اذهبي الى المحتوى

امانى يسرى محمد

العضوات
  • عدد المشاركات

    7675
  • تاريخ الانضمام

  • تاريخ آخر زيارة

  • الأيام التي فازت فيها

    60

مشاركات المكتوبهة بواسطة امانى يسرى محمد


  1. قراءة في حديث (المنبر)
    بقلم الدكتور عثمان قدري مكانسي
     
    الخطابة فنّ

    عن عائشة رضي الله عنها:
    أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قرَأ هذه الآياتِ يومًا على المِنبَرِ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ...(67)}(الزمر) ورسولُ اللهِ يقولُ هكذا بإِصبَعِه يُحرِّكُها يُمجِّدُ الرَّبُّ جلَّ وعلا نفسَه : ( أنا الجبَّارُ أنا المُتكبِّرُ أنا الملِكُ أنا العزيزُ أنا الكريمُ ) فرجَف برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المِنبَرُ حتَّى قُلْنا : لَيَخِرَّنَّ به
    أخرجه ابن حِبّانَ في صحيحه


    سباحة في الحديث

    1- الإشارة بكلمة ( هذه الآيات )قبل أن تُقرأ تنبيهٌ واستحضار للذاكرة كي لا يضيع شيء من الكلام ، وهذا اسلوبٌ تربوي نجده كثيراً في أحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم.

    2- وقراءتها على المنبر ليسمعها الكثير من الصحابة بيانٌ لأهميتها، والحاضرون في خطبة الجمعة – عادة – أكثر في غيرها من الصلوات.

    3- وتشير (قراءة الآيات) أنها غير الكلام الذي تجيء الآيات في طياته ، وتُقرأُ مجوّدة مرتّلةً وتجويد القراءة في القرآن مطلوب لتتميّز عن كلام البشر، ومن يفعل غير ذلك جانب الصواب.

    4- اكتشف علماء الفلك مجرّة في السماء الدنيا قطرها خمسون مليار سنة ضوئية وبينها وبين أقرب مجرة إليها أضعاف مسافة القطر ، فكم قطر السماء الدنيا؟! .

    5- والسماء الدنيا للسماء الثانية كحلْقة في فلاة ، والسماء الثانية للسماء الثالثة كحلْقة في فلاة ، - وهكذا – فكم عِظَمُ الإله الذي يقبض هذه المخلوقات العظام بيمينه ، سبحانه وتعالى ؟.

    6- لن يُقدّر البشر عظمة ربهم إلا أن يكون حبُّه وخشيته في قلوبهم، إنه سبحانه صاحب الاسماء الحسنى ، من جمعها وفهمها حق فهمها وعمل بمقتضاها كان من الناجين ،
    اللهم ارزقنا هذا الفهمَ وحُسنَ العمل ، وارضَ عنا يا رب.

    7- الحركة في الكلام دليل على أمور كثيرة ، منها :

    أ- الانفعال الإيجابي الذي تنتقل عدواه إلى المستمع الرائي.

    ب- أسلوبٌ من أساليب التأكيد للفكرة المطروحة.

    ت- الإيحاءُ بصدق الحديث والإيمانِ به ودعوةٌ إلى التصديق والاهتمام.

    ث- الدعوة إلى تعظيم الإله وتمجيده

    8- حين يطرق سمعك كلام الله تعالى يمجّد نفسه تأخذك القشعريرة وترى نفسك تقترب من الله حباً وخشية وعبادة وسمعاً وطاعة. ونقلُ حديث من لا تسمعه أذناك ولا تراه عيناك ، ويُحس به قلبك وتحنّ له أضلاعُك أمرٌ في غاية التأثير الإيجابيّ، وهذا أسلوب تعليمي رائع آخر يستعمله المعلّم الناجح لإيصال الأثر إلى المتعلّم.

    9- تكرار الضمير ( أنا ) في ثنايا الأسماء الحسنى أربع مرات يعزز المعنى ويقرب الصورة ، ويحيطها بشعاع رائع من القداسة والعظَمة ، فتفعل في النفس فعلها.

    10- اختيار الأسماء الحسنى الثلاثة ( الجبار ،المتكبّر ، العزيز )التي توحي بالقوة والسيطرة والهيمنة والعظمة والقوة أسلوب تربوي نسميه " التعظيم" ينشر ظلال الخشية والرهبة والتذلل لهذا الإله العظيم الذي يستحق العبادة والطاعة. وهذا نسميه أسلوب ( الترهيب )

    11- اختيار الاسم الرابع ( الكريم) وفيه ما فيه من العطاء والكرم والمدد والإحسان يوحي بأن مع العبادة والطاعة أجرٌ كريم يناله المؤمن ، وهذا نسميه أسلوب ( الترغيب) وكثيراً ما يجتمع الأسلوبان ( الترهيب والترغيب ) – ومن الناس من يستجيب للاسلوب الاول " وهم الأكثرية" وبعضهم – اصحاب النفوس الشفافة – يستجيبون للأسلوب الثاني (الترغيب )، "وهم الأقلية" .

    12- للجماد إحساس وشعور ، رجَفَ برسول الله وكاد يخِرُّ خوفاً وخشية وإجلالاً وتعظيماً ، وهو الجمادُ . ولعلنا نتذكر جذع الشجرة الذي أنّ لفراق الحبيب حين تركه ، وقد كان يتكئ عليه في خطبه السابقة، وصعِد المنبر ، فسمع الصحابة أنينه . أفلا يليق بالإنسان أن يخشى الله تعالى ويحبه ويطيعه؟!

    13- (حتى قُلْنا : لَيَخِرَّنَّ به) تصوير للحالة النفسية للصحابة ، يقصد منه :

    أ- التفاعل مع الحدث.

    ب- تصوير الأثر الإيجابي للخطيب الصادق في دعوته المتمكن من إيصال المعلومة حية نابضة ، وما خرج من القلب دخل القلبَ ، وما خرج من اللسان لم يتَعَدَّ الآذان.

    14- استعمال الكلمات المناسبة والموحية ذات الاثر البيّن في إيصال الفكرة

    أ- وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ.

    ب- وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ.

    ت- يمجّد الربُّ نفسَه.

    ث- أسماء الله الحسنة الدالة على القوة والعظمة .

    ج- رجف وخرّ ، فيهما الحركة ذات الإيقاع السريع المفاجئ


    اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا.
     
    ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
     
    مقالة لناصر العمر
    وما قدروا الله حق قدره
     
    ذم الله سبحانه وتعالى طائفة من عباده عدم توقيرهم له عز وجل كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، فقال: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)، وهذه الآية تكرر ورودها في القرآن في ثلاثة مواضع؛ في سورة الأنعام قال الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية91)، وفي سورة الحج قال الله تعالى: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:74)، وفي سورة الزمر قال الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67).

    وتكرر ورود هذه الآية يدل على عظم معناها وأهميته، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوها على أصحابه في خطبه كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده ويحركها يقبل بها ويدبر يمجد الرب نفسه أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرن به"(1).

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر بها وبمعناها كلما ذُكر مظهر من مظاهر عظمة الله تعالى وجبروته، فقد جاء رجل من أهل الكتاب فقال: "يا أبا القاسم أبلغك أن الله تبارك وتعالى يحمل الخلائق على أصبع والسموات على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والثرى على أصبع قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقرأ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)"(2).
    فلو علم العباد ما لله من عظمة ما عصوه، ولو علم المحبون أسماءه وصفاته وكماله وجلاله ما أحبوا غيره، ولو علم العباد فضله وكرمه ما رجوا سواه، فالله تعالى رجاء الطائعين وملاذ الهاربين وملجأ الخائفين.

    إن العبد يوم يتأمل الضعف الذي يكتنفه ويكتنف غيره من خلق الله تعالى يعظم في نفسه القوي العزيز جل وعلا، ولذا نجد في الآيات السابقة لقوله تعالى: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) (نوح:13)، أن نبي الله نوح عليه السلام عمد إلى أمرين الأول تذكير قومه بالضعف الذي هو صفة المخلوقين فقال لهم كما أخبر الله تعالى عنه: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) (نوح:14)، أي طورا بعد طور وهي مراحل تكوين الجنين في بطن أمه من نطفة فعلقة فمضغة فعظام فبشر، فمن كانت هذه بدايته فلا يحق له إلا أن يشهد لله تعالى بالعظمة ويوقره ويعظمه.

    الأمر الثاني، أنه عمد إلى إظهار قوة الخالق تعالى فقال: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً) (نوح:15-20).
    فمقابل ذلك الضعف الشديد عند المخلوقين قوة الخالق تعالى التي لا تقهر، فمن تأمل في هذين الأمرين حصلت له النتيجة التي يرجوها ذلك النبي الكريم عليه السلام من قومه وهي أن يرجو لله وقارا.

    _______________
    (1) رواه أحمد وصححه الألباني في ظلال الجنة، 1/290، (546).
    (2) البخاري (6978) وغير موضع، ومسلم (19-21).
     
    موقع المسلم

  2. تأملات في سورة طه (2)

    1- الاستعداد والإعداد للمهمة : الإنسان ضعيف بنفسه مهما كان قوياً ، قوي بإخوانه .كما أن عليه أن يجهز نفسه بما يستطيع للقيام بمهمته أفضل القيام . وهذا مانراه في طلب موسى عليه السلام :
    - اللجوء إلى الله تعالى والاعتماد عليه . فقد سأله أن يشرح صدره . .. إن المؤمن بقضيته إيماناً عميقاً يبذل في سبيلها كل شيء ، ماله ووقته وصحته . وعلى هذا كان أول ما طلبه موسى " قال : رب اشرح لي صدري . " وهذا مابدأ به الله تعالى مع نبيه الكريم محمد " ألم نشرح لك صدرك " .
    - ثم سأله موسى عليه السلام أن يسهل له عمل الدعوة ليحيا فيه الأمل والقدرة على الاستمرار " ويسر لي أمري " . وهذا نجده أيضاً في نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام " ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك " . وما وضع الوزر إلا تسهيل للعمل الدعوي حين يرى الداعية نفسه خالياً من الآثام بعيداً عن السيئات ، مقبلاً على فعل الخير .
    - كما أن الفصاحة والقدرة على التعبير عن الأفكار تقلب الباطل حقاً في نظر كثير من الناس ، فما بالك حين تكون هذه الفصاحة وتلك البلاغة أداة في تجلية الحق والدعوة إليه ؟ ألم يقل النبي الكريم " إن من البيان لسحراً " ؟ ولهذا سأل موسى عليه السلام ربه سلاح البيان فقال : " واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي " . وقد كان نبينا الكريم محمد أفصح الناس وأكثرهم بلاغة . روى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قوله صلى الله عليه وسلم " أنا أعرب العرب ، ولدت في بني سعد ، فأنّى يأتيني اللحن ؟! " .
    - الاستعانة بأولي العزم وأصحاب الهمم من المؤمنين وخاصة إن كانوا من الأقارب والأهل أو الأصدقاء والمعارف ، فهم : أعلم بصدق الداعية ، وأشد رغبة في مؤازرته والذود عنه وعن دعوته ، وهم عون له على الدعوة وأمان من الضعف وحرز من الشيطان . " واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي ". وقد مدح القرآن الكريم أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم " محمد رسول الله .... والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم
    تراهم ركعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً
    سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة .
    ومثلهم في الإنجيل : كزرع أخرج شطأه ، فآزره ، فاستغلظ ،
    فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار . "
    - والجليس الصالح عون لأخيه على ذكر الله ، يذكره إذا نسي ، ويقويه إذا ضعف " كي نسبحك كثيراً ، ونذكرك كثيراً " . وكذلك صحابة رسول الله كما ورد في الآية قبل قليل .


    2 - خطوات مدروسة : قبل الذهاب إلى فرعون لدعوته وإقامة الحجة عليه أوصاهما الله تعالى بأمور عدة تكون عوناً لهما في مهمتهما ، منها :
    - الشجاعة وعدم الخوف : وهذه أولى الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية ، وإلا لم يستطع تبليغ الدعوة . فحين " قالا : ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " شجعهما وأوحى إليهما بصريح العبارة أنهما لن يكونا وحدهما " قال لا تخافا ، إنني معكما أسمع وأرى "ومن كان الله معه يسمع ويرى فأنى يخاف ؟. وكانا ثابتي الجنان حين أعلنا بوضوح لا خوف فيه ولا لبس أن الرسالة " من ربك " وهو الذي يدعي الربوبية ويمارس بسيفها كل مفاسده ، فهما ينزعانها عنه دون خوف ولا وجل . بل يعلنان أنهما على هدى ، وهو وأتباعه على باطل . وأن الخير كل الخير في اتباعهما " والسلام على من اتبع الهدى " .

    - التلطف في الدعوة من أقوى الأساليب لإنجاحها ، وفيه فوائد عديدة منها :
    أ‌- امتصاص الغضب والتخفيف من الرغبة في الانتقام .
    ب‌- دفع المدعو إلى الاستماع والتفكير بما يطرح عليه .
    ت‌- قطع الطريق على المناوئين الذين يصطادون في الماء العكر .
    ث‌- محاولة اكتساب بعض ذوي الأحلام من الحاضرين إلى الدعوة .
    ج‌- شق صف المناوئين
    وهكذا كان أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمصلحين من أصحابه والدعاة إلى يومنا هذا . فالله مدح نبيه بالرحمة واللطف واللين " فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولوكنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك " . دخل رجل على المأمون يعظه ، فأغلظ له القول . فقال المأمون معاتباً : لقدأمر الله موسى وهو خير منك أن يذهب إلى فرعون وهو شر مني يدعوه " فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " . فانقلب الواعظ موعوظاً والموعوظ واعظاً .

    - العمل الجماعي أفضل من العمل الفردي " إذهب أنت وأخوك .. " " واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي ، اشدد به أزري و أشركه في أمري " .
    - التسلح بالبراهين والأدلة ، فهي تنفي الشك وتزيل اللبس وتقوي الموقف وتدعم الفكرة " اذهب أنت وأخوك بآياتي ... " . على كل من يريد أن ينجح في مسعاه أن يتجهز بالوثائق والبراهين ، وأن يدعم من ينوب عنه بها .. إن القرائن آيات صدق وعامل إثبات ودليل قوة : " قد جئناك بآية من ربك " .
    - الاتصال الدائم بالمرسل لتقديم التقرير بما يستجد من أمور ومواقف ، ولتجديد المعلومات وتلقي التأييد : " ولا تنيا في ذكري " . وحين أبدى النبيان خوفهما من بطش فرعون نبههما الله تعالى إلى أنهما في معيته " قال : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى "
    - معرفة الهدف والتوجه إليه ، وصب الاهتمام عليه : " اذهبا إلى فرعون ...." فهو الرأس ، وهوالهدف الأول فإن دان فمن بعده أسهل منه . ويحضرني قول سعد بن زرارة أحد أوائل من أسلم من الأنصار وقد نزل عنده مصعب بن عمير سفير رسول الله حين قدم المدينة المنورة داعياً إلى الله وسمع به سعد بن معاذ سيد الأوس فجاء ومعه أسيد بن حضير يزجران مصعباً ليطرداه من يثرب .. يقول سعد بن زرارة : هذان سيدا قومهما ، وقد جاءاك فاصدق الله فيهما . فلما وقفا عليه هزسعد حربته وقال : ما جاء بك تسفه ضعفاءنا ؟! اعتزلنا إن كان لك بنفسك حاجة . فقال مصعب : أو تجلسان فتسمعان ، فإن رضيتما أمراً قبلتَماه ، وإن كرهتماه فكففنا عنكما ما تكرهان ؟ فقرأ عليهما آيات من القرآن فاستحسنا دين الإسلام ، وهداهما الله إليه، فكان لهما من الخير على قبيلتهما ما كان إذ أسلم منها خلق كثير .
    - معرفة سبب الذهاب إلى المدعو . إنه ادعى الألوهية وقال : " أنا ربكم الأعلى " فكان لا بد من التنبيه إلى أنه تعدّى حدوده ، وادّعى ما ليس له : " اذهبا إلى فرعون إنه طغى " والطغيان مجافاة الحقيقة وقلب الحقائق .
    - المواجهة الواعية الحكيمة : إن الدعوة عمل ينبغي دراسة خطواته بإتقان وتخطيط ، وينطبق عليه ما ينطبق على أي عمل يراد له النجاح . وقد أوصى الله سبحانه موسى وهارون أن يقفا وجها لوجه أمام المدعو فرعون " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك " وسواء أكان المدعو إنساناً عاديّاً أم كان طاغية حوله الأعوان والحاشية التي تؤزه إلى الشر أزّاً وتزين له فساده وتطاوله على الحق فلا بد من أن يُصدع أمامه بالحق : فاتياه . والمواجهة ليست سلبية إنما هي إيجابية تتجلى في قول الحق والجأر به والدعوة إليه . ولكن بأسلوب حكيم : فقولا له قولاً لينا "
    - وضوح الرسالة ، فقد أرسلهما الله تعالى لإنقاذ بني إسرائيل من الذل والاستعباد الذي يعيشونه تحت تسلط الأقباط في مصر وجبروت ملكهم فرعون . فكان قولهما واضحاً " فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم " لقد يئس اليهود من العدل الفرعوني ، فلا بد أن يخرجوا من مصر عائدين إلى فلسطين دون أن يمنعهم من الرحيل . فقد كان الاقباط يستخدمونهم كما يستخدم العبيد ، ويكلفونهم بمهام دونية لا يرضى الأقباط القيام بها .

    3- الحوار الهادف : لم يعترف فرعون أن الله تعالى ربه . وقد نبهه النبيان الكريمان إلى ذلك حين قالا " قد جئناك بأية من ربك " فحين سأل فرعون موسى السؤال الأول المتوقع ممن يعاند وينكر ويكابر : " .. فمن ربكما ياموسى " كان الجواب مفحماً " .. ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ..... ثم هدى " . وكأنه يقول له : الخالق الحقيقي الذي يخلق ويبدع فيما يفعل ، فترى كل ما يفعله رائعاً مكتملاً . ومن ثم ييسر لكل مخلوق حياته ... فأين دليل ربوبيتك أنت ؟! وهنا يبتلع فرعون الإهانة في هذا السؤال الذي عرّاه فانتقل إلى سؤال آخر يظن أن يداري فيه جهالته ، فوقع فيما أراد تجنبه فسأل موسى عن أسلافه الذين ماتوا ... وهذا سؤال لا يطرحه "إله" ! لأنه يعرف جوابه . لكن فرعون – لجهله – يظن أن من مات فات . ولا يعتقد أنهم سيبعثون في اليوم الآخر ،فكان في سؤاله خائباً . وكان جواب موسى عبه السلام شافياً مستفيضاً
    4- التفصيل " أهناك فائدة من الحديث إن كان مبهماً ؟ أو ملخصاً لا يفي بالغرض ؟ إن السائل سيحتاج مرة أخرى إلى إجابة وإجابة حتى يصل إلى الجواب المريح ... وهذا ما كان من جواب موسى عليه السلام حين سأله فرعون عن القرون الأولى :
    - فقد بيّن أن ما مضى هو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى " علمها عند ربي " وهل يضيع على الله تعالى شيء مهما صغر ؟ إنه " في كتاب " فالأمور تختلط على الإنسان الضعيف ، أما الله تعالى فهو الكامل كمالاً مطلقاً " لا يضل ربي ولا ينسى " .
    ومن علامات عظمة الله تعالى أنه حين خلقنا جعل الأرض صالحة لحياتنا
    " الذي جعل لكم الأرض مهدا ...
    وسلك لكم فيها سبلاً .....
    وأنزل من السماء ماءً ...
    فأخرجنا به ازواجاً من نبات شتى ... "
    ما الفائدة من هذا كله ؟ تيسير الحياة للناس ولحيواناتهم ..أرض منبسطة...وماء... وزروع ...
    " كلوا وارعوا أنعامكم ... " فمن أعمل فكره وفتح قلبه عرف أن هذا الترتيب والنظام الكوني لم يكن عبثاً .. ولن يكون ... فمن الأرض خلقنا وإليها نعود وقد عاد فيها أسلافنا .. ثم يشاء الله سبحانه أن يخرجنا منها تارة أخرى للحساب والعقاب أو الثواب .
    " إن في ذلك لآيات لأولي النهى ...
    منها خلقناكم ، وفيها نعيدكم ....
    ومنها نخرجكم تارة اخرى .... " .


  3. القاعدة الثامنة والعشرون : { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ }


     

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
    فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية عظيمة الصلة بواقع الناس، وازدادت الحاجة إلى التنويه بها في هذا العصر الذي اتسعت فيه وسائل نقل الأخبار، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } [الأعراف:85].

    وهذه القاعدة القرآنية الكريمة تكررت ثلاث مرات في كتاب الله عز وجل، كلها في قصة شعيب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
    ومن المعلوم للقراء الكرام أن من جملة الأمور التي وعظ بها شعيبٌ قومَه: مسألة التطفيف في الكيل والميزان، حيث كان هذا فاشيًا فيهم، ومنتشرًا بينهم.
    وهذا مثال ـمن جملة أمثلة كثيرةـ تدل على شمول دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لجميع مناحي الحياة، وأنهم كما يدعون إلى أصل الأصول وهو التوحيد فهم يدعون إلى تصحيح جميع المخالفات الشرعية مهما ظنّ بعض الناس بساطتها، إذ لا يتحقق كمال العبودية لله تعالى إلا بأن تكون أمور الدين والدنيا خاضعةً لسلطان الشرع.

    وأنت أيها المؤمن إذا تأملت هذه القاعدة القرآنية: { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } [الأعراف:85] وجدتها جاءت بعد عموم النهي عن نقص المكيال والميزان، فهو عموم بعد خصوص، ليشمل جميع ما يمكن بخسه من القليل والكثير، والجليل والحقير.

    قال العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله:
    "وما جاء في هذا التّشريع هو أصل من أصول رواج المعاملة بين الأمّة؛ لأنّ المعاملات تعتمد الثّقة المتبادَلة بين الأمّة، وإنَّما تحصل بشيوع الأمانة فيها، فإذا حصل ذلك نشط النّاس للتّعامل فالمُنتج يزداد إنتاجًا وعَرْضًا في الأسواق، والطَّالبُ من تاجر أو مُستهلك يُقبِل على الأسواق آمِنًا لا يخشى غبنًا ولا خديعة ولا خِلابة، فتتوفّر السّلع في الأمّة، وتستغني عن اجتلاب أقواتها وحاجياتها وتحسينياتها، فيقوم نَماء المدينة والحضارة على أساس متين، ويَعيش النّاس في رخاء وتحابب وتآخ، وبضد ذلك يختلّ حال الأمّة بمقدار تفشي ضدّ ذلك" [التحرير والتنوير [451/5]] ا.هـ.

    وقال بعض المفسرين ـ مبينًا سعة مدلول هذه القاعدة ـ:
    "وهو عامّ في كل حق ثبت لأحد أن لا يهضم، وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفًا شرعيًا" [تفسير الكشاف [337/3]].

    أيها القراء الأكارم:
    إذا تبين سعة مدلول هذه القاعدة، وأن من أخص ما يدخل فيها بخس الحقوق المالية، فإنه دلالتها تتسع لتشمل كلّ حق حسي أو معنوي ثبت لأحدٍ من الناس.
    أما الحقوق الحسية فكثيرة، منها -ما سبقت الإشارة إليه- كالحق الثابت للإنسان كالبيت والأرض والكتاب والشهادة الدراسية، ونحو ذلك.
    وأما الحقوق المعنوية، فأكثر من أن تحصر، ولو أردنا أن نستعرض ما يمكن أن تشمله هذه القاعدة لطال المقام، ولكن يمكن القول: إن هذه القاعدة القرآنية: { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } كما هي قاعدة في أبواب المعاملات، فهي بعمومها قاعدة من قواعد الإنصاف مع الغير.

    والقرآن مليء بتقرير هذا المعنى -أعني الإنصاف- وعدم بخس الناس حقوقهم، تأمل مثلًا قول الله تعالى:
    { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة:8] فتصور! ربك يأمرك أن تنصف عدوك، وألا يحملك بغضه على غمط حقه، أفتظن أن دينًا يأمرك بالإنصاف مع عدوك، لا يأمرك بالإنصاف مع أخيك المسلم؟! اللهم لا!

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقًا على هذه الآية:
    "فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفّار على ألّا يعدلوا، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع أو متأوّل من أهلالإيمان؟ فهو أولى أن يجب عليه ألّا يحمله ذلك على ألّا يعدل على مؤمن وإن كان ظالما له" [الفتاوى].

    وفي واقع المسلمين ما يندى له الجبين من بخس للحقوق، وإجحاف وقلة الإنصاف، حتى أدى ذلك إلى قطيعة وتدابر، وصدق المتنبي يوم قال:

    ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة * بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم


    وهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس: يعلن شكواه قديمًا من هذه الآفة، فيقول: "ليس في الناس شيء أقل من الإنصاف".
    علّق ابن رشد على هذه الكلمة فقال: قال مالك هذا لما اختبره من أخلاق الناس. وفائدة الأخبار به التنبيه على الذم له لينتهي الناس عنه فيعرف لكل ذي حق حقه [البيان والتحصيل [18/306]].

    ولنعد إلى واقعنا أيها القراء الأكارم:
    يختلف أحدنا مع شخص آخر من أصدقائه، أو مع أحد من أهل الفضل والخير، فإذا غضب عليه أطاح به، ونسي جميع حسناته، وجميع فضائله، وإذا تكلم عنه تكلم عليه بما لا يتكلم به أشد الناس عداوة والعياذ بالله!
    وقُلْ مثل ذلك في تعاملنا مع زلة العالم، أو خطأ الداعية، الذين عرف عنهم جميعًا تلمس الخير، والرغبة في الوصول إلى الحق، ولكن لم يوفق في هذه المرة أو تلك، فتجد بعض الناس ينسى أو ينسف تاريخه وبلاءه وجهاده ونفعه للإسلام وأهله، بسبب خطأ لم يحتمله ذلك المتكلم أو الناقد، مع أنه قد يكون معذورًا!
    ولنفترض أنه غير معذور، فما هكذا تورد الإبل، وما هكذا يربينا القرآن! بل إن هذه القاعدة القرآنية التي نحن بصدد الحديث عنها: { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } تؤكد ضرورة الإنصاف، وعدم بخس الناس حقوقهم.

    أيها القارئ اللبيب!
    وثمة صورةٌ أخرى تتكرر يوميًا تقريبًا يغيب فيها الإنصاف، وهي أن بعض الكتاب والمتحدثين حينما ينتقد جهازًا حكوميًا، أو مسؤولًا عن أحد الوزارات، يحصل منه إجحاف وبخس للجوانب المشرقة في هذا الجهاز أو ذاك، ويبدأ الكاتب أو المتحدث بسبب النفسية التي دخل بها لا يتحدث إلا من زاوية الأخطاء، ناسيًا أو متناسيًا النظر من زاوية الصواب والحسنات الكثيرة التي وُفق لها ذاك المرفق الحكومي، أو ذلك الشخص المسؤول!
    وما هكذا يربي القرآن أهله، بل القرآن يربيهم على هذا المعنى العظيم الذي دلّت عليه هذه القاعدة المحكمة: { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ }.

    وتلوح ههنا صورة مؤلمة في مجتمعنا، تقع من بعض الكفلاء الذين يبخسون حقوق خدمهم أو عمالهم حقوقهم، فيؤخرون رواتبهم، وربما حرموهم من إجازتهم المستحقة لهم، أو ضربوهم بغير حق، في سلسلة مؤلمة من أنواع الظلم والبخس! أفلا يتقي الله هؤلاء؟!
    { أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}؟! [المطففين]
    ألا يخشون أن يُسَلّطَ عليهم بسبب ظلمهم لمن تحت أيديهم وبخسهم حقوق خدمهم وعمالهم؟!
    ألا يخشون من عقوبات دنيوية قبل الأخروية تصيبهم بما صنعوا؟!

    وختامًا:
    قد يقع البخس أحيانًا في تقييم الكتب أو المقالات على النحو الذي أشرنا إليه آنفًا، ولعل من أسباب غلبة البخس على بعض النقاد في هذه المقامات، أن الناقد يقرأ بنية تصيد الأخطاء والعيوب، لا بقصد التقييم المنصف، وإبراز الصواب من الخطأ، عندها يتضخم الخطأ، ويغيب الصواب، والله المستعان.

    نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإنصاف من أنفسنا.. والإنصاف لغيرنا،وأن يجعلنا من المتأدبين بأدب القرآن العاملين به، وإلى لقاء جديد بإذن الله، والحمد لله رب العالمين.


  4. قاعدة السابعة والعشرون : { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ }



     
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية عظيمة القدر؛ لعظيم أثرها في حياة العبد، وقوة صلتها بتلك المضغة التي بين النبيصلى الله عليه وسلم أن صلاحها صلاح لبقية الجسد، وفسادها فساد له، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } [فاطر:18].

    التزكية في اللغة مصدر زكى الشيء يزكيه، وهي تطلق ويراد بها معنيان:
    المعنى الأول: التطهير، ومنه قوله تعالى عن يحيى عليه السلام: { وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا (13)} [مريم]، فإن الله زكاه وطهر قلبه وفؤاده، وهذا تطهير معنوي، ويطلق على التطهير الحسي، يقال: زكيت الثوب إذا طهرته.

    والمعنى الثاني: هو الزيادة، يقال زكى المال يزكوا إذا نمى.

    وكلا المعنيين اللغويين مقصودان في الشرع، لأن تزكية النفس شاملة للأمرين: تطهيرها وتخليتها من الأدران والأوساخ الحسية والمعنوية، وتنميتها وتحليتها بالأوصاف الحميدة والفاضلة، فالزكاة باختصار تدور على أمرين: التخلية، والتحلية.

    والمقصود بالتخلية: أي تطهير القلب من أدران الذنوب والمعاصي.

    والمقصود بالتحلية: أي تحلية النفس بمكارم الأخلاق، وطيب الشمائل، وهما عمليتان تسيران جنبًا إلى جنب. فالمؤمن مطالب "بالتنقِّي من العيوب، كالرياء والكبر، والكذب والغش، والمكر والخداع والنفاق، ونحو ذلك من الأخلاق الرذيلة، ومطالب بالتحلَّى بالأخلاق الجميلة، من الصدق، والإخلاص، والتواضع، ولين الجانب، والنصح للعباد، وسلامة الصدر من الحقد والحسد وغيرهما من مساوئ الأخلاق، فإن تزكيته يعود نفعها إليه، ويصل مقصودها إليه، ليس يضيع من عمله شيء" [تفسير السعدي: [687]].

    وعلى هذا المعنى جاءت الآيات القرآنية بالأمر بتزكية النفس وتهذيبها، كقوله تعالى:
    { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ‌ اسْمَ رَ‌بِّهِ فَصَلَّىٰ (15)} [الأعلى]، وقال سبحانه:
    { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} [الشمس]. وكما في هذه القاعدة القرآنية التي نحن بصددها: { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ }.

    وهذه الآية جاءت في سورة فاطر ضمن السياق التالي، قال تعالى:
    { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} [فاطر].

    قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: "وجملة { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } تذييلٌ جار مجرى المثل، وذكر التذييل عقب المذيل يؤذن بأن ما تضمنه المذيَّل داخل في التذييل بادىء ذي بدء مثل دخول سبب العام في عمومه من أول وهلة دون أن يُخص العام به، فالمعنى: أن الذين خَشُوا ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة هم ممّن تزكى فانتفعوا بتزكيتهم، فالمعنى: إنما ينتفع بالنذارة الذين يخشون ربهم بالغيب فأولئك تزكوا بها ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه.
    والمقصود من القصر في قوله: { فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } أن قبولهم النذارة كان لفائدة أنفسهم، ففيه تعريض بأن الذين لم يعبأوا بنذارته تركوا تزكية أنفسهم بها فكان تركهم ضراً على أنفسهم [التحرير والتنوير [43/12]].

    معشر القراء الكرام:
    إن من تأمل نصوص القرآن وجد عناية عظيمة بمسألة تزكية النفوس:

    فهذا خليل الرحمن حينما دعا بأن يبعث من ذريته رسولًا، ذكر من جملة التعليلات: تزكية الناس الذين سيدعوهم، فقال تعالى:
    { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة].

    وربنا تعالى يذكر عباده بمنته عليهم، حين استجاب دعوة خليله إبراهيم، وأن من أعظم وظائفه هي تزكية نفوسهم، فقال تعالى:
    { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران]، وقال تعالى:
    { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين (2)} [الجمعة].

    ولما دعا نبي الله موسى فرعون اختصر له دعوته في جملتين كما قال عز وجل:
    { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)} [النازعات].

    ومن تأمل سورة الشمس، أدرك عظيم هذه الغاية، وخطورة هذه العبادة الجليلة، فإن الله تعالى أقسم أحد عشر قسمًا متتابعًا على أن فلاح النفس لا يكون إلا بتزكيتها! ولا يوجد في القرآن نظير لهذا أعني تتابع أحد عشر قسمًا على مُقْسَمٍ واحد وهو بلا ريب دليل واضح، وبرهان ساطع على خطورة هذا الموضوع.

    أيها المتأمل!
    إن منطوق هذه القاعدة القرآنية: { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } يدل بوضوح أن أعظم أثر لهذه التزكية هو أثرها على نفسي المتزكي، ومفهومها يتضمن تهديدًا: أنك إن لم تتزكَ يا عبدالله، فإن أعظم متضرر بإهمال التزكية هو أنت.

    ولئن كانت هذه القاعدة تعني كل مسلم يسمعها، فإن حظ الداعيةِ وطالبِ العلم منها أعظم وأوفر، لأن الأنظار إليه أسرع، والخطأ منه أوقع، والنقد عليه أشد، ودعوته يجب أن تكون بحاله قبل مقاله.

    ولعظيم منزلة تزكية النفس في الدين، كان الأئمة والعلماء المصنفون في العقائد يؤكدون على هذا الأمر بعبارات مختلفة، منها ما ذكره شيخ الإسلام ابنُ تيميه رحمه الله جملةً من الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنّةِ ومن ذلك قولُه: "يأمرون بالصبر عند البلاء والشكرِ عند الرخاء،ويدعون إلى مكارمِ الأخلاق ومحاسن الأعمالِ، ويعتقدون معنى قولِه صلى الله عليه وسلم:
    « أكمل المؤمنين إيماناً أحسنُهُم خلقاُ » ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها" انتهى.

