ذكي

    - تصور أن الجندي الصغير ( الهدهد) يقول لقائده على مسمع من الجند :عندي من المعلومات ما ليس عندك. ومعلوماتي يقينية ليست ظنية.
    - وقد يكون العلم عند صغير الحجم ضعيف البنية ، الفقير الذي لا يملأ العين .
    - وما يقولها إلا في حضرة القائد الذي هدد بالعقوبة وما أدراك ما العقوبة لكنه يعلم أن القائد وقـّافٌ على الحق ويحب الجندي الماهر الذي يخدم قضيته بإخلاص وسوف يتجاوز عن غيابه لما فيه من فائدة كبرى

    12- التقرير الضافي المفصل

    - حدد الهدهد المكان الذي ذهب إليه وجاء بخبره ، وذكر نوعية الحاكم – فهي امرأة – وبيّن قوتها وشرفها - والدليل ( عرش عظيم ) ونبه إلى عبادتهم فهم يعبدون الشمس من دون الله تعالى
    - لقد أضلهم الشيطان في عبادة غير الله تعالى.
    - ثم إننا نلحظ التوجيه إلى عبادة الله سبحانه ، فهي العبادة الحقة . وهو سبحانه من يستحق العبادة فقط. " ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم " .. إنه تقرير ضاف تام.

    13- تحقق القائد من الخبر

    - لا يؤخذ القائد بالكلام المعسول فلا بد من التحقق من هذا الخبر قال: ( سننظر...).
    - يجب أن تكون ثقة القائد بجنوده أكبر من سوء ظنه بهم. ( أصدقت أم كنت من الكاذبين ) فقدم احتمال الصدق على الكذب ففي صفة الصدق خاطبه بضمير المفرد وفي احتمال صفة الكذب حذره أن يكون من جملة الكاذبين! واستبعد الكذب ابتداء حين ذكر الفعل الماضي ( كان) .
    - كلفه أن يأخذ كتابه فيلقيه على القوم ، وهو في هذه الحالة مراقـَب بطريقة ما .
    - وعلمه كيف يرمي الكتاب ويتلقط الخبر دون أن يعلموا بوجوده ( فألقه إليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون ) .
    - ولعلهم إن جهلوا من ألقاه عليهم لم يتابعوه واستوهلوا الأمر، فاستعظموه.
    - ولن يظن البشر أن طيراً كان رسولَ سليمان إليهم .

    14- ذكاء الملكة وحسن تدبيرها.

    - كرّمت الملكة الكتاب ( الرسالة) لأسباب عدة ،
    أولها :أنها تلقته وهي فوق عرشها العظيم ،
    وثانيها أنّ صاحب الكتاب الملك سليمان المعروف بقوته وعظمته ،
    وأما ثالثها فقد بدأ الكتابُ بالبسملة ، وأعظِمْ بالبدء بسم الله الرحمن الرحيم
    ورابعها : أن الكتاب نهي واحد وأمر واحد ( ألا تعلوا عليّ واتوني مسلمين . )، ولا يكون النهي إلا من المتمكن ، ولا الأمر إلا من القوة ،
    وخامسها : ذلك الاختصار فالكتاب خمس كلمات.
    - ذكرني هذا الاختصار وتلك القوة بكتاب نقفور ملك الروم لهارون الرشيد خليفة المسلمين يهدده ويتوعده، فما كان من هارون رحمه الله إلا أن كتب على ظهر رسالة نقفور : ( إلى نقفور كلب الروم ؛ الجواب ما تراه ،لا ما تسمعه ) وسيّر إليه جيشاً كسر به ظهره .
    - على الرغم أن الملكة أخذت بالكتاب وهالها ما فيه من ثقة صاحب الكتاب بنفسه أحبت أن لا تستأثر بالجواب وأن تحمّل رؤساء قومها مسؤولية اتخاذ القرار ، فطلبت آراءهم :
    ( يا يها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون ) ولا بد من أخذ الرأي والمشورة ، فهذا دأب الحاكم اللبيب .
    - رأى مَلـَؤها أدبها فأخبروها بقوتهم وقدرتهم على القتال ، وتركوا لها البتّ في الحكم حين رأوها لم تستأثر به ابتداء .. وأراهم أخطأوا حين تركوا لها اتخاذ القرار فقرار الحرب لا يتخذه الفرد وحده. وكأن العرب منذ القديم اعتادوا ديكتاتورية الفرد فأذعنوا لذلك ألم يقل الشاعر مخاطباً شيخ قبيلته:
    لك المرباع منا والصفايا * وحكمك والنشيطة والفُضولُ
    فالمرباع : ربع المغنم يأخذه رئيس القبيلة .
    والصفايا : جمع صفي . وهو ما يصطفيه الشيخ لنفسه من المغنم ،
    والنشيطة : ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغهم إلى الموضع الذي قصدوه ، فكان يختص به رئيس القبيلة دون غيره.
    والفضول : ما يفضل من الغنيمة عند القسمة .
    وعلى هذا فللقائد أو الملك والرئيس كل شيء .
    وإننا نرى دولنا فقيرة معدمة ترزح تحت كاهل الديون بينما يسلب الحاكم كل شيء ويهربه إلى خزائن الغرب وبنوكها ليأكلوه بعد أن يسقط الحاكم السارق .. أليس هذا ما نراه كل يوم؟!
    - ولعلهم – إن أحسنا الظنّ رأوا في حديثها رغبة في الصلح والمناورة التي قد تأتي بحل مناسب فرضوا بذلك .
    ( نحن أولوا قس شديد والأموة وألو بأر إليك فانظري ماذا تأمرين )
    - من ذكائها وحسن تدبيرها أنه أرادت أن تجنب مملكتها التهديم والتدمير حين يدخلها ملك قوي بالحرب والقوة . جنوده الجن والإنس والطير فأرسلت حكمة حفظها الدهر بأحرف من نور:
    ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ) ...


    القسم الثاني والأخير


    نقرأ قوله تعالى على لسان سليمان عليه السلام ( أن لا تعلوا عليّ واتوني مسلمين ) فننتشي طرباً وفهماً لكلام نبي كريم يعلم أن :

    1- اتباعه واجب إنساني ، فهو لا يريد للكفر أن يعلو على الحق الذي جاء به

    2- ونلحظ عزة القائد المسلم في النهي : (لا تعلوا عليّ ).. ومن يعلو على صاحب الدعوة الحقة وممثلها ؟!
    3- وفي هذه الدعوة تهديد قريب من الصراحة - وإن اكتسى النصحَ المطلوبَ في الداعية – والنهيُ دليلٌ على التهديد الذي فهمته بلقيس تماماً فتحاشته.

    4- وما بعد التهديد إلا الأمر ( واتوني مسلمين ) فحصرها وقومَها (بالنهي والأمر) . فكان الخطاب على إيجازه واضحاً وقوياً .
    5- لم يقل : ( ائتوني صاغرين ولا أذلاء خاضعين أو مسالمين ) ، فهو لا يريد السيطرة عليهم ليستغلهم ولا ليقهرهم ، إنه يريد أن يسلموا لله رب العالمين ، ومن كان هذا ديدَنه ومَهمّته فقد أراد العزة للناس في الدنيا والآخرة. ، وهذا دأب الدعاة المصلحين.
    كانت الملكة عاقلة لبيبة قرأت الكتاب وعلمت مرماه ، فتدرّجت في ترويض قومها للأمر الذي أزمعت أن تنفذه :
    1- خاطبت أشراف قومها وكبارهم بالاحترام والتقدير ( يا أيها الملأ ) والملأ : كرام الناس وسادتهم.

    2- استشارتهم وطلبت رأيهم ( أفتوني ) والإفتاء تقليب أوجه الرأي وتمحيص الأمر للوصول إلى القرار الصائب على الرغم أن الأمر عائد إليها في آخر المطاف ( في أمري ) ولم تقل في الأمر . والشورى ملزمة هنا ( ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون ). ولم تقل ما كنت لأقطع أمراً ، إنما قالت : ( ماكنت قاطعة ) فاستعملت الصفة وهي أقوى من الفعل في التأكيد .

    3- حين تكون الشورى ملزمة يشعر أهل الرأي بعظم مكانتهم وأهمية أمرهم ودقة دورهم، فيخلصون في المشورة ويبذلونها راغبين مهتمين ، فينتج القرار السليم الأقرب للصواب .

    4- إنهم أخلصوا لها في الجواب حين أعلنوا أنهم يجمعون بين أمرين مطلوبَين لقوة الدولة : نحن أقوياء بما فيه الكفاية لرد أي عدوان . والقوة هنا كثرة العتاد والعدة . أما الثاني فالبأس الشديد والتدريب المحكم . ( نحن أولو قوة وألو بأس شديد ) .

    5- يقدم المستشار مشورته واضحة ثم يترك تقدير الأمر للقائد والملك ليتحمل مسؤولية قراره عن قناعة ويُعدِّ له العدة المناسبة . ( والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ) ولا أظنهم خرجوا عن المألوف ، فللقيادة آفاق من المعرفة أشمل لورودها معلوماتٍ أكثرَ وأدقّ كما ذكرنا في مقدمة الفكرة.
    كتاب سليمان عليه السلام القوي الذي وصفته الملكة بالكتاب الكريم يدل على إصرار صاحبه أن يصل إلى هدفه ما لم يستجب المرسل إليه إلى أوامره ، وهو – سليمان – الملك المرهوب الجانب القوي السلطان لن يتوانى في مهاجمة مملكة سبأ ويجعلها أثراً بعد عين .
    قالت حكمتها التي سجلها القرآن بأحرف من نور ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون )

    1- والمقصود بالإفساد الخراب والدمار ، فالحرب لا تبقي ولا تذر ، ألم يقل الشاعر الحكيم :
    وما الحرب إلا ما علمتم وذقتُمُ ..... وما هو عنها بالحديث المرجّمَ
    قتلٌ وإهلاك وسلب ونهب وإذلال واستعباد .. وتنقلب الحياة ألماً وحسرة وتشرداً ويتماً وفقراً وضَعة ... هذه نتيجة المعركة وهي – ملكة سبأ - أضعف من أن تقف أمام ملك قويّ ذي هدف يسعى إليه ، ولن تضيّع شعبها في عمل غير محمود العواقب.

    2- وهي تعلم نفسية الملوك حين يغضبون ، لهذا قالت متأكدة مما تقول : ( وكذلك يفعلون ).

    3- والرائع في الأسلوب القرآني في هذه الآية الكريمة مجيء جوابُ: إذا الشرطية المتعدد في صيغة الماضي ( أفسدوها وجعلوا ) للتعبير عن مستقبل مشهود كأنه حاصل ابتداءً فالملوك حين يغضبون لا يرحمون أحداً ، والتاريخ شاهد على ذلك .

    4- ولكن تستبق الأحداث بجس النبض عند العدو ، فإن كان تهديده لمال يريده أعطيناه ، وكفينا أنفسنا مؤونة التصدي له ، وما أكثر الذين يجيشون الجيوش لاكتناز ما يستطيعون في هذه الدنيا ، وقد يكون سليمان – على رأي الملكة – واحداً منهم ، وهي لا تعلم حقيقته ، فلِمَ لا تتقي شره بهدية مناسبة ؟! .( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ) واستعملت الصفتين ( مرسلة وناظرة ) بدل الفعلين ( سأرسل وأنظر ) للوقوف على أمر سليمان بحكمة وتأنٍّ دالين على فهم ثاقب للأمور .

    5- فإن رضي بالهدية الثمينة كان كغيره من الملوك البطرين فاكتفينا أمره بالهدايا المتواترة وأزحنا عن أنفسنا ضرره وأذاه ، وإن كان غير ذلك نزلنا على أمره فأتيناه كما أمر. وهذا ما يفعله المغلوب على أمره الواعي لواقعه.
    وتصل الهدية الفخمة الى نبي الله سليمان عليه السلام ، فيفهم مراد الملكة بلقيس وهدف أهل سبأ منها ونلحظ ما يلي :

    1- أن سليمان عليه السلام يستصغر ما فعلوه ، فهو ليس من هؤلاء الذين يطربون لما يغنمون من حطام الدنيا ولعاعها ، إن الله تعالى أعطاه من كل شيء ، وعطاء الخالق يغطي على عطاء المخلوق ، فهو – سبحانه يعطي عن جود وكرم ، وهي تعطي عن خوف وتملق ، ( وشتان ما ين السماء والأرض...) . ( أتمدونَنِ بمال فما آتانيَ الله خير مما آتاكم ) وإذا كان عطاء الله تعالى لسليمان أفضل مما أعطاها فإن عطاءها لسليمان يتقزّم كثيراً ..

    2- ( بل أنتم بهديتكم تفرحون ) كلمة قالها سليمان عليه السلام لرسل الملكة فوصلت إليها قاصمة للظهر مخيفة ، إنه تهديد بالهجوم الكاسح الذي حاولت جهدها أن تتحاشاه ، فهو عليه السلام لم يرسل لها الكتاب مبتزاً أو مستكثراً ... فأسرعت إليه لاتلوي على شيء
    .
    3- ويُفهمُ من قوله عليه السلام : ( بل أنتم بهديتكم تفرحون ) تظنون أنكم ملكتم مني ما تريدون وحصلتم على ما رسمتم ، وهيهات هيهات لما خططتم ، فأمركم مكشوف وهدفكم واضح لا يخفى عليّ .

    4- وكأنه حين قالها كانت إعلانَ حرب تأكل الأخضر واليابس إن لم تتدارك ملكة سبأ الأمر.. ( ارجع إليهم فلنأتيَنّهم بجنود لا قِبَل لهم بها ولنخرجنّهم منها أذلة وهم صاغرون ) .وتأمل معي قوله المفاجئ ( إرجع إليهم ) لتقيس نبض الرسول المتسارع وهو يسمع هذه الكلمة ، وتأمل التفاتة سليمان عليه السلام إلى قادة جيشه – ورسول الملكة حاضر يسمع التهديد المخيف ( فلنأتيَنّهم بجنود لا قِبَل لهم بها ولنخرجنّهم منها أذلة وهم صاغرون ) فيسرع هذا المسكين إلى ملكته يلقي عليها النبأ الصاعق ، فتسرع إلى سليمان تسابق الريح.

    5- وكان سليمان عليه السلام يعلم أن النصر من عند الله لا من كثرة جيشه وقوته ، فقد ذكرنا في المقال السابق أنه كان يعزو كل الفضل لله تعالى ، لكنه حين يهدد العدو يخاطبه بما يفهم ليس غير. ولهذا قال مهدداً ( فلنأتينهم بجنود لا قِبَل لهم بها ) . وعزز بقوله ( ولنخرجنهم منها اذلة وهم صاغرون ) خوفها من حربه عليه السلام ،وهذه الحرب الإعلامية الاستباقية.

    6- ونشعر بالقسم المؤكد باللام في ( لنأتينهم ، لنخرجنهم ) يؤزم الموقف ويرسم موقف التحدي في إثبات الذات والصورة المعبرة عن اتخاذ موقف التحرك نحو سبأ.

    أما مجيء الآية التالية : ( قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل ظأن يأتوني مسلمين ) فانتقالٌ سريع إلى موقف آخر سبقته مواقف عديدة خففت من التأزم السابق حتى رأينا صورة مختلفة ، فيها النبي سليمان عليه السلام ينتظر ملكة سبأ بين لحظة وأخرى تدور فيها محاوة بينه وبين مستشاريه من الجن والإنس:

    1- نجد النبي الملك سليمان يتباسط مع الحاضرين في الحديث ويستعين بأصحاب القُدُرات في إظهار المملكة بمظهر القوة أمام الضيف القادم ، وهذا ( بروتوكول ) مطلوبٌ يحشد فيه القائد دلائل القوة والعظمة ليبعث رسائل معلومة وواضحة لضيفه المنافس .
    2- وأعظم ما عند المرأة عرشها المصنوع بإحكام يدل على الأُبّهة ( ولها عرش عظيم ) ، فإن كان لضائفها مثله فقد ساواها ، وإن جلبه إليه بقوة قادر فقد فاقها في السلطة والمكانة. ( أيكم يأتيني بعرشها ) قبل مجيئها يحوطها وفدُها.

    3- بدأ عفريت قويٌّ القولَ : أنا آتيك به قبل أن ينتهي لقاؤك مع مجلس شوراك – والمسافة آلاف الأميال - إنه لعَرضٌ مغْرٍ يدل على التمكن والقوة ( وإني عليه لقوي أمين ). وجميل أن يعرض المرء قُدراته حين يطلب عملاً ، وهذا سيدنا يوسف قال للملك ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) .... ولهؤلاء الجن قوة لا تُضاهى تفوق قوة الإنس بمراحل لا تُقَدّر. .. فهل من عرض آخر؟!

    4- يعرض أحد الرجال من الإنس مقرّب من ربه أعطاه الله سر اسمه الأعظم و( عنده علم من الكتاب ) عرضاً تغيضُ أمامه قُدُرات ذلك الجني العفريت وتتلاشى: أنا آتيك به بأقل من الثانية – في لمح البصر- ( أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طَرْفُك ) ومهما كان المخلوق ضعيفاً أمام المخلوقات الأخرى فإنه بعون الله وتيسيره يفوق الآخرين قَدْراً وقُدُرات. " فكن مع الله ترَ الله معك " ومن كان ولياً لله علّمه الله ، وما اتخذ الله ولياً جاهلاً ، ولو اتخذه لعَلّمه.

    5- ما كان لذلك الجني أن يعرض ما عنده لو عَلِم ما عند الإنسيّ من إمكانات مكتسبة وموهوبة ف : ملك الملوك إذا وهب .... لا تسألَنّ عن السبب
    الله يعطي من يشـاء ..... فقف على حدّ الأدب
    إنه اسم الله الأعظم الذي إن سألتَ به وصلتَ، وإن طلبتَ به أُجـِبْتَ. وعرَضَ هذا الرجلُ ما عنده بعد عَرْضِ الجنّيّ ليعلم الجميع أن الله تعالى قادر أن يفعل ما يشاء ، وأن يهب ما يشاء لمن يشاء. .. سبحانك اللهم ملك الملك ، هبنا رضاك والجنة ...

    6- علمنا سيدنا سليمان شكر الواهب . إنه حين ذكر نعمة الله عليه وعلى والده قال " إن هذا لهو الفضل المبين " وحين سمع النملة تحدث قومها قال مبتسماً ضاحكاً " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ .." وقال ابتداءً مع والده داوود عليهما السلام " الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " وهنا يقول حين رأى العرش مستقراً عنده : ( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ) . إن العطاء ابتلاء واختبار كالمنع سواء بسواء. فلنَعِ ذلك ولْنفهمْ.

    7- من شكر ارتد الشكر لصالحه – هكذا قالت الآية آنفاً - لكنّ الأدب الذي نتعلمه من النبي الصالح سليمان عليه السلام أنه لم يقل : ومن كفر فإنما يكفر على نفسه ويضرها. وهذا كلام لا يُلام المرء عليه فهو تحصيل حاصل. إنما أراد أن يعلمنا أن الله تعالى غني عن العباد وعبادتهم كريم في نفسه ، فإن لم يعبده أحد فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد . وهذا كما قال موسى مخاطباً قومه " إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد " وفي صحيح مسلم " يقول الله تعالى : يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ".

    ولعل سليمان تعجب أن يرضى أهل سبأ بامرأة تحكمهم ، فأراد أن يختبر فهمها وذكاءها ، فأمر بتغييرٍ في عرشها ليرى حكمها فيه حين تراه.

    1- ورغب كعادته التي علمناها في حسن الخلق الذي يتحلى به صلوات الله عليه أن تتعرف على عرشها بعد تنكيره فقدم الهداية وذكر ضميره ( أتهتدي ) وأخّر عدم الهداية وجعله مجهولاً حين قال " أم تكون من الذين لا يهتدون " ولم يقل : أتهتدي أم تضل . وهذا ما رأيناه في خطابه للهدهد ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين )

    2- ينبغي التعرف على قدرات من تعاشرهم حتى تنزلهم منازلهم .. يروى أن رجلاً جسيماً يرتدي حلة فاخرة جلس بوقار إلى حلقة أبي حنيفة النعمان وهو بين تلاميذه يناقشهم في بعض المسائل ، وكان يمد رجله متعباً في جلسته متباسطاً معهم ، فجمعها إليه حين جلس هذا الرجل بينهم ، ثم بدا للرجل أن يتكلم فسأل سؤالاً لا يدل على ذكاء وفهْمٍ ، فضحك ابو حنيفة ، وقال : آن لأبي حنيفة أن يمد رجله .. وهنا نجد نبي الله سليمان يريد أن يختبر الملكة بلقيس ، ويتعرف جدارتها في حكم أهل سباٍ ، فقال لمساعديه : " نكّروا لها عرشَها ننظرْ أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون " فغيّروا في عرشها بعض معالمه ، فلما وصلت واستقبلها أشار إلى عرشها يسألها بذكاء الأنبياء ولباقتهم : " أهكذا عرشُكِ " ولم يسألها أهذا عرشك؟ والفرق بين الطريقتين واضح . فالأول فيه شك وجواب الثاني نفي أو إثبات . فكان جوابها على قدر السؤال حين قالت : " كأنه هو " فلم تنفِ ولم تثبت. وتركته في دائرة الشك . هذا كان الاختبارَ الأول .

    أما الاختبارُ الثاني فكان أن طلب إليها دخولَ الصرح المبني بصفائح الزجاج فوق الماء ، فلم تتبين الزجاج ، فكشفت عن ساقيها تظن أنها ستخوض لُجـّته ، فلما قيل لها " إنه صرح ممرد من قوارير " علمت أنه يريد أن يريها ملكاً أعظم من ملكها ففطنت إلى مراده فاستسلمت ، وأذعنت ثم أسلمت بعد أن أقرّت بما كانت عليه من الكفر . وقيل كما في القرطبي - بتصرف - : عمله ليختبر قول الجن فيها : إن أمها من الجن، ورجلها رجل حمار؛ قاله وهب بن منبه. فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق : وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر. " وكشفت عن ساقيها " فإذا هي أحسن الناس ساقا؛ سليمة مما قالت الجن، فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها " إنه صرح ممرد من قوارير " والممرد المحكوك المملس
    ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام.

    انتهى



    الجمعية  الدولية  للمترجمين واللغويين العرب

     


  7. معاشر المؤمنين الكرام: سأدخل إلى موضوعِ اليوم من خلالِ قصةٍ قصيرةٍ ظريفة, لكنها لا تخلو من حكمةٍ وفائدةٍ كبيرة، وردٍ مُفحِمٍ قوي.. فقد خرجَ أحد الخدم من أحد البيوت وكان يحمل معه صحنٌ مغطى، فمرَّ بأحد الفضوليين، فسأل الخادم، ما يوجد في هذا الصحن المغطى، فقال الخادم، لو أراد أصحابهُ أن تعرفَ لما غطوه.. من حُسنِ اسلام المرء تركه ما لا يعنيه..

    من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يَعنِيهِ: حديثٌ نبويٌ عظيمٌ؛ صححه الأمام الالباني رحمه الله.. معناه: من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يُفيدُه في دنياهُ وآخرته..

    من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يَعنِيهِ: أساسٌ أخلاقيٌ متين، ومقياسٌ من مقاييس الأدب، ودليلٌ من أدلهِ الورع، ومظهرٌ من مظاهر التقوى.

    من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يَعنِيهِ:. قاعدةٌ سلوكيةٌ عَظيمةٌ، وخُلُقٌ جميلٌ تُحِبُّهُ النُّفُوسُ السوية، وسلوكٌ مُهذبٌ تميلُ إليهِ الفِطرُ السَّليمَةُ؛ يَرفعُهم عَنِ مراقبةِ النَّاس والتَّجسُسِ عليهم، والتَّلَصُّصِ على أخبارِهم، وَإِيذَاءِهم بالتطفُلِ على خُصُوصِياتِهم، وإِحرَاجِهم بالأسئلةِ الثَّقِيلةِ؛ فهم في راحةٍ, والنَّاسُ مِنْهُمْ فِي أْمَانٍ إِنَّ حَلُّوا وِإن رحَلُوا..

    أجل يا عباد الله: من حُسنِ اسلامِ المرءِ عَدَمُ الاسترسالِ معَ ما لا يُفيدُ، وتَركُ الخوضِ فيما لا يَنفعُ، وعدمُ التكلُمِ فيمَا لا يُخصه..

    من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يَعنِيهِ.. هكذا يعلمنا دينُنا العظيم: أن نحرصَ على ما ينفعنا, وأن ندعَ ما يُريبنا إلى ما لا يُريبنا, وأن نحبَّ لإخواننا ما نحبه لأنفسنا..

    من حُسن اسلام المرء عدم تتبع العثرات والعورات.. وترك الإلحاح بالسؤال.. متى ذهب فلان؟ ومن أين جاء علان؟ بكم اشترى ومن أين ومتى؟ وكيف حصل ذلك، من أين لك هذا... وغيرها من أسئلة الفضول والتطفل التي لا طائلَ من ورائها سوى حرقِ الاوقات وفتح أبواب الشر، وجرُّ المرءِ للخوض فيما لا يُحسنه ولا يُتقنه ولا يعلمه، مما هو ليسَ داخلاً في تخصُّصهِ ولا مسؤوليته.. والاستغراق في الحوادث وتفاصيلِ المستجِدات.. بينما لو صَرفَ هذه الأوقات والجهود في أمورٍ أخرى لكان خيراً له عشرات ومئات المرات..

    ولا شك يا عباد الله: أن مِنْ طَبِيعَةِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَتَأَذَّوْنَ مِمَّنْ يَتَدَخَّلُ في شُؤُونَهُمُ الْخَاصَّةَ، ويتطفل على أخبارهم وتفاصِيلِ حياتهم، وَيَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ تَعَدِّيًا وقحاً عَلَى خُصُوصِيَّاتِهِمْ؛ جاء في الحديث المُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: "كُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِك"... نعم يا عباد الله: فكَمْ جَلَبَ الِاشْتِغَالُ بمَا لَا يَعْنِي مِنْ مَصَائِبَ! وكم تسبب في وقوعِ المشاكلَ والمَتَاعِبَ! وَكَمْ عَادَ عَلَى صَاحِبِهِ بالنَقْصِ والمعايب، وَمَا فَتَحَ الانسانُ عَلَى نفسه أَبْوَابًا الإثمِ, وَمَا ظَلَمَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ، بِمِثْلِ اشْتِغَالِهِ بِمَا لَا يَعْنِيهِ، وتَدخُلِه فيما لا يخصه.. فكم من خُصُوصِيَّاتٌ أُشِيعَتْ، وَكم من صُدُورٌ أُوغِرَتْ، وَكم من ضَغَائِنُ حَلَّتْ، وَأُسَرٌ تَمَزَّقَتْ ثُمَّ تَفَرَّقَتْ، بسبب الِاشْتِغَالَ بمَا لَا يَعْنِي..

    الْمُتَدَخِّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ تَوْفِيقًا، وَمِنْ أَضْعَفِ الْعِبَادِ مُحَاسَبَةً لِنَّفْسِه، مهموم مغموم، يُلَاحَقُ الْخُصُوصِيَّاتِ، وَيَتبعُ الْأَخْبَارِ، ويَحْرِصُ عَلَى مَعْرِفَةِ تفاصيل حياةِ الآخرين، وَالْبَحْثِ فِي أَدَقِّ شؤنهِم.. وفي المثل المشهور: " من راقب الناس مات هماً "..

    ثم إن الانشغال بشؤون الآخرين لا بد أن يقود إلى المشاكسات والمُلاسَنات، والدخول في دائرة الظنون والتكهُّنات، فيسيءَ أكثرَ مما يحسن، ويهدمُ أكثرَ مما يبني.. وفي الحديث الصحيح: "وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم".. وفي صحيح البخاري: قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَنْ هجر ما حرم الله".. وفي الحديث الصحيح ايضاً: قال صلى الله عليه وسلم: "من تتبع عورة أخـيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيـته"..

    وحرص المرء على سلامةِ دينهِ وعرضهِ، وانشغالهِ بنفسه عن شؤونِ غيره، وتركهِ ما لا يعنيهِ، دليلٌ على رجاحةِ عقله, وكمال توفيقه؛ وَصَاحِبُهُ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيْشًا وأهنأهم نفساً, وأسلمهم َقَلْبًا..

    ولو تأمل العاقل جيداً لأدركَ بوضوحٍ أنَّهُ لا يهتمُ بالصغائِرِ إلا صِغارُ العقولِ والهِمم، ولا يُفتشُ في القاذورات إلا الجُعلان والخنافس..

    فكم من راحةٍ يجنيها المرءُ لو تركَ التدخلَ في خُصوصِيات الناس وشؤونهم..

    والمسلمُ حينَ يعي أهمية ترك ما لا يعنيه، ويؤمن بجميل ثمرات هذا الخلق الطيب، فلا بدَّ أنه سيحرص على أن يتخلق بهذا الخلق الجميل، قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].. وأما الطريق لتحصيل ذلك.. فيبدأ بأن يُقنعَ الانسانُ نفسهُ أنَّ السلامةَ لا يعدلها شيءٌ، وأنَّ انشغالَ الإنسانِ بما يَهمُّه وينفعهُ من أمور معاشهِ ومعادهِ هو الأجدرُ والأولى به، وهو الأسلمُ لدينة وعرضه، وأنَّ النفسَ إن لم تشغلها بالحقِّ شغلتك بضدهِ.. ثم يجاهدُ نفسهُ ويقومها، فإنما العلمُ بالتَّعلم، وإنما الحلمُ بالتَّحلُم، وكم من عادةٍ طيبةٍ وسلوكٍ جميلٍ صار طبعاً بالمجاهدة والتعود، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]..

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70، 71]..

    بارك الله...

    الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه واخوانه، وسلم تسليماً كثيراً..

    أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18]..

    معاشر المؤمنين الكرام: آداب الخير كلها، بل مدارُ الدين كله كما قال بعضُ العلماء على أربعةِ أحاديث: الأول، قوله عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"، والثاني قوله عليه الصلاة والسلام: "من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، والثالث: تلك الوصية النبوية الغالية: "لا تغضب"، والرابع قولهُ عليه الصلاة والسلام: "لا يؤمن أحدكم، حتى يحبَّ لأخيهِ ما يحب لنفسه".

    وكم نحن بحاجةٍ ماسة إلى أن نفهم جيداً قواعد الإسلام وأنظمته العامة.. فهذه القاعدة العظيمة: من حُسنِ اسلامِ المرءِ تركهُ ما لا يعنيه.. يفهمها بعض الناس فهماً خاطئاً.. فيظن أنَّ على المرء أن ينأى بنفسه عن الناس، ويتقوقع في بيته، ويهجرَ بني مجتمعه، فلا ينصحُ ولا يُصلِح.. وليس الأمر كذلك، فإن الإسلام دينٌ يربي المسلم على أن يكونَ فرداً إيجابياً نافعاً، ولبنةً صالحةً في مجتمعه، وإنما نهى الإسلام الإنسانَ أن يتدخل فيما لا يعنيه من شؤونِ الناس الخاصة، مما لا يُفيده في دنياه ولا أخراه، أو أن يتتبع عيوبَ الناس ونواقصَهم، لكن الإسلام العظيم يأمر المسلم أن يكون إنساناً صالحاً في نفسه، مُصلحاً لغيره، يحبُّ لأخيه ما يحبهُ لنفسه.. قائماً لهُ بواجب النصحِ والإرشادِ، فالدين النصيحة, ومن لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن غشنا فليس منا.. ومن رأى منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.. إلا أنه لا بدَّ للناصح أن أن يكون مُخلصاً في نصيحته، رحيماً في تعليمه، حكمياً في أسلوبه، قاصداً نفع المنصوح وفائدته، دون تشهيرٍ أو إحراج، فإذا فعل ذلك فلا يُعد ذلك تدخلا فيما لا يعنيه، بل هو مأجورٌ مشكور، قال تعالى: ﴿ لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].

    فاتقوا الله عباد الله، وكونوا لبنةً صالحةً في مجتمعكم، انأوا بأنفسكم عن خصوصيات الناس، واسعوا بالصلح والإصلاح عبادة لربكم، وخدمة لأمتكم، ونفعاً لغيركم..

    ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.. اللهم صل.


    الشيخ عبدالله محمد الطوالة


    شبكة الالوكة


     


  8. (وَإِذۡ قَتَلۡتُمۡ نَفۡسٗا فَٱدَّٰرَٰٔتُمۡ فِيهَاۖ وَٱللَّهُ مُخۡرِجٞ مَّا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ٧٢ فَقُلۡنَا ٱضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ كَذَٰلِكَ يُحۡيِ ٱللَّهُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ٧٣ ﱠ [البقرة: 72-73]

    السؤال الأول:

    قوله تعالى في هذه الآية: (وَإِذۡ قَتَلۡتُمۡ نَفۡسٗا) [البقرة:72] جاء بعد الأمر بذبح البقرة في الآية 67، فما فائدة تقديم الذبح في البيان؟ وما دلالة هاتين الآيتين بشكل عام؟

    الجواب:

    بشكل عام آيات البقرة هي في بيان النعم على بني إسرائيل، فناسب تقديم ذكر النعمة على ذكر الذنب. وجاء قوله تعالى: (وَٱللَّهُ مُخۡرِجٞ مَّا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ) [البقرة:72] بالصيغة الاسمية (مخرج ) لتدل أنه لا بدّ وأن يفعل ذلك , وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات وإلا لما قدر على إظهار ما كتموه.

    من جهة أخرى , قوله تعالى: (فَقُلۡنَا ٱضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ) [البقرة:73] من المفيد أن نذكر هنا أنّ الله قادر على إحياء الميت دون ضربه ببعض البقرة , لكنّ الله تعالى اقتضت حكمته ترتيب الأشياء على أسبابها , ولجبر اليتيم صاحب البقرة بما حصل له من ثمنها , إضافة إلى بيان قدرة الله على إحياء الموتى أمام بني إسرائيل (لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ٧٣) [البقرة:73] أي: حتى تتفكروا بعقولكم , فتمتنعوا عن معاصيه. والله أعلم.

    والله أعلم.

    السؤال الثاني:

    ما معنى قوله تعالى في هذه الآية: (فَٱدَّٰرَٰٔتُمۡ فِيهَاۖ) ؟

    الجواب:

    أي تدافعتم لأنّ المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاَ أي يدفعه , والمعنى: اتهم بعضكم بعضاً وتدافعتم لطمس معالم الجريمة ودرء الشبهة.والله أعلم.

    ****

    { ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ}[البقرة: 74]

    السؤال الأول:

    تكرر الضمير ( منها ) و ( منه ) في الآية مرتين لكل منهما , إلى أين تعود هذه الضمائر؟وما إعراب قوله: (وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ)؟ 

    الجواب:

    الضمير ( منها ) في الموضعين يعودان إلى كلمة:(الحِجَارة) و ( مِن ) هنا للتبعيض , أي: من بعض الحجارة , بينما يعود الضمير ( منه ) في قوله تعالى: ( يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ) إلى مكان التفجّر, وهو التفتح بسعة وكثرة , ويعود في قوله تعالى: ( لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ) إلى مكان التشقق أو التصدع الذي يخرج الماء منه , وهو دون النهر.

    وأمّا الإعراب فهو كالتالي:

    وإنّ: الواو حرف إستئناف , و ( إنّ) حرف توكيد ونصب.

    من الحجارة: جار ومجرور , وشبه الجملة في محل رفع خبر إنّ مقدم.

    لما: اللام للتوكيد , و ( ما ) إسم موصول مبني على السكون في محل نصب إسم ( إنّ).

    يتفجّر: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة.

    منه: جار ومجرور.

    الأنهارُ: فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة , والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.

    والله أعلم.

    السؤال الثاني:

    ما دلالة حكم الإظهار في التلاوة في قوله تعالى في الآية: (وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ)؟ 

    الجواب:

    وردت جملة: (وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ) ست مرات في القرآن الكريم في الآيات: [ البقرة 74 ـ 85 ـ 140 ـ144 ـ 149 ـ آل عمران 99] ووردت جملة: (وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ) ثلاث مرات في القرآن الكريم في الآيات: [ الأنعام 132 ـ هود 123 ـ النمل 93 ] , ونلاحظ وجود إظهار بين كلمتي  (بِغَٰفِلٍ عَمَّا) وبذلك لا توجد غنة وإنما نون ظاهرة توحي بقطعية هذا الخبر , وأنّ الله ليس بغافل عما تعملون ولو للحظة واحدة. 

    أمّا في حالة نسبة (الغفلة) إلى البشر فقد وردت في القرآن , وبعدها كلمات لا تبدأ بحروف الحلق , كما في قوله تعالى:

    (وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ وَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ٣٩) [مريم:39]. 

    (وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ) [الأنبياء:1]. 

    (يَٰوَيۡلَنَا قَدۡ كُنَّا فِي غَفۡلَةٖ مِّنۡ هَٰذَا) [الأنبياء:97]. 

    (وَدَخَلَ ٱلۡمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفۡلَةٖ مِّنۡ أَهۡلِهَا) [القصص:15]. 

    (لَّقَدۡ كُنتَ فِي غَفۡلَةٖ مِّنۡ هَٰذَا فَكَشَفۡنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلۡيَوۡمَ حَدِيدٞ) [ق:22]. 

    أي توجد غنة حسب أحكام علم التجويد في: (غَفۡلَةٖ وَهُمۡ) (غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ ) (غَفۡلَةٖ مِّنۡ) , أي أنّ البشر غافلون لمدة طويلة , وليس لمدة قصيرة فقط.

    وهذا من لطائف معاني أحكام التجويد. والله أعلم.


  9. تفسير الربع الخامس من سورة الأنعام بأسلوب بسيط

     
    الآية 74: (﴿ وَإِذْ ﴾): أي واذكر حينَ (﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً ﴾): يعني أتصنع من الأصنام آلهة لتعبدها من دون الله تعالى؟ (﴿ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾): أي في ضلالٍ واضح عن طريق الحق.

