اذهبي الى المحتوى

امانى يسرى محمد

العضوات
  • عدد المشاركات

    7697
  • تاريخ الانضمام

  • تاريخ آخر زيارة

  • الأيام التي فازت فيها

    60

مشاركات المكتوبهة بواسطة امانى يسرى محمد


  1. ٰ🔷 وهو اسم ثابت لله -عز وجل- في سنة النبي ﷺ ، روى الإمام أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد وابن عاصم في السنة ... عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: ٰ
    ٰ( بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله ﷺ ؛ فاشتريت بعيرا ثم شددت عليه رحلي فسرت إليه شهرا حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أُنيس -رضي الله عنه- فقال للبواب : قل له : جابر على الباب، فقال : ابن عبد الله ؟ قلت: نعم ، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت : ٰ
    ٰحديثا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله ﷺ في القِصاص، فخشيت أن تموت أوأموت قبل أن أسمعه، ٰ
    ٰ📎 قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يحشر الناس يوم القيامة - أو قال: العباد - عراة غرلا بهما، قال: قلنا : وما بُهما ؟ قال : ليس معهم شيء، ثم يناديهم يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قرب : أنـا الملـك أنـا الدَّيَّــان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أُقِصّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة، قال : قلنا : كيف وإنما نأتي الله -عز وجل- عراة غرلا بهما ؟ قال : " بالحسنات والسيئات")،
    ٰ
    ٰزاد الحاكم: (( وتلا رسول الله ﷺ : ﴿ اليومَ تُجزى كلُّ نفسٍ بما كسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليومَ ﴾ )).
    ٰ
    ٰ🔷📝 والديَّـان :
    ٰ
    ٰمعناه المجازي المحاسب، والله جـل وعلا يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة عراة ليس عليهم ثياب، حفاة بلا نعل، غرلا أي : غير مختتنين، بُهْما ليس معهم شيء من متاع الدنيا، ثم يجازيهم ويحاسبهم على ما قدَّموا في حياتهم الدنيا من أعمال، إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ .
    ٰ
    ٰقال الله تعالى : ( اليوم تجزى كل نفسٍ بما كسبتْ لا ظُلم اليوم إنَّ الله سريع الحساب ) غافر
    ٰ
    ٰوقال تعالى : ( ونضعُ الموازين القِسطَ ليوم القيامة فلا تُظلَم نفسٌ شيئا وإن كان مِثقال حبة من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حَاسبين ) الأنبياء
    ٰ
    ٰوقال تعالى : ( فمن يعمل مِثقال ذرة خيرًا يره * ومن يعمل مِثقال ذرةٍ شرًّا يره ) الزلزلة .
    ٰ
    ٰوقال تعالى 😞 إن الله لا يظلم مِثقال ذرة وإن تكُ حسنةً يُضاعفها ويؤتِ من لدنه أجرا عظيما ) النساء
    ٰ
    ٰوقال تعالى 😞 يوم تجدُ كلُّ نفس ما عملت من خيرٍ مُحضرا وما عملتْ من سوءٍ تودُّ لو أنَّ بينها وبينه أمدًا بعيدًا ويحذِّركم الله نفسَه والله رؤوفٌ بالعباد ) آل عِمران
    ٰ
    ٰ
     ٰ☁🔹🔹
    ٰ
    ٰٰويوم القيامة يُسمى " يوم الدِّين"؛ لأنه يوم الجزاء والحساب، قال الله تعالى :
    ٰ
    ٰٰ﴿ مالِكِ يومِ الدِّين ﴾، أي: مالك يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها،
    ٰ
    ٰيدل على ذلك قوله تعالى : ( يومئذٍ يوفيهم الله دينَهم الحقَّ ) النور
    أي : حسابهم،
    ٰ
    ٰ 🔴 وإذا عرفَ العاقل أن الربَّ سُبحانه ديَّــان، وأنَّ يوم القيامة يومُ جزاءٍ وحِساب، وأنه سيلقى الله ذلك اليوم لا محالة، وأنه في ذلك اليوم سيجد أعماله كلها مُحضَرة خيرها وشرّها، حسنها وسيّئها؛ فإنه سيحسب لذلك اليوم حسابه ويعدُّ له عدَّته .
    ٰ
    ٰ 🌴 روى الإمام أحمد عن أبي قلابة، قال : قال أبو الدرداء -رضي الله عنه- :
    ٰٰ
    ٰ" البِرُّ لا يبلى، والإثم لا ينسى، والديَّـانُ لا ينام، فكن كما شئت، كما تدين تدان "
    ٰ
    ٰ🔴 فالكيِّس من دان نفسه وحاسبها ما دام في دار المهلة والعمل، والعاجز من أهملها سادرة في غيّها وأتبعها هواها إلى أن يفجأه النَّدَم !
    ٰ
    ٰروى ابن أبي الدنيا عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال : ٰ
    ٰ" حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ".
    ٰ
    ٰأولا يذكر الظالم الغشوم هولَ المطلع وشدَّة الحساب وقولَ الديَّـان سبحانه في ذلك اليوم 😞 لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أُقِصَّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصّه منه حتى اللَّطمة ) .
    ٰ
    ٰولما سأل الصحابة -رضي الله عنهم- كيف يكون الحساب حينئذ والناس إنما يقدمون إلى الله يوم القيامة عراة غرلا بهما قال : " بالحسنات والسيئات "، أي : أنه سبحانه يأخذ للمظلوم من حسنات ظالمه، فإن لم يكن عنده حسنات أخذَ من سيئات المظلوم فطُرحت عليه ثم طُرِح في النار،
    ٰ
    ٰ🔷 كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال :
    ٰ
    ٰ" أتدرون من المُفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال : إنّ المفلس من أمّتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذفَ هذا، وأكل مال هذا، وسفَكَ دم هذا، وضرَبَ هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيتْ حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه، أُخِذ من خطاياهم فطرحتْ عليه ثم طُرحَ في النّـار " رواه مسلم.
    ٰ
    ٰ☁ ومن كمالِ مُجازاة الرَّب سُبحانه في ذلك اليوم أنه يجيء بِنفسِه في ذلك اليوم للفَصل بين العباد، قال الله تعالى :
    ٰ
    ٰ﴿ وجاءَ ربُّك والمَلَك صفّا صفّا * وجيءَ يومئذٍ بجهنَّمَ يومئذٍ يتذكَّرُ الإنســان مَا سعَى وأنَّـى
    له الذكرى* يقول ياليتني قدّمتُ لحياتي ﴾ الفجر
    ٰ
    ٰ🔶🔸فتفكَّر أيها العبدُ في هذا اليومِ العظيم، وتذكَّر أن الرب سُبحانه ديَّان، وأن الحقوق ستُؤدىٰ في ذلك اليوم إلى أهلها، وأن ما ثمَّ في ذلك اليوم إلاَّ الحسنات والسيِّئات .
    ٰ
    ٰتذكــر يومَ تأتي اللهَ فـــــردا
    ٰوقد نُصِبَت موازين القضــاء
    ٰ
    ٰوهُتِّكتْ السُّتورُ عن المعَاصي
    ٰوجاءَ الذَّنــبُ منكشفَ الغِطاءِ
    ٰ
    ٰاللَّهم أجرنا من خزي يوم النّدامة، ومن الفضيحة يوم القيامة، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم .
     
    [ فقه الأسماء الحسنى/ للشيخ عبد الرزاق البدر -حفظه الله-]📗

     

  2. الجزء الثانى
     
    وأنت تقرأ آيات الطلاق ترى عظيم رفع قدر المرأة في الإسلام واهتمامه بها:
    (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)
    (فأمسكوهن بمعروف أوسرحوهن بمعروف)
    (ولا تمسكوهن ضرارا)
    (فلا تعضلوهن)
    (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره)
     
    {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}
    {والله رءوف بالعباد}
    {ولو شاء الله لأعنتكم}
    ما أرحم ربي بنا سبحانه...
    آيات تسكب في قلبك الطمأنينة، وتزيد في قلبك حبا له وحياء منه سبحانه.

     

     
    (قَالُواْ رَبَّنَآ أَفۡرِغۡ عَلَيۡنَا صَبۡرٗا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ)
    ثلاث دعوات متصلة مفتاح لكل نصرٍ وخـير …
     
    لمن يشكو فراغا كبيرا في الوقت وعدم الانجاز أو العمل
    أشغل لسانك بالذكر تفز بأعظم فضل
    {فاذكروني أذكركم}.
     
    ﴿قَالَ الَّذِينَ (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ)كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾
    متى ما رسخ الإيمان في قلب العبد تجده ثابتا لاتهزه زلازل المحن
     
    {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب}
    قدم القرب على إجابة الدعاء
    من استشعر قرب ربه اطمأن قلبه وشعر بالأمان والاطمئنان
    وأصبح متوكلا عليه حسن الظن به
     
    (يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَعِينُواْ بٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ …)
    فالصـبر ننال بفضل الله كل فضيلة
    والصلاة تَـنـهى عن كل رذيلة ..
     
    {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان}
    اجعل استسلامك لله كاملًا في كل امور الشرع
    بدون اتباع لهوى النفس في بعضها
    فهي خطوات شيطانية تقودك للهاوية
     
    في الطلاق
    ( ألا يقيما حدود الله )
    وفي الرجعة
    ( إن ظنا أن يقيما حدود الله )
    لنعلم أن البقاء والطلاق والرجوع قائم بين الزوجين على إقامة حدود الله ليت أن البيوت تعي هذه الحدود وتجعل حبل الدين
    بينها ممدود
    image.png.f483dc1604b86df3d0e07d7f89fa7fc2.png
     
    ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان )
    قد يرضى منك في هذه الخطوة بالشيء اليسير وقد يبقى معك فيها وقت طويل ثم يذهب بك للأخرى
    فكن على حذر
    ألم يقل الله في ختام الآية
    ( إنه لكم عدو مبين )
     
    {..وٱلمسجد ٱلحرام وإخراج أهلهۦ منه أكبر عند ٱلله..}
    الاعتداء على الأهالي الآمنين وايذائهم ليَخرجوا من ديارهم أكبر عند الله من قتلهم في الأشهر الحُرم
    وإن كانت في نظر المعتدين على الحرمات أهون..
    الله يمهل ولا يهمل..
     
    - ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان )
    علاقة المؤمن الموفق بمن حوله يبدؤها بمعروف، ويختمها بإحسان
     
    (والذين آمنوا أشد حباً لله )
    انتم في ميدان السباق لمحبة الله 🤍
    يقول الإمام الشافعي:
    “إذا كنت في الطريق إلى الله فاركض، وإن صعب عليك فهرول، وإن تعبت فامش، وإن لم تستطع كل هذا فسر ولو حبوًا ولكن إياك إياك أن ترجع
     
    (أَيۡنَ مَا تَكُونُواْ يَأۡتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًاۚ )
    وعلى أي حال يأتِ الأجل ، وحيثما كنا ولو في اعماق الأرض او في بيوت مشيدة او في أعلى الجبال ،وإن تفرقت الأجساد وبُليت الأبدان
    فالله جل في علاه قادر قدير على جمعنا يوم يشيب منه الولدان ..
     