    وإنما نص أئمة الدين على ذلك؛ لأن هناك تلازمًا وثيقًا بين السلوك والاعتقاد: فالسلوك الظاهرُ مرتبطٌ بالاعتقادِ الباطن، فأيُّ انحرافٍِ في الأخلاقِ إنما هو من نقص الإيمان الباطن، قال ابنُ تيميه رحمه الله "إذا نقصت الأعمالُ الظاهرةُ الواجبةُ، كانَ ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان، فلاُ يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب، أن تُعدم الأعمالُ الظاهرةُ الواجبةُ" [ينظر: مجموع الفتاوى [7/582]، [616]، [621]].

    ويقول الشاطبيُّ رحمه الله: "الأعمالُ الظاهرةُ في الشرع دليلٌ على ما في الباطن فإذا كان الظاهرُ منخرمًا أو مستقيمًا حكم على الباطن بذلك" [الموافقات [1/233]].

    فالسلوكُ والاعتقادُ متلازمان، كذلك فإن من الأخلاقِ والسلوك ما هو من شُعَبِ الإيمان.
    ولهذا لما ظن بعض الناس ومنهم بعض طلاب العلم أن أمر التزكية سهلٌ أو يسير أو من شأن الوعاظ فحسب يقال ذلك إما بلسان الحال أو بلسان المقال وُجِدَت صورٌ كثيرة من التناقضات والفصام النكد بين العلم والعمل!

    إن سؤالًا يتبادر إلى الذهن ونحن نتحدث عن هذه القاعدة القرآنية: { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } كيف نزكي نفوسنا؟
    والجواب عن هذا يطول جدًا، لكنني أشير باختصار إلى أهم وسائل تزكية النفس، فمن ذلك:

    1- توحيد الله تعالى، وقوة التعلق به.
    2- ملازمة قراءة القرآن، وتدبره.
    3- كثرة الذكر عمومًا.
    4- المحافظة على الصلاة المفروضة، وقيام الليل ولو قليلًا.
    5- لزوم محاسبة النفس بين الفينة والأخرى.
    6- حضور الآخرة في قلب العبد.
    7- تذكر الموت، وزيارة القبور.
    8- قراءة سير الصالحين.

    وفي مقابل هذا فإن العاقل من يتنبه لسد المنافذ التي قد تفسد عليه أثر تلك الوسائل؛ لأن القلب الذي يتلقى الوسائل والعوائق موضع واحد لا يمكن انفصاله.

    إذن لا يكفي أن يأتي الإنسان بالوسائل بل لا بد من الانتباه إلى العوائق، مثل: النظر إلى المحرمات، أو سماع المحرمات، اطلاق اللسان فيما لا يعني فضلًا عما حرم الله تعالى.

    اللهم إنا نسألك وندعوك بما دعاك به نبيك محمد صلى الله عليه وسلم:
    « اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها » [صحيح مسلم [ح 2722]].

    وإلى لقاء جديد بإذن الله، والحمد لله رب العالمين.

  5. تأملات تربوية في سورة طه (1)

    في هذه السورة الكريمة معان تربوية عديدة ورائعة . ولن نستطيع الإحاطة بها . ومن ذا يدّعي ذلك في القرآن – كلام الله سبحانه- الذي وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بروائع الوصف والمعاني فقال : ... وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ... وحسبنا أن نقتطف منه ثماراً يانعة ووروداً ناضرة .
    1- التحبب وإنزال الناس منازلهم : فكلمة " طه " لها معان كثيرة عددها المفسرون ، لكنني سأقف على معنيين اثنين يوضحان المقصود . فقد ذكر القرطبي في تفسيره الكبير " الجامع لأحكام القرآن " أن بعض العرب مثل – عك وطيّء- درجت على مناداة من تحب بكلمة طه ، ذكره عبد الله بن عمرو وقطرب . ودرجت بعض القبائل مثل – عكل – على مناداة الرجل العظيم المحترم بالكلمة نفسها طه ، ذكره الحسن البصري وعكرمة . وكأن الله سبحانه وتعالى –على فهمنا لهذين المعنيين – ينادي رسوله الكريم محمداً عليه الصلاة والسلام يا حبيبي ، فهو حبيبه المصطفى وأيها الرجل الكريم ، فهو الرجل الذي كان النور الهادي إلى الله – وما يزال إلى يوم القيامة – ولو عدنا إلى الآيات التي تذكر كلمة رجل ومثناها وجمعها لرأيناها مدحاً كلها ما خلا سورة الجن في قوله تعالى " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً " والقرآن على هذا يعلمنا أن يكون خطابنا للآخرين لطيفاً محبباً ، وأن نحفظ لهم مكانتهم ونكرمهم ، فاحترام الناس وإنزالهم منازلهم يعود على الداعية بالحب والود ، ويفسح له في قلوب الناس القبول والطاعة ، وما كان الجفاء في يوم من الأيام سبيلاً إلى الدعوة " فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ..."
    2- الإطناب : البلاغة كما يقول أهلها " مراعاة مقتضى الحال " فالإيجاز في الحديث حين يفيد الإيجاز . والإسهاب فيه حين يقتضي الأمر ذلك . وسورة طه مكية ، تهتم كأخواتها من السور المكية بتوضيح عقيدة التوحيد وتثبيتها في قلوب الناس ، فلا بد من الإسهاب الدقيق المركز . ومثاله في هذه السورة الكريمة الآيات الخمس ، من الآية الرابعة إلى الآية الثامنة
    فالقرآن الكريم أنزله من أبدع الأرض والسماوات العلا .. من هو وما صفاته؟ إنه الرحمن الذي استوى على العرش فدانت له الخلائق كلها !!... وهو – سبحانه – الذي ملك كل شيء .. ملَك السماوات وملك الأرض وملك مابينهما وملك ما تحت الثرى ، فهل بقي شيء لم يسيطر عليه – سبحانه- ؟ كل ما علا وما سفل وما كان بينهما في قبضته فهل هناك مفرمنه إلا إليه ؟
    أفر إليك منك ، وأين إلا *** إليك يفر منك المستجير
    ثم إنه سبحانه مطلع على الظواهر والسرائر وعلى ما هو أخفى من السرائر . أتدرون ما أخفى من السرائر؟! ... إنها الخواطر التي تلمع في أذهاننا والأفكار التي تسطع في عقولنا ثم تمضي سريعاً في عالم النسيان ... نعم ننساها ولا نتذكرها ، لكنها في علم الله سبحانه وتعالى لا تغيب.... وكيف يغيب شيء - مهما قل وخفي - عن العليم الخبير !!
    فإذا خالط الإيمان بشاشة قلوبنا ، وامتزج بأرواحنا وأنفاسنا نادينا مقرين بـ " الله لا إله إلا هو " وسألناه الخير مترنمين بأسمائه الحسنى وصفاته العليا..... وتعال نقرأ هذه الآيات الكريمة ليكتمل المشهد الحسي الروحي العجيب
    " تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلا
    الرحمن على العرش استوى
    له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى
    وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى
    الله لا إله إلا هو ، له الأسماء الحسنى "

    3- حسن الربط بين المعاني : إ ن سرد الأفكار او الأحداث مسلسلة مرتبة يقيد المتلقّي بأمور عدة منها :
    استيعاب الأفكار والأحداث دون انقطاع .
    حسن المتابعة لما يُلقى عليه وحُسن التعامل معها .
    قدرة المتلقي على الحكم السليم على ما يسمع .
    الاستجابة لعدد أكبر من المعلومات والأفكار .
    فبعد أن عشنا في جو الآيات السابقة جاءت قصة موسى عليه السلام توضح لقاءه بربه الكريم بإسلوب شائق غير منقطع يوضح العلاقة بين الخالق الرحيم والمخلوق الباحث عن الحق ، بين المعبود والعابد ، والرب الآمرالسيد والعبد المأمور المطيع. ... فكيف يصطفيه الله تعالى ويكلمه دون أن يكون بينهما آخرون ؟ لقد رأى ناراً هم بحاجة إليها عله يأتي منها بقبس أو يجد حولها من يدله على الطريق إلى مصر ، فقد أخطأه في هذا الظلام الشديد . فوجد درب الهداية وسبيل السلام وفتح له باب السعادة على مصراعيه ، فولج منه إلى الكرامة في الدنيا والآخرة ... ذهب إلى النور مقتبساً فعاد نوراً بذاته ، يهتدي بهديه المهتدون ، فقد رأى النور وكلمه . " عرفه بذاته القدسية " إني أنا ربك "
    " أني أنا الله لا إله إلا أنا " وعلمه التأدب مع العظيم " فاخلع نعليك " وكأنه يقول له اترك الدنيا وزحرفتها الفانية فأنت مؤهل لأمر جلل " وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى " ولا بد من الاستعداد لهذا التكليف الشاق والاستعانة بالعبادة والتزكية لتكون الصلة بالله قوية تعين على حمل الأمانة " فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " .وكرر موسى هذا حين طلب الاستعانة بأخيه فقال : " كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً " .

    4- التسلح بالبراهين والأدلّة : لا بد حين تكلف إنساناً بمهمة أن تجهزه بما يناسب من مستندات ووثائق – إن كان الأمر يتطلب ذلك – وتوضحها له بمعلومات تساعده على إنجازها بشكل صحيح خال من الأخطاء أو بقليل منها ما كان إلى ذلك من سبيل . .. وهذا ما قدمه الله تعالى لأنبيائه في دعوتهم .
    فقد كان لصالح الناقة وفصيلها ، ولسليمان الريح تجري بأمره حيث يشاء ، ولداود تليين الحديد ، ولإبراهيم جعل النار المحرقة حديقة غناء ، ولعيسى إحياء الموتى وإخبار الناس بما يدّخرون في بيوتهم ... وأيد الله تعالى موسى " في تسع آيات إلى فرعون وقومه " ذكر منها في سورة طه اثنتين : أولاهما انقلاب العصا حية تسعى ، وثانيهما وضع اليد في جيب الثوب وإخراجها بيضاء تلمع كالشمس في بريقها . وكان لكل نبي من المعجزات الباهرات ما يبهر المدعويين ويعجزهم .

    5- التجريب : أسلوب تربوي عملي ، يفيد في أمور عدة نذكر اثنين منها :
    الأول : أن تثبت الفكرة في النفس كقصة إبراهيم عليه السلام إذ أراد أن يزداد بصيرة في قلبه وعقله فسأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى . مع العلم أنه شديد الإيمان بربه وقدرته سبحانه ، فأجابه إلى ذلك في سورة البقرة الآية 260ولم يشك إبراهيم في قدرة الله ، ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ، ويدل عليه وروده بصيغة " كيف " وموضوعها السؤال عن الحال . ويؤيد هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم " ومعناه : نحن لم نشك ، فلأن لا يشك إبراهيم أولى . والثاني : تعويد المرء على شيء يخافه ليطمئن قلبه ، فيستعد لما قد يستجد، ومثاله ما ورد في هذه السورة حين سأله الله تعالى عما في يده ليجعلها إحدى معجزاته " وما تلك بيمينك يا موسى " فأجابه بما يدل على استعمالاتها الكثيرة . فأمره أن يلقيها ، " فألقاها فإذا هي حية تسعى " وقد جاء في سورة النمل أنه هرب خوفاً منها " فما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقّب " . وتصور معي أنه لم يجربها بين يدي الله تعالى فكيف يكون موقفه وهو داعية يلقيها لأول مرة أمام فرعون وملئه فيكون أول الهاربين مع أنهم- وإن خافوا - تماسكوا فلم يهربوا .... لن يكون الموقف لصالحه . ومع هذا فقد كان الموقف أمام السحرة رهيباً " فاوجس في نفسه خيفة موسى " فهدأه الله تعالى " قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ، إنما صنعوا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى" .

    6- الاستعانة بالصالحين : لقد هيأ الله تعالى لنبيه الكريم محمد عليه الصلاة والسلام رجالاً يعتمد عليهم في نشر الدعوة يكونون عوناً له وأزراً . وانظر معي وصفهم في آخر سورة الفتح " محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجّدا ، يبتغون فضلا من الله ورضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً " وهيأ الله تعالى لنبيه الكريم عيسى عليه السلام حواريين يؤازرونه في الدعوة ، ويعينونه في نشرها : " كما قال عيسى بن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ؟ . قال الحواريون : نحن أنصار الله ، فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ، فأيدنا الذين آمونا على عدوهم ، فأصبحوا ظاهرين " . وهذا موسى عليه السلام حين كلفه ربه أن يذهب إلى فرعون ناصحاً وداعياً سأل ربه أن يعينه بأخيه هارون " واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري ، وأشركه في أمري " . فأعانه به لأنه سبحانه يريد للدعوة أن تؤتي أكلها ، فلا بد من تيسير سبلها والإعداد لها " قال : قد أوتيت سؤلك يا موسى " .
    7- ذكر الأفضال : ليشعر من تفضلت عليه أنك هيأت له الأسباب واعتنيت به وقدمت له الخدمات ليكون عند حسن ظنك فيما يفيده ويفيد أسرته ومجتمعه ، كأن يخاطب الأب ولده فيذكره بتربيته له وإيثاره عليه واعتنائه به وتدريسه ووو... ليكون ولداً باراً بوالديه محسناً لإخوته وأخواته وكفعل المحسنين دون منّة ولا تفاخر وتفضل وإلا نفرالمدعوّ ولم يدنُ مرة أخرى . فإجابة الله تعالى دعوة موسى في إرسال أخيه منّة ما بعدها منّة ، وهنا مننٌ كثيرة ذكرها الله تعالى لموسى ليدلل اعتناءه به وتزكيته له وتهيئته ليكون الرسول الداعية إلى الله : " ولقد مننّا عليك مرة أخرى " فحفظه أن يقتله فرعون . بل إنه ربّيَ في قصره وعلى عينه ، وأعاده إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن فلم يقبل إلا حليبها ، وتبعته أخته لتعود به إلى أمه ، وحفظه أن يقتص منه فرعون لقتله القبطي ، فهاجر إلى الشام ليعيش في بيت أحد الصالحين ويتزوج ابنته ويعمل عنده ليخف عنه الطلب ، ويقتبس الخير من الرجل الصالح ، ويعيش من كد يمينه وعرق جبينه لا أن يظل عالة على فرعون يعيش حياة هينة لينة ، ، فحياة الدعة لا تربي الدعاة ، ولن يرفع أحد رأسه ويصدع بكلمة الحق أمام ولي نعمته والمتفضل عليه . ومن أفضل المنّة أنه رباه على عينه واصطنعه لنفسه سبحانه .
    8- احترام الكبير : من الآداب التي حض عليه الإسلام توقير الكبير. وقد نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فقال : " أن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم " . وقال : " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف قدر كبيرنا " وقال كذلك صلى الله عليه وسلم : أُراني في المنام أتسوك بسواك ، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر . فناولت السواك الأصغر . فقيل لي : كبر . فدفعته إلى الأكبر منهما ". .. والأحاديث في هذا الباب وافرة . أما في القرآن الكريم فالآيات كثيرة في هذا الباب ، منها :أن يعقوب عليه السلام حين حضرته الوفاة سأل بنيه : " ما تعبدون من بعدي ؟ " فبماذا أجابوا ؟ " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحداً ونحن له مسلمون "سورة البقرة ، الآية 133 .أبوهم يعقوب وجدهم إسحاق وأبو جدهم إبراهيم . أما إسماعيل فعم أبيهم . ولأدبهم الذي درجوا عليه قدموا إسماعيل على جدهم لأنه أكبر منه واحتسبوه من جملة الآباء . والعم بمقام الأب . واقرأ معي هذا الترتيب الأدبي التربوي الرائع " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ..." .
    وقد أمر الله تعالى موسى وهارون بتبليغ فرعون : لكن خطاب الرب كان لموسى مباشرة ولهارون عن طريق موسى " اذهب أنت وأخوك بآياتي ، ولا تنيا في ذكري " فكان الأمر للاثنين ولكن عن طريق موسى
    كما أننا نتعلم الأدب حتى ممن ليسوا مسلمين إن نطقوا بالصواب ، فحين ذهبا إلى فرعون بأمر ربهما يدعوانه، فتكلما كما ورد في القرآن وأحسنا ، وجه فرعون لهما السؤال ولكنه طلب الجواب من موسى " قال : فمن ربكما يا موسى " . فكان موسى هو الذي يحاوره .

     

    صيد الفوائد

     

    يتبع


  6. ((اللَّهُمَّ إنّي أعُوذُ بِكَ مِنْ يَوْمِ السُّوءِ، وَمِنْ لَيْلَةِ السُّوءِ، وَمِنْ سَاعَةِ السُّوءِ، وَمِنْ صَاحِبِ السُّوءِ، وَمِنْ جَارِ السُّوءِ في دَارِ الْمُقامَةِ))([1]).

    الشرح:

    قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من يوم السوء)): استعاذة باللَّه تعالى من يوم يكون فيه القبح والفحش, والشر, وتكون فيه المصائب، ونزول البلاء، والغفلة, فهذه استعاذة كاملة من كل سوء وشرٍّ يقع في اليوم([2]).

    قوله: ((ومن ليلة السوء)): عطف الخاص على العام، ومن ليلة ينزل فيها شر، وسوء وبلاء.

    قوله: ((ومن ساعة السوء)): تخصيص بعد تخصيص لشدة الافتقار إلى حفظ اللَّه تعالى للعبد في كل الأزمنة، وفيه بيان أن العاصم هو اللَّه جلَّ وعلا، لا أحد سواه، وأن العباد لا غنى لهم عنه تعالى طرفة عين في كل الأحوال والأوقات.

    قوله: ((ومن صاحب السوء)): ومن صاحب الشرّ الذي ليس فيه صلاح؛ فإن مصاحبته فيها ضرّ وهلاك في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى"وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا"([3]).

    قوله: ((ومن جار السوء في دار المقامة)): لأن شرّه دائم, وأذاه ملازم، الذي لا يأتمر بأوامر اللَّه تعالى, ولا ينتهي عن نواهيه، ومنها معرفة حق الجار، ويشمل جار المقام: الزوجة، والخادم, والصديق الملازم, وفيه إيماء إلى أنه ينبغي تجنب جار السوء, والتباعد بالانتقال عنه إن وجد إلى ذلك سبيلاً.

    وجاء في رواية أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم ((اللَّهم إني أعوذ بك من جار في دار المقامة فإن جار البادية يتحول))([4])، فيه بيان علّة الاستعاذة من جار السوء في دار المقام, فإنه ثابت ولا يتحول، عكس جار البادية، وفيه بيان تفصيل معاناة العبد حال الدعاء، وبث الشكوى، والهمّ، والحزن له تعالى, وإظهار العبد فاقته، وفقره، واحتياجه إلى ربه تعالى، الذي هو روح العبادة ولبُّها؛ فإن أحقّ من يلجأ إليه، ويشكو له الهم والحزن، وكلّ ما به هو الربّ عز وجل كما ذكر اللَّه عن يعقوب أنه قال: "إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ"[5]).

    وفي الحديث بيان لأهمية الاستعاذة من كل الشرور، وإن التفصيل في الاستعاذة أمر مطلوبٌ ومُهمّ؛ لأن المقام مقام عبادة، فكلما أكثر فيه العبد من السؤال والدعاء، كان أكثر عبودية للَّه تعالى الذي يستوجب الخضوع له تعالى, والحبّ والتعلّق به، والتملُّق له، وفيه وعيد من أذى الجار، كائناً ما كان؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصّص جاراً دون جار.


    ([1]) أخرجه الطبراني في الكبير، 17/294، برقم 810، والديلمي، 1/461، برقم 1873. قال الهيثمي في الزوائد، 10/144: ((ورجاله رجال الصحيح)). وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 1443، وصحيح الجامع، 1/ 278، برقم 1299.

    ([2])  فيض القدير، 2 / 139 بتصرف.

    ([3])  سورة الفرقان، الآيات: 27-29.

    ([4]) البخاري في الأدب المفرد، برقم 117، وأخرجه النسائي، برقم 5517، والحاكم، 1/532، وصححه ووافقه الذهبي، ومسند أبي يعلى، 11/ 411، برقم 6536، وابن أبي شيبة، 8/ 359، وشعب الإيمان للبيهقي، 7/ 81، والدعوات الكبير له، 1/ 458، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1290، وفي صحيح النسائي، 3/1118.

    ([5])  سورة يوسف ، آية : 86 .

    الكلم الطيب

  7.  

    تنقية الأموال

     
     

    الخطبة الأولى

    الحمد لله رب العالمين أغنانا بحاله عن حرامه، وكفنا بفضله عمن سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد

    أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمر بطلب الرزق وشرع له طُرقا مباحة، كما أنه أمر بالإنفاق، وشرع للإنفاق طُرقا مباحة ومشروعة منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو مباح، والواجب على المسلم أن يطلب الرزق من الوجوه المباحة ويقتنع بها ولا يتعداها إلى الطرق المحرمة، لا يحمله حب المال على أن يقتحم الطرق المحرمة للكسب ولا يغتر بما عليه كثير من الناس، عليه أن يلزم الطريق الصحيح ولا يحمله حب المال والجشع والطمع على أن يقتحم الطرق الخطرة عليه بالقناعة بما أحل الله سبحانه وتعالى، فالمال مسئولية قال الله جل وعلا: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، فالمسلم يقتصر على ما أحل الله في طلب المال وينفق فيما شرع الله فإنه سيسأل من ماله يوم القيامة من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ: عَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ؟ وعَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَا عمل به؟ ، فيسأل عن ماله من أين اكتسبه؟ من أي طريق جاءك هذا المال؟ ويدقق عليه في ذلك حتى يتمنى أنه من الفقراء، من أين أكسبته؟ كيف دخل عليك هذا المال؟ ثم يسأل سؤلا آخر، فيما أنفقت هذا المال؟ أنفقته على هواك، شهواتك، أو أنفقته في طاعة الله وفيما شرع الله الإنفاق فيه وفي الحديث: أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بمده ، لأن الأغنياء وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقفون للحساب على أموالهم، فيتأخر دخولهم الجنة، فكيف بغيرهم؟

    فالمسئولية عظيمة يا عباد الله، ليس المهم أن تجمع المال وأن تصبح لك أرصدته في البنوك أو عقارات، المهم أن تسلم من هذا المال دخولا وخروجا، ومن العجيب أنك تحاسب عن هذا المال كله، وأنك تتركه كله، تخرج من الدنيا كما دخلت ليس عليك إلا الكفن، خرقة من القماش تدخلها عريانا وتخرج منها عريانا وهذا المال يبقى تبعتاً عليك ومسئولية عليك، وينتفع به غيرك.

    فحاسبوا أنفسكم يا عباد الله، لا نقول لا تطلبوا الرزق لا تطلبوا التجارة؛ ولكن نقول عليكم بالطرق المباحة، والكسب المباح، وعليكم بالإنفاق كما أمركم الله الإنفاق فيه، وجوبا أو استحبابا أو حتى مباحا، حتى تسلموا يوم القيامة من تبعت هذا المال، ليأتين يوم يتمنى الأغنياء أنهم فقراء ليس بأيدهم شيء من المال، فالمال مسئولية عظيمة وخطيرة، فمن الناس من يمشي مع العالم لاسيما في هذا الوقت فإن التعامل صار حسب الاقتصاد العالمي الذي لا يتورع عن الربا لا يتورع عن رشوة، لا يتورع عن غش، لا يتورع عن أي كسب، بعض من المؤمنين أو كثير من المؤمنين يمشون مع العالم اليوم، واستجدت معاملات عالمية لابد من عرضها على الإسلام، وأخذ رأي الإسلام فيها، فما كان منها مباحا فالحمد لله، من كان محرما فإن المؤمن يتركه ويمشي مع الطريق الحلال لأنه مسئول عن هذا يوم القيامة، ومشدد عليه يوم القيامة، فعلى المسلم أن يتصور هذا، وأن لا يدخل مع الناس فيما هم عليه دون أن يتقيد بشرع الله  سبحانه وتعالى، فإن الأمر خطير جدا، والناس اليوم يقلدون الاقتصاد العالمي ويدخلون مع الكفار في معاملاتهم شركاتهم دون تميز فيما هو حلال؟ وما هو حرام وغالب؟ غالب مكاسب الكفار محرمة لأنهم لا يؤمنون بالله عز وجل لاسيما اليهود فإنهم لا يتورعون عن الحرام، والاقتصاد العالمي في الغالب يصدر عن اليهود، يأكلون الربا يأكلون السحت والرشوة: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) هذا في اليهود، (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) هذا في اليهود، فلا نمشي في ركابهم، ونهلك أنفسنا معهم، بل علينا أن نستحضر العرض والحساب يوم القيامة، وأن نفكر في أموالنا، من أين اكتسبنها؟ وأن نفكر في إنفاقنا، هل هو على موجب شرع الله أو على غير شرع الله؟ ما دمنا في زمن الإمكان، سيأتي يوم عليك لا تتمكن من مسئولية هذا المال وأخطاره، أما اليوم فبإمكانك ذلك ولكن النفوس في الغالب أمارة بالسوء، ومتعلقة بالأطماع.

    فعليك يا عبد الله، أن تحاسب نفسك في هذا الدنيا وأن تتخلص من المحرمات قبل أن يحال بينك وبين التخلص منها وتكون طوقا في عنقك: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فعليك أن تتصور هذا، وأن تمتنع عن كثير مما عليه الناس وأن تنقي مالك من الحرام تكون حسيبا على نفسك من الآن قبل أن يحال بينك وبين ذلك، فحاسب نفسك ولا تغامر، ولا يغرنك حب المال أو تقليد فلان وعلان عن أن ترجع إلى الصواب، مر النبي صلى الله عليه بباع طعام فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم يده في الطعام فأدركت في أسفله بلالا فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله أي: المطر، قال: أفلا جعلته ظاهرا حتى يراه الناس من غشنا فليس منا فالغش - والعياذ بالله - تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من صاحبه: من غشنا فليس منا غالب الناس يعتبرون الغش أنه من الحذق وأنه من المعرفة بالاكتساب فلا يبالي في الغش مع أنه يخرجه من أن يكون من هذه الأمة ليس معناه أنه يكفر لكن معناه أنه لا يكون مسلما كامل الإسلام أو كامل الإيمان؛ بل يكون عنده نقص بحسب الغش، سيسأل عنه يوم القيامة، ويحاسب عليه يوم القيامة وترد المظالم إلى أهلها حتى يقتاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء يوم القيامة، يوم لا يكون دينار ولا درهم، يؤخذ من حسنات الظالم فتعطى للمظلوم فإن فنيت حسناته أخذ من سيئات المظلوم فطرحت عليه وطرح في النار فالأمر خطير يا عباد الله، لا تظلم الناس في أموالهم، لا تظلمهم في أعراضهم، لا تظلمهم في دماءهم: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وأموالكم وَأَعْرَاضَكُمْ عليكم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ قالوا: نعم لقد بلغت، قال: اللَّهُمَّ فاشْهَدْ .

    فلنتقي الله يا عباد الله: (فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)، لا يخدعكم الطمع والجشع في عدم المبالاة فيما تأكلون؛ بل عليكم أن لا تأكلوا إلا من الحلال الذي أباحه الله سبحانه وتعالى، فكيف تأكل من مال الحرام؟ وتؤكل أو تؤكل أهل بيتك من مال حرام، فتكون المسئولية عليك يوم القيامة، جاء غلام لأبي بكر رضي الله عنه جاءه بطعام فأكله أكله أبو بكر فقال الغلام: أتدري من أين اكتسبت هذا المال؟ قال: لا، قال: هذا أخذته من قوم تكهنت لهم في الجاهلية ولم أحسن الكهانة فأعطوني هذا أجرا، فأدخل أبو بكر رضي الله عنه أصابعه في حلقه وتقيأ الطعام، فقالوا: يا خليفة رسول الله لماذا؟ قال رضي الله عنه: والله لو خرجت نفسي معه لأخرجتها، إن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل جسم نبت من السحت فالنار أولى به .

    فعليكم يا عباد الله بتنقية أموالكم، تنقيتها من الربا، تنقيتها من الرشوة، تنقيتها من الكذب والغش والمخادعات في المعاملات، أصبح الأمين في هذا الوقت أصبح قليلا في الناس وحتى من يرونه يتورع عن المكاسب المحرمة يصفونه بالتغفيل وعدم الحذق، ويصفون الذي لا يبالي بأنه حاذق وأنه ماهر في الكسب وأنه عاقل إلى آخره، فصار الأمين يزدرى في هذا الوقت ويستنقص.

    فعليكم يا عباد الله، بتنقية أموالكم، عليكم بالتخلص من الحرام، عليكم بالقناعة في الحلال، فإن الحلال مبارك، إن أكلته وإن تصدقت به وإن ورثته فهو مبارك ويكتب لك أجره، أما إذا كان حراما فإنك إن أكلته أكلت حراما، وإن تصدقت به لم يقبل منك، وإن تركته للورثة كان زادك إلى النار، كما في الحديث.

    فاتقوا الله يا عباد الله، خلصوا أنفسكم من المكاسب المحرمة، اختصروا على ما أباح الله، فالمباح مبارك ولو كان قليلا، والحرام منزوع البركة ولو كان قليلا: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)، بارك الله ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

     

    الخطبة الثانية:

    الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا.  

    ثم اعلموا يا عباد الله، أن الكسب الحرام ليس مقصورا على التجارة، ولكنه يدخل في الأعمال التي يتولاه الموظفون فإنه أمانة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) الله جل وعلا يخاطب الولاة والحكام فيقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ) وهي الوظائف والولايات، (أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) هذه وصية للحكام والشاهد منها: الأمانات (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) يعني: أن تولوا على أعمال المسلمين من فيه نصح وفيه إبراء لذمته بأن يقوم بها على الوجه المطلوب ولا تولوها لمن يغدر ويخون فيها، لمن يأخذ الرشوة على أعمال الوظيفة فلا ينجز من الأعمال إلا لمن يدفع له الرشوة ومن لا يدفع له الرشوة يعرقل معاملته أو أنه يمنعها ويقدم الراشي على الأمين على صاحب الحق.

    كذلك من الأمانة في العمل أن تقوم به ولا تتأخر عنه من غير عذر، أن تبذل وقتك للعمل الذي وليت عليه ولا تتأخر عنه، ولا تتكاسل عنه، ولا تترك الناس يأتون ولا يجدون أحد في المكان ينجز لهم أعمالهم في إجازة في سفر في كذا، أنت مسئول عن هذا العمل وهو أمانة، الله سماه أمانة: (أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ) سماه أمانة فعليك أن تقوم به على الوجه المطلوب وإلا فإنك مسئول عنه أمام الله سبحانه وتعالى، إذا لم تؤديه في الدنيا فستؤديه يوم القيامة من أعمالك، ما تؤديه الدراهم الذي أخذتها ترد دراهم يوم القيامة ما في دراهم ما في دينار ولا درهم، تؤدي هذا العمل الذي خنته فيه من أعمالك الصالحة التي أنت أحوج إليها لتنجو بها من عذاب الله.

    فاتقوا الله عباد الله، الدين النصيحة قال صلى الله عليه وسلم: الدِّينُ النَّصِيحَةُ والنصيحة معناها عدم الغش، والشيء الناصح هو الخالص من الغش، الدِّينُ النَّصِيحَةُ بأن تكون ناصحا، أن تكون خاليا من الغش في كل أمورك، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ كل هؤلاء لهم عليك حق لا بدأ أن تؤديه ولا تخن فيه، قال صلى الله عليه وسلم: أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ، فأنت مسئول عن أمانتك: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) هذا من صفات المؤمنين، (لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) يراعون ويؤدونها ولا يخنون فيها، فليست الأمانة مقصورة كما يفهم بعض الناس مقصورة على الوديعة، الوديعة نوع يسير من الأمانات، الأمانات كثيرة:

    عليك أمانة لله في طاعته وامتثال أمره.

    عليك أمانة للرسول صلى الله عليه سلم في إتباعه والعمل بشرعه.

    عليك أمانة لكتاب الله أن تتلوه حق تلاوته وأن تعمل به.

    عليك أمانة لولي الأمر أن تسمع له وتطيع بالمعروف.

    عليك أمانة لجميع الناس، ولأئمة المسلمين وعامتهم، لعامة الناس أن تتعامل معهم بالعدل والأمانة وعدم الخيانة وعدم الغش وعدم المكر وعدم الخديعة، هذه أمانات عظيمة تحملها على رقبتك، كل عليه أمانة في هذه الحياة: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) خفنا منها هذا الذي منعها من تحملها، الإشفاق منها والخوف، (وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً).

    فاتقوا الله عباد الله، حافظوا على الأمانات ولا تظنوها الوداع فقط؛ بل الأعمال التي تتولاها والوظائف هذه من أعظم الأمانات فعليك أن تقوم بها على الوجه المطلوب.

    ثم اعلموا عباد الله، أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.

    (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم عبدك ورسولك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمةِ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.

    اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، ونصر عبادك الموحدين، وجعل هذا البلد أمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا وجعلهم هداة مهتدين وأعنهم على الحق، اللَّهُمَّ أعنهم على الحق، اللَّهُمَّ أنصرهم على عدوك وعدوهم وعدو الإسلام والمسلمين، اللَّهُمَّ أحفظ هذه البلاد آمنة مستقرة وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللَّهُمَّ أحفظ علينا أمننا وإيماننا واستقرارنا في ديارنا، وأصلح ولاة أمورنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

    عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، فذكروا الله يذكركم، واشكُروه على نعمه يزِدْكم، ولذِكْرُ الله أكبرَ، والله يعلمُ ما تصنعون.


  8.  

    القاعدة السادسة والعشرون : { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا }

     

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
    فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية عظيمة الصلة بواقع الناس، وازدادت الحاجة إلى التنويه بها في هذا العصر الذي اتسعت فيه وسائل نقل الأخبار، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات:6].

    وهذه القاعدة القرآنية الكريمة جاءت ضمن سياق الآداب العظيمة التي أدب الله بها عباده في سورة الحجرات، قال تعالى:
    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات].

    ولهذه الآية الكريمة سبب نزول توارد المفسرون على ذكره، وخلاصته أن الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه سيد بني المصطلق لما أسلم اتفق مع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث له في وقت اتفقا عليه جابيًا يأخذ منه زكاة بني المصطلق، فخرج رسولُ رسولِ صلى الله عليه وسلم لكنه خاف فرجع في منتصف الطريق، فاستغرب الحارث بن ضرار تأخر رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت ذاته لما رجع الرسول إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي"، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث إلى الحارث،
    فالتقى البعث الذين بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم مع الحارث بن ضرار في الطريق، فقال لهم: إلى من بعثتم؟
    قالوا: إليك!
    قال: ولم؟
    قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله! قال: لا والذي بعث محمدًا بالحق، ما رأيته بتة ولا أتاني..
    فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال:
    « منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟!»
    قال: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، خشيت أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل ورسوله، قال فنزلت الحجرات:
    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }" انتهى الحديث مختصرًا، وقد رواه الإمام أحمد بسند لا بأس به، ويعضده الإجماع الذي حكاه ابن عبدالبر على أنها نزلت في هذه القصة.