    الآية 75: (﴿ وَكَذَلِكَ ﴾): يعني وكما هدينا إبراهيم عليه السلام إلى الحق في أمر العبادة: (﴿ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾): أي نُرِيهِ ما تحتوي عليه السماوات والأرض من مُلك اللهِ العظيم، وقدرته الباهرة، (﴿ وَلِيَكُونَ ﴾) بذلك التفكر والاستدلال (﴿ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾): أي من الراسخين في إيمانهم بالله تعالى، وبأنه وحده المستحق للعبادة دونَ سواه، إذ إنه بقيام الأدلة: يَحصل اليقين، (واعلم أن اليقين هو أعلى مراتب الإيمان).

    الآية 76: (﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ﴾): أي فلما أظلم الليل على إبراهيم عليه السلام: ناظَرَ قومه لِيُثبت لهم أن دينهم باطل، (وكانوا قوماً يعبدون النجوم والكواكب، فيصنعون لها أصناماً بأسمائها، ويعبدونها - اعتقاداً منهم - أنها تقربهم إلى الله تعالى)، فلما (﴿ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ ﴾) - مُستدرجاً قومه لإلزامهم بالتوحيد -: (﴿ هَذَا رَبِّي ﴾)، فهيا ننظر، هل يستحق الربوبية أم لا؟ وهل هناك دليل على ذلك أم لا؟ فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه، بغير حُجَّة ولا برهان، (﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾): أي فلَمَّا غاب الكوكب: (﴿ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ﴾): أي لا أحب الآلهة التي تغيب.

     الآية 77: (﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا ﴾): أي طالِعًا (﴿ قَالَ ﴾) لقومه - على سبيل استدراج الخَصم -: (﴿ هَذَا رَبِّي ﴾) (﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾): أي فلما غاب القمر: (﴿ قَالَ ﴾) - مفتقرا إلى هداية ربه -: (﴿ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي ﴾): يعني لئن لم يوفقني ربي إلى الصواب في توحيده، (﴿ لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾) عن سواء السبيل بعبادة غيره.

    الآية 78، والآية 79: (﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ ﴾) لقومه (﴿ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ﴾) من الكوكب ومن القمر، (﴿ فَلَمَّا أَفَلَتْ ﴾): أي فلما غابت الشمس، (﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾).

     وبذلك واجَهَ إبراهيم قومه بالحقيقة التي أراد أن يوصلها لهم، وهي إبطال عبادة غير الله تعالى، فقال: (﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾): يعني إني أخلصتُ قصدي وتوجهي لله الذي خلق السموات والأرض، وانقدتُ له بجميع جوارحي، ولستُ كما توجهون أنتم وجوهكم لأصنامٍ صنعتموها بأيديكم، وعبدتموها بأهوائكم، لا بأمر ربكم، (واعلم أنه قد خَصَّ الوجه لأنه أكرم وأشرف الجوارح، وعليه تظهر المَشاعر، وبه يَحصل التوجُّه إلى كل شيء)، فإذا خضع وجهه لله، خضعتْ له جميع جوارحه، فلا يُشرك بعبادته أحدًا، (﴿ حَنِيفًا ﴾): أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد، (﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾) مع الله غيره.

    الآية 80: (﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ﴾): أي وجادله قومه في توحيد الله تعالى، فـ (﴿ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ﴾): يعني أتجادلونني في توحيدي لله بالعبادة، وقد وفقني إلى معرفة وحدانيته، فكيف أتركه وأنا على بينةٍ منه سبحانه وتعالى؟، وكيف يَصِح منكم الجدال في ترْك عبادة الله وحده، وعبادة ما سواه من الآلهة المزعومة، التي لم تخلق شيئاً، والتي لم تنفع مَن عَبَدها، ولم تضر مَن ترَكَ عبادتها؟

     فلمَّا تبرأ مِن آلهتهم: خوَّفوه بها وذكروا له أنها قد تصيبه بمكروه، فرَدَّ عليهم قائلاً: (﴿ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ﴾): يعني وإن كنتم تخوّفونني بأصنامكم أن تُوقِعَ بي ضررًا فإنني لا أخافها، ولن تضرني (﴿ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ﴾) واعلم أنه قد قال هذه الجملة احتياطاً منه للتوحيد، إذ إنه من الجائز أن يتعثر أمامهم في حجر، أو تشُوكه شوكة، أو يمرض بسببٍ أو بآخر، فيقولون له: (هذه آلهتنا قد أصابتك لأنك تَسُبُّها)، فيكون رَدُّهُ عليهم بأن الله هو الذي شاء ذلك الضرر وقدَّرَه، ويحتمل أن يكون المعنى: (إلا أن يشاء ربي أن يصيبني بشيءٍ أخافه من جهة تلك المخلوقات بسبب ذنبٍ فعلتُه، مِثل أن يرجمني بكوكب، أو بشيءٍ من الشمس أو القمر، أو غير ذلك مما لا أعلمه، ويَعلمه ربي، فقد (﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾)، ثم وبَّخهم بقوله: (﴿ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾) وتتفكرون بعقولكم، فتعلمون أنَّ ما أنتم عليه هو الباطل، وأنه تعالى هو وحده المستحق للعبودية؟!
    الآية 81، والآية 82: (﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ﴾): يعني وكيف أخاف أصنامكم، وهي حجارة جامدة لا تنفع ولا تضر لِعجزها وحقارتها وضعفها؟!، (﴿ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ﴾): يعني وأنتم لا تخافون ربكم الحق، المحيي المميت، الفعَّال لما يريد، الذي خلقكم وخلق حجارتكم التي أشركتموها معه في العبادة، مِن غير حجة لكم على ذلك إلا اتباع الهوى؟

    (﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ﴾) من عذاب اللهِ (﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾)؟ (فريق المشركين أم فريق الموحدين)؟، ثم حكم الله تعالى بينهم فقال: (﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾): أي الذين صدَّقوا بالله ورسله وعملوا بشرعه، (﴿ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾): يعني ولم يخلطوا إيمانهم بشِرك، إذ المقصود بالظلم هنا هو الشرك، كما قال تعالى: (﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾)، طبعاً إلا مَن تاب من الشرك قبل موته، وقَبِلَ اللهُ توبته، فـ (﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ﴾) في الدنيا والآخرة، (﴿ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾) إلى طريق سعادتهم وكمالهم وهو الإسلام، وذلك لانقيادهم للحق حيث كان، وأنتم ضالون عن ذلك لاتباعكم لأهوائكم.

    الآية 83: (﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾): يعني وتلك الحُجَّة التي غلب بها إبراهيمُ قومَه هي حُجَّتنا التي وفقناه إليها حتى انقطعت حُجَّتهم، وكما رفعنا منزلة إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة: (﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ﴾) من عبادنا، فإن العلم يَرفع اللهُ به صاحبه فوق العِباد درجات، خاصةً العالم العامل المُعَلِّم، فإنه يجعله الله إماماً للناس، وهذا تقريرٌ منه سبحانه بأنه فضَّل إبراهيم على غيره بالإيمان واليقين والعلم المبين، (﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ ﴾) في تدبير خلقه واصطفائهم، (﴿ عَلِيمٌ ﴾) بمن يستحق ذلك الاصطفاء والاختيار.

     وقد قيلَ إن هذه الحُجَّة التي أعطاها الله لإبراهيم هي قولهم له: (أمَا تخافُ أن تُخْبِلَكَ آلهتنا - أي تصيبك بالجنون - لِسَبِّكَ إياها؟) فقال لهم: (أفلا تخافون أنتم منها إذ سَوَّيتم بين الصغير والكبير في العبادة، فيَغضب الكبير فيُخبِلَكم؟).

    الآية 84، والآية 85، والآية 86: (﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ﴾) ابنًا (﴿ وَيَعْقُوبَ ﴾) حفيدًا، (﴿ كُلًّا هَدَيْنَا ﴾): أي ووفَّقنا كُلاً من إسحاق ويعقوب لسبيل الرشاد، (﴿ وَنُوحًا هَدَيْنَا ﴾): أي وكذلك وفَّقنا للحق نوحًا، وذلك (﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾): أي من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، (﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴾): أي وكذلك وفَّقنا للحق من ذرية نوح: (﴿ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ ﴾) عليهم السلام، (﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾): يعني وكما جَزينا هؤلاء الأنبياء لإحسانهم: نجزي كل مُحسنٍ في عبادته لله.

    (﴿ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ﴾) هديناهم كذلك، و(﴿ كُلٌّ ﴾): يعني وكُلّ هؤلاء الأنبياء جعلناهم (﴿ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾)، (﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ﴾) هديناهم كذلك، (﴿ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾): يعني وكُلّ هؤلاء الرسل فضَّلناهم على أهل زمانهم.

    الآية 87: (﴿ وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ﴾): يعني وكذلك وفَّقنا للحق مَن شِئنا هدايته من آباء هؤلاء الرسل وأبنائهم وإخوانهم، (﴿ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ ﴾): أي واخترناهم لديننا وإبلاغ رسالتنا إلى مَن أرسلناهم إليهم، (﴿ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾): يعني وأرشدناهم إلى طريقٍ صحيح، لا عِوَجَ فيه، وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك.

    الآية 88: (﴿ ذَلِكَ ﴾) الهدى هو (﴿ هُدَى اللَّهِ ﴾) الذي (﴿ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾) (﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾): يعني وإن هؤلاء الأنبياء - على كمالهم وعُلُوّ درجاتهم - لو أشركوا بربهم، فعبدوا معه غيره: لَبَطَلَ عَمَلُهم كله، لأن الله تعالى لا يقبل مع الشرك عملاً، وهذا على سبيل الفرْض، وإلاَّ فالرسل معصومون، ولكنْ ليكون هذا عظة وعبرة للناس.

    الآية 89: (﴿ أُولَئِكَ ﴾) الأنبياء الذين أنعمنا عليهم بالهداية والنبوة هم (﴿ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾) كصحف إبراهيم، وتوراة موسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى، (﴿ وَالْحُكْمَ ﴾): أي وآتيناهم فَهْمَ هذه الكتب، والإصابة وسداد الرأي، (﴿ وَالنُّبُوَّةَ ﴾): أي واخترناهم لإبلاغ وَحْيِنا، (﴿ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ ﴾): يعني فإن يجحد الكفارُ من قومك بآيات هذا القرآن وما تَحمله من شرائع وأحكام وهداية: (﴿ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا ﴾): أي ألزمنا بالإيمان بها وبمراعاتها (﴿ قَوْمًا ﴾) آخرين - أي: المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة - وهؤلاء (﴿ لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾) بل مؤمنون بها، عاملون بها.

    الآية 90: (﴿ أُولَئِكَ ﴾) الأنبياء المذكورون هم (﴿ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾): أي وفقهم الله تعالى لدينه الحق، (﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾): يعني فاتبع هداهم أيها الرسول في نفي الشرك وإثبات التوحيد، واسلك سبيلهم في الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم.

     واعلم أن الهاء التي في كلمة: (اقتده) تسمى هاء السكت، وهذا مِثل قوله تعالى: (﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَة * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ )، ويكون تقدير هذه الهاء: (فبهداهم اقتدِ الاقتداء الكامل التام)، والله أعلم.

    (﴿ قُلْ ﴾) أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين بنبوتك وكتابك: (﴿ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾): أي لا أطلب منكم مالاً مقابل تبليغ القرآن لكم، حتى لا يكون ذلك من أسباب امتناعكم، وإنما أمِرْتُ أن أقرأه عليكم لهدايتكم، و (﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾): أي وما القرآن إلا موعظة للعالمين، يتعظون بها إن هم أنصتوا له وتدبروه، وتخلَّوا عن أهوائهم، وأرادوا الهداية إلى الحق، وطلبوها من الله بصدق.

    الآية 91: (﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾): أي وما عَظَّم هؤلاء المشركون اللهَ حق تعظيمه، وكذلك لم يعظمه اليهود (﴿ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾) لأن هذا افتراءٌ عظيمٌ عليه سبحانه بأنه يترك عباده لا يأمرهم بما فيه صلاحهم، ولا ينهاهم عما فيه خسرانهم، فمَن قال ذلك، لم يَعرف ربه حقَّ معرفته، ولم يعرف جلاله وعظمته، ولا رحمته وحِكمته، وبهذا ما قدروا الله حق قدره.

    (﴿ قُلْ ﴾) لهم أيها الرسول: إذا كان الله لم يُنزل شيئاً على عباده، فـ (﴿ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ﴾)؟ (﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ ﴾): أي تجعلون هذا الكتاب في أوراق متفرقة، (﴿ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾): يعني تظهرون بعضها، وتكتمون كثيرًا منها، وذلك بحسب أهوائكم وأطماعكم، (ومِن ذلك كِتمانكم لصفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبُوّته الموجودة في التوراة)، (﴿ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ ﴾): يعني وعَلَّمَكم اللهُ يا معشر العرب بالقرآنِ -الذي أنزله عليكم، والذي فيه خبر مَن قبلكم ومَن بعدكم، وما يكونُ بعد موتكم - ما لم تعلموه أنتم ولا آباؤكم، وكذلك عَلَّمَكم أيها اليهود بالتوراة مَا لَمْ تكونوا تعلمون أنتم وآباؤكم الأقدمون، (﴿ قُلِ ﴾) لهم (﴿ اللَّهُ ﴾) هو الذي أنزل التوراة على موسى، (﴿ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾): أي ثم اتركهم في حديثهم الباطل يلعبون.

     واعلم أنه قد ثبت عن سعيد بن جُبير رحمه الله أن هذه الآية نزلت في أحد أحبار اليهود ويُدعَى (مالك بن الصَّيف)، حينما جاء يجادل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: (أَنْشُدُك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يُبغض الحَبْر السّمِين؟) - وكان هذا الحبرُ سميناً - فغضب من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (واللهِ ما أنزلَ الله على بشرٍ مِن شيء)، فقال له أصحابه الذين معه: (وَيْحَك، ولا على موسى؟) فقال: (واللهِ ما أنزل الله على بَشَرٍ من شيء)؛ فنزلتْ هذه الآية، فلما عاد هذا الحبر إلى قومه قالوا له: (ويلك، ما هذا الذي بلغَنَا عنك؟)، فقال: (إنه أغضبني)، فعزله اليهود بسبب هذا الكلام عن رياستهم، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.

    الآية 92: (﴿ وَهَذَا ﴾) القرآن هو (﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾): أي عظيم النفع، و (﴿ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾): أي وهو مُصدقٌ لِما تقدَّمه من الكتب السماوية، (﴿ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾): يعني وأنزلناه لِتُخوِّفَ به أهل "مكة" من عذاب الله، وكذلك تخوف به مَن حول مكة من المدن والقرى القريبة والبعيدة، لِتنذرهم عاقبة الكفر والضلال، فإنها الخُسران التام والهلاك المبين، (﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾): يعني وأما الذين يصدقون بالحياة الآخرة، فهم يصدقون بأن القرآن كلام الله، لأنّ مَن صَدَّقَ بالآخرة، وعَلِمَ أن الله لم يَخلق شيئا عبثاً: خاف العاقبة، ولا يزال الخوف يَحمله على النظر والتدبر حتى يُؤمن بالقرآن، وذلك لوضوحه، وقوة حُجَّته، وتوافقه مع الفطرة السليمة، (﴿ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾): أي وهؤلاء المؤمنون يحافظون على إقامة الصلاة في أوقاتها المحددة في جماعة المسلمين، (واعلم أن الله تعالى قد خَصَّ الصلاةَ بالذِكر، لأنه إذا صَحَّتْ الصلاة: صَحَّ سائر العمل).

    الآية 93: (﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾): أي ومَن أشدُّ ظلمَّا (﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾) فزعَمَ أنه لم يَبعث رسولاً من البشر، (﴿ أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ ﴾): يعني أو زعم كذبًا أن الله أوحى إليه، (﴿ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ﴾)، وكذلك: (﴿ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾): أي زعم أنه قادرٌ على أن يُنْزل مثل ما أنزل الله من القرآن، فمَن أشدُّ ظلمَّامن هؤلاء؟ (﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ﴾): يعني ولو أنك أيها الرسول أبصرتَ هؤلاء الظالمين وهم ( ﴿ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ﴾: أي في شدائد الموت التي غمرتهم لرأيت أمرًا عظيمًا، (﴿ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾) - الذين طلب الظالمون إنزال بعضهم على وجه الظهور لهم، وأخبرناهم أنهم لا ينزلون إلا لِفصل الأمور وإنجاز المقدور - يقبضون أرواحهم الآن، وهم (﴿ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ﴾) بالضرب ونزع الروح، قائلين للمحتضرين (تعجيزاً لهم، وتشديداً في الإزهاق من غير تنفيسٍ أو إمهال): (﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ﴾): أي خَلِّصوها من هذا العذاب إن أمْكَنَكُم، (﴿ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾): يعني: اليوم تذوقون عذاب الذل والمَهانة، وذلك (﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾): أي وبما كنتم تستكبِرونَ عن الانقياد لآيات الله تعالى.

     واعلم أن في قوله تعالى: (﴿ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾) إثباتٌ لعذاب القبر، لأن هذا اليوم - المذكور في الآية - هو اليوم الذي تخرج فيه أرواحهم، فيُعذبون في قبورهم - عذاب الهُون - من هذا اليوم إلى قيام الساعة.

    الآية 94: (﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا ﴾) للحساب والجزاء (﴿ فُرَادَى ﴾): أي بمفردكم، فليس معَ أحدِكم مالٌ ولا رجال (﴿ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾): أي كما أوجدناكم في الدنيا أول مرة حُفاة عُراة، (﴿ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾): يعني وتركتم ما أعطيناكم - من مال ومتاع - في دار الدنيا فلم تأخذوها معكم، (﴿ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ﴾): يعني وما نرى معكم في الآخرة أصنامكم التي كنتم تعتقدون أنها تشفع لكم، وتَدَّعون كذباً أنها شركاء مع الله في استحقاقها لعبادتكم، (﴿ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾): أي لقد تقطعتْ الصلات التي كانت بينكم في الدنيا، فتَقطَّع ما كنتم فيه من الشِركةِ بينكم، فلم يَدفع عنكم شركاؤكم شيئاً من عذاب الله، (﴿ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾): أي وغاب عنكم ما كنتم تَدَّعون من أن آلهتكم سوف تشفع لكم عند الله، بل حصلَ لكم الضررُ منها، مِن حيثُ ظننتم نفْعَها، وظهر أنكم الخاسرون في الدنيا والآخرة  

     

    تفسير الربع السادس من سورة الأنعام بأسلوب بسيط



    الآية 95: ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾: يعني: إن اللهَ تعالى وحده هو الذي يَشُقّ الحَب فيَخرج منه الزرع، ويَشُقّ النَوَى فيَخرج منه الشجر والنخل، وهو سبحانه الذي ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ كإخراج الزرع من الحَب، والمؤمن من الكافر، ﴿ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ﴾: أي وهو سبحانه مُخرِجُ الميتِ من الحي كإخراج البيض من الدجاج، والكافر من المؤمن، ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ ﴾: أي: فاعلُ ذلك كله هو الله سبحانه تعالى، المستحق وحده للعبادة، ﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾: يعني فكيف تُصْرَفون عن توحيد الله تعالى - الذي هذه قُدْرَته - إلى عبادة مَن لا يَخلق شيئاً؟

     واعلم أن الله تعالى قال: ﴿ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ﴾ ولم يقل: ﴿ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾، لأنّ اللفظ: ﴿ مُخْرِجُ ﴾ معطوفٌ على قوله تعالى: ﴿ فَالِقُ ﴾، ولذلك جاء بنفس صيغته، ولم يأتِ بصيغة الفِعل: ﴿ يُخْرِجُ ﴾، وأما قوله تعالى: ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾، فهو كالبيان والتفسير لقوله: ﴿ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾، لأنّ فلْق الحب والنوى ﴿ اليابِسَيْن ﴾، وإخراج النبات والشجر منهما هو صورة من صور إخراج الحي من الميت، ولذلك جاء بصيغة الفِعل للتفسير والبيان.

    الآية 96: ﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ ﴾: يعني والله تعالى هو الذي شق ضياء الصباح من داخل ظلام الليل، ﴿ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ﴾: أي مستقرًا، ففيه يَسكن الناس ويَخلدون للراحة، ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ﴾: أي وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحسابٍ مُتقَنٌ مُقدَّر، لا يتغير ولا يضطرب، (واعلم أن الحُسبان: جمع حساب، مثل: شِهاب وشُهبان)، والمعنى أن الله جعل سَيْر الشمس والقمر بحسابٍ لا يزيد ولا ينقص، حتى يَعرفَ الناسُ أوقات الأيام والليالي والشهور والسنين، وما يتوقف على ذلك مِن عباداتٍ وأعمالٍ وآجالٍ وحقوق، ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾: أي ذلك إيجاد وتنظيم العزيز الغالب على أمره، العليم بأحوال عباده وحاجاتهم، وقد فعل ذلك من أجلهم، فكيف إذاً لا يستحق عبادتهم له؟!

    الآية 97: ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ ﴾ علاماتٍ ﴿ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾: أي لتعرفوا بها الطرق ليلاً إذا ضللتم بسبب الظلمة الشديدة في البر والبحر حتى لا تهلكوا، فهي نعمةٌ لا يَقدرُ على الإنعامِ بها إلا الله سبحانه وتعالى، فلماذا إذاً يُعبَدُ غيرُه؟! ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ ﴾: أي قد بَيَّنَّا الحُجَج والأدلة ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾، فبذلك أخبر تعالى عن نعمةٍ أخرى، وهي تفصيله للآيات وإظهارها، لينتفع بها العلماء الذين يميزون - بنور العلم - بين الحق والباطل، ولِيُعلموها للناس.

    الآية 98: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ﴾: أي ابتدأ خَلْقكم ﴿ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ وهي نفس آدم عليه السلام (أبو البشر)، إذ خَلَقه من طين، ثم كنتم أنتم سُلالةً منه، وذلك بأن خلقكم من آدم وحواء بالتناسل، ﴿ فَمُسْتَقَرٌّ ﴾: أي فجعل لكم مستقَرًا تستقرون فيه، وهو أرحام النساء، ﴿ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾: أي وجعل لكم مُستودَعًا تُحفَظُون فيه، وهو أصلاب الرجال (أي ظهورهم)، ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ ﴾: أي قد بَيَّنَّا الحجج والأدلة، وأظهرناها ﴿ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾: أي لقومٍ يفهمون مواقع الحُجَج، ومواضع العِبَر، وأسرار الأشياء، فيَهتدون بذلك لِمَا هو حق وخير، ولِتقوم لهم الحجة على أنه تعالى هو الإله الحق، دونَ غيره مِن سائر مخلوقاته.

    الآية 99: (﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ وهو ماء المطر ﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ مما هو قابلٌ للإنبات من سائر الزروع والنباتات، مما يأكل الناس والأنعام، ﴿ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا ﴾: أي فأخرجنا من ذلك النبات زرعًا وشجرًا أخضر، ثم ﴿ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا ﴾: أي ثم نخرج من هذا النبات الأخضر حَبًّا يَركب بعضه بعضاً، كسنابل القمح والأرز والذرة، وغير ذلك من أصناف الزروع.

     واعلم أن الله تعالى قال: ﴿ فَأَخْرَجْنَا ﴾ بضمير الْمُتكَلِّم الْجَمْعِي، بعد أن قال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ ﴾ بضمير الْواحد الْمُفْرَد - وهو ما يُعرَف في اللغة بأسلوب الالتفات - ليجعل الأذهان تلتفت إِلَى أهمية ما هو آتٍ، فَتَتَنَبَّهْ إلى أَنّ هذَا الإخراج البديع والصُنع المُتقَن هو مِن فِعل البديع الْخَلاَّق جل وعلا، ولَمَّا كان الماءُ واحداً، والنباتُ جَمعاً كثيراً: ناسَبَ ذلك إفراد الفِعل: ﴿ أَنْزَلَ ﴾، وجَمْع الفِعل: ﴿ أَخْرَجْنَا ﴾، ومعلومٌ أن الواحد إذا قال: ﴿ فَعَلْنَا ﴾ أَرادَ الإفَادة بتعظيم نَفسِهِ إذا كانَ مقامُهُ أهلاً لذلك، كما يقول الملك أو الأمير في خطابه: (قررنا نحن، أو أمرنا نحن بكذا وكذا)، واعلم أنه قد أتى بالفعل المضارع: ﴿ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا ﴾ بعد أن كان سياق الآية بصيغة الماضي، لاستحضار صورته العجيبة في حُسنها وانتظامها.

     واعلم أنه قد وصف الحبوب بأنها متراكبة، إشارةً إلى أنها لا تختلط، بل هي متفرقة، مع أنها تخرج من أصلٍ واحد، وإشارةً أيضا إلى كثرتها - رغم أن البذرة واحدة - وذلك لينتفع بها العباد بالأكل والبيع والادِّخار، فلله الحمد والمِنَّة.

    ﴿ وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا ﴾: أي وأخرج سبحانه مِن طَلْع النخل (وهو الوعاء الذي يخرج منه البلح، وهو الذي يُطلِق عليه المزارعون لفظ: (الطَرْح)، وهذا خطأ والصحيح أن اسمه: (الطَلْع))، فيَخرج من هذا الطلع ﴿ قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ ﴾: أي ثمراً قريبَ التناول، (هذا في النخلة القصيرة، إذ يتناول المرء ثِمارها لمدة عشر سنوات بيديه وهو واقفٌ عندها، فإن طالت النخلة وارتفعت، فإنه يجد فيها أماكن بارزة يَسهُل الصعود عليها).

    ﴿ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ ﴾: أي وأخرج سبحانه بهذا المطر بساتين من أعناب، ﴿ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾: أي وأخرج شجر الزيتون والرمان الذي يتشابه في ورقه وشجره، ويختلف في ثمره (شكلاً ولوناً وطعمًا).

     وقد خَصَّ اللهُ هذه الأشجار بالذكر (العنب والزيتون والرمان) دونَ سائر الأشجار، لكثرةِ منافعها وعظيمِ فوائدها.- ثم أمر تعالى عباده بالتفكر في ذلك الزرع، فقال: ﴿ انْظُرُوا ﴾ نظر تفكُّر واعتبار ﴿ إِلَى ثَمَرِهِ ﴾: أي إلى ثمر الأشجار كلها، وخصوصاً النخل ﴿ إِذَا أَثْمَرَ ﴾، ﴿ وَيَنْعِهِ ﴾: أي وانظروا إلى نُضجه واستوائه، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ ﴾: أي إن في ذلك المذكور كله ﴿ لَآَيَاتٍ ﴾: يعني لَدَلالاتٍ على كمال قدرة الخالق سبحانه وتعالى وحكمته ورحمته، وعنايته بعباده، ووجوب عبادته وحده.

    • ولكنْ ليس كل الناس يَعتبرون ويتفكرونَ في آيات الله، ويُدركون المراد منها، وما تدل عليه عقلاً وفِطرةً وشرعاً، ولهذا قيَّدَ تعالى الانتفاع بالآيات بالمؤمنين فقط، فقال: ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ وذلك لأنهم أحياء، يعقلون ويفهمون، أما غيرهم من الجاحدين فإنهم أموات، وذلك لِمَا تراكَمَ على قلوبهم من الشرك والمعاصي، فهم لا يعقلون ولا يفهمون، فكيف لهم أن يجدوا في تلك الآيات ما يَدُلُّهم على توحيد ربهم عز وجل؟!

    الآية 100: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ﴾: أي ورغم كل هذه الأدلة التي تستوجبُ توحيدَ الله تعالى، والانقياد لأوامره، فقد جعل هؤلاء المشركون الجنَّ شركاء لله تعالى في العبادة، اعتقادًا منهم أنهم ينفعون أو يضرون، ﴿ وَخَلَقَهُمْ ﴾: أي وقد خلقهم الله تعالى من العدم، هُم والجن الذين يعبدونهم، فهو سبحانه المُتفرِّد بالخَلق وحده، فيجب إفرادُهُ أيضاً بالعبادة، ﴿ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾: أي ولقد نسب هؤلاء المشركون البنين والبنات إليه تعالى، كَذِباً وجَهلاً منهم بما له مِن صفات الكمال ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ﴾: أي تَنزَّه وعَلا عما نسبه إليه المشركون من ذلك الافتراء.

    الآية 101، والآية 102: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: يعني واللهُ تعالى هو الذي أوجَدَ السماوات والأرض وما فيهنّ على غير مثالٍ سابق، ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ﴾: يعني كيف يكونُ للهِ ولدٌ ولم تكن له زوجة، إذ الولد لا يكون إلاّ من زوجة، والتوالد لا يكونُ إلا بين ذكر وأنثى، وذلك لِحِفظ النوع، وكثرة النسل، وعمارة الأرض، بل ولعبادة الرب تعالى بذِكْرِهِ وشُكرِه، أما الرب تعالى فهو خالق كل شيء، ولذلك قال بعدها: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ فكل ما في السماوات والأرض ملْكُه وعبيده، فكيف يكون له منهم زوجة أو ولد؟!

    • فهذا أكبر دليل على بُطلان نسبة الولد لله تعالى، إذ هو خالقُ كل شيء، فهل يُقالُ لِمَن خَلَقَ شيئاً أنه وَلَدَهُ؟! لو صَحَّ هذا لقالوا لِكُلّ مَن صَنَعَ شيئاً إنه أبو المصنوع، ولا يوجد قائلٌ بهذا أبداً، إذَن فأيُّ معنى لِنسبة الولد إليه سبحانه، إلا تزيين الشياطين للباطل حتى يقبله أولياؤهم من الإنس؟!، فسبحان مَن لا يحتاجُ إلى ولدٍ أو زوجةٍ كما يحتاج البشر، وسبحان الغني القوي، الذي ليس كمثله شيءٌ، ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.

    ﴿ ذَلِكُمُ ﴾ - أيها المشركون - هو ﴿ اللَّهُ رَبُّكُمْ ﴾ الذي (﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾): أي لا معبودَ بحقٍ سواه، فهو سبحانه (﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ﴾): أي فاخضعوا له وحده بالطاعة والعبادة، (﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾) والوكيل هو مَن يُوَكَّل إليه الأمر لِيُدَبِّرَه.

    الآية 103، والآية 104: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾: أي لا تُحيطُ الأبصارُ به سبحانه، إذ رؤيته تعالى مُتعذِّرةٌ في الدنيا، وقد طلبها موسى عليه السلام ولم يُدرِكْها، وذلك لِعَجْز الإنسان عن رؤية الله تعالى بهذه الأبصار المحدودة في الدنيا، ولِذا يراه المؤمنون في الجنة رؤية بَصَرية حقيقية، ويتلذذون بالنظر إلى وجهه الكريم، قال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، يقول الله تعالى: ﴿ تريدون شيئا أَزِيدُكُم ﴾؟، فيقولون: (ألم تُبَيِّضْ وجوهنا؟ ألم تُدخِلنا الجنة وتُنَجِّنا من النار؟)، فيُكشَفُ الحجاب، فما أُعْطوا شيئاً أحَبّ إليهم من النظر إلى ربهم) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 523)، وقال صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحيْن -: (إنكم سَتَرَوْنَ ربكم كما ترون القمر، لا تُضامُون في رؤيته - (أي لا يَصعُب عليكم رؤيته) - ، فإن استطعتم ألاَّ تُغلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوع الشمس - (وهي الفجر) - وصلاةٍ قبلَ غروب الشمس- (وهي العصر) - فافعلوا)، وفي هذا الحديث تحذيرٌ لكل مَن يُضَيِّع صلاة الفجر والعصر - فيُصلي الفجر بعد شروق الشمس، أو يصلي العصر بعد أذان المغرب - مِن أن يُحرَم مِن لذة النظر إلى وجه الله الكريم.

    (﴿ وَهُوَ ﴾) سبحانه (﴿ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ﴾) ويحيط بها، ويَعلمها على ما هي عليه، (﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ ﴾): أي الرفيق بأوليائه، ومِن لُطفِهِ تعالى أنه يسوقُ إلى عبده ما فيه صلاح دينه بالطرق التي لا يعرفها، ويُوصله إلى السعادة الأبدية مِن حيثُ لا يحتسب، حتى أنه تعالى يُقَدِّر عليه الأمور التي يَكرهها العبد ويتألم منها، وذلك لِعلمه سبحانه أنّ كمالَ عَبْدِهِ متوقف على تلك الأمور، فسبحان اللطيف لِمَا يشاء، الرحيم بالمؤمنين، (﴿ الْخَبِيرُ ﴾) الذي يعلم دقائق الأشياء، ظاهرها وباطنها.

     ثم قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: (﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾): أي قد جاءتكم براهين ظاهرة تُبصِرونَ بها الهدى من الضلال، مما اشتملتْ عليه آيات القرآن من بلاغةٍ وتحدٍ وإخبارٍ بالغيب، وغير ذلك، ومما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من المعجزات، (﴿ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ﴾): يعني فمَن تبيَّن هذه البراهين وآمَنَ بِما دَلَّتْ عليه، فإنه بذلك ينفع نفسه لأنه هو الذي ينجو ويَسعد، (﴿ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾): يعني ومَن لم يُبصِر الهدى بعدَ ظهور الحُجَّة، فإنه بذلك يضر نفسه، ويُعرضها للهلاك والشقاء، (﴿ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾): أي وما أنا بمسئولٍ عن أعمالكم، إنما أنا مبلغ، والله يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء وَفْقَ عدله وحكمته.

    الآية 105: (﴿ وَكَذَلِكَ ﴾): يعني وكما بيَّنَّا في هذا القرآن البراهين الظاهرة في أمر التوحيد: (﴿ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ﴾): أي نبيِّنُ لهم البراهين في كل ما جَهلوه، لتقوم عليهم الحجة، (﴿ وَلِيَقُولُوا ﴾) - افتراءً - عند وضوح هذه البراهين والحجج، وظهور عَجْزهم: (﴿ دَرَسْتَ ﴾): أي تعلمتَ من أهل الكتاب، وهذا باطل، فإنه إذا كان قد تعلَّم من أهل الكتاب شيئاً، لَعَلِمَهُ اليهود حين قَدِمَ إليهم في المدينة، وخاصَّةً عبد الله بن سلام (الذي شهد له اليهود أنه من علمائهم)، ولكنه آمَنَ به بعد ثبوت صفاته لديه في التوراة.

     وقد رَدَّ الله على ذلك الافتراء في آيةٍ أخرى بقوله: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾، فهذا يدل على أنهم لم يرتابوا، وإنما هو الكِبر والعناد واتباع الهوى، (﴿ وَلِنُبَيِّنَهُ ﴾): أي ولِنُبَين الحقَّ - بتصريفنا للآيات - (﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾) الحق - لوضوحه وظهور علاماته - فيقبلونه ويتبعونه، ولا يتبعون أهوائهم.

    الآية 106، والآية 107: (﴿ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾) من الأوامر والنواهي التي أعظمُها توحيد الله تعالى بأنه (﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾)، (﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾) فلا تُبال بعنادهم، وامضِ في طريق دعوتك، ثم يُصَبِّرُ اللهُ تعالى رسوله، ويُخَفف عنه آلام إعراض المشركين عن دعوته، فيقول له: (﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ﴾) ألاَّ يُشرِكَ هؤلاء المشركون: (﴿ مَا أَشْرَكُوا ﴾)، لكنه تعالى عليمٌ بما سيكون من سوء اختيارهم واتباعهم لأهواءهم المنحرفة، (﴿ وَمَا جَعَلْنَاكَ ﴾) أيها الرسول (﴿ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾): أي رقيبًا تحفظ عليهم أعمالهم، وتحاسبهم عليها، (﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾): أي وما أنت بقائمٍ على أمورهم لِتُدَبِّرَ مصالحهم، إن عليك إلا البلاغ، وقد أبلغتَهم، فلا تحزن إذاً على إعراضهم.

    الآية 108: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا ﴾: أي ولا تَسُبُّوا الأصنام التي يعبدها المشركون، حتى لا يتسبب ذلك في سَبِّهم لله تعالى ظلماً واعتداءً ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ إذ لو علموا جلال الله وكماله: ما فعلوا ذلك، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني وكما زَيَّنَّا لهؤلاء المشركين عملهم السيئ بالدفاع عن آلهتهم الباطلة: ﴿ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ﴾ السيئ فرأوه حسناً، عقوبة لهم على سوء اختيارهم، ﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾، ثم يجازيهم بأعمالهم.

     وفي هذا دليل على حُرمة كل فِعل أو قول يكونُ سبباً في سَبّ الله تعالى أو رسوله أو دينه أو الاستهزاء بشرعه.

    الآية 109: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾: أي وأقسم رؤساء المشركين بأيمانٍ مؤكَّدة بأنهم: ﴿ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ ﴾: أي علامة خارقة تدل على صِدق محمد، كتحويل جبل الصفا إلى ذهب: ﴿ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾ وهذا الكلام الذي صدر منهم، لم يكن قصْدُهُم فيه الرشاد، وإنما قصْدُهُم فيه الكبر والعناد، فإن الله قد أيَّدَ رسوله بالآيات البينات، والأدلة الواضحات، التي - عند الالتفات إليها - لا تبقي أدنَى شُبهة ولا إشكال في صحة ما جاء به، فطلَبُهُم - بعد ذلك - للآيات، هو من باب العند والاستكبار الذي لا يَلزَم إجابته، بل قد يكونُ المَنْعُ من إجابتهم أصْلَح لهم، إذ إنه لو جاءتهم الآيات ولم يؤمنوا بها، فقد يترتب على ذلك هَلاكهم ودَمارهم، ولهذا قال: ﴿ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾: يعني إنما مجيء المعجزات الخارقة إنما يكونُ مِن عِند الله تعالى، فهو القادر على المجيء بها إذا شاء، أما أنا فلا أملك ذلك، إلا أن الصحابة رغبوا في مجيء الآيات، حتى يؤمن بها المشركون، فقال تعالى لهم: ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾: أي وما أعلمكم أيها المؤمنون أن هذه المعجزات إذا جاءت سوف يُصَدِّقُ بها هؤلاء المشركون؟ بل إنّ الغالب - مِمَّن حالُهُ اتباع الهوى - أنه لا يؤمن.

    الآية 110: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ﴾: يعني ونَحجِب قلوبهم وأبصارهم عن الانتفاع بآيات الله، فلا يؤمنون بها ﴿ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾: أي وذلك عقوبةً لهم، لأنهم لم يؤمنوا بآيات القرآن عند نزولها أول مرة، ﴿ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾: أي ونتركهم في شِركهم وظُلمهم حَيارَى مترددين، لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال، وهذا مِن عَدْل الله تعالى، فقد فتح لهم الباب فلم يدخلوه، وبَيَّنَ لهم الطريق فلم يَسلكوه، فبَعدَ ذلك إذا حُرِمُوا التوفيق، فلا يلوموا إلا أنفسهم.