    المؤمن لا ينساق خلف رغباته
    {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم…}
    تكره الشيء وفيه من الخير الكثير
    وبعكسه تحب الشيء وفيه من الشر ما فيه
    هذا لا ينافي الرضا
     
     
    (ولكم في القصاص حياة...لعلكم تتقون)
    (كتب عليكم الصيام....لعلكم تتقون)
    ولتكملوا العدة ولتكبروا الله...لعلكم تشكرون)
    (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)
    كل ما قبل (لعلكم، لعلهم) وسيلة
    وكل ما بعد (لعلكم، لعلهم) هدف
     
    "ياايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم… "
    جملة ( كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِكُم) ظاهرة لتخفيف التكليف، وأن الناس قبلكم قد صاموا ، فليست هي من العبادات التي لاتطاق.

    image.png.fc335dc61fc2b99f05ed9c98ecd8dec3.png


  3. الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فمهوى أبصارنا ميعاد يتنور مع هتيك المرسوم الموسوم بـ: (قواعد قرآنية)، نمضي فيه الساعة بزورق قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي يحتاجها الناس، كل الناس، وخصوصاً في هذا الزمن الذي روجت فيه سوق السحرة والمشعوذين، إنها القاعدة التي بثها المولى في قوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] (1)، وفي معنى هذه القاعدة قوله تعالى ـ على لسان موسى ـ: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس: 77].

     

    وهذه القاعدة ـ أعني قوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] ـ جاءت في تضاعيف قصة موسى مع سحرة فرعون في سورة طه، بعد أن واعدهم موسى، هو في خندق، وفرعون ومن معه من السحرة في خندق آخر، فلما اجتمعوا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (*) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (*) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (*) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (*) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (*)... الآيات} [طه: 65 - 69].

     

    ووجه اطراد هذه القاعدة: أن المتقرر في علم النحو: أن الفعل إذا كان في سياق النفي فإن ذلك يكسبه صفة العموم، وهكذا الفعل (لا يفلح) فإنه جاء في سياق النفي، فدل ذلك على عمومه، فلن يفلح ساحر أبداً، مهما احتال، وتأمل كيف عمم ذلك بالأمكنة فقال: (حيث أتى)(2).

     

    وتأمل ـ وفقك الله وحفك بأوسمة رحمته ـ في سر اختيار الفعل (أتى) دون قوله ـ مثلاً ـ: حيث كان، أو حيث حل؛ ولعل السر في ذلك: من أجل مراعاة كون معظم أولئك السحرة مجلوبون من جهات مصر المختلفة، كما قال تعالى: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:38](3).

     

    يقول العلامة الشنقيطي: ملعقاً على نفي الفلاح عن الساحر مطلقاً:
    "وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفي بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر، ويدل على ما ذكرنا أمران:
    الأول: هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر، كقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. فقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} يدل على أنه لو كان ساحراً ـ وحاشاه من ذلك ـ لكان كافراً، وقوله {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} صريح في كفر معلم السحر.

     

    الأمر الثاني: أنه عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة {لا يفلح} يراد بها الكافر، كقوله تعالى في سورة "يونس": {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (*) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [يونس: 68، 69] ، وقولِه في "يونس" أيضا: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17]"(4).

     

    أيْ قارئ المسطور:

    كم هي الآيات التي تحدثت عن السحر والسحرة في كتاب الله تعالى؟! وأخبرت عن ضلالهم، وبوارهم وخوارهم، وخسارتهم في الدنيا والآخرة؟! ومع هذا فيتعجب المؤمن ـ أشد العجب ـ من رواج سوق السحر والسحرة في بلاد الإسلام!
    وليس العجب من وجود ساحر أو ساحرة، فهذا لم يخل منه أفضل الأزمان،وهو الزمن الذي عاش فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن غيره!
    وليس العجبُ ـ أيضاً ـ من ساحر يسعى لكسب الأموال بأي طريق، وحيثما أتى!
    لكن العجب من أمة تقرأ هذا الكتاب العظيم، وتؤمن بصدقه، وتقرأ ما فيه من آيات صريحة واضحة في التحذير من السحر وأهله، وبيان سوء عاقبتهم ومآلهم في الدنيا والآخرة، ومع ذلك يقف أبناء الأمة زرافاتٍ ووحداناً أما عتبات أولئك السحرة المجرمين؟! سواء أمام بيوتهم، أم أمام شاشات قنوات السحر والشعوذة، والتي سفرت فاجرة كافرة منذ فترة من الزمن! يلتمسون منهم التسبب في إيقاع الضر بأحد أو إزالته عن آخر، وكأن هؤلاء لم يقرأوا قول الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} [البقرة: 102]!

     

    والمقطوع به ـ أيها الإخوة ـ أنه لولا تكاثر الناس على هؤلاء السحرة لما راجت سوقهم، ولما انتشر باطلهم!
    إن مرور الإنسان بحالة مرضية صعبة، أو حالة نفسية شديدة، لا يبيح له بحال أن يرد هذه السوق الكاسدة ـ سوق السحرة ـ فإنهم لا يفلحون، وإن الله تعالى أرحم وأحكم من أن يحرم عليهم إتيان السحرة، ولا ينزل لهم دواء لما ابتلوا به! كما قال النبي ج ـ فيما رواه مسلم من حديث جابر ا ـ: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل"(5).
    وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة اأن النبي ج قال: {ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء}(6).
    ولعظيم ضرر السحر، فقد حرمته جميع الشرائع.

     

    إذن.. أيها القارئ المسدد: من أيقن بأن الساحر لا يفلح حيثُ أتى، وأيقن بأنه لا يفلح الساحرون، دفعه هذا إلى أمورٍ، من أهمها:
    1.    البعد عن إتيان هذا الصنف من الناس الذين نفى الله فلاحهم في الدنيا والآخرة ـ بغية علاج أو نحوه ـ وكيف يرتجى النفع ممن حكم عليه رب العالمين بأنه خاسر في الدنيا والآخرة!!

     

    2.    الحذر من التفكير في ممارسة شيء من أنواع السحر، مهما كان المبرر، سواء بقصد العطف، أو الصرف ـ كما تفعله بعض النساء ـ وتظن أن قصدَ استمالةِ الزوجِ، أو منعِه من الزواج عليها، ونحو ذلك من الشبه، أن ذلك يبيح لها ما تصنع، فإن هذا كله من تزيين الشيطان وتلبيسه.

     

    3.    ليعلم من كل من يمارس السحر أو تسبب في فعله ذلك أنه على خطر عظيم، وأنه قد باع دينه بثمن بخس، وأن الشياطين هم شيوخه وأساتذته في عمله هذا، كما قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ...} إلى قوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} [البقرة: 102].

     

    4.    إن ضعفت النفس لحظة، وزين الشيطان لها شيئاً من هذه الأفعال المنكرة، فليبادر بالتوبة الآن، وليقلع عن هذا العمل الباطل، وليتحلل ممن لحقه الأذى من جراء هذا الفعل، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، وقبل أن يوقف للحساب بين يدي من لا تخفى عليه خافية، الذي يعلم من هو الساحر؟ ومن هو المسحور؟ ومن هو المتسبب في ذلك كله! فيقتص للمظلوم من ظالمه، حين تكون الحسنة أغلى من الدنيا وما عليها!

     

    5.    إن يقين المؤمن بهذه القاعدة: {ولا يفلح الساحر حيث أتى} مما يقوي عبادة التوكل عنده، وعدم الخوف من إرهاب هذا الصنف الحقير من الناس، وهم السحرة، ويتذكر عندها، قول الله عز وجل: {أليس الله بكاف عبده} وفي قراءة: {أليس الله بكافٍ عباده}؟ والجواب: بلى والله.

     

    ومما يحسن تأمله والتفكرُ فيه: أن هؤلاء السحرة رغم ما يملكون من الأموال، وما يعيشونه من سكرة التفات الناس إليهم، إلا أنهم من أتعس حياةً، وأخبثهم نفوساً، ولا عجب! فمن سلّم قياده للشياطين، وكفر برب العالمين، كيف يسعد أم كيف يفلح؟!

     

    ختاماً لنطلب العون من المالك المدبر المتصرف؛ وتأكد يقيناً أنه:

    إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يقضي عليه اجتهاده

     

    ________________

    (1)    وممن نص على أن هذه قاعدة كلية من قواعد القرآن: الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب في تفسيره: (301).
    (2)    ينظر: أضواء البيان 4/551 ط.الراجحي.
    (3)    ينظر: التحرير والتنوير 9/144.
    (4)    ينظر: أضواء البيان 4/552 ط.الراجحي.
    (5)    صحيح مسلم، ح (2204).
    (6)    صحيح البخاري ح (5678).

     

    المسلم


  4. صور بسم الله الرحمان الرحيم مزخرفة المزخرفة

    سورة البقرة سورة التسليم والاستجابة لأوامر الله وهذا شرط الإمامة في الدين { وإذا ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما }

     

    {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} نحن في موسم تجارة مع الله واحذر أن تكون تجارتك في هذا الموسم هي مشاهدة المسلسلات وسماع الأغاني فيخرج منك رمضان ولم يغفر لك فتكن من الخاسرين

     

    (......رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )(البقرة ١٢٧) شأن المؤمن أنه مهما عمل من الصالحات فهو مضطر لسؤال الله القبول والاستغفار من النقص الذي يحصل منه .

     

    قال ابن القيم : كلما فوّت ( العبد ) حظاً من التقوى فاته حظ من الهداية بحسبه ،، لقوله تعالى : ﴿ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين﴾

    image.jpeg.430c0883431b5ad425cd1e01d04069d5.jpeg

     

    مبنى الفاتحة على العبودية، فإن العبودية إما محبة أو رجاء أو خوف، و { الْحَمْدُ للّهِ } محبة، و { الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ } رجاء، و { مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }خوف! وهذه هي أصول العبادة، فرحم الله عبدا استشعرها، وأثرت في قلبه، وحياته.

     

    اشْتِمالُ الفاتِحَةِ عَلى أُمَّهاتِ المَطالِبِ: 1-اشْتَمَلَتْ عَلى التَّعْرِيفِ بِالمَعْبُودِ تَبارَكَ وتَعالى بِثَلاثَةِ أسْماءٍ 2-وطَلَبُ الهِدايَةِ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ 2-وإثْباتَ المَعادِ، وجَزاءَ العِبادِ بِأعْمالِهِمْ

     

    (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا..) منافقون

    (ومنهم أميّون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ..) جهَلة

    (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) دعاة الضلال

    *هذا ليس سردا تاريخيا وإنما تحذير حتى لا نقع بمثل ما وقعوا فيه!*

     

    بين أول الوحي في سورة العلق وأول السور في المصحف يعرّفنا الله عز وجل بنفسه (..ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق) (الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين) هو الذي خلق ابتداء وإليه المآل انتهاء وما بينهما نحيا بآثار ألوهيته وربوبيته ورحمته

     

    القرآن يبني الإنسان في دنياه وآخرته
    أعظم مطلوبه في الدنيا: اهدنا الصراط المستقيم
    وأعظم ما يحققه للآخرة:
    عبادة قلبية: التقوى والإيمان بالغيب (هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب)
    وعبادة بدنية وروحية: (ويقيمون الصلاة)
    وعبادة مادية تزكوية (ومما رزقناهم ينفقون)

    افهم آية on X: "• سورة: الفاتحة • خرائط ذهنية لسور القرآن الكريم، تساعد على  الحفظ والمراجعة وفهم المعاني #دين_الحق #تدبر #افهم_آية  https://t.co/AOgPxtmHyF" / X

     

    سورة الفاتحة سورة تحقيق العبودية فاجعل ختمتك لكتاب الله ترتفي بك في سلم العبودية لربك

     

    { ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين } افتتحت سورة البقرة بالحديث عن كمالات القرآن لأنه مصدر التشريع الذي اشتملت عليه السورة فمن تعلمها تعلم الشريعة ( فإن أخذها بركة )

     

    جاء الحديث عن بني إسرائيل في أكثر من ( ٨٠ ) آية في أول سورة البقرة تحذيرا للأمة المحمدية المستخلفة بعدهم من مشابهتهم في عصياتهم لأوامر الله وأنبيائه

     

    ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ..﴾
    إذا نهي العبد عن (لفظ) من كلام اليهود لئلا يكون تشبها بهم
    ما بال من يتشبه بالكفار في مظاهرهم و أفعالهم واحتفالاتهم !!!