    وجاء في قراءة سبعيّة: { فَتَثبَتوا } وهذه القراءة تزيد الأمر وضوحًا، فهي تأمر عموم المؤمنين حين يسمعون خبرًا أن يتحققوا بأمرين:
    الأول: التثبت من صحة الخبر.
    الثاني: التبيّن من حقيقته.
    فإن قلتَ: فهل بينهما فرقٌ؟
    فالجواب: نعم، لأنه قد يثبت الخبر، ولكن لا يُدْرى ما وجهه!

    ولعلنا نوضح ذلك بقصة وقعت فصولها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مسجده ليوصل زوجته صفية رضي الله عنها إلى بيتها، فرآه رجلان، فأسرعا المسير فقال:
    « على رسلكما إنها صفية » (صحيح البخاري).

    فلو نقل ناقل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمشي مع امرأة في سواد الليل لكان صادقًا، لكنه لم يتبين حقيقة الأمر، وهذا هو التبين.. وهذا مثال قد يواجهنا يوميًا: فقد يرى أحدنا شخصًا دخل بيته والناس متجهون إلى المساجد لأداء صلاتهم، فلو قيل: إن فلانًا دخل بيته والصلاة قد أقيمت، لكان ذلك القول صوابًا، لكن هل تبين سبب ذلك؟ وما يدريه؟! فقد يكون الرجل لتوه قدم من سفر، وقد جمَعَ جمْع تقديم فلم تجب عليه الصلاة أصلًا، أو لغير ذلك من الأعذار.

    وهذا مثال آخر قد يواجهنا في شهر رمضان مثلًا:
    قد يرى أحدنا شخصًا يشرب في نهار رمضان ماءً أو عصيرًا، أو يأكل طعامًا في النهار، فلو نقل ناقل أنه رأى فلانًا من الناس يأكل أو يشرب لكان صادقًا، ولكن هل تبين حقيقة الأمر؟ قد يكون الرجل مسافرًا وأفطر أول النهار فاستمر في فطره على قول طائفة من أهل العلم في إباحة ذلك، وقد يكون مريضًا، وقد يكون ناسيًا... الخ تلك الأعذار.

    أيها القراء الكرام:
    وفي هذه القاعدة القرآنية دلالات أخرى، منها:
    1 ـ أن خبر العدل مقبول غير مردود، اللهم إلا إن لاحت قرائن تدل على وهمه وعدم ضبطه فإنه يرد.

    2 ـ "أنه سبحانه لم يأمر بردِّ خبر الفاسق وتكذيبه ورد شهادته جملةً، وإنما أمر بالتبين، فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق، ولو أخبر به من أخبر"(مدارج السالكين (1 / 360)).

    3 ـ ومنها: أنها تضمنت ذم التسرع في إذاعة الأخبار التي يخشى من إذاعتها، ولقد عاب ربنا تبارك وتعالى هذا الصنف من الناس، كما في قوله عز وجل:
    { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء:83]، وقال تعالى:
    { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ } [يونس:39] (ينظر: القواعد الحسان في تفسير القرآن (98)).

    4 ـ أن في تعليل هذا الأدب بقوله: { أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } ما يوحي بخطورة التعجل في تلقي الأخبار عن كل أحدٍ، خصوصًا إذا ترتب على تصديق الخبر طعنٌ في أحد، أو بهتٌ له.

    إذا تبين هذا المعنى، فإن من المؤسف أن يجد المسلم خرقًا واضحًا من قبل كثير من المسلمين لهذه القاعدة القرآنية المحكمة:
    { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا }، وازداد الأمر واتسع مع وسائل الاتصال المعاصرة كأجهزة الجوال والإنترنت وغيرها من الوسائل!

    وأعظم من يكذب عليه من الناس في هذه الوسائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكم نسبت إليه أحاديث، وقصص لا تصح عنه، بل بعضها كذب عليه، لا يصح أن ينسب لآحاد الناس فضلًا عن شخصه الشريف صلى الله عليه وسلم.

    ويلي هذا الأمر في الخطورة التسرع في النقل عن العلماء، خصوصًا العلماء الذين ينتظر الناس كلمتهم، ويتتبعون أقوالهم، وكلُّ هذا محرم لا يجوز، وإذا كنا أمرنا في هذه القاعدة القرآنية: { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } أن نتحرى ونتثبت من الأخبار عمومًا، فإنها في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق ورثته أشد وأشد.
    ومثل ذلك يقال: في النقل عما يصدر عن ولاة أمور المسلمين، وعن خواص المسلمين ممن يكون لنقل الكلام عنهم له أثره، فالواجب التثبت والتبين، قبل أن يندم الإنسان ولات ساعة مندم.

    ولا يقتصر تطبيق هذه القاعدة القرآنية: { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } على ما سبق ذكره، بل هي قاعدة يحتاجها الزوجان، والآباء مع أبنائهم، والأبناء مع آبائهم.
    ولله كم من بيت تقوضت أركانه بسبب الإخلال بهذه القاعدة القرآنية!

    هذه رسالة قد تصل إلى جوال أحد الزوجين، فإن كانت من نصيب جوال الزوجة، واطلع الزوج عليها، سارع إلى الطلاق قبل أن يتثبت من حقيقة هذه الرسالة التي قد تكون رسالة طائشة جادة أو هازلة جاءت من مغرض أو على سبيل الخطأ!
    وقل مثل ذلك: في حق رسالة طائشة جادة أو هازلة تصل إلى جوال الزوج، فتكتشفها الزوجة، فتتهم زوجها بخيانة أو غيرها، فتبادر إلى طلب الطلاق قبل أن تتثبت من حقيقة الحال!
    ولو أن الزوجين أعملا هذه القاعدة القرآنية: { فَتَبَيَّنُوا } لما حصل هذا كلّه.

    وإذا انتقلتَ إلى ميدان الصحافة أو غيرها من المنابر الإعلامية، وجدت عجبًا من خرق سياج هذا الأدب.. فكم من تحقيقات صحفية بنيت على خبر إما أصله كذب، أو ضُخّم وفُخّم حتى صُور للقراء على أن الأمر بتلك الضخامة والهول، وليس الأمر كما قيل!

    والواجب على كل مؤمن معظم لكلام ربه أن يتقي ربه، وأن يتمثل هذا الأدب القرآني الذي أرشدت إليه هذه القاعدة القرآنية الكريمة: { فَتَبَيَّنُوا }.

    جعلنا الله وإياكم من المتأدبين بأدب القرآن العاملين به، وإلى لقاء جديد بإذن الله، والحمد لله رب العالمين.

  9. مواضع الدعاء لله عز وجل


    الخطبة الأولى
    الحمد لله رب العالمين، أمر بدعائه ووعد أن يجب من دعاءه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلا إياه، وأشهدٌ أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وسلم تسليما كثير. أما بعد:
    أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وعلموا أن الدعاء هو أعظم أنواع العبادة، قال صلى الله عليه وسلم: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ ، قال الله سبحانه: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، فسمى (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي: أخلصوا له الدعاء، فدل على أن الدعاء دين يجب إخلاصه لله عز وجل، وذلك بأن لا يدعو مع الله غيره: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)، فمن يدعوا الأولياء والصالحين والموتى أو الجن فإنه قد أشرك بالله عز وجل الشرك الأكبر، المخرج من الملة لأنه دعاء غير الله وعبد غير الله سبحانه وتعالى، وقال سبحانه وتعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) أي: عن دعائي، فسمى الدعاء عبادة (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، فهناك من يستكبر عن دعاء الله ويقول: لا فائدة في الدعاء، استكباراً منه وهذا من أعظم الجحود والكفر - والعياذ بالله -، فالذي يستكبر عن عبادة الله (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، الله جل وعلا قال في النار: (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)، إذا فالمستكبر والمشرك كلهما من أهل النار محرومان من الجنة.
    فالواجب على المسلم أن يدعا ربه في كل وقت وفي كل حين، وأن يتضرع إلى الله لأن الأنبياء والرسل كانوا يدعون الله فيستجيب لهم، كما ذكر الله ذلك في سورة الأنبياء، فإذا كان الأنبياء على مكانتهم من الله قربهم من الله بحاجة إلى الدعاء وهم عبيد من عبيده سبحانه وتعالى، فكيف بهذا الإنسان المستكبر الذي يقول لا فائدة في الدعاء؟ وربما يقول بعضهم – والعياذ بالله -: إن كان هذا الشيء مقدر فلابد من حصوله وإن كان غير مقدر فلا فائدة في الدعاء – نسأل الله العافية- ، وهذا جدال بالباطل: (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لأن الذي قدر المقادير أمر بالدعاء سبحانه فلا تنافيا بين الدعاء وبين القدر، لأن الدعاء سبب من الأسباب لا يتنافى مع القدر، فيجب على المسلم أن يأخذ بالأسباب النافعة وأن يؤمن بالقضاء والقدر، هذا هو المؤمن.
    عباد الله، إن الدعاء دائماً وأبداً مطلوب، ولكنه له أوقات يتأكد حصول الإجابة فيها:
    وذلك في حالة الاضطرار: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) ففي حالة الاضطرار الله يستجيب للمضطر حتى ولو كان من الكفار، فإن الكفار إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) في البحر (دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، فهم في حالة الكربات يعلمون أنه لا ينجي منها إلا الله سبحانه وتعالى وأن أصنامهم وأوثانهم لا تقدر على إنجادهم وعلى إغاثتهم وعلى تفريج كرباتهم فهم يخلصون لله فيستجيب الله لهم وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده.
    وكذلك الدعاء في السجود، قال صلى الله عليه وسلم: أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَأكثروا فِيه من الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ ، وقال عليه الصلاة والسلام: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ، فيكثر المسلم من الدعاء في سجوده سواء كان في صلاة الفريضة أو في صلاة نافلة.
    وكذلك من الأوقات الذي يستجاب فيها الدعاء آخر الليل، ثلث الليل الآخر كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى سَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ .
    كذلك الدعاء في يوم الجمعة، فإن يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يدعو الله إلا أن الله يستجيب له سبحانه وتعالى، وهذه الساعة محتمله في كل اليوم لم يتحدد وقتها لأجل أن يجتهد المسلم في الدعاء في كل يوم الجمعة، فيكثر عمله ويعظم أجره.
    فهذه أوقات وأحوال خصها النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فإن الدعاء مطلوب في كل وقت، قال عن الأنبياء: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)، فالمسلم لا يستغني عن الدعاء أبداً.


    والدعاء على قسمين:

    القسم الأول: دعاء عبادة: وهو الثناء على الله سبحانه.
    القسم الثاني: دعاء مسألة
    وهو طلب الحوائج من الله سبحانه وتعالى، وكلا النوعين في سورة الفاتحة التي نقرأها في كل ركعة من صلاتنا فرضاً أو نفلا، فأولها دعاء عبادة وهو الثناء على الله وتمجيده وتعظيمه سبحانه في الحديث القدسي: أن الله سبحانه وتعالى يقول: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ
     يعني: قراءة الفاتحة سماها صلاةً، قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي قسمين فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، فإِذَا قَالَ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). قَالَ اللَّهُ سبحانه وتَعَالَى: أَثْنَى عَلَىَّ عَبْدِي. فإِذَا قَالَ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). قَالَ الله: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إلى آخر السورة. قَالَ الله: هَذَا لعبدي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فاحرصوا على الدعاء وفقكم الله في صلواتكم وفي جميع أوقاتكم، فإنكم بحاجة إلى الدعاء، أحوج ما تكونون إلى الطعام والشراب لأنكم فقراء إلى الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، فأنتم فقراء إلى الله لا تستغنون عنه بحال، فادعوه دائماً وأبداً، ادعوه بأسمائه وصفاته، توسلوا إليه بأسمائه وصفاته قال جل وعلا: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، فتقول : يا رحمن أرحمني، يا كريم أكرمني، يا جواد جد علي بفضلك... وهكذا، كل اسم تدعو به ربك تتوسل به إليك، وأسماء الله كثيرة منها ما ذكر في القرآن وذكر في السنة، ومنها ما لم يذكره الله لنا بل استأثر الله بها بعمله ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لربه: أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ فالمسلم يدعو الله ويكثر من الدعاء ويتوسل إليه بأسمائه وصفاته فإن الله سبحانه وتعالى قريب مجيب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
    بارك الله ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
     

    الخطبة الثانية:

    الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا. أما بعد:
    أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وأكثروا من دعاءه فأنتم الآن في شدة من ما تعلمون من الفتن، ومن تكالب الكفار على المسلمين، ومن المضايقات، ومن ما ينزل للمسلمين الآن من النكبات فأنتم في حاجة إلى الدعاء أن يفرج الله عن المسلمين ما هم فيه، والمسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تتداعى له سائر الجسد.

    فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الدعاء ولا تقنطوا من رحمة الله عز وجل فإن الله يستجيب الدعاء ولو تأخرت الإجابة فإن الله سبحانه وتعالى يقبل الدعاء: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، فالله جل وعلا أمركم بالدعاء ووعد أن يستجيب لكم وأنتم الآن بحاجة إلى الدعاء لكم ولإخوانكم أن يرفع الله ما نزل بالمسلمين من أذى الكفار ومضايقة الكفار ومن تكالب الأعداء ولا مفر إلا إلى الله: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) فروا إلى الله بالتوبة، بالاستغفار، بالدعاء، ساعدوا إخوانكم بكل قول وبكل فعل حتى يفرج الله عنهم، فإن الله سبحانه وتعالى أمر بالتعاون على البر والتقوى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)، واعلموا أن موانع الدعاء كثيرة يعني موانع قبول الدعاء كثيرة وأعظمها أكل الحرام قال صلى الله عليه وسلم: في الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ .

    فالواجب على المسلم أن يكون مطعمه من الحلال، فإن أكل الحرام يمنع قبول الدعاء، وإذا انسد باب الدعاء وباب الإجابة بينه وبين ربه فماذا تكون حاله؟
    فأكثروا من الدعاء، وأطيبوا مطاعمكم ومكاسبكم تستجب دعواتكم وتقبل، فإن الله سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب يجيب الداعي إذا دعاه ويكشف السوء ولكن بشرط:-
    أولا: الإخلاص لله في الدعاء: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً).
    ثانيا: بأكل الحلال والبعد عن الحرام
    وما أكثر الحرام اليوم في المكاسب التي دخلت على الناس سواء كانت في الوظائف والأعمال، أو كانت في البيع والشراء، أو كانت في المقاولات، أو كانت في سائر الأشياء والمعاملات فإن الحرام إذا دخل من أي طريق على المسلم فإنه يمنع قبول الدعاء وهذا خطر شديد، إذا أنسد باب الدعاء بينك وبين ربك فماذا بقي لك؟
    فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين  فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
    (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمةِ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
    اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، اللَّهُمَّ أذل الشرك والمشركين، اللَّهُمَّ دمر أعداء الدين، اللَّهُمَّ اجعل هذا البلد أمنا مستقرا وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللَّهُمَّ كفنا عنا بأس الذين كفروا فأنت أشد بأسا وأشد تنكيلا، اللَّهُمَّ اجعل كيدهم في نحورهم وكفنا شرورهم، اللَّهُمَّ سلط عليهم من يشغلهم بأنفسهم عن المسلمين إنك على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بك، عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، اللَّهُمَّ أحفظ هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين، اللَّهُمَّ أحفظها أمنةً مستقرة من كل سوء ومكروه ومن كل شر وفتنة، ومن كل بلاء ومحنة، اللَّهُمَّ  أحفظ سائر بلاد المسلمين في كل مكان يا رب العالمين، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا وجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مظلين، اللَّهُمَّ أصلح بطانتهم وأبعد عنهم بطانة السوء والمفسدين، اللَّهُمَّ ولي علينا خيارنا وكفنا شر شرارنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وقنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.
    عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، فاذكروا الله يذكركم، واشكُروه على نعمه يزِدْكم، ولذِكْرُ الله أكبرَ، والله يعلمُ ما تصنعون.
     

  10. باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    قال الله تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} [يونس (24) ] .
    ----------------
    أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بم أتاه» . وسئل الزهري عن الزاهد، فقال: من لم يغلب الحرام صبره، ومن لم يشغل الحلال شكره. وهذه الآية مثل ضربه الله تعالى لزينة الدنيا، وسرعة زوالها، وفنائها.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    قال تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} [الكهف (45، 46) ] .
    ----------------
    قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المال والبنون حرث الدنيا، والأعمال الصالحات حرث الآخرة، وقد يجمعها الله لأقوام.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    قال تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [الحديد (20) ] .
    ----------------
    الكفار أشد إعجابا بزهرة الدنيا، وأما المؤمن فإذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدره الله، وعلم أنه زائل، وقال: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    قال تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [آل عمران (185) ]
    ----------------
    أي: كمتاع يدلس به على المستام فيغر ويشتريه، فمن اغتر بها وآثرها فهو مغرور.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    قال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} [آل عمران (14) ]
    ----------------
    في هذه الآية تزهيد في الدنيا، وترغيب في الآخرة.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    قال تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} [فاطر (5) ] .
    ----------------
    أي: لا يذهلكم التمتع بالدنيا عن طلب الآخرة، والسعي لها، ولا يغرنكم الشيطان بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    قال الله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا} [الأعراف (169) . ***
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    قال تعالى: {ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين} [التكاثر (1: 5) ] .
    ----------------
    أي: لو تعلمون علما يقينا لما ألهاكم شيء عن طلب الآخرة، حتى صرتم إلى المقابر.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    قال تعالى: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت (64) ] .
    ----------------
    أي: لو كانوا يعلمون لم يؤثروا الدنيا على الآخرة، التي هي الحياة الحقيقة الدائمة، فإن الدنيا سريعة الزوال، ونعيمها لهو ولعب، كما يبتهج به الصبيان ساعة، ثم يتفرقون عنه لاغيين متعبين.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن عمرو بن عوف الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآهم، ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟» فقالوا: أجل، يا رسول الله، فقال: «أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم» . متفق عليه.
    ----------------
    بلاد البحرين: بين البصرة وهجر، وسميت (البحرين) ، لاجتماع البحر العذب والملح فيها، فإن الماء العذب تحت البحر، فإذا حفر الحاجز بينهما نبع العذب وارتفع. قوله: فتنافسوها كما تنافسوها. التنافس أول درجات الحسد. وفي رواية عند مسلم: «تنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون» . قال ابن بطال: فيه: أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: «إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها» . متفق عليه.
    ----------------
    زهرة الدنيا: زينتها وبهجتها. قال تعالى: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} [طه (131) ] .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» . رواه مسلم.
    ----------------
    قوله: «خضرة حلوة» ، أي: جامعة بين الوصفين المحبوبين للبصر والذوق، كالفاكهة. وفي الحديث: التحذير من فتنة المال، وفتنة النساء.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة» . متفق عليه.
    ----------------
    هذا الكلام قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشد أحواله، لما رأى تعب أصحابه في حفر الخندق، وقاله في أسر الأحوال أيضا لما رأى كثرة المؤمنين في يوم عرفة، لبيك إن العيش عيش الآخر، أي الحياة الدائمة التي لا حزن فيها ولا تعب.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أنس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله: فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد: يرجع أهله وماله ويبقى ... عمله» . متفق عليه.
    ----------------
    الغالب أن المرء إذا مات تبعه أهله، وما احتيج إليه من ماله في تجهيزه، وإذا دفن رجعوا ودخل عمله معه في قبره، كما في حديث البراء. «ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح» . الحديث.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أنس - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط» . رواه مسلم.
    ----------------
    فيه: أن عذاب الآخرة ينسي نعيم الدنيا، وأن نعيم الآخرة ينسي شدة الدنيا. قال الله تعالى: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون} [المؤمنون (112: 114) ] . وقال تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} [فاطر (34، 35) ]
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن المستورد بن شداد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع!» . رواه مسلم.
    ----------------
    مثل - صلى الله عليه وسلم - زمان الدنيا في جانب زمان الآخرة، ونعيمها بنسبة الماء الملاصق بالأصبع إلى البحر، قال الله تعالى: {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} [التوبة (38) ] .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بالسوق والناس كنفتيه، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟» فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ ثم قال: «أتحبون أنه لكم؟» قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا، أنه أسك فكيف وهو ميت! فقال: «فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» . رواه مسلم.
    ----------------
    قوله: «كنفتيه» أي: عن جانبيه. و «الأسك» : الصغير الأذن. فيه: أن الدنيا عند الله أذل وأحقر من التيس الصغير الأصمع الميت عند الناس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه وعالما ومتعلما» .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرة ... بالمدينة فاستقبلنا أحد، فقال: «يا أبا ذر» قلت: لبيك يا رسول الله. فقال: «ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا» عن يمينه وعن شماله وعن خلفه، ثم سار، فقال: «إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا» عن يمينه وعن شماله ومن خلفه «وقليل ما هم» . ثم قال لي: «مكانك لا تبرح حتى آتيك» ثم انطلق في سواد الليل حتى توارى، فسمعت صوتا، قد ارتفع، فتخوفت أن يكون أحد عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأردت أن آتيه فذكرت قوله: «لا تبرح حتى آتيك» فلم أبرح حتى أتاني، فقلت: لقد سمعت صوتا تخوفت منه، فذكرت له، فقال: «وهل سمعته؟» قلت: نعم، قال: «ذاك جبريل أتاني. فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة» ، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» . متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.
    ----------------
    اشتمل هذا الحديث: على فوائد كثيرة، وقواعد عظيمة. وفيه: البشارة بعدم خلود المسلم في النار وإن عمل الكبائر، فإن تاب منها في الدنيا لم يدخل النار إلا تحلة القسم، وإن لم يتب فأمره إلى الله إن شاء غفر له وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه. قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} [النساء (116) ] .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو كان لي مثل أحد ذهبا، لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين» . متفق عليه. ***
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» . متفق عليه
    ----------------
    وهذا لفظ مسلم. وفي رواية البخاري: «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه» . هذا الحديث: جامع لمعاني الخير. وفيه: دواء كل داء من الحسد وغيره. وفي الحديث الآخر: «رحم الله عبدا نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله وشكره، وفي دينه إلى من هو فوقه، فجد واجتهد» . وعن عمرو بن شعيب مرفوعا: «خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا: من نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، وأما من نظر في دنياه إلى من هو فوقه وآسف على ما فاته، فإنه لا يكتب شاكرا ولا صابرا» . قال بعض السلف: صاحبت الأغنياء فكنت لا أزال في حزن، فصحبت الفقراء فاسترحت. وفي حديث مرفوع: «أقلوا الدخول على الأغنياء، فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة الله» .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أبي هريرة - رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض» . رواه البخاري.
    ----------------
    في هذا الحديث: ذم الحرص على الدنيا، حتى يكون عبدا لها، رضاه وسخطه لأجلها.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء: إما إزار، وإما كساء، قد ربطوها في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. رواه البخاري.
    ----------------
    في هذا الحديث: أن الدنيا لو كانت مكرمة عند الله، لخص أصفياءه بها، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر» . رواه مسلم.
    ----------------
    معنى ذلك: أن الدنيا سجن المؤمن بالنسبة إلى ما أعد له من النعيم، وجنة الكافر بالنسبة إلى ما أعد له من العذاب وأيضا فإن المؤمن ممنوع من الشهوات المحرمة، والكافر منهمك فيها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» . وعن أبي سهل الصعلوكي الفقيه، وكان ممن جمع رياسة الدين والدنيا، أنه كان في بعض مواكبه إذ خرج عليه يهودي، بثياب دنسة، فقال: ألستم تزعمون أن نبيكم قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» . وأنا كافر وترى حالي، وأنت مؤمن وترى حالك، فقال له: إذا صرت غدا إلى عذاب الله كانت هذه جنتك، وإذا صرت أنا إلى النعيم، ورضوان الله صار هذا سجني، فعجب الناس من فهمه وسرعة جوابه.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل» . وكان ابن عمر رضي الله عنهما، يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. رواه البخاري.
    ----------------
    قالوا في شرح هذا الحديث معناه: لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنا، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، وبالله التوفيق. في هذا الحديث: الحض على تقصير الأمل، والمبادرة إلى العمل، وترك التراخي والكسل. في الحديث الآخر: «اغتنم خمسا فبل خمس شبابك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس» . حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة.
    ----------------
    اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين فإذا عمل بهما أحبه الله وأحبه الناس. والزهد: هو القناعة بما أعطاك الله، والتعفف عن أموال الناس، وكان عمر يقول على المنبر: إن الطمع فقر وإن اليأس غنى. وقال أيوب السختياني: لا يقبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان، العفة عما في أي الناس، والتجاوز عما يكون منهم. وفي الحديث المرفوع: «حب الدنيا رأس كل خطيئة» . وقال الشافعي رحمه الله تعالى: وما هي إلا جيفة مستحيلة ... ?? ... عليها كلاب همهن اجتذابها ... ??? فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... ?? ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها ... ??
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: ذكر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه. رواه مسلم.
    ----------------
    «الدقل» بفتح الدال المهملة والقاف: رديء التمر. فيه: زهده - صلى الله عليه وسلم - وصبره، وحقارة الدنيا عنده، فإن الله تعالى خيره في أن يكون ملكا نبيا أو عبدا نبيا فاختار أن يكون عبدا، وقال: «يا رب، أجوع يوما وأشبع يوما، فإذا جعت سألتك، وإذا شبعت شكرتك» .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن عائشة رضي الله عنها، قالت: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني. متفق عليه.
    ----------------
    قولها: «شطر شعير» أي: شيء من شعير،، كذا فسره الترمذي. في هذا الحديث: إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عن الدنيا، وعدم النظر إليها. وفيه: استحباب عدم كيل القوت توكلا على الله، وثقة به فإن تكثير الطعام القليل من أسرار الله الخفية، ولا يخالف هذا الحديث: «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه» . قال الحافظ: الكيل عند المبايعة محبوب من أجل تعلق حق المتبايعين وأما الكيل عند الإنفاق فالباعث عليه الشح؛ فلذا كره.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن عمرو بن الحارث أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين، رضي الله عنهما، قال: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة. رواه البخاري.
    ----------------
    فيه: أن الإماء والعبيد الذين ملكهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته لم يبقوا على ملكه بعد وفاته، فمنهم من أعتقه، ومنهم من مات قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - وقد قال ... النبي - صلى الله عليه وسلم - «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نلتمس وجه الله تعالى، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا، منهم: مصعب بن عمير - رضي الله عنه -، قتل يوم أحد، وترك نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه، بدت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه، بدا رأسه ، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها. متفق عليه.
    ----------------
    «النمرة» : كساء ملون من صوف. وقوله: «أينعت» أي: نضجت وأدركت. وقوله: «يهدبها» هو بفتح الياء وضم الدال وكسرها لغتان: أي: يقطفها ويجتنيها، وهذه استعارة لما فتح الله تعالى عليهم من الدنيا وتمكنوا فيها. في هذا الحديث: ما كان عليه السلف من الصدق في وصف أحوالهم. وفيه: أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار. وفيه: أن الكفن يكون ساترا لجميع البدن.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) .
    ----------------
    فيه: حقارة الدنيا عند الله تعالى، ولهذا ملكها تعالى في الغالب للكفار والفساق لهوانهم عليه، وحمى منها في الغالب الأنبياء والصالحين لئلا تدنسهم.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله تعالى، وما والاه، وعالما ومتعلما» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن) .
    ----------------
    فيه: ذم ما أشغل من الدنيا عن ذكر الله وطاعته، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} [المنافقون (9) ] ، وأما ما أعان على طاعة الله من الدنيا فليس بمذموم، قال تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} [النور (37) ] ، وفي حديث مرفوع: «لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر» .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن) .
    ----------------
    الضيعة: العقار الذي يحتاج إلى عمل، والمراد لا تتوغلوا في ذلك فترغبوا عن صلاح آخرتكم وتشتغلوا في طلب الدنيا فلا تشبعوا منها
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: مر علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نعالج خصا لنا، فقال: «ما هذا؟» فقلنا: قد وهى، فنحن نصلحه، فقال: «ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك» . رواه أبو داود والترمذي بإسناد البخاري ومسلم، وقال الترمذي: ... (حديث حسن صحيح) .
    ----------------
    الخص: بيت يعمل من القصب ونحوه. وفيه: شاهد لحديث ابن عمر: «إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح» .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن كعب بن عياض - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي: المال» . رواه الترمذي، وقال: ... (حديث حسن صحيح) .
    ----------------
    قوله: «فتنة» ، أي: ابتلاء واختبار. قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء (35) ] ، وقال تعالى: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم} [الأنفال (28) ] .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين/ضعفه الالبانى فى تحقيقه لرياض الصالحين
    عن أبي عمرو، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو ليلى عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء» . رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح» .ضعفه الالبانى فى تحقيقه لرياض الصالحين
    ----------------
    قال الترمذي: سمعت أبا داود سليمان بن سالم البلخي، يقول: سمعت النضر بن شميل، يقول: الجلف: الخبز ليس معه إدام، وقال غيره: هو غليظ الخبز. وقال الهروي: المراد به هنا وعاء الخبز، كالجوالق والخرج، والله أعلم. الحق هنا: ما يستحقه الإنسان لاحتياجه إليه في كنه من الحر والبرد، وستر بدنه، وسد جوعته، وما سوى ذلك فهو من حظوظ النفس لا من حقوقها. قال بعض الزهاد: لقرص شعير ثافل غير مالح ... ?? ... بغير إدام والذي خلق النجوى ... ??? مع العز في بيتي وطاعة خالقي ... ?? ... ألذ على قلبي من المن والسلوى ... ??
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن عبد الله بن الشخير - بكسر الشين والخاء المشددة المعجمتين - رضي الله عنه -، أنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يقرأ: {ألهاكم التكاثر} قال: «يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» ؟! . رواه مسلم.
    ----------------
    أي ليس لك من مالك إلا ما انتفعت به في دنياك، بأكل أو لبس أو ادخرته لآخرتك، وما سوى ذلك فهو لورثتك. قال بعض السلف: اجعل ما عندك ذخيرة لك عند الله، واجعل الله ذخيرة لأولادك.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، والله إني لأحبك، فقال له: «انظر ماذا تقول؟» قال: والله إني لأحبك، ثلاث مرات، فقال: «إن كنت تحبني فأعد للفقر تجفافا، فإن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن) .
    ----------------
    «التجفاف» بكسر التاء المثناة فوق وإسكان الجيم وبالفاء المكررة: وهو شيء يلبسه الفرس، ليتقى به الأذى، وقد يلبسه الإنسان. لما كان - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس في الدنيا، كان المحب التابع له متصف بذلك لقوة الرغبة، وصدق المحبة فالمرء مع من أحب، ومولى قوم منهم في العسر واليسر فمن أحب أن يكون معهم في نعيم الآخرة فليصبر كما صبروا في الدنيا. قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} [آل عمران (142) ] .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) .
    ----------------
    فيه: الحذر من الحرص على المال والشرف، فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة، ورزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها» .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء. فقال: «ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) .
    ----------------
    فيه: الإرشاد إلى ترك الاهتمام بعمارة الدنيا، والحث على الاعتناء بعمارة منازل الآخرة، وأن الدنيا دار عبور إلى دار الحبور.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمئة عام» . رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح» .
    ----------------
    فيه: فضل الفقير الصابر على الغني الشاكر، لأن الأغنياء يحبسون للحساب.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن ابن عباس وعمران بن الحصين - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ... «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء» . متفق عليه من رواية ابن عباس
    ----------------
    ، ورواه البخاري أيضا من رواية عمران بن الحصين. فيه: التحريض على ترك التوسع في الدنيا. وفيه: التحريض للنساء على المحافظة على أمر الدين ليسلمن من النار.
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار» . متفق عليه.
    ----------------
    و «الجد» : الحظ والغنى. وقد سبق بيان هذا الحديث في باب فضل الضعفة. أصحاب النار هنا: هم الخالدون فيها، وهم الكفار، قال الله تعالى: {لا يصلاها إلا الأشقى} [الليل (15) ] ، وقال تعالى: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها} [الزمر (71) ] ، وقال تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} [الرحمن (55) ] .
    أضف للمفضلة نسخ النص تصميم دعوي
    باب فضل الزهد في الدنياتطريز رياض الصالحين
    عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» . متفق عليه.
    ----------------
    يشهد لهذا البيت قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص (88) ] ، كان لبيد من فحول شعراء الجاهلية، وهو من هوازان، وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وحسن إسلامه، وكان من المعمرين، عاش فوق مئة سنة، وكان شريفا في الجاهلية والإسلام، ولم يقل شعرا بعد إسلامه، وكان يقول: أبدلني الله به القرآن إلا بيتا واحدا: ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... ?? ... والمرء يصلحه القرين الصالح ... ??? قال الشافعي: ولولا الشعر بالعلماء يزري ... ?? ... لكنت اليوم أشعر من لبيد ... ???
    أضف للمفضلة 

  11. القرآن تدبره والعمل به 
     
     
     
     
    الخطبة الأولى :

    { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } ، و { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنْ محمداً عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد :

    أيُّها النَّاس ، اتقوا الله تعالى ، واشكروه على نعمته العظيمة التي أعظمها بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا القرآن العظيم ، قال الله سبحانه وتعالى :
    { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } ، 
    فالله سبحانه وتعالى اختار هذه الأمة ، اختار منها هذا الرسول ، وأنزل عليها هذا القرآن ، لتكون حاملةً لشرعه والدعوة إليه لعلمه سبحانه وتعالى بأهلية هذه الأمة قال تعالى : 
    {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } ، 
    كانت حالة العرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم حالةً مزرية ، كانوا لا يقرؤون ولا يكتبون ولذلك سماهم الله بالأمَّيين ، لأن الأمَّي هو الذي لا يقرأ ، وليس لهم كتاب من عند الله عز وجل ، ما أنزل عليهم من كتاب كما أنزل على اليهود والنصارى وأصحاب الديانات السماوية ، بل كان العرب أتباعاً لغيرهم ، ولا يعتبر لهم قيمة ، فالله سبحانه وتعالى بعث فيهم رسوله ، وأنزل عليهم كتابه ، فصاروا علماء فقهاء حلماء سادوا العالم بأجمعه ، فصار العالم تبعاً لهم ويتعلمون منهم : 
    { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } وهو القرآن { وَيُزَكِّيهِمْ } يطهرهم من الشرك والكفر { وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } الكتاب هو القرآن ، والحكمة هي الفقه في دين الله عز وجل ، { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ } أي : قبل بعثة هذا الرسول { لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء ، كانوا أحط الأمم لا يقام لهم وزن ، وليس لهم قيمة بين الناس ، فلما بعث الله هذا الرسول فيهم وأنزل عليهم هذا الكتاب وفقهوه وعملوا به ، صاروا أساتذة الدنيا علماً وعملاً وجهاداً ودعوةً إلى الله سبحانه وتعالى ، فأنعم الله بذلك عليهم نعمة عظيمة يجب عليهم أن يشكروها وأن يقوموا بهذا القرآن كما قام به أسلافهم الذين سادوا العالم ، يقوم به متأخر وهم كما قام به أسلافهم هذا الواجب على هذه الأمة المحمَّدية ، أن لا تتخلى عن مهمتها فإن تخلت عن مهمتها عادت إلى حالتها في الجاهلية وصاروا أتباعاً لأعدائهم وأتباعاً للأمم السابقة أو الأمم المجاورة كما هو الواقع اليوم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فلا عزَّ لهذه  الأمة ولا دولة لهذه الأمة إلا بالقيام بهذا القرآن العظيم تعلماً وتعليماً وتفقهاً وتدبراً وعملاً به ؛ ولكن الواقع اليوم في كثير من المسلمين هو العكس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فلما تركوا هذه النعمة تكاسلوا عنها هانوا عند الله وهانوا عند الناس ، وذهبت عزتهم ومكانتهم ، ولا تعود إليهم إلا بالعود إلى هذا القرآن الكريم والعمل به ، والجهاد بهذا القرآن ، قال الله جل وعلا: 
    { فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } أي : هذا القرآن { جِهَاداً كَبِيراً } ؛ 
    ولكن كما ذكر الله سبحانه وتعالى مما يكون من حالة هذه الأمة مع القرآن قال جلَّ وعلا : 
    { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } أي : تركوه ، الهجر هو الترك فتركوا القرآن الذي به عزهم وقوتهم وشرفهم كما قال جلَّ وعلا : { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أي : شرفكم وذكركم في الناس { فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ } ، وقال جلَّ وعلا :
    { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } سوف تسألون عن هذا القرآن الذي أهملتم العمل به ، وسوف تسألون يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى : { إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } والهجر هو الترك ، وهو يتنوع ، فمنه الهجر تعلم القرآن تعليم القرآن ، ومنه هجر التلاوة يتعلمونه ويحفظونه ولكن لا يتلونه ويرددونه في صلواتهم وفي عبادتهم وفي خلواتهم وفي مساجدهم وفي حالاتهم لا يتلون القرآن ولا يستمعون إليه ، وإنما يستمعون إلى اللهو واللعب والأغاني والضحك والتمثيليات والسُخريات وما أشبه ذلك ، هل يليق بالمسلم أن يكون كذلك ؟ فهم هجروا تلاوة القرآن ، وكذلك من هجر القرآن عدم التفقه في معانيه وتدبره : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } ، { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } ، { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } فلابد من التدبر لهذا القرآن ، القرآن لا يردد على اللسان يتغنى به ويرتل ويزين به الصوت فقط وإنما يتدبر ويتفهم معانيه ، ثم أيضاً لا يكفي هذا لابد من العمل به ، أمَّا من يقيم حروف القرآن ويتقن التلاوة ولكن لا يعمل به فهذا ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم : 
    " إنهم يقيمون القرآن إقامة السهم ولكن لا يتجاوزون حناجرهم " ،
    إنما يشغلون به ألسنتهم فقط تلاوةً واحترافاً ومباهاة ، وأما العمل به فقليلٌ من يعمل به ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وكذلك من هجر القرآن هجر الحكم به في المحاكم ، لأن الله أنزله حكماً بيننا فيجب أن يكون الحكم بهذا القرآن عند المسلمين ، لا يستوردون القوانين الطاغوتية ويحكمون بها : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً } ، { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ، عندنا القرآن هو الحكم بيننا فيما تنازعنا فيه لا في الخصومات فقط ، بل وفي المذاهب والأقوال والاجتهادات والمقالات ، لابد أن نحكم القرآن ونرجع إليه ونتبع القرآن في كل ما اختلفنا فيه لا في الخصومات فقط ، لا يكفي هذا ، بل لابد أن نحكمه في العقائد ، لابد أن نحكمه في السلوك والأخلاق ، لابد أن نحكمه في التعامل فيما بيننا ، لابد أن يكون القرآن هو الحكم بيننا في كل شيء من أمورنا ولا نحكمه في ناحية دون أخرى ، لأن هذا من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه ، فالذي حكم  القرآن في جانب ويتركه في جانب آخر أو في جوانب ، هذا من الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، لابد أن يكون القرآن حاكماً في كل شؤوننا وأمورنا ، فلابد أن يحكم القرآن عند المسلمين في كل ما اختلفوا فيه ، وأن يرجع إليه ، فمن كان الدليل معه يؤخذ به ، ومن كان مخالفاً للدليل يرد قوله ولا عبرة به ، هذا هو واجبنا نحو القرآن ، وكذلك يحكم القرآن في الاستدلال ، فلا نستدل بعلم الكلام وعلم المنطق على أمور العقيدة ونترك القرآن والسنة كما عليه علماء الكلام والمناطقة في عقائدهم المبنية على الجدل ولا يرجعون إلى القرآن في عقائدهم ، فهذا كله من هجر القرآن العظيم ، فعلينا أن نرجع إلى الله ، وأن نتمسك بهذا الكتاب في كل شؤوننا ، في كل حياتنا ، في كل تصرفاتنا ، يكن هذا القرآن حكماً بيننا في كل ما اختلفنا فيه من عقائدنا ، ومن خصوماتنا ، ومن مذاهبنا لابد أن نحكم هذا القرآن لأن الله أنزله للحكم به فيما اختلفنا فيه : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعنا بما فيه من البيان والذكرِ الحكيم ، أقولٌ قولي هذا واستغفرُ الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم .

    الخطبة الثانية :

    الحمد لله على فضله وإحسانه ، وأشكروه على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليماً كثيرا ، أما بعد :
    أيُّها الناس ، اتقوا الله تعالى ، إن تعليم القرآن اليوم ولله الحمد قد انتشر في جمعيات القرآن ، وفي المدارس ، مدارس تحفيظ القرآن ، انتشر التحفيظ تعليم القرآن ، وهذا عمل جليل ويُبشر بخير؛ ولكن لا يكفي أن نقتصر على تعلم القرآن وتعليمه ، بل لابد وكما سبق لابد من خطوات أخرى مع القرآن ، أعظمها إتباع القرآن والعمل به وإلا فمن حفظ القرآن وأتقنه وجود تلاوته ولكنه لا يعمل به فإنه يكون حجة عليه ويوم القيامة ، أمَّا من تمسك به وسار على نهجه وعمل به فإنه يكون حجة له عند الله سبحانه وتعالى ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ " ، لابد من أحد الأمرين إن عملت به صار حجة لك ، وإن لم تعمل به صار حجة عليك عند الله سبحانه وتعالى ، والله جلَّ وعلا قال لرسوله : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } من بلغه القرآن قامت عليه الحجة ، وتمت عليه النعمة ، وهو مسئول عن ذلك يوم القيامة .
    فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله ، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمور مُحدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ، وعليكم بالجماعة ، فإنَّ يد الله على الجماعة ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
    { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ، 
    اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين ، الأئمةِ المهديين ، أبي بكرَ ، وعمرَ ، وعثمانَ ، وعليٍّ ، وعَن الصحابةِ أجمعين ، وعن التابِعين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين .
    اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واجعل هذا البلد آمناً مستقراً وسائر بلاد المسلمين عامةً يا ربَّ العالمين ، اللَّهُمَّ من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه ، واردد كيده في نحره ، واجعل تدميره في تدبيره إنَّك على كل شيء قدير ، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا ، وولِّ علينا خيارنا ، واكفنا شر شرارنا ، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا ، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، اللَّهُمَّ أصلح بطانتهم وأبعد عنهم بطانة السوء والمفسدين ، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمور المسلمين في كل مكان يا رب العالمين ، {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .

    عبادَ الله ، { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } ، فاذكروا الله يذكركم ، واشكُروا نعمه يزِدْكم ، { وَلَذِكْرُ اللَّـهِ أَكْبَرُ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } .

    عن موقع الشيخ الفوزان


  12. بالآخرة سيقف أمامك أشخاص تخاصمهم وتأخذ من حسناتهم وأنت لا تعرفهم، وربما لم ترهم من قبل!
    لماذا؟؟
    لقد اغتابوك..أو أساؤوا الظن بك.. أو كذبوا عليك..أو قدموا أنفسهم عليك بمعاملة..إلخ
    -حسناتهم أسعدتك.. ومضرتهم ما أزعجتك
    نوع جميل من الرزق.
     
     
    هنالك من يتمنى أن يرجع أبواه للحياة فيقول لهما ومن كل قلبه:
    أحبك!
    لكي يفرحهما بهذه الكلمة
    وقد ندم أنه ما قالها كثيرا
    وأنت أبواك أمامك، فلماذا تتثاقل هذه الكلمة؟
    ماذا تنتظر؟
    هل تنتظر إلى أن تفقدهما كما فقدهما غيرك..فتندم كما ندموا؟!
    الآن قل لأمك وأبيك: أحبك
    كلمة:
    "أحبك"
    قصـيـرة
    وخـفيـفـة
    جدا جميلة
    إنها لن تُتعبك
    ولن تأخذ وقتك
    مفعولـها كالسـحر
    تزيدك بعين المستمع
    وتثقل ميزانك عند الخالق
    وأنت تود سماعها من غيرك
    فقلها اليوم، لكي تسمعها غدا
    "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان"
     
     
    -ما الذي ضايقك؟
    شخص شتم أهل بلدي
    -ولماذا تضايقت؟
    لأنه سوء خلق
    -وماذا فعلت لهم؟
    استهزأت ببلدهم!
    -ما ذنب الآلاف الذين لم يشتموا؟
    هم الذين بدأوا أولا!
    -لكنهم ما شتموا؟! الذي شتم شخص واحد أو اثنان أو حتى مائة! لماذا تشتم بلدا كاملا بها الآلاف؟!
    قال ﷺ: "الظلم ظلمات يوم القيامة"
     
     
    كل عنصري لن يموت حتى يذوق من نفس طعم مرارة العنصرية الظالمة قبل موته..
    -إما أن يسافر لبلد فيعامله شخص بعنصرية
    -أو أن يكون تحت مسؤول بالعمل فيظلمه
    -أو يخسر من أموال يستحقها بسبب ظلم
    -أو تكون له معاملة فيقدموا غيره عليه
    المهم:
    أن يذوق طعم ظلم العنصرية!
    قال النبيﷺ:
    "لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر"
    الجزاء من جنس العمل
     
     
     
    دائره كبيرة كبيرةهل تسمح لكل أحد أن يدخل بيتك؟
    -لا
    كذلك الله، لا يُدخل كل أحد لبيته
    -كيف يمنعهم؟
    إذا كره الله ذهاب أحد للعبادة بسبب ذنوبه فإنه يجعله يحس بكسل فيتثاقل
    قال تعالى:
    "ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين"
    دائره كبيرة كبيرةهل سوف تذهب للمسجد عندما يفتح؟
    -نعم!
    إذن أنت لست منهم




     
    كيف يحاسبنا الله؟
    إنه سوف ينظر في أعمالنا ثم يختار أكثرها ثوابا ويجعل البقية مثل ثوابه
    مثلا: يختار أفضل يوم لك صياما وقياما برمضان،
    ويجعل أجر بقية الأيام مثله
    وكذلك في خشوع صلاتك وفي تلاوتك..إلخ
    قال تعالى: "ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"
    هل رأيت أكرم من الله؟
    فاجتهد
     
    ·
     
    لو حصلت لك فرصة أن ترد ردا قويا يطير جبهته!
    وأنت تعلم أنك لوفعلت ذلك فسوف يضحكون عليه وتنتشر تغريدتك
    وستصبح مشهورا بقوة الردود!
    ثم تركت كل هذا لله!
    ورددت ردا طيبا جعلك تقترب من الرسول ﷺ بالجنة
    وأصبحت مشهورا في السماء بحسن الخلق
    وإن لم يشعر بك أهل الأرض
    بالله عليك ماذا تختار؟
     
     
    شعور التوكل:
    فلا تعتمد على الله فقط ليعطيك ما تحبه من مال، زواج، صحة، ذرية.. وإن كان هذا خيرا.
    بل أيضا توكل عليه أثناء الدعاء أن يعطيك ما يحبه هو من خشوع، هيبة، محبة، حياء..
    فكما أنك تتوكل عليه للحصل على ما تحبه أنت..
    فتوكل عليه أيضا للحصول على ما يحبه هو..
    وهذا من أدق المشاعر





     
    كلنا قد يقول نفس الكلمات بالدعاء، لكن السر هو في مشاعر القلب
    فكلما استعملت مشاعر أقوى وأكثر أثناء الدعاء كانت دعوتك أقوى، حتى أنها تصل إلى مرتبة عالية من القوة لدرجة أنها في لحظة من اللحظات قد تحرق ذنوبك كلها بل وربما تدخلك الجنة
    فخذ من المشاعر ما تستطيع





     
    شعور الإحسان:
    وهذا أعلى ما يمكن أن تصل إليه في العبادة..!
    وهي مرحلة تكون فيها أثناء العبادة كأن الحجاب الذي بينك وبين الله قد كشفوه لك خاصة لوحدك، فصرت ترى وجه الله وأنت تتعبد..
    كيف ستكون كلماتك أثناء الدعاء؟
    كيف سيكون قلبك وأنت تنظر لوجه الله وترى جماله وجلاله؟

     


    ..........................

     
    -طلبك منا أن لا نُعجب بعبادتنا سوف يجعلنا نقلل من العمل!
    سؤال من فضلك:
    عندما كنت تتعبد،
    هل كنت تعمل لنفسك، أم لربك؟
    سوف تقول: أعمل لربي طبعا.
    -ممتاز.. إذن لماذا تهتم بالإعجاب بنفسك؟!
    إذا كنت ستقلل من العمل فقط لأنك لن تعجب بنفسك،
    فهذا يعني أنك كنت تعمل لنفسك وليس لربك.
    فانتبه!
    قد يقول قائل: المشكلة أننا مع الانشغال ننسى بعض هذه الوصايا السبع،
    فماذا أفعل لكي لا أنساها؟!
    المفاجأة أنك أصلا تحفظها وأنت لا تشعر..!
    ألم تلاحظ أنها كلها موجودة في سورة الفاتحة؟؟
    إرجع إليها وطابق كل نقطة مع آية من آيات الفاتحة وسوف تجدها بالترتيب..
    بقي عليك فقط أن تطبقها
     
    ١-أذكر الله
    البسملة
    ٢-الشكر
    الحمدلله رب العالمين
    ٣-الرحمة
    الرحمن الرحيم
    ٤-اطلب العتق يوم الدين
    مالك يوم الدين
    ٥-الإخلاص والتوكل
    إياك نعبدوإياك نستعين
    ٦-خطة واضحة للعبادة
    اهدنا الصراط المستقيم
    ٧-اتبع الصالحين واترك غيرهم
    صراط الذين أنعمت عليهم..إلخ الآية
     
     
     
    ............................
    أفضل صائم في العالم هو الذي يكون من فئة:
    (خاصة الخاصة)
    وهو نوع نادر من الصائمين.. أتدري لماذا؟
    لأنه يصوم عن ثلاثة أشياء:
    ١-إنه يصوم عن المفطرات طبعا.
    ٢-ويصوم كذلك عن المحرمات.
    ٣-بل ويصوم حتى عن المباحات.
    فنهار صيامه كله حسنات.. أذكار، تلاوة، صلاة،
    بر والدين..الخ.
    هل تستطيع؟
    اتصالها يزعجك؟
    لكن صراخك طوال الليل لم يكن يزعجها مع أنه يزعج كل “الناس”، فلا تضحك مع كل “الناس” وتكون جامدا معها
    هل تتلطف مع أمك بالهاتف؟
     
     
    بشارة!
    هل رأيت شيبة في شعرك؟
    قال النبي ﷺ: من شاب شيبة في الإسلام كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة.
    أفرحوا بها من شاب
     
     
    إذا اكتفت الفتاة بتمني رجل يكون فارس أحلامها فستبقى في الأحلام.. وإذا طورت نفسها وترقت بأخلاقها فستصبح حلم كل الرجال
     
     
    تقع مشكلة فنشتكي لكل الذين هم حولنا ولا نكلم أقربهم إلينا، قال تعالى: “ونحن أقرب إليه من حبل الوريد”
    إنه يحب أن يسمع منك، ادع في سجودك وكلمه
     
     
    لماذا عندما تنصح بعض الناس لايتأثرون؟
    قال ابن القيم: كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنفعه المواعظ.
    مات ملايين من البشر وهم يبحثون عن أجمل شعور في الدنيا.. ولكن لم يصل إليه إلا القليل.. إنه شعور حلاوة الطاعة.. والذي ذاقه يعرف عن ماذا اتحدث.
     
     
    هل فعلا تظن أن كل مشكلة حدثت لك فهي إبعاد من الله؟!
    لا.. الأنبياء كانوا أشد الناس بلاء.. وهم خير الخلق ، فأحسن الظن بربك وهو سيكون عند ظنك.
    عندما تطيل الحديث والشكوى مع الله فلن تحتاج لرفع صوتك ولا للاعتذار عن التطويل أو التحرج من تكرار الطلب أو الخجل من البكاء أمامه.. إنه ربك.
    ......................................
     
    تخيل لو رفع الله الستر الذي لايزال يتفضل به علينا فعلم أحبابك بكل أخطائك التي تبت منها..إنهم لن يحبوك، فمن الذي يعلمها ولايزال يحبك؟
    إنه الله
     
     
    هل تظن أن من جرحك بكلمة أو اغتابك ضرك؟
    إنه قد أهداك كمية من أغلى الأشياء التي يملكها وتعب في تحصيلها "حسنات أعماله الصالحة"، فما الذي يحزنك؟
     
     
     
    لا تحزن على أي شيء تأخرت بالوصول إليه.. فكم من حادث أنجاك الله منه بزحام وتأخير، إلا مكان واحد لن ألومك لو حزنت للتأخر عليه "الفردوس الأعلى"
     
     
    تذهب إلى الساحر وأنت تعلم:
    ١-أنه لن يغلب الله.
    ٢-أن السحر لن يدوم.
    ٣-انك ستخرج من الإسلام.
    ٤-أن شدة العذاب يوم القيامة ستنسيك كل آثار السحر.
     
    ·
    إدخالك للإنسان في الإسلام ليس جرعة واحدة ١٠٠٪ بل أحيانا تكون سببا في٢٠٪ بحسن تعاملك معه ويُدخل غيرك ٣٠٪ بسلوكه الطيب وآخر ٥٠٪ تكون بالإقناع.
     

  13. خطبة لفضيلة الشيخ الدكتور

    سعـــــد بن تركــــــي الخثـــــــــــلان

     
       

     

     

    الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، جامع الناس ليومٍ لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

    أما بعد:

    فاتقوا الله أيها المسلمون، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾[الأحزاب:70-71].

    عباد الله:

    نقف في هذه الخطبة وقفاتٍ يسيرة مع سورةٍ عظيمة من كتاب ربنا -عَزَّ وَجَل- نقرأها كثيرًا، ونحفظها، ولكن قلَّ من يقف عند معانيها العظيمة متأملًا ومتدبرًا.

    ? إنها سورة (القارعة) هذه السورة العظيمة التي تضمنت معانٍ عظيمةٍ وكبيرة يقول فيها ربنا -عَزَّ وَجَل-: ﴿الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)﴾[القارعة:1-2].

    و﴿الْقَارِعَةُ﴾ اسم فاعل من (قَرَعَ): والمراد التي تقرع القلوب وتُفزعها وذلك عند النفخ في السور، كما قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾[النمل:87].

    فهي تُقرِع القلوب بعد قرع الأسماع، هذه القارعة قارعةٌ عظيمةٌ لا نظير لها قبل ذلك، وهي من أسماء يوم القيامة، ويوم القيامة له عدة أسماء: فيسمى بالغاشية، وبالحاقة، وبأسماء كثيرة، ذكر ربنا -عَزَّ وَجَل- في كتابه الكريم جملةً منها.

     ﴿الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)﴾[القارعة:1-2]

    ﴿مَا﴾ استفهامٌ بمعنى التعظيم والتفخيم؛ أي ما هذه القارعة التي ينوّه عنها؟

    ? ثم قال -عَزَّ وَجَل-: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾[القارعة:3] وهذا زيادة في التفخيم والتعظيم والتهويل؛ أي أي شيء أعلمك عن هذا القارعة ما أعظمها! وما أشدها!

     ثم بيَّن متى تكون، قال: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾[القارعة:4] أي أنها تكون في ذلك الوقت ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾[القارعة:4] حين يخرجون من قبورهم.

    قال العلماء: (يكونون كالفراش المبثوث، والفراش هو هذه الطيور الصغيرة التي تتزاحم عند وجود النار في الليل، وهي ضعيفةٌ وتكاد تمشي بدون هدى وتتراكم، وربما لطيشها تقع في النار وهي لا تدري، فهذه الجموع الغفيرة تشبه الفراش في ضعفه وحيرته وتراكمه، وسيره إلى غير هدى).

    وقوله: ﴿الْمَبْثُوثِ﴾[القارعة:4]؛ أي المنتشر، فهو كقول الله تعالى: ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ﴾[القمر:7]؛ أي من القبور ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ﴾[القمر:7].

    لو تصورت هذا المشهد العظيم حين يخرج الناس من قبورهم بهذه الصفة لوجدت أنه مشهدٌ عظيمٌ جدًّا لا نظير له، هذا العالم منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة بنو آدم أعدادٌ كثيرةٌ جدًّا، إذا كان عدد سكان الأرض الأحياء الآن أكثر من سبعة مليارات، فكيف بأعدادهم منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة؟ خلائق عظيمة، ومع ذلك يخرجون خروج رجلٍ واحدٍ في وقتٍ واحد، يخرجون من هذه القبور المبعثرة في مشارق الأرض ومغاربها، يخرجون منها كل هؤلاء الأمم العظيمة يخرجون مرة واحدة ﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾[القارعة:4] يصولون ويجولون في هذه الأرض، ومع ذلك ليس فقط هم بنو آدم، بل ومعهم الجن، ومعهم الطير، ومعهم الوحوش، وتُنزّل الملائكة تنزيلًا، كل هذه الخلائق تكون على وجه هذه الأرض، تُحشَر على هذه الأرض التي تُمَد مدًّا؛ أي بدل أن كانت كروية، تصبح ممدودة، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴾[الانشقاق:3-4].

    في هذا المشهد العظيم تصبح هذه الخلائق ﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾[القارعة:4] كالفراش المنتشر المتفرق، يا له من مشهدٍ عظيمٍ يقرع القلوب!

    وأما الجبال، وهي تلك الجبال العظيمة الراسية الصلبة، فتكون ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾[القارعة:5].

    و(الِعهْن): هو الصوف.

    و﴿الْمَنفُوشِ﴾؛ أي الـمُبعثر؛ هذه الجبال بعد أن كانت صلبةً قويةً راسخةً تكون مثل العهن، تكون مثل الصوف المبعثر سواء نفشته بيدك أو بالمنداف، فإنه يكون خفيفًا يتطاير مع أدنى ريح.

    وقد قال الله تعالى في آياتٍ أخرى عن الجبال: ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)﴾ [الواقعة: 5- 6]، وقال هنا: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾[القارعة:5].

    وإذا كانت الجبال تصير من قرعة يوم القيامة كالصوف المنفوش، فكيف بحال الإنسان عند سماعها؟!

    عباد الله:

    إن هذا اليوم العظيم يوم القيامة قد عُني القرآن الكريم بذكره كثيرًا، وتكررت أوصافه، هذا اليوم هو اليوم الذي نحن صائرون إليه لا محالة، ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)﴾ [الواقعة:49-50].

    ﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الجاثية:26] ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة يكون فيه من الأهوال شيء عظيم جدًّا تشيب منها الولدان، ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ [المزمل:17].

    ويقول -عَزَّ وَجَل- في بيان عظيم أهوال ذلك اليوم: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾[الحج:1-2].

    زلزلة الساعة شيءٌ عظيم، وخطبٌ جليل، وطارق مفزع، وحادثٌ هائل، وكائنٌ عجيب، ترى الناس في ذلك الموقف سكارى؛ أي لشدة الأمر الذي صاروا فيه قد دُهِشَت عقولهم، وغابت أذهانهم، فمن رآهم حسب أنهم سكارى، ولكنهم في حقيقة الأمر ليسوا بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، يرى الإنسان أحب الناس إليه في الدنيا يرى أمه وأباه، وأخته وأخاه، يرى زوجته وأولاده، ومع ذلك يفر منهم فرارًا.

    ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)﴾[عبس:34-36] لماذا؟

    ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾[عبس:37].

    «يُحْشَر النَّاس حُفَاة عُرَاةً»، تقول أم المؤمنين عائشة -رَضِيَ الله عَنْها-: قُلْت: يَا رَسُول الله، الرِّجَال وَالنِّسَاء يَنْظُر بَعْضَهُم إِلَى بَعْضٍ؟ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-: «يَا عَائِشَة الأَمْر أَشَد مِنْ أَنْ يَهِمِّهم ذَلِك». أمرٌ عظيمٌ مفزع لدرجة أن الإنسان يرى والديه، يرى أمه وأباه وأولاده وزوجته وإخوانه وأخواته ويفر منهم فرارًا، فيا له من أمرٍ مفزعٍ عظيم.

    ثم قال ربنا -عَزَّ وَجَل- في هذه السورة العظيمة: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)﴾ [القارعة:6 -11].

    فقسم الله تعالى الناس إلى قسمين:

    w القسم الأول: ﴿مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾، وهو الذي رجحت حسناته على سيئاته

    w والقسم الثاني: ﴿مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ وهو الذي رجحت سيئاته على حسناته، أو ليس له حسناتٌ أصلًا كالكافر.

    ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)﴾ [القارعة:6-7] العيشة مأخوذة من العيش وهو الحياة؛ أي أنه في حياةٍ طيبةٍ راضية.

    وقوله: ﴿رَاضِيَةٍ﴾[القارعة:7]؛ أي عيشة طيبة ليس فيها نكدٌ ولا صخبٌ، ولا نصبٌ، كاملة النعيم من كل وجه، والمراد به الجنة، أنه يكون في الجنة.

    هذا العيش في الجنة، ﴿لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾[الحجر: 48] لا يحزنون فيها ولا يخافون، في أنعم عيشٍ، وأطيب بالٍ،  وأسر حالٍ، فهي عيشةٌ راضية، لا خوف فيها، ولا مرض، ولا هرم، ولا حزن، ولا تعب، ولا موت، ملذاتها كاملة، ﴿فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[الزخرف:71]. هؤلاء هم الذين رجحت كفة حسناتهم على سيئاتهم.

     

    ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾[القارعة:8]:

    وهو إما أنه الكافر الذي ليس له أي حسنة؛ لأن حسنات الكافر يجازى بها في الدنيا، ولا تنفعه في الآخرة، كما قال سبحانه: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾[الفرقان:23].

    أو أنه مسلم لكنه مسرف على نفسه، فسيئاته أكثر من حسناته.

    ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾[القارعة:9] الأم معناها المأوى؛ أي مأواه الهاوية، والهاوية من أسماء النار؛ أي أن مآله إلى النار, وقيل إن المراد بالأم هنا: أم الدماغ؛ أي أنه يلقى في النار على أم رأسه.

    وإذا كانت الآية تحتمل معنيين لا تنافي بينهما، فتُحمل الآية على المعنيين جميعًا كما قال أهل التفسير، فيقال: (يُرمى في النار على أم رأسه، وليس له مأوًى ومقصد إلا النار).

    ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾[القارعة:10] هذا من باب التفخيم والتعظيم لهذه الهاوية، أتدري ما هي هذه الهاوية التي يهوي فيها؟ إنها شيءٌ عظيم، إنها ﴿نَارٌ حَامِيَةٌ﴾[القارعة:11] في غاية ما تكون من الحرارة.

    يقول النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إِنَّهَا فُضِّلَت عَلَى نَارِ الدُّنْيَا بِتِسْعَة وَسِتِّين جُزْءًا»، تأمل نار الدنيا على شدة حرها فإن نار جهنم قد فُضِّلت وضُعِّفَت عليها تسعًا وستين مرة، فهي أحرُّ من نار الدنيا تسعًا وستين مرة، هل يستطيع أحدٌ من البشر أن يضع يده على نار الدنيا دقيقةً واحدة؟ فكيف بهذه النار التي ضُعِّفت على نار الدنيا تسعًا وستين مرة؟!

    وفي هذه الآية التخويف والتحذير من هذا اليوم، وأن الناس لا يخرجون عن حالين:

    w إما من ترجح حسناته على سيئاته.

    w أو ترجح سيئاته على حسناته.

    ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾[القارعة:6] فمآله للجنة ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾[القارعة:7].

    ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾[القارعة:8]؛ أي رجحت سيئاته على حسناته فمآله إلى النار، ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)﴾[القارعة:9 -11].

     

    ........................

     

    إن الدار الآخرة هي دار العدالة المطلقة كما قال الله تعالى: ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾[غافر:17]، وأما الدنيا فليست بدار عدالة، الدنيا فيها ظالمٌ ومظلوم، ولكن الدار الآخرة لا ظلم فيها، فهي دار العدالة المطلقة.

    وقد بيَّن لنا ربنا -عَزَّ وَجَل- كيف يحاسب الإنسان على أعماله في الدنيا:

    فذكر سبحانه هذا الميزان العظيم الذي توزن فيه أعمال كل إنسان، وتقسم أعمال الإنسان إلى قسمين: حسناتٌ وسيئات، فإذا رجحت كفة الحسنات كان مآله إلى الجنة، وإذا رجحت كفة السيئات كان مآله إلى النار إلا أن يعفو الله عنه، فكل إنسان له هذان الرصيدان، رصيد حسنات، ورصيد سيئات، وعلى مقدارهما يكون مصيره يوم القيامة، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وهذا الميزان في منتهى الدقة، ومنتهى العدالة، هل هناك شيءٌ أعدل من هذا؟

    فيؤتى بأعمال الإنسان جميعًا أعمال الإنسان التي عملها في الدنيا وتوضع في هذا الميزان، ثم تكون النتيجة إما أن ترجح كفة الحسنات، وإما أن ترجح كفة السيئات.

     

     

    يبيِّن ربنا -عَزَّ وَجَل- دقة هذا الميزان:

    فيقول سبحانه: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء:47].

    ويقول سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)﴾[الزلزلة:7-8].

    فسبحان الله! انظر إلى الدقة العظيمة في محاسبة الإنسان يوم القيامة، حتى مثقال الذرة من الخردل يؤتى بها، فليستحضر المسلم هذه الحقيقة، فإنه على مقدار هذين الرصيدين: رصيد الحسنات ورصيد السيئات، تكون قيمتك وكرامتك عند الله -عَزَّ وَجَل-، ويكون مصيرك يوم القيامة.

    فاحرص كل يوم، كل يوم احرص على أن تجعل لك هدفًا وهو أن تزيد رصيد الحسنات وتنقص من رصيد السيئات، كل يومٍ تصبح فيه اجعل لك هذا الهدف العظيم، قل: هذا اليوم لا بد أن أزيد فيه من رصيد حسناتي، وأُنْقِص فيه من رصيد سيئاتي، وذلك بأن أعمل أعمالًا صالحة، بأن أحافظ أولًا على أعمال الفرائض، ثم استكثر من النوافل.

    عندما تصلي الصلاة المفروضة قل: أصلي بعدها السنة الراتبة ركعتين إن كان بعدها سنة راتبة، هذه السنة استحضر أنك تجعلها في هذا الرصيد في رصيد الحسنات، رأيت فقيرًا أو مسكينًا تصدق عليه، استحضر أنك تجعله في هذا الرصيد، تَذكر الله -عَزَّ وَجَل-، تسبح الله وتحمده وتكبره وتهلل، تستحضر أن ذلك تجعله في هذا الرصيد، تقرأ القرآن، تستحضر أنك تنال بهذا أجرًا تضعه في هذا الرصيد، «مَنْ قَرَأَ حرَفٌ فَلَهُ حَسَنَة، وَالْحَسَنَة بِعَشْر أَمْثَالهَا».

    وفي المقابل تستحضر أن كل سيئة توضع في رصيد السيئات، فمثلًا حلق اللحية معصيةٌ تتكرر، فليستحضر الذي يفعل ذلك بأن هذه المعصية تكون في رصيد السيئات، هكذا النظر المحرم، والاستماع المحرم، وسائر المعاصي القولية والفعلية، يستحضر الإنسان بأنها تكون في رصيد السيئات.

    فهذان الرصيدان على مقدارهما تكون قيمتك وكرامتك عند الله تعالى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[الحجرات:13] ويكون مصيرك يوم القيامة، فاحرص على أن ترفع من مستوى رصيد الحسنات، وأن تقلل من رصيد السيئات، وليتدارك الإنسان ما تبقى من العمر، فإنه ربما يكون المتبقي قليلًا، وهو لا يشعر، فلنتدارك ما تبقى من أعمارنا بزيادة رصيد الحسنات، والنقص من رصيد السيئات.

    هذه الحقيقة التي تكررت في القرآن الكريم كثيرًا وهي أن أعمال الإنسان توزن، فإما أن ترجح كفة حسناته فيكون من أهل الجنة، وإما أن ترجح كفة سيئاته فيكون من أهل النار، إلا أن يعفو الله عنه. هذه الحقيقة ينبغي ألا تغيب عن ذهن كل مسلم؛ لأنه بغيابها يضعف الإيمان، ويضعف الإقبال على الطاعة، ويغفل الإنسان ويلهى بأمور الدنيا، ولكن عندما يستحضر هذه الحقيقة يحرص كل يوم على أن يزيد من رصيد الحسنات، ويحرص كل يوم على أن يقلل من رصيد السيئات؛ لأنه على مقدار هذين الرصيدين يكون مصيره يوم القيامة.