    شبكة الالوكة

  10. 1-العلم مفتاح الخير :

    آتى الله تعالى داوود وابنه سليمان علماً ، والعلم الحق يوصِل إلى معرفة الله تعالى المعرفة التي تجعل صاحبها يؤمن به ويجلّه تعظيماً وحباً وخشية " إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ " و من جهل الحقيقة لم يحفل بها، ولم يعِرْها ما تستحق من جلال المقام .. أما داوود وسليمان فإنهما حين أكرمهما الله بالنبوّة وفضلهما " ولقد آتينا داوود وسليمان علماً " أقرّا بفضله تعالى وحمداه على ذلك " وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " .
    فالعلم شرف ، محله منيف ، وأهله وحَمَلتُه متقدمون . وهو من أجلّ النعم وأجزل القِسَم ، ومن أوتيَه فقد تقدم على كثير من عباد الله المؤمنين . والبون شاسع بين الجاهل والعالم ، ذاك يتخبط في جهله في ليل مظلم ، وهذا يسير في أضواء المعرفة وسبل الهداية ، فلا يستويان " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب " " قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون"! وقال الشاعر في الحث على العلم :
    تعلّم ، فليس المرء يولد عالماً * وليس سـواءً عالـمٌ وجهـولُ

    2- التحدّث بالنعمة :

    وقد عُلّم النبيّان الكريمان منطق الطير " وقال- سليمان عليه السلام – يا أيها الناس عُلـِّمْنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين " قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم محمداً عليه الصلاة والسلام " في وجوب التحدث بنعمة الله " وأما بنعمة ربك فحدث " ولا يكون الحديث بالمفاخرة والتعاظم ، إنما بالعمل الصالح ، وخدمة العباد ، والسهر على راحتهم . والإقرار بفضل الله عملاً وقولاً ، وإن مساعدة الآخرين وقضاء حوائجهم والسير فيها من التحدث بنعمة الله .
    ولم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه ، فإن الله تعالى سخّر له الإنس والجن والطير والوحش وآتاه ما لم يؤتِ أحداً من العالمين .
    يقول القرطبي في في تفسير هذه الآية :
    " قوله تعالى: " وقال يا أيها الناس " أي قال سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله " علمنا منطق الطير " فتفضل الله علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أنْ فهّـمَنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها. قال مقاتل في الآية :
    كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف، فقال لجلسائه : أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ إنها قالت لي : السلام عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل! أعطاك الله الكرامة، وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية؛ وإنه- الطائر - سيرجع إلينا الثانية ثم رجع؛ فقال إنه يقول : السلام عليك أيها الملك المسلط ، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت. فأخبرهم سليمان بما قال؛ وأذن له فانطلق.
    وقال فرقد السبخي : مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا لا يا نبي الله. قال إنه يقول : أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء.
    ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخا فقال له سليمان : احذر يا هدهدُ! فقال : يا نبي الله! هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به. ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده، فقال : هدهدُ ما هذا؟ قال : ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله. قال : ويحك! فأنت ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخ! قال : يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر.
    وقال كعب. صاح ورشان- طائر يشبه الحمام - عند سليمان بن داود فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : لدوا للموت وابنوا للخراب.
    وصاحت فاختة- وهي ضرب من الحمام المطوّق صوّيت - فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : ليت هذا الخلق لم يخلقوا ، وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا.
    وصاح عنده طاوس، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : كما تدين تدان.
    وصاح عنده هدهد فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : فإنه يقول : من لا يَرحم لا يُرحم. وصاح صُرَدٌ- طائر فوق العصفور ، كانت العرب تتطير منه - عنده، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين؛.. فمن ثَـمّ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله. وقيل : إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت. وهو أول من صام؛ ولذلك يقال للصرد الصوّام؛ روي عن أبي هريرة.
    وصاحت عنده طِيطوى – نوع من القطا طِوال الأرجل - فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : كلُّ حي ميت وكل جديد بال.
    وصاحت خطّافة – عصفور أسود ، وتسميه العامّة عصفور الجنة - عنده، فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : قدموا خيرا تجدوه؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وقيل : إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة، فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت، فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم. قال : ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته} الحشر 21 إلى آخرها وتمد صوتها بقوله {العزيز الحكيم} البقرة 129.
    وهدرت حمامة عند سليمان فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : سبحان ربي الأعلى عدد ما في سماواته وأرضه.
    وصاح قـُمري عند سليمان، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال إنه يقول : سبحان ربي العظيم المهيمن.
    وقال كعب : وحدثهم سليمان، فقال : الغراب يقول : اللهم العن العشّار- الذي يأخذ عشر أموال الناس ويستحله - .
    والحدأة تقول { كل شيء هالك إلا وجهه } القصص 88 .
    والقطاة تقول : من سكت سلم.
    والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه.
    والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس.
    والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده.
    والسرطان يقول : سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان.
    وقال مكحول : صاح دراج عند سليمان، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول{ الرحمن على العرش استوى } .
    وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الديك إذا صاح قال اذكروا الله يا غافلين).
    وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم : (النسر إذا صاح قال يا ابن آدم عش ما شئت فآخرك الموت .
    وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس الراحة .
    وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد .
    وإذا صاح الخطاف قرأ { الحمد لله رب العالمين } الفاتحة إلى آخرها فيقول { ولا الضالين } الفاتحة ، ويمد بها صوته كما يمد القارئ.
    قال قتادة والشعبي : إنما هذا الأمر في الطير خاصة، لقوله { علمنا منطق الطير } والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة. قال الشعبي : وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين.
    وقالت فرقة : بل كان في جميع الحيوان، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته؛ ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير.
    وقال أبو جعفر النحاس : والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام، والله جل وعز أعلم بما أراد. قال ابن العربي : من قال إن سليمان لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم، وقد اتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات، فكان كل نبت يقول له : أنا شجر كذا، أنفع من كذا وأضر من كذا؛ فما ظنك بالحيوان.
    فمن تكريم الله تعالى سليمان أنه عليه السلام
    أ- نال النبوة .
    ب ـ عُلـِّم منطق الطير والحيوانات .
    ت - جنوده من كل المخلوقات ، إنسهم وجنّهم وطيرهم ووحشهم .
    ث - حمل الريح له ولجنوده في ساعات مسيرة شهر " ولسليمان الريح غدُوُّها شهر ورواحها شهر " .
    ج - أسال الله تعالى له النحاس ، فذاب وسال كما تسيل عيون الماء ليستعمله فيما يريد ومن ثم انتفع الناس به " وأسلنا له عين القِطْر" .

    3- الداعية مثال الإنسان الواعي :

    وكان النبي الكريم سليمان عليه السلام يجند كل جيشه في نشر دعوة الله وبناء صرح الدين في الأرض " وحشر لسليمان جنودُه من الجن والإنس والطير ، فهم يوزعون " مرتبين ومنظمين . يصله خبرهم وحالهم على كثرتهم ، ولا يغيب عنه- بإذن الله- شاردة منهم ولا واردة . وهكذا يكون المسؤول ، فمن يتسنم أمراً من أمور المسلمين عليه أن يتابعهم ، والعين الساهرة المتابعة تحفظ النظام والبلد وتهيئ الأمان والراحة للأمة صغيرها وكبيرها، قريبها وبعيدها ، ضعيفها وقويّها . ومثال ذلك :
    أولاً - إيقاف المسير في وادي النمل للحفاظ على حياة النمل ، وخوف أن يباد تحت مداس الجيش الجرار دون أن يشعر بها لضآلتها – وقد توقف العلماء في العصر الحديث عند قوله تعالى :" لا يحطمنّكم سليمان وجنوده ... " فذكر التحطيم بدل الدهس والقتل أو الكسر حين اكتشفوا أن في تركيب النمل قدراُ من الزجاج ، والزجاج يتحطم ثم يتفتت ويصير كالرمل حين يتكسر تحت وطئه المستمر . وهذا من بديع بلاغة القرآن.
    والداعية لا يتكبر ولا يتجبر على غيره حين يمتلك القوة وأسباب الغنى ، إنما يتواضع لله ، ويحافظ على عباده فهو مسؤول أمامه فيما يفعل أيشكر أم يكفر؟ ، أيرحم أم يظلم ؟ .. وكلما ازداد شعوره بفضل الله تعالى عليه تضاعفت همته في العمل الصالح والشكر لله على فضله وكرمه وهكذا سيدنا سليمان عليه السلام ، فبعد أن تبسم ضاحكاً من قولها حين سمعه وفهمه :
    1- سأل الله أن يعينه على أداء المهمة .
    2- وأن يعينه على حسن شكرالنعمة .
    3- وأن يسدد خطاه في العمل الصالح .
    4- وأن يرزقه المثابرة عليه بالطريقة التي ترضي الله تعالى
    5- وان يجعله برحمته في عباده الصالحين .
    " فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين "
    ولا ننس أن على العاقل أن ينصح أهله وأمته ، وينبههم إلى الخير ويحذرهم من المهالك كما فعلت النملة حين حذرت جماعتها من موت محقق إن غاب عنها الحذر ولم تسارع إلى مساكنها تتوقاه . وتعال معي إلى الحوار بين سليمان والنملة، ففيه - على الشك بصحته لإسرائيليته – فوائد تربوية وحكمة .. والحكمة ضالة المؤمن أين وجدها التقطها . .. يقول القرطبي :
    قال أبو إسحاق الثعلبي : ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال للنملة لم حذرت النمل؟ أخفت ظلمي ؟ أما علمت أني نبي عدل؟ فلم قلت " لايحطمنكم سليمان وجنوده " ؟ فقالت النملة : أما سمعت قولي " وهم لا يشعرون " .. مع أني لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت، أو يفتتِنّ بالدنيا، ويُشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر. فقال لها سليمان : عظيني. فقالت النملة : أما علمت لمَ سمي أبوك داود؟ قال : لا. قالت : لأنه داوى جراحة فؤاده؛... هل علمت لم سميت سليمان؟ قال : لا. قالت : لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك، وإن لك أن تلحق بأبيك- بالفضل- .. ثم قالت : أتدري لم سخر الله لك الريح؟ قال : لا. قالت : أخبرك أن الدنيا كلها ريح. " فتبسم ضاحكا من قولها " متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها، فقالت : هل عندكم من شيء نهديه إلى نبي الله؟ قالوا : وما قدر ما نهدي له! والله ما عندنا إلا نبقة واحدة. قالت : حسنة؛ ايتوني بها. فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها، فأمر الله الريح فحملتها، وأقبلت تشق الإنس والجن والعلماء والأنبياء على البساط، حتى وقعت بين يديه، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه، وأنشأت تقول :
    ألم ترنا نهدي إلى الله ماله * وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
    ولو كان يهدي للجليل بقدره * لقصر عنه البحر يوما وساحله
    ولكـننا نهدي إلى من نحبه * فيرضى به عنا ويشكـر فاعله
    وما ذاك إلا من كريم فعالـه * وإلا فما في مُلكنا ما يشاكـلـه
    فقال لها : بارك الله فيكم؛ فهُـم- أي النمل - بتلك الدعوة أشكـَرُ خلق الله وأكثر خلق الله.
    وقال ابن عباس : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب : الهدهد والصرد والنملة والنحلة؛ خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبدالحق وروي من حديث أبي هريرة. وقد مضى في الأعراف . فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم، فنفت عنهم الجور.
    ثانياً – قصته مع الهدهد الذي غاب دون إذن من القائد فكانت عقوبته العذاب الشديد أو الذبح . أو إظهار العذر ، فإن كان له عذر بيّن عفا عنه . وجاء الهدهد بعد قليل ، موضحاً أنه عرف ما لم يكن النبي سليمان على جلال قدره يعرفه ، فالأنبياء لا يعلمون الغيب ، ولا يحيطون بكل شيء . وجاءه من بلاد سبأٍ بخبر يتشوفه النبي الكريم " فقال أحطت بما لم تحط به ، وجئتك من سباٍ بنبأٍ يقين " لم يكن الهدهد خائفاً فحجته معه ، وسينجو من العذاب فهو واثق بنفسه وبما يحمل من نبأٍ يسر له الداعية الذي وهب نفسه لدين الله ودعوته . والهدهد جندي من جنود هذه الدعوة ، فعليه أن يكون له دور في نشرها .
    وليؤكد أنه لم يضيّع وقته هباء فصّل فيما رآه ليصدقه النبي سليمان
    " إني وجدت امرأة تملكهم
    وأوتيت من كل شيء
    ولها عرش عظيم
    "
    ثم بين تفاهة ما يعبدون من دون الله ، فقد أضلهم الشيطان عن الطريق القويم ، وأزلهم في اعتقادٍ باطل فضاعوا في متاهة الكفر والفساد " وجدتها وقومَها يسجدون للشمس من دون الله ، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل فهم لا يهتدون " وتصوروا معي : كم يسقط الإنسان ويتضاءل حين يكون الطير أكثر منه هدى وبصيرة " ..ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ".

    4- التحري عن الحق :

    أسلوب يدل على الحرص في الوصول إلى العدل ، والحكم به ، والبعدعن ظلم الرعية ، فسليمان عليه السلام كان أدنى إلى تصديق الهدهد من تكذيبه ، والدليل على ذلك أنه بدأ في خطابه بكلمة سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين .. ونلحظ هنا قاعدة تقول : إن الصدق في الناس قليل ، والكذب كثير بدليل أنه قال :أصدقتَ – بصيغة المفرد – أم كنت من الكاذبين – بصيغة الجمع .
    وليتأكد من ذلك مع التصديق له أرسله بكتابه وحده ، فلم يكن معه شاهد ، وكلفه بأمرين :
    أ‌- إيصال الكتاب ...
    ب- متابعة الأمر وتقديم تقريره .
    وامتاز الكتاب بثلاث صفات مهمة :
    أ‌- البدأ بالبسملة : وقد قال نبينا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام : " كل كلام لا يُبدَأ فيه ببسم الله ، فهو أجذم " والمسلم يبدأ بأعماله كلها باسم الله تعالى . وقد اتفق المسلمون على كتابة " بسم الله الرحمن الرحيم " في أول الكتب والرسائل لأنه أبعد عن الريبة . ولا يسمى الكتاب كتاباً إلا إذا ختم ، وعلى هذا اصطنع الرسول عليه الصلاة والسلام خاتماً ونقش عليه " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله "
    ب- الاختصار غير المُخِل : " ألاّ تعلوا عليّ " فهو يخاطبهم بالعقل والقوة .
    " وائتوني مسلمين " مؤمنين بالله وحده بعد الفهم والاقتناع أو مستسلمين للحق صاغرين . والمسلم يجب أن يكون عزيزاً قوياً .
    ت- التعريف بالمرسِل: ليكون الأمر على بينة ، وليُعرف خطرُه ومكانته ، فيُحترم .
    وقد شعرت الملكة بعزة المسلم وقوته حين قرأت الكتاب واستشارت بطانتها ثم علقت قائلة " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " حين استشارت قومها في أمر سليمان عليه السلام مستنصحة ، أجابوها : نحن أقوياء أشداء ، فافعلي ما ترينه مناسباً
    " قالوا نحن أولو قوة وألو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " وأعتقد أنّ آراءهم خانتهم بهذا الجواب ، فلم يكونوا على دراية بعظم مكانة من أرسل الكتاب ، ولو فكروا قليلاً معتمدين في تفكيرهم على الطريقة التي وصلهم بها الكتاب إليهم ، وهذا أمر غريب عجيب " إني أُلقيَ إليّ كتاب كريم " ولم تعرف من الذي ألقاه ، ولا كيف وصل . ولم تدر أن الرسول الذي ألقى الكتاب طيرٌ يتابع لقاءها ببطانتها دون أن تشعر به .
    والحاكم العاقل - ولو كان امرأة – يتدبر الأمر ، ويجنّب قومه المهالك . ولا بد من سلوك الأمر الهيّن السهل في استكناه ردّة فعل المرسِل حين يصله الجواب . وقد فعلت ذلك " وإني مرسلة إليهم بهدية ، فناظرة بما يرجع المرسلون "
    فإن كان ملكاً طامعاً بالمال بذلناه له ، وإن كان الأمر شيئاً آخر تلافينا ضرره بما نستطيع .... وكانت موفقة بما قررت .
    وهنا تنتهي قصة الهدهد ، فقد صدق فيما ادّعاه ، وأدى واجبه ، فلم يعاقب .

    5- التصرف الحكيم :

    يجب أن يكون الفعل وردة الفعل مدروسين بتأنٍّ ورويّة ، قائمَيْن على قواعد مدروسة ، وخطط سليمة . فالداعية لا ينبهر بالأموال والهدايا التي تأتيه ، إن هدفه أكبر من هذا بل هو غير ذلك على الإطلاق . ولا يأنس للزخرف الدنيوي .. فماذا فعل النبي سليمان ؟
    أ- أظهر الزهد في هداياهم ، فما عند الله خير مما جاءوه به ، وليس هذا هدفه ." فلما جاء سليمانَ قال أتمدونني بمال " ونكّر لفظ المال استهانة به وتحقيراً لشأنه ، ليلقي الرعب في قلوبهم ، فيفكروا بالإسلام ، والخضوع للحق ، فقد قال لهم من قبل " ألاّ تعلوا عليّ وأتوني مسلمين " .
    ب- أظهر القوة وهدّد بها " ارجع إليهم فلنأتينّهم بجنود لا قبل لهم بها "
    ت- حاربهم نفسياً حين أكمل قائلاً: " ولنخرجنّهم منها أذلة وهم صاغرون "
    وكان لما فعلَ التأثيرُ الإيجابي السريع ، فقد اظهر القوة عملياً حين جيء بعرشها وأدخل الملكةَ الصرح المبنيّ على الماء فبهرها ، والانبهار دليل الاستسلام والخضوع . وهذا ما يفعله القوي بالضعيف دائماً ، فيستذله إلا المؤمن فإنه يبدي القوة ، ويبهر العدو ليستنقذه من الضلال إلى الهداية ، وينتشله من الكفر إلى الإيمان ، ويكون أخاً له يحبه ويكرمه .
    وهذا ما فعله النبي سليمان عليه السلام بملكة سباً وأهلها، وهذا ما فعله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة ، فقد دخلها متواضعاً لله متذللا لمولاه ، شاكراً فضله ، ولم يعمل السيف في أهلها ، بل عفا عنهم وأكرمهم ، إذ قال لهم حين جمعهم في الحرم الشريف : ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم . قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
    ومن الحرب النفسية التي بهر الملكة بها المجيءُ بعرشها – وقد كان عظيماً – بطرفة عين ، جاء به من كان عنده علم من الكتاب ، وكان يعلم اسم الله الأعظم . ، وتراه عليه السلام فاضل بين هذا الرجل ، والمارد القوي الذي عرض حمل عرشها بساعات ، فجاء به الربّاني بلحظة خاطفة " قال أيّـُكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن : أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ، وإني عليه لقويٌّ أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفـُك . "
    فهل تعاظم ، وانتفش كما ينتفش أهل الدنيا ممن يتيهون حين يمتلكون ؟! إنه نبي كريم من أنبياء الله تعالى ربّاه على عينه فأحسن تربيته .. لقد قال سليمان مقراً بفضل الله وكرمه ، منبهاً إلى أن كل هذه الكرامات العظام إنما هي ابتلاء للمؤمن واختبار لإيمانه ، وقد فاز من نجح في هذا الامتحان : " قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ."

    6- تعّرفْ إلى الناس :

    ينبغي التعرف على قدرات من تعاشرهم حتى تنزلهم منازلهم .. يروى أن رجلاً جسيماً يرتدي حلة فاخرة جلس بوقار إلى حلقة أبي حنيفة النعمان وهو بين تلاميذه يناقشهم في بعض المسائل ، وكان يمد رجله متعباً في جلسته متباسطاً معهم ، فجمعها إليه حين جلس هذا الرجل بينهم ، ثم بدا للرجل أن يتكلم فسأل سؤالاً لا يدل على ذكاء وفهْمٍ ، فضحك ابو حنيفة ، وقال : آن لأبي حنيفة أن يمد رجله .. وهنا نجد نبي الله سليمان يريد أن يختبر الملكة بلقيس ، ويتعرف جدارتها في حكم أهل سباٍ ، فقال لمساعديه : " نكّروا لها عرشَها ننظرْ أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون "
    فغيّروا في عرشها بعض معالمه ، فلما وصلت واستقبلها أشار إلى عرشها يسألها بذكاء الأنبياء ولباقتهم : " أهكذا عرشُكِ " ولم يسألها أهذا عرشك؟ والفرق بين الطريقتين واضح . فالأول فيه شك وجواب الثاني نفي أو إثبات . فكان جوابها على قدر السؤال حين "قالت كأنه هو " فلم تنفِ ولم تثبت وتركته في دائرة الشك . هذا كان الاختبار الأول .
    أما الاختبار الثاني فكان أن طلب إليها دخولَ الصرح المبني بصفائح الزجاج فوق الماء ، فلم تتبين الزجاج ، فكشفت عن ساقيها تظن أنها ستخوض لُجـّته ، فلما قيل لها " إنه صرح ممرد من قوارير " علمت أنه يريد أن يريها ملكاً أعظم من ملكها ففطنت إلى مراده فاستسلمت ، وأذعنت ثم أسلمت بعد أن أقرّت بما كانت عليه من الكفر . وقيل كما في القرطبي - بتصرف - : عمله ليختبر قول الجن فيها : إن أمها من الجن، ورجلها رجل حمار؛ قاله وهب بن منبه. فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق : وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر. "وكشفت عن ساقيها " فإذا هي أحسن الناس ساقا؛ سليمة مما قالت الجن، فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها " إنه صرح ممرد من قوارير" والممرد المحكوك المملس

    . ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام
     


    7- الدعوة إلى التفكير :

    خلقنا الله تعالى " .. في أحسن تقويم " فجعل لنا - معشر الإنس والجن لأننا مكلفون - العقول التي تميزنا عن بقية المخلوقات لنتدبر ما نجده أمامنا ولنتفكر فيه . أما الحيوانات الأخرى فإنها تعيش غريزياً . لا رسالة لها في هذه الحياة سوى ما قدره الله تعالى لها في حياتها الدنيا ثم يقال لها – في الآخرة حين تحشر ليقتص منها ذلك الاقتصاص الذي لا يقارن مطلقاً بالاقتصاص من الثقلين - كوني تراباً .. فيتمنى الكافر لما يراه من العذاب الشديد الخالد في نار جهنم أن تكون نهايته مثل نهايتها " يا ليتني كنت ترابا " ولكن هيهات هيهات .
    وعلى الرغم أن البشر جميعاً لهم عقول يفكرون بها إلا أن أكثرهم لا يريد أن يعي حقيقة وجوده وسبب خلقه ، فهو يحيا في هذه الدنيا وكأنه خالد فيها ، أو سينتهي دون عودة " وما يهلكنا إلا الدهر " وينكرون حياة أخرى تنتظرهم هي الحياة الحقيقية " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " وهؤلاء لئن كانوا بشراً إنهم لينزلقون إلى درجة الأنعام التي لا تعي ولا تعقل ، بل إنهم أقل منها مستوىً ، فالحيوانات ليس لها عقول وقد سقط عنها القلم، وهؤلاء لهم عقول لا يستعملونها في مرضاة الله ، فانحدروا عن مستوى البهيمية بفعلهم – عنادِهم وضلالهم - يقول الله تعالى " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام ، بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون " .
    والقرآن الكريم يدعو المكلف إلى التدبر وإمعان التفكير في مئات الآيات المنبثة فيه ، وفي هذه السورة الجليلة نجد الكثير منها ، وإليك بعضاً منها :
    ففي الآية الستين نجده يدعونا إلى معرفة خالق السماوات والأرض الذي أنزل الماء فكان سبباً في الحياة المتجددة الجميلة في الأرض ، وأنه سبحانه واحد لا شريك له
    " أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون " .
    وتأمل التسلسل في " خلق ، وأنزل ، وأنبت " فترى المشركين يميلون عن الحق وينغمسون في الضلال .
    وفي الآية الحادية والستين ينبههم إلى بديع صنعه سبحانه ، فالأرض ثابتة صالحة للعيش ، تجري فيها الأنهار ، وتثبتها الجبال الرواسي ، وجعل الماء مالحاً وحلواً فلا يطغى هذا على ذاك – بأمر الله خالقها – بل إن لكل بحر ماءَه بخواصه المختلفة عن ماء غيره ،
    " أمّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لهـا رواسيَ وجعل بين البحرين حاجزاً أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون "
    وانظر معي إلى تكرار كلمة " جعل " التي تدل على جميل صنعه وعظيم حكمته سبحانه، وأنه الخالق الأوحد ... ولكن غالب البشر يجهلون هذافيشركون بالله تعالىويتوهون في مزاريب الضلال .
    وفي الآية الثانية والستين يذكرهم برأفته بهم ، وحنوّهم عليهم ، فهو سبحانه يجيب الداعي ، ويتلطف به ، وهو وحده خالقهم لكن الدنيا ببريقها وزخرفها تنسيهم الحقيقة وتبعدهم عنها
    " أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكّرون " .
    وهي دعوة صريحة إلى إفراده سبحانه باللجوء إليه والاعتماد عليه وانظر إلى المنطقية في العرض، فهو سبحانه " يجيب المضطر ، ويكشف السوء " لماذا؟ إنه الخالق الوحيد " ويجعلكم خلفاء الأرض "
    وفي الآية الثالثة والستين ينبه أن الله تعالى هو الهادي والحافظ ومدبر الحياة في البر والبحر أفلا يستحق الإفراد بالعبادة ؟
    " أمّن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون " .
    وتأمل معي هاتين الكلمتين " يهديكم ، يرسل الرياح "
    هداية وعون ، فهو سبحانه لا يدع عباده يتخبطون في حياتهم إنما ييسر لهم السبل ويعينهم .

    8 ـ التصوير الحسي :

    ذكرت في كتابي " من أساليب التربية في القرآن الكريم " تحت عنوان – التصوير ص 385 : أن التصوير من الأساليب الراقية في التربية ، فالإنسان روح وفكر وقلب .. وهو كذلك عين وسمع وذوق ولمس وشم .... فهو معنوي ومادي بآن واحد ، فإذا عجز أحياناً عن الوصول إلى الفكرة الشفافة ذهناً وصل إليها مادة وحسّاً .. المهم أن يصل إلى المعلومة ، وتتركز في ذهنه ، ويتفاعل معها .
    والصور في هذه السورة ملفتة للنظر إذ جمعت بين اللون والحركة والصوت . من ذلك قوله تعالى :
    " ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ..."
    " ويوم ينفخ في الصور ، ففزع من في السموات والأرض إى من شاء الله وكلٌّ أتَوْه داخرين "
    " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب " .
    " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابّة من الأرض تكلمهم ..." .
    " ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ..هل تجزون إلا ما كنتم تعملون "
    " قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم ، إنهم أناس يتطهّرون " .
    وانتبه إلى الكلمات التي تحتها خط في الآيات السابقة لـ ترى اللون
    في الليل والنهار والجبال والسحاب والنار
    وتسمع الصوت
    في النفخ والكلام : قال ، يتطهر، تجزى
    وترى الحركة
    الفزع وحركة النفخ والسكون والجمود وخروج الدابّة والمجيء وكب الوجوه..
    والتصوير يثبت الفكرة في الذهن لأن أكثر من حاسّة تتضافر في توكيدها ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يؤديها في حديثه،وتبعه في ذلك المربون .

    9- الطيَرة والتفاؤل :

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يسمع : يا راشدُ، يا نجيحُ . – أخرجه الترمذي – وكان يعجبه الفأل لأن النفس تنشرح له وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل ، فتحسن الظن بالله . وقد قال : " أنا عند ظن عبدي بي " وكان صلى الله عليه وسلم يكره الطِّيَرة لأنها من سمات أهل الشرك وتجلب سوء الظن بالله تعالى . قال الخطّابي كما يروي القرطبي عنه : الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله ، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه . وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا طيرة ، وخيرُها الفأل " . قيل : يا رسول الله وما الفأل ؟ قال : " الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم "
    فلما قال قوم صالح لنبيهم عليه السلام حين دعاهم إلى الإيمان بالله وحده : " اطَّيرنا بك وبمن معك " رد عليهم مؤنباً وناصحاً " طائركم عند الله بل أنتم قوم تُفتنون " فقد تشاءموا ، والشؤم نحس . ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة . ومن ظنّ أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء أو يدفع مقدوراً فقد جهل . وقد قال مقاتل في قوله تعالى في سورة" يس " على لسان الذين كفروا بأنبيائهم " إنا تطيّرْنا بكم " : حبس المطر عنهم ثلاث سنين ، فظنوا أنّ حبسه كان بشؤم الأنبياء عليهم ! فرد أنبياؤهم مصححين منبهين " طائركم معكم " أي شؤمكم ملازمكم بأعمالكم وفسادكم لا بسببنا ، فأنتم مسرفون في كل شيء حتى التشاؤم ." بل أنتم قوم مسرفون " قال الشاعر :

    طيرةُ الدهر لا يرد قضاءً * فاعذرِ الدهرَ ، لا تَشُبهُ بلَوم
    أيُّ يـوم يَخُصّـه بسعـود * والمنايا ينزلـن في كل يـوم
    ليس يومٌ إلا وفيه سعـودٌ * ونحوسٌ تجري لِـقومٍ فـَقوم
    وقد كانت العرب أكثر الناس طيرةً ، وكانت إذا أرادت سفراً نفرت طائراً ، فإذا طار يمنة سارت وتيمّنَتْ ، وإن طار شمالاً تشاءمت ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : " أقِرّوا الطير على وُكُناتها " .

    10- عاقبة المفسدين :

    يقول تعالى :" .. ومن جاء بالسيئة فكبّت وجوههم في النار هل تُجزون إلا ماكنتم تعملون " فنهايتهم في الآخرة الاحتراق في النار والعذاب المهين . أما في الدنيا فقد بين الله تعالى عاقبة كل قوم كفروا بالله ... أما في هذه السورة الكريمة فكان عاقبة الرهط المفسدين الذين عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ، ومكروا بنبيهم وأهله والمؤمنين به
    " ..... أنا دمّرناهم وقومهم أجمعين "
    فكانوا عبرة لمن جاء بعدهم " فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا ..... "
    وأما قوم لوط الذي استمرءوا فاحشة اللواط ، ففعلوها في أنديتهم – وكانوا يتلذذون بالنظر إلى الفاعلين والعياذ بالله ، وهم يصرون على فعلها على علمهم ببهتان ما يعملون ، بل صمموا على إخراج لوط وآله لأنهم " يتطهّرون " والطهارة يكرهها الأبالسة في كل زمان ومكان فقد عاقبهم الله تعالى عقابين شديدين . أما الأول فإرسال الحجارة عليهم تحصبهم حصباً " وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذَرين " وأما الثاني فقد قلب قراهم رأساً على عقب . وذكر الله تعالى الأمرين في سورة هود :
    " فلما جاء أمرنا...
    1- جعلنا عاليَها سافلها
    2- وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسوّمةً عند ربك .... "
    والعاقل من يستلهم من مصير الغابرين العبر والعظات فيزدجرعن ضلاله وغيه ، وينأى بنفسه وأسرته وقومه عن نهاية الفاسدين
    " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين "

    11- مهمة الداعية :

    والداعية يتوكل على الله تعالى ويدعو إليه ، وهناك من يسمع لكنّ في أذنيه وقراً فلا يفقه ما يقال ولا ما يُراد . وإذا سمعوا هربوا من الحق الذي تكرهه نفوسهم الآثمة . واستمروا في غيهم وضلالهم ، أما المسلم ذو القلب الشفاف والفؤاد الواعي فإنه يقبل على الداعية يستفيد منه ويتقبل منه ويكون له عونا في دعوته إلى الله .
    : " فتوكل على الله ، إنك على الحق المبين
    إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولّوْا مدبرين ......
    وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم
    إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون "
    والحقيقة أن دور الدعاة التنبيهُ إلى طرق الخير والتحذير من سبل الغواية ، وأن يبدأوا بأنفسهم أولا، فهم القدوة . فمن تبعهم نجا ، ومن استنكف غوى وضل ، وليس لهم عليهم سلطان . هذا ما نبه إليه الله تعالى نبيه الكريم حين قال سبحانه :
    " 1- إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرّمها ......
    2- وأمرت أن أكون من المسلمين .
    3- وأن أتلوَ القرآن ........
    4- فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه
    5- ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين . "

  11. الحمدُ لله الكريمِ الوهَّابِ، الذي جَعَلَ في مُرورِ الأيَّامِ عبرةً لأُولي الألبابِ، وحثَّ على المحاسبةِ والتأَهُّبِ ليومِ المآبِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ لَهُ ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ﴾ [غافر: 3]، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه النبيُّ الأوَّابُ؛ خيرُ مَن تابَ وأنابَ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعلى آلهِ وصحبهِ والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الحسابِ.

    أمَّا بعدُ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]، قال ابنُ كثير: (أيْ: حَاسِبُوا أنفُسَكُمْ قبلَ أنْ تُحَاسَبُوا، ‌وانظُرُوا ‌ماذا ‌ادَّخَرْتُمْ ‌لأنفُسِكُمْ مِنَ الأعمالِ الصالحةِ ليومِ مَعَادِكُمْ وعَرْضِكُمْ على ربِّكُمْ) انتهى، واعلمُوا عبادَ الله أنَّ في تَقَلُّبِ الليلِ والنهارِ، عبرة لأُولي الأبصار، ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44]، فهو إشعارٌ بضرورةِ الرَّحيلِ مِن هذهِ الدَّارِ، إلى دارِ الْخُلودِ والقَرارِ.

    وإنَّنا سنودِّع مَن كان مِنَّا حيَّاً عاماً ماضياً شهيداً، ويَستقبلُ عاماً مُقبلاً جديداً، وهذا مما يُوجب علينا الاعتبارَ والادِّكارَ، وأنْ نقفَ وقفةَ أُولي النُّهى والأبصارِ عبرَ الوقفاتِ التالية:

    الوقفةُ الأولى: إنَّ كُلَّ ما رأتهُ عينُكَ أو سَمِعَتْ بهِ أُذنكَ مِن هذهِ الدُّنيا سَيؤُولُ إلى خراب، قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].

    الوقفةُ الثانية: ذهابُ عامٍ ودُخولِ عامٍ يَتَنبَّهُ بهِ المسلمُ إلى أنَّ ذلكَ يزدادُ به قُرباً من أجله، إلى أن يصل موعده فينتقلُ من هذه الدار إلى دارٍ أُخرى، فالعاقلُ من يتفكَّر وهل تَسرُّه صحيفتُه إن لقيَ ربَّهُ هذا العام؟!

    الوقفة الثالثة: ذهابُ هذا العام، يعني ذهاب أكثر من نصف مليون دقيقة من عُمُرِكَ، نبضَ قلبُكَ فيهِ قُرابةَ أربعينَ مليونَ نبضة! فكم في الدقيقةِ سبَّحتَ اللهَ وكبَّرتَهُ وهلَّلتَهُ وقرأتَ كتابَهُ؟

    الوقفةُ الرابعة: حدث في هذا العام حوادث، سواءً عليكَ أو على أقاربك أو جيرانكَ أو مجتمعك، أو على مستوى العالَم، حوادِثٌ فيها هَمٌّ وغَمٌّ، وسُرورٌ وحُزنٌ، وَوَباءٌ وأسقامٌ، وفِتَنٌ وحُروبٌ، أطفالٌ تيَتَّمُوا، ونساءٌ تَرَمَّلت... فإذا سلَّمكَ اللهُ مِن ذلكَ فاحْمَدْهُ واشْكُرْهُ، وإنْ كُنتَ ابتُليتَ ببعضِ ذلكَ فانظرْ إلى مَن كانت مُصيبتُهم أعظم، فتعرفَ قدرَ نعمةَ اللهِ عليكَ.

    الوقفةُ الخامسة: ذهابُ عامٍ يعني زيادةٌ في العُمُرِ، وتَقدُّمٌ في السِّنِّ، فهل نُحبُّ البقاءَ كما أحبَّهُ السَّلَفُ، فعن (أبي جَنَابٍ قالَ: لَمَّا احْتُضِرَ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ قالَ: أَعُوذُ باللهِ مِنْ صَبَاحٍ إلى النارِ، ثم قالَ: مَرْحَباً بالحَفَظَةِ، ثم قالَ: اللهُم إنكَ تَعْلَمُ أني ‌لَمْ ‌أَكُنْ ‌أُحِبُّ ‌البَقَاءَ في الدنيا لحَفْرِ الأنهارِ، ولا لغَرْسِ الأشجارِ، ولكني كُنْتُ أُحِبُّ البَقَاءَ لِمُكَابَدَةِ اللَّيْلِ، وظَمَأِ الْهَوَاجِرِ في الْحرِّ الشديدِ) رواه أبو بكرٍ الدينوري.

    وقال ابنُ القيِّم: (وإنما ‌حَسُنَ ‌طُولُ ‌الْعُمُرِ ‌ونفَعَ ليحْصُلَ التذكُّرُ والاستدراكُ واغتنامُ الغَرَضِ والتوبةِ النَّصُوح، كما قالَ تعالى: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)، فَمَن لَم يُورثهُ التعميرُ وطُولُ البَقَاءِ إصلاحُ مَعَائبهِ... وإلا فلا خيرَ لَهُ في حَيَاتهِ، فإنَّ العَبْدَ على جنَاحِ سَفَرٍ إمََّا إلى الجنََّةِ وإمََّا إلى النارِ) انتهى.

    وقال عمر رضي الله عنه: (حاسِبُوا أنفُسَكُمْ قبْلَ أنْ تُحَاسَبُوا، فإنهُ أَهْوَنُ -أوْ قالَ: أيْسَرُ- لحسابكُمْ، ‌وزِنُوا ‌أنفُسَكُمْ ‌قبلَ ‌أنْ ‌تُوزَنُوا، وتجَهزُوا للعَرْضِ الأكْبَرِ: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)) راه ابنُ المبارك في الزهد.