    سورة الفاتحة - تفسير سورة الفاتحة - الاستعاذة - البسملة - الخرائط الذهنية  لسور القرآن الكريم | Islam for kids, Quran tafseer, Islamic quotes quran

     

    {ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ ﴿٢﴾ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴿٣﴾ مَٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ}
    ما دلالة الأوصاف الأربعة في بداية سورة الفاتحة على الحمد لله؟
    كأنه ﷻ يقول: يا عبادي إن كنتم تحمدون وتعظمون للكمال الذاتي والصفاتي فاحمدوني فإني أنا «الله»
    وإن كان للإحسان والتربية والإنعام فإني أنا «رب العالمين»
    وإن كان للرجاء والطمع في المستقبل فإني أنا «الرحمن الرحيم»
    وإن كان للخوف فإني أنا «مالك يوم الدين».
    تفسير الألوسي: ١ / ٨٦.

     

    ﴿وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ﴾ نبيان ويقومان بعمل عظيم-بناء الكعبة- ويسألان الله القبول:{ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} بل ويسألان الله التوبة:{وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} لا تظن أنك مستغن التوبة لله مهما بلغت من استقامة وصلاح..

    تدبر آية عربي

     

    تأمل ابتداء كتاب الله بـ﴿ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴾ وابتداء الكون وكل الخلق بـ اسم الله فمنه الابتداء وإليه الانتهاء سبحانه فابدأ أعمالك وباركها بـ بسم الله

     

    في #الفاتحة: (رب العالمين) - (إياك نعبد) في #سورة_البقرة: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) الربوبية تستوجب العبادة

     

    (وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين..) القرآن يعالج الواقع ويجبر الضعيف ويربي المجتمع الإنساني ليكون متماسكا بعيدا عن الطبقية البغيضة

     

    (أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ) من فسد قلبه لايستشعر فساد جوارحه .

     

    {هدى للمتقين} أكثر الناس تحقيقا للتقوى أعظمهم انتفاعا واهتداء بالقرآن، تتبع صفات المتقين في القرآن وجاهد لتحقيق التقوى تكن أعظم انتفاعا بالقرآن

     

     

    {أولا يعلمون أن الله يعلم مايسرون ومايعلنون}
    آية كفيلة بأن يسعى المؤمن لإصلاح سره وعلانيته


    إذا قرأت " الرحمن الرحيم " فثق أن كل مايقضيه الله ويقدره لك إنما هو من رحمته بك، وهو أرحم بك من نفسك-وإن كان ظاهر الابتلاء شر و منع-

    {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لن تستطيع أن تؤدي عبادة دون عون الله مهما نويت وخططت ، فاقرن عباداتك بالاستعانة بالله، فلا حول للعبد ولاقوة له إلا بالله

     

    كل دعوى للمقاربة بين الأديان محسومة النتائج مسبقاً؛ ﴿وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡ﴾

     

    (ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ) من يستهزأ بأوامر الله ويتخذها لهوًا ولعبًا يستهزأ الله ﷻ بهم بالإمهال ثم بالنكال والجزاء بجهنم وبئس الجزاء .

     

    سورة الفاتحة شفاء للقلوب ، فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: ( فساد العلم، وفساد القصد) ويترتب عليهما داءان قاتلان: (وهما الضلال والغضب) فالضلال نتيجة فساد العلم والغضب نتيجة فساد القصد، فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء منهما

    تدبر سورة البقرة . (@Albagarah22) / X

     

    (أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ) في الآية أربع تأكيدات (ألا)للتنبيه،( إنّ)تأكيد (هُمُ)ضمير منفصل ثم(المفسدون) الخبر. وكذلك(ألا إنهمُ السفهاء) أبـلـغ ردٌ ربانيّ . .. !!

     

    (فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ) إن هممت بالإستغفار فلا تخاذل ولا تكاسل ولا تسويف .. فالله ﷻ غفورٌ توابٌ رحيم . وكلما في ذلك أسرعت كلما أفلحت …

     

    (وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآهُم بَعۡدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِير) آية مخيفة .. لمن وهب الله له علمًا وهدىً ويقينًا .. أسأل الله دومًا الثبات .. وإياك الميل والزوغان ..

     

    (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ....)(البقرة : ١٢١) قِسْ إيمانك بارتباطك بكتاب الله تعالى وأداء حقِّه؛ قراءةً وتدبُّرًا وعملًا. مِنَّة الله عليك ليست في حفظ كتابه فحَسب، ولكن في حفظه وفِقهه والقيام بحقِّه.


    ﴿ٱلذین ینقضون عهد ٱلله من بعد میثـٰقهۦ (ویقطعون ما أمر ٱلله بهۦ أن یوصل)ویفسدون فی ٱلأرض أولـٰىٕك هم ٱلخـٰسرون﴾ ليست الأرحام وحدها ما أمر الله به أن يوصل كما يظن البعض؛ فنصرة الرسل وصل ونصرة الدين وصل والعمل بالقرآن وصل والتزكية بالإيمان وصل

    الوقفات التدبرية لربع الاول الجزء الاول من سورة البقرة | PPT


  5. إن الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.

     

     

    ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

     

     

    ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

     

     

    ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

     

    فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ، أما بعدُ:

     

    فحَدِيثُنَا معَ حضراتِكم في هذه الدقائقِ المعدوداتِ عنْ موضوع بعنوان: «آداب الصيام».

     

     

    واللهَ أسألُ أن يجعلنا مِمَّنْ يستمعونَ القولَ، فَيتبعونَ أَحسنَهُ، أُولئك الذينَ هداهمُ اللهُ، وأولئك هم أُولو الألبابِ.

     

     

    اعلموا أيها الإخوة المؤمنون أن اللهَ عز وجل شرعَ لنا آدابا نتأدب بها عند صيامنا، ومن هذه الآداب:

     

    الأدب الأول: الدعاء بالمأثور عند رؤية الهلال:

     

    روى الدارمي بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللهُ»[1].

     

     

    الأدب الثاني: الإخلاص في الصيام:

     

    رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا[2]غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[3].

     

     

    الأدب الثاني: تبييت النية في صوم الفريضة:

     

    رَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعْ[4] قَبْلَ الْفَجْرِ»[5].

     

     

    وورد بإسناد صحيحٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مِنْ قَولِهِ، ولَا يُعرَفُ لهُمَا مُخَالفٌ مِنَ الصَّحابةِرضي الله عنهم.

     

     

    الأدب الرابع: استحباب كثرة الصدقات في رمضان:

     

    رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ه أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ[6]»[7].

     

     

    الأدب الخامس: يستحب للصائم أن يقول إذا شُتِم: إني صائم:

     

    رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ[8]، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ[9]، وَلَا يَصْخَبْ[10]، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ[11] أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؛ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ»[12].

     

     

    الأدب السادس: استحباب تعجيل الفطر:

     

    رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ»[13].

     

     

    الأدب السابع: الفطر على رطبات بعد الغروب مباشرة:

     

    رَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ»[14].

     

     

    الأدب الثامن: استحباب الدعاء بالمأثور عند الفطر:

     

    رَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عن ابن عمرَ رضي الله عنهماقال: كان رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: «ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللهُ»[15].

     

     

    الأدب التاسع: استحباب كثرة تلاوة القرآن في رمضان:

     

    قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].

     

     

    ورَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ه أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»[16].

     

     

    ورَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: ﴿ألمحَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ»[17].

     

     

    الأدب العاشر: استحباب الدعاء أثناء الصيام:

     

    رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ»[18].

     

     

    ورَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عن أَبي هُريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ: دَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ»[19].

     

     

    قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَة: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما يَقُولُ إِذَا أَفْطَرَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَغْفِرَ لِي»[20].

     

     

    الأدب الحادي عشر: عدم ترك السحور:

     

    رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً[21]»[22].

     

     

    وروى ابن حبان بِسَنَدٍ حَسَنٍ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ، وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى المُتَسَحِّرِينَ[23]»[24].

     

     

    وَرَوَى الدارمي عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنهيَأْمُرُنَا أَنْ نَصْنَعَ لَهُ الطَّعَامَ يَتَسَحَّرُ بِهِ، فَلَا يُصِيبُ مِنْهُ كَثِيرًا[25]، فَقُلْنَا لَهُ: تَأْمُرُنَا بِهِ وَلَا تُصِيبُ مِنْهُ كَثِيرًا؟ قَالَ: إِنِّي لَا آمُرُكُمْ بِهِ أَنِّي أَشْتَهِيهِ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا، وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ[26] أَكْلَةُ السَّحَرِ»[27].

     

     

    الأدب الثاني عشر: يستحب أن يجعل في سَحُورِهِ تمرًا:

     

    رَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نِعْمَ سَحُورُ المُؤْمِنِ التَّمْرُ»[28].

     

     

    أقول قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي، ولكم.

     

     

     

    الخطبة الثانية

     

    الحمدُ لله وكفى، وصلاةً وَسَلامًا على عبدِه الذي اصطفى، وآلهِ المستكملين الشُّرفا، أما بعد:

     

    فالأدب الثالث عشر: تأخير السحور:

     

    رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ.

     

     

    قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟

     

     

    قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً[29].

     

     

    ورَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنهافِينَا رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ السُّحُورَ، وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ السُّحُورَ، قَالَتْ: أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ السُّحُورَ؟ قُلْتُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَتْ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَع[30].

     

     

    الأدب الرابع عشر: عدم الشبع:

     

    رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عن الْمِقْدَام بْن مَعْدِ يَكْرِبَ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ حَسْبُ الْآدَمِيِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ غَلَبَتِ الْآدَمِيَّ نَفْسُهُ: فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ»[31].

     

     

    الأدب الخامس عشر: استحباب تفطير الصائمين:

     

    رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنهقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا»[32].

     

     

    الأدب السادس عشر: الحرص على صلاة التراويح:

     

    رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[33].

     

     

    وروى أبو داود بسند صحيح عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنهقَالَ: قال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»[34].

     

     

    أي من قام مع الإمام حتى ينتهي من صلاته فله أجر قيام لليلة.

     

     

    الأدب السابع عشر: الاجتهاد في العشر الأواخر:

     

    رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ[35]، وَأَحْيَا لَيْلَهُ[36]، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ»[37].

     

     

    ورَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا»[38].

     

     

    الأدب الثامن عشر: الاعتكاف:

     

    رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ»[39].

     

     

    الأدب التاسع عشر: إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم، أو يومين:

     

    رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ، أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ، أَوْ أُنْثَى مِنَ المُسْلِمِينَ»[40].

     

     

     

    والصاع: يساوي أربعة أمداد، والمد: ملء كفي الرجل المعتدل.

     

     

    الدعـاء...

     

    اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

     

     

    اللهم إنا نعوذ بك من شر أسماعنا، ومن شر أبصارنا، ومن شر أَلْسُنِنَا، ومن شر قلوبنا.

     

    اللهم إنا نعوذ بك من البَرَص، والجنون، والجذام، ومن سيِّئ الأسقام.

     

    اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء.

     

    اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عنا.

     

    اللهم ثبِّت قلوبَنا على الإيمان.

     

    اللهم ارزقنا العلمَ النافع، والعملَ الصالحَ.

     

    أقول قولي هذا، وأقم الصلاة.

     

     


    [1] صحيح: رواه الدارمي (1687)، وفيه عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم، ضعفه أبو حاتم، وذكره ابن حبان في الثقات، وللحديث شواهد يتقوى بها، وقد حسن بعضها الهيثمي، والألباني، وشعيب الأرنؤوط.