    ولا يستقل الإنسان القليل من العمل، فإن القليلَ مع القليلِ يكون كثيرًا.

    على سبيل المثال:

    أرأيت الهاتف مثلًا عندما يكون مقدار الفاتورة خمسمائة ريال أو أقل أو أكثر، كيف كانت هذه الفاتورة؟ تجد أنها قد جُمِّعت من مكالمات، هذه المكالمة بريال واحد، وهذه بنصف ريال، وهذه بهللات، وهذه بريال ونصف، ثم تُجمع فتعطي النتيجة العامة.

    وهكذا أيضًا بالنسبة لاختبار الطالب عندما يختبر ويأتي أستاذه ويصحح ورقته، فإنه يجمع الإجابات الصحيحة، والإجابات غير الصحيحة، ثم بعد ذلك تكون النتيجة إما ناجحٌ وإما راسب، إن كانت الإجابات الصحيحة هي الأكثر ووصلت الحد الأدنى للنجاح كان ناجحًا وإلا كان راسبًا.

    هكذا أيضًا يكون مصير الإنسان يوم القيامة تُجمَع أعماله، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، فإن رجحت حسناته كان من أهل الجنة، وإن رجحت سيئاته كان من أهل النار إلا أن يعفو الله عنه. وهذه هي النتيجة العامة.

    ثم يأتي بعد ذلك نتيجةٌ تفصيلية، هؤلاء الذين رجحت حسناتهم يُنظر بعد ذلك لمقدار هذا الرجحان ومستواه، وتكون درجة الإنسان في الجنة بحسب رصيد حسناته.

    والجنة فيها درجاتٌ كثيرة، و«ما بينَ كلِّ درجتينِ كما بينَ السَّماءِ والأرضِ».

    كذلك أيضًا عذاب النار على دركات، فعلى مقدار ذنوبه ومعاصيه يكون مصير الإنسان في النار، والله تعالى قال على المنافقين: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾[النساء:145].

    فيرى الإنسان بعد مماته أن كل شيء مرتبٌ على ما عمل في هذه الدنيا، فيعلم حينئذٍ عظيم شأن العمل، ويندم ندمًا عظيمًا ويقول متحسرًا: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾[الفجر:24].

    لأن الحياة الحقيقية ليست هي الحياة في هذه الدنيا، وإنما الحياة الحقيقية هي الحياة في الدار الآخرة؛ ولذلك: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾[الفجر:24]، ولا ينفع الندم، ولا التمني حينئذٍ، فالله تعالى أنذر وأعذر، وأعطاك أنت أيها الإنسان الفرصة للعمل، وحياتك فرصةٌ واحدة غير قابلة للتعويض، فإن نجحت في هذا الاختبار العظيم سعدت السعادة الأبدية، وإن فشلت في هذا الاختبار العظيم خسرت كل شيءٍ مهما حققت من نجاحاتٍ في الدنيا.

    ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك فقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض الله عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُهْدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

    اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، نعوذ بك اللهم من زوال نعمتك، وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك.

    اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعه، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وقرِّب منه البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، تُذكره إذا نسي، وتُعينه إذا ذكر، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوفٌ رحيم.

     

    موقع

    الشيخ الدكتور

    سعـــــد بن تركــــــي الخثـــــــــــلان

     


  14. الحمد لله الذي شرع لعباده العبادات والمعاملات، وأباح لهم من المآكل والمشارب الطيبات، وخصَّهم بخير رسله وأفضل البريات، فأرشدهم بقوله: ((إنما الأعمال بالنيات))، وأصلي وأسلم على نبيه ورسوله محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات؛ أما بعد:

     

    فهذه خلاصة في أحكام النية، جمعتها من كلام أهل العلم، وذلك لعِظَمِ قدر النية وأثرها في الأعمال صحة وقبولًا، وقد رتبتها في نقاط متتالية ومسائل متوالية، وأكثرت فيها من نقولات السلف والعلماء؛ رجاءَ عظم نفعها، والله أسأل أن ينفعني وإخواني بها؛ إنه جواد كريم.

     

    المسألة الأولى: حقيقة النية:

    أ- لغة: قال الإمام الفيومي رحمه الله في (المصباح المنير): "مِن: نوى ونويته وأنويه: قصدته".

     

    ب- اصطلاحًا:

    1) قال الإمام ابن رجب رحمه الله في (جامع العلوم والحكم): "هي قصد القلب".

    2) قال الإمام زكريا الأنصاري رحمه الله في (الحدود الأنيقة): "قصد الفعل مقترنًا به".

    3) قال الشيخ عبدالرحمن عبداللطيف حفظه الله في (مذكرة القواعد الفقهية 1): "الإرادة المتوجهة نحو الفعل؛ ابتغاءً لوجه الله تعالى، وامتثالًا لحكمه".

     

    المسألة الثانية: أهمية النية:

    أ- قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين): "فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يُبنى؛ فإنها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها يُبنى عليها، يصح بصحتها، ويفسد بفسادها، وبها يُستجلَب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة".

     

    ب- قال الإمام ابن رجب رحمه الله في (جامع العلوم والحكم): "حظ العامل من عمله نيته، فإن كانت صالحة فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد، فعليه وزره".

     

    من أقوال السلف في تعظيم قدر النية:

    1) قال إبراهيم النخعي: "لم يكن عبدالرحمن بن يزيد النخعي يعمل شيئًا إلا بنية، حتى أنه كان يشرب الماء بنية".

    2) قال داود الطائي: "رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك بها خيرًا وإن لم تصب".

    3) قال ابن المبارك: "رُبَّ عمل صغير تعظمه نية، ورب عمل كبير تحقره نية".

    4) قال يحيى بن أبي كثير: "تعلموا النية؛ فإنها أبلغ من العمل".

    5) قال مطرف بن عبدالله: "صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية".

    6) قال أبو عبدالله أحمد بن حنبل: "يا بني، انوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير".

    7) قال زيد الشامي: "إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى الطعام والشراب".

     

    المسألة الثالثة: المقصود بالنية في كلام العلماء:

    قال الإمام ابن رجب رحمه الله في (جامع العلوم و الحكم):

    "والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين؛ أحدهما: بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف، ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.

     

    والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له، أم غيره، أم الله وغيره، وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين".

     

    المسألة الرابعة: هل النية ركن أو شرط في العبادات؟

    قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله في (شرح منظومة القواعد لابن سعدي):

    "هذا مما وقع الخلاف بين الفقهاء فيه؛ فمنهم من يرى أنها شرط كالحنابلة، ومنهم من يرى أنها ركن كالشافعية، وبعض الفقهاء يقول: إن ذكر النية في أول الفعل يعتبر شرطًا، واستصحاب حكم النية أثناء الفعل يعتبر ركنًا، وإذا تقرر لنا أن النية تسبق الفعل، فإنها تكون حينئذٍ شرطًا، وأما النية التي تقارن الفعل فإنها ركن في العبادة"؛ [بتصرف يسير].

     

    المسألة الخامسة: شروط النية:

    قال الإمام السيوطي في كتابه (الأشباه والنظائر) [بتصرف]:

    1) الإسلام، ومن ثَمَّ لم تصح العبادات من الكافر.

    2) التمييز: فلا تصح عبادة صبي لا يميز، ولا مجنون.

    3) العلم بالمنوي: قال البغوي وغيره: "فمن جهل فرضية الوضوء أو الصلاة لم يصح منه فعلها، وكذا لو علم أن بعض الصلاة فرض ولم يعلم فرضية التي شرع فيها".

    ألَّا يأتي بمنافٍ، فلو ارتد في أثناء الصلاة أو الصوم أو الحج أو التيمم، بطل.

     

    المسألة السادسة: مسألة: هل يُشرع التلفظ بالنية؟

    قال الإمام ابن رجب رحمه الله في (جامع العلوم والحكم):

    "ولا يجب التلفظ بما في القلب في شيء من العبادات، وخرج بعض أصحاب الشافعي له قولًا باشتراط التلفظ بالنية للصلاة، وغلطه المحققون منهم، واختلف المتأخرون من الفقهاء في التلفظ بالنية في الصلاة وغيرها؛ فمنهم من استحبه، ومنهم من كرهه، ولا يُعلَم في هذه المسائل نقل خاص عن السلف، ولا عن الأئمة إلا في الحج وحده؛ فإن مجاهدًا قال: إذا أراد الحج، يسمي ما يهل به، وروي عنه أنه قال: يسميه في التلبية، وهذا ليس مما نحن فيه، فإن ((النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر نسكه في تلبيته، فيقول: لبيك عمرةً وحجًّا))، وإنما كلامنا في أنه يقول عند إرادة عقد الإحرام:

    اللهم إني أريد الحج أو العمرة، كما استحب ذلك كثير من الفقهاء، وكلام مجاهد ليس صريحًا في ذلك، وقال أكثر السلف، منهم عطاء وطاوس والقاسم بن محمد والنخعي: تُجزِئه النية عند الإهلال، وصح عن ابن عمر أنه سمع رجلًا عند إحرامه يقول: اللهم إني أريد الحج أو العمرة، فقال له: أتُعلِم الناس؟ أوليس الله يعلم ما في نفسك؟ ونص مالك على مثل هذا، وأنه لا يستحب له أن يسمي ما أحرم به، حكاه صاحب كتاب (تهذيب المدونة) من أصحابه، وقال أبو داود: قلت لأحمد: أتقول قبل التكبير - يعني: في الصلاة - شيئًا؟ قال: لا، وهذا قد يدخل فيه أنه لا يتلفظ بالنية، والله أعلم".

     

    قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله في (شرح منظومة القواعد لابن سعدي):

    "لا شك أن محل النية هو القلب، وأن التلفظ بها بدعة، أما كون محل النية القلب، فلأن هذا المعقول منها، ولم يقع خلاف في ذلك، لكن هل يصح مع نية القلب أن نعقد النية باللسان؟ نقول: الأصل في العبادات التوقيف والرجوع إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم والمتابعة له في ذلك، ولم يَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلفظ بشيء من نواياه في العبادات، ولم يقل: اللهم إني نويت أن أصلي لك الصلاة الفلانية، فحينئذٍ يكون من جهر بالنية وتلفظ بها مخالفًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يتعلق بذلك أن بعض العلماء ذكروا أنه يشرع التلفظ بالنية في أمرين:

    الأول: في نسك الحج لحديث: ((لبيك اللهم عمرة))؛ [حديث جابر عند مسلم]، وحديث: ((لبيك الله حجًّا))؛ [حديث عمر عند البخاري].

     

    الثاني: ذبح الهدي والأضحية؛ لحديث: ((اللهم هذا منك وإليك))؛ [حديث أنس في الصحيحين].

     

    والصحيح: أن هذه الأقوال ليست تلفظًا بالنية، بل هي نسك وذكر وارد في أول العبادة؛ ولذلك لا يشرع للإنسان في بدء المناسك أن يقول مثلًا: اللهم إني نويت حج القِران أو التمتع أو الإفراد؛ لأن هذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لا يشرع أن يقول: اللهم إني نويت أن أذبح الذبيحة الفلانية، وهذا هو التلفظ بالنية"؛ [يتصرف يسير].

     

    المسألة السابعة: مبطلات النية:

    قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله في (شرح منظومة القواعد لابن سعدي):

    "مبطلات النية:

    1) قطعها: فمن صلى وفي أثناء الصلاة قطع نيته، فحينئذٍ تبطل نيته، ولا تصح صلاته.

     

    2) التردد فيها: لأن غير الجازم لم تتحقق عنده نية جازم صحيحة، إلا أن الفقهاء استثنَوا عددًا من المسائل وقع التردد فيها؛ نتيجة لعسر الجزم بالمنويِّ، ومثَّلوا لذلك بمن نسي صلاة من صلوات يوم ما، ولا يدري أي الصلوات هي التي نسيها، قالوا: يشرع له أن يصلي خمس صلوات للخروج من الواجب بيقين.

     

    3) الانتقال بالنية لما هو أعلى منها: فمن نوى نفلًا مطلقًا ثم نوى قلب صلاته إلى صلاة فرض لم يصح؛ لأن الفرض أعلى من النفل، بخلاف من نوى العكس، فإن جماهير أهل العلم يصححونها"؛ [بتصرف يسير].

     

    المسألة الثامنة: السلف ومعالجة النية:

    معالجة النية وتخليصها من شوائبها هو الهدف الأسمى من كل ما مضى، وهو أصعب ما يختص بأمور النية، وهذه باقة من كلام السلف رحمهم الله حول علاجها، أسأل الله أن يعيننا على ذلك:

    1) قال سفيان الثوري: "ما عالجت شيئًا أشد عليَّ من نيتي، لأنها تتقلب عليَّ".

     

    2) قال يوسف بن أسباط: "تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد".

     

    3) قيل لنافع بن حبيب: "ألا تشهد الجنازة؟ فقال: كما أنت حتى أنوي، ففكر هنيهة ثم قال: امضِ".

     

    4) قال فضيل بن عبيد: "خصال ينفعك الله بهن: إن استطعت أن تعرِف ولا تُعرَف فافعل، وتسمع ولا تُسمَع فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يُجلَس إليك فافعل".

     

    5) قال مطرف بن عبدالله: "لأن أبيت نائمًا وأصبح نادمًا أحب إليَّ من أن أبيت قائمًا وأصبح معجبًا".

     

    6) قال أبو حازم: "اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك".

     

    7) قال الأعمش: "كان عبدالرحمن بن أبي ليلى يصلي، فإذا دخل عليه الداخل نام على فراشه".

     

    8 ) قال الربيع بن خثيم: "كل ما لا يُراد به وجه الله يضمحل".

     

    9) قال مالك بن دينار: "إذا تعلم العالم العلمَ لله كسره، وإذا تعلمه لغير العمل زاده فخرًا".

     

    10) قال محمد بن واسع: "إن الرجل ليبكي عشرين سنة، وامرأته معه لا تعلم".

     

    11) قال سفيان الثوري: "طلبت العلم فلم يكن لي نية، ثم رزقني الله النية".

     

    12) قال الفضيل بن عياض: "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيَك الله منهما".

     

    13) قال إبراهيم بن أدهم: "أي دين لو كان له رجال! من طلب العلم لله، كان الخمول أحب إليه من التطاول".

     

    14) قيل لحمدون القصار: "ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ فقال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن تكلمنا لعز النفس، وطلب الدنيا، وقبول الخلق".

     

    15) قال ابن قتيبة الدينوري: "كان طالب العلم فيما مضى يسمع ليعلم، ويعلم ليعمل، ويتفقه في دين الله لينتفع وينفع، وقد صار الآن يسمع ليجمع، ويجمع ليذكر، ويحفظ ليغلب ويفخر".

     

    المسألة التاسعة: النية في طلب العلم:

    قال الشيخ وحيد عبدالسلام بالي حفظه الله في مقدمة كتابه (بداية المتفقه):

    "النوايا التي ينويها طالب العلم:

    1) أن يتعلم ليعبد الله على بصيرة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ [يوسف: 108].

     

    2) أن يتعلم لأن طلب العلم عبادة؛ وفي الحديث: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة))؛ [مسلم].

     

    3) أن يتعلم العلم لكي تصيبه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفي الحديث: ((نضَّر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه، فرب مبلِّغ أوعى من سامع))؛ [رواه الترمذي وحسنه].

     

    4) أن يتعلم لكي يرفعه الله بالعلم درجات؛ قال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].

     

    5) أن يتعلم ليصل إلى مقام الخشية؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].

     

    6) أن يتعلم ليبلِّغَ العلم لمن يجهله؛ وفي الحديث: ((بلِّغوا عني ولو آية))؛ [البخاري].

     

    7) أن يتعلم ليدل الناس على الخير؛ وفي الحديث: ((من دعى إلى هدًى، كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا))؛ [مسلم]"؛ [بتصرف يسير].

     

    المسألة العاشرة: القواعد المتعلقة بالنية:

    ذكر الفقهاء رحمهم الله عدة قواعد فقهية تتعلق بالنوايا، تدخل في عامة أبواب الشرع من عبادات ومعاملات؛ وهذه أهمها:

    1) الأمور بمقاصدها أو الأعمال بالنيات.

    2) العبرة بالقصد والمعنى لا باللفظ والمبنى.

    3) لا ثواب إلا بنية.

    4) كل ما كان له أصل فلا ينتقل عن أصله بمجرد النية.

    5) الأيمان مبنية على الألفاظ والمقاصد.

    6) مقاصد اللفظ على نية اللافظ.

    7) إدارة الأمور في الأحكام على قصدها.

    8 ) المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعادات.

     

    الخاتمة:

    وبعد هذه الخلاصة:

    فإن الموفق من أعانه الله على إتْباعِ العلم بالعمل، فالعلم بلا عمل جنون، والعمل بلا علم لا يكون، فأسأل الله أن يجعل هذه الخلاصة عونًا لعباده على سلوك سبيل مرضاته، والقرب من جناته؛ إنه جواد كريم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

     

    شبكة الألوكة


  15. من أساليب التربية النبوية
    الدعابة
    الدكتور عثمان قدري مكانسي

     


    يروي أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالوا له مرة : يا رسول الله ، إنك تداعبنا .
    قال : إني لا أقول إلا حقاً(1) .
    في هذا الحديث نرى أن الصحابة كانوا يعتقدون :
    1ـ أن الداعية جاد دائماً لا يعرف الدعابة .
    2ـ أنهم ـ بناء على ذلك ـ تعجبوا إذ رأوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يداعبهم .
    3ـ وكأن المزاح ـ ولو بمقدار ـ يذهب هيبة الداعية .
    ويرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
    1ـ أن لكل مقام مقالاً : ففي المواضع التي تحتاج الجد لا ينبغي أن يكون المزاح ، وأن الأمور التي تفيد فيها الملاطفة ينبغي أن لا تكون كلها جداً .
    2ـ أن المداعبة من الفطرة الإنسانية ، وأن الترويح عن النفس بين الفينة والأخرى مطلب دعوي .
    3ـ أن قلة المزاح والاعتدال فيه لا تسقط هيبة الداعية ، بل تحببه إلى النفوس .
    4ـ أن على الداعية في مداعبته أن لا يتجاوز الحق والصدق .
    ولذلك كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلاطف أصحابه ويداعبهم على القاعدة التي ذكرناها.
    ومن الأمثلة على ذلك : ما رواه أنس بن مالك قال : جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستحمله(2) ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إني حاملك على ولد الناقة .
    قال : يا رسول الله ، ما أصنع بولد الناقة ؟
    فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وهل تلد الإبلَ إلا النوقُ(3) .
    فالرجل يطلب ناقة أو جملاً يحمله إلى قبيلته ، فالطريق طويلة ، والهدف بعيد ، ورجلاه لا تحملانه إليه . ورسول الله ـ قبل أن يعطيه ـ يتحبب إليه فيداعبه قائلاً : إني حاملك على ولد الناقة.
    ولد الناقة؟ الحُوار(4) ؟! . . وما يفعل به أو بما هو أكبر منه ؟ إنه وليد صغير ، وهل يستطيع الوليد أن يحمل المسافر وسفره ؟! . .
    ويبتسم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابتسامة المحب الودود : وهل تلد الإبل إلا النوقُ ؟ إنه الجمل المطلوب بعينه .
    وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ مرة ـ يزور أم طلحة ( وهي أم أنس بن مالك رضي الله عنهما ) ، فرأى طفلها الصغير حزيناً لأن عصفوره الذي كان يلعب به مات ، فيداعبه ويبتسم إليه قائلاً : يا أبا عمير ، ما فعل النغير(5) ؟ نستفيد من هذا الحديث أموراً عدة منها :
    1ـ أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتواضع للصغار ويلاطفهم .
    2ـ أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتحبب إليهم فيكنيهم وهم صغار ( يا أبا عمير ) فيشعرهم بأهميتهم لديه .
    3ـ وأنه يهتم بخصوصياتهم ( ما فعل النغير؟ ) ، وينتظر من الطفل أن يقابله بالبشاشة والابتسام ، وأن يبادله الحب والاستلطاف .
    ولن نفعل ما فعله الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ حيث استنبط من هذا الحديث كما قيل ثماني وعشرين فائدة ، فلن نبلغ شعرة في مفرقه ، رضي الله عنه .
    روى أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ بيد الحسن أو الحسين ـ رضي الله عنهما ـ ثم وضع قدميه على قدميه ، ثم قال : ترَقَّ ( أي اصعد )(6) .
    فهل قلص هذا العمل من مكانة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نفوس أصحابه ؟ ..
    لا ، وألف لا ، فهكذا يكون المسلم : مع الكبار لطيفاً ، وعلى الصغار عطوفاً .
    وهل يجفو الأب ريحانته ؟! . . وهل يقسو عليه ولا يرحمه ؟! . .
    فكيف وهذا الأب سيد البشر الذي صنعه الله تعالى على عينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟!
    وانظر معي ـ يارعاك الله ـ إلى مداعبته أهله . .
    إنه الآن مع السيدة الجليلة حِبِّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عائشة الصديقة بنت الصديق ـ رضي الله عنهما ـ فتعال إليها نسمع ما تقول :
    قال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إني لأعرف غضبك ورضاك .
    قالت : قلت : وكيف تعرف ذلك يا رسول الله ؟
    قال : إنك إذا كنت راضية قلتِ : لا ، ورب محمد ، وإذا كنت ساخطة قلت : لا ، ورب إبراهيم .
    قالت : قلت : أجل ، لست أهاجر إلا اسمك(7) . .
    لقد بين ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه مهتم بها ، فقد عرفها في رضاها وسخطها من قَسَمهِا ، وليس أحلى على الإنسان من أن يشعر أن من يخالطه ويعيش معه مهتم بصغير أمره وكبيره ، فتزداد منزلته عنده ، ويركن إليه ، ويستفيد منه .
    أرأيت ـ أخي الحبيب ـ كيف كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعابته يدخل إلى قلب محدثه ويمتلكه ؟! . .
    والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وعودة منك إليها تزيدك ـ أخي المؤمن ـ إعجاباً بقدوتك ، وهاديك ، بطرائقه الدعوية السامية إلى رضوان ربك . . . سيدك وسيدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم
     ـ .


  16. القاعدة الخامسة والعشرون : { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا }


     

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
    فهذا مرتع خصب، وروضة غناء، نتفيأ في ظلالها معنىً من معاني كلام الله عز وجل، ومع قاعدة من القواعد التي تتصل بفقه السنن الإلهية في الأمم والمجتمعات، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى:
    { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا } [الإسراء:59].

    وقد تنوعت عبارات المفسرين في بيان المراد بهذه الآيات التي يرسلها ربنا تعالى، فمن قائل: هو الموت المتفشي الذي يكون بسب وباء أو مرض، ومن قائل: هي معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفا للمكذبين، وثالث يقول: آيات الانتقام تخويفًا من المعاصي.

    وهذا الإمام ابن خزيمة: يبوب على أحاديث الكسوف بقوله: باب ذكر الخبر الدال على أن كسوفهما تخويف من الله لعباده، قال الله عز وجل: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا } (صحيح ابن خزيمة:2/309).

    وكل هذه العبارات ـ في تنوعها ـ تشير إلى أن الآيات لا يمكن حصرها في شيء واحد، وما ذكره السلف رحمهم الله إنما هو عبارة عن أمثلة لهذه الآيات، وليس مرادهم بذلك حصر الآيات في نوع واحد منها، وهذه هي عادة السلف في أمثال هذه المواضع عندما يفسرونها.

    والمهم هنا ـ أيها الفضلاء ـ أن يتأمل المؤمن والمؤمنة كثيرًا في الحكمة من إرسال هذه الآيات ألا وهي التخويف، أي: حتى يكون الإنسان خائفًا وجلًا من عقوبة قد تنزل به.

    يقول قتادة: في بيان معنى هذه القاعدة القرآنية: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا } "إن الله يخوف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكرون، أو يرجعون، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يأيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه" (تفسير الطبري.).

    وروى ابن أبي شيبة: في مصنفه من طريق صفية بنت أبي عبيد قالت: زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، فوافق ذلك عبد الله بن عمر وهو يصلي، فلم يدر، قال: فخطب عمر الناس وقال: لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم.

    وهذا التوارد في كلمات السلف في بيان معنى هذه الآية يؤكد أن السبب الأكبر في إرسال الآيات: هو تخويف العباد، وترهيبهم مما يقع منهم من ذنوب ومعاصٍ، لعلهم يرجعون إلى ربهم الذي أرسل لهم هذه الآيات والنذر، وإن لم يرجعو فإن هذه علامة قسوة في القلب -عياذًا بالله تعالى- كما قال تعالى:
    { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام].

    وكما قال ربنا عز وجل: { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} [المؤمنون]. فإن قلتَ: ما الجواب عما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال - لما سمع بخسف -: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا! (شرح مشكل الآثار (9/6)).
    فالجواب أن مراد ابن مسعود رضي الله عنه كما بينه الإمام الطحاوي: "أنا كنا نعدها بركة؛ لأنا نخاف بها فنزداد إيمانًا وعملًا، فيكون ذلك لنا بركة، وأنتم تعدونها تخويفًا ولا تعملون معها عملًا، يكون لكم به بركة، ولم يكن ما قال عبد الله س عندنا مخالفًا لما جاء به كتاب الله عز وجل من قول الله عز وجل: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا } أي: تخويفًا لكم بها لكي تزدادوا عملا،وإيمانا فيعود ذلك لكم بركة" (شرح مشكل الآثار (9/6)).

    أيها القارئ الفطن:
    ومع وضوح هذا المعنى الذي دلت عليه هذه القاعدة القرآنية: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا }، ومع ظهوره، إلا أن من المؤسف جدًا أن يقرأ الإنسان أو يسمع بعض كتاب الصحف، أو المتحدثين على بعض المنابر الإعلامية من يسخرون أو يهوّنون من هذه المعاني الشرعية الظاهرة، ويريدون أن يختصروا الأسباب في وقوع الزلازل أو الفيضانات، أو الأعاصير ونحوها من الآيات العظام في أسباب مادة محضة، وهذا غلط عظيم!

    ونحن لا ننكر أن لزلزلة الأرض أسبابًا جيولوجية معروفة، وللفضيانات أسبابها، وللأعاصير أسبابها المادية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: من الذي أمر الأرض أن تتحرك وتضطرب؟ ومن الذي أذن للماء أن يزيد عن قدره المعتاد في بعض المناطق؟ ومن الذي أمر الرياح أن تتحرك بتلك السرعة العظيمة؟ أليس الله؟ أليس الذي أرسلها يريد من عباده أن يتضرعوا له، ويستكينوا له لعله يصرف عنهم هذه الآيات؟!

    ولا أدري! ألم يتأمل هؤلاء دلالة هذه القاعدة من الناحية اللغوية؟ فإنها جاءت بأسلوب الحصر: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا }، فهي في قوة الحصر الذي دلّ عليه قوله تعالى: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ } [آل عمران:62] ، وهي فقوة الحصر الذي دلّ عليه قوله تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود]، ونحوها من الآيات.

    ثم ماذا يصنع هؤلاء الذين يهوّنون من شأن هذه الآيات - شعروا أم لم يشعروا قصدوا أم لم يقصدوا - بمثل تلك التفسيرات المادية الباردة، ماذا يصنعون بما رواه البخاري ومسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح، قال:
    « اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشرما فيها وشر ما أرسلت به »
    قالت: وإذا تخيلت السماء ـوهي سحابه فيها رعد وبرق يخيل إليه أنها ماطرةـ تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فعرفت ذلك في وجهه،
    قالت عائشة: فسألته؟
    فقال: « لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: { فَلَمَّا رَ‌أَوْهُ عَارِ‌ضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَـٰذَا عَارِ‌ضٌ مُّمْطِرُ‌نَا }» [الأحقاف من الآية:24]، ( أخرجه الشيخان.).

    ولا أدري كيف يجيب هؤلاء -هداهم الله- عن قوله تعالى في حق قوم نوح:
    { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)} [نوح]؟
    يقول ابن كثير: في بيان معنى قوله عز وجل: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ }: أي: من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم: { أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا } أي: نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار.

    وأما ما يورده بعض الناس من قولهم:
    هناك بلاد أشد معصية من تلك البلاد التي أصابها ذلك الزلزال، ويوجد دول أشد فجورًا من تلك التي ضربها ذاك الإعصار، فهذه الإيرادات لا ينبغي أن تورد أصلًا؛ لأنها كالاعتراض على حكمة الله تعالى في أفعاله وقضائه وقدره، فإن ربنا يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، والله يقضي بالحق، وربنا لا يُسأل عما يفعل، وله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة، والعلم التام، ومن وراء الابتلاءات حكم وأسرار تعجز عقولنا عن الإحاطة بها، فضلًا عن إدراكها.

    وبعد: فهل بعد هذا البيان والوضوح يستريب منصف في أهمية تدبر وتذكر هذه القاعدة القرآنية الكريمة: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا }؟!
    نسأل الله تعالى أن يرزقنا الاعتبار والادكار، والاتعاظ بما نوعظ به، ونعوذ بالله من قسوة القلب التي تحول دون الفهم عن الله وعن رسوله، والحمد لله رب العالمين.

  17.  
     
    1 ) العيدان مثنّى عيد وهما عيد الفطر، وعيد الأضحى.

    2 ) سُمّيا عيدين لأنّهما يعودان ويتكرّران كل عامٍ، وكل منهما له مناسبة شرعيّة ومرتبطٌ بعملٍ جليلٍ، وركنٍ من أركان الإسلامِ.

    3 ) وليس في دين الإسلام عيدٌ يتكرّر كل عام سوى هذين العيدين، لا عيد ميلادٍ، ولا عيد إسراءٍ ومعراجٍ، ولا عيد انتصارٍ أو هزيمةٍ، ولا عيد جلوسٍ على كرسي المُلك، ولا عيد أمٍّ أو أبٍ، ولا عيد مولدٍ للنّبي بأبي وأمّي هو وصلوات ربّي وسلامه عليه، بل كل ذلك ممّا ابتدعه النّاس نتيجة التشبّه بالأمم الأخرى، فصارت نِداً للأعياد الشرعيّة، وقد ثبت عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - أنّه قال : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ»، حديث صحيح.

    4 ) قدم النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - المدينة، فوجد للأنصار عيدين يلعبون بهما، فقال : «قد أبدلكما الله بهما خيراً منهما عيد الفطر، وعيد الأضحى»، فلا ثالثَ لهما إلا يوم الجُمُعة وهو ختام أيام الأسبوعِ.

    5 ) المناسبات التي تقام عند تخرج الطلبة، أو عند حفظ القرآن، وكتب السنّة، ومتون العلم، لا تعتبر من الأعياد لأنّها لا تتكرّر ولها مناسباتٌ حاضرةٌ.

    6 ) اختلف أهل العلم في حكم صلاة العيد على أقوالٍ : أولها أنّها سنّة مؤكدة، وإليه ذهب مالكٌ والشافعيُ، وذهب الحنابلة إلى القول بأنّها فرض كفايةٍ، والثالث أنّها فرض عينٍ يجب على كل ذَكرٍ مكلّفٍ حضورها إلّا من كان عنده عذر، وهذا القول أقوى في الأدلة وأقرب للصواب، قال شيخ الإسلام : وهي فرض عينٍ وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وقد يُقال بوجوبها على النّساء، وإليه ذهب الصنعاني والشوكاني.

    7 ) أول وقت صلاة العيدين من ارتفاع الشمس قيد رمحٍ وآخره زوال الشمس.

    8 ) فإن لم يُعلم بالعيد إلا بعد زوال الشّمس، صلّوها من الغد بعد ارتفاع الشّمس قيد رمحٍ، والدليل على ذلك مارواه أبو عمير بن أنس عن عمومة له من الصحابة: ((أَنَّ رَكْبًا جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوُا الهِلال بِالْأَمْسِ، فَأَمَرَهُمْ النّبي ﷺ أَنْ يُفْطِرُوا وَإِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ)).

    9 ) وتسن إقامتها في صحراء خارج البلد، وينبغي أن تكون قريبةً لئلا يَشُقّ على النّاس حضورها، والدليل فعل النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - والخلفاء الراشدين من بعده.

    10 ) ويسنّ تقديم صلاة عيد الأضحى، وتأخير صلاة عيد الفطر.

    11) ويسنّ الأكل قبل الخروج لصلاة العيد اقتداء بالنّبي - صلّى الله عليه وسلّم - لأنّه كان لا يخرج الفطر حتى يأكل تمراتٍ، ويأكلهنّ وتراً، والعكس في الأضحى، فلا يأكل قبل صلاة الأضحى لحديث بريدة : "ولا يطعم يوم النّحر حتى يصلّيَ "، ولأنّه أسرع في المبادرة للأكل من أضحيته لمن أراد أن يضحيَ.

    12 ) إذا لم يكن له أضحية فهو بالخيار في الأكل قبل الصلاة أو عدمه، وإن لم يأكل لا يعد مخالفاً للسنّة.

    13 ) إن كان ثمّةَ عذرٌ في الخروج إلى مصلّى العيد فإنّها تصلّى في المساجد.

    14 ) ويُشرع أن يخرج إلى العيد ماشياً وفيه أحاديثُ ضعيفةٌ، قال الترمذي : وعليه العمل عند أكثر أهل العلم، ويكبّر أثناء خروجه، وإذا كان هناك عذر كمرض أو بُعد المصلّى فله أن يركب.

    15 ) يُستحب الغسل والتّطيّب للعيدين، والخروج للصّلاة على أحسن هيئة، فعن نافعٍ : " أنّ ابن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلّى "، وقال ابن عبد البَرّ : اتفاق الفقهاء على أنّ الغسل للعيدين حسن لمن فعله.

    16 ) العدد المعتبر في إقامتها ثلاثة فما فوق، وهو إحدى الروايات عن أحمد واختيار شيخ الإسلام.

    17 ) لا يُشرع الأذان ولا الإقامة لصلاة العيدين، ولا قول "الصلاةَ جامعة "

    18 ) إذا اجتمع العيد مع الجمعة فمن حضر صلاة العيد فيُرخص له في عدم حضور صلاة الجمعة، ويصلّيها ظهراً في وقت الظهر، وإن أخذ بالعزيمة فصلّى مع النّاس الجمعة فهو أفضل وأكمل.