    وعنِ الحَسَنِ البصري في قوله تعالى: ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]، (قالَ: لا يُلْقَى المؤمنُ إلاَّ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ:‌ ماذا ‌أَرَدْتُ ‌بكَلِمَتِي؟ ماذا أَرَدْتُ بأَكْلَتِي؟ ماذا أَرَدْتُ بشَرْبَتِي؟ والعاجزُ يَمْضِي قُدُماً لا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ)، و(عن مَيْمُونِ بنِ مِهْرَانَ قالَ: لا يكُونُ الرجُلُ تَقِيَّاً ‌حتى ‌يكونَ ‌لنَفْسِهِ ‌أَشَدَّ ‌مُحَاسَبَةً ‌مِن ‌الشريكِ لشَرِيكِهِ) رواهُما ابنُ أبي الدُّنيا.

    وجِماعُ محاسبة النفسِ كما قال ابنُ القيِّم: (أنْ يُحَاسِبَ نَفْسَه أولاً على الفَرَائِضِ، فإذا تَذَكَّرَ فيها نَقْصاً تَدَارَكَهُ إما بقَضاءٍ أو إصلاحٍ، ثم يُحَاسِبُها على الْمَناهي، فإنْ عَرَفَ أنهُ ارْتَكَبَ مِنْهَا شَيْئاً تَدَارَكَهُ بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحيةِ، ثم يُحَاسِبُ ‌نفْسَه ‌على ‌الغَفْلَةِ، فإن كانَ قَدْ غَفَلَ عَمَّا خُلِقَ لَهُ تَدَارَكَهُ بالذِّكْرِ والإِقْبَالِ على الله، ثم يُحَاسِبُهَا بما تَكَلَّمَ بهِ، أوْ مَشَتْ بهِ رِجْلاهُ، أو بَطَشَتْ يَدَاهُ، أو سَمِعَتْهُ أُذناهُ: ماذا أَرَدْتُ بهذا، ولِمَ فَعَلْتُه، وعلى أيْ وَجْهٍ فَعَلْتُهُ، ويَعْلَمُ أنه لا بُدَّ أنْ يُنْشَرَ لِكلِّ حَرَكةٍ وكَلِمَةٍ مِنْه دِيوانانِ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وكَيْفَ فَعَلْتَهُ؟ فالأوَّلُ: سُؤالٌ عن الإخلاصِ، والثاني: سُؤالٌ عن الْمُتَابَعَةِ: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الحجر: 92، 93] ) انتهى.

    وقد قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (‌لا ‌تَزُولُ ‌قَدَمَا ‌عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفِيمَ أَنْفَقَهُ، وعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاهُ) رواه الترمذي وقال: (حَسَنٌ صَحِيحٌ).

    الوقفةُ السادسة: العاقلُ عند دخول العامِ الجديدِ يُفكِّرُ ويُخطِّطُ ماذا سيفعلُ ويُنجزُ فيه من أعمالٍ صالحةٍ إن أطال الله بقاءه، وحُسنُ التخطيطِ هو من أهمِّ أسباب النجاح، قال صلى اللهُ عليه وسلم: (المؤمنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إلى اللهِ مِن المؤمنِ الضعيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ واسْتَعِنْ باللهِ ولا تَعْجَزْ، وإنْ أصابَكَ شيءٌ فلا تَقُلْ لوْ أني فَعَلْتُ كانَ كذا وكَذا، ‌ولكِنْ ‌قُلْ: ‌قَدَرُ ‌اللهِ ‌وما ‌شاءَ ‌فَعَلَ، فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشيطانِ) رواه مسلم.

    الوقفة السابعة: من الأخطاء التي تقع عند نهاية كلِّ عامٍ، إرسال الرسائل بأن صحيفة هذا العام ستطوى فعليكم ختمه بالاستغفار، وبعضهم يطلب مسامحته وما شابه ذلك، وهذا كله لا حقيقة له، فالتوبةُ والمسامحةُ لا تُربط بنهاية عامٍ ودخولِ آخر، وما أدراه بأن صحيفة العام ستُطوى، وبدايةُ العامِ الهجري ونهايتهِ اسطُلِحَ عليه في عهدِ ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والمقاديرُ الحولية ابتداؤها وانتهاؤها في ليلة القدر، قال تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).

    ومِنَ الأخطاءِ أيضاً: تخصيص الجمعة الأخيرة من العام بعبادةٍ لم يفعلها النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم، وقد قال: (مَنْ ‌أَحْدَثَ ‌فِي ‌أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ) متفقٌ عليهِ.

    اللهمَّ اجعلنا ووالدينا وأهلينا ممن طالَ عُمُرُه وحَسُنَ عَمَلُهُ وأجَلُه.




    الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري

    شبكة الالوكة

     


  12. المقدمة:

    لهلاك الأمم أسباب كثيرة جَرت سُنَّةُ الله تعالى في عباده عند وجودها أن يهلكهم بسببها، وهذه الأسباب متداخلة يجمعها: الكفر بالله والصّدُّ عن سبيله، الاستهزاء بالرسل وتكذيبهم، الكفر بنعم الله وعدم القيام بواجب شكرها، انتهاك حرمات الله وشيوع الفواحش، والظلم، والطغيان.

     

    وقد أشار القران الكريم الى هذه الأسباب، كما أشارت السُّنَّةُ المطهرة إلى طرف من هذه الأسباب، سأقف مع أهمها في السطور التالية.


    وأود قبل الدخول في الموضوع الإشارة الى أمرين اثنين:

    الأمر الأول: ينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسُنَّة الله وأيامه في الأمم السابقة، وأن يتفكَّروا في أحوالهم، ويتَّعظوا بما حلَّ بهم من العقاب والنكال، وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بذلك، وذكر في مواضع كثيرة من كتابه العزيز أن سنَّته في ذلك مُطردَةٌ وعادتُه مُستَمِرَّة لا تُحابِي أحدًا، وهذا هو أحد أهم الأهداف الأساسية من قصص القران.قال تعالى: ﴿ وَكُلًا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120]، وقال جل وعلا: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ .. ﴾ [يوسف: 111].


    وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ): «وَإِنَّمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قصَصَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ لِتَكُونَ عِبْرَةً لنا. فَنُشَبِّهُ حَالَنَا بِحَالِهِمْ ونَقِيسُ أَوَاخِرَ الْأُمَمِ بِأَوَائِلِهَا. فيكون للمؤمن من المتأخرين شَبَهٌ بما كان للمؤمن من المتقدمين. ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شَبَهٌ بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين»[1].

     

    ويلفت الإمام البقاعي (ت: 885هـ) نَظَرَنا إلى أن « لكل من الماضين مثل يتكرر في هذه الأمة الخاتمة... فما صَدَّ أكثرَ هذه الأمة عن فهم القرآن؛ ظنُّهم أنَّ الذي فيه مِن قَصَص الأوَّلِين وأخبار المُثَابين والمُعَاقَبين مِن أهل الأديان أجمعين؛ أنَّ ذلك إنما مقصوده الإخبار والقَصص فقط، كلا، وليس كذلك؛ إنما مقصودُه الاعتبار والتنبيه لمشاهدة متكررة في هذه الأمة من نظائر جميع أولئك الأعداد، وتلك الأحوال والآثار»[2].

     

    الأمر الثاني: ابتلى الله الأمم السابقة بأصناف العذاب، وهذا العذاب على نوعين: أولهما عذاب الاستئصال والفناءأو الإهلاك العام، فلا يبقي منهم أحد، كما حصل مع قوم نوح وعاد وثمود، وقد ذهب أهل العلم إلى أن الله عز وجل ببالغ حكمته ورحمته رفع هذا النوع من العذاب عن البشرية، وشرع للمؤمنين جهاد المكذبين المعاندين.


    النوع الثاني: العذاب الشديد الذي يصيب الأمة كالطاعون والطوفان والكوارث وغيرها، وهذا النوع من العذاب لا يؤدي إلى فناء الأمة المعذبة برمتها. ويدخل في ذلك أيضا: الإهلاك الجزئي، وهو الانتقام من قوم ظالمين بسبب اعتدائهم على قوم مؤمنين مسالمين.قال تعالى: ﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 45 - 47].



    والآن مع بيان أسباب الهلاك التي جاءت في السنة النبوية:

    السبب الاول: المحاباة والمداهنة في الحدود والعقوبات.

    لإقامة الحدود والعقوبات فوائد لا تحصى منها نزع شوكة الفساد، ورفع الظلم، وإقامة العدل، والمحافظة على الأنفس والأموال والأعراض.


    ومن ثم وجبت إقامتها على الشريف، والوضيع، والغني والفقير، ولا يحل تعطيلها؛ لا بشفاعة، ولا بهدية، ولا بغيرهما.

     

    وقد حذرنا صلى الله عليه وسلم من مشابهة من قبلنا، في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وأمر أن يُسَوَّى بين الناس في ذلك، وأَخْبَرَ أَنَّ أَعَزَّ النَّاسِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ لَوْ أَتَى بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ لَأَقَامَهُ عَلَيْهِ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: إنَّ قُرَيشًا أَهَمَّهُمْ شَأنُ المرأَةِ المَخزوميَّةِ التي سَرَقَتْ، فقالوا: مَنْ يُكلّمُ فيها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: ومَنْ يَجترئُ عليه إلا أُسامَةُ بن زَيدٍ، حِبُّ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فَكلَّمَهُ أُسَامَةُ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: أتَشفَعُ في حدٍّ مِنْ حُدودِ الله؟ ثم قال: إنَّما أَهلك الذين قبلكم: أنَّهمْ كانوا إذا سَرقَ فيهم الشَّريفُ تَرَكُوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ. وَأيْمُ الله لَوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمدٍ سَرَقَت لقطعتُ يَدَهَا [3].

     

    قال شيخ الاسلام ابن تيمية (ت: 728هـ): بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم أن هلاك بني إسرائيل إنما كان في تخصيص رؤساء الناس بالعفو عن العقوبات، وأخبر أن فاطمة ابنته - التي هي أشرف النساء - لو سرقت، وقد أعاذها الله من ذلك، لقطع يدها؛ ليبين: أن وجوب العدل والتعميم في الحدود، لا يستثنى منه بنت الرسول، فضلا عن بنت غيره [4].

     

    وقد استنبط الحافظابن حجر (ت: 852هـ) فوائد كثيرة من هذا الحديث اقتصر منها على ما يتعلق بموضوعنا، قال رحمه الله: وفي هذا الحديث من الفوائد: منع الشفاعة في الحدود، وفيه دخول النساء مع الرجال في حديث السرقة، وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على من وجب عليه ولو كان ولدًا أو قريبًا أو كبير القدر، والتشديد في ذلك والإنكار على من رخص فيه أو تعرض للشفاعة فيمن وجب عليه، وفيه الاعتبار بأحوال من مضى من الأمم ولاسيما من خالف أمر الشرع[5].


    ويدخل تحت هذا الذم كل من أسند الأمر الى غير أهله وغير ذلك من المحاباة في أحكام الدين[6].



    السبب الثاني: الشحُّ بالمال، ومنع حقوق الله، وحقوق عباده.

    الشُّحُّ هو شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله وإمساكه، والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقي شره وذلك هو المفلح [7].

     

    والشُّحُّ من أسباب هلاك الأمم وخراب الديار،فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «اتقوا الظلم، فإن الظُّلم ظُلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشُّحّ، فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دِماءهم واستحلّوا محارمهم»[8].

     

    وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخَلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا" [9].

     

    قال الماوردي (المتوفى: 450هـ): ينشأ عن الشح من الأخلاق المذمومة أربعة أخلاق: الْحِرْصُ وَالشَّرَهُ وَسُوءُ الظَّنِّ، وَمَنْعُ الْحُقُوقِ:

    فَأَمَّا الْحِرْصُ فَهُوَ شِدَّةُ الْكَدْحِ وَالْإِسْرَافِ فِي الطَّلَبِ.

    وَأَمَّا الشَّرَهُ فَهُوَ اسْتِقْلَالُ الْكِفَايَةِ، وَالِاسْتِكْثَارُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْحِرْصِ وَالشَّرَهِ.


    وسوء الظن: عدم الثقة بمن هو أهل لها.

    وَأَمَّا مَنْعُ الْحُقُوقِ فَإِنَّ نَفْسَ الْبَخِيلِ لَا تَسْمَحُ بِفِرَاقِ مَحْبُوبِهَا. وَلَا تَنْقَادُ إلَى تَرْكِ مَطْلُوبِهَا، فَلَا تُذْعِنُ لِحَقٍّ وَلَا تُجِيبُ إلَى إنْصَافٍ.


    وإذا آلَ الْبَخِيلُ إلى ما ذكر من هذه الصفات المذمومة والشيم اللئيمة لَمْ يَبْقَ مَعَهُ خَيْرٌ مَرْجُوٌّ وَلَا صَلَاحٌ مَأْمُولٌ.. [10].

     

    وقال العلامة المناوي (ت: 1031هـ):

    فالبخل مطلق المنع، والشح المنع مع ظلم، وعطف الشح الذي هو نوع من أنواع الظلم اشعارا بأن الشح أعظم أنواعه، لأنه من نتائج حب الدنيا ولذاتها.... وإنما كان الشح سبب ما ذكر لأن في بذل المال والمواساة تحاببًا وتواصلًا، وفي الإمساك تهاجر وتقاطع، وذلك يجر إلى تشاجر وتغادر من سفك الدماء واستباحة المحارم.

     

    ومن السياق عُرِف أن مقصود الحديث بالذات ذكر الشح، وأما ذكر الظلم فتوطئة وتمهيد لذكره، وأبرزه في هذا التركيب إيذانا بشدة قبح الشح، وأنه يفضي بصاحبه إلى أفظع المفاسد، حيث جعله حاملا على سفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة وأخبث العواقب الوخيمة، قال بعض الحكماء: الشح مسابقة قدر الله، ومن سابق قدر الله سُبِق، ومغالبة لله ومن غالب الحق غُلِب، وذلك لأن الحريص يريد أن ينال ما لم يقدر له، فعقوبته في الدنيا الحرمان، وفي الآخرة الخسران [11].


    وقد ذكر الإمام القرطبي في تفسيره عن بعض الحكماء أن الشح أضر من الفقر، لأن الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبدًا.


    السبب الثالث: التعمق في سؤال الأنبياء والعلماء، مع الاختلاف عليهم وعدم اتباعهم.

    إنَّ الاختلاف على الأنبياء من أسباب الفتنة والهلاك، وهذه العلة كما هي في حق الأنبياء، كذلك تكون بالنسبة للعلماء العاملين، والدعاة المخلصين، فإن العلماء ورثة الأنبياء، فإحراجهم بكثرة الأسئلة مع مخالفتهم فيما يأمرون به وينهون عنه من أسباب الهلاك.

     

    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا". فَقَالَ رَجُلٌ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله؟! فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتكُمْ، لَوْ قلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلمَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةِ سُؤَالهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ [12].

     

    والمعنى: اتركوني من السؤال مدة ما تركتم فلا تتعرضوا بكثرة البحث عن ما لا يعنيكم في دينكم كما كان يفعل أهل الكتاب مع أنبيائهم... فإنْ قيل: السؤال مأمور به كما في قوله تعالى ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43] قيل: هذا فيما تتم به أداء المأمور به وترك المنهي عنه والنهي عن سؤال ما ليس من ذلك القبيل...".[13].

     

    ويفسر ابن تيمية (ت: 728هـ) الاختلاف على الأنبياء بالمخالفة لهم، فيقول:

    فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللا بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية، كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة.


    لكن هذا الاختلاف على الأنبياء: هو - والله أعلم - مخالفة الأنبياء كما يقول: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه.

    والاختلاف الأول: مخالفة بعضهم بعضا وإن كان الأمران متلازمين أو أن الاختلاف عليه هو الاختلاف فيما بينهم، فإن اللفظ يحتمله. "[14].



    السبب الرابع: اتباع متشابه القرآن، وما استأثر الله بعلمه.

    ليس بين آيات الكتاب تناقض ولا اضطراب؛ لأن الأمر كله من عند الله، لكن القرآن الكريم فيه المحكم والمتشابه، والمحكم هو البيّن الواضح الذي لا يلتبس أمره، وهذا هو الغالب في القرآن، فهو أمّ الكتاب وأصله، وأما المتشابه، فهو الذي يشتبه أمره على بعض الناس دون بعض، فيعلمه العلماء ولا يعلمه الجهال، ومنه ما لا يعلمه إلا الله تعالى.


    فمن التبس عليه أمر شيء من المتشابه، فليرده إلى المحكم، إن كان من أهل العلم القادرين على الاستدلال والاستنباط، وإلا فليسأل أهل العلم.


    ولا شك أن اتباع متشابه القرآن وترك المحكمات. سبب في الاختلاف والتنازع في الدين المؤدي إلى الهلاك.


    فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: قال: هَجَّرْتُ (أي: بكَّرْتُ) إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فَسَمِعَ أصواتَ رجلين اختَلَفا في آيةٍ فَخَرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ في وجهه الغَضَبُ، فقال: إنَّما هَلَكَ مَنْ كانَ قبلكم باختلافهم في الكتاب. "[15].

     

    قال الإمام النووي (ت: 676هـ): المراد بهلاك من قبلنا هنا هلاكهم في الدين بكفرهم وابتداعهم، فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل فعلهم، والأمر بالقيام عند الاختلاف في القرآن محمول عند العلماء على اختلاف لا يجوز، أو اختلافيوقع فيما لا يجوز، كاختلاف في نفس القرآن، أو في معنى منه لا يسوغ فيه الاجتهاد، أو اختلاف يوقع في شك أو شبهة أو فتنة وخصومة أو شجار، ونحو ذلك. وأما الاختلاف في استنباط فروع الدين منه، ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة واظهار الحق، واختلافهم في ذلك، فليس منهيا عنه، بل هو مأمور به وفضيلة ظاهرة، وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الآن [16].

     

    قال المناوي (ت: 1031هـ): والحاصل أن من الناس من فَرَّطَ في السؤال فسَدَّ باب المسائل حتى قل فهمه وعلمه، ومنهم من أفرط في السؤال فتوسع حتى أكثر الخصومة والجدل بقصد المغالبة وصرف وجوه الناس إليه، حتى تفرقت القلوب وانشحنت بالبغضاء، ومنهم من اقتصد فبحث عن معاني الكتاب والسنة والحلال والحرام والرقائق ونحوها مما فيه صفاء القلوب والإخلاص لعلام الغيوب، وهذا القسم محبوب مطلوب، والأولان مذمومان. وبذلك عُرِف أن ما فعله العلماء من التأصيل والتفريع والتمهيد والتقرير في التأليفات مطلوب مندوب بل ربما كان واجبا شَكَرَ الله سعيهم[17].



    السبب الخامس: الغلو في الدين والتنطع والتشدُّد.

    الغلو: هو مجاوزة الحد، وهو مذموم في كل الأمور.وهو أحد الأسباب في هلاك من كان قبلنا من الأمم، والسعيد من اتعظ بغيره، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ العَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: "هَاتِ القُطْ لِي. فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الخَذْفِ. فَلمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدهِ قَالَ: بِأَمْثَالِ هَؤُلاَءِ. إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمُ بِالغُلُوُّ فِي الدِّينِ [18].


    والنهي هنا وإن كان خاصًا، فهو نهي عام لكل غلو،قال ابن تيمية (ت: 728هـ): هذا عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقاد والأعمال. والغلو مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك. والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن، في قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ﴾ [النساء: 171].


    وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخل فيه، فالغلو فيه: مثل الرمي بالحجارة الكبار، ونحو ذلك. بناء على أنه قد أبلغ من الحصى الصغار. ثم علل ذلك: بأن ما أهلك من قبلنا إلا الغلو في الدين[19].



    السبب السادس: التنافس في الدنيا، والمغالبة عليها، وحب التفاخر والتكاثر.

    حثنا الشرع على المُبادَرة إلى الخيرات، والتسابُق في الطاعات، والتنافُس في أعمال البرِّ؛وهذا هو التنافُسُ المحمود الذي يُثرِي الحياة، ويعين المُسلمَ على السمُوِّ بنفسِه والارتِقاء بعلمِه وعملِه للسعيِ إلى الكمال.


    وفي المُقابِل، نهَى الإسلام عن التنافُس المذموم على الدنيا الذي يُلهي عن الله والدار الآخرة، ويحمِلُ على القبائِح والمُنكَرات ومنع الحقوق، و يُفضِي إلى البغي والعُدوان والاستِطالة على الآخرين، و يُحوِّلُ الأمةَ إلى مُجتمعٍ مُتهالِكٍ مُتهافِت.


    وقد أقسم رسول الله لأصحابه وهم أئمة الشاكرين أنه لا يخاف عليهم الفقر، وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها، وإهلاكها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: والله! ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبْسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم[20].

     

    وقوله - صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «إذا فُتِحَتْ عليكم خَزَائِنُ فارسَ والروم: أَيُّ قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله عزَّ وجلَّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:أو غير ذلك، تتنافَسُونَ، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، أو تتَباغضون...» [21].


    السبب السابع: كثرة الفساد وانتشار المعاصي والمجاهرة بها:

    أخبرنا القران الكريم عن آثار المعاصي على مرتكبيها في أنفسهم وأبدانهم، فقال تعالى: " قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ"، وقال تعالى:" فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ"، وقال تعالى: "وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ"، قال القرطبي في تفسيره: الْكَفُور هو مَنْ كَفَرَ بِالنِّعَمِ وَعَمِلَ بِالْكَبَائِرِ.

     

    وقد بين النبي- صلى الله عليه وسلم- أن المعصية إذا أُعْلِنت دبَّ بلاؤها إلى العامَّة والخاصَّة، ولم يقتصر وبالها على مُرتكبها، فعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم الله بعذاب من عنده [22].


    وسُئِل- صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ [23].

     

    ومعنى الحديث أنه إذا كثر الخبث وزاد الفجور والفسوق والفساد كانت الفتنة أقرب للوقوع، وتعرض الجميع للهلاك وإن كان هناك صالحون.


    ويدخل في ذلك تقديم التافهين وتلميعهم وإِكرامهم، وفي المقابل محاربة الصالحين المصلحين والتضييق عليهم، وقد قال عُمَر بْن الْخَطَّابِ: تُوشِكُ الْقُرَى أَنْ تُخَرِّبَ وَهِيَ عَامِرَةٌ، قِيلَ وَكَيْفَ تُخَرَّبُ وَهِيَ عَامِرَةٌ؟ قَالَ: إِذَا عَلَا فُجَّارُهَا أَبْرَارَهَا، وَسَادَ الْقَبِيلَةَ مُنَافِقُوهَا[24].

     

    فالسكوت عن المعاصي من مُوجبات العقاب والهلاك، لأن السكوت عنها يغري أصحابها على التمادي فيها واستفحال أمرها وانتشارها.

     

    وفي حديث السفينة المشهورة: "... فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا جَميعًا، وإنْ أخذُوا على أيدِيهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعًا "[25].

     

    وقوله -صلى الله عليه وسلم-: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشَكَ أن يَعُمَّهُم الله بعقاب من عنده [26].


    قال العلامة المُناوي (المتوفى: 1031هـ): "أفاد الخبر أن من الذنوب ما يعجل الله عقوبته في الدنيا ومنه ما يمهله إلى الآخرة والسكوت على المنكر يتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات... وفيه تحذير عظيم لمن سكت عن النهي فكيف بمن داهن فكيف بمن رضى فكيف بمن أعان؟ نسأل الله السلامة[27].

     

    وكذلك هو من موجبات عدم استجابة الدعاء؛ حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكر، أو لَيُوشِكَنَّ الله يبعثُ عليكم عقابًا منه، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يسْتَجَيبُ لكمْ»[28].

     

    قال المُناوي (المتوفى: 1031هـ): أي والله إنَّ أحد الأمرين كائن، إما ليكن منكم الأمر بالمعروف ونهيكم عن المنكر أو إنزال عذاب عظيم من عند الله ثم بعد ذلك الخيبة في الدعاء. وصلاح النظام وجريان شرائع الأنبياء إنما يستمر عند استحكام هذه القاعدة في الإسلام، فيجب الأمر والنهي حتى على من تَلَبَّس بمثله... وفيه تهديد بليغ لتارك الإنكار، وأنَّ عذابه لا يدفع، ودعاءه لا يسمع، وفي أدنى من ذلك ما يزجر اللبيب[29].

     

    اللهم ادفَع عنَّا المِحَن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ردنا الى دينك ردًا جميلًا، اللهم تب علينا لنتوب. وصلى اللهم على النبي الأُميّ وعلى آله وصحبه أجمعين.

     


    [1] مجموع الفتاوى (28/ 425)

    [2] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (8/ 525)

    [3] أخرجه البخاري (6788)، ومسلم (1688) وغيرهما.

    [4] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 330).

    [5] فتح الباري (12/ 85).

    [6] فيض القدير (2/ 568).

    [7] باختصار من الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 33).

    [8] مسلم رقم (2578).

    [9] أبو داود (1698)، أحمد (2753)، الحاكم (1516).

    [10] أدب الدنيا والدين (ص: 186).

    [11] فيض القدير (1/ 135).

    [12] أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).

    [13] التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 172).

    [14] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 158).

    [15] رواه مسلم (2666).

    [16] شرح النووي على مسلم (16/ 218).

    [17] فيض القدير (3/ 562).

    [18] رواه أحمد (3248)، وابن ماجه (3029) والنسائي (3057).

    [19] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 328).

    [20] أخرجه البخاري (3158)، (4015)؛ ومسلم (2961).

    [21] رواه مسلم رقم (2962)

    [22] مسند احمد (26596).

    [23] البخاري (3346) مسلم (2880).

    [24] ذكره ابن القيم في كتابه: الداء والدواء (ص: 49).

    [25] صحيح البخاري (2493)، (2686).

    [26] أخرجه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وابن ماجة (4005).

    [27] فيض القدير (2/ 399).

    [28] رواه احمد في مسنده (26596).

    [29] فيض القدير (5/ 261).

    د. أحمد عبدالمجيد مكي

    شبكة الالوكة


  13. نعمة الإيمان

     

    الخطبة الأولى:

    الحمد لله معز من أطاعه واتقاه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلا إياه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه وسلم تسليما كثيرا أما بعد
    أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الإيمان نعمة من الله يمن بها على من يشاء من عباده { بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَان }، فأشكروا الله على هذه النعمة أن جعلكم مؤمنين ولكن الإيمان ليس بالدعوى الإيمان له حقيقة قال الله جل وعلا: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا }، ولما سأل أحد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه غيرك قال: " قل آمنت بالله ثم استقم "، يستقيم على الإيمان ولا يكتفي بالقول وذلك بأن يعتقده في قلبه ويعمل به في جوارحه ويكون الإيمان ظاهراً عليه في تصرفاته وفي أفعاله وأقواله كما هو أيضا في قلبه ونيته وعقيدته هذا هو الإيمان ولهذا قال سبحانه وتعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }، الإيمان له أركان ستة بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لما سأله جبريل عليه السلام بحضرة أصحابه قال: " أخبرني عن الإيمان "، قال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، هذه أركان الإيمان الذي لا بد منها فإذا فقد واحد منها فالإنسان ليس بمؤمن ولو قال بلسانه إنه مؤمن أو آمنت بالله والإيمان له شعب تزيد على الستين أو السبعين ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الإيمان بضع وسبعون شعبة "، وفي رواية: " بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان "، وهذا الحديث يدل على أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح وأنه يزيد وينقص فالإيمان له أحكام عظيمة أعلاها قول لا إله إلا الله هذا قول باللسان واعتقاد بالقلب لا بد أن يقولها بلسانه ولا بد أن يعرف معناها ويعتقده في قلبه ولا بد أن يعمل بمقتضاها وليس المراد أن يقول لا إله إلا الله بلسانه لا بد أن يعرف معناها ولا بد أن يعمل بمقتضاها حتى يكون من أهل لا إله إلا الله أما من يقولها بلسانه دون قلبه فهذا منافق في الدرك الأسفل من النار وإن كان يقول لا إله إلا الله في لسان ولهذا يقول الحسن البصري رحمه الله ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال هذا هو الإيمان قول لا إله إلا الله هذا رأس الإيمان وأدناه إماطة الأذى عن الطريق طريق المسلمين هذي شعبة من شعب الإيمان فالذي يزيل الأذى والمؤذيات والمعوقات عن طريق المسلمين هذا دليل على إيمانه أما الذي يضع العراقيل والحفر والشوك والحديد ويضع أشياء تعوق السير فهذا دليل على ضعف إيمانه أو على عدم إيمانه فطريق المسلمين لا بد أن يهيأ ولا بد أن يكف الأذى عنه حتى يسلكه الناس والدواب لأنه طريق لا يجوز أن يلقى فيه ما يعوق السائرين ولهذا عدّ النبي صلى الله عليه وسلم من الملاعن التي يلعن عليها قضاء الحاجة في الطريق بأن يتبول في الطريق أو يتغوط في الطريق فهذا ملعون بنص الحديث وكذلك في الوقت الحاضر أصحاب السيارات الذين يوقفون سياراتهم في الطريق ويعوقون المارة أو يوقفونها في الشوارع التي يمر الناس منها والسكك والأسواق يعوقون السير فهؤلاء ليس عندهم إيمان على المطلوب عندهم إيمان ضعيف ولكن ليس عندهم إيمان كامل وضع العراقيل في الطريق يدل على نقص الإيمان في القلب وقد يدل على زوال الإيمان بالكلية فلا بد أن تهيأ الطرقات وكذلك أصحاب السيارات الذين يسرعون سرعة زائدة عن المطلوب يعرضون أنفسهم ويعرضون غيرهم بالخطر والموت يتحملون في ذلك آثامًا عظيمة ويروعون المسلمين وكذلك الذين يقطعون الإشارات المجعولة لأجل ضبط السير وتأمين الخطر هؤلاء أيضا مخالفون لما يقتضيه الإيمان من حفظ دماء المسلمين وحفظ مصالح المسلمين كل هذا يدل على ضعف إيمانهم أو على عدم إيمانهم فالإيمان يظهر في تصرفات الإنسان على لسانه وعلى جوارحه وتصرفاته هذا هو المؤمن إزالة الأذى عن الطريق وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يتقلب في الجنة أو سئل هذا الرجل في الجنة ما سبب دخولك الجنة قال شوك أزلته عن طريق المسلمين أو شجرة أزلتها عن طريق المسلمين فدخل الجنة بذلك إذا فالذي يضع العراقيل في طرق المسلمين ويعرض المسلمين للخطر هذا معرض نفسه للنار والعياذ بالله ومعرض نفسه لدعوات المسلمين ولو مات ناس بسببه أو ناس لسببه كان متحملا لدمائهم فليتق الله هؤلاء وليتأدبوا بآداب الطريق وإماطة الأذى عن الطريق ثم قال صلى الله عليه وسلم: " والحياء شعبة من الإيمان "، الحياء الذي يكف الإنسان عما لا يليق يكفه عن الأخلاق السيئة يكفه عن الكلام السيء يكفه عن التصرفات السيئة هذا هو الحياء المحمود الذي يكف الإنسان عما لا يليق فالذي لا يكف أذاه عن الناس هذا ليس فيه حياء ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت "، فالذي لا يستحي يصنع ما شاء من السخافات ومن المعاصي والمنكرات لأنه ليس عنده حياء لا من الله ولا من خلقه فالحياء خصلة عظيمة من توفرت فيه فقد رزق خير كثيرا وكفته عن شر كثير فالحياء له أهمية عظيمة والنبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر في هذا الحديث أنه لا يكف الإنسان عن الأذى وعما لا يليق إلا الحياء إذا لم تستحي فاصنع ما شئت وأما الحياء الذي يمنع الإنسان من تعلم العلم ومن السؤال عما أشكل عليه من أمور دينه هذا خجل وليس حياء وهذا جبن وهذا حياء مذموم لا حياء في الدين فالحياء الذي يمنع الإنسان من الخير هذا ضعف وخور وهذا مذموم أما الحياء الذي يمنع الإنسان من الشر ومن أذى الناس ومما لا يليق فهذا هو الحياء المحمود وهو منة يمن الله بها على من يشاء من عباده وهو شعبة من شعب الإيمان فهذا حديث عظيم يدل على أن الإيمان لا يقتصر على الأركان الستة بل هو يتمدد إلى بضع وسبعين أو بضع وستين شعبة شعب كثيرة كلها من الإيمان كل أعمال الخير كلها من الإيمان وكل أعمال الشر كلها من النفاق فعلى المسلم أن يتأدب بالإيمان الذي من الله به عليه وجعله من المؤمنين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    الخطبة الثانية:

    الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليماً كثيراً، أما بعد،
    عباد الله، فإن الإيمان له صفات يتصف بها المسلم من ذلك المحبة بين المؤمنين المؤمنون إخوة كما قال الله جل وعلا فمقتضى الأخوة المحبة فيما بينهم قال صلى الله عليه وسلم: " لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم "، فإفشاء السلام بين المؤمنين يورث المحبة بينهم وترك السلام يحدث النفرة بينهم والإدبار بعضهم عن بعض فالسلام علامة عظيمة من علامات الإيمان إذا انتشر بين المسلمين أفشوا يعني أكثروا السلام بينكم ومما يدل على ضعف الإيمان أن يؤذي الإنسان جاره، قال صلى الله عليه وسلم : " والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن "، قالوا خاب وخسر يا رسول الله منه قال: " الذي لا يأمن جاره بوائقه "، أي غدراته وآذاه هذا يدل على عدم إيمانه ولا حول ولا قوة إلا بالله وكذلك الإيمان يكف الإنسان عن الجرائم لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن فهذا الإيمان العظيم يكف الإنسان عن الجرائم الخطيرة التي تكون بين الإنسان وبين ربه أو بين الإنسان وبين خلقه فالإيمان نعمة عظيمة من الله عز وجل يمن بها على من يشاء من عباده ولكن ينبغي للمسلمين أن يتصفوا بهذا الإيمان في جميع أحوالهم وفي جميع تصرفاتهم وقال صلى الله عليه وسلم: " من غشنا فليس منا "، فمن مقتضى الإيمان النصيحة وعدم الغش بالبيع والشراء وفي الكلام وفي المشورة قال صلى الله عليه وسلم: " من حق المسلم على أخيه المسلم إذا استنصحك فأنصح له "، إذا استنصحك المسلم وشاورك تدله على الطريق الصحيح ولا تكتم عنه ذلك لأن هذا من مقتضى الإيمان فالإيمان تعامل بين الناس يتعاملون بموجب الإيمان ومقتضى الإيمان كما هو تعامل مع الله عز وجل بالأعمال الصالحة وترك الأعمال السيئة فالإيمان له ظل عظيم يستظل به المؤمنون في الدنيا والآخرة الجنة للمؤمنين والنار للكافرين كما أخبر الله سبحانه وتعالى فالإيمان هو حصن المؤمن في الدنيا وفي الآخرة في الدنيا حصنه من الأخلاق السيئة والأعمال القبيحة وفي الآخرة حصنه من النار ودخوله في الجنة نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للإيمان وأن يمن علينا وعليكم بالإيمان وأن يثبتنا وإياكم على الإيمان وأن يتوفانا وإياكم على الإيمان وأن يلحقنا بالمؤمنين الصالحين.

    واعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكُلَ بدعةٍ ضلالة.وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }.

    اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمةَ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن الصحابةِ أجمعين، وعن التابِعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.

    اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وجعل هذا البلد آمناً مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن فجاءة نقمتك، ومن تحول عافيتك، ومن جميع سخطك، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا، وجعلهم هداة مهددين غير ضالين ولا مضلين، اللَّهُمَّ أصلح بطانتهم، وأبعد عنهم بطانة السوء والمفسدين، اللَّهُمَّ أجمع كلمة المسلمين على الدين، وكفهم شر أعدائهم يا رب العالمين، اللَّهُمَّ أكفنا شر أعدائنا من الكفار والمشركين والمنافقين، اللَّهُمَّ ولي علينا خيارنا، وكفنا شر شرارنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا ما لا يخافك ولا يرحمنا، وجعل ولينا فيمن خافك وتقاك وتبع رضاك يا رب العالمين، { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }.

    عبادَ الله، { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }، { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، { ولذِكْرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعون }.

    عن موقع الشيخ صالح الفوزان



  14.  
    سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [1]
     
    تفسير الربع الأول من سورة الأنعام بأسلوب بسيط
     
     



    الآية 1: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾: أي الثناء على الله تعالى بصفاته (التي كلّها صفات كمال)، وبنعمه الظاهرة والباطنة،الدينية والدنيوية، فهو سبحانه ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾: أي وخلق الظلمات والنور، وذلك بتعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، فالذي أوجد السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات وجعل الظلمات والنور (وهما من أقوى عناصر الحياة) هو المستحق للحمد والثناء والعبادة لا غيره، ومع هذا الوضوح في استحقاقه تعالى وحده للعبادة: ﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾: يعني: يساوونه بغيره في العبادة والتعظيم والمحبة والخوف، (إذ معنى يَعدلون: يساوون، وهي مأخوذة من العدل والمساواة)، فالذين كفروا يَعدلون بالله تعالى أصناماً ومخلوقاتٍ فيعبدونها معه، مع أنهم لم يساووا اللهَ في شيءٍ من الكمال، بل هم فقراء عاجزون ناقصون مِن كل وجه.


    الآية 2: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ﴾: يعني هو الذي خلق أباكم آدم من طين (وأنتم سُلالة منه)، ﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا ﴾: يعني ثم كتب مدة بقاء كل إنسان في هذهالحياة الدنيا، ﴿ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ﴾: أي وكتب أجلاً آخر محدَّدًا معروفاً عنده، لا يعلمه إلا هو جَلَّ وعلا، وهو يومالقيامة.