    [2] إيمانًا واحتسابًا: مؤمنًا محتسبًا، والمراد بالإيمان الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب طلب الثواب من الله تعالى.

    [3] متفق عليه: رواه البخاري (28)، ومسلم (760).

    [4] يُجْمِعْ: أي ينوِ.

    [5] صحيح: رواه النسائي في «الصغرى» (2336)، و«الكبرى» (2657)، وصححه الألباني وقفه.

    [6] مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ: أي في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه.

    [7] متفق عليه: رواه البخاري (1902)، ومسلم (2308).

    [8] جنة: أي وقاية.

    [9]فَلَا يَرْفُثْ: المراد بالرفث هنا الكلام الفاحش.

    [10] يَصْخَبْ: الصخب هو الخصام، والصياح.

    [11] لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ: أي تغير رائحته.

    [12] متفق عليه: رواه البخاري (1904)، ومسلم (1151).

    [13] متفق عليه: رواه البخاري (1975)، ومسلم (1098).

    [14] حسن: رواه أبو داود (2356)، والترمذي (696)، وقال: «حسن غريب».

    [15] حسن رواه أبو داود (2357)، وَحَسَّنهُ الألباني.

    [16] متفق عليه: رواه البخاري (1902)، ومسلم (2308).

    [17] حسن: رواه الترمذي (2910)، وقال: «حسن صحيح غريب».

    [18] حسن: رواه الترمذي(3598)، وحسنه، وابن ماجه (1752)، وهو حسن بشواهده.

    [19] حسن: رواه الترمذي (3598)، وصححه الألباني.

    [20]لا بأس به: رواه ابن ماجه (1735) موقوفًا بسند رجاله ثقات إلا إسحاق بن عبيد الله المدني ذكره ابن حبان في الثقات.

    [21] بركة: أي دنيوية في التقوي على صيام النهار، وأخروية بمزيد الأجر، والثواب.

    [22] متفق عليه: رواه البخاري (1923)، ومسلم (1095).

    [23] إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى المُتَسَحِّرِينَ: الصلاة من الله على العبد ثناء في الملأ الأعلى، ومن الملائكة دعاء.

    [24]حسن: رواه ابن حبان (8/246)، وأبو نعيم في «الحلية» (8/320)، وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» (1844).

    [25]فَلَا يُصِيبُ مِنْهُ كَثِيرًا: أي لا يأكل إلا قليلًا.

    [26]فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا، وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ: أي الفارق بين صيامنا، وصيام اليهود والنصارى.

    [27]صحيح: رواه مسلم (1096)، والدارمي (1697)، واللفظ له.

    [28] صحيح: رواه أبو داود (2345) بسند صحيح.

    [29] متفق عليه: رواه البخاري (1921)، ومسلم (1097).

    [30] حسن: رواه أحمد (25399)، والنسائي (2158، 2159) بسند حسن.

    [31] حسن: رواه الترمذي (2380)، وقال: «حسن صحيح»، وابن ماجه (3349) واللفظ له.

    [32] صحيح: رواه الترمذي (807)، وقال: «حسن صحيح».

    [33] متفق عليه: رواه البخاري (37)، ومسلم (759).

    [34] صحيح: رواه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، وابن ماجه (1327)، والنسائي (1364)، وأحمد (21419)، وصححه الألباني.

    [35]شَدَّ مِئْزَرَهُ: أي إزاره، وهو كناية عن الاجتهاد في القيام.

    [36]أَحْيَا لَيْلَهُ: أي استغرقه بالسهر في الصلاة، وبالقيام، والقراءة، والذِّكر كأن الزمان الخالي عن العبادة بمنزلة الميت، وبالعبادة فيه يصير حيًّا.

    [37] متفق عليه: رواه البخاري (2024)، ومسلم (1174).

    [38] صحيح: رواه الترمذي (796)، وقال: «حسن صحيح غريب».

    [39] متفق عليه: رواه البخاري (2025)، ومسلم (1171).

    [40] متفق عليه: رواه البخاري (1503)، ومسلم (984).

     

    شبكة الالوكة

     


  6. القاعدة التاسعة: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)

     

    د.عمر بن عبد الله المقبل

     

    الحمد لله، وبعد:
    فمرحى بمتقلَّب أبصاركم النضرة، إلى مترقَّب متَّكئِنا، ومرصوف حروف تطوف، وعلى جبينها عنواننا المتوثب المحفز: (قواعد قرآنية)، لنتفيأ ظلال قاعدة من القواعد القرآنية العظيمة، التي هي أثر من آثار كمال علم الله، وحكمته وقدرته في خلقه ـ، تلكم هي ما دل عليها قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36].

     

    وهذه الآية جاءت في سياق قصة امرأة عمران، وهي والدة مريم ـ عليها السلام ـ يقول تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} [آل عمران: 35، 36].

     

    وخلاصة القصة: أن امرأة عمران ـ وهي أم مريم ـ قد نذرت أن يكون مولودها القادم خادما لبيت المقدس، فلما وضعت مولودها، قالت معتذرة: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} لأن قدرة الذكر على خدمة بيت المقدس، والقيام بأعباء ذلك أكثر من الأنثى التي جبلها الله تعالى على الضعف البدني، وما يلحقها من العوارض الطبيعية التي تزيدها ضعفاً: كالحيض والنفاس.

     

    ومن اللطائف في تركيب هذه القاعدة: أن الله تعالى قال { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } مع أنه لو قيل: "وليست الأنثى كالذكر" لحصل المقصود، ولكن لما كان الذَّكر هو المقصود قُدّم في الذِّكر؛ ولأنه هو المرجو المأمول فهو أسبق إلى لفظ المتكلم (1).

     

    ولقد بين القرآن هذا التفاوت بين الجنسين في مواضع كثيرة، منها: قوله تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ } وهم الرجال { عَلَى بَعْضٍ } وهن النساء، ومنها: قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، (وذلك لأن الذكورة في كمال خلقي، وقوة طبيعية، وشرف وجمال، والأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي، كما هو محسوس مشاهد لجميع العقلاء، لا يكاد ينكره إلا مكابر في المحسوس، وقد أشار جل وعلا إلى ذلك بقوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]؛ فالأنثى تنشأ في الحلية، أي: الزينة ـ من أنواع الحلي والحلل ـ لتجبر بذلك نقصها الخَلْقي) (2).

     

    بل يقال: إن بعض ما جبل الله عليه الأنثى هو نوع من الكمال في حقها، وإن كان نقصاً في حق الرجال، (ألا ترى أن الضعف الخَلْقي والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال، مع أنه يعد من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب)(3).

     

    هذا هو حكم الله القدري: أن الذكر ليس كالأنثى، وهذا حكم الأعلم بالحِكَمِ والمصالح ـ، هذا كلام الذي خلق الخلق، وعَلِمَ ما بينهم من التفاوت والاختلاف: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، وقد تفرع على ذلك: اختلاف بين الذكر والأنثى في جملة من الأحكام الشرعية ـ وإن كانا في الأصل سواء ـ.

     

    وهذا الاختلاف في الأحكام الشرعية بين الذكر والأنثى راجع إلى مراعاة طبيعة المرأة من حيث خلقتها، وتركيبها العقلي، والنفسي، وغير ذلك من صور الاختلاف التي لا ينكرها العقلاء والمنصفون من أي دين، وليعلم المؤمن هاهنا قاعدة تنفعه في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة، وهي: أن الشرع لا يمكن أن يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متناقضين، وشأن المؤمن الحق أن لا يعارض الشرع بعقله القاصر، بل شأنه أن يتلمس الحكم من وراء ذلك التفريق، أو هذا الجمع.

     

    ومن توهم ـ من الجهال والسفهاء ـ أنهما سواء فقد أبطل دلالة القرآن والسنة على ذلك:
    أما القرآن فإن القاعدة التي نخن بصدد الحديث عنها دليل واضح على هذا، وأما السنة فإن النبي ج لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال ـ كما ثبت ذلك في البخاري من حديث ابن عباس ب(4) ـ، فلو كانا متساويين لكان اللعنُُ باطلاً، ومعاذ الله أن يكون في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لغو أو باطل!

     

    وعَوداً على هذه القاعدة: { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى }، فلنتأمل شيئاً من حِكَمِ الله تعالى في التفريق بين الذكر والأنثى في بعض الأحكام الشرعية، ومن ذلك:

    1 ـ التفريق في الميراث:

    فلا يستريب عاقل أن سنة الله اقتضت أن يكون الرجل هو الذي يكدح ويتعب في تحصيل الرزق، وهو الذي يطلب منه دفع الميراث، والمشاركة في دفع الدية ـ عند قيام المقتضي لذلك ـ فالذكر مترقب دوماً للنقص من ماله، بعكس الأنثى فهي دوماً تترقب الزيادة في مالها: حينما يدفع لها المهر، وحينما ينفق عليها من قبل وليها.
    يقول العلامة الشنقيطي: "وإيثارُ مترقب النقص دائماً على مترقب الزيادة دائماً ـ لجبر بعض نقصه المترقب ـ حكمتُه ظاهرة واضحة، لا ينكرها إلا من أعمى الله بصيرته بالكفر والمعاصي"(5).

     

    2 ـ التفريق في الشهادة:

    وهذا نصت عليه آية الدين: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] ، كما دلت عليه السنة الصحيحة عن النبي ج،وبين أن سبب هذا هو نقصٌ في عقلها.

     

    وهذا التفريق ـ لمن تأمله ـ عين العدل، يقول الشيخ السيد رشيد رضا: مبيناً هذا المعنى: "إن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها فيها ضعيفة، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية ـ التي هي شغلها ـ فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، يعني أن طبع البشر ذكراناً وإناثاً أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر اشتغالهم بها، ولا ينافي ذلك اشتغال بعض النساء الأجانب في هذا العصر الأعمال المالية فإنه قليل لا يعول عليه، والأحكام العامة إنما تناط بالأكثر في الأشياء وبالأصل فيها." (6) انتهى.

     

    ولا يظنن أحدٌ أن في ذلك انتقاصاً لقدرها، بل هو تنزيهٌ لها عن ترك مهمتها الأساسية في التربية والقرار في البيت، إلى مهمة أقل شأناً وسمواً، وهي ممارسة التجارة والمعاملات المالية!
    وقد أشار فريق من الباحثين إلى أن المرأة الحامل ينكمش عندها حجم الدماغ، ولا يعود لحجمه الطبيعي إلا بعد أشهر من وضعها.

     

    وليعلم أن هذا الحكم ـ أعني كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل ـ ليس مطرداً في جميع الأبواب، بل إنها مثل الرجل في بعض الأحكام، كشهادتها في دخول شهر رمضان، وفي باب الرضاع، والحيض، والولادة، واللعان وغير ذلك من الأحكام.

     

    ونحن بحمد الله مؤمنون بحكم الله وقدره، ولا تزيدنا البحوث الحديثة إلا يقيناً، ونقطع بأن أي بحث يخالف صريح القرآن فنتيجته غلط، وإنما أتي صاحبها من سوء فهمه.

     

    أيها القارئ الحصيف:

    وليس هذا التفريق بين الذكر والأنثى كله متحيّز إلى الرجل، بل جاءت أحكام تفرق بينهما تفريقاً تميزت فيه المرأة، ومن ذلك: أن الجهاد لا يجب على النساء لطبيعة أجسادهن، فسبحان العليم الحكيم الخبير.
    ولوشل حديثنا بقية، وله سَواقٍ أخرى، فإلى الحلقة القادمة بإذن الله، ليتمم الحديث عن قاعدة هي من أحسن الحديث.