    19 ) من لم يحضر صلاة العيد فلا تشمله الرخصة، ولذا فلا يسقط عنه وجوب الجمعة، فيجب عليه السعي إلى المسجد لصلاة الجمعة، فإن لم يوجد عدد تنعقد به صلاة الجمعة وهو ثلاثة على الراجح من أقوال أهل العلم صلّاها ظهراً.

    20 ) يجب على إمام مسجد الجمعة إقامة صلاة الجمعة ذلك اليوم ليشهدها من شاء شهودها ومن لم يشهد العيد، إن حضر العدد التي تنعقد به صلاة الجمعة وهو ثلاثة وإلّا فتصلّى ظهرا.

    21 ) من حضر صلاة العيد وترخص بعدم حضور الجمعة فإنّه يصلّيها ظهراً بعد دخول وقت الظهر.

    22 ) ويُسنّ الرجوع من صلاة العيد من طريق آخر، اقتداءً بالنّبي - صلّى الله عليه وسلّم - فإنّه كان إذا خرج يوم العيد خالف الطّريق.

    23 ) وتُصلّى ركعتين قبل الخطبة لفعل النّبي- صلّى الله عليه وسلمّ - يكبّر في الأولى سبعاً غير تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً غير تكبيرة الانتقال.

    24 ) قال الإمام أحمد : " اختلف أصحاب النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - في عدد التكبير فكله جائز والأمر فيه سعة "

    25 ) ويرفع يديه مع كل تكبيرة.

    26 ) قال ابن القيم : " ويسكت بين كل تكبيرتين سكتة يسيرة، ولم يُحفظ عنه ذكرٌ معينٌ بين التكبيرات، والأمر في هذا واسع إن ذكر ذكراً فهو على خير وإن سكت فهو على خير "

    27 ) ويجهر بالقراءة، ويقرأ بالأولى بعد الفاتحة "بسبّح"، وفي الثانية "بالغاشية"، وثبت عنه كذلك أنّه قرأ بالأولى بسورة ( ق) وفي الثانية بسورة (القمر).

    28 ) ويخطب بعدها خطبةً واحدةً كما ثبت عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - في الصحيحين.

    29 ) ولا يستفتح الخطبة بالتكبيرات بل يبتدئها بالحمد كسائر الخطب لضعف الحديث الوارد في ذلك، قال ابن القيم : " كان صلّى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كلها بالحمد لله، ولم يُحفظ عنه في حديثٍ واحدٍ أنّه كان يفتتح خطبتي العيد بالتكبير. 30 ) حضور الخطبة بعد الصلاة سنة وليس بواجب.

    31 ) لا تكرة النافلة في مصلّى العيد لا قبلها ولا بعدها وهو مروي عن أبي هريرة وأنس بن مالك وهو مذهب الشافعي واختيار ابن المنذر وابن حزم.

    32 ) من فاتته صلاة العيد وأحب قضاءها استُحب له ذلك، فيصلّيها على صفتها من دون خطبةٍ بعدها، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والنخعي وغيرهم من أهل العلم.

    33 ) يسنّ التكبير المطلق من ليلة عيد الفطر حتى يخرج الإمام للصلاة، وفي الأضحى من هلال شهر ذي الحجّة إلى آخر أيام التشريق.

    34 ) أمّا التكبير المقيد فيكون في أدبار الصلوات من صبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق.

    35 ) يكون التكبير المقيد أدبار الصلوات بعد الاستغفار وقول اللهمّ أنت السّلام ومنك السّلام.

    36 ) ويكبّر عقب الصلوات من صلّى جماعةً أو منفرداً وكذا النّساء في البيوت تكبّر.

    37 ) وينتهي التكبير المطلق في عيد الأضحى بغروب شمس آخر يوم من أيام التشريق، والمقيّد بعد صلاة العصر، وفي عيد الفطر ينتهي التكبير المطلق بخروج الإمام للصّلاة.

    38 ) لا بأس بالتهنئة بالعيد بقوله : تقبل الله منّا ومنكم، أو عيدكم مباركٌ، وقد ثبت ذلك عن بعض أصحاب النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - والأمر فيه سعة وهو من العادات والأصل فيه الإباحة.

    39 ) التهنئة قبل العيد جائزة فالتهاني من العادات، ولو كانت بعد صلاة العيد لكان أحسن، فظاهر فعل السلف أنّهم كانوا يفعلونها بعد صلاة العيد، فقد جاء في المغني لابن قدامة ما نصّه : وذكر ابن عقيل في تهنئة العيد أحاديث منها : أنّ محمّد بن زياد، قال : كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منّا ومنك، وقال أحمد : إسناد حديث أبي أمامة إسناد جيد، انتهى كلامه.

    40 ) لا تٌشرع زيارة المقابر في أيام العيد بل هي من البدع المحدثة، فأيام العيد أيام فرحٍ وسرورٍ وأكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله، فتخصيص زيارة المقابر في العيد مخالف للشرع مجانبٌ للسنّة.

    41 ) والحذر كل الحذر من تبرج النّساء في الأعياد وغيرها، وكذا الاختلاط مع غير المحارم، ومثله مصافحة النّساء لغير المحارم، فإنّه ممّا حذّر منه الشرع ونهى عنه.

    _______________________________________

    الداعية: زياد عوض أبو اليمان

    طريق الاسلام
    '

  18. روى مسلم في صحيحه عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»، هذا حديثٌ من الأحاديثِ الجامعةِ لقواعدِ الإسلامِ، فالله سبحانه قد أوجب على عباده الإحسان في كل شيء وإلى كل شيء، كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ﴾، وقال: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾، وهذا رسول الرحمة يخبرنا أن الله كتب الإحسان على كل شيء وإلى كل شيء، فيأمرنا أن نحسن للذبيحة بإراحتها، وعدم الزيادة في تعذيبها أو إيلامها، فيشرع أن يكون الذبح بسكين حادة، لا كالّة، ويشرع أن توارى السكين عن الذبيحة، فلا تحد بحضرتها، وأن لا يَذْبَحَ وَاحِدَةً بِحَضْرَةِ أُخْرَى، وَلَا يَجُرَّهَا إِلَى مَذْبَحِهَا، بل تُقَادُ إِلَى الذَّبْحِ قَوْدًا رَفِيقًا، وتساق سوقاً جميلاً، ولا تسلخ ولا يقطع منها شيء حتى تخرج روحها، ويشترط لحلّ الذبيحة أن يكون الذابح مسلماً أو كتابيَّا، وأن يقول بسم الله وهذا واجب، فإن زاد والله أكبر فهو سنة، وأن يقطع الأوداج، والسنة أن تكون تجاه القبلة، فأحسنوا في الذبح، وارحموا الحيوان، فلا تؤذوه أو تعذبوه، فقد جاء في صحيح السنة أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَالشَّاةَ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ".


     

    فاحمدوا الله أيها المضحون على ما سخر لكم من بهيمة الأنعام، فكلوا منها، وأطعموا البائس الفقير، واطلبوا ما عند الله فَـ ﴿ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 37]. واعلموا أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، عظموا شعائر الله، وضحوا إيماناً واحتسابا، لله، لا رياء ولا سمعة ولا مباهاة، ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].

     
     

    أيها المؤمنون، أيها المضحون: لئن كان الإحسان إلى البهائم مكتوباً علينا، فإن الإحسان إلى غير البهائم أوجب، أحسنوا إلى أنفسكم، فاقضوا حق الله الذي أوجبه عليكم، وأحسنوا إلى الخلق، أحسنوا في بركم لوالديكم، ووصلكم لأرحامكم، ولا تجعلوا ما أنتم فيه من الوباء سبباً في القطيعة والجفاء، تواصلوا ولو بالهاتف، وتصالحوا وأحسنوا الظن ببعضكم، وضحوا بأهوائكم، قبل أن تضحوا بذبائحكم، واعلموا أن علامة التدين وأمارة الصلاح في طهارة القلب، ونقاء السريرة، ومحبة الخير للناس، وإحسان الظن بعامة المسلمين وخاصتهم، ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ﴾.

     

    اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، وللهِ الحمد.

     

     

    أيتها الأخوات المباركات: وصيتي لكن هي وصية الله، استعففن خير لكن، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، واغضن أبصاركن، واحفظن فروجكن، واتقين الله.

     

    اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، وللهِ الحمد.



    د.عبد الله بن عمر السيحباني
    شبكة الالوكة

  19. في يوم عرفة نزلت: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...)
    وهذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل لهم دينهم
    فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم
    ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه.
    [ ابن كثير ]
     
     
    تفرغ يوم عرفة من أشغال الدنيا واجعله يوماً من أيام الآخرة، وأكثر فيه من الدعاء وسؤال الله المغفرة والرحمة،ودخول الجنة والنجاة من النار ، وحسن الختام، وصلاح النية والذرية، وأن يبارك لك فيما وهبك.
    واسأل الله أن يزيح ما أهمك وأثقل ظهرك ، وأن يشرح صدرك وأن يحييك حياة طيبة 
    عبد الملك القاسم
     
     
     
    أكثروا  من الدعاء بالمعفرة والعتق في هذا اليوم، فإنه يرجى إجابة الدعاء فيه: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) "رواه الترمذي وحسنه الألباني".
    فعلى المسلم أن يتفرغ للذكر والدعاء والاستغفار في هذا اليوم العظيم، وليدع لنفسه ولِوالديْه ولأهله وللمسلمين، ولا يتعدى في عدائه، ولا يستبطئ الإجابة، ويلح في الدعاء، فطوبى لعبد فقه الدعاء في يوم الدعاء.
     
     
     
    قال الأوزاعي -رحمه الله
    أدركت أقواما كانوا يخبئون الحاجات ليوم #عرفة
     ليسألوا الله بها
     
     
     
     
    صيام يوم عرفة لغير الحاج أفضل من صيام يوم عاشوراء؛ لأنّ صيام عرفة خاصٌّ بأمّة محمدﷺ، ولذلك جعل الله صيامه يُكفِّر سنتين، وأمّا صيام عاشوراء فقد كانت اليهود تصومه، وصيامه يُكفِّر سنة واحدة.
    والأفضل أن يُفرِد الصائم نيّته بالصيام لعرفة، فلا يُنوى به صيام عرفة وصيام قضاء.
    بندر الشراري
     
     
    قال رسول اللهﷺ:
    (ما رؤي الشيطان أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في #يوم_عرفة ، وما ذاك إلا أن الرحمة تتنزل فيه فيتجاوز عن الذنوب العظام).
    قال الشيخ المحقق شعيب الأرناؤوط: صحيح مرسل.
     
     
     
     
    من لم يستطع الوقوف بعرفة
    فليقف عند حدود الله الذى عرفه.
    ومن لم يستطع المبيت بمزدلفة
    فليبت على طاعة الله ليقربه ويُزلفه.
    ومن لم يقدر على ذبح هديه بمنى
    فليذبح هواه ليبلغ به المنى.
    ومن لم يستطع الوصول للبيت لأنه بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب من حبل الوريد.
    ابن رجب رحمه الله
     
     
    إلى كل الذين تتأخر أمانيهم شهورا و سنوات
    " لا بأس " فما أخذه الله لحكمة وما أبقاه لرحمة وقد قد تتأخر الأمنيات لتكثر الرحمات ومن أعظم الأيام بركةً يوم عرفه فاسألوا الله ماتريدونه من حوائج وطلبات وان يجعل في تحقيق خيراً لكم
     
     
    يقول أحد الصالحين 
    والله ما دعوتُ دعوةً يوم عرفة
    وما دار عليها الحول
    إلا رأيتها مثل فلق الصبح 
    جهّزوا أمنياتكم 
    سهام عرفة بإذن الله صائبة


    96142669_1112364492450169_5672220624718659584_n.jpg?_nc_cat=103&_nc_sid=dbeb18&_nc_ohc=30BhfiEKJ84AX9OK64B&_nc_ht=scontent.fcai2-1.fna&oh=9f38cd02c553a5c270565ec36dfb4a41&oe=5F461EE7

     

  20. تفسير الربع الثالث من سورة الحج

     

     

     

    الآية 38، والآية 39، والآية 40، والآية 41: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا أي يَدفع سبحانه عنهم اعتداء الكفار وكيد الأشرار، فقد ثَبَتَ في قراءةٍ أخرى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ أي كثير الخيانة لأمانته وعهوده، ﴿ كَفُورٍ أي جَحودٌ بتوحيد ربه، وجحودٌ لنعمه عليه.

     

     

     

    وقد كان المسلمون في أول الأمر ممنوعين من قتال الكفار، مأمورين بالصبر على أذاهم، فلمَّا اشتد إيذاء المشركين لهم، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وأصبح للإسلام قوة: أَذِنَ الله للمسلمين في القتال؛ بسبب الظلم الذي وقع عليهم في أنفسهم وأموالهم وديارهم، كما قال تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا(ولذلك أَذِنَ الله لهم في القتال)، ثم طمأنهم سبحانه بقوله: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ أي قادرٌ على نَصرهم وإذلال عدوِّهم.

     

     

     

    ثم أخبر سبحانه عن سبب نَصْره لهؤلاء المهاجرين فقال: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾: أي أخرجهم الكفار ظلمًا من ديارهم، مع أنهم لم يفعلوا شيئًا ﴿ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾: يعني إلا إنهم أسلموا وقالوا: (ربنا الله وحده، ولن نُشرك به شيئًا في عبادته)، ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني ولولا ما شَرَعه الله مِن دَفْع الظلم والباطل بالقتال: لَهُزِمَ الحقُّ في كل أُمَّة، ولَخُرِّبَت الأرض، و﴿ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وهي مَعابد الرُهبان ﴿ وَبِيَعٌ وهي كنائس النصارى ﴿ وَصَلَوَاتٌ وهي مَعابد اليهود (باللغة العِبرية)، ﴿ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا أي: وكذلك ستتهدم مساجد المسلمين التي يَذكرون الله فيها كثيرًا، (وفي الآية دليل على أنه لا يَجوز لنا هَدْم مَعابد اليهود والنصارى)، ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ يعني: ومَن اجتهد في نُصرة دين الله وعباده المؤمنين، فإنّ الله ناصره على عَدُوِّه، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ لا يَغلَبه أحد، ﴿ عَزِيزٌ لا يَمنعه شيءٌ مِمّا يريد.

     

     

     

    وهؤلاء - الذين وعدناهم بنصرنا - هم ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أي الذين إذا مَكَنَّا لهم في البلاد ونصرناهم على عدوهم: ﴿ أَقَامُوا الصَّلَاةَ أي أدَّوها في أوقاتها (بشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها)، ﴿ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ أي أخرَجوا زكاة أموالهم إلى مُستحقيها، ﴿ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وهو كل ما أمَرَ الله به مِن حقوقه وحقوق عباده، (وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة)، ﴿ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ (وهو كل ما نَهَى الله عنه ورسوله، بشرط ألاَّ يَتسبب النَهي عن المُنكَر في حدوث مُنكَر أكبر منه)، ﴿ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ أي: وللهِ وحده يَرجع مَصير الخلائق يوم القيامة، فيُجازي كُلاًّ بما عمل، (إذاً فاتقوا اللهَ تعالى وراقِبوه في السر والعَلَن، وتوبوا إليه، وتوكلوا عليه، فإنّ الأمر كله في يديه).

     

     

     

    الآية 42، والآية 43، والآية 44: ﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يعني: وإذا كَذَّبك قومك - أيها الرسول - فلا تحزن ﴿ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ﴿ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ﴿ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ (وهم الذين كَذَّبوا شُعَيبًا عليه السلام)، ﴿ وَكُذِّبَ مُوسَى (أي كَذَّب فرعون وقومه موسى عليه السلام)، فهؤلاء الأقوام قد كَذَّبوا رُسُلهم، ولكنّ رُسُلهم صبروا على تكذيبهم وإيذائهم ﴿ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ يعني: فلم أُعاجِل هؤلاء الكافرين بالعقوبة، بل أمْهلتهم ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعذاب، ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أي: فكيف كان إنكاري على كُفرهم وتكذيبهم؟ (والاستفهام للتقرير) أي كان إنكاري عليهم عظيمًا بالعذاب والهلاك، (وفي الآية تصبير للرسول صلى الله عليه وسلم على ما يَلقاهُ من أنواع التكذيب والعِناد والجحود مِن قومه).

     

     

     

    الآية 45: ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ يعني: ولقد أهلكنا كثيرًا من القرى الظالمة الكافرة ﴿ (فَهِيَ خَاوِيَةٌ؛ أي: فأصبحت فارغة مِن سُكَّانها، وقد تَهدَّمَتْ مَبانِيها، وسقطتْ حِيطانُها وجُدرانها ﴿ عَلَى عُرُوشِهَا أي على سُقوفِ بيوتِها، ﴿ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ يعني: وكم مِن بئرٍ كانوا يَشربون منها فهي الآن مُعطَّلة لا يُستخرَج منها الماء، ﴿ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أي: وكم مِن قصرٍ مرتفع ماتَ أهله وتركوه مُعَطّلاً مثل البئر.

     

     

     

    الآية 46: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا - أي هؤلاء المُكذبون من قريش - ألم يَمشوا ﴿ فِي الْأَرْضِليُشاهدوا آثار المُهلَكين قبلهم ﴿ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾: أي فيَتفكروا بعقولهم ليَعتبروا بما حدث لهم؟! ﴿ أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾: يعني أو يَسمعوا أخبارهم سماعَ تدبُّر ليَتعظوا؟!، ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ يعني: فإنّ العَمَى المُهْلِك ليس عَمَى البصر، ﴿ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي: ولكنّ العَمَى المُهْلِك هو عَمَى البصيرة القلبية عن إدراك الحق والاعتبار، (والمعنى أن الخلل ليس في أبصارهم ولكنّ الخلل في قلوبهم التي أعماها الهوى، وأفسدتها الشهوة والتقليد لأهل الجهل والضَلال، ومِن هنا كان على العبد أن يُحافظ على قلبه مِن مُفسِدات القلوب أكثر من مُحافظته على عينيه).

     

     

     

    الآية 47: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾: أي يَستعجلك كفار قريش بالعذاب الذي أنذرتَهم به، ﴿ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ (إذ لا بدَّ من وقوع العذاب، وقد عجَّل لهم بعض العذاب في الدنيا في يوم بدر)، ثم أخبَرَهم سبحانه أنّ الزمن الطويل عندهم هو قصيرٌ عند الله تعالى، فقال: ﴿ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ أي مِن مُدَّة إمهاله لهم ﴿ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَأي مِن سنوات الدنيا.

     

     

     

    الآية 48: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ يعني: وكثير من القرى كانت ظالمة (بسبب إصرار أهلها على الكفر)، فأمْهلتهم ولم أعاجلهم بالعقوبة، فاغترّوا بحِلم الله لهم، ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهَا بعذابي في الدنيا، ﴿ وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ يعني: وإليَّ مَرجعهم بعد هلاكهم، فأُعَذّبهم بما يَستحقون، (إذًا فلا مَعنى لاستعجال هؤلاء المشركين بالعذاب، فإنهم إنْ لم يُعَذَّبوا في الدنيا، فإنّ مَصيرهم إلى الله تعالى، وسوف يُجازيهم بما كانوا يعملون).

     

     

     

    الآية 49، والآية 50، والآية 51: ﴿ قُلْ - أيها الرسول -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌمِن عذاب اللهِ تعالى لأُخَوّفكم من عقوبة الشرك والمعاصي، ﴿ مُبِينٌ أي أُوَضِّح لكم ما أُرْسِلتُ به إليكم، ﴿ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وتركوا الشرك والمعاصي ﴿ (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم (إذ يَسترها الله عليهم، ولا يُعاقبهم عليها في الآخرة)، ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي: ولهم رِزقٌ حَسَن لا ينقطع وهو الجنة، ﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا يعني: وأما الذين اجتهدوا في إبعاد الناس عن الإيمان بآياتنا ﴿ مُعَاجِزِينَ أي ظانّين أنهم يُعجزوننا، وأننا لن نَقدر على أخْذهم بالعذاب: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾: يعني أولئك هم أهل النار المُوقدة، إذ يَدخلونها ولا يَخرجونَ منها أبدًا.

     

     

     

    الآية 52، والآية 53، والآية 54: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ - أيها الرسول - ﴿ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أي قرأ كتاب الله تعالى لقومه، فإذا قرأه: ﴿ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾: أي ألقى الشيطانُ الوساوسَ والشُكوك للناس أثناء قراءة النبي؛ وذلك ليَصدَّهم عن اتِّباع ما يَقرؤه ﴿ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ أي لكنّ الله يُبطل كيد الشيطان ويُزيل وساوسه ﴿ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ أي يُثبِت آياته الواضحات، فلا تقبل الزيادة ولا النقصان، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بكل شيء (ومِن ذلك عِلمُه بوساوس الشيطان)، ﴿ حَكِيمٌ في كل أفعاله (وهذه سُنَّتِه في أنبيائه ورُسُله، ليَتميّز المؤمنون مِن غيرهم).

     

     

     

    وقد كان هذا الفِعل مِنَ الشيطان ﴿ لِيَجْعَلَ اللهُ ﴿ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ من الوساوس والشكوك ﴿ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي في قلوبهم شك ونفاق (وهم المنافقين وضِعاف الإيمان) ﴿ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ (وهم المشركين الذين لا تؤثِّرُ فيهم المواعظ)، (واعلم أنّ الفتنة المذكورة في قوله تعالى: ﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً هي الزيادة في الكفر والضلال والبعد عن الحق)، ﴿ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ جميعاً ﴿ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ أي في عداوة شديدة لله ورسوله، ومُخالَفة بعيدة عن الحق والصواب.

     

     

     

    ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي: ولكي يَعلم أهل العلم - الذين يُفَرِّقون بعِلمهم بين الحق والباطل - أن القرآن الكريم هو الحق النازل من عند الله تعالى، لا شك فيه، ولا سبيلَ للشيطان إليه، ﴿ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾: أي فيزداد إيمانهم بالقرآن، وتخشع له قلوبهم وتطمئن، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي سوف يُوَفِّقهم سبحانه إلى الثبات على الإسلام، ليُنقذهم به من النار، (وذلك بحمايتهم من الشيطان، وإعانتهم على طاعة الرحمن).

     

     

     

    الآية 55، والآية 56، والآية 57: ﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي لا يَزالون في شَكٍّ من القرآن، ويَظَلُّونَ على ذلك ﴿ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ﴾: أي حتى تأتيهم القيامة فجأةً، وهُم على تكذيبهم، ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ أي عذابُ يومٍ لا خيرَ فيه، وهو يوم بدر - على الراجح - حينَ هَزَمهم المسلمون وقتلوا زعماءهم، وأسَرُوا كثيرًا منهم.

     

    ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة ﴿ لِلَّهِ وحده ﴿ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي يَقضي بين المؤمنين والكافرين: ﴿ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يُدخِلهم سبحانه ﴿ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾) الواضحة: ﴿ فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ أي لهم عذابٌ يُذِلُّهم ويُهِينهم في جهنم (فهو عذابٌ للجسد والنفس معًا) (نسأل الله العافية).

     

     

     

    الآية 58، والآية 59: ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِأي خَرَجوا من ديارهم طلبًا لرضا ربهم ونُصرة دينه ﴿ ثُمَّ قُتِلُوا أي قتلهم المشركون، ﴿ أَوْ مَاتُوا مَوتةً (طبيعية) بانتهاء آجالهم أثناء الهجرة: ﴿ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا (إذ تكون أرواحهم بعد موتهم في أجواف طيرٍ خُضر تأكل من الجنة حيث شاءت)، (﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾) أي هو سبحانه خير مَن أعطى، و﴿ لَيُدْخِلَنَّهُمْ يوم القيامة ﴿ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وهو الجنة، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بمَن يَخرج في سبيله، ومَن يَخرج طلبًا للدنيا، ﴿ حَلِيمٌ بمن عصاه، فلا يعاجله بالعقوبة.

     

     

     

    الآية 60: ﴿ ذَلِكَ أي ذلك الذي قصصناه عليك، ﴿ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ يعني: ومَن اعتُدِيَ عليه وظُلِم، فقد أُذِن له أن يَرُدَّ الاعتداء بمِثله، ﴿ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ يعني: فإذا عاد المعتدي إلى إيذاء المظلوم: ﴿ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ أي فإنّ الله سيَنصر المظلوم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي يعفو عن الذين يعفون عن الناس، ويَغفر ذنوبهم (وفي هذا إشارة إلى ترغيب المؤمن في العفو عن أخيه إذا ظَلَمه، فإنّ العفو خيرٌ له من المُعاقَبة، وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ .

     

     

     

    • الآية 61: ﴿ ذَلِكَ أي ذلك النصر على المظلوم كائنٌ لا مَحالة ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ أي بسبب أنّ اللهَ قادرٌ على ما يشاء، ومِن قدرته أنه ﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ أي يُدخِل ما يَنقص من ساعات الليل في ساعات النهار، ﴿ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ أي يُدخِل ما نَقَصَ من ساعات النهار في ساعات الليل، فيَطولُ هذا ويَقصُر ذاك، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لكل صوت، ﴿ بَصِيرٌ بكل فِعل، لا يَخفى عليه شيء، (فلذلك يَنصر سبحانه مَن يَعلم أنه يَستحق النصر).

     

     

     

    الآية 62: ﴿ ذَلِكَأي ذلك المذكور مِن آيات قدرة الله تعالى، لتُوقِنوا ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي الذي يَستحق العبادة وحده ﴿ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ يعني: ولتُوقِنوا بأنّ ما يَعبده المشركون من دون الله تعالى هو الباطل الذي لا يَنفع ولا يضرُّ ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ بذاتِهِ وقهره على جميع مخلوقاتِه، ﴿ الْكَبِيرُ في ذاته وصفاته (فهو أكبر وأعظم من كلِّ شيء)

     

    تفسير الربع الأخير من سورة الحج

     

    الآية 63، والآية 64: ﴿ أَلَمْ تَرَ - أيها الرسول - ﴿ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أي تُصبح خَضراء بما يَنبُت فيها من النبات بسبب هذا المطر؟ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ بعباده (حيثُ أخرج لهم هذا النبات المتنوع، الذي يأكلون منه هم وأنعامهم)، ﴿ خَبِيرٌ بمصالحهم ومنافعهم، وهو سبحانه الذي ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ خَلْقًا ومُلْكًا وتدبيرًا وإحاطة، فالكلّ مُحتاجٌ إلى تدبيره وإنعامه، (وكُلُّ ما تعبدونه مع الله: هو مِلكٌ لله تعالى فقيرٌ إليه)، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الذي لا يَحتاج إلى شيء ﴿ الْحَمِيدُ أي الذي يَستحق الحمد والثناء في كل حال.

     

    الآية 65: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ (كالبهائم والزروع وغير ذلك، لرُكوبكم وطعامكم وجميع مَنافعكم)؟ ﴿ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أي: وسَخَّرَ لكم السفن لتجري في البحر بقدرته، وبأمْرِهِ للبحر أن يَحملها رغم ثِقَلها، لتَحملكم مع أمتعتكم إلى حيث تشاؤون من البلاد والأماكن، ﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي: وهو سبحانه الذي يُمسك السماء حتى لا تقع على الأرض - فيَهلك مَن عليها - إلا إذا أَذِنَ سبحانه لها بذلك، ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ حيثُ رَحِمهم بتسخير هذه الأشياء لهم، (إذاً فليعبدوه وحده ولا يُشركوا به).

     

    الآية 66: ﴿ وَهُوَ سبحانه ﴿ الَّذِي أَحْيَاكُمْ أيها الناس (بأنْ أَوْجدكم من العدم)، ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انتهاء أعماركم، ﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بعد الموت ليُحاسبكم على أعمالكم، ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ أي جَحودٌ بآيات ربه الدالة على قدرته ووحدانيته، جحودٌ بنعمه عليه.

     

    الآية 67، والآية 68، والآية 69، والآية 70: ﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية ﴿ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ أي جعلنا لهم عباداتٍ أمرناهم بها فعملوا بها، فلما جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وقامت الأدلة والبراهين على صحتها، وَجَبَ على الجميع أن يَتلقوا ما جاء به بالقبول والتسليم وترْك الاعتراض، ولهذا قال تعالى: ﴿ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ﴾: أي لا تَتجادل مع مُشركي قريش - أيها الرسول - في شريعتك وما أمَرَك الله به من الذبائح والعبادات، (وذلك لأن المشركين جادلوه في ذبائح الهَدْي أيام التشريق، واعترضوا على تحريم المَيْتة، فأمَره الله تعالى أن يُعرض عن جدالهم لجَهْلهم)، وقال له: ﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ أي ادعُ إلى توحيد ربك وإخلاص العبادة له واتِّباع أمْره، ﴿ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ يعني إنك على دينٍ قويم لا اعوجاجَ فيه، ﴿ وَإِنْ جَادَلُوكَ يعني: وإن أصرُّوا على مجادلتك بالباطل: ﴿ فَقُلِ لهم: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ أي: هو سبحانه عليمٌ بأفعالكم ونِيّاتكم، ومُجازيكم عليها يوم القيامة، (ولا تجادلهم، فإنهم مُعانِدونَ متكبرون).

     

    وقال الله لرسوله: ﴿ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي مِن أمْر الدين، فمَن وافَقَ الطريق المستقيم، فهو من أهل النعيم، ومَن ضَلَّ عنه، فهو من أهل الجحيم، ومِن تمام عدله سبحانه، أن يكون حُكمه بعِلم، فلذلك ذَكَرَ إحاطة عِلمه بكل شيء قائلاً لرسوله: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (ومِن ذلك عِلمه سبحانه بجدالهم لك؟) ﴿ إِنَّ ذَلِكَ العلم مُثبَت ﴿ فِي كِتَابٍ (وهو اللوح المحفوظ)، ﴿ إِنَّ ذَلِكَ أي كتابة العلم وحِفظه والحُكم بين المختلفين ﴿ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي سهلٌ عليه سبحانه لأنه على كل شيء قدير، (وفي هذه الآيات إرشادٌ إلى حُسن الرد على مَن جادَلَ جَهلاً وعِناداً واستكبارًا).

     

    الآية 71: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ﴾: أي يَعبدون آلهةً لم يُنَزِّل الله بشأنها حُجَّةً تدل على أنها تستحق العبادة، أو أنها تُقَرِّبهم إليه كما يَزعمون ﴿ وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ في هذا الافتراء إلا الهوى واتِّباع الآباء بغير دليل ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾: أي ليس للمشركين ناصرٌ ينصرهم، أو يَدفع عنهم عذاب الله تعالى في الدنيا ولا في الآخرة.

     

    الآية 72: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ﴾: يعني إذا تتلى آيات القرآن الواضحة على هؤلاء المشركين: ﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ﴾: أي ترى الكَراهية ظاهرةٌ على وجوههم، حتى إنهم ﴿ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا ﴾: أي يَكادون يَبطشون بالمؤمنين الذين يَدعونهم إلى الله تعالى، ويَتلون عليهم آياته، ﴿ قُلْ لهم - أيها الرسول -: ﴿ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ يعني: هل أخبركم بما هو أشد كَراهيةً إليكم مِن سَماع الحق ورؤية الداعينَ إليه؟ إنها ﴿ النَّارُ التي ﴿ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾: أي أعدَّها الله للكافرين في الآخرة ﴿ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.

     

    الآية 73، والآية 74: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ أي ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً بَيَّنَ فيه عَجْز ما يُعبَد مِن دونه ﴿ فَاسْتَمِعُوا لَهُ أيها الناس وتَدَبّروه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ يعني لن تَقدر هذه الآلهة المزعومة - ولو اجتمعتْ مع بعضها - على خَلْق ذبابة واحدة، فكيف بخلق ما هو أكبر؟!، ﴿ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا يعني: إنْ يأخذ الذباب شيئاً من العِطر أو الطعام الذي يَضعونه لآلهتهم: ﴿ لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ أي: لا تَقدر هذه الآلهة المزعومة أن تَسترد ما يأخذه الذباب منها، فهل بعد ذلك عَجْز؟!، ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ وهو المعبود من دون الله، (وَالْمَطْلُوبُ) أي: وضَعُفَ المطلوب، وهو الذباب.

    وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ أي ضَعُفَ العابد والمعبود (وهُم المشركون وأصنامهم)، واللهُ أعلم.

    فهؤلاء المشركون ﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾: أي لم يُعَظِّموا اللهَ حق تعظيمه، إذ جعلوا له شركاء لا تنفع ولا تضر، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾: أي هو سبحانه القوي الذي خَلَقَ كل شيء وحده، العزيز الذي لا يَمنعه شيءٌ مِمّا أراد (فكيف يكون له شركاء؟!).

     

    الآية 75، والآية 76: ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي أي يَختار ﴿ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ليُبَلِّغوا الأنبياء بالوحي، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾) أي يَختار من الناس رُسُلا لتبليغ رسالاته إلى خَلقه، ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوال العباد ﴿ بَصِيرٌ بنيَّاتهم وأفعالهم، ولذلك يَختار مِنهم مَن يَعلمُ استقامته قولاً وفِعلاً، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، وهو سبحانه ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾: أي يَعلم ما يُستَقبَل مِن أمْر هؤلاء الرُسُل، وكذلك يَعلم ما مَضى مِن أفعالهم، فلذلك يَختار سبحانه مَن يشاء منهم لرسالاته، (إذاً فكيف يَصِحّ أن يَعترض المشركون على اختيار الله لمحمد صلى الله عليه وسلم؟) ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي: وإلى اللهِ وحده يَرجع مَصير الخلائق يوم القيامة، فيُجازي كُلاًّ بما عمل.

     

    الآية 77، والآية 78: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أي أقيموا صلاتكم، (وإنما خَصّ الركوع والسجود من بين أركان الصلاة لأنهما أشرف أجزائها، وأدَلّ على خضوع العبد لربّه وذُلِّه له)، ﴿ وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وحده لا شريك له، وأطيعوا أمْره واجتنبوا نَهْيه (مُعَظِّمينَ له غاية التعظيم، مُتذلِّلينَ إليه غاية الذل، مُحِبِّينَ له غاية الحب)، ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ (وهو كل أمْرٍ نافع يُحِبُّهُ اللهُ ويَرضاه) ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني: لكي تفوزوا في الدنيا والآخرة، ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ أي في سبيل إرضاءه تعالى ﴿ حَقَّ جِهَادِهِ أي الجهاد الحق الذي أمَرَكم الله به، وهو جهاد النفس والشيطان، وجهاد الكفار المُعتدين بالنفس والمال (مُخلِصينَ النية لله تعالى) ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ﴾: أي اختاركم سبحانه لحَمْل هذا الدين وتبليغه إلى جميع الناس، ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾: أي لم يَجعل في شريعتكم تضييقاً ولا تشديداً (كما كان في بعض الأمم قبلكم)، بل وَسَّعَ عليكم في تكاليفها وأحكامها، فجعل التوبة لكل ذنب، وجعل الكفارة لبعض الذنوب، ورَخَّصَ للمسافر والمريض في قصر الصلاة وقضاء الصيام، وجعل التيمم لمن لم يَجد الماء أو عَجَزَ عن استعماله.