    واعلم أنَّ في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ﴾، إعلامٌ بأنه تعالى قادرٌ على أن يعيد خَلق الإنسان بعد الموت كما بدأه أول مرة، قال تعالى: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾، وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأحقاف: 33]، بل إنَّ ذلك أهْوَنُ عليه سبحانه، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾، إذ هي نفس الأرض التي خلقه منها، قال تعالى: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾، وضرب لنا مثالاً حتى نُوقِنَ بقدرته تعالى على البعث فقال: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، ﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾: يعني ثم أنتم بعد هذا تشُكُّون - أيها المشركون - في قدرة الله تعالى على البعث بعد الموت، كما تشُكُّون في وجوب توحيدِهِ بالعبادة دونَ غيره.


    الآية 3: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ هذه الجملة يُفسرها قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ)، يعني وهو المعبود في السماء والمعبود أيضاً في الأرض، لأن كلمة (إله) معناها في اللغة: (المعبود)، وليس كما يَستدل البعض بهذه الآية على أن الله موجود في كل مكان، فهذا لا يليق به سبحانه، إذ قد يقول قائل - بجهل -: (طالما أنه موجود في كل مكان، إذن فهو - حاشَ لله - موجود أيضا في الأماكن الخربة، وغيرها)، تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، بل هو سبحانه فوق عرشه كما أخبر عن نفسه فقال:﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾، أي عَلا وارتفع، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، وهذه آياتٌ مُحكَمات (يعني لا تَحتمِل أكثر من معنى)، والعرش فوق السماء السابعة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - كما في صحيح البخاري - وهو يتحدث عن الفردوس الأعلى من الجنة: (وفوقه عرش الرحمن)، ومعلومٌ أنَّ الجنة بعد السماء السابعة، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بعد صعوده إلى سِدرة المنتهى - في رحلة الإسراء والمعراج - حينَ صعد به جبريل عليه السلام فوق السماء السابعة للقاء ربه تبارك وتعالى، قال تعالى: ﴿ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى.

    فإذا قلنا ذلك: فإننا نجد مَن يقول: (إنَّ معنى استوى على العرش هو: استولى على العرش)، فدعونا نسأل: (هل كانَ العرشُ في يدِ أحد، حتى يستولى اللهُ عليه؟!)، سبحان الله وتعالى عما يصفون، ثم نجدهم يحتجون بأنهم فعلوا هذا التأويل (أي التبديل للمعنى) لأنه سبحانه إذا كانَ فوق العرش، فإنه سيكون مُحتاجاً له للجلوس عليه، وهذه ستكون صفة نقص في حقه تعالى، ونحن نقول: (إذا تصورنا أنني وضعتُ قلماً فوق يدي بحيث يكون ملامساً لها، فإننا سنقول: إن القلم فوق اليد، وكذلك إذا رفعتُ القلم فوق يدي - قليلاً - بحيثُ يكون غير ملامس لها، فإننا سنقول أيضاً: إنّ القلم فوق اليد)، إذن فإنَّ الفوقِيَّة لا تَشترط المُلامَسة، فإذا كانت المُلامَسة للعرش صفة نقصٍ عندهم، فهي أيضاً صفة نقصٍ عندنا، إذن فهو سبحانه فوق العرش - كما أخبر عن نفسه - ولكنْ غير مُلامِسٍ له.

    ولكنْ ليعلم الجميع أنه سبحانه - مع عُلُوِّه - قريبٌ مِن عباده بعِلمه وإحاطته، فعِلمُهُ مُحيطٌ بجميع الخلائق، لا يَخفى عليه شيءٌ منها، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُم أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض ﴾، ولهذا قال بعدها: ﴿ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ أي إنه سبحانه معكم بعِلمه وإحاطته في كل وقت.

    وهو سبحانه المُهَيمِن على السماوات والأرض ومَن فيهنّ، المُتصرف في الكون كله، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ قلوبَ بَني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد، يُصَرِّفه حيثُ شاء) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 2141)، فهو سبحانه المتصرف في الأمور كلها، فسبحان مَن عَلَّمَ خَلقه أن يتحكموا في الأشياء وهُم على بعدٍ سحيق منها بمختلف أجهزة التحكم الحديثة (مِثل ما يُعرَف بالأقمار الصناعية وغيرها).

    الآية 4، والآية 5: ﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ ﴾: أي وما يأتي الكفار ﴿ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ تدل على وحدانيته تعالى، وصِدْقِ محمد صلى الله عليهوسلم في نبوته، ﴿ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴿ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ ﴾: أي كذبوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وما معه مِن الدين الحق ﴿ لَمَّا جَاءَهُمْ، وسَخِروامِن دعائه؛ جَهلاً منهم، واغترارًا بإمهال الله لهم، ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾: يعني فسوف يتبين لهم أنَّ ما استهزءوابه هو الحق والصِدق، وسوف يُبَيِّن اللهُ للمكذبين كَذبهم وافتراءهم، ويجازيهم عليه.

    فلما استهزأ مُشركوا قريش بالوعيد: أنزل الله بهم العذاب الذي استهزأوا به، وأوَّل عذاب نزل بهم: هزيمتهم يوم بدر، ثم القحط سبع سنين، ومَن مات منهم على الشِرك: فسوف يُعَذَّب في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ويُقال لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تستهزئون.

    الآية 6: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ﴾: يعني ألم يعلم هؤلاء الكفار أننا قد أهلكنا كثيراً من أهل القرون من الأمم السابقة المُكذبة، (والقرن: مائة سنة)، أفلا يتأملون ما حَلَّ بهم مِنهلاكٍ وتدمير، رغم أننا قد ﴿ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾: أي أعطيناهم من القوة المادية ﴿ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ أيها الكافرون، ﴿ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا ﴾: يعني وأنعمناعليهم بإنزال المطر متواصلاً غزيراً، ﴿ وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ ﴾: أي من تحت مساكنهم، فيَنبُتْ لهم بذلك ما شاء الله من الزروع والثمار، فلم يشكروا نعم اللهَ عليهم، بل أقبلوا على الشهوات وألهَتْهُم المَلَذَّات، فكفروا بنعم الله وكَذَّبوا الرسل، ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾: أي فأهلكناهم بسبب ذنونهم، لا ظُلماً مِنَّا، ولكنْ بظُلمهم هم لأنفسهم، ﴿ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ﴾: يعني وأنشأنا من بعدهمأممًا أخرى خَلفُوهم في عمارة الأرض، وكان ذلك علينا يسيراً، فاعتبروا أيها الكفار مما حدث لهم.

    الآية 7: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا من السماء ﴿ فِي قِرْطَاسٍ ﴾: أي في أوراق ﴿ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ليتأكدوا منه، فإذا لمسوه بأصابعهم وتَيَقنوا أنه حق: ﴿ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ظلما وتكَبُّراً وجُحوداً: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾.


    الآية 8: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ من السماء; ليساعده ويُصَدّقه - أمام الناس - فيما جاء به من النُبُوّة، فرَدَّ اللهُ عليهم بقوله: ﴿ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا من السماء إجابةً لِطلبهم: ﴿ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بإهلاكهم، إذ ليس مِن شأن الله تعالى أن ينزل الملائكة، ولو أنزل ملكاً لأهْلَكَهم في الحال، لأنّ الأمر أصبح يَقينِيَّاً، وليس قضية إيمان بالغيب، وهذا ما لا يريده الله لهم، ﴿ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ﴾: يعني ثم لا يُمهَلون - ولو ساعة - ليتوبوا أو يعتذروا.

    الآية 9، والآية 10: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا ﴾: يعني ولو جعلنا الرسول المُرسَل إليهم مَلَكًا - إذ لم يقتنعوا بمحمد صلى الله عليهوسلم: ﴿ لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا ﴾: أي لَجَعلنا ذلك الملك في صورة بشر، حتى يستطيعوا السماع منه ومخاطبته; إذليس بإمكانهم رؤية المَلَك على صورته الملائكية، وحينها سيَطلبون أن يكون الرسولُ بشراً، ﴿ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾: يعني ولو جاءهم المَلَك بصورة رجل:لاشتبَه الأمر عليهم، كما اشتبه عليهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هم مُعاندون للحق، مُتَّبِعون لأهوائهم.


    ولمَّا كان طلبهم إنزال الملك على سبيل الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم:بيَّن الله له أن الاستهزاء بالرسل عليهم السلام ليس أمرا جديداً، بل قدوقع من الكفار السابقين مع أنبيائهم، فقال - مُصَبِّراً له على تكذيبهم، ومُهَدِّداً لهم -: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ﴿ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾: أي فأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون بهويُنكرون وقوعه، فاحذروا - أيها المكذبون - أن تستمروا على تكذيبكم، فيُصيبكم ما أصابهم.


    - الآية 11: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا بعيونكم، واعتبروا بقلوبكم ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إنه الهلاك والخِزي، وانتقام وإبادة الملك الجبار لهم، فاحذروا أن يَحِلَّ بكم مِثل الذي حَلَّ بهم.


    الآية 12: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ ﴿ قُلْ لِلَّهِ كما تُقِرُّون بذلك، فاعبدوه وحده، واعترفوا له بالإخلاص والتوحيد، كما تعترفون بانفراده بالمُلك والخلق والتدبير، واعلموا أنه سبحانه وتعالى قد ﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾: أي أوْجَبَ على نفسه رَحمةَ خَلقه، فلايُعاجلهم بالعقوبة إذا أذنبوا، وقد كتب سبحانه على نفسه أنَّ رحمته تغلب غضبه، وأنه قد فتح لعباده أبواب الرحمة (إن لم يُغلِقوا أبوابها عليهم بذنوبهم).

    واعلم أنّ هذه الرحمة ظاهرة جَلِيَّة في الناس: إذ إنهم يَكفرون به ويَعصونه وهو يُطعمهم ويَسقيهم ويحفظهم، وما حَمدوه قط، وكذلك مِن مَظاهر رحمته تعالى: أن يجمع الناسَ يومَ القيامة ليحاسبهم ويُجازيهم بعملهم: فالحسنة بعشر أمثالها، أما السيئة فبِسَيئةٍ مثلها فقط، ولهذا قال - بعد أن ذَكَرَ رحمته -: ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الذي ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾: أي الكائِن الواقع يقيناً بلا شك، وهذا قسَمٌ منه سبحانه، وهو أصدق القائلين، وقد أقام على ذلك من الحجج والبراهين، ما يجعله حق اليقين، ولكنْ أبَى الظالمون إلا جحوداً، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق، فانغمسوا في معاصيه، وتجرءوا على الكفر به، فخسروا بذلك دنياهم وأُخراهم، ولهذا قال: ﴿ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾: يعني: الذين أشركوا بالله تعالى قد أهلكوا أنفسهم، فهم لا يوحدون الله، ولا يُصدقونبوعده ووعيده، ولا يُقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فبذلك استحقوا الخسران المبين.






    تفسير الربع الثاني من سورة الأنعام بأسلوب بسيط






    الآية 13، والآية 14: ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾: أي وَللهِ تعالى مُلكُ كل شيءٍ في السموات والأرض (سَكَنَ أو تحرَّك، خَفِيَ أو ظهر)، فالجميع عبيدهوخلقه، وتحت قهره وتصَرُّفه وتدبيره، ومِن هنا وَجَبَ اللجوء إليه، والتوكل عليه، والانقياد لأمره ونهيه، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوال عباده ﴿ الْعَلِيمُ بأفعالهم الظاهرة والباطنة.


    واعلم أنَّ في قوله تعالى: ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾، محذوفاً (بلاغياً) تقديره: (وَلَهُ مَا سَكَنَ وتحرك فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، لأن كل متحرك يَؤول أمْرُهُ إلى سكون، وذلك كَقوْلِهِ في آيةٍ أخرى: ﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ﴾ أي ملابس تحميكم من الحر والبرد، فاكتفى بذِكر أحدهما لِيَدُلّ على الآخَر.


    ومن الممكن أن يكون المراد أنّ له سبحانه كل ما حَلَّ في الليل والنهار (متحركًا كان أو ساكنًا)، كما يُقال: (فلان سَكَنَ ببلدٍ) أي حَلَّ فيه.


    ثم أمَرَ تعالى رسوله أن يَرُدّ على المشركين الذين يريدونه أن يوافقهم على شِركِهم، وأن يَعبد معهم آلهتهم، فقال له: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ﴾: يعني أغيرَ الله تعالى أتخذ وليًّا ونصيرًا، أعبده كما اتخذتم أنتم أيها المشركون أولياء عَجَزَة تعبدونهم، إنَّ هذا لن يكونَ أبداً، لأنه سبحانه هو وحده ﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: أي خالق السموات والأرض وما فيهنّ، ﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾: يعني وهو الذي يُطعِمُ خَلقه لافتقارهم إليه، ولا يُطعِمُهُ أحد لِغِناه المُطلَق عن ذلك، إذ هو سبحانه ليس بمحتاجٍ إلى رزق، ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾: أي أول مَن خضع لله وانقاد لهبالعبودية مِن هذه الأمة، وقيل لي: ﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يعبدون مع الله غيره من مخلوقاته.


    الآية 17: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ﴾: يعني وإن يُصِبْكَ اللهُ بشيءٍ يَضرك كالفقر والمرض والحزن: ﴿ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ ﴾: يعني وإن يُصِبْكَ بخيرٍ كالغِنَى والصحة والفرح: فلا رادَّ لِفضله، ولا مانعَ لِقضائه ﴿ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.


    وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يا غلام، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ: لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء: لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 7957).


    الآية 19: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ﴾: يعني: أيُّ شيء أعظم شهادة في إثبات صِدقي فيماأخبرتكم به أني رسول الله؟ ﴿ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾: أي هو سبحانه العالِمُ بماجئتكم به، وهو العالِمُ بما أنتم قائلونه لي، فشهادته تعالى لي بالنبوة هي ما أعطاه لي من المعجزات الباهرة (كانشقاق القمر وغير ذلك)، وكذلك وَحْيُهُ إليّ بهذا القرآن الذي أنذركم به، والذي لا يستطيع أن يقوله بشر، وأنتم تعلمون ذلك لأنكم أبلغ البشر، ولهذا قال بعدها: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ﴾: أي مِن أجل أن أنذركم به عذابَ الله أن يَحلَّ بكم، ﴿ وَمَنْ بَلَغَ ﴾: يعني ولأنذر به كل مَن وصل إليه هذا القرآن، قال القرطبي رحمه الله: (مَن بَلغه القرآن، فكأنما قد رأي محمداً صلى الله عليه وسلم وسمع منه)، وفي هذا دليلٌ على أنّ الأصل أن يُعذَرَ الإنسانُ بجهله حتى يبلغه العلم.


    ولما بيّن تعالى شهادته بصِدق نبيه (وهي أكبر الشهادات على التوحيد)، أمَرَهُ أن يُنكِرَ عليهم الشرك بقوله: ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى ﴾: يعني إنكم لَتُقِرُّون أنَّ مع اللهِ معبوداتٍ أخرى تشركونها به في العبادة، ﴿ قُلْ: أما أنا فـ ﴿ لَا أَشْهَدُ علىما أقررتم به، ولا أعترف بهذه الأصنام والأحجار التي تعبدونها جهلاً وعناداً، ثم أمره تعالى بعد ذلك أن يقرر ألوهية الله وحده، وأن يتبرأ من آلهتهم المزعومة، فقال له: ﴿ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا شريك له، وهو الله الواحد الأحد الصمد (أيالسيد الذي يُلجأ إليه عند الشدائد والحوائج)، ﴿ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾.


    الآية 20: ﴿ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ ﴾: أي الذين آتيناهم التوراة والإنجيل، يعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم بصفاتهالمكتوبة عندهم ﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ، فكما أنَّ أبناءهم لا يَشتَبِهون عليهم بغيرهم،فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم لا يَشتَبِه عليهم بغيره، لِدقة وَصْفِهِ في كُتبهم، ولكنهماتبعوا أهواءهم، فخسروا أنفسهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ولهذا قال: ﴿ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾.


    الآية 21: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾: يعني لا أحد أشَدّ ظلمًا ﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فزعم أنّ له شركاء فيالعبادة، أو ادَّعى أنّ له ولدًا أو زوجة، ﴿ أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ ﴾: يعني أو كَذَّبَ ببراهينه وأدلته التي أيَّدَبها رسله، ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾: يعني إن الظالمين الذين افتروا على الله الكذب لا يُفلحون في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يَنجون من عذاب الله يوم القيامة.


    الآية 22، والآية 23، والآية 24: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ﴿ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾: يعني أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنهم شركاء مع الله تعالى ليشفعوا لكم؟، ﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ﴾: يعني: ثم لم تكن إجابتهم حين فُتِنوا بالسؤال عن شركائهم ﴿ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾: يعني أنهم تبرؤوا منهم، وأقسموا بالله ربهم أنهم لم يكونوا مشركين معه غيره، وذلك لأنهم قد رأوا أن المشركين لا يُغفَرُ لهم ولا يَنجون من عذاب الله.


    ثم أمر الله رسوله أن يتعجب من هذا الموقف المُخزي لهم، فقال له: ﴿ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ حينتبرؤوا من الشرك؟ ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾: أي ذهب وغاب عنهم ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم لهم يوم القيامة.


    الآية 25: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ﴾: يعني ومِن هؤلاء المشركين مَن يستمع إلى القرآن الذي تتلوه، فلا يصل إلى قلوبهم،لأنهم - بسبب اتباعهم أهواءهم: ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾: أي جعلنا على قلوبهم أغطية، حتى لا يفقهوا القرآن،وجعلنا في آذانهم ثِقلاً وصَممًا فلا تسمع ولا تفهم شيئًا، ﴿ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا ﴾: يعني وإن يروا الآياتالكثيرة الدالة على صِدق محمد صلى الله عليه وسلم، لا يُصَدِّقوا بها، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ أيها الرسول بعد معاينة الآيات الدالة على صِدقك: تراهم ﴿ يُجَادِلُونَكَ فـ﴿ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا - ظلماً وتكبراً -: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾: يعني ما هذا الذي نسمع إلا ما تناقله الأولون مِن حكاياتٍ لا حقيقة لها - وهذا مِن جهلهم وعنادهم - وإلاَّ، فكيف يكون هذا الكتاب الحاوي لأنباء السابقين واللاحقين، والحقائق التي جاءت بها الأنبياء والمرسلون، والحق والقسط والعدل التام من كل وجه، أساطيرَ الأولين؟!


    الآية 26: ﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ﴾: يعني: وهؤلاء المشركون ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والاستماعإليه، (﴿ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾: يعني ويبتعدون بأنفسهم عنه، ﴿ وَإِنْ يُهْلِكُونَ ﴾: أي وما يُهلكون - بصدهم عن سبيل الله - ﴿ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أنهم يَسعون في هلاكها.


    الآية 27، والآية 28: (﴿ وَلَوْ تَرَى ﴾) أيها الرسول هؤلاء المشركين يوم القيامة لرأيتَ أمراً عظيماً ﴿ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ﴾: يعني حين يُحْبَسون على النار، ويشاهدون ما فيها من السلاسل والحميم، فلما رأوابأعينهم تلك الأهوال والأمور العِظام: ﴿ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ إلىالحياة الدنيا، فنُصَدق بآيات الله ونعمل بها، ﴿ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿ بَلْ ﴾: أي وما هم بصادقين في ذلك القول، وإنما هي تمنيات حملهم عليها الخوف من نار جهنم وفضيحتهم أمام أتباعهم حين ﴿ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾: يعني حين ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يَعلمونه مِن صِدقما جاءت به الرسل في الدنيا (رغم أنهم كانوا يُظهرون لأتباعهم خلاف ذلك)، ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾: يعني ولو فُرِضَ أنهمأُعيدوا إلى الدنيا فأُمْهِلوا ليتوبوا من الشرك والمعاصي والعِناد: لَرَجَعوا إلى ما كانوا عليه، ﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ في قولهم: (لو رُدِدْنا إلى الدنيا: لم نُكذب بآيات ربنا، وكنا من المؤمنين).


    وَمِن لطيف ما يُذكَرُ في قوله تعالى: ﴿ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ ﴾، أنني - شخصياً - قد رأيتُ في مَنامي بأنَّ القيامة قد قامت، وأنَّ الخلقَ واقفونَ في الظلام، ينتظرون العرضَ على اللهِ جَلَّ وَعَلا، فقلتُ - ما مَضمونه - : (هل سأُعْرَضُ الآنَ حقاً على اللِه تعالى، ليحاسبني على كل صغيرةٍ وكبيرة، على كل نعمةٍ وكل ذنب، لا، أنا لستُ مستعداً الآن للقاء اللهِ جَلَّ وَعَلا، يارب، أرْجِعْنِي إلى الدنيا مرة أخرى حتى أستقيمَ على طاعتِك، وأتوبَ من كل الذنوب، وأستعد للقائك)، وأخذتُ أتضرعُ إلى اللهِ تعالى حتى استيقظتُ من النوم، هنا فقط - بعد أن رَدَّ اللهُ عليَّ روحي - أدركتُ معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم - عندما كانَ يستيقظ مِن نومِه: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وَرَدَّ عَليَّ رُوحي، وأذِنَ لي بذِكْره)، أدركتُ أنَّ كلَ يومٍ من عمري هو - ببساطة - فرصة عظيمة لاستدراك ما فات من الذنوب والعمل الصالح، وأنَّ المَوْتَى يَتمنونَ يوماً واحداً من أيامي، ولو يشترونه بالدنيا وما عليها، فأنتَ الآنَ في أمنيتهم، فاعملْ يا عبدَ اللهِ قبل أن تنامَ فلا تقوم.


    الآية 30: ﴿ وَلَوْ تَرَى حال مُنكِري البعث يوم القيامة لرأيتَ أسوأ حال، ﴿ إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ ﴾: أي حين يُحْبَسون بين يدي الله تعالى لقضائه فيهم، (﴿ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ ﴾): يعني: أليسهذا البعث - الذي كنتم تنكرونه في الدنيا - حقًّا؟ (﴿ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا إنه لَحَقّ، ﴿ قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾: أي فذوقوا العذاب الذي كنتم تكذبون بهفي الدنيا، بسبب جحودكم بعبادة الله تعالى وحده، وبسبب تكبركم عن الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم.


    الآية 31: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ﴾: أي خسروا أنفسهم في جهنم، حيث باعوا الإيمان بالكفر، والتوحيد بالشرك، والطاعة بالمعاصي، فقد خسروا كل شيء يمكن إحرازه من الثواب العظيم، واستمر تكذيبهم(﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ﴾: أي حتى إذا قامت القيامة فجأة وهم على أقبح حال، وفوجئوابسوء المصير: أظهَروا غاية الندم، فـ﴿ قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾: يعني يا حسرتنا على ما ضيَّعناه في حياتنا الدنيا، وقد قالوا ذلك ﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ ﴾: أي أحمال ذنوبهم ﴿ عَلَى ظُهُورِهِمْ (إذ الوِزر هو الحِمل الثقيل)، ﴿ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾: يعني فما أسوأ هذه الأحمال الثقيلة السيئة التييحملونها!!


    الآية 32: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا في غالب أحوالها ﴿ إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾: يعني إلا غرور وباطل، ﴿ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾: أي والعمل الصالح لِلدارالآخرة خيرٌ للذين يَخشون الله تعالى، فيتقون عذابه بطاعته واجتناب معاصيه، ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أيها المُغترون بزينة الحياة الدنيا، فتقدِّموا ما يَبقى على ما يَفنى؟


    الآية 33: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ﴾: أي إنا لَنَعلم إنه ليُدْخِل الحزنَ إلى قلبك تكذيبُ قومك لك في الظاهر، فاصبرواطمئن ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ في قرارة أنفسهم، بل يعتقدون صِدقك، ﴿ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾: أي ولكنهم - لِظلمهم وعُدوانهم - يجحدون البراهين الواضحة على ِصدقك، فيكذبونك فيما جئتَ به.


    وقد ثبتَ أنّ الأخنَس بن شريق - قبل إسلامه - أتى أبا جهل، فقال له: (يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعتَ مِن محمد؟)، فقال أبو جهل: (تنازعنا نحن وبنو عبد مَناف الشرف) - وبنو عبد مَناف هم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم مِن نَسْلِهِم - ، ثم قال أبو جهل موضحاً له التنافس الذي كان بينهم وبين بنو عبد مناف: (أطعَموا فأطعمنا، وحَمَلوا فحَمَلنا، وأعطَوا فأعطينا، حتى إذا تجاثَيْنا على الرُكَب - يعني حتى إذا اشتد السباق بيننا - وكُنَّا كَفَرَسَي رَهَان، قالوا: مِنّا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى نُدرِك نحن هذه؟!، والله لا نؤمن أبداً ولا نصدقه)، فقام الأخنس وتركه.


    الآية 34: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا ﴿ وَأُوذُوا فيسبيل الله، فصبروا على ذلك ومضوا في دعوتهم وجهادهم ﴿ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴿ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ﴾: والمقصود بكلمات الله: ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مِن وَعْدِهِ إياهبالنصر على مَن عاداه، ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾: يعني ولقد جاءك أيها الرسول مِن خبر مَن كان قبلك منالرسل، وما تحقق لهم من نصر الله، وما جرى على مُكَذبيهم من انتقام الله منهموغضبه عليهم، فليَكُن لك فيهم القدوة في الصبر، حتى يأتيك نصرنا على أعدائك، (وفي هذا تسلية وتصبير للرسول صلىالله عليه وسلم).


    الآية 35: ﴿ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ أي: شَقَّ ﴿ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عنالاستجابة لدعوتك - وذلك مِن شدة حرصك عليهم - فأردتَ أن تأتيهم بآيةٍ تُرغِمهم على الإيمان برسالتك، كما يطلبون منك ويُلِحُّون عليك، وهم كاذبون، لأنهم لا يريدون إلا العناد: ﴿ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ:يعني فإن استطعتَ أن تتخذ نفقًا في الأرض، أو مصعدًا تصعد فيه إلى السماء، فتأتيهم بعلامة وبرهان على صحة قولك غير الذي جئناهم به حتى ترضيهم فافعل، فإنه لا يفيدهم ذلك شيئا، وهذا ما لا تستطيعه لأنه فوق طاقتك فلا تُكَلَّف به، وليس في مقدورك أن تهدي مَن لم يُرد الله هدايته، وإذاً فما عليك إلا الصبر، وفي هذا قطْعٌ لطمعه صلى الله عليه وسلم في هداية هؤلاء المعاندين.


    ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى الذي أنت وأصحابك عليه، ولَوَفَّقهم للإيمان، ولكنه لم يشأ ذلك لِحكمةٍ يعلمها سبحانه، ﴿ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾: أي فلا تقف موقف الجاهلين الذين لا يعرفون حقائق الأمور، فاشتد بذلك حزنهم وحسرتهم، فلا تطلب ما لا يريده ربك، فإنك إذا فعلتَ ذلك كنتَ من الجاهلين، ولا نريد لك ذلك، ولا يليق هذا بمثلك، وهذا كلّه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وحَمْلٌ له على الصبر، وهو لكلّ داعٍ إلى الله تعالى يواجه التكذيب والعِناد إلى يوم الدين.


    الربع الثالث من سورة الأنعام


    الآية 36: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِدَعْوَتِك أيها الرسول: ﴿ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الكلامسماعَ القَبول، أما الكفار فهم كالموتى، لأن الحياة الحقيقية إنما تكونُبالإسلام، ﴿ وَالْمَوْتَى جميعاً (مؤمِنُهم وكافرهم، مَن استجابَ لدعوة الحق ومَن لم يَستجب) هؤلاء جميعاً ﴿ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ من قبورهم أحياء، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَيوم القيامةلِيُوَفيهم حسابهم وجزاءهم.


    الآية 37: ﴿ وَقَالُوا ﴾: أي وقال المشركون - استكبارًا وعِناداً -: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾: يعني أفلا يُنَزِّلُ اللهُ علامة من العلامات الخارقة تدل على صِدق محمد؟، ﴿ قُلْ لهم - أيها الرسول -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَعليهم ﴿ آَيَةً ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أنَّ إنزالَ الآيات إنما يكون وَفْقَ حِكمتِهِ سبحانه وتعالى، إذ إنه لو أنزلها ولم يؤمنوا بها، فقد يترتب على ذلك هَلاكهم ودَمارهم، ولكنّه سبحانه أراد الإبقاء عليهم ليخرج من أصلابهم مَن يَعبده ويُوَحِّده.


    الآية 38: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ﴾: يعني وليس هناك حيوان يَدِبُّ على الأرض، ﴿ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ في السماء: ﴿ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾: أي مثل الأمَّة الإنسانية، تفتقر إلى الله تعالى في خلقها ورزقها وتدبير حياتها، والله وحده هو القائم عليها، فالكل خاضعٌ لتدبيره تعالى.


    واعلم أن هذه المِثلية بين الإنسان وبين دَواب الأرض وطائر السماء تستوجب ألا يَظلم الإنسانُ الحيوانَ والطير، فلا يؤذيهما، ولا يتجاوز حدود ما أمره الله فيهما.


    وقد ذكر الله الجناحين في الآية للتأكيد على أن المقصود: الطير الذي يطير في السماء، لأن العرب كانت تطلق لفظ الطيران على غير الطائر، فتقول للرجل: (طِر في حاجتي) أي: أسْرِع في قضائها.


    ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾: يعني ما تركنا في اللوح المحفوظ من شيئٍ إلا أثبتناه، ﴿ ثُمَّ إن هؤلاء الأمم ﴿ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يوم القيامة، فيُحاسِب المُكَلَّفين من الجن والإنس بما عملوا.


    واعلم أنه قد قيل في حشر البهائم يوم القيامة: أنّ حشرها هو موتها، وقيل: إنَّ حشرها هو بعثها يوم القيامة حيّة - وإن كان القلم لا يجري عليها في الأحكام - ولكنها تؤاخَذ بما ظلمتْ به بعضها البعض، وهذا هو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال - كما في صحيح مسلم -: "لَتُؤَدَنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد - (يعني حتى يُقتَصّ) - للشاة الجَلحاء - (أي التي لا قرْنَ لها) - من الشاة القرناء"، ثم صَحَّ في حديثٍ آخر أنه بعد هذا القِصاص: تصيرُ الشاتين تراباً (انظر السلسلة الصحيحة ج 4/606)، وذلك حتى يَتحقق العدل التام يوم القيامة، فلِلَّهِ الحمد والمِنَّة.


    الآية 39: ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾: أي بحُجَجِنا الواضحة هم ﴿ صُمٌّ فلا يسمعون ما ينفعهم، ﴿ وَبُكْمٌ فلا يتكلمونبالحق، ولذلك فهم حائرونَ ﴿ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾: أي ظلمات الكفر والشرك والمعاصي، وما ينتج عن ذلك من القلق والحيرة، واضطراب النفس، والخوف، والهمّ.


    ثم أخبر تعالى عباده بأنه ﴿ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ إضلاله بِعَدْلِهِ وحِكمته: ﴿ يُضْلِلْهُ، ﴿ وَمَنْ يَشَأْ هدايته بإحسانه وفضله: ﴿ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾: أي يُوفقه إلى الاستمساك بدين الإسلام الواضح الذي لا اعوجاج فيه، والمؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة، (وعلى هذا فمَن أراد الهداية والتثبيت فليطلبهما مِنه سبحانه - بصِدقٍ وافتقار - وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾، فإنه ما مِن قلبٍ إلا وهو بين يديه سبحانه، فإن شاء أقامَه وإن شاء أزاغَه).


    الآية 40، والآية 41: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ ﴾: يعني أخبروني إن جاءكم عذاب الله وبلاؤه في الدنيا، ﴿ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ التي تُبعَثون فيها والتي فيها عذاب يوم القيامة وشِدَّتُه: ﴿ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ حينها لِكَشْف ما نزل بكم منالبلاء والعذاب ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ في زَعْمكم أن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله تنفع أوتضر؟!


    ثم يقول الله تعالى لهم: ﴿ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ﴾: يعني بل - حينها - تدعون ربكم الذي خلقكم لا غيره، وتستغيثون به ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ﴾: أي فيُفرّج عنكم ذلك البلاءالعظيم النازل بكم ﴿إِنْ شَاءَ سبحانه ذلك، لأنه وحده القادر على كل شيء، وحينئذٍ: ﴿وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾: أي وعندها تنسون شركائكم فلا تدعونهم، لِيَأسكم من إجابتهم لكم، وذلك لِضعفهم وحقارتهم.


    وقد كان مشركوا العرب يعبدون الأصنام في حال الرفاهية، وأما في حال الشدة فإنهم يدعون الله وحده لِيَصرف عنهم العذاب والبلاء، وهذا من غريب أحوال الإنسان المشرك، أنه في حال الشدة الحقيقية يدعو الله وحده ولا يدعو معه هذه الآلهة الباطلة التي كان يدعوها في حال الرخاء والعافية.


    الآية 42، والآية 43: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رسلنا ﴿ إِلَى أُمَمٍ ﴾: أي إلى جماعات من الناس ﴿ مِنْ قَبْلِكَ، فكانوا يأمرونهم بالإيمان والتوحيد والعبادة، فكذَّبوهم وعصوا أمرنا ﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ ﴾: أي فابتليناهم في أموالهم بالفقر وضِيق المعيشة،﴿ وَالضَّرَّاءِ ﴾: أي وابتليناهم في أجسامهم بالأمراض والآلام ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾: يعني وذلك رجاء أن يتذللوا لربهم في الدعاء، ويخضعوا لهوحده بالعبادة، ويرجعوا إلى التوحيد بعد الشرك، والطاعة بعد العصيان.


    ولَمَّا لم يَفعلوا ذلك، وَبَّخَهم اللهُ بقوله: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾: يعني أفلا يَتذللون لنا حينما جاءهم بلاؤنا لنكشفه عنهم؟، ﴿ وَلَكِنْ حصل العكس، فقد ﴿ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ من الشرك والمعاصي.


    الآية 44، والآية 45: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾: أي فلما تركوا العمل بأوامر الله تعالى وأعرضوا عنها: ﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ، فأبدلناهم بالفقر:رخاءً في العيش، وبالضراء: صحة في الأجسام، وذلكاستدراجاً مِنَّا لهم، ﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ﴾: يعني حتى إذا تكبروا، واغترُّوا بما أعطيناهم من الخير والنعمة: ﴿ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾: أي أخذناهم بالعذاب فجأة ﴿ فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾: أي فإذا هم يائسون من النجاة، متحسرون نادمون حيثُ لا ينفع الندم.


    ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾: يعني فاستُؤصِلَ هؤلاء القوم عن آخرهم، وأُُهْلِكوا حينما كفروا بالله وكذَّبوا رسله، فلم يَبْقَ منهمأحدٌ، ﴿ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ على نُصرة أوليائه، وإهلاكأعدائه، فاذكر هذا - أيها الرسول - لقومك لعلهم يرجعون إلى رُشدهم، ويعودون إلى الحق الذي تدعوهم إليه وهم مُعرضون.


    وفي هذا تحذير لكل مَن يَغتر بنعمة الله عليه وهو ما يزالُ مقيماً على معصيته، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: )إذا رأيتَ الله تعالى يعطي العبدَ من الدنيا ما يحب وهو مُقيمٌ على معاصيه: فإنما ذلك منه استدراج) (انظر صحيح الجامع حديث رقم: 561).


    الآية 46: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ﴾: يعني أخبروني إن أذهَبَ الله سمعكم فأصمَّكم،وذهب بأبصاركم فأعماكم، ﴿ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ ﴾: أي وطبع على قلوبكم فأصبحتم لا تفهمون قولاً، فـ ﴿ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾: يعني فأيُّ إلهٍ غيرالله جل وعلا يقدر على رَدِّ ذلك لكم؟! والجواب: لا أحد، إذاً فكيف تتركون عبادة مَن يَملك سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ويَملكُ كل شيء، وتعبدون ما لا يملك لكم شيئاً من ذلك؟! أيُّ ضلالٍ أبْعد مِن هذا؟! ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ﴾: يعني انظر كيف ننوِّع لهمالحُجَج والأساليب لزيادة البيان، ولإظهار الحُجَّة، ﴿ ثُمَّ هُمْ بعد ذلك ﴿ يَصْدِفُونَ ﴾: أي يُعرضون عن التذكر والاعتبار.


    الآية 47: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ ﴾: يعني أخبروني ﴿ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً ﴾: أي فجأة، بدون علامةٍ تَسبقه، وأنتم في غفلةٍ من ذلك، ﴿ أَوْ أتاكم ﴿ جَهْرَةً ﴾: يعني بعد مجيء علامةٍ تسبقه، وكان ظاهرًا أمامكم تنظرون إليه: ﴿ هَلْ يُهْلَكُ حينئذٍ ﴿ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الذين تجاوزوا الحد، فصرفوا عبادة الله تعالى لِمَن لا يستحقها؟ (وهذا استفهام يفيد التقرير وحَصْر الهلاك في أهل الظلم).


    الآية 50: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين يعاندونك ويطلبون منك أشياءً لا تُطِيقها: ﴿ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ﴾: يعني إني لا أدَّعي أني أملك خزائن السماواتوالأرض، فأتصرف فيها وأعطيكم منها ما تطلبون، ﴿ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾: أي ولا أزعُمُ أني أعلم الغيب حتى أخبركم بموعد العذاب الذي ينتظركم، ﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾: يعني وإنماأنا رسول من عند الله، أتبع ما يُوحِيه إليَّ، وأبلِّغ وَحْيَهُ إلى الناس، ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾: يعني هل يستوي الكافر الذي عَمِيَ عن آيات الله تعالى فلميؤمن بها مع المؤمن الذي أبْصَرَ آيات الله فآمَنَ بها؟! ﴿ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ في آيات اللهلِتُبصروا الحق فتؤمنوا به؟


    وفي هذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب - إلا ما أعْلَمَهُ الله تعالى منه -، وأنه لا يملك التصرف في شيءٍ من هذا الكون.


    الآية 51: ﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ ﴾: أي وخوِّف بالقرآن المؤمنين ﴿ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾: أي الذين يعلمون أنهم سيُحشَرون إلى ربهم يوم القيامة، فهممصدِّقون بوعد الله تعالى ووعيده، ويخافون عذاب ربهم، ويعلمون أنه ﴿ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ ﴾ ينصرهم، (وَلَا شَفِيعٌ) يشفع لهمعنده تعالى، فيُنقِذَهم من عذابه إلا بإذنه، فهؤلاء ينفعهم إنذارك بالقرآن، لأنهم مُتيَقنون بالانتقال من هذه الدار إلى دار القرار، فلذلك يَستصحبون معهم ما ينفعهم، ويتركون ما يَضرهم، وهذا كقوله تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾، فإنْ أنذرتَ هؤلاء الخائفون من عاقبة ذنوبهم، فإنه يُرجَى لهم أن يتقوا الله بفعل أوامره واجتنابنواهيه، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾.