    _________________
    (1)    ينظر: التحرير والتنوير 3/86.
    (2)    ينظر: أضواء البيان 3/498 ط.الراجحي.
    (3)    ينظر: أضواء البيان 3/501 ط.الراجحي.
    (4)    أخرجه البخاري برقم (5885).
    (5)    ينظر: أضواء البيان 3/500 ط.الراجحي.
    (6)    تفسير المنار 3/104.

     

    المسلم


  7. إن العبد في هذه الدنيا يسعى ويشقى ليبني له بيتًا فيها، فيخسر من ماله وجهده وفكره ووقته ما لا يخطر على البال، وقد يحمل معه الهموم والغموم والأرق والقلق، ولربما سكب ماء وجهه؛ طلبًا للقرض والدَّيْن، وسائلًا الإمهال والتأجيل، وفي النهاية هو يعلم أن هذا البيت معرض للبِلى والزوال، والحرق والهدم، والتشقق والتصدع، وإن سلم البيت من ذلك كله فلن يسلم صاحبُه من الموت، فكُلٌّ مسافر مع قافلة الراحلين، كما قال الله عز وجل: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78].

    لا يتوفر وصف للصورة.

     

     

     

    أيها الإخوة والأخوات، جاء في السنة المطهرة بعض أسباب بناء بيتٍ في الجنة، والأعمال التي تُوصل لتلك الغاية العظيمة، وإن من هذه الأعمال ما يلي:

     

    بناء المسجد أو المشاركة في بنائه، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن بنى للهِ مسجِدًا ولو كمَفْحَصِ قَطاةٍ بنى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ))؛ صحيح ابن حبان.

     

     

     

    قراءة سورة الإخلاص عشر مرات، قال صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ عشرَ مراتٍ بنى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ))؛ صحيح الجامع.

     

     

     

    الاجتهاد في النوافل، وخاصة في نوافل الصلوات الخمس، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ثابرَ على ثنتي عشرةَ رَكعةً منَ السُّنَّةِ بنى اللَّهُ لَهُ بيتًا في الجنَّةِ: أربعِ رَكعاتٍ قبلَ الظُّهرِ، ورَكعتينِ بعدَها، ورَكعتينِ بعدَ المغربِ، ورَكعتينِ بعدَ العشاءِ، ورَكعتينِ قبلَ الفجرِ))؛ صحيح الترمذي.

     

     

     

    الصبر والحمد عند الابتلاء بوفاة الوَلَد، فقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّه من تُوفِّي له ولدٌ، فصبر واسترجع، بُني له بيتٌ في الجنة، حيث قال: ((إذا ماتَ ولَدُ العبدِ قالَ اللَّهُ لملائِكتِهِ: قبضتم ولدَ عبدي؟ فيقولونَ: نعم، فيقولُ: قبضتُم ثمرةَ فؤادِهِ؟ فيقولونَ: نعم، فيقولُ: ماذا قالَ عبدي؟ فيقولونَ: حمِدَكَ واسترجعَ، فيقولُ اللَّهُ: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنَّةِ وسمُّوهُ بيتَ الحمْدِ))؛ صحيح الترمذي.

     

     

     

    حسن الخلق وترك الجدال والكذب، قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَضِ الجنةِ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا، وببيتٍ في وسطِ الجنةِ لمَن تركَ الكذبَ وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنةِ لمَن حَسُنَ خُلُقُه))؛ صحيح أبي داود.

     

     

     

    الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنَا زَعِيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِي وأسلَمَ وهَاجَرَ بِبَيتٍ في رَبَضِ الجنةِ، وبَيتٍ في وسَطِ الجنةِ، وبَيتٍ في أعْلَى غُرَفِ الجنةِ، وأنا زَعِيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِي وأسْلَمَ وجَاهَدَ في سَبيلِ اللهِ بِبيْتٍ في رَبَضِ الجنةِ، وبَيتٍ في وسَطِ الجنةِ، وبَيتٍ في أعلى غُرَفِ الجنةِ، فَمَنْ فَعلَ ذلِك لَمْ يَدَعْ لِلخَيرِ مَطْلَبًا، ولا من الشَّرِّ مَهْرَبًا، يَموتُ حيث شاءَ أنْ يَموتَ))؛ صحيح الجامع.

     

     

     

    دعاء السوق، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ دَرَجَةٍ، وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ))؛ رواه الحاكم في المستدرك.

     

     

     

    أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا من السباقين للخيرات، وأن يجعلنا من عباده الصالحين المُصلِحين، وأن يرزقنا الجنة، وصلى الله على سيدنا محمد.

     
     
    شبكة الالوكة
     
    لا يتوفر وصف للصورة.

     


  8. تفسير الشيخ الشعراوي سورة لقمان

    19-18

     

    {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)}
    معنى: تصعر من الصَّعَر، وهو في الأصل داء يصيب البعير يجعله يميل برقبته، ويشبه به الإنسان المتكبر الذي يميل بخدِّه، ويُعرض عن الناس تكبّراً، ونسمع في العامية يقولون للمتكبر(فلان ماشي لاوي رقبته).
     

    فقول الله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ..} [لقمان: 18] واختيار هذا التشبيه بالذات كأن الحق سبحانه يُنبِّهنا أن التكبُّر وتصعير الخدِّ داء، فهذا داء جسدي، وهذا داء خلقي. وقد تنبه الشاعر إلى هذا المعنى فقال:
    فَدَعْ كُلَّ طَاغِيةٍ للزَّمانِ ** فإنَّ الزمانَ يُقيم الصَّعَر

    يعني: إذا لم يستطع أبناء الزمان تقويم صعر المتكبر، فدعْه للزمان فهو جدير بتقويمه، وكثيراً ما نرى نماذج لأناس تكبروا وتجبروا، وهم الآن لا يستطيع الواحد منهم قياماً أو قعوداً، بل لا يستطيع أنْ يذب الطير عن وجهه.
     

    والإنسان عادة لا يتكبر إلا إذا شعر في نفسه بميزة عن الآخرين، بدليل أنه إذا رأى مَنْ هو أعلى منه انكسر وتواضع وقوَّم من صَعره، ومثَّلنا لذلك ب(فتوة) الحارة الذي يجلس على القهوة مثلاً واضعاً قدماً على قدم، غير مُبَال بأحد، فإذا دخل عليه(فتوة) آخر أقوى منه تلقائياً يعتدل في جلسته.
    .
     أن الذي يتكبر ينبغي أنْ يتكبَّر بشيء ذاتي فيه لا بشيء موهوب له، وإذا رأيتَ في نفسك ميزة عن الآخرين فانظر فيما تميزوا وهم به عليك، وساعة تنظر إلى الخَلْق والخالق تجد كل مخلوق لله جميلاً.

     

    لذلك تروى قصة الجارية التي كانت تداعب سيدتها، وهي تزينها وتدعو لها بفارس الأحلام ابن الحلال، فقالت سيدتها: لكني مشفقة عليك؛ لأنك سوداء لم ينظر أحد إليك، فقالت الجارية: يا سيدتي، اذكري أن حُسْنك لا يظهر لأعين الناس إلا إذا رأوا قُبْحي- فالذي تراه أنت قبيحاً هو في ذاته جميل، لأنه يبدي جمال الله تعالى في طلاقة القدرة- ثم قالت: يا هذه، لا تغضبي الله بشيءٍ من هذا، أتعيبين النقش، أم تعيبين النقاش؟ ولو أدركت ما فيَّ من أمانة التناول لك في كل ما أكلف به وعدم أمانتك فيما يكلفك به أبوك لعلمت في أي شيء أنا جميلة.
    ويقول الشاعر في هذا المعنى:
    فَالوَجْه مِثْلُ الصُّبْح مُبيضُّ ** والشَّعْر مثْل الليْل مُسْوَدُّ

    ضِدَّانِ لما اسْتجْمعَا حَسُناَ ** والضِّد يُظْهِر حُسْنَهُ الضِّدُّ

     

    والله تعالى يُعلِّمنا هذا الدرس في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ...} [الحجرات: 11].
    فإذا رأيتَ إنساناً دونك في شيء ففتش في نفسك، وانظر، فلابد أنه متميز عليك في شيء آخر، وبذلك يعتدل الميزان.
    فالله تعالى وزَّع المواهب بين الخَلْق جميعاً، ولم يحابِ منهم أحداً على أحد، وكما قلنا: مجموع مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الآخر.

     

    وسبق أن ذكرنا أن رجلاً قال للقمان: لقد عرفناك عبداً أسود غليظ الشفاه، تخدم فلاناً وترعى الغنم، فقال لقمان: نعم، لكني أحمل قلباً أبيض، ويخرج من بين شفتيَّ الغليظتين الكلام العذب الرقيق.
    ويكفي لقمان فخراً أن الله تعالى ذكر كلامه، وحكاه في قرآنه وجعله خالداً يُتْلى ويُتعبَّد به، ويحفظه الله بحفظه لقرآنه.

     

    ولنا مَلْحظ في قوله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ..} [لقمان: 18]

    فكلمة للناس هنا لها مدخل، وكأن الله تعالى يقول لمن يُصعِّر خده؛ لا تَدْعُ الناس إلى العصيان والتمرد على أقدار الله بتكبُّرك عليهم وإظهار مزاياك وسَتْر مزاياهم، فقد تصادف قليلَ الإيمان الذي يتمرد على الله ويعترض على قدره فيه حينما يراك متكبراً متعالياً وهو حقير متواضع، فإنْ كنت محترف صَعَر و(كييف) تكبُّر، فليكُنْ ذلك بينك وبين نفسك، كأن تقف أمام المرآة مثلاً وتفعل ما يحلو لك مما يُشْبع عندك هذا الداء.
    فكأن كلمة {لِلنَّاسِ..} [لقمان: 18] تعني: أن الله تعالى يريد أنْ يمنع رؤية الناس لك على هذا الحال؛ لأنك قد تفتن الضعاف في دينهم وفي رضاهم عن ربهم.

     

    ثم يقول لقمان: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً..} [لقمان: 18] المرح هو الاختيال والتبختر، فربُّكَ لا يمنعك أنْ تمشي في الأرض، لكن يمنعك أنْ تمشي مِشيْة المتعالي على الناس، المختال بنفسه، والله تعالى يأمرنا: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور} [الملك: 15].
    فالمشي في الأرض مطلوب، لكن بهيئة خاصة تمشي مَشْياً سوياً معتدلاً، فعمر- رضي الله عنه- رأى رجلاً يسير متماوتاً فنهره، وقال: ما هذا التماوت يا هذا، وقد وهبك الله عافية، دَعْها لشيخوختك.
    ورأى رجلاً يمشي مشية الشطار- يعني: قُطَّاع الطرق- فنهاه عن القفز أو الجري والإسراع في المشي.
    إذن: المطلوب في المشي هيئة الاعتدال، لذلك سيأتي في قول لقمان: {واقصد فِي مَشْيِكَ...} [لقمان: 19] يعني: لا تمشِ مشية المتهالك المتماوت، ولا تقفز قفز أهل الشر وقُطَّاع الطريق.

     

    {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] المختال: هو الذي وجد له مزية عند الناس، والفخور الذي يجد مزية في نفسه، والله تعالى لا يحب هذا ولا ذاك؛ لأنه سبحانه يريد أنْ يحكم الناس بمبدأ المساواة ليعلم الناس أنه تعالى ربُّ الجميع، وهو سبحانه المتكبِّر وحده في الكون، وإذا كان الكبرياء لله وحده فهذا يحمينا أنْ يتكبِّر علينا غيره، على حدِّ قول الناظم:
    والسُّجُود الذي تَجْتويه ** من أُلُوفِ السُّجُودِ فيه نَجَاةُ

    فسجودنا جميعاً للإله الحق يحمينا أن نسجد لكل طاغية ولكل متكبر ومتجبر، فكأن كبرياء الحق تبارك وتعالى في صالح العباد.
     