     

    فالزموا ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ (وهي عبادة الله وحده لا شريك له)، فـ ﴿ هُوَ سبحانه الذي ﴿ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي في الكتب المُنَزَّلة السابقة ﴿ وَفِي هَذَا أي: وفي هذا القرآن أيضاً سَمَّاكم المسلمين ﴿ لِيَكُونَ الرَّسُولُ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ أي شاهدًا على أنه قد بَلَّغكم رسالة ربه، وشاهداً على أنكم قد آمنتم به ﴿ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ أي شهداء على الأمم السابقة أنّ رُسُلهم قد بَلَّغتهم رسالة ربهم (كما أخبركم الله في كتابه)، ﴿ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ بأركانها وشروطها، في خشوعٍ واطمئنان (شُكراً لله تعالى على هذه النعمة)، ﴿ وَآَتُوا الزَّكَاةَ لمُستحقيها، ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أي الجؤوا إليه سبحانه، واحتموا به من شر أعدائكم ومن شر النفس والشيطان، فـ ﴿ هُوَ مَوْلَاكُمْ أي هو سَيِّدكم ومُتوَلِّي أمْركم فاعتمدوا عليه، ﴿ فَنِعْمَ الْمَوْلَى أي فهو سبحانه نعم المُعين والحافظ لمن اعتصم به، ﴿ وَنِعْمَ النَّصِيرُ لمن طلب نَصْره.

     

     


  21. القاعدة الرابعة والعشرون : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }


     

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فهذا ظل من ظلال حلقات هذا السلسلة المباركة؛ لنتوقف قليلًا عند قاعدة من القواعد القرآنية التي حفل بها كتاب ربنا عز وجل، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69].

    وهذه الآية الكريمة جاءت في ختام سورة العنكبوت، والتي افتتحت بقوله تعالى:
    { الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت].
    وكأن ختام سورة العنكبوت بهذه القاعدة القرآنية:
    { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}
    هو جواب عن التساؤل الذي قد يطرحه المؤمن ـ وهو يقرأ صدر سورة العنكبوت التي ذكرنا مطلعها آنفًا ـ تلك الكلمات العظيمة ـ التي تقرر حقيقة شرعية وسنة إلهية ـ في طريق الدعوة إلى الله تعالى، وذلك السؤال هو: ما المخرج من تلك الفتن التي حدثتنا عنها أول سورة العنكبوت؟! فيأتي الجواب في آخر السورة، في هذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فلا بد من الجهاد ـ بمعناه العام ـ ولا بد من الإخلاص، عندها تأتي الهداية، ويتحقق التوفيق بإذن الله.

    ولا بد لكل من أراد أن يسلك طريقًا أن يتصور صعوباته؛ ليكون على بينة من أمره، وهكذا هو طريق الدعوة إلى الله، فلم ولن يكون مفروشًا بالورود والرياحين، بل هو طريق "تعب فيه آدم, وناح لأجله نوح, ورمى في النار الخليل, وأضجع للذبح إسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في السجن بضع سنين" (الفوائد: (42)). أتدري لماذا أيها القارئ الكريم؟
    لأن "الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف؛ وأمانة ذات أعباء؛ وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا. وهم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب" (في ظلال القرآن).

    "فيا من نصبت نفسك للدعوة، وأقمت نفسك مقام الرسل الدعاة الهداة تحمَّل كلَّ ما يلاقيك من المحن بقلب ثابت، وجأش رابط، ولا تزعزعنَّك الكروب؛ فإنها مربِّية الرجال، ومهذِّبة الأخلاق، ومكوِّنة النفوس.
    وإن رجلًا لم تعركه الحوادث، ولم تجرِّبه البلايا لا يكون رجل إصلاح ولا داعي خَلْقٍ إلى حقٍّ؛ فوطِّن النفس على تحمُّل المكروه، وابذل كل ما تستطيع من قوة ومال يهدك الله طريقًا رشدًا، ويصلح بك جماعات بل أممًا { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }" (الكلمة للمنفلوطي، نقلًا عن مقالات لكبار كتاب العربية للدكتور محمد الحمد ـ وفقه الله ـ (1 / 213)).

    أيها القراء الكرام:
    وإذا تبينت صلة هذه القاعدة القرآنية المذكورة في آخر سورة العنكبوت: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } بأول السورة، فإن دلالات هذه القاعدة في ميدان الدعوة كبيرة ومتسعة جدًا، وهي تدل بوضوح على أن من رام الهداية والتوفيق وهو يسير في طريق الدعوة فليحقق ذينك الأصلين الكبيرين اللذين دلّت عليهما هذه القاعدة:

    1 ـ أما الأصل الأول:
    فهو بذل الجهد والمجاهدة في الوصول إلى الغرض الذي ينشده الإنسان في طريقه إلى الله تعالى.

    2 ـ والأصل الثاني هو:
    الإخلاص لله، لقوله-: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } فليس جهادهم من أجل نصرة ذات، ولا جماعة على حساب أخرى، وليس من أجل لعاعة من الدنيا، أو ركض وراء كرسي أو منصب، بل هو جهادٌ في ذات الله تعالى.

    وإنما نُبّه على هذا الأصل ـوهو الإخلاص- مع كونه شرطًا في كل عمل، فإن السر -والله أعلم- لأن من الدعاة من قد يدفعه القيام بالدعوة، أو بأي عمل نافع، الرغبة في الشهرة التي نالها الداعية الفلاني، أو يدفعه نيل ثراء ناله المتحدث الفلاني.. فجاء التنبيه على هذا الأصل الأصيل في كل عمل صالح.

    وثمة سرٌّ آخر -والله أعلم- في التنبيه على هذا الأصل، وهو: أن الإنسان قد يبدأ مخلصًا، ثم لا يلبث أن تنطفئ حرارة الإخلاص في نفسه كلما لاح أمام ناظريه شيء من حظوظ النفس، والأثرة، أو التطلع إلى جاه، والرغبة في العلو والافتخار، أو الانتصار.

    "والعلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة، وهي إذا استفحلت استأصلت الإيمان، وإذا قلّت تركت به ثُلمًا شتى، ينفذ منها الشيطان" (خلق المسلم للغزالي: (66))، لذا ليس غريبًا أن يأتي التوكيد على هذا الأصل الأصيل في هذا المقام العظيم: مقام الجهاد والمجاهدة.

    وإذا تقرر أن السورة مكية ـ على القول الصحيح من أقوال المفسرين ـ وهو الذي لم تجب فيه بعدُ شعيرة الجهاد بمعناه الخاص ـ وهو قتال المشركين لإعلاء كلمة الله فإن ثمة معنى كبيرًا تشير إليه هذه القاعدة: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }، وهو أن من أبلغ صور الجهاد: الصبر على الفتن بنوعيها: فتن السراء وفتن الضراء، والتي أشارت أوائل سورة العنكبوت إلى شيءٍ منها.

    أيها المتأمل الكريم:
    وهذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } دلت على شيءٍ آخر، كما يقول ابن القيم: "وهو أن أكمل الناس هدايةً أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد... إلى أن قال:: ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمن نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نصرتْ عليه نُصِرَ عليه عدوُه" (الفوائد: (59)).

    وفي كلمات الأعلام من سلف هذه الأمة، والتابعين لهم بإحسان ما يوسع دلالة هذه القاعدة:
    فهذا الجنيد: يقول ـ في تعليقه على هذه القاعدة القرآنية: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }ـ:
    والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة؛ لنهدينهم سبل الإخلاص.
    ولأهل العلم نصيب من هذه القاعدة، يقول أحمد بن أبي الحواري: حدثني عباس بن أحمد ـ في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } قال: الذين يعملون بما يعلمون، نهديهم إلى ما لا يعلمون.
    وهذا الذي ذكره هذا العالم الجليل هو معنى ما روي في الأثر: من علم بما عمل، ورّثه الله علم ما لم يعمل، وشاهد هذا في كتاب الله: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد].
    وكان عمر بن عبدالعزيز: يقول: "جهلنا بما علمنا تركنا العمل بما علمنا ولو عملنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا وغلق ما لا تهتدي إليه آمالنا (درء التعارض 4/358).

    وفي واقع المسلمين أحوال تحتاج إلى استشعار معنى هذه القاعدة القرآنية: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }:
    فمن له والدان كبيران مريضان، بحاجة أن يستشعر هذه القاعدة..
    ومن سلك طريق طلب العلم، فطال عليه بعض الشيء بحاجة أن يتأمل معاني هذه القاعدة..
    ومن فرّغ جزءً من وقته لتربية النشء، والشباب، أو لتعليم أبناء وبنات المسلمين كتابَ الله عز وجل -وقد دبّ عليه الفتور- هو بحاجة ماسّة ليتدبر هذه القاعدة..

    وبالجملة، فكلُّ من نصب نفسه لعمل صالح، سواء كان قاصرًا أم متعديًا، فعليه أن يتدبر هذه القاعدة كثيرًا، فإنها بلسمٍ شافٍ في طريق السائرين إلى ربهم، ويوشك المؤمن أن ينسى كلَّ ما واجهه من تعب ونصب، إذا وضع قدمه على أول عتبة من عتابات الجنة، جعلني الله وإياكم -ووالدينا وذرياتنا- من أهلها، ومن الدعاة إلى دخولها.

  22. سلسلة كيف نفهم القرآن؟(1)

     

     

    تفسير الربع الأول من سورة الحج

     

     

     

    الآية 1: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي احذروا عقابَ ربكم، فـ ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ أي زلزلة الأرض عند مَجيء الساعةِ ﴿ شَيْءٌ عَظِيمٌ لا يُقْدر قَدْره إلا رب العالمين.

     

     

     

    الآية 2: ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا يعني يوم ترون قيام الساعة: ﴿ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ أي تَنسى رَضيعها بسبب الكرب الذي نزل بها، ﴿ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ﴾: أي تُسْقِط الحامل حَمْلها من الرعب، ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى أي غابت عقولهم، فيكونوا كالسُكارَى من شدة الهول والخوف، ﴿ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى من الخمر، ﴿ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ أي: ولكنّ أهوال القيامة - كالحَرّ الشديد وشِدّة الرُعب - قد أفقدتهم عقولهم وإدراكهم.

     

     

     

    الآية 3، والآية 4: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ أي: ومِن الكفار ﴿ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ أي يُجادلون ويُشَكِّكون في قدرة الله على البعث ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي جهلاً منهم بحقيقة هذه القدرة، ﴿ وَيَتَّبِعُ هؤلاء الكفار ﴿ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ﴾: أي يَتَّبعون كل شيطان متمرد على أوامر الله تعالى، وهذا الشيطان قد ﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ﴾: أي قضى الله على ذلك الشيطان بأنه يُضِل كل مَن اتَّبعه ﴿ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾: أي يَسوقه إلى عذاب جهنم الموقدة.

     

     

     

    الآية 5: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ أي في شَكٍّ ﴿ مِنَ الْبَعْثِ بعد الموت، فإليكم ما يُزيل شَكَّكم ويَقطع حِيرتكم: ﴿ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ﴾: أي فاعلموا أننا قد خلقنا أباكم آدم من تراب، ثم تناسلت ذريته مِن نطفة (وهي ماء الرَجُل)، ﴿ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي: ثم يَتحول هذا المَنِيّ بقدرة الله إلى عَلَقة (وهي قطعة من الدم الغليظ متعلقة بالرَحِم)، ﴿ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أي: ثم تتحول هذه العَلَقة بقدرة الله إلى مُضغة (وهي قطعة لحم صغيرة قَدْر التي تُمْضَغ)، فتكون أحياناً مُخَلَّقة (أي تامة الخَلق تنتهي إلى خروح الجنين حيًا)، وأحياناً تكون غير تامة الخَلق (فتَسقط من الرَحِم)، كل ذلك بأمر الله تعالى ومشيئته.

     

     

     

    وقد أخبرناكم بهذا ﴿ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ تمام قدرتنا على الخَلق، ولتعلموا أن الذي ابتدأ خَلْقكم بهذه الصورة قادرٌ على إعادتكم بعد الموت، بل إنَّ إعادة الخَلق أهْوَنُ عليه سبحانه (لأنّ إعادة الشيء كما كان، أسهل من إيجاده أول مرة)، ﴿ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إننا نُبقِي الجنين في الأرحام - المدة التي نشاؤها - إلى وقت ولادته (فمنهم مَن يُولد قبل تسعة أشهر، ومنهم مَن يُولد بعد ذلك)، ﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم ﴿ طِفْلًا أي أطفالا صغارًا ﴿ ثُمَّ نُنَمِّيكم ونُرَبِّيكم ﴿ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ (وهو وقت الشباب والقوة واكتمال العقل)، ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى يعني: وبعض الأطفال يموتون قبل الوصول لفترة الشباب، ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ يعني: وبعضهم يَكبر حتى يَبلغ أردأ العُمر (وهو سِن الهِرَم)، حيثُ يَفقد الإنسان ما كانَ له مِن قوةٍ وعقل ﴿ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾: أي حتى يَصير لا يَعلم شيئًا مِمَّا كانَ يَعلمه (كما كانَ في طفولته)، (واعلم أنّ اللام التي في قوله تعالى: ﴿ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ تسمى: (لام العاقبة) أي ليَصير الإنسان إلى هذه الحالة).

     

     

     

    ثم ذَكَرَ سبحانه دليلاً آخر على قدرته على الإحياء فقال: ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً أي يابسةً مَيِّتة لا نباتَ فيها ﴿ فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ تراها قد ﴿ اهْتَزَّتْ أي تحركت وتشققت ليَخرج منها النبات، ﴿ وَرَبَتْ أي ارتفعت وزادت لارتوائها بالماء ﴿ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾: أي أخرجتْ من كل نوع من أنواع النبات الحَسَن الذي يَسُرُّ الناظرين.

     

     

     

    الآية 6، والآية 7: ﴿ ذَلِكَ أي ذلك المذكور مِن آيات قدرة الله تعالى، فيه دلالة قاطعة ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي الذي يَستحق العبادة وحده ﴿ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى ﴿ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ - التي تقوم فيها القيامة - ﴿ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا أي لا شك في مَجيئها، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي يَبعث الموتى مِن قبورهم لحسابهم وجزائهم.

     

     

     

    الآية 8، والآية 9، والآية 10: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ أي: ومِن الكفار ﴿ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ أي يُجادلون في توحيد الله تعالى واختياره لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مِن بينهم، وجِدالهم هذا يكون ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي جهلاً منهم بحكمة الله تعالى في اختياره، ﴿ وَلَا هُدًى أي: يُجادلون مِن غير وَحْيٍ مِن الله تعالى، ومِن غير عقلٍ رَشيد، ﴿ وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ أي: يُجادلون مِن غير الاستناد إلى كتاب سماوي مُنير (يعني فيه نورٌ يَكشف الظُلُمات، بِبَيَان الحُجَج وكَشْف الحقائق)، فليس لهذا المُجادل حُجَّة عقلية، ولا حُجَّة مكتوبة في كتابٍ سابق، وإنما هي وساوس من الشيطان يُلقيها إليه ليُجادلكم بها.

     

     

     

    وهذا المُجادل يكونُ ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ ﴾: أي لاويًا عُنُقه، مُعرِضًا عن الحق في تَكَبُّر، فليس جِداله لطلب الهدى، بل ﴿ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ليَصُدّ غيره عن الدخول في دين الله تعالى، فلذلك تَوَعَّده الله بأنّ ﴿ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾: أي له ذلٌ ومَهانة في الدنيا بافتضاح أمْره ﴿ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (في نار جهنم)، ويُقال له وهو يُعَذَّب فيها: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ أي بسبب ما فَعَلتَه من الشرك والمعاصي، وليس بظلمٍ مِن اللهِ تعالى، لأنّ اللهَ هو الحَكَمُ العدل ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (فلا يَظلم سبحانه أحدًا مِن خَلْقه مِثقال ذرة، وذلك لغِناه وكمال قدرته).

     

     

     

    الآية 11، والآية 12، والآية 13: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ أي يَدخل في الإسلام على ضَعفٍ وشكٍّ، فيَعبد اللهَ على تردد، ويَربط إيمانه بدُنياه: ﴿ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ يعني: فإنْ عاشَ في صحةٍ وسَعَة رِزق: استمَرّ على عبادته، ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ يعني: وإنْ حصل له ابتلاءٌ وشِدّة: رَجَعَ عن دينه وتوبته، وبذلك يكون قد ﴿ خَسِرَ الدُّنْيَا إذ لا يستطيع أن يُغيِّر ما قُدِّر له فيها، ﴿ وَالْآَخِرَةَ خَسِرَها أيضاً بدخوله النار، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُأي ذلك هو الخُسران الواضح.

     

     

     

    وذلك الخاسر ﴿ يَدْعُو أي يَعبد ﴿ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ إذا تَرَكَ عبادته ﴿ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ إذا عَبَده، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ عن الحق، وتراهُ ﴿ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ﴾: أي يَدعو مَن ضَرَرُه يوم القيامة أقرب إليه مِن نَفْعه (لأنه سيَدخل النار بسبب عبادته له، ولن يَدفع عنه شيئًا من العذاب، بعدَ أنْ ظَنّ أنه سيَشفع له عند ربه)، ﴿ لَبِئْسَ الْمَوْلَى ﴾: أي قَبُحَ ذلك المعبود العاجز الذي اتخذوه نصيرًا مِن دون الله تعالى، ﴿ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي: وقَبُحَ ذلك المُعاشِر والصاحب المُلازم، الذي يَضُرّ مَن التزمه وعَكَفَ على عبادته.

     

     

     

    الآية 14: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا أي آمَنوا بالله ورسوله وبكل ما أخبر به رسوله من الغيب ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وهي الفرائض والنوافل وأفعال الخير (فأدَّوْها بإخلاصٍ لله تعالى وعلى النحو الذي شَرَعه)، أولئك يُدخلهم اللهُ ﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (ومِن ذلك ثواب أهل طاعته، وعقاب أهل معصيته).

     

     

     

    الآية 15: ﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ يعني: مَن كان يعتقد أنّ الله لن يَنصر رسوله محمدًا ﴿ فِي الدُّنْيَا(بإظهار دينه والنصر على أعدائه)، ﴿ وَ في ﴿ الْآَخِرَةِ (بإعلاء درجته وعذابِ مَن كَذَّبه): ﴿ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ﴾: أي فلْيَمدُدْ بحبلٍ إلى سقف بيته (لأنّ العَرَب كانت تُسَمِّي كل ما يَعلُوها: سماء)، ﴿ ثُمَّ لِيَقْطَعْ ذلك الحبل بعد أن يَخنق به نفسه، ﴿ فَلْيَنْظُرْ أى فليَتفكر: ﴿ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ؟ يعني هل ذلك الفِعل سوف يُذهِب ما في نفسه من الغيظ على النبي محمد؟ (والجواب: لا)، فإن الله تعالى ناصرٌ رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم لا مَحالة، (ولعل اللهَ تعالى قد وَصَفَ هذا الفِعل بالكيد، على سبيل الاستهزاء بهذا الكافر، لأنه لم يَكِد به إلا نفسه، واللهُ أعلم).

     

     

     

    وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ أي فليَصعد بحبلٍ إلى السماء، حتى يَصِل به إلى الأبواب التي ينزل منها النصر فيَسُدَّها - وذلك على سبيل الفرض والتعجيز - فإنّ هذا لن يَمنع نَصْرَ الله لرسوله محمد.

     

     

     

    الآية 16: ﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ يعني: وكما وَضَّح اللهُ لعباده أدلة قدرته على البَعث، فكذلك أنزل هذا القرآن، وجعل آياته واضحة في ألفاظها ومَعانيها، تَحمل الهدى والخير، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي بهذه الآيات ﴿ مَنْ يُرِيدُ هدايته (وذلك بأن يوفقه سبحانه للتفكر فيها، فيَعرف الحق، فيؤمن به، ويَعمل بما فيه من شرائع وأحكام).

     

     

     

    الآية 17: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا (وهم المسلمون الذين آمنوا بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم)، ﴿ وَالَّذِينَ هَادُوا (وهم اليهود)، ﴿ وَالصَّابِئِينَ (والراجح أنهم قومٌ باقون على فِطرتهم (أي على التوحيد) وليس لهم شَرْعٌ مُعَيّن يَتَّبعونه)، ﴿ وَالنَّصَارَى (وهم عَبَدة الصليب)، ﴿ وَالْمَجُوسَ (وهم عَبَدَة النار)، ﴿ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا (وهم عَبَدَة الأصنام)، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي يَحكم بين هؤلاء جميعًا ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (فيُدخل المؤمنين الجنة، ويُدخل الكافرين النار)، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (إذ شَهِدَ سبحانه على أعمال عباده في الدنيا، وسيُجازيهم بها في الآخرة).

     

     

     

    الآية 18: ﴿ أَلَمْ تَرَ يعني ألم تعلم - أيها الرسول - ﴿ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ من الملائكة ﴿ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ مِن سائر المخلوقات ﴿ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ (كل هؤلاء يسجدون له ويخضعون لأمره) ﴿ وَالدَّوَابُّ (وهي جميع الحيوانات) ﴿ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وهم المؤمنون الذين يسجدون لله تعالى طاعةً واختيارًا، ﴿ وَكَثِيرٌ من الناس ﴿ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ أي وَجَبَ عليه العذاب المُهين - بسبب جحوده وضلاله - ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يعني: وأيُّ إنسان يُهِنه الله ويُعَذِّبه، فلا يستطيع أحد أن يُكرمه ويُسعِده ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فمَن شاء أهانه (بعدله وحكمته)، ومَن شاء أكرمه (بفضله ورحمته)، إذ أفعاله سبحانه تدور بين العدل والفضل والحكمة.

     

     

     

    وعلى الرغم مِن أن الشمس والقمر والنجوم تَدخل ضِمن قوله تعالى: ﴿ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ﴾ إلا إنه سبحانه قد أفرَدَها بالذِكر لشُهرتها، ولأنّ هناك مَن كان يَعبد هذه الكواكب، (وهذا ما يُعرَف بعطف الخاص على العام)، وكذلك الحال في قوله تعالى: ﴿ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ﴾، فإنها معطوفة - عطفاً خاصاً - على قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ فِي الْأَرْض ﴾.

     

     

     

    تفسير الربع الثاني من سورة الحج

     

     

     

     

    من الآية 19 إلى الآية 24: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ ﴾: أي هذان فريقان ﴿ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ﴾: أي اختلفوا في توحيد ربهم (وهم أهل الإيمان وأهل الكفر)، ﴿ فَالَّذِينَ كَفَرُوابتوحيد ربهم ﴿ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ﴾: أي يُحيط بهم العذاب في هيئة ثياب مُفَصَّلة من نار، يَلْبَسونها فتَشوي أجسادهم، و﴿ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ أي يُصَبُّ على رؤوسهم الماء الساخن، فيُحدِث ثُقباً في رؤوسهم - بسبب شدة غليانه - ثم يَنزِل مِن خلال هذا الثُقب إلى بطونهم، فـ ﴿ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴾: أي يُذِيب أمعاءهم وجلودهم فتَسقط مِن شدة الحرارة، ﴿ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ أي تَضربهم الملائكة على رؤوسهم بمطارق من حديد، و﴿ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ ﴾: أي كلما حاولوا الخروج من النار - لشدة غمِّهم وكَرْبهم - ﴿ أُعِيدُوا فِيهَا أي تُجبِرهم ملائكة العذاب على العودة إليها ﴿ وَ يقولون لهم - توبيخاً - وهم يُعَذَّبون: ﴿ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾.

     

     

     

    وأما أهل التوحيد فقد قال تعالى عنهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ أي بساتين عجيبة المنظر ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أي تجري أنهار الماء واللبن والعسل والخمر من تحت أشجارها، ﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ﴾: أي يَتزيَّنون فيها بأساور من ذهب وأساور من لؤلؤ ﴿ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾: أي لباسهم المعتاد في الجنة - رجالاً ونساءً - هو الحرير، ﴿ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ يعني: لقد هداهم الله في الدنيا إلى القول الطيب (وهو قول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، وسائر الأذكار المشروعة، وكل كلام طيب)، ﴿ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾: أي كما وفقهم سبحانه إلى الثبات على الإسلام، الذي هو طريق الله الحميد (ومعنى الحميد: أي الذي يَستحق الحمد والثناء في كل حال، لِكَثرة نِعَمِه على جميع مخلوقاته، ومعنى أن الإسلام هو طريق الله، أي هو الذي يُوصل إلى رضاه وجَنَّته).

     

     

     

    الآية 25: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بوحدانية الله تعالى، وكَذَّبوا بما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: ويَمنعون غيرهم من الدخول في دين الله، ﴿ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أي: ويَصُدّون الرسول والمؤمنين - في عام "الحُدَيبية" - عن دخول المسجد الحرام ﴿ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً أي الذي جعلناه مكان تَعَبُّد لجميع المؤمنين على سواء: ﴿ الْعَاكِفُ فِيهِ أي سواء الذي جاء إلى مكة ثم أقام فيها للتعبد في المسجد الحرام، ﴿ وَالْبَادِ أي: وكذلك القادم إليه للعبادة ثم خرج منه، (وقد يكون المقصود بالعاكف فيه: أي الساكن بمكة، فهؤلاء يتساوون مع غيرهم في ثواب العبادة في المسجد الحرام).

     

     

     

    وهؤلاء الكفار - الذين يَمنعون الناس عن دخوله - لهم عذاب أليمٌ في الآخرة، ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ يعني: ومَن يُرِد المَيْل عن الحق في المسجد الحرام - وذلك بأن يَظلم نفسه (بارتكاب شِرك أو معصية)، أو يَظلم غيره - فهذا ﴿ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، (فمُجَرَّد إرادة الظلم في الحَرَم تستوجب العذاب، فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم، وهو الشرك بالله تعالى ومَنْع الناس من زيارته؟!) (وفي هذه الآية وجوب احترام الحَرَم وشدة تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه أو فِعلها).

     

     

     

    الآية 26، والآية 27، والآية 28: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أي اذكر أيها الرسول لكفار قريش - المُنتسبين إلى إبراهيم كَذِباً وباطلاً - حين أنزلنا إبراهيم بمكة وبَيَّنّا له مكان البيت (لأنّ مكانه كان غير معروف)، وأمَرنا إبراهيم ﴿ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا في عبادتي، ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ أي طَهِّر المسجد الحرام من الشِرك والنجاسات، (وذلك من أجل الطائفين به) ﴿ وَالْقَائِمِينَ عنده - وهم المعتكفين فيه - ﴿ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (وذلك حتى لا يَتأذّوا بأيّ أذى مادي أو معنوي وهم في بيت ربهم).

     

    فاذكر هذا لقومك الذين نَصَبوا الأصنام والتماثيل حول البيت، وحارَبوا كل مَن يقول لا إله إلا الله، ومنعوك وأصحابك عن المسجد الحرام، فأين ذهبتْ عقولهم عندما يَزعمون أنهم على دين إبراهيم وقد كان مُوَحِّداً وهم مُشركون؟!

     

     

     

    ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾: أي بَلِّغ الناس يا إبراهيم أنّ الحج واجبٌ عليهم، وأعلِن ذلك لهم بأعلى صوتك، فحينئذٍ (يَأْتُوكَ رِجَالًا) أي مُشاةً على أرجلهم ﴿ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ﴾: أي: وسيأتوك رُكبانًا على كل ضامر من الإبل (وهي الناقة خفيفة اللحم مِن كثرة السَّيْر والأعمال، لا من الضَعف والهُزال)، ﴿ يَأْتِينَ أي تأتي هذه النِيَاق وهي تَحمل راكبيها ﴿ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ: أي مِن كل طريق بعيد ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾: أي ليَحضروا منافع لهم (مِن مغفرة ذنوبهم، وثواب حَجِّهم وطاعتهم، واستجابة دعائهم والفوز برضا ربهم، وبالربح في تجاراتهم أثناء الحج، وغير ذلك) ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ يعني: وليذكروا اسم الله على ذَبْح ما يَتقربون به من الإبل والبقر والغنم في أيام مُعَيَّنة، وهي اليوم العاشر مِن ذي الحجة وثلاثة أيام بعده -على الراجح - شُكرًا لله على نعمه، ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا أي كلوا من هذه الذبائح أيها الحَجيج ﴿ وَأَطْعِمُوا منها ﴿ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (وهو الفقير الذي اشتد فقره).

     

     

     

    الآية 29: ﴿ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ أي: ثم ليُكمِل الحَجيج ما تَبَقَّى لهم من النُّسُك (وذلك بأن يَتحلُّلوا مِن إحرامهم بحَلق شعر الرأس أو تقصيره)، وكذلك يَقصون أظفارهم ويُزيلون ما تراكم مِن الأوساخ في أجسادهم طوال فترة الإحرام، ﴿ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ يعني: وعليهم أن يُوفوا بما أوجبوه على أنفسهم من الذبائح لله تعالى ﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي: وليَطوفوا - بعد النحر - طواف الإفاضة بالبيت القديم، الذي أعتقه الله مِن تَسَلُّط الجبارين عليه، وهو الكعبة.

     

     

     

    الآية 30: ﴿ ذَلِكَ أي ذلك الذي ذكَرناه مِن إكمال النًسُك والوفاء بالنذور والطواف بالبيت، هو مِمّا أوجبه الله عليكم فعَظِّموه ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ يعني: ومَن يَجتنب ما حَرَّم اللهُ انتهاكه: ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ يوم يَلقاه.

     

    ولمَّا ذَكَرَ سبحانه الأنعام في الآيات السابقة، أتْبَعَ ذلك بإبطال ما حَرَّمَه المشركون على أنفسهم منها، فقال: ﴿ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ يعني: وقد أحَلَّ الله لكم أَكْلَ الأنعام (من الإبل والبقر والغنم) ﴿ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يعني إلا ما حَرَّمه سبحانه عليكم في القرآن (مِن المَيْتة وغيرها).

     

    ولمَّا حَثَّ سبحانه على تعظيم حُرُماته، أتْبَعَ ذلك بالأمر باجتناب أعظم الحرام (وهو الشِرك)، فقال: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ أي ابتعِدوا عن القذارة (التي هي الأصنام)، ﴿ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ أي: وابتعِدوا عن الكذب (الذي هو الافتراء على الله تعالى)، كتحليل وتحريم ما لم يَأذن به، وإنساب الولد والشريك إليه.

     

     

     

    الآية 31: ﴿ حُنَفَاءَ لِلَّهِ أي كونوا مُستقيمين لله تعالى (بطاعته وإخلاص العمل له)، وعبادته وحده ﴿ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ أي فمَثَلُ هذا المُشرك - في بُعْده عن الهدى، وسقوطه من الإيمان إلى الكفر، وتَخَطُّف الشياطين له من كل جانب - كمثل مَن سقط من السماء ﴿ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ فتُقَطِّع أعضاءه، ﴿ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾: يعني أو تأخذه عاصفة شديدة، فتقذفه في مكان بعيد، لا يُعثَر عليه أبداً.

     

     

     

    الآية 32، والآية 33: ﴿ ذَلِكَ أي توحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له، هو مِمّا فرضه الله عليكم وأمَركم به فعَظِّموه ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ يعني: ومَن يَمتثل أوامر الله تعالى ويُعَظِّم مَعالم دينه (والمقصود بها هنا: اختيار أفضل الذبائح) ﴿ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾: أي فهذا التعظيم يَصدر من أصحاب القلوب التي تتقي اللهَ وتخشاه، ﴿ لَكُمْ فِيهَا أي لكم في هذه الذبائح ﴿ مَنَافِعُ تنتفعون بها - من الصوف واللبن والركوب - وغير ذلك من المنافع التي لا تَضُرّها ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى أن يأتي وقت ذَبْحها، ﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ يعني: ثم تذهبون بهذه الذبائح إلى مكان ذَبْحها (وهو الحرم كله).

     

     

     

    الآية 34، والآية 35: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا يعني: ولكل جماعةٍ مؤمنة- من الأمم السابقة - جعلنا لها مَناسك مِنَ الذبح يَتقربون بها إلى الله تعالى ﴿ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أي ليذكروا اسم الله وحده عند ذبح ما رَزَقهم مِن هذه الأنعام، وذلك بأن يقولوا عند الذبح: (بسم الله والله أكبر)، شُكراً لله على نعمه.

     

    وإن اختلفت الشرائع، فكلها متفقة على أصل واحد، وهو إفراد الله وحده بالعبادة، وتَرْك الشِرك به، فلذلك قال تعالى: ﴿ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ وهو الله الأحد الصمد ﴿ فَلَهُ أَسْلِمُوا أي انقادوا لأمْره ظاهراً وباطناً ﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ أي المتواضعينَ الخاشعينَ الخاضعينَ لأمر ربهم، فهؤلاء بَشِّرهم أيها الرسول بخيرَي الدنيا والآخرة، وهُم ﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافت قلوبهم مِن عقابه، وبالتالي خافت أن تعصاه، ﴿ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِن بلاءٍ وشدة، مُحتسبين الأجر عند ربهم في الآخرة، فلا يَجزعون ولا يَتسَخَّطون ولكنهم يقولون: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، ﴿ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ - في أوقاتها بخشوعٍ واطمئنان - ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ - مِن أنواع المال - ﴿ يُنْفِقُونَ ﴾: أي يُخرِجون صَدَقة أموالهم الواجبة والمُستحَبة، (وكذلك يُنفقون مِمَّا رزقهم اللهُ مِن عِلمٍ أو صِحَّةٍ أو سُلطة في خدمة المسلمين، فيُعَلِّمونَ الناس، ويَسعونَ في قضاء حوائجهم، وغير ذلك).

     

     

     

    الآية 36: ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾: أي جعلنا لكم ذبْح الإبل مِن شعائر الدين التي تتقربون بها إلى الله أثناء حَجِّكم(وكذلك الحال في البقر والغنم، وإنما خَصّ سبحانه الإبل لأنها أفضل في الهَدي لكثرة لحمها)، ﴿ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ أي لكم في هذه الإبل منافع (من الأكل وثواب الصدقة) ﴿ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أي اذكروا اسم الله عند ذبحها، واذبحوها وهي ﴿ صَوَافَّ أي واقفة على ثلاث من قوائمها (على أن تقَيِّدوا يدها اليسرى)، ﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا يعني: فإذا سقطت جنوبها على الأرض مَيِّتة: فقد أُحِلَّ لكم أكْلها ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا ﴿ وَأَطْعِمُوا منها ﴿ الْقَانِعَ - وهو الفقير الذي لم يسأل تعففًا - ﴿ وَالْمُعْتَرَّ وهو الفقير الذي يسأل لحاجته واضطراره، ﴿ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: وهكذا سَخَّرَ الله لكم الإبل - في الركوب والحلب والأكل - لتشكروه سبحانه - على هذا التسخير - بطاعته وذِكره.