    الآية 52: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾: أي ولا تُبْعِد أيها النبي عن مُجالَسَتِك فقراء المسلمين الذين يعبدون ربهم أولالنهار وآخره، و ﴿ يُرِيدُونَبذلك ﴿ وَجْهَهُ ﴾: أي يريدون بأعمالهم الصالحة رضا الله تعالى وَجَنَّتِه، والنظر إلى وجهه الكريم.


    ومُبالَغةً في النهي عن ذلك، فقد قال تعالى له: ﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾: يعني ما أنت بمسؤول عن خطايا هؤلاء الفقراء - إن كانت لهم خطايا -، إنما حسابهم على الله تعالى، ﴿ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾: يعني ولا هم بمسئولين عنك فلِماذا تطردهم إذاً؟


    ﴿ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾: يعني فإن طرَدتَهم وأبعدتَهم عن مجالستك:فإنك تكونُ من المتجاوزين لحدود الله تعالى، الذين يضعون الشيء في غير موضعه، فلم يُبعِدهم النبي صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لأمر ربه.


    واعلم أن سبب نزول هذه الآية أن بعض المشركين في مكة اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُبعد من مجلسه فقراء المؤمنين - مثل بلال وعَمّار وصُهَيْب - حتى يجلسوا إليه ويسمعوا عنه، فقالوا له: (اطرد هؤلاء عنك حتى لا يَجْترئوا علينا)، فهَمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك (رجاء هداية أولئك المشركين)، فنهاه الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ...﴾.


    الآية 53: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾: أي وكذلك ابتلى اللهُ بعضَ عبادِهِ ببعض، وذلك باختلاف حظوظهم من الرزق والصحة وغير ذلك،فجعل بعضهم غنيًّا وبعضهم فقيرًا، وبعضهم قويًّا وبعضهم ضعيفًا، فبذلك جعل بعضهم يحتاجإلى بعض، وذلك اختبارًا منه تعالى لهم ﴿ لِيَقُولُوا ﴾: أي ليقول الكافرون الأغنياء: ﴿ أَهَؤُلَاءِ الضعفاء الفقراء ﴿ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالهداية إلى الإسلام ﴿ مِنْ بَيْنِنَا ونحن الرؤساء وهم العبيد؟!، فرَدَّ الله عليهم بقوله: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ الذين يشكرون نعمته، فيوفقهم إلى الهداية لدينه؟ والجوابُ: بلى، فالشاكرون هم المستحقون لإنعام الله عليهم بكل خير.


    الآية 55: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: أي وبِمِثل هذا البيان الذي بيَّنَّاه لك: ﴿ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ ﴾: يعني نُبَيِّن الحجج الواضحة علىكل حقٍ يُنكِرُه أهل الباطل، ونُبَيِّن طريق الهدى من طريق الضلال، وذلك ليظهر الحق الذي ينبغي سلوكه، ﴿ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾: أي ولِتتبَيَّنَ أيها الرسول - أنت وأمتك - طريق أهل الباطل الموصلة إلى سخط الله وعذابه، فإنَّ سبيل المجرمين إذا ظهرتْ واتضحتْ: أمْكَنَ اجتنابها، والبُعد عنها.


    الآية 57: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ﴾: يعني على حُجَّةٍ واضحةٍ، وبصيرةٍ ويقينٍ من شريعة ربي التيأوحاها إليَّ، وذلك بوجوب توحيده وطاعته، وإفراده وحده بالعبادة، ﴿ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ﴾: يعني وقد كذَّبتم بذلك كله، وكذبتم بالعذاب الذي أنذرتُكم به، و ﴿ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾: يعني وليس في قدرتيإنزال العذاب الذي تستعجلونني به، ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾: أي وما الحكم في تأخر ذلك إلا إلى الله تعالى، فكما أنه هو الذي حَكَمَ بالحُكم الشرعي فأمر ونهى، فإنه هو الذي يَحكُم بالحكم الجزائي فيُثِيب ويعاقب، وذلك بحسب ما تقتضيه حِكمته، وقد أوضح لكم طريق الحق والباطل، إذ هو سبحانه﴿ يَقُصُّ الْحَقَّ ﴾: أي يُخبِرُ بالحق إخباراً تنقطع به معاذير الخلق وحُجَجهم، وقد قصَّ عليكم أخبار السابقين المطالبين رسلهم بالعذاب، ورأيتم كيف حَلَّ بهم عذابه، ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴾: أي وهو خير مَن يَفصل بين الحق والباطل بقضائه وحكمه وآياته.


    الآية 58: ﴿ قُلْ للمستعجلين بالعذاب جهلاً وعِناداً وظلماً: ﴿ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾: يعني لو أنني أملك إنزال العذاب الذي تستعجلونه لأنزلتُهُ بكم، و﴿ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بتدمير الظالم مِنَّا، ولا خيرَ لكم في ذلك، ولكنَّ الأمر عند الحليم الصبور، الذي يَعصيه العاصون، وهو يعافيهم، ويرزقهم، ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ الذينتجاوزوا حَدَّهم فأشركوا معه غيره، ولا يَهلَكُ غيرهم، لأنهم هم المستوجبون للعذاب بظلمهم، فلذلك يُمهلهم، ثم يأخذهم أخْذَ عزيزٍ مقتدر.

     

    تفسير الربع الرابع من سورة الأنعام بأسلوب بسيط


    الآية 59: ﴿ وَعِنْدَهُ جَلّ وعلا ﴿ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾: أي خزائن الغيب ﴿ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ومنها:عِلم الساعة، ونزول الغيث، وما في الأرحام، والكَسْب في المستقبل، ومكان موتالإنسان، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ﴿ وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ ﴿ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾: أي كل ذلك مُثبَت في كتابٍ واضح، وهواللوح المحفوظ.


    الآية 60: ﴿ وَهُوَ سبحانه ﴿ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ﴾: أي يَقبض أرواحكم بالليل (بما يُشبِهُ قبضَها عند الموت)، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ﴾: يعني ويعلم ماكَسَبْتم بجوارحكم في النهار مِن خيرٍ وشر، ﴿ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ﴾: يعني ثم يُعيد أرواحكم إلى أجسامكم في النهار (وذلك باليقظة من النوم، بما يُشبه الإحياءَ بعد الموت)، فيوقظكم سبحانه فيه ﴿ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ﴾: يعني لتواصلوا العمل إلى نهاية آجالكم المُحَدَّدة في الدنيا، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يوم القيامة، ﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، ثم يُجازيكم على تلك الأعمال.


    الآية 61، والآية 62: ﴿ وَهُوَ سبحانه ﴿ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ بذاته وصفاته، وكل شيء خاضعٌ لِجلاله وعظمته، فهو سبحانه ذو القهر التام والسلطان الكامل على الخلق أجمعين، ﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ﴾: أي ويرسل على عباده ملائكة، يحفظون أعمالهمويُحْصونها، وهم الكِرام الكاتبون، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾: أي حتى إذا نزلَ الموتُ بأحدهم: قبضَ روحَه مَلكُ الموت وأعوانه ﴿ وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾: أي وهم لا يُقصرون فيما أمرهم الله به مِن قبْض الأرواح والحِفاظ عليها، وكذلك لا يتأخرون عن الموعد المحدد لهم في قبضها.

    ثم يُخبِرُ تعالى عباده بالأمر العظيم، وهو الوقوف بين يدي الرب المَوْلَى الحق الذي يجب أن يُعبَدَ دونَ سواه، وقد كَفَرَ أكثر الناس بنعمه وعصوه، وفسقوا عن أمره وتركوا طاعته، وأدهَى مِن ذلك: عبدوا غيره من مخلوقاته، فكيف يكونُ حسابُهم والحُكم عليهم؟ فيقول تعالى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا ﴾: يعني ثم أعيد هؤلاء المُتَوَفون ﴿ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ - والمَوْلى هو السيد المالك - ﴿ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ ﴾: يعني ألا له القضاء والفصليوم القيامة بين عباده، ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ وذلك لكمال عِلمه سبحانه وحِفظه لأعمالهم، فحِسابُهُ يكونُ في أسرع مِن لَمْح البصر، كما أنه يُقسِّم الأرزاق في الدنيا فيمِثل ذلك، فهو - جل وعلا - لايُشغِلُهُ حسابٌ عن حساب، ولا شيءٌ عن شيء.


    الآية 63، والآية 64، والآية 65: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ مَخاوف ﴿ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؟أليس هو الله تعالى الذي ﴿ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾: أي تدعونه في الشدائد متذللين له جَهرًا وسرًّا، وتقولون: ﴿ لَئِنْ أَنْجَانَا ربنا ﴿ مِنْ هَذِهِ المخاوف ﴿ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ المعترفين بفضله، الحامدين له على فِعله، وذلك بعبادته وحده لاشريك له، ﴿ قُلِ لهم أيها الرسول: ﴿ اللَّهُ وحده هو الذي ﴿ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ بعد ذلك ﴿ تُشْرِكُونَ معه في العبادة غيره، فتعبدون أصنامكم وتقربون إليها الذبائح.


    ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ وحده ﴿ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ ﴾: أي يُرسلَ ﴿ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ كالرَّجْم والصواعق، ﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كالزلازلوالخسف، ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ﴾: يعني أو يَخلِطَ أمْرَكم عليكم ويَفتنكم، فتختلفوا أحزاباً، وتكونوا فِرَقًا متقاتلة، ﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أي بالقتال، وذلك بأن يَقتل بعضُكم بعضاً، فتذيقَ كُلُّ طائفةٍ منكم ألمَ الحرب للأخرى.

    ﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ﴾: يعني انظر كيف نُنوِّع حُجَجَنا الواضحة لهؤلاء المشركين ﴿ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾: أي لعلهم يفهمونفيعتبروا.

    الآية 66، والآية 67: ﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ﴾: أي وكَذَّبَ الكفارُ مِن قومك بهذا القرآن المشتمل على الوعد والوعيد، ﴿ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾: يعني وهو الكتاب الصادق في كلما جاء به، الثابت الذي لا يَضره التكذيب به، ولا يُمكن زواله.

    ولَمَّا كان صلى الله عليه وسلم خائفاً أن يَحصل له اللومَ من ربه بسبب تكذيب قومه له، قال تعالى -مُعلمًا له أنه ليس عليه لومٌ من تكذيبهم -: ﴿ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾: أي لستُ عليكم بحفيظ ولا رَقيب، وإنما أنا رسولٌ من الله أبلغكم ماأرسِلتُ به إليكم، (واعلم أن الوكيل هو مَن يُوَكَّل إليه الأمر لِيُدَبِّرَه).


    ولَمَّا كان قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾،يُثِيرُ سؤالَهم: فمتى يَنزلُ العذابُ إذاً؟، أجابهم تعالى بقوله: ﴿ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ ﴾: يعني لكل خبرٍ من الأخبار التي أخبر الله بها - والتي تتضمن عذابكم -: وقتُ استقرارٍ ووقوع وحصول لابد منه، وميعادٌ لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فيَتبين عندهُ الصادق من الكاذب، والحق من الباطل، ﴿ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أيها الكفار عاقبة تكذيبكم عند حلول العذاب بكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معًا، قال مُقاتِل رحمه الله: (منه - أي مِن هذا العذاب - في الدنيا: يوم بدر، وفي الآخرة: جهنم).

    الآية 68، والآية 69: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ﴾ المشركين ﴿ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا ﴾: أي الذين يتكلمون في آيات القرآن بالطعنوالاستهزاء، ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾: أي فابتعد عنهم، وقمْ مُحتجاً على صنيعهم الباطل حتى يتحدثوا في حديثٍ آخر، ﴿ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ﴾: يعني وإن أنساك الشيطان هذاالأمر ﴿ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى ﴾: أي فلا تقعد بعد التذكُّر ﴿ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين تكلموا في آيات اللهبالباطل.

    ﴿ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾: أي وليس على المؤمنين المتقين من حساب هؤلاء المستهزئين من شيء، ﴿ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾: أي ولكنْ عليهم أن يَعظوهم، وأن يقوموا عن ذلك المجلس، ليكون ذلك ذِكرى للمستهزئين حتى يَكُفوا عن ذلك الكلام الباطل، ورجاء أن يتقوا الله تعالى فيجتنبوا معاصيه.

    وفي الآية دليل على حُرمة الجلوس في مجالس يُسخَرُ فيها من الإسلام وشرائعه وأحكامه وأهله، وأنّ مُجالسة أهل الكبائر لا تجوز - خاصةً في حال فِعلهم للكبيرة، وعلى وجوب القيام - احتجاجاً - من أيّ مجلس يُعصَى فيه الله ورسوله.

    الآية 70: ﴿ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا ﴾: أي واترك أيها الرسول هؤلاء المشركين الذين جعلوا دين الإسلام لعبًا ولهوًامستهزئين بآيات الله تعالى، ﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا بزينتها.

    ﴿ وَذَكِّرْ بِهِ ﴾: أي وذكّر الناسَ بالقرآن،قبلَ ﴿ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ﴾: يعني قبل أن تُحبَس نفس في النار بسبب ذنوبها وشِركها، و ﴿ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ ﴾: يعني وليس لها ناصرٌ غيرالله ينصرها ويُخلصها مما هي فيه، ولا شافع يَشفع لها عنده تعالى إلا بإذنه، ﴿ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا ﴾: يعني وإن تَفْتَدِبكل فداءٍ لا يُقْبَل منها، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا ﴾: أي أولئك الذين حُبِسُوا في النار بسبب ذنوبهم ﴿ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ - والحميم هو الماء الشديد الحرارة الذي لا يُطاق -، ﴿ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾.


    الآية 71، والآية 72: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا ﴾: يعني أنعبد من دون الله تعالى أوثانًا لا تنفعولا تضر؟ ﴿ وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾: أي ونرجع إلى الكفر بعد هداية الله لنا إلى الإسلام، فيكون مَثَلُنا - فيرجوعنا من التوحيد إلى الشرك - ﴿ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ ﴾: أي كالذي فسد عقله بسبب إضلال الشياطين له، وتزيينها له باتباع هواه، فَضَلَّ ﴿ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ ﴾: أي تائهاً لا يدري أين يذهب، ولا مَن يَتَّبِع، و﴿ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ﴾: يعني ولهأصحاب عقلاء مؤمنون يدعونه إلى الطريق الصحيح الذي هم عليه فيمتنع عن إجابة دعوتهم؟!

    ولَمَّا كانت الهداية لا تقع إلا لِمَن شاء الله له الهداية، قال بعدها: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي بعثني به ﴿ هُوَ الْهُدَى الحق، (﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ ﴾): أي وقد أُمِرْنا بأن نُسلِمَ ﴿ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وذلك بعبادته وحده لا شريك له، فهورَبُّ كل شيء ومالِكُه، ﴿ وَأَنْ أَقِيمُوا ﴾: أي وأُمِرنا بأن أقيموا ﴿ الصَّلَاةَ بأركانها وشروطها وواجباتها وسُننها خالصةً لوجهه تعالى ﴿ وَاتَّقُوهُ في ذلك، فلا تؤدوا الصلاة على وجه اللعب ومجرد الحركات، بل على وجه التقوى والمراقبة، لأن الصلاة إذا أقيمت بخشوع، فإنها تنهى العبد عن فِعل الفحشاء والمنكر، فيؤدي ذلك إلى تقوى الله تعالى، فاتقوه - أيها الناس - بتوحيده في عبادته، وفِعل أوامره، واجتناب نواهيه، فهو سبحانه الذي ابتدأ خلقكم من طين، ﴿ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾.


    واعلم أن هذه الجملة: ﴿ وأمِرْنا لِنُسْلِم لرب العالمين ﴾)تقابل قولهتعالى في نفس السورة: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾.

    واعلم أيضاً أن العطف الموجود في قوله تعالى: ( ﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ ﴾ هو ما يُسَمَّى بـ (العطف على مَعنَى اللفظ)، يعني كأنه تعالى قال: (وَأُمِرْنَا بأن نُسلم لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَبأَنْ نقيم الصَّلَاةَ وبأن نتقيه سبحانه)، (والعطف على معنى اللفظ) مشهور في لغة العرب، وهذا كقوله تعالى في سورة المنافقون: ﴿ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾)، والمعنى: (إنْ تُؤخّرني إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ: أصّدّقْ وأكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).


    الآية 73: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ فلم يَخلقهما سبحانه عبثاً وباطلاً، بل خلقهما لِيُذكَرَ فيهما ويُشكَر، وليُعلِمَ عباده أن الذي خلق السماوات والأرض قادرٌ على أن يُحيى الموتى، وأنّ ذلك أهْوَنُ عليه سبحانه من خلق السماوات والأرض.

    ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾: أي واذكر يومالقيامة حين يأمر الله تعالى الأرواح أن تُرَدّ في الأجساد بكلمة: "كن"، فيكونُ ذلك في لمح البصر أو هو أقرب، ﴿ قَوْلُهُ الْحَقُّ ﴾: أي قوله سبحانه هوالحق الكامل، ﴿ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ﴾: يعني يوم يَنفخ المَلَك في "القرن"، إذ إنّ الصور: هو بُوق يُشبِهُ القرن، يَنفخ فيه إسرافيل عليه السلام النفخةالثانية التي تكونُ بها عودة الأرواح إلى الأجسام.

    وهو سبحانه ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾: أي الذي يعلم ماغاب عن حَواسِّكم - أيها الناس - ويعلم ما تشاهدونه، ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ الذي يضع الأمور فيمواضعها، ﴿ الْخَبِيرُ بأمور خلقه، فبهذا كان هو المعبود الحق الذي لا يجوز أن يُعبَد سواه.



    فإذا قال قائل: (قوْل الله حقٌ في كل وقت، وقدرته كاملة في كل وقت، وهو مالِكُ كل شيء في الدنيا والآخرة، فلماذا خَصَّ يوم القيامة بصفات العِلم والقدرة والمُلك؟.
    والجواب - والله أعلم - أن هذا اليوم هو يومٌ لا يَملِكُ فيه أحدٌ نفعاً ولا ضراً لأحد، كما قال تعالى:﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾، فهو يومٌ تنقطع فيه الأملاك، فلا يَبقَى مَلِكٌ إلا اللهُ الواحد القهار،فخَصَّ سبحانه مُلكَهُ بهذا اليوم لأنه الذي سيَحكم فيه على الخلائق بجنةٍ أو بنار.

    وذَكَرَ أنه سبحانه (عالم الغيب والشهادة، وأنه الحكيم الخبير، وأنّ قوْله الحق) لإظهار عَدْلِهِ التام، وقدرته الكاملة على حساب الخلائق أجمعين في هذا اليوم، لأنه تعالى العليمُ بِسِرِّهم وجَهْرِهم، الخبيرُ بما في الصدور.

    وذَكَرَ كلمة (كُن فيكون) لإظهار قدرته تعالى على البعث بعد الموت، وأنّ ذلك يسيرٌ عليه سبحانه.

    (1) وهي سلسلة تفسير للآيات التي يَصعُبُ فهمُهافي القرآن الكريم (وليس كل الآيات)، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرةمن (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبو بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذيليس تحته خط فهو شرحُ الكلمة الصعبة في الآية.
    • واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذاالأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

     
     
    شبكة الالوكة
    رامى حنفى محمود

  15. {۞ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد : 16]

    لما ذكر حال المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات في الدار الآخرة، كان ذلك مما يدعو القلوب إلى الخشوع لربها، والاستكانة لعظمته، فعاتب الله المؤمنين على عدم ذلك ، فقال: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق أي: ألم يأت الوقت الذي به تلين قلوبهم وتخشع لذكر الله، الذي هو القرآن، وتنقاد لأوامره وزواجره، وما نزل من الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهذا فيه الحث على الاجتهاد على خشوع القلب لله تعالى، ولما أنزله من الكتاب والحكمة، وأن يتذكر المؤمنون المواعظ الإلهية والأحكام الشرعية كل وقت، ويحاسبوا أنفسهم على ذلك، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب والانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه، ولا ثبتوا، بل طال عليهم الزمان واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم وزال إيقانهم، فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزل الله، وتنطق بالحكمة، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك، فإنه سبب لقسوة القلب وجمود العين.
     اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون فإن الآيات تدل العقول على المطالب الإلهية، والذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الأموات بعد موتهم، فيجازيهم بأعمالهم، والذي أحيا الأرض بعد موتها بماء المطر قادر على أن يحيي القلوب الميتة بما أنزله من الحق على رسوله، وهذه الآية تدل على أنه لا عقل لمن لم يهتد بآيات الله ولم ينقد لشرائع الله.
    تفسير السعدي


    {۞ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد : 16]

    1-﴿فطَال عليهمُ الأمَد فقسَت قُلوبهُم﴾ فكلما طال هجرك للقرآن قسى قلبك وكلما اقبلت إليه نال الحياة وازهر فلأجل قلبك لا تهجره

    2-يتجذّر الشر في بعض النفوس كتجذّر الشجر في الأرض وإذا طال زمن القناعة بالشر صعُب الإقلاع عنه وقويت مشقة إصلاحه ﴿فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم﴾" / عبد العزيز الطريفي
    _
    3- ﴿أن تَخشع قُلوبهم لذكر الله..﴾ فلا يطْلب أحد لِمرض قَلبه شِفاء في غيْر القرآن، فإنهُ يجلو أصداءَ القلوب ويَصْقُل مَرائِيَها

    4_فقست قلوبهم..{16}اعلموا أنﷲ يحي الأرض بعد موتها..{17}إن المصدقين والمصدقات.." القلب القاسي يحيا بالصدقة كما تحيا الأرض بالماء/ علي بن أحمد الشهري

    5_  أصعب الناس رجوعاً إلى الصواب أطولهم مكثاً على الخطأ (فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) / عبد العزيز الطريفي

    6-  قالﷻ: ﴿ ...أن تخشع قلوبهم لذكر الله﴾ ثم قال بعدها: ﴿ اعلموا أن الله يُحيي الأرض﴾ كما أن الأرض الميتة تحيا بالمطر فالقلب الميت يحيا بالذكر. / نايف الفيصل

          7-كثيرون يبدأون الدعاء برغبة ونشاط، فإذا تأخرت الاستجابة فتروا، وذلك قد يكون من ضعف اليقين، فليبادر بعلاج قلبه" فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم"/ ناصر العمر

        8-"ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله" إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم للقلوب التي أفاض عليها من فضله . سيد_قطب /



    {۞ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد : 16]

    إنه عتاب مؤثر من الله الكريم الرحيم للقلوب التي أفاض عليها من فضله .. فكلما قست قلوبنا وغشانا الران عاتبنا الله ونبهنا .. وكم من الناس كانت هذه الآية سببا في هدايتهم ..

    يتجذر الشر في بعض النفوس كتجذر الشجر في الأرض ، وكلما طال زمن القناعه بالشر صعب الإقلاع عنه وقويت مشقة إصلاحه..
    لو نظرت جيدا في مدينتنا قبل الغيث وبعده ، لعلمت أي جمال يمنحك إياه طهر التوبة .. ففي هذا القرآن مايحيي القلوب كما يحيي الغيث الارض ويمدها بالغذاء والري والدفء ..

    من قسى قلبه ولم يشعر بالخشوع فليبادر بعلاجه .. ولا شيء يلين القلب كالذكر ..
    كلما هجرت القرآن قسى قلبك وكلما أقبلت إليه نال الحياة وازدهر .. لأجل قلبك  لاتهجره ..

    تاملات قرآنية
    حصاد التدبر


    51832436_342236559712505_6331127586415968256_n.jpg?_nc_cat=100&_nc_sid=8bfeb9&_nc_ohc=Y6xCIDP2fk4AX9ADNhY&_nc_ht=scontent.fcai2-2.fna&oh=2aeef5b17679138608f5ba804a008112&oe=5F61F686

     


  16. الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبه والتابعين لهم فـي كل وقتٍ وبلد، أما بعد:

     

    فأوصيكم ونفسـي بتقوى الله سبحانه؛ فإنها طريق الهداية، وسبيل النجاة، وهي المخرج من المهالك والشدائد والمِحن، كما أنها سببٌ لمرضاة الله تعالى وحصول الرزقِ، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]. فالله الله يا عباد الله في التقوى ومُراقبة الله سبحانه في كل شأنٍ من شؤون الحياة.

     

    أما موضوع خُطبتي لهذا اليوم فسيكونُ (بإذن الله تعالى) عن بعض الأحاديث النبوية التي يُمكن أن نُسميها (الثلاثيات النبويّة)، وهـي مجموعةٌ من الأحاديث النبوية الشـريفة التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثةً من الأمور في حديثٍ واحد، وسياقٍ واحد.

     

    ويأتي من أبرز تلك الأحاديث ما يُذكِّرنا بعظيم فضل الله تعالى علينا، وجميل نِعَمِه جل جلاله، وكريم عطائه سبحانه، فقد صحّ عن عبيد الله بن مِحْصَنٍ رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنًا في سِـربه [أي في نفسه وأهله وعياله]، مُعافىً في جسده، عنده قوتُ يومه؛ فكأنما حِيزَت له الدُنيا بحذافيـرِهـا»؛ (أخرجه البخاري، والترمذي وابن ماجه). فلله الحمد والشُكر والثناء على ما نحن فيه من أمنٍ وعافيةٍ ورِزق.

     

    ومن الثلاثيات النبوية: ما ورد في توضيح بعض الصفات التي يجد فيها المؤمن حلاوة الإيمان، وانشـراح الصدر، والتلذُذ بالطاعات، وتحمُل المشقات في سبيل الله تعالى. فعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» (رواه البخاري ومسلم).

     

    ومن الثلاثيات النبوية: ما كان مُتعلقًا ببيان أسباب السعادة الدنيوية، ودواعـي الحياة الكريمة الطيبة التي لا شقاء ولا معاناة فيها، والتي لا شك أن كل إنسانٍ سويٍ يحلُم بها ويطمع في نيلها والحصول عليها، فعَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ: الْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِـيءُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ» (رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع). ولذلك فقد جاء في هدي النبوة وتربيتها أنه يُشـرع للإنسان أن يسأل ربه سبحانه ما يكفلُ له تحقيق سعادته، ويُعينه على ذلك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دعا في ليلةٍ وقال: « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبـِي، وَوَسِّعْ لـِي فِي دَارِي، وَبَارِكْ لِـي فِيمَا رَزَقْتَنـي » (رواه الترمذي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع).

     

    ومن الثلاثيات النبوية: ما أرشد إليه الهدي التربوي النبوي من ضـرورة احترام بعض أبناء المجتمع الذين أكرمهم الله بميزاتٍ تُميزهم عن غيرهم، كالشيخ الكبير في السِن، والحافظ للقرآن الكريم، والإمام العَادِل، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ من إجلالِ اللَّهِ إِكرامَ ذي الشَّيبةِ المسلمِ، وحاملِ القرآنِ غيرِ الغالـي فيهِ والجافـي عنْهُ، وإِكرامَ ذي السُّلطانِ المقسِطِ [أي العادل]» (رواه أبو داود).

     

    ومن الثلاثيات النبوية: ما ورد في بيان بعض الخصال السلوكية السيئة التي لا يتصف بها أو بواحدةٍ منها؛ إلاّ من كان في نفسه شـيءٌ من النفاق، نسأل الله السلامة والحماية، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبـيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (رواه البخاري ومسلم). وقد جاء الحديثُ بروايةٍ أخرى تقول: «ثلاثٌ من كنَّ فيه فهو منافقٌ وإنْ صام وصلَّى وزعم أنه مسلمٌ: إذا حدَّث كذبَ، وإذا وعد أخلفَ، وإذا ائتمِنَ خانَ» (رواه أحمد).

     

    كما أن من الثلاثيات النبوية: ما كان وصيةً من النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه ولأُمته كلها لما فيه من الخير والأجر والثواب والتقرُب إلى الله سبحانه؛ فعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه، أنه قال: «أوصاني خليلي بثلاثٍ لا أدَعُهنَّ حتى أموتَ: صومِ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شَهرٍ، وصلاةِ الضُّحـى، ونومٍ على وِتـرٍ» (رواه الشيخان).

     

    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول قولـي هذا واستغفر الله لي ولكم، ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنهُ هو الغفور الرحيم.

     

    الخطبة الثانية

    الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وسيد الأولين والآخرين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

     

    فإن من الثلاثيات النبوية ما جاء على سبيل التحذير والتخويف من بعض الصفات السلوكية التي تحرم الإنسان من فضل الله ورحمته سواءً أكان ذلك في الدنيا أو في الآخرة؛ فعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم»، قال: فقرأها رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) ثلاث مرار، قال أبو ذَرٍّ: خابوا وخسـروا، من هم يا رسول الله؟ قال: «المُسبِل إزارَه، والمنَّان الذي لا يعطي شيئًا إلا منَّة، والمنَفِّق سلعتَه بالحلف الكاذب» [رواه مسلم].

     

    ويأتي من الثلاثيات النبوية ما أوضحه هدي النبوة المبارك في حديثٍ طويلٍ تناول الإشارة إلى عددٍ من الثلاثيات النبويّة التـي وضَّح فيها مُعلم الناس الخير عددًا من المُهلكات، وما يُقابلها من المُنجيات، إضافةً إلى ثلاثٍ من الكفارات، وثلاثٍ من الدرجات، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ مُهلِكاتٌ، وثلاثٌ مُنجِياتٌ، وثلاثٌ كفَّارَاتٌ، وثلاثٌ دَرَجاتٌ.

     

    فأمّا المهلِكاتُ: فشُحٌّ مُطاعٌ، وهَوًىً مُتَّبَعٌ، وإِعجابُ المرْءِ بنفْسِهِ.

     

    وأمّا المنْجياتُ: فالعدْلُ في الغضَبِ والرِّضا، والقصْدُ في الفقْرِ والغِنـى، وخشيةُ اللهِ تعالَى في السِّـرِّ والعلانيةِ.

     

    وأمّا الكفَّاراتُ: فانْتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ، وإسْباغُ الوُضوءِ في السَّبَـرَاتِ [أي وقت الأمطار وشدة البرودة]، ونقلُ الأقدامِ إلى الجماعاتِ.

     

    وأمّا الدَّرجاتُ: فإطْعامُ الطعامِ، وإفْشاءُ السلامِ، والصلاةُ بالليلِ والناسُ نِيامٌ" (رواه الطبراني في معجمه الأوسط، وحسّنه الألباني).

     

    نسأل الله تعالى أن يكفينا جميعًا من تلك المُهلكات، وأن يوفقنا للتحلـي بالمُنجيات، وأن يُعـينَنَا على أداء الكفَّارات، وأن يُيسـر لنا المحافظة على الدرجات، إنه وليُ ذلك والقادر عليه.

     

    ثم اعلموا (بارك الله فيكم) أن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأن خير الهدي هدي نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأن شـر الأمور محدثاتـها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

     

    واعلموا أن الله تعالى أمركم بالصلاة والسلام على النبـي فقال جل شأنه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. فاللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الطاهرين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، وتابع التابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

     

    اللَّهُمَّ إِنَّا نسْأَلُكَ خَيْرَ المَسْأَلَةِ، وَخَيرَ الدُّعَاءِ، وَخَيرَ النَّجَاحِ، وخير القول، وَخَيرَ العَمَلِ، وَخَيرَ الثَّوَابِ، وَخَيرَ الحَيَاةِ، وَخَيرَ المَمَاتِ.

     

    اللَّهُمَّ إِنّا نسْأَلُكَ خَيْرَ مَا نأتِـي، وَخَيْرَ مَا نفْعَلُ، وَخَيـرَ مَا نعْمَلُ، وَخَيْرَ مَا نُبطَنَ، وَخَيْرَ مَا نُظَهِرَ، ونسألك اللهم الدَّرَجَاتِ العُلَـى مِنَ الجَنَّةِ يا أرحم الراحمين.

     

    اللَّهُمَّ اشْفِ مَرْضَانَا، وَارْحَمْ مَوْتَانَا، وعَافِ مُبْتَلاَنَاْ، وأهدِ ضَالنا، وأصلِح أحوالنا، ومتِّعنَا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وعافية أبداننا، وأحفظ اللهم بلادنا من كل شـرٍ أو ضُـر، ووفق ولاة أمورنا لما فيه النفع والفائدة، والصلاح والإصلاح، والأمن والإيمان، والسعادة والسـرور.

     

    اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

     

    عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].

     

    فاذكروا الله العظيم الجليل يذكُركُم، وأشكُرُوه على نِعَمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

     

    وَأَقِمِ الصَّلاةَ.



    أ. د. صالح بن علي أبو عراد
    شبكة الالوكة

     

  17. إنْ كان غِناك بالله، وفقرُك إلى الله، وحبُّك في الله، وعملُك لله، وإقبالُك على الله، وخوفُك من الله، فأبشر ثم أبشر بحُسْنِ اللقاء بالله
     
     
    الشوق إلى المساجد هو من الشوق إلى الله.
    ومن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه.
    ومن اشتاق إلى الله اشتاق لمواطن رضاه.

     

     

    الحمد لله الذي جعل في ديننا فسحةً وفرحًا. فخُذوا من فسحة دينكم فرحًا لا يُطغيكم، وأُنْسًا لا يُشقيكم. وصِلُوا ما انقطع من حبل القرابة. وبُلُّوا ما جفّ من عروق الصحبة. وادمغوا الشيطان بالمبادرة إلى السلام. واقمعوا النفس الأمّارة بسوء الهجران. وقد قالﷺ: "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"

     
     
     
     
    بالله، أيُّ فائدة من عرض الإنسان صور طعامه، وأثاث بيته، وما يعيشه من رغد، وهناء!
    ألا يشعر أن له إخوانًا ينكسرون بمثل هذه المظاهر؟
    ألا يدرك أن هذا من جُملة المذموم من التكاثر؟
    ألا يخشى أن يصبح ممن يبغضهم الله من أهل الخيلاء والتفاخر؟
    ألا يعلم أن العين حق وأنها تورد الرجال المقابر؟
     
     
     
    الظنّ بالله أنّه لن تضيع عنده دعواتُ عباده لرفع البلاء.
     
     
     
     
     
     
    الثناء على الأولاد إذا سمعوا وأطاعوا يؤثر جدًّا في نفوسهم وبرهم، ومن جميل ما قاله الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (إذا وطَّن [الأب أو الأم] نفسه على شكر ما حصل من ولده من البرِّ ولو قليلًا وعفا عن تقصيره= ازداد البر، وحصل للوالدين راحة، فرحم اللهُ من أعان أولاده على برِّه).
     
     
     
     
     
    احتسب الهمّ الذي يُلمّ بك، بأنه كفارةٌ لذنب نسيت التوبة منه. أو رفعةٌ لدرجة لك في الجنّة لا تبلغها بعمل كالصبر على هذا الهمّ. أو صدٌّ لك عن أمر سوء لو كنت منشرحًا لأقدمت عليه.
     


     
     
    يقال: اطرق باب التوبة! يا أخي، باب التوبة لا يُطرق؛ لأنه مفتوح. فالله كل يوم وليلة يدعوك لتدخل هذا الباب؛ فإنه إذا أُغلق لا يفتح.
    وهو يغلق في حالين:
    ١-إذا طلعت الشمس من مغربها.
    ٢-وإذا خرجت الروح من صاحبها.
    باب عرضه مسيرة سبعين سنة، يسعك ولو أتيت بذنوب عدد حبات الرمل وقطرات البحر.
     
     
     
     
     
    قولوا لمن بعُدَ أمَلُه: إن الله قريب.
    قولوا لمن استوحش من الناس: إن الله نعم الأنيس.
    قولوا لمن يشعر بالوحدة: إن الله مع المتقين.
    قولوا لمن ابتلي بمصيبة: إن في الجنة منازل للصابرين.
    قولوا لمن يئس من الحياة: لا يأس في الحياة مع الله.
     
     
     
     
     
    إنْ كانت المعاصي تجلب شيئًا من السعادة، فإنّ ما يَعقبها من الهمّ أكثر.
    وإنْ كانت الطاعة مقرونةً بشيءٍ مِن الثِّقَلِ أحيانًا، فإن ما تجلبه من الراحة أعظم.
    وإن كان الشيطان يفرح بمعصيتك كثيرًا، فإنّ فَرَحَ الله بتوبتك أكبر.
    وإن كانت الدنيا قصيرة، فعُمرك يا ابن آدم أقصر



     

     


  18. مهما قدّموا من نصائح وتوصيات لتحسين العلاقة بين الزوجين، فلن يجدوا أنفع ولا أجمع ولا أرفع ولا أبلغ من قول رسول الله ﷺ: "لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنة إنْ كَرِه منها خُلُقًا رَضِيَ منها خُلُقًا آخر" (لا يَفرَكْ): أي، لا يبغض. اجعل الإيجابيات غطاءً للسلبيّات، وسوف تقِلُّ الخلافات.

     

     
    ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا (كَبِيرًا لَّهُمْ) لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾
    ما أجمل التعبير القرآني، لم يقل (كبيرًا) ولا (كبيرًا منهم)، بل ﴿كَبِيرًا لَّهُمْ﴾؛ لأن ﴿كَبِيرًا لَّهُمْ﴾ يُفيد أنه كبير عندهم فقط، لا أنه كبير في الواقع؛ فكل شيء عُبِد من دون الله صغير.

     

     

     

    لا يُشغلنّك مستقبلُ رزقك؛ فإنّ رزقك الذي في السماء لن يأكله أحدٌ غيرك، وإنّ الذي رزقك من غير أن تسأله لن يتركك وأنت تسأله، وقد تكفّل لك من الرزق على قدر حاجتك﴿وما ننزّله إلا بِقَدَرٍ معلوم﴾، واعلم أنك لن تموت قبل أن تستكمل رزقك، فاسعَ لطلبه وأنت مطمئن، واعبد ربك بهذا الاطمئنان.

     




    EXcsrACWAAAXbIc?format=jpg&name=large

     

     

     
    ﴿ومَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجًا﴾
    ذكر الله هذا الشرط وجوابه في ثنايا أحكام الطلاق. فمن طلّق واتقى الله في طلاقه جعل الله له مخرجًا. لكن هل اتقى الله من يطلّق لسبب تافه فيُضخّمه ليكون عذرًا له في طلاقه، أو من طلّق لمشكلة لها حل فاستعجل الطلاق قبل البحث عن الحل؟ لا والله.