     

    ثم يقول الحق سبحانه على لسان لقمان عليه السلام
    {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}
    القصد: هو الإقبال على الحدث، إقبالاً لا نقيضَ فيه لطرفين، يعني: توسطاً واعتدالاً، هذا في المشي {واغضض مِن صَوْتِكَ..} [لقمان: 19] أي: اخفضه وحَسْبك من الأداء ما بلغ الأذن.
     

    لكن، لماذا جمع السياق القرآني بين المشي والصوت؟ قالوا: لأن للإنسان مطلوبات في الحياة، هذه المطلوبات يصل إليها، إما بالمشي- فأنا لا أمشي إلى مكان إلا إذا كان لي فيه مصلحة وغرض- وإما بالصوت فإذا لم أستطع المشي إليه ناديته بصوتي.
    إذن: إما تذهب إلى مطلوبك، أو أنْ تستدعيه إليك. والقصد أي التوسط في الأمر مطلوب في كل شيء؛ لأن كل شيء له طرفان لابد أن يكون في أحدهما مبالغة، وفي الآخرة تقصير؛ لذلك قالوا: كلا طرفي قصد الأمور ذميم.

     

    ثم يقول سبحانه مُشبِّهاً الصوت المرتفع بصوت الحمار: {إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} [لقمان: 19] والبعض يفهم هذه الآية فهماً يظلم فيه الحمير، وعادة ما يتهم البشرُ الحميرَ بالغباء وبالذلة، لذلك يقول الشاعر:
    ولاَ يُقيم علَى ضيَمْ يُرَادُ به ** إلاَّ الأذلاَّنِ عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ

    هذا على الخسفْ مربوطٌ برمته ** وذَا يُشَدُّ فَلاَ يَرْثِى لَهُ أَحَد

    ونعيب على الشاعر أن يصف عِيرَ الحي- والمراد الحمار- بالذلة، ويقرنه في هذه الصفة بالوتد الذي صار مضرب المثل في الذلة حتى قالوا(أذلّ من وتد) لأنك تدقّ عليه بالآلة الثقيلة حتى ينفلق نصفين، فلا يعترض عليك، ولا يتبرم ولا يغيثه أحد، فالحمار مُسخّر، وليس ذليلاً، بل هو مذلَّل لك من الله سبحانه.
    ولو تأملنا طبيعة الحمير لوجدنا كم هي مظلومة مع البشر، فالحمار تجعله لحمل السباخ والقاذورات، وتتركه ينام في الوحل فلا يعترض عليك، وتريده دابة للركوب فتنظفه وتضع عليه السِّرْج، وفي فمه اللجام، فيسرع بك إلى حيث تريد دون تذمر أو اعتراض.

     

    وقالوا في الحكمة من علو صوت الحمار حين ينهق: أن الحمار قصير غير مرتفع كالجمل مثلاً، وإذا خرج لطلب المرعى ربما ستره تلّ أو شجرة فلا يهتدي إليه صاحبه إلا إذا نهق، فكأن صوته آلة من آلات البادية الطبيعية ولازمة من لوازمه الضرورية التي تناسب طبيعته.
     

    لذلك يجب أن نفهم قول الله تعالى: {إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} [لقمان: 19] فنهيق الحمار ليس مُنكَراً من الحمار، إنما المنكر أن يشبه صوت الإنسان صوت الحمار، فكأن نهيق الحمار كمال فيه، وصوتك الذي يشبهه مُنكَر مذموم فيك، وإلا فما ذنب الحمار؟
     

    إنك تلحظ الجمل مثلاً وهو أضخم وأقوى من الحمار إذا حمَّلته حِمْلاً فإنه(ينعَّر) إذا ثقل عليه، أما الحمار فتُحمِّله فوق طاقته فيحمل دون أنْ يتكلم أو يبدي اعتراضاً، الحمار بحكم ما جعل الله فيه من الغريزة ينظر مثلاً إلى(القناة) فإنْ كانت في طاقته قفز، وإنْ كانت فوق طاقته امتنع مهما أجبرته على عبورها.
     

    أما الإنسان فيدعوه غروره بنفسه أنْ يتحمّل ماَلا يطيق. ويُقال: إن الحمار إذا نهق فإنه يرى شيطاناً، وعلمنا بالتجربة أن الحيوانات ومنها الحمير تشعر بالزلزال قبل وقوعه، وأنها تقطِّع قيودها وتفرّ إلى الخلاء، وقد لوحظ هذا في زلزال أغادير بالمغرب، ولاحظناه في زلزال عام 1992م عندما هاجت الحيوانات في حديقة الحيوان قبيل الزلزال.
    ثم إن الحمار إنْ سار بك في طريق مهما كان طويلاً فإنه يعود بك من نفس الطريق دون أنْ تُوجِّهه أنت، ويذهب إليه مرة أخرى دون أنْ يتعدَّاه، لكن المتحاملين على الحمير يقولون: ومع ذلك هو حمار لأنه لا يتصرف، إنما يضع الخطوة على الخطوة، ونحن نقول: بل يُمدح الحمار حتى وإنْ لم يتصرف؛ لأنه محكوم بالغريزة.
    كذلك الحال في قول الله تعالى: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً...} [الجمعة: 5].
    فمتى نثبت الفعل وننفيه في آن واحد؟ المعنى: حملوها أي: عرفوها وحفظوها في كتبهم وفي صدورهم، ولم يحملوها أي: لم يؤدوا حق حملها ولم يعملوا بها، مثَلهم في ذلك {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً...} [الجمعة: 5] فهل يُعَدُّ هذا ذَماً للحمار؟ لا، لأن الحمار مهمته الحمل فحسب، إنما يُذَمّ منهم أَنْ يحملوا كتاب الله ولا يعملوا به، فالحمار مهمته أنْ يحمل، وأنت مهمتك أنْ تفقه ما حملت وأنْ تؤديه.

     

    فالاعتدال في الصوت أمر ينبغي أن يتحلى به المؤمن حتى في الصلاة وفي التعبد يُعلِّمنا الحق سبحانه: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [الإسراء: 110] أما ما تسمعه من(الجعر) في مكبرات الصوت والنُّواح طوال الليل فلا ينالنا منه إلا سخط المريض وسخط صاحب العمل وغيرهم، ولقد تعمدنا عمل إحصاء فوجدنا أن الذين يأتون إلى المسجد هم هم لم يزيدوا شيئاً ب(الميكروفونات).
    كذلك الذين يعرفون أصواتهم بقراءة القرآن في المساجد فيشغلون الناس، وينبغي أن نترك كل إنسان يتقرب إلى الله بما يخفّ على نفسه: هذا يريد أنْ يصلي، وهذا يريد أن يُسبِّح أو يستغفر، وهذا يريد أنْ يقرأ في كتاب الله، فلماذا تحمل الناس على تطوعك أنت؟

     

    نداء الايمان


  9. تفسير الشيخ الشعراوي

     

    {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)}لقمان
    هذه مسائل أربع بدأها لقمان بإقامة الصلاة، والصلاة هي الركن الأول بعد أنْ تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعلمنا أن الصلاة لأهميتها فُرِضت بالمباشرة، ولأهميتها جُعلِت ملازمة للمؤمن لا تسقط عنه بحال، أما بقية الأركان فقد تسقط عنك لسبب أو لآخر، كالصوم والزكاة والحج، فإذا سقطت عنك هذه الأركان لم يَبْق معك إلا الشهادتان والصلاة؛ لذلك جعلها النبي صلى الله عليه وسلم عماد الدين.
    ولذلك بدأ بها لقمان:
    {يابني أَقِمِ الصلاة..} [لقمان: 17] لأنها استدامة إعلان الولاء لله تعالى خمس مرات في اليوم والليلة، فحين يناديك ربك(الله أكبر) فلا ينبغي أن تنشغل بمخلوق عن نداء الخالق، وإلا فما موقف الأب مثلاً حين ينادي ولده فلا يجيبه؟ فاحذر إذا ناداك ربك ألا تجيب.
     

    ثم تأمل النداء للصلاة الذي اهتدتْ إليه الفطرة البشرية السليمة، وأقرّه سيدنا رسول الله: الله أكبر الله أكبر، يعني أكبر من كل ما يشغلك عنه، فإياك أن تعتذر بالعمل في زراعة أو صناعة أو تجارة عن إقامة الصلاة.
    وقد ناقشتُ أحد أطباء الجراحة في هذه المسألة، فقال: كيف أترك عملية جراحية من أجل الصلاة؟ فقلت له: بالله لو اضطررتَ لقضاء الحاجة تذهب أم لا؟ فضحك وقال: أذهب، فقلت: فالصلاة أوْلَى، ولا تعتقد أن الله تعالى يكلِّف العبد تكليفاً، ثم يضنّ عليه باتساع الزمن له، بدليل أنه تعالى يراعي وقت العبد ومصالحه وإمكاناته، ففي السفر مثلاً يشرع لك الجمع والقصر.
    فبإمكانك أنْ تُوفِّق صلاتك حسب وقتك المتاح لك، إما بجمع التقديم أو التأخير، وكم يتسع وقتك ويخلو من مشغولية العبادة إذا جمعتَ الظهر والعصر جمْعَ تقديم، والمغرب والعشاء جَمْع تأخير في آخر وقت العشاء؟ أو حين تجمع الظهر والعصر جمعَ تأخير، فتصليهما قبل المغرب، ثم تصلي المغرب والعشاء جمع تقديم؟
    إذن: المسألة فيها سِعَة، ولا حجةَ لأحد في تَرْك الصلاة بالذات،

     

    أما الذين يقولون في مثل هذه الأمور {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا...} [البقرة: 286] وأن هذا ليس في وُسْعي.. فنقول لهم: لا ينبغي أنْ تجعل وُسْعك هو الحكم، إنما التكليف هو الحكم في الوُسْع، وما دام ربك- عز وجل- قد كلَّفك فقد علم سبحانه وُسْعْك وكلّفك على قدره بدليل ما شرعه لك من رُخَص إذا خرجتْ العبادة عن الوُسْع.
     

    وقال {أَقِمِ الصلاة..} [لقمان: 17] لأن الصلاة أول اكتمال في الإجماع لمنهج الله، وبها يكتمل إيمان الإنسان في ذاته، وسبق أن قلنا: إن هناك فرقاً بين أركان الإسلام وأركان المسلم، أركان الإسلام هي الخمس المعروفة، أمَّا أركان المسلم فهي الملازمة له التي لا تسقط عنه بحال، وهي الشهادتان والصلاة، وإنْ كان على المسلم أنْ يؤمن بها جميعاً، لكن في العمل قد تسقط عنه عدا الصلاة والشهادتين.
     

    ثم يبين لقمان لولده: أن الإيمان لا يقف عند حدِّ الاستجابة لهذين الركنين الأساسيين، إنما من الإيمان ومن كمال الإيمان أنْ تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فيقول له: {وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر..} [لقمان: 17] فانشغل بعد كمالك بإقامة الصلاة، بأنْ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فبالصلاة كَمُلْتَ في ذاتك، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنقل الكمال إلى الغير، وفي ذلك كمال الإيمان.
    وأنت حين تأمر بالمعروف، وحين تنهي عن المنكر لا تظن أنك تتصدَّق على الآخرين، إنما تؤدي عملاً يعود نفعه عليك، فبه تجد سعة الراحة في الإيمان، وتجد الطمأنينة والراحة الذاتية؛ لأنك أديْتَ التكاليف في حين قصرَّ غيرك وتخاذل.
    ولا شك أن في التزام غيرك وفي سيره على منهج الله راحة لك أنت أيضاً، وإلا فالمجتمع كله يَشْقى بهذه الفئة القليلة الخارجة عن منهج الله.