     

     

     

    الآية 37: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا يعني: لن يأخذ اللهُ شيئاً مِن لحوم هذه الذبائح ولا مِن دمائها (لغِناهُ عن ذلك وعدم حاجته إلى ما يَحتاجه البشر)، ﴿ وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ أي: ولكنه سبحانه يَصعد إليه تقواكم له بامتثال أمْره واجتناب نَهْيه، وأن يكون قصدكم بالذبائح: وَجْه الله وحده، ﴿ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ أي لتُكَبِّروه سبحانه عند الذبح وبعد الصلوات الخمس في أيام التشريق (شكراً له على هدايته لكم)، ﴿ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (وهم الذين يُحسنون عبادتهم لربهم، ويُراقبونه في كل أحوالهم، وكذلك يُحسنون معاملة خَلقه)، فهؤلاء بَشِّرهم أيها الرسول بكل خيرٍ وفلاح في الدنيا والآخرة، (واعلم أن الإحسانُ قد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مُسلِم -: "أنْ تعبُدَ اللهَ كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراهُ، فإنه يَراك")

     

     


     

    (1) وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو تفسير الآية الكريمة.

    واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن

     

    يتبع


     
     
    رامي حنفي محمود
    شبكة الالوكة
     

  23. القصة هذه من بدايتها إلى نهايتها نبع ثرٌّ من المعاني التربوية القرآنية الرائعة . في كل كلمة منحى بديع ولفتة راقية . فهلم إليها من بدايتها :
    - " وإذ قال موسى لفتاه : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو امضي حقباً " إن لموسى عليه السلام هدفاً محدداً يسعى لتحقيقه ..
    ا- يريد أن يلقى معلماً يتعلم منه صلاح أمره في دنياه وآخرته .
    ب- في مكان محدد يلتقيان فيه .
    ج- في وقت ينتظره المعلم فيه .

    - وعلى التلميذ أن يسعى إلى العلم لا أن يسعى المعلم إليه فهذا أكرم للعلم والمعلم والمتعلم فالعلم إن جاء سهل المتناول زهد المتعلم فيه . وأعظم للمعلم في عين المتعلم أن يسعى الأخير إلى الأول ليعرف قدره وقدر ما يحمله ، فيتعلق بهما .
    - ونرى الإصرار العجيب على لقاء المعلم والنهل من علمه في قوله : " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً " فهو مصمم على بذل الجهد ليصل إلى مبتغاه – لقاء الأستاذ في المكان المنشود - ولو امضى عمره يبحث عنه " أو امضي حقباً " والحقبة أربعون سنة كما قال العلماء ، فما بالك بذكر الجمع " حقباً " ؟! .إنه دليل على الهمة العالية والسعي الحثيث إلى العلم والعلماء . وما يزال العلم بخير مادام طالبوه يطلبونه في مجالسه ويوقرون حامليه . ألم يرد في الأثر :" نعم الأمراء على أبواب العلماء ، وبئس العلماء على أبواب الأمراء " ؟ ... وهذا نبي كريم موسى عليه السلام على جلال قدره وعلوّ مكانته يسعى إلى الرجل الصالح حين علم أن لديه علماً يُستفاد لم يحزْه موسى " وفوق كل ذي علم عليم " .
    - مصاحبة الكبيرِ الصغيرَ فائدة لكليهما فالأول يشرف على تربيته ، ويعلمه الحياة ، ويصوب أخطاءه ، ويسدد خطاه . والثاني يخدمه ، ويعينه على قضاء حوائجه . وقد أفلح موسى في تربية الفتى " يوشع بن نون " عليه السلام إذ بعثه الله تعالى نبياً، فقاد مسيرة المؤمنين وحمل لواء الدعوة بعد أستاذه ، وفتح الله على يديه القدس الشريف .
    - " فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ، فاتخذ سبيله في البحر سرباً " وكلمة " مجمع بينهما " حار فيه كثير من المفسرين فمنهم من جعله الأرض الشاسعة بين بحر قزوين وخليج فارس !، ومنهم من قال : إنه بين خليج الإسكندرون وبحر إيجة ! ومنهم من ذكر أنها الأرض بين بحر غزة وخليج العقبة ! وقد ظنوا بكلمة " البحرين " المياه المالحة ، فتاهوا في أقوالهم ... إنه ليس من الممكن أن يلتقي أحد بمن يريد على مساحات ضخمة شاسعة تبلغ آلاف الكيلومترات تضيع فيها الجيوش والأمم !! وهل من المعقول أن يُضْرَبَ موعدٌ لرجلين في صحراء سيناء الواسعة الشاسعة ، أو أن يشد موسى الرحال إلى إيران ، أو أسيا الوسطى وهو في فلسطين ؟! وقد غاب عن كثير منهم أن البحر يطلق على الماء المالح والماء الحلو في قوله تعالى : " وهو الذي مرج البحرين ، هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج " والنهر يصب في البحر ، فهو مجمعهما . أي : في قطعة من الأرض لا تتجاوز عشرات الأمتار، قريبة من مقام موسى عليه السلام يقطعها إن جدّ السيرَ بساعات قليلة أو ببعض يوم . وسياق الحديث يدل على ذلك . وهل يجوز لموسى أن يدع قومه اليهود أياماً وشهوراً وهم على ما هم عليه من ضعف الإيمان وشوائب العقيدة ، ويلتقي رجلاً مدة ليست باليسيرة ، قد تطول أياماً وشهوراً أيضاً فيعود ليجدهم قد تاهوا في الضلالة وهو العالم بشؤونهم الحريص على هدايتهم ؟!

    - الإنسان ضعيف على الرغم من جلده في كثير من أموره ، ولو كان من أولي العزم . وأول دليل على ذلك أنّ موسى أصر على لقاء الرجل ولو طوى الأرض في سبيل هذا الهدف . لكنه إذ شعر بالجوع بعد السير الطويل واجتياز مكان اللقاء دون أن ينتبها إليه قال لفتاه " آتنا غداءنا ، لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً " وكان غداؤُه السمكة المشوية التي تحركت بعد أن عادت إليها الروح بإذن الله تعالى حين استلقى نائماً على الصخرة التي كان من المفروض أن يلتقي صاحبه عليها وغابت في شقوقها عائدة إلى الماء بقدرة خالقها وبارئها الذي يعيد الخلق كما بدأه وقتما يشاء . والدليل الثاني أن النسيان ضعف يضيّع على الإنسان كثيراً مما خطط ودبّر . فقد نام موسى على الصخرة حين سرب الحوت إلى الماء ولم يكن الفتى نائماً فرأى بأم عينه الأمر الغريب ، ولم يشأ أن يوقظ نبيه الكريم احتراماً وتقديراً ولسوف يخبره حين يستيقظ .
    - ولا بد أن نشير هنا إلى الأدب الذي ربّيَ عليه الصغير في التعامل مع الكبير، وإلى آفة النسيان التي ابتلي بها الإنسان للدلالة على ضعفه . فلما استيقظ موسى عليه السلام وسارا بحثاً عن الرجل الصالح نسي الفتى قصة السمكة على غرابتها وعجيب أمرها .
    - ومن الأدب أيضاً مع الله تعالى أنْ نسَب الفتى نسيانه أمر السمكة إلى الشيطان ، واعتبر هذا النسيان عيباً. والعيب كله في الشيطان عدو الإنسان . مع أن الله تعالى كان أخبر نبيه موسى أنه سيلقى الرجل الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت . فهو أمر مخطَّط له كي يحدد المكان فلا يخطئه .
    - والحقيقة أن موسى وفتاه نسيا المكان وسارا لأنهما لم يقولا " إن شاء الله " فيما عزما عليه ، فموسى أخبر فتاه عن عزمه على بلوغ مجمع البحرين دون أن يربط ذلك بمشيئة الله تعالى ، وكذلك فعل فتاه فدمجهما الله تعالى بذكرهما في النسيان " .... نسيا حوتهما ..." وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن الروح والفتية – أصحاب الكهف – وذي القرنين إنه سيعطيهم الجواب غداً دون أن يربط ذلك بمشيئة الله فتأخر الجواب خمسة عشر يوماً ثم نزل عليه قوله تعالى : " ولا تقولنّ لشيء : إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله " وأمره أن يذكر الله تعالى ، فقال : " واذكر ربك إذا نسيت ، وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً " .

    - ومن الأدب التربوي في هذه القصة كذلك أن موسى حين علم بخطئه وخطأِ فتاه لم يشغل نفسه بلوم نفسه أو لوم صاحبه فهناك أمر مهم جداً عليهما تداركه قبل فواته . إنه لقاء الرجل المعلم . فماذا فعلا ؟ إنهما
    أ – عادا سريعاً لم يضيعا الوقت ، والدليل على ذلك قوله تعالى : " فارتدا ..." وهذه الكلمة مع الفاء – حرف العطف والترتيب والتعقيب - تدلان على سرعة الحركة والعزم على الوصول بقوة إلى الهدف .
    ب- عادا من حيث جاءا ، يستهديان بآثار الخطوات التي مشياها كي لا ينحرفا عن الصخرة " ... على أثارهما قصصاً ..." .
    جـ - فكان عاقبة سرعتهما وجَدِّهما أن وصلا إلى الهدف فوراً " فوجدا عبداً من عبادنا ..." .

    - بعض صفات المعلم الرباني :
    أ‌- هو عبد من عباد الله تعالى ، والعبودية لله أعلى مراتب الإنسانية ، لأن صلة العبد بربه تسمو به، وتفتح له مغاليق الأمور . وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل الصالح هو الخضر ، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء " هذا حديث صحيح غريب ، والفروة هنا وجه الأرض . ... قيل : إنه عبد صالح غير نبي ، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي . والإنسان يتعلم عادة ممن فوقه ، ولا يتعلم نبي إلا من نبي ، ولا يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي . وقيل غير ذلك ، ولا يهمنا هذا الأمر بشيء ، وذكرناه للعلم به فقط .
    ب‌- " آتيناه رحمة من عندنا " قيل هي النبوة . وقيل النعمة أيضاً . فهو رحيم . والمعلم الرحيم بتلاميذه يعمل على تعليمهم برفق ، ويتقرب إليهم ، ويتحبب إليهم ليأنسوا إليه فيحبوه ويأخذوا عنه علمه .
    جـ- كان علم موسى بظواهر الأحكام ، وعلم الخضر معرفة بواطنها . كما أن العلم اللدني من الله مباشرة ، ليس لأحد من البشر فضل تعليمه .

    - من أدب التعلم :
    أ‌- التلطف في الطلب ، فلم يفرض موسى عليه السلام نفسه على الخضر عليه السلام على الرغم أن الله تعالى أخبر الخضر بلقائه ليتعلم منه . إنما تلطف في عرضه بصيغة الاستفهام التي تترك مجالاً للمسؤول أن يتنصل إن أراد .
    ب‌- جعل نفسه تابعاً حين سأله " هل أتبعك .." فالتلميذ تابعٌ أستاذه مسلمٌ إليه قياده ، وهذا أدعى إلى التناغم بينهما .
    ت‌- العلم يرفع صاحبه . وهذا ما أقرّ به موسى للخضر حين عرض عليه أن يتابعه شرط أن يعلمه " على أن تعلمن .. " وهذه التبعية ترفع المتعلم . أما التبعية من ذل أو لعاعة من دنيا يصيبها فسقوط للمتبوع ، وكبر للتابع .
    ث‌- الواقعية في الطلب : فهو لم يطلب منه أن يعلمه كل شيء ، إنما طلب أن يعلمه شيئا مما علمه الله تعالى : " ... مما عُلّمْتَ .. " وهذا تواضع في الطلب فهو عليه السلام لم يكلف أستاذه شططاً ... لقد طلب العلم المفيد الذي تسمح به نفس معلمه .
    ج‌- طلب النفيس من العلم : فالله تعالى علم الخضر علماً لدنياً نفيساً يريد موسى بعضه ، ولم يطلب العلم الدنيوي ، وإن كان مفيداً إنما طلب الهدى والرشاد الذي يبلغه المقام الأعلى في الدنيا والآخرة ، وحدد نوع العلم فقال :" مما علمت رشداً " وضد الرشد الهوى والضلال ، وهذا ما لا نريده .
    ح‌- قوله تعالى " مما عُلّمْت رشداً " تذكير للمعلم أن الله تعالى أنعم عليه بالرشاد والهدى والسداد . ومن شُكْرِ النعم أن يعلّم عبادالله بعضاً مما أكرمه الله به ، فتزداد حظوته عند خالقه ، ويزيده علماً. ومن دل على خير كان له مثل أجر فاعله .
    - وقد يشترط المعلم على تلميذه أن لا يستعجل في السؤال عن أمر من الأمور إلى أن
    يحين الوقت المناسب لشرحه " قال : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك
    منه ذكراً " . فقد لا يرغب بالتوضيح حتى يستكمل الأمر . وقد يرى المعلم اختبار
    تلميذه في الصبر . وقد يكون المعلم نفسه قليل الكلام . وقد يكون ممن يعتمدون في التعليم على الملاحظة ... ولكل شيخ طريقته ، إن جاريته فيها تعلمت منه ، وإن خالفته فارقك وفارقته .
    - لابد أن يخطئ الإنسان فقد خلق من عَجَل ، أي من النقصان فوجب أن يترك له فسحة يستدرك فيها خطأه فقد اتفق النبيان في صحبتهما على أن يرى موسى عليه السلام مايجري دون أن يتدخل مستنكراً أو معلقاً على ما يراه إلى أن يرى الأستاذ رأيه في توضيح بعض الأمور . لكن التلميذ لم يف بالوعد فقال في الأولى " لقد جئت شيئاً إمراً " وشدد النكير في الثانية حين قال : " لقد جئت شيئاً نكراً " وقال في الثالئة معترضاً ومقترحاً" لو شئت لاتخذت عليه أجراً " .
    ونبهه أستاذه في الأولى " ألم أقل : إنك لن تستطيع عليه صبراً ؟ " وعاتبه في الثانية بزيادة " لك " في قوله : " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ " وأعلن في الثانية أن الفرصة الممنوحة انتهت فلا بد من الفراق لأنه استنفدها " هذا فراق بيني وبينك " . ولكنه لم يشأ أن يتركه يجهل أسباب الحوادث فأخبره بها " سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً "
    - زيادة المبنى لزيادة المعنى : قبل أن يخبره بالأسباب اضاف للفعل تاء التعدية " تستطع " على وزن تفتعل وحين أخبره بها حذف التاء لأن المعنى انتهى " تسطع " على وزن تفعل . وسوف نجد هذا في قصة ذي القرنين " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً " فعلوّ الجدار على صعوبته أسهل من نقبه فحذف التاء مع علو الجدارفي قوله " فما اسطاعوا " وأثبتها في صعوبة النقب " وما استطاعوا " .
    - وانظر إلى أدب الأستاذ مع ربه فقد نسب عيب السفينة إلى نفسه " فأردت أن أعيبها " كما فعل إبراهيم عليه السلام ذلك في المرض وأسند الشفاء إلى الله تعالى تأدباً " وإذا مرضْتُ فهو يشفين " . وفي قتل الغلام نسب الخير في البدلية إلى الله تعالى " فأردنا أن يبدلهما ربهماخيراً منه زكاة وأقرب رحماً " ولما كان العمل في الثالثة كله بناء وخيراً نسي تفسه وأفرد الله تعالى بالخير " فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك " مع أن الأمر كله من الله تعالى ، وهو لم يفعل إلا ما أمره الله به " وما فعلته عن أمري " .

    - قيل إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى : أوصني : قال : كن بسّاماً ولا تكن ضحّاكاً ، ودع اللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تعِب على الخطّائين خطاياهم ، وابك على خطيئتك يابن عمران . وقيل : إن موسى لما أنكر خرق السفينة نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحاً في اليم ؟! فلما أنكر قتل الغلام قيل له : أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه ؟! فلما أنكر الجدار نودي : أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر ؟! .. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ، لكنه قال : " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً " .
    - صلاح الآباء يُرى في الأبناء فقد حفظ الله تعالى الولدين بصلاح أبيهما " وكان أبوهما صالحاً " فأمر الخضر عليه السلام أن يرفعه إلى أن يكبرا فلا يأخذ الكنزَ أحدٌ وهما صغيران ، ويظل بعيداً عن أعين الآخرين حتى يشتد عودهما فيكون لهما . وحين علم الله أن الولد خلق مطبوعاً على الكفر، وانه سيسيء إلى والديه المؤمنَيْن ويجعل حياتهما جحيماً أماته ، وأبدلهما خيراً منه فتاة مؤمنة طيبة كانت زوجة لنبي كريم .
    - ونرى التدرج في هذه القصة - وهو أسلوب تربوي راقٍ- في تعامل الخضر مع موسى ،فقد أبى موسى عليه السلام إلا أن يصاحب الخضر عليه السلام فكان التخلص من هذه الصحبة – إن جاز لنا هذا التعبير فصاحب الشريعة غير صاحب الحقيقة – على قول الصوفية – لا بد له من الوضوح والتعليل والتفكير المنطقي . والخضر يفعل اموراً غير مفهومة وغير معللة ، لا تعرف إلا بعد شرحها - ولا بد أن ينفرط عقد هذه الصحبة عاجلاً أم آجلاً ... فكانت اعتراضات موسى وتنبيه الخضر المتسلسلة في إيقاعاتها التي ذكرناها آنفاً تدرّجاً واضحاً في ذهاب كلٍّ منهما في سبيله الذي رسمه الله له في دورة الحياة المنتظمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
    - لماذا كان الملك وراءهم؟ " وكان وراءهم ملك " لقد كانت السفينة تحمل أصحابها ومعهم موسى والخضر إلى الميناء التالي .. كانوا متوجهين إلى " أمام " .. فقد كان الملك في الميناء الذي يقصدونه فهم متجهون إلى " الأمام " فلماذا قال القرآن الكريم " وكان وراءهم ملك ؟" .. أعتقد أن الجواب على شقين . أما الأول : فلأنهم متجهون إلى غيب لا يدرون ما ينتظرهم . وكل غيب وإن كان أمامهم فهو " وراء " إن كان لا يُرى ، وأما الثاني فلأن الملك ظالم متجبر مغتصب لحقوق العباد " يأخذ كل سفينة غصباً " والملك ينبغي أن يكون رحيماً برعيته عطوفاً عليها ، يريد بها الخير ويسعى لصلاحها ن فإن كان على عكس ذلك فلا يستحق أن يكون في " الأمام " ومكانه الحقيقي في الخلف ، ولذا كان " وراء وراء " .

     


  24. بسم الله والحمد لله، أما بعد:

    فإن تقلُّب الفصول ومنها فصل الصيف آية من آيات الله تعالى، نأخذ منها العظة والعبرة؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾ [فصلت: 37].

     

    وهذه كلمات وعظات للمؤمنين والمؤمنات، والله أسأل أن ينفع بها.

     

    العظة الأولى:

    في أن الشمس فيها نعم عظيمة وجليلة، ومنها الضياء والنور والحرارة التي يحتاجها الإنسان والنبات وجميع من على الأرض؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً ﴾ [يونس: 5].

     

    وقال تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الرعد: 2].

     

    قال العلامة السعدي في تفسيره على هذه الآية: ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم؛ انتهى.

     

    العظة الثانية:

    الشمس وحرارتها تذكِّر العباد بحر ونار جهنم، فإن جسد الإنسان لا يقوى على حرارة الشمس فما باله بحرارة ونار جهنم، وذلك يدعو العبد إلى تقوى الله عز وجل والخوف منه ومن معصيته.

     

    وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن العلاقة بين حرارة الشمس وجهنَّم، ففي الحديث عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ)؛ رواه البخاري ومسلم.

     

    العظة الثالثة:

    تذكر النعم التي تكون على الإنسان من الماء البارد والظلال التي يستظل بها واللباس، وغيرها من النعم التي تستوجب شكر الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ [النحل: 81]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53].

     

    العظة الرابعة:

    ما يرجوه العبد من الأجر والثواب وتكفير السيئات من الله تعالى، وذلك بما يصيبه من نصب ومشقة بسبب حر الشمس والصبر على ذلك، وفي الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)؛ رواه البخاري ومسلم.

     

     وهذا يخفِّف على العبد مشقة الحرارة بما يرجوه من الله تعالى.

     

    خامسًا: مسألة: الدعاء الوارد في اشتداد الحر:

    (إِذَا كَانَ يَوْمٌ حَار فَقَالَ الرجُلُ: لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، مَا أَشَدَّ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ، اللهُم أَجِرْنِي مِنْ حَر جَهَنَّمَ، قَالَ اللهُ عَز وَجَل لِجَهَنمَ: إِن عَبْدًا مِنْ عِبَادِي اسْتَجَارَ بِي مِنْ حَرِّكِ، فَاشْهَدِي أَني أَجَرْتُهُ...)، وهذا الدعاء لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نص على ضَعفه العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة وغيره من علماء الحديث.

     

    وللمسلم أن يستعيذ بالله من النار عند الحر، بدون أن ينسب دعاء خاصًّا بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

     

    سادسًا:

    تضاعف أجر العبادات من الصيام والذهاب إلى المسجد وغيرها من الأعمال الصالحة، بسبب المشقة الحاصلة غالبًا من حرارة الشمس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: إن لك من الأجر قدر نصبك ونفقتك؛ رواه البيهقي، وأصله في صحيح مسلم.

     

    وقال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: هذا ظاهر في أن الثواب والفضل في العبادة يكثُر بكثرة النَّصَب والنفقة، والمراد النصَب الذي لا يذمه الشرع وكذا النفقة؛ شرح مسلم (٢٩٩/٤).

     

    نسألك اللهم الاهتداء بآياتك والانتفاع بها، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



    شبكة الالوكة



  25. 1- قد يكون السؤال للتحدي .. " ويسألونك عن ذي القرنين " و التحدي نفسه أيضاً أسلوب تربوي يدل على صدق الدعوة والداعي ، فاليهود طلبوا من المشركين في مكة قبل الهجرة أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور ثلاثة ... عن أهل الكهف ، وعن الروح .. وعن ذي القرنين .. ولا يعرف جواب هذه الأسئلة سوى الأنبياء . وقد قبل القرآن التحدي فأنزل الله تعالى فيه خبر ذي القرنين فقال مخاطباً النبي الكريم : " قل : سأتلو عليكم منه ذكراً ... " .

    وقد يكون السؤال لمجرد المعرفة فعلى الداعية قبل دخول غمار الدعوة أن يلم قدر المستطاع بدعوته والأساليب المقنعة التي تجتذب المدعوين .
     
    2- التعظيم أسلوب يضفي هالة على الرموز الرائعة التي لها دور متميز في الدعوة إلى الله ، ويشجع المدعوين أن يتأسَّوْا بهم ويسيروا على هداهم . ولا ننسَ أنه ينبغي أن يكونوا أهلاً لهذا التشريف ، فلن ينال أحد في الإسلام إلا ما يستحق .... وقد تنبه الرسول الكريم إلى هذا الأسلوب فأسبغ على الصحابي الجليل عبد الله بن أبي قحافة رضي الله عنه لقب الصديق فعرف به ، وعلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقب الفاروق ، وعرف علي بفتى الإسلام وعثمان بذي النورين وخالد بسيف الله المسلول ، وهكذا ... والقرآن الكريم لم يعرفنا اسم ذي القرنين إنما اكتفى بلقب ذي القرنين كما أننا لا نعرف عن أحد الأنبياء الكرام سوى أنه ذو الكفل . ووصف النبي الكريم " يونس بن متّى " بذي النون لأن الحوت ابتلعه ، فأراه الله تعالى عجائب قدرته في البحر – أحد مخلوقاته – وأعاده إلى قومه يدعوهم إلى الله سبحانه . أما لماذا لقّب ذا القرنين فقد تضاربت الأقوال فيه ، فمن قائل : إنه حكم الأرض غرباً وشرقاً ، ومن قائل : إنه حكم مئتي سنة أو عاش قرنين من الزمان ، ومن قائل : إن ملكه كان قوياً يرمز إليه قرنا الثور . ولن نهتم بمعنى الاسم قدر اهتمامنا بصاحبه . فالجوهرَ نريد لا العرضَ .
     

    3- قوله تعالى " قل : سأتلو عليكم منه ذكراً ، إنا مكنا له في الأرض ، وآتيناه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً " فيه فوائد تربوية عديدة ، منها :
    أ- قبول التحدي : فمن كان على حق ، وكان على ثغرة يدعو إلى الإسلام وينافح عنه لا يسعه غير ذلك .
    ب- العلم بالشيء قبل الدعوة إليه : وكلمة " سأتلو.. " دليل على المعرفة بالأمر والعلم به . والتلاوة أثبت في الإجابة من غيرها ، فهي القراءة.. ، والقراءة من شيء من ذاكرتك تحفظه عن ظهر غيب ، أو تقرؤه في كتاب أقوى حجة وأسطع دليلاً . كما كلمة " ذكراً " تعني القرآن لقوله تعالى " وإنه لذكر لك ولقومك " .
    ت- وقوله تعالى " سأتلو عليكم " بدل لكم دليل التمكن والاستعلاء . والمؤمن هكذا دائماً .

    ث- وقوله تعالى " سأتلو عليكم منه ذكراً " هذه البعضية التي دلت عليها منه توضح أن على الإنسان أن يقتصر في حديثه على ما يفي بالغرض . وهذا ما نجده في قوله تعالى " إنا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً ، فأتبع سبباً " .
     

    4- الإيجاز والإطناب : وهذه البلاغة بعينها . فقد جاء الإيجاز في مكانه ، والإطناب في مكانه . فلا داعي لذكر التفاصيل في التمكين لأنه يكون في كثرة العدد والعُدّة ، والمال الوفير والعدل وبذل الجهد ، واستفراغ الهمة والتحضير لكل أمر ... ولم يكن القرآن ليهتم بهذه التفاصيل . ويكفي أن يقول : " ... مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً " ليدل على عظمة أمره ، وسعة الستعداده . وهذا هو الإيجاز الذي رأيناه كذلك في الحديث عن " مطلع الشمس " بعد الإطناب في الحديث عن مغرب الشمس لأن التكرار ممل فيما ليس له لزوم . لكن قبل أن نتحدث عن الإطناب نلقي الضوء على ورود كلمة " سبباً " مرتين في هذه الآية ، وإيحاءات كل منهما :
    أما الأولى في الآية الكريمة فالعلم بالشيء والطريق الموصل إليه . وهذا يعني أن الله جل شأنه لم يكلفه بشيء دون أن يعلمه الطريقة التي يسلكها إليه ، بل أمدّه بأسباب النجاح . وعلى الرغم أن ذا القرنين مكن الله تعالى له ، وآتاه الحكمة بدليل " إنا مكنا له " فأنا لست مع الذي يقول :
    إذا كنت في حاجة مرسلاً فأرسل حكيماً ولا توصِهِ
    بل أقول :
    إذا كنت في حاجة مرسلاً فأرسل حكيماً كذا أوصِهِ
    لقوله تعالى " فذكّر إن نفعتِ الذكرى " ولقوله تعالى " وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين .." فإذا وصى الله تعالى أنبياءه فمَن دونهم أحق أن يوصى .
    وأما الثانية فسلوك هذا الطريق واستعماله . إنّ من عرف الطريق الصحيح سلكه فوصل إلى مبتغاه ، وإلا ضل وتاه . وهل رأيت عاقلاً يعرف السبيل فيحيد عنه إلى غيره ؟!.. وفي كل يوم نقرأ عشرات المرات قوله تعالى : " اهدنا الصراط المستقيم .." لماذا نسأل الله صراطه المستقيم إذا كنا نتنكبه بعد أن نعرفه؟! كما فعلت النصارى فتاهوا . وحادت عنه بنو إسرائيل ، فغضب الله تعالى عليهم ! .

    وجاء الإطناب في وصف أهل مغرب الشمس الذين كانوا قسمين حين دعاهم ذو القرنين إلى الإسلام ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر . فأكرم المؤمنين وعنّف الكافرين ، وهددهم بعذاب الآخرة . وجاء كذلك في وصف الضعفاء من أهل السد الذين كان أبناء قبيلتي يأجوج ومأجوج يسلبونهم أموالهم ويقتلون أبناءهم ويسومونهم الخسف كلما جاءوهم . فسألوه أن يبني سدّاً يقيهم أذاهم ويدفع عنهم غائلتهم . .. ولو اختصر القرآن حديثهم ما فهمنا المراد من أخبارهم . فالبلاغة إذاً مراعاة مقتضى الحال.... . الاختصار حين يكون الختصار مفيداً ....والإسهاب حين يكون التفصيل لازماً ... وهذا ما ينبغي للمعلم أن ينتبه إليه .
     

    5- الجزاء من جنس العمل : قال تعالى : " أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً "
    " وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا "
    وقال تعالى " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ،فحبطت فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ، ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً "
    " أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نُزُلاً ، خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلاً "

    " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً . "
     

    6- وجوب المساعدة : لما بلغ ذو القرنين بين السدين وجد قوما اجتمع عليهم الظلم والجهل وهاتان الصفتان إن اجتمعتا في أمة – وهما غالباً ما تجتمعان – أصابتهم نوائب الدهر وعصفت بهم حدَثانه ، فنالهم الذل وطوّح بهم الفساد . .. فلما وصل إليهم الملك الصالح ذو القرنين طلبوا مساعدته ... فولد السد الذي أبعد الله به عنهم ظلم الظالمين وعدوان المتجبرين .
    ولم يطلب الملك الصالح مالاً منهم ، ولا أجرة ، وهذا من سمات الحاكم الذي يبذل في سبيل شعبه كل ما يستطيع ، ولا يكلفهم شططاً . بل طلب إليهم أن يعينوه بقوةف فالقضية تهمه أولاً، والحاكم خادم لشعبه ، استرعاه الله إياه ،وجعله أمانة بين يديه ، وعليه أن يؤدي الأمانة .
    كان الملك عنواناً للجد والإخلاص ، أعان شعبه على التخلص من المفسدين . وهذا واجب كل مسلم يستطيع أن يقدم النفع لإخوانه . ولم ينسب الفضل لنفسه بل عزاه لله سبحانه " قال : هذا رحمة من ربي " وأكد ذلك حين قال :" ما مكنّي فيه ربي خير " فالله تعالى هو الذي مكنه من فعل ذلك وأعانه عليه .. ثم بين أن الله قادر على أن يسوّيه بالأرض إذا شاء ، وقت يشاء " فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ، وكان وعد ربي حقاً " .
    باحثة مصرية تكتشف كيف بنى ذو القرنين حاجز يأجوج ومأجوج
    المجتمع 13/5/2005 :
    توصلت الباحثة المصرية المهندسة ليلى عبدالمنعم عبدالعزيز الخبيرة بإحدى الموسوعات الأمريكية إلى تركيبة جديدة من "الخرسانة المسلحة" تقول عنها إنها استخدمت فيها نفس المواد التي اعتمد عليها ذو القرنين في إقامة الحاجز الذي يفصل بيننا وبين يأجوج ومأجوج ولا يعرف أحد مكانه حتى الآن.
    وهذه الخرسانة التي توصلت إليها الباحثة تتكون من أحد منتجات البترول مضافاً إليه الحديد المنصهر مع الإسفلت فتنتج خلطة شديدة التماسك ، لها قدرة على مقاومة الزلازل وعوامل التعرية وغيرها من القوى المؤثرة على المباني مهما بلغت شدتها. وأوضحت أنه لإقامة المباني بهذه الخرسانة المبتكرة فإن الأمر يقتضي الاستعانة بالبوتامين والحديد المنصهر، مشيرة إلى أن المصانع المختصة يمكنها بناء هذه الحوائط ثم نقلها بعد ذلك إلى مكان البناء.
    واستلهمت الباحثة دراستها من الآيتين الكريمتين في سورة الكهف اللتين نزلتا في ذي القرنين " آتوني زبر الحديد حتى" إذا ساوى" بين الصدفين قال انفخوا حتى" إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا " .
    توقفت الباحثة أمام هاتين الآيتين وتدبرت موقف نزولهما جيداً. وبعد عدة تجارب توصلت إلى هذه التركيبة.
    وفيما يتعلق برأي الإسلام في الآيات التي استندت إليها الباحثة يقول المفكر الإسلامي د. زغلول النجار : إن ما توصلت إليه الباحثة هو لمحة من لمحات الإعجاز القرآني في العلم الذي يتكشف لنا يوماً بعد يوم. وأضاف : إن الباحثة استمدت سر تركيبتها من قصة ذي القرنين الذي ألهمه الله استخدام مادة القطران التي اختلف الفقهاء حول تعريفها، فقال عنها البعض إنها من النحاس المنصهر، بينما عرَّفها البعض الآخر بأنها أحدى مشتقات البترول. وأضاف عليها ذو القرنين قطع الحديد المنصهر لتكوين مادة صلبة يستحيل طرقها ثم بنى فوقها السد لحماية القوم من يأجوج ومأجوج.
    وأكد د.النجار أن السد من علامات الساعة وسيظل قائماً حتى قيام الساعة ومكانه مجهول ولن يُعرف حتى يظهر يأجوج ومأجوج، وقيل إنه ببلاد ما وراء البحار أو بلاد التركستان. وتمنى د. النجار أن تستفيد الجهات المعنية من هذه التركيبة الجديدة وتطبقها في عمليات البناء في عصرنا الحالي.
    7- أدوات التنبيه : متعددة في هذه القصة كما تتعدد في القرآن الكريم منها :
    التكرار : " فأتبع سبباً " مرة واحدة ." ثم أتبع سبباً " مرتين . " حتى إذا بلغ... " ثلاث مرات . " حتى إذا ساوى بين الصدفين .." " حتى إذا جعله ناراً .. " ومهمتها وصل المنقطع وقطع الموصول . وذلك بالانتقال من مشهد إلى مشهد ضمن سياق واحد .
    أداة الاستفهام " هل " التي لا تحتاج للجواب " هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً " فقد جاء الجواب بعد ذلك مباشرة " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً "
    " قل " فهي تقرع الأسماع ، وتنشط الذاكرة
    " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً "
    " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر ......"

    " قل إنما أنا بشر مثلكم ، يوحى إليّ ..... " .
     
    صيد الفوائد

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×