    مِن أعظم الأشياء التي تُشعرك بالرضا، والطمأنينة، والانشراح في بداية يومك=استحضارُ نِعَمِ الله عليك ومحاولة عدّ بعضها. لا أقول نِعَمُ الله عليك في شهادة أو وظيفة أو جاه، بل نِعمُ الله التي تشترك فيها مع الفقير والغني، والقوي والضعيف، تلك نِعَمٌ واللهِ وإنْ عددتها لا تُحصيها.
    (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)


    لا تتباهوا بأموالكم وأولادكم
    ﴿أَنا أَكثَرُ مِنكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف: ٣٤]
    لئلا تكون النتيجة
    ﴿وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيهِ عَلى ما أَنفَقَ فيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُروشِها﴾ [الكهف: ٤٢]



    ﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾.
    إنّه كلامُ الله رب العالمين، أنزله الله محجةً للسالكين، ورحمةً للعالمين، ومعجزةً باقية لسيد الأولين والآخرين.. قال ﷺ :"إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين "رواه مسلم.


    لو تأمّلت في أكثر خصوماتك في الحياة لوجدتَ أنّ مكاسبك فيها لا تستحق ذلك العناء وصداع الرأس وضيق الصدر. وكان بإمكانك أن تتجاوز ذلك بثلاث وصايا: كَبِّرْ عقلك﴿وأَعرِض عن الجاهِلين﴾ ووسِّع صدرك﴿ولا تَكُ في ضَيقٍ مِمّا يَمكُرون﴾ واحتسِب أجرَك﴿فمَن عَفا وأصلَحَ فأَجرُهُ على الله﴾



    القلب السالم من الشرك، والبدع، والغلّ، والحسد، وضوضاء الخصومات=قلبٌ أراد الله بصاحبه خيرًا، ليعتبر صاحبُه بما يراه ويسمعه، ويتبصّر بما ينفعه ويرفعه. وقد كان من دعاء رسول اللهﷺ: "وأسألك قلبًا سليمًا" ﴿يَومَ لا يَنفَعُ مالٌ وَلا بَنونَ۝إِلّا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَليمٍ﴾



    ﴿ثُمَّ لَتُسأَلُنَّ يَومَئِذٍ عَنِ النَّعيمِ﴾
    قال رسول الله ﷺ: "إن أول ما يُسأَلُ عنه العبد يوم القيامة -من النعيم- أن يقال له: ألم نُصِحَّ لك جسمك، ونُرْوِيَك مِن الماء البارد." رواه الترمذي وصحّحه الألباني.
    والله إنّ هذه المكيفات لَمِن أعظم النعيم، فاشكروا الله عليها



    وقد قال ﷺ: "أفضل الصدقة جُهْد المُقِلّ" صححه الألباني. وأنا أقرأ تلك الأوصاف من خديجة وهي تصف أخلاق رسول الله ﷺ قبل النبوة تذكّرت قول الله تعالى: ﴿اللهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسالَتَه﴾ لا يَضَعُ الله رسالته إلا في أكمل عباده خُلُقًا بين قومه.


    ﴿وَلَو تَرى إِذ وُقِفوا عَلَى النّارِ فَقالوا يا لَيتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكونَ مِنَ المُؤمِنينَ﴾
    هل تعلم ما الأُمنية التي تمنّاها هؤلاء الكفار؟
    هي هذه اللحظة التي أنت فيها الآن، الرجوع للدنيا، للتصديق بآيات الله.
    فاغتنم هذه الأُمنية واسأل الله الثبات.


    ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾
    من خان دينه. وخان وطنه. وخان أهله. وخان من أحسن إليه. أبغض الناس للناس الخائن.
    ومِن قُبح الخيانة أنه لا يجوز أن تخون حتى من خانك.

  19. من اساليب التربية النبوية

    تكرار الحديث والتمهّل فيه

    الدكتور عثمان قدري مكانسي


    من الطرائق التي اعتمدها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عدد وافر من أحاديثه الشريفة (التكرار) . . فلِمَ كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكرر ؟ .
    1ـ لم يكن على عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ كما نعلم ـ آلات تحفظ الصوت لتعيده فيما بعد ، كما أن أدوات الكتابة ـ من ورق ومداد وأقلام . . ـ كانت بدائية ، وكان المسلمون يكتبون على سعف النخل والأكتاف ، والعظام والأحجار المسطحة ، وجلود الأغنام والأبقار الرقيقة ، وما شابه ذلك ، وحملُ هذه الأشياء إلى المسجد متعثر نوعاً ما .
    2ـ ولم يكن هنالك مجلس محدد يعلِّم فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين أمور دينهم ، فقد كانت كل كلمة منه ، بل كل حركة وكل إقرار . . على مدى اليوم والمكان عِلماً ودرساً وتربية وتهذيباً .
    3ـ والعرب أمة لا يقرأون ولا يكتبون ـ فعامتهم هكذا ـ فكيف يحفظون عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمور آخرتهم ودنياهم ومعاشهم ؟ . . .
    تروي السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحدث حديثاً لو عدّه العادّ لأحصاه(1) .
    وعنها أيضاً : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( لم يكن يسرد الحديث كسردكم ))(2) .
    تصور معي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالساً بين أصحابه ، يحدثهم في أمر ما ،
    1- جُمَلُهُ فصيحة ،
    2- لا يسرع في كلامه ،
    3- يلفظ الكلمة فيتوقف عندها ،
    4- يكرر التعبير فقرة فقرة ، وجملة جملة ، وكلمة كلمة ،
    5- يستعمل المبسوط في موضع البسط ، والإيجاز في موضع الإيجاز .
    6- وقد يستعمل حركة يديه ، أو إيماءة من رأسه ،
    7- يوزع نظراته ، ويتابع وجوه القوم ليستقرئ فهمهم ، ويستجلي تأثرهم ،
    8- ويناقشهم ويجيب عن أسئلتهم .
    وبهذا الأسلوب الواضح المستأني ، وبهذا التكرار المفيد ، يستوعب الصحابة الحديث فيحفظونه ، وتثبت ألفاظه ومعانيه في العقل ، وتنغرس الأفكار وظلالها ، والألفاظ وإيحاءاتها في النفوس ، ويتمثلون حديث رسول الله عملاً وتطبيقاً في مجال حياتهم ، ثم تصل إلينا نقية ، لا شائبة فيها ، حية بحيوية حامليها .
    من الأحاديث التي ترى فيها مصداق ما ذكرته سابقاً :
    ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
    قال : رغم أنفه ، رغم أنفه ، رغم أنفه .
    قالوا : يا رسول الله من ؟
    قال : من أدرك والديه عند الكبر ـ أو أحدهما ـ فدخل النار(3).
    أية قشعريرة أخذتني وأنا أقرأ هذا الحديث فأفاجأ بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( رغم أنفه ) تتكر ثلاث مرات ، وأنا بعيد عن زمان الحديث ألفاً وأربع مئة وإحدى وثلاثين سنة ، فمادت بي الأرض وأسرعت إلى الوالدة أقبل يديها ورجليها وأسألها الرضا والدعاء . .
    أحسست بها على الرغم من البعد الزمني والمكاني كذلك ، لكن الروح والقلب والفكر هناك مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف والصحابة بين يديه يسمعون ويرون تعابير وجهه توحي بالتهديد والوعيد لمن عق والديه ؟!
    ومن التكرار الرائع ذوي الوتيرة الموسيقية والتفصيل الهادف ما رواه المقدام بن معدي كرب أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :
    1- ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة ،
    2- وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة ،
    3- وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة ،
    4- وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة
    (4) .
    فتكرار : ( ما أطعمت ) يوحي بالحث على الإنفاق ، وذكر النفس والولد والزوجة والخادم يؤكد ضرورة الحفاظ على الأسرة . وتكرار ( فهو لك صدقة ) دليل على إحراز قصب السبق لمن فعل ذلك .
    والفكرة نفسها نجدها في قالب آخر من التكرار في ما رواه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : حدثني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ،
    والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسؤول عن رعيته ، وعبد الرجل راع وهو مسؤول عن رعيته ،
    ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
    (5) .
    والملاحظ هنا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر أهم ركن في البيت (الرجل) ، وأقل ركن فيه (الخادم) ، وهذا يعني أنه يقصد ما بينهما من زوجة وولد .
    وانظر معي إلى التأكيد على الإيمان بالله وعدم الاعتماد على النسب والمال ، ولئن كانت الدنيا بالمال ، إن الآخرة بالأعمال فقط ، إلا أن تنقذ رحمة ُ الله بعباده الموقفَ المخيف . . والله رحيم بعباده .
    فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أنزل عليه :
    ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ )(6) .
    (( يا معشر قريش : اشتروا أنفسكم من الله ، لا أغني عنكم من الله شيئاً .
    يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله ، لا أغني عنكم من الله شيئاً .
    يا عباس بن عبد المطلب اشترِ نفسك من الله ، لا أغني عنك من الله شيئاً .
    يا صفية عمة رسول الله اشتري نفسك من الله ، لا أغني عنك من الله شيئاً .
    يا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً 
    ))(7) .
    وتأمل معي كلمة ( تعس ) في الحديث التالي كم هي مخيفة تقرع الآذان ، وتهز النفس والمشاعر :
    قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
    تعس عبد الدنيا
    تعس عبد الدينار
    تعس عبد الخميصة
    (8)
    تعس عبد الخميلة(9)
    إن أعطي رضي ، وإن لم يُعط سخط
    تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش
    (10) .
    إنها جمل فعلية ذات أسلوب خبري ، لكن الغرض البلاغي منها الدعاء بالتعاسة والخسران على هؤلاء الذين اتبعوا شهواتهم . ويذَيِّلُها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتعليق العميق الأثر في نفوس المسلمين ، فهو يدعو عليهم بالتعاسة والانتكاس في كل ما يفعلون ، حتى إذا أصابت أحدَهم شوكة ٌصغيرة فلا خرجت من جسده ، فكأنه يدعو عليهم بالألم الدائم ، والإرهاق لرضاهم بالحياة الدنيا دون الآخرة .
    وقد نجح التكرار من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجلب الانتباه لما يقال ، والتكرار من الصحابي للإعرابِ عن انتباهه لما يقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن صوره ما رواه أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (ومعاذ رديفه على الرحل)
    قال : يا معاذ .
    قال : لبيك يا رسول الله وسعديك .
    قال : يا معاذ .
    قال : لبيك يا رسول الله وسعديك .
    قال : يا معاذ .
    قال : لبيك يا رسول الله وسعديك . . . إلى آخر الحديث(11) .
    وقد نرى الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكرر الجملة ثلاث مرات . وهذا نجده في أحاديثه الشريفة كثيراً . ومن صوره : ما رواه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : هلك المتنطعون ، قالها ثلاثاً(12) .
    وقد نجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يردد الكلمة دون تحديد عدد ، لبيان أهميتها ، فعن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ قال :
    قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ (ثلاثاً)
    قالوا : بلى يا رسول الله .
    قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين . وجلس وكان متكئاً : ألا وقول الزور ، فما زال يكررها حتى قلت : ليته سكت(13) .
    فقد كرر رسول الله : ( قول الزور ) كثيراً حتى ضج بعض الصحابة ، ورجوا أن يسكت لما نالهم من خوف شديد لتهديده ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلي الزور ، وخوفٍ شديد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يناله الأسى .
    فجزاه الله عن أمته كل خير .

    الهوامش:

    (1) رواه البخاري في صحيحه ( كتاب المناقب ) .
    (2) والحديث رواه البخاري في صحيحه ، ( كتاب المناقب ) .
    (3) الأدب المفرد الحديث .
    (4) الأدب المفرد الحديث / 82 / .
    (5) الأدب المفرد ، الحديث / 206 / .
    (6) سورة الشعراء : الآية 214 / .
    (7) رواه مسلم .
    (8) الخميصة : الثوب المزركش الجميل ، والمقصود بذلك : المهتم بثيابه المختال بها على عباد الله .
    (9) الخميلة : الشجر المجتمع الكثير الملتف ، الذي لا يرى فيه الشيء إذا وقع في وسطه . والمقصود به : الرجل المهتم برغد العيش وبحبوحته على الإهتمام بدينه .
    (10) رواه البخاري .
    (11) رياض الصالحين ، الحديث / 413 / متفق عليه .
    (12) المتنطعون : المغالون ، المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم . والحديث رواه مسلم .
    (13) الأدب المفرد ، الحديث / 15 / .



  20. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا



    الخطبة الأولى

    الحمد لله رب العالمين أمر بالاجتماع والائتلاف ونهى عن التفرق والاختلاف وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي العدل والإنصاف وسلم تسليما كثير أما بعد

    أيها الناس اتقوا لله جل وعلا واعلموا أن الله سبحانه أمرنا بالاجتماع والائتلاف فقال سبحانه وتعالى:
    { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً }، قال سبحانه:
    { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }، فبين سبحانه أن الاجتماع رحمة وأن الفرقة هلاك وعذاب فقال سبحانه:
    { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ }، لا يزال الخلق مختلفين إلا من رحم الله فإنهم لم يختلفوا فدل على أن الاجتماع رحمة { إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ }، فدل على أن الاجتماع رحمة وأن الفرقة عذاب وشقاء وتناحر وتخاصم وتقاتل وعداوات وثارات أما الاجتماع فإنه رحمة، رحمة من الله يتراحم بها المؤمنون ويجتمعون على طاعة الله وأما الكفار والمنافقون { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى }، فالاجتماع ليس بالأبدان فقط وإنما الاجتماع بالقلوب هو اجتماع القلوب ولو تفرقت الأبدان وأما إذا اجتمعت الأبدان والقلوب متفرقة فإن هؤلاء لا يعقلون ولا ينفهم اجتماعهم كما لم ينفع الكفار والمنافقين من قبل ولذلك مما يدل على فائدة الاجتماع بين المسلمين أن الله أمرهم أن يجتمعوا يوميا للصلوات الخمس في المساجد اجتماعا يومي خمس مرات لأهل الحارات كل حارة تجتمع في مسجدها خمس مرات يرى بعضهم بعضا ويسلم بعضهم على بعض ويتعارفون ويتآلفون ويتفقدون بمن تخلف ويسألون عنه وكذلك شرع الله الاجتماع اسبوعيا لأهل البلد وذلك في يوم الجمعة يجتمعون ويستمعون الخطبة ويستمعون إلى ذكر الله قال تعالى:
    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }، وكذلك شرع لنا اجتماعا سنويًا في صلاة العيدين شرع لنا اجتماعا سنويا في صلاة العيدين واجتماعا سنويا لأهل الأرض كلهم من المسلمين وذلك في الحج اجتماع سنوي لأهل الأرض من المسلمين يجتمعون في الحج ويلتقي بعضهم ببعض ويتعارفون ويستفيد بعضهم من بعض هذا يدل على أن الإسلام يحرص على اجتماعنا في قلوبنا لا بأبداننا اجتماعنا كل سنة كل أسبوع كل يوم على عبادة الله وعلى ذكر الله هذا مما يربينا على الخير ومما يؤلف بين قلوبنا ومما يزيل الإحن والأحقاد فيما بيننا هكذا الإسلام جاء بالأمر بالاجتماع بين المسلمين في كل يوم الاجتماع على عبادة الله { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }، الاجتماع على القيادة الواحدة ووحدة الكلمة بين الأمة والرعية الاجتماع على الكتاب والسنة { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ }، الذي هو الكتاب والسنة هو حبل الله المتين فاعتصموا به ولا تحيدوا عنه { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً }، ثم قال: { وَلا تَفَرَّقُوا }، لما أمر بالاجتماع هل نجتمع على أطماع الدنيا؟ لا، نجتمع على الكتاب والسنة جميعا ولا تفرقوا نهى عن التفرق قال سبحانه:
    { وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
    وصف النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأنهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ووصف أنهم " كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى "، هكذا المسلمون وإذا حصل اختلاف في الرأي أو خصومة في مال أو غير ذلك فإننا نتاحكم إلى كتاب الله وسنة رسوله:
    { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }، هذا علاج النزاع والخصام فيما بيننا لأن الله أنزل الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فالله أنزل الكتاب ليحكم بيننا :
    { وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ
    فإذا وجد الاختلاف لأنه من طبيعة البشر فعندنا العلاج الناجح ولله الحمد وهو الرجوع إلى كتاب الله تعالى إذا اختلفنا في مسائل العقيدة أو اختلفنا في مسائل العبادة أو اختلفنا في أي شيء:
    { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ
    نرجع إلى كتاب الله وهو يحكم بيننا ونرضى به ونسلم له وذلك خير لنا من البقاء على نزاعنا وخصوماتنا فالحمد لله، الحمد لله العلاج الناجح بأيدينا ومتوفر لدينا وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثير فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ "، فلا نبقى على اختلافنا بل نرجع إلى كتاب ربنا وسنة نبينا ونرجع إلى علمائنا الذين يستطيعون استنباط الأحكام من الكتاب والسنة ليحكموا بيننا وينهوا الخلاف بيننا ونقنع بذلك :
    { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً }، لكن المؤمن يرضى بحكم الله ويطمئن قلبه بكتاب الله وسنة رسوله ويقنع بذلك ويسلم له وإذا بقي في نفسه حرج ولم يقنع فهذا دليل على عدم إيمانه أما المؤمن فإنه لا يجد في نفسه حرجا : { ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ }، لا يجد في نفسه حرجا من ذلك لأنه يعلم أن الله أحكم الحاكمين وأنه سبحانه هو الحكم العدل وأنه سبحانه أنزل الكتاب ميزانًا نزنوا به أقوالنا وأعمالنا فنرضى به حكمًا بيننا هكذا المؤمنون يا عباد الله فاتقوا الله عباد الله، الله جل وعلا قال:
    { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ }، كذلك إذا حصل اختلاف أو نزاع فإن الواجب علينا الإصلاح بين المتخاصمين قال سبحانه: { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }، فالإصلاح أمر عظيم :
    { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
    إذا كان الخلاف مسلحًا فنبدأ بالصلح إذا كان الإختلاف بين المؤمنين مسلحًا فنبدأ بالصلح:
    { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى }، ولم تقبل الصلح :
    { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }، هكذا نعالج مشاكلنا لا نستورد الحلول من الكفار أو نلجأ للأمم المتحدة أو نلجأ إلى محاكم الكفار وإنما نلجأ إلى المحاكم الشرعية إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم محاكمهم ما أغنت عنهم شيئا ولا أنهت النزاع بينهم ولا أذهبت الإحن والأحقاد فيما بينهم أما نحن والحمد لله فعندنا المحاكم الشرعية المبنية على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أيدي أهل العلم الذين هم ورثة الأنبياء فالحل عندنا ولله الحمد حل مشاكلنا عندنا لا صعوبة فيه وإنما الشأن في الرجوع إليه والإيمان به والاقتناع به هذا هو الشأن ولذلك لما درج عليه سلف هذه الأمة سادوا العالم كله وأسقطوا الدولتين العظيمتين في وقتهم دولة الفرس ودولة الروم وصاروا تحت حكم المسلمين ووجدوا الراحة وجدت هذه الأمم الراحة في حكم الإسلام واطمأنت إلى ذلك لأن الله أنزله رحمة للعباد { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

    فلنتق الله يا عباد الله ولنحمد الله على هذه النعمة التي منحنا الله إياها بإرسال هذا الرسول وإنزال هذا الكتاب وبقاء هذا الكتاب بيننا وسنة نبينا بيننا من أكبر النعم فكيف نضل وعندنا كتاب الله وسنة رسول الله كيف نلجأ إلى الغرب إلى محاكم الغرب ودساتيره وعندنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هل هذا إلا من عمى البصيرة الله جل وعلا ذم اليهود الذين يحملون التوراة ولم ينتفعوا بها :
    { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
    إننا إذا لجأنا إلى أعداءنا وهم يفرحون بذلك شكوى الجريح إلى الغربان والرخم يفرحون بذلك ولن ينفعونا أبدا ما نفعوا أنفسهم فكيف ينفعوننا لا نلجأ إليهم وإنما نلجأ إلى شرع الله عز وجل الذي هو للعالم كله لو أنهم عقلوا.

    فاتقوا الله عباد الله واشكروا نعمة الله واعتزوا بهذا الدين وهذا الإسلام ولا تلتفتوا إلى غيره إن كنتم تريدون النجاة في الدنيا والآخرة إن كنتم تريدون تمام المصالح ودفع المضار فأرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وادعوا إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

    الخطبة الثانية

    الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكرهُ على توفيقهِ وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابهِ وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
    أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه يعيش بيننا فئات مما رضعوا من ألبان الغرب ومن مدارس الكفر رضعوا وجاؤوا يدعون إلى الفرقة والاختلاف ويقولون هذا من حرية الرأي وهذا من حرية الكلمة لا بد من التعددية لا بد من كذا وكذا ليس هناك وصاية على الناس يا سبحان الله!!
    نضيع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي أمرنا الله أن نتوحد عليها وأن نرجع إليها وأن نصدر عنها ونقول كل يبقى على رأيه كل يبقى على فكره كل يأخذ برأيه لا بد من التعددية لا بد من ترك المذاهب الباطلة تنخر في جسم الأمة هذا حرام وهذا من الإلحاد في دين الله عز وجل، نحن مسلمون ولله الحمد نحن مسلمون نحن أمة واحدة نحن ليس لنا وصاية للظلم وإنما وصاية بالعدل ننفذ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهي من مصلحة من نفذت عليه قبل مصلحة من نفذت له، كتاب الله وسنة رسوله شفاء للناس ورحمة فلنتق الله ولندعو هؤلاء الشباب وهؤلاء المثقفين ندعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله ونبين لهم بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن لعل الله أن يهديهم وإلا على الأقل أن نقيم الحجة عليهم ولكن علينا أن نَحذر منهم ونُحذر منهم.
    فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، عليكم بالجماعة، جماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ولهذا لما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر له الفتن قال: ما تأمرني يا رسول الله إذا أدركني ذلك قال:
    " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم
    قال: فقلت إن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال:
    " فأعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك ".
    فاتقوا الله عباد الله واحمدوا الله على نعمته، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.

    { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمةِ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن الصحابةِ أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.

    اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل هذا البلد آمناً رخاءًا سخاءًا وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح ولاة أمورنا واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم ول علينا وعلى المسلمين في كل مكان ول علينا خيارنا واكفنا شرارنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا وقنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أصلح ولي أمرنا، اللهم اهده إلى ما فيه الخير للأمة، اللهم اهده إلى ما فيه الصلاح والإصلاح، اللهم وفقه لكل خير، اللهم جنب عنه كل شر، اللهم أبعد عنه بطانة السوء والمفسدين، يا رب العالمين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.

    عبادَ الله، { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }، { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، { ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ واللهُ يعلمُ ما تصنعون }.

    عن موقع الشيخ صالح الفوزان


     


  21. القاعدة الحادية والثلاثون : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
     

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
    فهذا مرفأ جديد مع قاعدة قرآنية، وإيمانية، وثيقة الصلة بواقع الناس الاجتماعي، بل وبأخص تلك العلاقات الاجتماعية، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء: 19].

    وهذه القاعدة القرآنية المحكمة جاءت ضمن سياق توجيه رباني عظيم، يقول الله تعالى فيه:
    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)} [النساء].

    ومما يعين على فهم هذه القاعدة، أن نُذَكِّرَ بسبب نزول هذه الآية الكريمة، فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس ب قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضُهم تزوجها، وإن شاءوا زَوَّجُوها، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك (البخاري (4303)).

    يقول العلامة ابن العربي المالكي رحمه الله:
    "وحقيقة "عشر" في اللغة العربية الكمال والتمام، ومنه: العشيرة، فإنه بذلك كمل أمرهم، وصح استبدادهم عن غيرهم، وعشرةٌ تمام العقد في العدد، فأمر الله سبحانه الأزواج إذا عقدوا على النساء أن يكون أَدَمَةُ ما بينهم وصحبتهم على التمام والكمال، فإنه أهدأ للنفس، وأقر للعين، وأهنأ للعيش، وهذا واجب على الزوج، ومن سقوط العشرة تنشأ المخالعة، وبها يقع الشقاق، فيصير الزوج في شق، وهو سبب الخلع" (أحكام القرآن 2/363 بتصرف يسير).

    ويقول العلامة الجصاص الحنفي: معلقاً على هذه القاعدة { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }:
    هو "أمر للأزواج بعشرة نسائهم بالمعروف، ومن المعروف: أن يوفيها حقها من المهر، والنفقة، والقَسْمِ، وترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراضِ عنها والميل إلى غيرها، وترك العبوس والقطوب في وجهها بغير ذنب" (أحكام القرآن للجصاص 3/47) اهـ.

    إن من تأمل وتدبر دلالات هذه القاعدة العظيمة: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أدرك أن هذا القرآن هو حقاً كلام الله عز وجل، وبيان ذلك من وجوه:
    الوجه الأول: أن هذه القاعدة رقم قصر كلماتها ـ وهي كما ترى ـ كلمتان، اشتملت على معانٍ عظيمة، يطول شرحها، وما حديثنا عنها في هذه الحلقة إلا إضاءة وإشارة فحسب.

    الوجه الثاني: أن الله تعالى ردّ أمر المعاشرة إلى العرف، ولم يحدده بشيء معين؛ لاختلاف الأعراف والعادات بين البلدان كما هو معروف وظاهر، ولاختلاف مكانة الأزواج من الناحية المالية والاجتماعية، إلى غير ذلك من صور التفاوت التي هي من سنن الله في خلقه.

    وليست هذه هي القضية الوحيدة التي يَرُدُّ الشرعُ فيها أمور التعامل إلى العرف، بل جاء ذلك في مواضع كثيرة، من ألصقها بما نحن بصدد الحديث عنه، قوله تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة: 228]، فكما أن القاعدة التي نحن بصددها: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } تأمر الأزواج بمعاشرة أزواجهم بالمعروف، فإن هذه الآية: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } تأمر كلا الطرفين بذلك.ويقول سبحانه:
    { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [البقرة: 229]. ويقول جل شأنه:
    { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [البقرة: 231].

    وفي شأن النفقة على المرضع والمرتضع يقول الله عز وجل: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة: 233] إذ ليست نفقة الغني كنفقة الفقير، ولا نفقة الموسر كالمعسر.

    أيها القراء الكرام:
    ولعظيم موقع هذه المعاني التي دلت عليها هذه القاعدة القرآنية: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أكّد النبي ج هذه الحقوق في أعظم مجمع عرفته الدنيا في ذلك الوقت.. حين خطب الناس في يوم عرفة فقال:
    " فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ( مسلم (1218)).

    والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً، والمقصود التنبيه على عظيم موقع هذه القاعدة الشرعية، والتي يتألم المؤمن من كثرة ما يرى من هتك لحرمتها، وعدم مراعاة لحدودها! فترى بعض الرجال لا يحسن إلا حفظ وترديد الآيات والحقوق التي تخصه، ولا يتحدث عن النصوص التي تؤكد حقوق زوجته، فويل للمطففين.

    وفي المقابل فإن على الزوجة أن تتقي الله عز وجل في زوجها، وأن تقوم بحقوقه قدر الطاقة، وأن لا يحملها تقصير زوجها في حقها على مقابلة ذلك بالتقصير في حقه، وعليها أن تصبر وتحتسب.

    وليتدبر كلٌ من الزوجين ما قصّه الله تعالى في سورة الطلاق من أحكام وتوجيهات عظيمة، فإن الله تعالى ـ لما ذكر أحكاماً متنوعة في تلك السورة ـ عقّبَ على كل حكم بذكر فوائد التقوى التي هي سبب كل خير، فقال سبحانه ـ:
    { ... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق]، وقال عز وجل:
    { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4]، وقال تقدس اسمه:
    { ... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}[الطلاق]؛
    ولعل السر في تتابع هذه التعقيبات: أن أحوال الطلاق والفراق ـ مع وجود الحمل والإرضاع أو بقاء العدة ـ قد تحمل أحد الطرفين على التقصير والبغي، ونحو ذلك من التجاوزات، فجاءت هذه التعقيبات الإلهية لتبشر المتقين، ولتحذير المجانفين للتقوى، بأن أضداد هذه الوعود الإلهية ستحصل إن أنتم فرطتم في تطبيق شرع الله، ويوضح هذا المعنى ختم السورة بهذه الآية المخوفة:
    { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ( 8 ) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)}[الطلاق].

    ولقد كان سلف هذه الأئمة يفقهون حقاً معاني هذه النصوص العظيمة، ومن ذلك هذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }، فهذا حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، يقول ـ كما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ـ "إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله تعالى يقول: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وما أحب أن أستنطف ـ أي: أستوفي ـ جميع حقي عليها؛ لأن الله تعالى يقول: { ... وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ...(228)} [البقرة]. (مصنف ابن أبي شيبة 10/210 رقم (19608).).

    وقال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي: أتيت محمد ابن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية ـ وهو نوع نفيس من الطيب ـ فقلت: ما هذا؟
    قال: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين مناما نشتهيه منهن (ذكرها القرطبي في تفسيره 6/160).

    وبعد.. معشر القراء الفضلاء:
    هذه هي نظرة الإسلام العميقة للعلاقة الزوجية، اختصرتها هذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }، وكذلك: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فهي علاقة قائمة على المعاشرة بالمعروف، وعلى الصبر على ما قد يبدر من الطرفين من تقصير، فإن كانت العلاقة غير قابلة للاستمرار فيأتي الأمر بالتسريح بالمعروف ـ أيضاً ـ الذي يحفظ حق الكرامة لكلا الطرفين؛ كلُّ هذا ـ أيها المستمعون ـ يجعل المؤمن يفخر ويحمد الله على هدايته وانتمائه لهذه الشريعة العظيمة الكاملة من كل وجه، وينظر بعين المقت لتلك الأقلام الدنسة، والدعوات الخبيثة التي تجرئ المرأة ـ إذا رأت من زوجها ما تكره ـ أو توحي للرجل ـ إذا رأى من زوجته ما يكره ـ أن ينحرف قلبه قليلاً عن مساره الشرعي ليقيم علاقةً محرمةً مع هذه أو ذاك!!

    اللهم كما هديتنا لهذه الشريعة فارزقنا العمل بها، والثبات عليها حتى نلقاك، والحمد لله رب العالمين.



     

     


  22. بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمدلله، بين يديك 85 فائدة منتقاة من: «كتاب الوضوء» من: «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» لأبي الفضل أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني رحمه الله
    وقد اعتمدتُ في العزو على طبعة دار طيبة، بتحقيق: أبو قتيبة نظر بن محمد الفاريابي.
    قيدها وانتقاها: المسلم ( @almoslem70 )
    غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وللمسلمين


    [ 1 ] الوَُضوء بالضم هو الفعل، وبالفتح الماء الذي يُتوضَّأ به، وهو مُشتقٌّ مِن الوَضاءَة، وسُمِّي بذلك لأنَّ المصلي يتنظَّف به فيصير وَضِيئًا.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٠٣/١ ]

    [ 2 ] حديث أُبَي بن كعب: «أنَّ النبي ﷺ دعا بماء فتوضَّأ مرةً مرةً، وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلَّا به» حديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه، وله طُرق أخرى كلها ضعيفة.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٠٥/١ ]

    [ 3 ] لم يأت في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه ﷺ أنه زاد على ثلاث، بل ورد عنه ﷺ ذم من زاد عليها: «توضأ ﷺ ثلاثًا ثلاثًا ثم قال من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» رواه أبو داود بإسناد جيد.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٠٥/١ ]

    [ 4 ] ومن الغرائب ما حكاه الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن بعض العلماء أنه لا يجوز النقص من الثلاث -في الوضوء- وهو محجوج بالإجماع!
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٠٥/١ ]

    [ 5 ] حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: «أن النبي ﷺ مر بسعد وهو يتوضأ فقال ما هذا السرف؟ فقال أفي الوضوء إسراف؟ قال نعم وإن كنتَ على نهرٍ جار» أخرجه أحمد وابن ماجه بسند ليِّن.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٠٦/١ ]

    [ 6 ] حديث: «الوضوء على الوضوء نور» حديث ضعيف.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٠٦/١ ]

    [ 7 ] قال ابن عمر: لأن تُقبَل لي صلاة واحدة أحبُّ إليَّ من جميع الدنيا؛ لأن الله تعالى قال: {إنما يتقبل الله من المتقين}
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٠٧/١ ]

    [ 8 ] سُئِل أبو هريرة ما الحَدَث؟ فقال: «فُساءٌ أو ضُراطٌ». قال ابن حجر: فلعل أبا هريرة كان لا يرى النقض بباقي الأحداث المختلف فيها بين العلماء كمسِّ الذَّكر، ولمس المرأة، والقيء ملء الفم، والحجامة.
    [ فتح الباري لابن حجر ٤٠٧/١ ]

    [ 9 ] «نُعَيم المُجمِر» وُصِف هو وأبوه بذلك لكونهما كانا يُبخِّران مسجد النبي ﷺ.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٠٨/١ ]

    [ 10 ] حديث: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي» ضعيف لا يصح الاحتجاج به.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٠٩/١ ]

    [ 11 ] قوله: «شكا عبدالله بن زيد بن عاصم إلى رسول الله ﷺ الرجل الذي يُخيَّل إليه أنه "يجد الشيء" في الصلاة» أي: الحدث. قال ابن حجر: فيه العدول عن ذكر الشيء المستقذر بخاص اسمه إلا للضرورة.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤١٢/١ ]

    [ 12 ] قوله: «اضطجع ﷺ فنام ثم قام فصلى ولم يتوضأ» فيه دليل على أن النوم ليس حدثًا بل مظنة الحدث؛ لأنه ﷺ كان تنام عينه ولا ينام قلبه فلو أحدث لعلم بذلك ولهذا كان ربما توضَّأ إذا قام من النوم، وربما لم يتوضأ.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤١٥/١ ]

    [ 13 ] روى ابن المنذر بإسناد صحيح «أن ابن عمر كان يغسل رجليه في الوضوء سبع مرات» وكأنه بالغ فيهما دون غيرهما لأنهما محل الأوساخ غالبًا لاعتيادهم المشي حُفَاة.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤١٦/١ ]

    [ 14 ] قوله: «نزل فتوضَّأ ﷺ -في مزدلفة- فأسبغ الوضوء» قال ابن حجر: الماء الذي توضأ به ﷺ ليلتئذ كان من ماء زمزم، أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زيادات مسند أبيه بإسناد حسن من حديث علي بن أبي طالب، فيُستَفاد منه: الرد على من منع استعمال ماء زمزم لغير الشرب.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤١٦/١ ]

    [ 15 ] قال جمعٌ من الأئمة: فقه البخاري في تراجمه، وقد أبديتُ في هذا الشرح -أي: فتح الباري- من محاسنه وتدقيقه في ذلك ما لا خفاء به.
    [ فتح الباري لابن حجر ٤٢٠/١ ]

    [ 16 ] تفنَّن البخاري في ترتيب «كتاب الصلاة» في كتابه الصحيح.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٢١/١ ]

    [ 17 ] ذِكر دخول الخلاء فيه تفصيل: إذا كان سيقضي حاجته في أمكنة معدة لذلك -كالحمام- فيأتي بالذكر قبل الدخول، فإن نسي: قاله بقلبه لا بلسانه. وأما إذا لم يكن في مكان معدٍّ لقضاء الحاجة -كالفلاة- فيقوله في أول الشروع، كتشمير ثيابه مثلًا، وهذا مذهب الجمهور.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٢٣/١ ]

    [ 18 ] ‏العمل بالدليلين -الَّذَينِ ظاهرهما التعارض- أولى من إلغاء أحدهما.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٢٥/١ ]

    [ 19 ] حديث معقل الأسدي: «نهى رسول الله ﷺ أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط» رواه أبو داود وغيره وهو حديث ضعيف لأن فيه راويًا مجهول الحال.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٢٦/١ ]

    [ 20 ] تنبيه: وقع في طبعة دار طيبة [ ٤٤٨/١ ]: «وله في الصيام من رواية معمر: من توضأ وضوئي هذ» وصوابه: «هذا».