     

    ومن إعزاز العلم أنك لا تنتفع به الانتفاع الكامل إلا إذا عدَّيْته للغير، فإنْ كتمته انتفع الآخرون بخيرك، وشقيتَ أنت بشرّهم. إذن: لا تنتفع بخير غيرك إلا حين تؤدي هذه الفريضة، فتأمر غيرك بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وتحب لهم ما تحب لنفسك، وبذلك تنال الحظين، حظك عند الله لأنك أديْتَ، وحظك عند الناس لأنك في مجتمع متكامل الإيمان ينفعك ولا يضرك.
     

    ولك هذا أن تلاحظ أن هذه الآية لم تقرن إقامة الصلاة بإيتاء الزكاة كعادة الآيات، فغالباً ما نقرأ: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة...} [البقرة: 43].
    وحين نستقرئ
    كلمة الزكاة في القرآن الكريم نجد أنها وردت اثنتين وثلاثين مرة، اثنتان منها ليستا في معنى زكاة المال المعروفة النماء العام إنما بمعنى التطهر، وذلك في قوله تعالى في قصة الخضر وموسى عليه السلام: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ...} [الكهف: 74].
    ثم قوله تعالى: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف: 81].
    والمعنى: طهرناهم حينما رفعنا عنهم باباً من أبواب الفتنة في دين الله.
    والموضع الآخر في قوله تعالى: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً} [مريم: 13] فالمعنى: وهبنا لمريم شيئاً نُزكيها به؛ ذلك لأن الزكاة أول ما تتعدى تتعدَّى من واجد لمعدم، ومريم لم تتزوج فهي مُعْدَمة في هذه الناحية؛ لذلك وهبها الله النماء الخاص من ناحية أخرى حين نفخ فيها الروح من عنده تعالى.
    وفي موضع واحد، جاءت الزكاة بمعنى زكاة المال، لكن غير مقرونة بالصلاة، وذلك في قوله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم: 39].

     

    وفي هذه الآية قال لقمان لولده: {يابني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف..} [لقمان: 17] ولم يقل: وآتِ الزكاة، فلماذا؟
    ينبغي أن نشير إلى أن القرآن جمع بين الصلاة والزكاة؛ لأن الصلاة فيها تضحية بالوقت، والوقت زمن العمل، والعمل وسيلة الكسب والمال، إذن؛ ساعة تصلي فقد ضحيْتَ بالوقت الذي هو أصل المال، فكأن في الصلاة تصدقت بمائة في المائة من المال المكتسب في هذا الوقت، أمّا في الزكاة فأنت تتصدَّق بالعُشْر، أو نصف العشر، أو رُبْع العشر، ويبقى لك معظم كسبك، فالواقع أن الزكاة في الصلاة أكبر وأبلغ من الزكاة نفسها.
    إذن: لما كانت الزكاة في كل منهما، قرن القرآن بينهما إلا في هذا الموضع، ولما تتأمله تجده من دقائق الأسلوب القرآني، فالقرآن يحكي هذه الوصايا عن لقمان لولده،

    ولنا فيه ملحظان:
    الأول: أن الله تعالى لم يكلِّف العبد إلا بعد سِنِّ البلوغ إلا في الصلاة، وجعل هذا التكليف مُوجهاً إلى الوالد أو ولي الأمر، فأنابه أن يكلف ولده بالصلاة، وأن يعاقبه إنْ أهمل في أدائها، ذلك ليربي عند ولده الدُّرْبة على الصلاة، بحيث يأتي سِنّ التكليف، وقد ألفَها الولد وتعوَّد عليها، فهي عبادة تحتاج في البداية إلى مران وأخذ وردَّ، وهذا أنسب للسنَّ المبكرة.
    والوالد يُكلف ولده على اعتبار أنه الموجد الثاني له، والسبب المباشر في وجوده، وكأن الله تعالى يقول: أنا الموجد لكم جميعاً وقد وكَّلتُك في أنْ تكلِّف ولدك؛ لأن معروفك ظاهر عنده، وأياديك عليه كثيرة، فأنت القائم بمصالحه المُلَبِّي لرغباته، فإنْ أمرته قَبِل منك واطاعك، فهي طاعة بثمنها.
    وطالما وكلتك في التكليف فطبيعي أنْ أُوكِّلك في العقوبة، فإنْ حدث تقصير في هذه المسألة فالمخالفة منك، لا من الولد؛ لأنني لم أُكلِّفه إنما كلَّفْتُك أنت.
    لذلك بدأ لقمان أوامره لولده بإقامة الصلاة، لأنه مُكلَّف بهذا الأمر، فولده ما يزال صغيراً بدليل قوله {يابني..} [لقمان: 17] فالتكليف هنا من الوالد، فإنْ كان الولد بالغاً حال هذا الأمر فالمعنى: لاحظ التكليف من الله بإقامة الصلاة.
    أما الزكاة، وهي تكليف من الله أيضاً فلم يذكرها هنا- وهذه من حكمة لقمان ودقَّة تعبيره، وقد حكاها لنا القرآن الكريم لنأخذ منها مبادئ نعيش بها.


    ثانياً: إنْ كلَّفه بالزكاة فقال: أقم الصلاة وآتِ الزكاة فقد أثبت لولده ملكية، ومعروف أن الولد لا ملكيةَ له في وجود والده، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» وذكرنا أن لقمان لما علم بموت أبيه قال: إذن ملكتُ أمري فأمره ليس مِلْكاً له في حياة أبيه؛ لذلك لم يأمر ولده بالزكاة، فالزكاة في ذمته هو، لا في ذمة ولده.
    وتتأكد لدينا هذه المسألة حين نقرأ قول الله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61].
    فالله تعالى رفع عنَّا الحرج أنْ نأكل من هذه البيوت، ونلحظ أن الآية ذكرتْ الأقارب عدا الأبناء، وكان الترتيب المنطقي أن يقول بعد أمهاتكم: أو بيوت أبنائكم، فلماذا لم يذكر هنا بيوت الأبناء؟ قالوا: لأنها داخلة في قوله: بيوتكم، فبيت الابن هو بيت الأب، والولد وما ملكتْ يداه مِلْكٌ لأبيه.

     

    ثم يقول لقمان لولده: {واصبر على ما أَصَابَكَ..} [لقمان: 17] الصبر: حَمْل النفس على التجلُّد للأحداث، حتى لا تعينَ الأحداث على نفسك بالجزع، فأنت أمام الأحداث تحتاج إلى قوة مضاعفة، فكيف تُضعِف نفسك أمامها؟
    والمصيبة تقع إما لك فيها غريم، أو ليس لك فيها غريم، فالذي يسقط مثلاً، فتنكسر ساقه، أو الذي يفاجئه المرض.. الخ هذه أقدار ساقها الله إليك بلا سبب فلا غريم لك فيها؛ لذلك يجعلها في ميزانك: إما أنْ يعلي بها درجاتك، وإما أنْ يُكفِّر بها سيئاتك؛ لذلك كان الكفار بفرحون إذا أصاب المسلمين مصيبة، كما فرحوا يوم أُحُد، وقد ردَّ الله عليهم وبيَّن غباءهم، وقال سبحانه: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا...} [التوبة: 51] وتأمل الجار والمجرور(لنا) ولم يقُلْ كتب علينا، إذن: فالمعصية في حساب(له) لا(عليه) فلماذا تفرحون في المصيبة تقع بالمسلمين؟

     

    وأوصى بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الذي يتعرض لهذين الأمرين لابد أن يصيبه سوء من جراء أمره بالمعروف أو نَهْيه عن المنكر، فإنْ تعرضتْ للإيذاء فاصبر؛ لأن هذا الصبر يعطيك جزاءً واسعاً.
    وتغيير المنكر له مراحل وضحها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
    (مَنْ رأى منكم منكراً فليُغيِّره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
     

    فالله أمرك أنْ تُغيِّر المنكر، لكن جعل لك تقدير المسألة ومدى إمكانك فيها، فالدين يريدك مُصلحاً لكن لا يريد أنْ تلقى بنفسك إلى التهلكة، فلك أنْ تُغيِّر المنكر بيدكَ فتضرب وتمنع إذا كان لك ولاية على صاحب المنكر، كأن يكون ولدك أو أخاك.. إلخ.
    فلك أن تضربه مثلاً إنْ رأيتَ سيجارة في فمه، أو أنْ تكسر له كأس الخمر إنْ شربها أو تمزق له مثلاً ورق (الكوتشينة)، فإنْ لم تكُنْ لك هذه الاستطاعة فيكفي أنْ تُغيِّر بلسانك إنْ كانت لديك الكلمة الطيبة التي تداوي دون أن تجرح الآخرين، ودون أنْ يؤدي النصح إلى فتنة، فيكون ضرره أكثر من نفعه.
    فإنْ لم يكُنْ في استطاعتك هذه أيضاً، فليكُنْ تغيير المنكر بالقلب، فإنْ رأيتَ منكراً لا تملك إلا أنَّ تقول: اللهم إنَّ هذا منكر لا يرضيك لكن أيُعَدُّ عمل القلب تغييراً للمنكر وأنت مطالب بأنْ تُغيِّره بيدك يعني: إلى ضده؟ وهل هذه الكلمة تغير من الواقع شيئاً؟

     

    قالوا: لا يحدث التغيير بالقلب إلا إذا كان القالب تابعاً للقلب، فالقلب يشهد أنَّ هذا منكر لا يُرضي الله، والقالب يساند حتى لا تكون منافقاً، فأنت أنكرتَ عليه الفعل، ولا استطاعة لك على أنْ تمنعه، ولا أن تنصحه، فلا أقلَّ من أنْ تعزله عن حياتك وتقاطعه، وإلاَّ فكيف تُغيِّر بقلبك إنْ أنكرتَ عليه فعله وأبقيتَ على وُدِّه ومعاملته؟
    إذن: لا يكون التغيير بالقلب إلا إذا أحسَّ صاحب المنكر أنه في عزلة، فلا تهنئه في فرح، ولا تعزيه في حزن، وإنْ كنتَ صاحب تجارة، فلا تَبِعْ له ولا تشتر منه.
    إلخ.
    وما استشرى الباطل وتَبجح أهل الفساد وأهل المنكر إلا لأن الناس يحترمونهم ويعاملونهم على هذه الحال، بل ربما زاد احترام الناس لهم خوفاً من باطلهم ومن ظلمهم.

     

    فالتغيير بالقلب ليس كلمة تقال إنما فعل وموقف، وقد علَّمنا ربنا تبارك وتعالى هذه القضية في قوله سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء: 140].
    ويقول سبحانه في آية أخرى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68].
    والنبي صلى الله عليه وسلم في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا بغير عذر في غزوة تبوك، يُعلِّمنا كيف نعزل أصحاب المنكر، لا بأن نعزلهم في زنزانة كما نفعل الآن، إنما بأن نعزل المجتمع عنهم، ليس المجتمع العام فحسب، بل عن المجتمع الخاص، وعن أقرب الناس إليه.
    وقد تخلف عن هذه الغزوة عدة رجال اعتذروا لرسول الله فقَبِل علانيتهم وترك سرائرهم لله، لكن هؤلاء الثلاثة لم يجدوا لأنفسهم عذراً، ورأوا أنهم لا يستطعيون أنْ يكذبوا على رسول الله، ولم يحبسهم الرسول، إنما حبس المجتمع عنهم حتى الأقارب، فكان الواحد منهم يمشي و(يتمحك) في الناس ليكلمه أحد منهم، فلا يكلمه أحد، وكعب بن مالك يتسوَّر على ابن عمه الحديقة، ويقول له: تعلم أني أحب الله ورسوله فلا يجيبه، ويصلي بجوار الرسول يلتمس أنْ ينظر إليه، فلا ينظر إليه.
    ولما نجحت هذه المقاطعة على هذا المستوى أعلاها الشرع وتسلسل بها إلى الخصوصيات في البيت، فعزل هؤلاء الثلاثة عن زوجاتهم، فأمر كلاً منهن ألاَّ يقربها زوجها إلى أن يحكم الله في أمرهم، حتى أن واحدة من هؤلاء جاءت لرسول الله وقالت: يا رسول الله، إن زوجي رجل كهدبة الثوب(يعني: ليست له رغبة في أمر النساء) فأذن لها رسول الله في أن تخدمه على ألاَّ يقربها.
    ظل هؤلاء الثلاثة ثلاثين يوماً في هذا الامتحان العام وعشرة أيام في الامتحان الخاص، ونجح المجتمع العام، ونجح المجتمع الخاص، وهكذا علَّمنا الشرع كيف نعزل أصحاب المنكر وأهل الجريمة، فعزل المجتمع عنهم أبلغ من عزلهم عن المجتمع، لذلك كان وَقْع هذه العزلة قاسياً على هؤلاء.