    [ 21 ] قوله ﷺ: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء» لأنه قد يخرج مع النفس بُصَاق، أو مخاط، أو بخار رديء، فيُكسِبه رائحة كريهة، فيتقذر بها هو أو غيره عن شربه.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٣٨/١ ]

    [ 22 ] النساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خُصَّ.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٣٨/١ ]

    [ 23 ] ذُكِر أن حكمة تقديم المضمضة والاستنشاق في أول الوضوء: اعتبار أوصاف الماء؛ لأن اللون يُدرَك بالبصر، والطعم يُدرَك بالفم، والريح يُدرَك بالأنف، فقُدِّمت المضمضة والاستنشاق وهما مسنونان، قبل الوجه وهو مفروض، احتياطًا للعبادة.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٤٧/١ ]

    [ 24 ] قال أبو داود في السنن: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة، وكذا قال ابن المنذر إن الثابت عن النبي ﷺ في المسح مرة واحدة.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٤٨/١ ]

    [ 25 ] قال ﷺ: «من توضأ مثل هذا الوضوء ثم أتى المسجد فركع ركعتين ثم جلس غفر له ما تقدم من ذنبه» وقال ﷺ: «لا تغتروا» قال ابن حجر: أي فتستكثروا من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها، فإن الصلاة التي تكفر بها الخطايا هي التي يقبلها الله وأنّى للعبد بالاطلاع على ذلك !!
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٤٩/١ ]

    [ 26 ] ولم يَحكِ أحد ممن وصف وضوءه ﷺ على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق، بل ولا المضمضة، وهو يرد على من لم يوجب المضمضة أيضًا، وقد ثبت الأمر بها في سنن أبي داود بإسناد صحيح.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٥٢/١ ]

    [ 27 ] قوله ﷺ: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثًا فإن الشيطان يبيت على خيشومه» على هذا فالمراد بالاستنثار في الوضوء التنظيف، لِما فيه من المعونة على القراءة؛ لأنَّ بتنقية مجرى النفس تصحُّ مخارج الحروف، ويُرَاد للمستيقظ بأنَّ ذلك لطرد الشيطان.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٥٢/١ ]

    [ 28 ] قال ابن حجر تعليقًا على حديثٍ عطفَهُ البخاري على حديث آخر وساقهما كحديث واحد: «كأن البخاري يرى جواز جمع الحديثين إذا اتَّحد سندهما في سياق واحد، كما يرى جواز تفريق الحديث الواحد إذا اشتمل على حُكمَين مُستقلين»
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٥٣/١ ]

    [ 29 ] قال إسحاق وداود والطبري: من غمس يده في الإناء بعد استيقاظه من النوم فإن الماء ينجس، واسْتُدِلَّ لهم بما ورد من الأمر بإراقته، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن عدي.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٥٤/١ ]

    [ 30 ] قوله ﷺ: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» مفهومه أن من درى أين باتت يده كمن لفَّ عليها خرقة مثلًا فاستيقظ وهي على حالها أن لا كراهة، وإن كان غسلها مستحبًا.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٥٥/١ ]

    [ 31 ] قال ابن عمر: جعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى رسول الله ﷺ بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» قال ابن خزيمة: «لو كان الماسح مؤدِّيًا للفرض لما تُوعِّد بالنار»
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٥٧/١ ]

    [ 32 ] قوله ﷺ: «ويل للأعقاب من النار» اختلف في معنى «ويل» على أقوال، أظهرها ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد مرفوعًا: «ويل، وادٍ في جهنم»
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٥٧/١ ]

    [ 33 ] تواترت الأخبار عن النبي ﷺ في صفة وضوئه: أنه غسل رجليه، وهو المبين لأمر الله.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٥٨/١ ]

    [ 34 ] قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أجمع أصحاب رسول الله ﷺ على غسل القدمين» رواه سعيد بن منصور، وادَّعى الطحاوي وابن حزم أن مسح القدمين منسوخ.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٥٨/١ ]

    [ 35 ] حديث: «كان النبي ﷺ إذا توضأ حرّك خاتمه» رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٥٩/١ ]

    [ 36 ] قال أبو هريرة: «فإن أبا القاسم قال: ويل للأعقاب من النار» فيه ذكر رسول الله ﷺ بكنيته وهو حسن، وذكره بوصف الرسالة أحسن.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٦٠/١ ]

    [ 37 ] حديث المغيرة بن شعبة: «أن رسول الله ﷺ توضأ ومسح على الجوربين والنعلين» ضعفه عبد الرحمن بن مهدي وغيره من الأئمة
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٦٠/١ ]

    [ 38 ] قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدهما استحب فيه التياسر.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٦٥/١ ]

    [ 39 ] قال النووي: أجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة من خالفها فاته الفضل وتم وضوؤه.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٦٥/١ ]

    [ 40 ] قال البخاري: «باب الماء الذي يُغسَل به شعر الإنسان ... وسؤر الكلاب» قال ابن حجر: الظاهر من تصرُّف المُصنِّف -أي: البخاري- أنه يقول بطهارة سؤر الكلاب.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٦٩/١ ]

    [ 41 ] قال النبي ﷺ: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا» قال ابن حجر :اختلف الرواة عن ابن سيرين في محل غسلة التتريب فلمسلم عنه: «أولاهن» وهي رواية الأكثر عن ابن سيرين، وقال أبان عن قتادة: «السابعة». ورواية: «أولاهن» أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية ومن حيث المعنى أيضا؛ لأن تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٧٤/١ ]

    [ 42 ] ثبت عن ابن عباس التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب بأنه رجس رواه محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٧٥/١ ]

    [ 43 ] الظاهر أن البخاري كان يرى أن خروج الدم في الصلاة لا يبطلها.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٨٢/١ ]

    [ 44 ] قال الحسن البصري: ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم، وقد صح أن عمر صلى وجرحه ينبع دمًا.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٨٢/١ ]

    [ 45 ] قال الأعمش: سألت أبا جعفر الباقر عن الرعاف، فقال: لو سال نهر من دم ما أعدت منه الوضوء.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٨٣/١ ]

    [ 46 ] بوَّب البخاري: «باب الرجل يُوضِّئ صاحبه» ثم ذكر حديث أسامة بن زيد قال: «فجعلت أصبُّ على رسول الله ﷺ ويتوضأ» قال ابن حجر: وقد روى الحاكم في المستدرك من حديث الربيع بنت معوذ أنها قالت: «أتيت النبي ﷺ بوضوء فقال اسكبي فسكبت عليه» وهذا صريح في عدم الكراهة.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٩١/١ ]

    [ 47 ] قال ابن بطال: الإغماء ينقض الوضوء بالإجماع.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٩٥/١ ]

    [ 48 ] قال عمرو بن أبي حسن لعبدالله بن زيد: «أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله ﷺ يتوضأ؟» فيه ملاطفة الطالب للشيخ.
    [  فتح الباري لابن حجر ٤٩٨/١ ]

    [ 49 ] حديث جابر: «كان رسول الله ﷺ إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه» إسناده ضعيف.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٠٠/١ ]

    [ 50 ] قال الشافعي في الأم: لا أعلم مُخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٠١/١ ]

    [ 51 ] المِرفَق هو العظم الناتئ في آخر الذراع، سُمِّي بذلك لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٠١/١ ]

    [ 52 ] قال ابن المنذر: صحَّ عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس -أي: في الوضوء- وقال ابن حزم: لم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك!!
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٠٢/١ ]

    [ 53 ] قال ابن المنذر: وفي إجماع أهل العلم على أنَّ البَلل الباقي على أعضاء المتوضئ وما قطر منه على ثيابه طاهرٌ دليلٌ قويٌ على طهارة الماء المستعمل.
    [ فتح الباري لابن حجر ٥٠٨/١ ]

    [ 54 ] قال ابن عمر: «كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول الله ﷺ جميعًا» يستفاد منه أن البخاري يرى أن الصحابي إذا أضاف الفعل إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون حكمه الرفع وهو الصحيح وحكي عن قوم خلافه لاحتمال أنه لم يطلع وهو ضعيف لتوفر دواعي الصحابة على سؤالهم إياه عن الأمور التي تقع لهم ومنهم ولو لم يسألوه لم يقروا على فعل غير الجائز في زمن التشريع.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥١٣/١ ]

    [ 55 ] اختلف العلماء في حكم وضوء الرجل بفضل المرأة: فذهب النووي إلى الجواز مطلقًا، وذهب عبدالله بن سرجس وابن المسيَّب والحسن البصري إلى المنع مطلقًا، وذهب ابن عمر والشعبي والأوزاعي إلى الجواز ما لك تكن حائضًا، وذهب أحمد وإسحاق إلى الجواز إذا لم تَخلُ به.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥١٣/١ - ٥١٤/١ ]

    [ 56 ] • تنبيه: وقع في فتح الباري طبعة دار طيبة [ ٥١٤/١ ]: «وبه قال أحمد وإسحاق، لكن قيداه بما إذا "صلت" به ...» وصوابه: «خَلت».

    [ 57 ] نقل ابن المنذر عن بن المبارك قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف لأن كل من روي عنه منهم إنكاره فقد روي عنه إثباته.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٢٣/١ ]

    [ 58 ] قال ابن عبد البر: لا أعلم رُوِي عن أحدٍ من فقهاء السَّلف إنكاره -أي: المسح على الخفين- إلا عن مالك مع أنَّ الروايات الصحيحة عنه مُصرِّحة بإثباته.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٢٣/١ ]

    [ 59 ] قال ابن المنذر اختلف العلماء أيهما أفضل المسح على الخفين أو نزعهما وغسل القدمين؟ قال والذي أختارُه: أنَّ المسح أفضل؛ لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض، وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٢٣/١ ]

    [ 60 ] صرَّح جمعٌ من الحُفَّاظ بأنَّ المسح على الخفين متواتر، وجمعَ بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين ومنهم العشرة، وفي ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري قال: حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٢٣/١ ]

    [ 61 ] قال ابن المنذر ثبت ذلك -أي: المسح على العمامة- عن أبي بكر وعمر وقد صح أن النبي ﷺ قال : «إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا»
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٢٩/١ ]

    [ 62 ] قال المغيرة بن شعبة: «كنت مع النبي ﷺ في سفر فأهويت لأنزع خفيه» قال ابن بطال: فيه خدمة العالم، وأن للخادم أن يقصد إلى ما يعرف من عادة مخدومه قبل أن يأمره.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٢٩/١ ]

    [ 63 ] المسح على الخفين خاصٌّ بالوضوء، لا مدخل للغسل فيه بإجماع.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٣٠/١ ]

    [ 64 ] «رأى عمرو بن أمية النبي ﷺ يحتز من كتف شاة، فدعي إلى الصلاة فألقى السكين فصلى ولم يتوضأ» استدل البخاري بهذا الحديث على أن الأمر بتقديم العَشَاء على الصلاة خاصٌّ بغير الإمام الرَّاتب، وعلى جواز قطع اللحم بالسكين.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٣٣/١ ]

    [ 65 ] حديث عائشة، قالت: قال رسول الله ﷺ: «لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم، وانهشوه فإنه أهنأ وأمرأ» رواه أبو داود وهو حديث ضعيف.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٣٣/١ ]

    [ 66 ] مسألة نقض النوم للوضوء:
    • عدم النقض مطلقًا، وهو اختيار ابو موسى الاشعري، وابن عمر، وسعيد بن المسيب.
    • التفرقة بين قليله وكثيره، وهو اختيار مالك والزهري
    • التفرقة بين المضطجع وغيره، وهو اختيار سفيان الثوري
    • التفرقة بين المضطجع والمستند وغيرهما، وهو اختيار أصحاب الرأي
    • التفرقة بين الساجد وغيره بشرط قصده النوم، وهو اختيار ابو يوسف
    • القاعد المتمكن لا ينقض، وغيره ينقض، وهو اختيار الشافعي في الجديد.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٣٨/١ ]

    [ 67 ] صحَّ عن أبي موسى الأشعري وابن عمر وسعيد بن المسيب أن النوم لا ينقض الوضوء مطلقا، وفي صحيح مسلم وأبي داود «وكان أصحاب النبي ﷺ ينتظرون الصلاة مع النبي ﷺ فينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون فحمل على أن ذلك كان وهم قعود».
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٣٨/١ ]

    [ 68 ] قال أنس بن مالك: «جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي ﷺ ...» فيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادًا ولا سيما إن كان ممن يحتاج إلى استئلافه.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٥٥/١ ]

    [ 69 ] في حديث زينب بنت جحش عند الطبراني: «أنه -أي: الحسين- جاء وهو يحبو والنبي ﷺ نائم فصعد على بطنه ووضع ذَكَره في سرته فبال»
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٥٦/١ ]

    [ 70 ] بوَّب البخاري: باب البول قائمًا وقاعدًا، ثم أورد حديث حذيفة قال: «أتى النبي ﷺ سُبَاطة قوم، فبال قائمًا»
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٥٩/١ ]

    [ 71 ] حكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائمًا.
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٥٦/١ ]

    [ 72 ] اختلف العلماء في سبب بول النبي قائمًا:
    • قال ابن حبان: لم يجد مكانًا يصلح للقعود فقام.
    • وقيل إنما بال قائمًا لأنها حالة يُؤمَن معها خروج الريح بصوت.
    • وقيل السبب في ذلك ما روي عن الشافعي وأحمد أن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بذلك فلعله كان به.
    • وروى الحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة قال «إنما بال رسول الله ﷺ قائمًا لجرح كان في مأبضه» والمأبض وهو باطن الركبة. ولو صح هذا الحديث لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي.
    • والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز
    [  فتح الباري لابن حجر ٥٦٣/١ ]

    [ 73 ] ثبت عن عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وغيرهم، أنهم بالوا قيامًا، وهو دال على الجواز من غير كراهة، إذا أمن الرشاش والله أعلم، ولم يثبت عن النبي ﷺ في النهي عنه شيء.
    [ فتح الباري لابن حجر ٥٦٣/١ ]

    [ 74 ] من ليس معه ماء إلا لطهارته، ليس له أن يسقيه للمرتد ويتيمم! بل يستعمله ولو مات المرتد عطشًا )
    [ فتح الباري لابن حجر ٥٨١/١ ]

    [ 75 ] حديث أبي أمامة الباهلي أن رسول الله ﷺ قال: «إن الماء لا يُنَجِّسُه شيء إلا ما غَلَب على ريحه، وطعمه، ولونه» أخرجه ابن ماجه وإسناده ضعيف، وفيه إضطرابٌ أيضًا.
    [ فتح الباري لابن حجر ٥٨٣/١ ]

    [ 76 ] بوَّب البخاري: «باب: إذا أُلقِي على ظهر المصلِّي قَذَرٌ أو جِيفةٌ لم تَفسُد عليه صلاته». ثم ذكر أثرًا مُعلقًا عن ابن عمر: «أنه كان إذا رأى في ثوبه دمًا وهو يصلِّي وضعه ومضى في صلاته» قال ابن حجر: هذا الأثر وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.
    [ فتح الباري لابن حجر ٥٩٣/١ ]

    [ 77 ] قال: إسرائيل -هو ابن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعي-: «كنت أحفظ حديث أبي إسحاق كما أحفظ سورة الحمد»
    [ فتح الباري لابن حجر ٥٩٨/١ ]

    [ 78 ] ذكر أصحاب المغازي أن عمارة بن الوليد مات بأرض الحبشة، وله قصة مع النجاشي إذ تعرض لامرأته، فأمر النجاشي ساحرًا فنفخ في إحليل عُمارة -أي: في ذَكَره- من سحره عقوبة له، فتوحَّش وصار مع البهائم إلى أن مات في خلافة عمر وقصته مشهورة!
    [ فتح الباري لابن حجر ٥٩٨/١ ]

    [ 79 ] لما وضع كفار قريش: سلى الجزور على ظهر النبي ﷺ وهو ساجد، عجز ابن مسعود أن يغيِّر شيئًا لخوفه منهم، فجاءت فاطمة وطرحته عن ظهر رسول الله ﷺ، وأقبلت عليهم تشتمهم فلم يردوا عليها شيئًا. قال ابن حجر: «فيه قوة نفس فاطمة من صغرها، لكونها صرخت بشتمهم وهم رءوس قريش فلم يردوا عليها»
    [ فتح الباري لابن حجر ٦٠٠/١ ]

    [ 80 ] النُّخَامة هي النُّخَاعة، وقيل بالميم ما يخرج من الفم، وبالعين ما يخرج من الحلق.
    [ فتح الباري لابن حجر ٦٠١/١ ]

    [ 81 ] نقل بعضهم الإجماع على طهارة الريق، لكن روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي أنه ليس بطاهر، وقال ابن حزم: صحَّ عن سلمان الفارسي، وإبراهيم النخعي، أنَّ اللعاب نجس إذا فارق الفم.
    [ فتح الباري لابن حجر ٦٠١/١ ]

    [ 82 ] قال النبي ﷺ لابن مسعود ليلة الجِنِّ «ما في إداوتك» قال: نبيذ، قال: «ثمرة طيبة وماء طهور» رواه أبو داود والترمذي وزاد: «فتوضأ به» وهذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه وقيل على تقدير صحته إنه منسوخ؛ لأن ذلك كان بمكة، ونزول قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} إنما كان بالمدينة بلا خلاف.
    [ فتح الباري لابن حجر ٦٠٣/١ ]

    [ 83 ] قال أبو موسى الأشعري: «أتيت النبي ﷺ، فوجدته يستن بسواك بيده يقول: "أُعْ أُعْ" والسواك في فيه كأنه يتهوَّع» يستفاد منه مشروعية السواك على اللسان طُولًا، أما الأسنان فالأحب فيها أن تكون عرضًا، وفيه حديث مرسل عند أبي داود وله شاهد موصول عند العقيلي في الضعفاء.
    [ فتح الباري لابن حجر ٦٠٦/١ ]

    [ 84 ] روى أبو داود في السنن عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله ﷺ يعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله، ثم أدفعه إليه» وهذا دالٌّ على عظيم أدبها وكبير فطنتها؛ لأنها لم تغسله ابتداء حتى لا يفوتها الاستشفاء بريقه ﷺ ثم غسلته تأدبًا وامتثالًا
    [ فتح الباري لابن حجر ٦٠٨/١ ]

    [ 85 ] ختم البخاري كتاب الوضوء بحديث البراء بن عازب، قال: قال النبي ﷺ: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك ... واجعلهن آخر ما تتكلم به» والنكتة في ختم البخاري كتاب الوضوء بهذا الحديث من جهة أنه آخر وضوء أُمِرَ به المُكلَّف في اليقظة، ولقوله في نفس الحديث: «واجعلهن آخر ما تقول» فأشعر ذلك بختم الكتاب.
    [ فتح الباري لابن حجر ٦١٠/١ ]


    صيد الفوائد


     


  23. (قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ تُثِيرُ ٱلأَرۡضَ وَلَا تَسقِي ٱلحَرۡثَ مُسَلَّمَةٞ لاشِيَةَ فِيهَاۚ قَالُواْ ٱلـَٔنَ جِئتَ بالحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفعَلُونَ) [البقرة: 71]

    السؤال الأول:

    ما الفرق في استعمالات الفعل (كاد) في قوله تعالى: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفعَلُونَ) [البقرة:71] و (إِذَآ أَخرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ) [النور:40] و (وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبصَٰرِهِمۡ) [القلم:51]؟ وما الفرق بين كاد وعسى؟

    الجواب:

    ( كاد )

    (كاد) من أفعال المقاربة، أي: قارب الحصول ولم يحصل بينما (عسى) هو لمقاربة الأمر على سبيل الرجاء.

    ـ خبر كاد فعل مضارع غير مقترن بأنْ على الغالب، وذلك لقربها من الوقوع.

    ـ خبر عسى فعل مضارع مقترن بأنْ على الغالب؛ لأنّ (أنْ) تدل على الاستقبال.

    وقيل: إنَّ (كاد) إثباتها نفي ونفيها إثبات، فإن قلت: كاد يفعل , فمعناه لم يفعل, وإنْ قلت: ما كاد يفعل, فمعناه أنه فعله بعد جهد، بدليل قوله تعالى: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفعَلُونَ) [البقرة:71].

    ومعنى قوله تعالى: (إِذَآ أَخرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ) [النور:40] أي: مبالغة في (لم يرها) , أي: لم يقرب أنْ يراها فضلاً عن أنْ يراها, والأصح أنّ المعنى أنه يراها بعد اجتهاد ويأس من رؤيتها.

    ومعنى قوله تعالى: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفعَلُونَ) [البقرة:71]أي: ذبحوها بعد الجهد، وبعد أنْ كان بعيداً في الظن أن يذبحوها.

    ومعنى قوله تعالى: (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزُّخرُف:52] هذا الكلام عن لسان فرعون في موسى عليه السلام، ولا شك أنّ موسى كان يبين بدلالة المحاجات المتعددة التي ذكرها القرآن مع فرعون والمعنى أنه كان يبين لكنْ بصعوبة.

    ومعنى قوله تعالى: (لَّا يَكَادُونَ يَفقَهُونَ قَوۡلا) [الكهف:93] هذه المحاورة تدل على أنهم يفقهون ولكنْ بصعوبة, ولا تدل على أنهم لا يفقهون وإلا فما هذه المحاورة بينهما؟

    ومعنى قوله تعالى: (وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبصَٰرِهِمۡ) [القلم:51] دلالة على شدة تحديق المشركين ونظرهم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حالة قراءة النبي للقرآن، وهو قوله: (لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكرَ) [القلم:51] غيظاً وسخطاً بحيث لو أمكنهم أنْ يصرعوه لصرعوه.

    السؤال الثاني:

    قوله تعالى في الآية: (يَفعلُونَ) ما الفرق بين (يعملون) و(يفعلون) وما الفرق بين الفعل والعمل والصنع؟

    الجواب:

    1ـ العمل هو إيجاد الأثر في الشيء وعلى الأغلب فيه قصد ويحتاج إلى امتداد زمن، يقال: فلان يعمل من الطين خزفاً، وهو مختص بالإنسان من المخلوقات، كما ينسب العمل إلى الله سبحانه نحو: (مِّمَّا عَمِلَتۡ أَيدِينَآ أَنعَٰما) [يس:71].

    2ـ الفعل عام، وقد يكون بقصد أو بغير قصد، ويصلح أنْ يقع من الحيوان أو الجماد، كما تقول: فعل الرياح.

    3ـ الصنع: أخص من الاثنين، وهو إجادة العمل ويحتاج إلى دقة ولا ينسب إلى حيوان أو جماد.

    4ـ الفعل عام، والعمل أخصّ من الفعل، والصنع أخص.

    ونستطيع أن ننظر في معاني الآيات، فالتي فيها زمن يقول: (يعملون) وما ليس فيه امتداد زمن وهو مفاجئ يقول: (يفعلون)

    شواهد قرآنية: العمل:

    ـ قوله تعالى عن الجان: (يَعمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ) [سبأ:13]، وهذا العمل يقتضي منهم وقتاً.

    ـ قوله تعالى: (مِّمَّا عَمِلَتۡ أَيدِينَآ أَنعَٰما) [يس:71] ما قال: فعلت؛ لأنّ خلق الأنعام والثمار يحتاج لوقت، فالله تعالى عندما يخلق التفاحة لا يخلقها فجأة، فقال: عملت أيدينا، يعني هذا النظام معمول بهذا الشكل؛ لأنّ فيه امتداد زمن.

    قوله تعالى:( وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعمَلُونَ) [البقرة:96] أي: في الحياة؛ لأنّ العمل عادة فيه مدة.

    شواهد قرآنية: الفعل:

    ـ قوله تعالى عن الملائكة: (وَيَفعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ) [النحل:50]؛ لأنّ فعل الملائكة يتم برمش العين.

    ـ قوله تعالى (أَلَمۡ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصحَٰبِ ٱلفِيلِ) [الفيل:1] باللحظة أرسل عليهم حجارة.

    ـ قوله تعالى (أَلَمۡ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) [الفجر:6] خسف بهم.

    ـ قوله تعالى (وَتَبَيَّنَ لَكُمۡ كَيفَ فَعَلنَا بِهِمۡ) [إبراهيم:45] أي: العقوبات، وغضب الله سبحانه وتعالى لمّا ينزل على الضالين والظالمين أنفسهم ينزل فوراً ولا يحتاج لامتداد زمن.

    ـ قوله تعالى (وَمَا كَادُواْ يَفعَلُونَ) [البقرة:71] أي: كادوا لا يفعلون والذبح سريع فهو فعل. 

    شواهد قرآنية: الصنع:

    ـ قوله تعالى: (صُنعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ) [النمل:88].

    ـ قوله تعالى: (وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصنَعُونَ) [المائدة:14] أي: ما يخططون ويدبرون بدقة ضد المسلمين.

    والله أعلم.


  24.                      
    يقول الله تعالى في محكم آياته : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (98)
     ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (99)  الحجر
     
    قال سالم بن عبد الله بن عمر: (اليقين هنا هو الموت) ، وقد وردت كلمة اليقين بمعنى الموت في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه : (عَنْ أُمِّ الْعَلاَءِ – وَهْىَ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِمْ بَايَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – – قَالَتْ طَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتِ الأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ ، فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى تُوُفِّىَ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ . قَالَ  « وَمَا يُدْرِيكِ » . قُلْتُ لاَ أَدْرِى وَاللَّهِ . قَالَ « أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ ، إِنِّي لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِى وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ » فقوله تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) ،(99)  الحجر  أي: اعبد يا محمد ربك حتى يأتيك الموت الذي أنت موقن به،  وقال القرطبي: والمراد استمرار العبادة مدة حياته، كما قال العبد الصالح: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) (31)  مريم ، وقال ابن كثير في تفسيره مدلالاً على أن اليقين هنا هو الموت، فقال : والدليل على ذلك قوله تعالى عن أهل النار : قال الله تعالى : (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ*وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ*وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ*وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) [المدثر:43-47]. ثم قال ابن كثير: ويستدل على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة يسقط عنه التكليف عندهم، وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة، وإنما المراد باليقين ههنا الموت،  وقال الحسن البصري – رحمه الله – : يا قوم المداومة المداومة، فإن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت  ، فلم يجعل الله في الآية الكريمة حداً زمانياً، أو مكانياً، أو كمية من العمل، إذا وصل إليها العبد توقف عن العبادة وإنما جعل ذلك حتى الموت.
     
     
    وهذه الآية الكريمة تدل على أن الإنسان ما دام حيًا وله عقل ثابت يميز به فالعبادة واجبة عليه بحسب طاقته، فمثلا : إن لم يستطع الصلاة قائمًا فليصل قاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب، ففي صحيح البخاري : (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ – رضى الله عنه – قَالَ كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – عَنِ الصَّلاَةِ فَقَالَ :« صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ » . فالمداومة على العمل الصالح ،دون انقطاع حتى الموت، هي وصية الله – عز وجل – لعبده ورسوله محمد – صلى الله عليه وسلم ، وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – كذلك، فقد روى البخاري: (عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ قَالَتْ لاَ ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً،وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَسْتَطِيعُ )
     
     
    ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (99)  الحجر 
    ففي هذه الآيةِ الكريمةِ دعوةٌ صريحةٌ منَ الله تعالى لعبده المؤمن، إلى ضرورة المداوَمة على العبادة، حتى يَلقَى ربَّه ، فالمؤمن اليَقِظ يحرص على العبادة حتى تُؤتي ثمارها، وتظهر عليه آثارُها، فليس منَ الفطنة في شيء أن يَعمدَ المسلم إلى القرآن مثلا، فيُداوم على قراءته طوال شهر رمضان المبارك، فإذا خرج رمضان لم تبقَ له بالقرآن الكريم صِلة تُذْكَر، فالمداوَمة على العمل الصالح تُمِدُّ المؤمنَ بالهمَّة على مجاهدة نفسه، وتُبعد عنه الغفلة؛ ولهذا حَثَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم على المداوَمة على الأعمال، وإنْ كانت يسيرة قليلة؛ ففي الحديث الذي يرويه مسلم، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ». قَالَ وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ. يقول الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: إنَّ القليل الدائم خيرٌ منَ الكثير المنقطع، وإنما كان القليل الدائمُ خيرًا منَ الكثير المنقطع؛ لأنه بدوام القليل تدُوم الطاعة، والذِّكْر، والمراقَبة، والنِّيَّة، والإخلاص، والإقبال على الله سبحانه، ويستمرُّ القليل الدائم؛ بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة. ولهذا قال بعضُ الحكماء: إذا غفلَت النفسُ بترْك العبادة، فلا تأمن أن تعودَ إلى عاداتها السَّيِّئة، وصدَق ابنُ حزم حين قال: إهمال ساعة، يُفسد رياضة سَنَة.
     
     فالواجب على الإنسان أن يكون عبدا لله في أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، وفي كل شأن من شؤون حياته، يتحرى صحة العمل وإخلاص العبودية لله،  والمعصية مذلة ومهانة وضنك وشقاء، ولذلك كان البعض يقول: ” رأيت المعاصي نذالة فتركتها مروءة فاستحالت ديانة ”  ،وكان الحسن يقول: ” فإنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه ” .ولذلك فالمؤمن الكيس الفطن هو الذي ينتقل من طاعة إلى طاعة، ومن عبادة إلى عبادة، ويحرص على الإكثار من الدعاء فالدعاء هو العبادة، ولن يهلك مع الدعاء أحد، وإذا ألهم العبد الدعاء فإن الإجابة معه، ولا تعارض بين هذا كله وبين العمل والتكسب ،والقيام بواجب الدعوة إلى الله 
                           
     
    فالمطلوب من المؤمن الصبر ،والثبات على الهداية ،وعلى تعظيم كلمات الله ، بتطبيقها واقعاً حيا معاشاً ،مع دوام التسبيح ،والمسارعة بالتوبة عند الوقوع في فخ المعصية.
    {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} الاستغفار الذي فيه دفع المحذور، وبالتسبيح بحمد الله تعالى خصوصًا  { بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } اللذين هما أفضل الأوقات، وفيهما من الأوراد والوظائف الواجبة والمستحبة ما فيهما، لأن في ذلك عونًا على جميع الأمور.
     
     
    موقع حامد إبراهيم
     
                                                                         


  25. مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ



    الخطبة الأولى

    الحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، { الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }، وأشهد أنْ محمداً عبده ورسوله، رفعه الله فوق السماوات العلا ورأى من آيات ربه الكبرى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل البر والتقوى، وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:

    أيُّها النَّاس، اتقوا الله تعالى، واشتغلوا بما ينفعكم وينفع إخوانكم، وتجنبوا ما يضركم ويضر إخوانكم، فهذا هو الذي كلفتم به روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ " رواه الترمذي، فهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام ومنهج واضح يسير عليه المسلم في حياته، أنه يأخذ بما يعنيه ويشتغل به ويترك ما لا يعنيه ويتجنبه، فلو أن المسلم التزم بهذا المنهج لحصل على خير كثير ولسلم من شر كثير، فهذا الحديث له منطوق وله مفهوم، منطوقه أن المسلم يترك ما لا يعنيه من الأقوال والأعمال أي ما لا يفيده ولا ينفعه ولم يكلف به، وأنه يعمل ما يعنيه وما يخصه وما يعود عليه بالنفع في دينه ودنياه وذلك بأن يبدأ بنفسه فيعمل لها ما يصلحها ويجنبها ما يضرها من الأقوال والأعمال، فمن الأقوال لا يتكلم إلا بما فيه خير ومصلحه عاجله أو آجله قال الله جل وعلا: { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } فهذا فيه إحسانٌ إلى نفسه وإحسان إلى الناس، وهو الأمر بكل خير وطاعة وما فيها مصلحة له ولغيره، فلا يستعمل لسانه إلا بذلك ولا ينطق بما يضره ويضر غيره من الأكاذيب والشائعات أو من السب والشتم أو من غير ذلك قال الله جل وعلا: { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } يعني الملكان { عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } فأقوالك محصاة ومكتوبة وستحاسب عنها، فإن كانت صالحةً جنيت منها الخير عاجلاً وآجلا، وإن كانت سيئة جنيت منها الشر عاجلاً وآجلا ففي الحديث: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ يهوي بها في جهنم "، فالكلمة الواحدة هذا شأنها، فكيف بالكلام الكثير؟ { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } أي: من كلامهم إلا ما استثناه الله سبحانه وتعالى فاحفظوا ألسنتكم، فالإنسان لا يتكلم إلا بما فيه مصلحه لنفسه ومصلحة لإخوانه بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعلم الجاهل ويذكر الغافل ويدعو إلى الله هذا فيما ينفع الناس، وفيما ينفع نفسه يشتغل بذكر الله وبتلاوة القرآن بالتسبيح والتهليل والتكبير ويكثر من ذلك فإنه ذخر له عند الله سبحانه وتعالى، ويتجنب الكلام السيء فقد سأل معاذ بن جبل رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ، قَالَ:
    " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ " أَوْ قال: " عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِى النَّارِ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ " ،
    الإنسان يتساهل في الكلام ولا يلقي له بالاً يتلقف الشائعات والأكاذيب ويروجها بين الناس { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ } يذيعه بين الناس { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } ، فعلى المسلم أن يحفظ لسانه إلا في الخير، وكذلك الأعمال فلا يعمل إلا ما فيه خير ونفع عاجل أو آجل والأعمال الصالحة والأعمال المفيدة كثيرة ولله الحمد، وفيها ما يشغل المسلم ويأخذ فراغه ووقته ولا ينشغل بما فيه ضرر عليه لا يشتغل بالقيل والقال وسماع الكلام وسماع الملاهي والمعازف والمزامير لا ينظر فيما يضره ولا يسمع ما يضره ولا يتكلم إلا بما ينفعه ، { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً
    فالإنسان مسئول عن هذه الحواس وعن هذه الأعضاء ما يعمل بها فهو يجني على نفسه أو يجني لنفسه " مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ " فاتركوا ما لا يعنيكم واشتغلوا بما يعنيكم ويفيدكم ويجلب لكم الخير في الدنيا والآخرة ما ينفعكم وينفع مجتمعكم وإخوانكم، أسعوا بالإصلاح بين الناس، أسعوا بما ينفع الناس من الأمر بالصدقات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتنالوا هذا الوعد من الله سبحانه { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }، فتنبهوا لذلك فإن الأمر خطير جدا، وكلما تأخر الزمان كثر الانشغال بالقيل والقال والغفلة عن ذكر الله وانطمست أعلام الخير إلا فيما وفقه الله سبحانه وتعالى وذلك لإقبال الدنيا على الناس وانفتاحها على الناس خصوصاً في هذا الوقت الذي تقاربت فيها الأقطار بواسطة وسائل النقل السريعة وبواسطة وسائل الإعلام السريعة حتى ما يحصل في أقصى العالم يبلغ أقصاه في لحظة واحدة، إما أن يكون خيراً وهذا قليل، وإما أن يكون شراً وهذا كثير، فأنقذوا أنفسكم أنقذوا أنفسكم من هذه الأخطار تعيشون الآن بين أخطار عظيمة وتيارات جذابة فخذوا حذركم وخذوا بأنفسكم خذوا بأولادكم وأهليكم إلى طاعة الله وانهوهم عن معصية الله فإنكم مسئولون عنهم خذوا بأيدي إخوانكم المسلمين فأنتم مكلفون بذلك قال صلى الله عليه وسلم:
    " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وصاحب البيت رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ "
    من الذي يسألكم؟ إنَّه العليم الخبير الذي لا يخفى عليه شيء، فتأهبوا للسؤال وأعدوا الجواب، فإنه لا ينجي عند الله إلا الصدق اليوم ينفع الصادقين صدقهم، فالله جل وعلا لا يروج عليه الكذب لا يروج عليه البهتان والاحتيالات والتزوير لأنَّه يعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء وهو محيط بكل شيء.

    فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله، عباد الله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُ مَا كُنْتَ " في بر أو بحر أو جو أو في بلدك أو في بلاد الكفار البلاد الأخرى اتق الله حيث ما كنت لأنك مسلم مسئول عن إسلامك مسئول عن دينك، أما من يظهر النسك والتقوى في بلاد المسلمين ثم إذا ذهب إلى بلاد الكفار انساح معهم وترك دينه أو ربما أنه يشعر دينه ذلة وأنه عورة فيخفيه أو يتركه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا من تسويل الشيطان دينك أمانتك ،
    { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } وهذه الأمانة يفهم بعض الناس أن الأمانة هي الوديعة فقط، الأمانة أعظم من ذلك الأمانة ما كلفك الله به من عبادته وحده لا شريك له ومن التزام دينه، فدين الله أمانة بينك وبين الله عز وجل ستسأل عنه يوم القيامة عن هذه الأمانة، ولهذا قسم الناس نحو هذه الأمانة إلى ثلاثة أقسام:
    القسم الأول: من حفظها ظاهراً وباطنا وهم المؤمنون.
    القسم الثاني: من ضيعها ظاهراً وباطنا وهم الكافرون.
    القسم الثالث: من حفظها ظاهراً وضيعها باطناً وهم المنافقون { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً
    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيان والذكرِ الحكيم، أقولٌ قولي هذا واستغفروا الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

    الخطبة الثانية

    الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
    أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } أشكروا الله على هذه النعمة التي تعيشونها تحت ظل الإسلام وتحت عدل الإسلام ورحمة الله جلَّ وعلا " تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ " كما أوصاكم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تضيعوها ولا تتهاونوا بشأنها ولا تنشغلوا عنها بما يحدث الآن في العالم من الفتن والشرور ولو اقتصرت عليهم في بلادهم لما سألنا عنهم ودعونا الله أن يزيدهم منها ولكن وصلت إلينا عن طريق الانترنت وعن طريق وسائل الإعلام المسموعة المرئية والمقروءة، وصلت إلينا بما فيها من الشرور والتحريش بما فيها من الأكاذيب وما فيها من الإرجاف حتى أصبح بعض الناس لا شغل له اليوم إلا بمطالعة هذه الأشياء والتحدث عنها بين الناس حتى يصبح مشغول البال مندهشاً مما يسمع ويقرأ وغالبه كذب وإرجاف، فعليه أن يتوكل على الله عز وجل قال الله جل وعلا:
    { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل ولا تهمكم هذه الأشياء إذا اعتصمتم بعصمة الله ورجعتم إلى الله { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }.

    فاتقوا الله، عباد الله، ولا تنشغلوا بهذه الأمور اتركوها وابتعدوا عنها وأبعدوها عن بيوتكم وعن أولادكم واشتغلوا بذكر الله وبطاعة الله، فإنها فتن عظيمة و" فتن كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ " كما أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم فحاذروها واحذروا منها وحذروا منها، واشكروا الله على ما أنتم فيه من الخير والنعمة والأمن والإيمان فحافظوا على ذلك تمام المحافظة حتى يبقى لكم ويدوم فإن الله جلَّ وعلا { لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ }.
    واعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكُلَ بدعةٍ ضلالة.

    وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار ، { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
    اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمةَ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن الصحابةِ أجمعين، وعن التابِعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.

    اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وجعل هذا البلد آمناً مطمئنا وسائر بلاد المسلمين عامةً يا رب العالمين، اللَّهُمَّ من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، وردد كيده في نحره، وجعل تدميره في تدبيره إنك على كل شيء قدير، اللَّهُمَّ انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان يا رب العالمين، اللَّهُمَّ أنت اللهُ لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللَّهمَّ أغثنا، اللَّهمَّ أغثنا، اللَّهمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أرحمنا برحمتك،اللَّهُمَّ أرحمنا برحمتك ولا تقتلنا بغضبك وعقابك يا رب العالمين، اللَّهُمَّ أحي عبادك وبلادك وبهائمك وانشر حمتك وأحي بلادك الميت، اللَّهُمَّ إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك يا رب العالمين { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مظلين، اللَّهُمَّ أصلح بطانتهم وأبعد عنهم بطانة السوء والمفسدين { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .

    عبادَ الله، { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }، { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، { ولذِكْرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعون }.



     

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×