     

    فهذا كعب بن مالك يحكي قصته ويقول: لقد ضاقت بي الأرض على سعتها، والحق يقول في وصف حالهم: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118].
    فلما استوى المجتمع العام والمجتمع الخاص على منهج الله فرَّج الله عن هؤلاء الثلاثة، ونزل قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118].
    فأسرع أحدهم يبشر كعباً بهذه البشرى فطار كعب فرحاً بها، وقال: فوالله ما ملكتُ أنْ أخلع عليه ثيابي كلها، ثم أستعير ثياباً أذهب بها إلى رسول الله.
    إذن: ينبغي أن نعزل المجتمع كله عن أصحاب المنكر، لا أن نعزلهم هم في السجون، لكن مَنْ يضمن لنا استقامة المجتمع في تنفيذ هذه العزلة كما نفذها المجتمع المسلم على عهد رسول الله؟

     

    نعود إلى ما كنا نتحدث عنه من أن المصيبة إذا كانت قدراً من الله ليس لك فيها غريم، فإن الصبر عليها هيِّن، فالأمر بينك وبين ربك، أما إنْ كان لك في المصيبة غريم كأن يعتدي عليك أحد فيحرق زرعك أو يقتل ولدك، فهذه تحتاج إلى صبر أشد، فكلما رأيتَ غريمك هاجتْ نفسك وغلى الدم في عروقك، فيحتاج إلى طاقة أكبر ليحمل نفسه على الصبر.
    لذلك يقول سبحانه في هذه المسألة:
    {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] فأكَّدها باللام؛ لأنها تحتاج إلى طاقة أكبر من الصبر وضبط النفس حتى لا تتعدى كلما رأيت الغريم،

     

    وهذا من المواضع التي وقف عندها المستشرقون يلتمسون فيها مأخذاً على كلام الله.
    يقولون: ما الفرق بين قول القرآن {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17] وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].
    ثم أيهما أبلغ من الأخرى، فإنْ كانت الأولى بليغة فالأخرى غير بليغة.

    ونقول في الرد عليهم: كل من الآيتين بليغة في سياقها، فالتي أُكِّدت باللام جاءت في المصيبة التي لك فيها غريم وتحتاج إلى صبر أكبر، أما الأخرى ففي المصيبة التي ليس لك فيها غريم، فهي بينك وبين ربك، والصبر عليها هيِّن يسير.
    لذلك، فالحق سبحانه يعالج هذه المسألة ليُصفِّي النفس ويمنع ثورتها، فيقول: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] لتقف النفس عند حدِّ الرد بالمثل، ثم يُرقِّى المسألة، ويفتح باباً للعفو: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله...} [الشورى: 40] وقال في موضع آخر: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126].
    فحين يبيح لك ربك أنْ تأخذ بحقك تهدأ نفسك، وربما تتنازل عن هذا الحق بعد أن أصبح في يدك؛ لذلك كثيراً ما نرى- خاصة في صعيد مصر حيث توجد عادة الأخذ بالثأر- القاتل يأخذ كفنه على يديه، ويدخل به على ولي الدم، ويُسلِّم نفسه إليه، وعندها لا يملك ولي الدم إلا أن يعفو.
    حتى في مسألة القتل والقصاص يجعل الحق سبحانه مجالاً لترقية النفس البشرية وأريحيتها، بل ويُسمِّي الطرفين إخوة في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ...} [البقرة: 178].
    ففي هذا الجو وفي أثناء ما تسيل الدماء يُحدِّثنا ربنا عن العفو والإحسان والأخوة، ومعلوم أن هناك فَرْقاً بين أن تأخذ الحق، وبين أنْ تنفذ أخذ الحق بيدك.

     

    فالله تعالى خالق النفس البشرية ويعلم ما جُبلَتْ عليه من الغرائز وما تُكِنّه من العواطف، وما يستقر فيها من القيم والمبادئ، لكنه سبحانه وتعالى لا يبني الحكم على ارتفاع المناهج في الإنسان، إنما على ضوء هذه الطبيعة التي خلقه عليها، فليس الخَلْق كلهم على درجة من الورع تدعوهم إلى العفو والصفح؛ لذلك أعطاك حقَّ الرد بالمثل على مَن اعتدى عليك {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا...} [الشورى: 40] وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ...} [النحل: 126].
    ومع ذلك حين تتأمل هذه الآيات تجد أن تنفيذها من الصعوبة بمكان، فمَنْ لديه القدرة والمقاييس الدقيقة التي تُوقِفه عند حدِّ المثلية التي أمر الله بها؟
    وسبق أنْ بيَّنا: أنه إذا اعتدى عليك شخص وضربك مثلاً، أتستطيع أنْ تضربه مثل ضربته لا تزيد عليها، لأنك إنْ زدتَ صرْتَ ظالماً، واقرأ بقية الآية: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} [الشورى: 40].

     

    وسبق أنْ ذكرنا قصة المرابي اليهودي الذي اتفق مع مدينه على أنْ يقطع من جسمه رطلاً، إذا لم يُؤدِّ في الموعد المحدد، وفعلاً جاء موعد السداد، ولم يَف المدين، فرفع اليهودي أمره إلى القاضي وأخبره بشرطه- وكان القاضي مُوفَّقاً قد نوَّر الله بصيرته، فقال لليهودي: نعم لك حَقٌ في أن تُنفذ ما اتفقنا عليه، وسأعطيك السكين على أنْ تأخذ من المدين رطلاً من لحمه في ضربة واحدة، بشرط إذا زدتَ عنها أو نقصتَ أخذناه من لحمك.
    وعندها انصرف اليهودي؛ لأن المثلية لا يمكن أن تتحقق، فكأن الله تعالى بهذا الشرط- شرط المثلية في الردِّ- يلفت انتباهك إلى أن العفو أوْلَى بك وأصلح.
    إذن: يُحدِّثنا الحق تبارك وتعالى عن العفو وعن الإحسان في المصيبة التي لك فيها غريم، ويبين لنا أنك إذا أخذتَ حقك الذي قرره لك فقد أرحتَ نفسك، لكن حرمتها الأجر الذي تكفَّل الله لك به إنْ أنت عفوتَ.

     

    وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يولد من أسباب البغضاء أسباباً للولاء، فالذي كان من حقك أنْ تقتله ثم عفوتَ عنه أصبحت حياته مِلْكاً لك، فهل يفكر لك في سوء بعدها؟
    لذلك يُعلِّمنا ربنا:
    {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
    وأذكر أنني جاءني مَنْ يقول: والله أنا دفعتُ بالتي هي أحسن مع خصمي، فلم أجده ولياً حميماً كما قال الله تعالى، فقلت له: عليك أن تراجع نفسك؛ لأنك ظننتَ أنك دفعتَ بالتي هي أحسن، لكن الواقع غير ذلك، ولو دفعتَ بالتي هي أحسن لَصدق الله معك، ورأيت خَصْمك ولياً حميماً، إنما أنت تريد أنْ تُجرِّب مع الله والتجربة مع الله شكٌّ.
    والنبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا أنْ نبقى على يقين التوكل سارياً دون أنْ نفكر كيف يحدث، وقصة الصحابية أم مالك شاهدَة على ذلك، فقد كان عندها غنم تحلب لبنها، فتصنع مما زاد عن حاجتها وحاجة أولادها زبداً، وكانت تهدي منه إلى رسول الله في عكة عندها، فكان أهل بيت رسول يُفرغون هذه العكة في آنيتهم، ثم يعيدونها إليها وهكذا.
    حتى قالت أم مالك: والله ما أصبتُ إداماً إلا من هذه العكة، وكانت كلما احتاجت الإدام أفرغتْ العكة، فوجدت بها الإدام حتى بعد أن أفرغها أهل بيت الرسول، لكن خُيِّل لها في يوم من الأيام أنها أسرفت في استعمال هذه العكة، وظنت أن ما بها من إدام قد نفد، فأخذتها وعصرتها، فلم تجد فيها شيئاً، فظنت أن رسول الله غاضب منها، فذهبت إليه وقصَّتْ عليه هذه المسألة، فقال لها صلى الله عليه وسلم: «أعَصريتها يا أم مالك؟» فقالت: نعم يا رسول الله، فأخبرها أن التجربة مع الله شكٌّ وأنها لو لم تعصرها ولم تظن هذا الظن لبقيتْ العُكَّة على حالها، وكما تعودت منها.

     

    وتلحظ أن كلمة(أصابك) والمصيبة تدل على أنها واقعة بك ولن تنجو منها؛ لأنها قدر أرسل إليك بالفعل، وسيصيبك لا محالة، والمسألة مسألة وقت إلى أنْ يصلك هذا السهم الذي أُطِلق عليك، فإياك أنْ تقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فما سُمِّيت المصيبة بهذا الاسم إلا لأنها صائبتك لا تستطيع أنْ تفرَّ منها. كما يقولون عن الموت: تأكد أنك ستموت، وعمرك بمقدار أنْ يصلك سهم الموت.
     

    وكلمة {مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17] نقول: فلان له عزم، ونسمع القرآن يقول: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله...} [آل عمران: 159] العزم: الفرض المقطوع به، والذي لا مناص عنه، ومنه ما جاء في قول لقمان لما خيَّره ربه بين أن يكون رسولاً أو حكيماً، فاختار الراحة وترك الابتلاء، لكنه قال: يارب إنْ كانت عزمة منك فسمعاً وطاعة، يعني: أمراً مفروضاً ينبغي ألاَّ نحيد عنه.
     

    والعزم يعني شحن كل طاقات النفس للفعل والقطع به، فالصلاة على الميت مثلاً لا تُسمَّى عزيمة؛ لأنها فرض كفاية إنْ فعلها البعض سقطتْ عن الباقين، على خلاف الصلاة التامة في السفر مثلاً حيث يعتبرها الإمام أبو حنيفة عزيمة لا رخصة، فإن أتممت الصلاة في السفر أسأْت، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه».
    والمعنى: لا ترد يد الله المبسوطة لك بالتيسير في الصلاة أثناء السفر.
    ثم يعتمد في هذا الرأي على دليل آخر من علم الأصول هو أن الصلاة فُرضَتْ في الأصل مثنى مثنى، ثم أقرت في السفر وزيدت في الحضر. إذن: فصلاة السفر مع الأصل، فلو أتممتَ الصلاة في السفر أسأْتَ.

     

    نداء الايمان



  10. الأدعية المأثورة عند النوم  :
    1 : في صحيح البخاري عن أبي ذر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: " اللهم باسمك أحيا وأموت" .

    وإذا أصبح قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور."
    2 ـ وروى الشيخان عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ولفاطمة رضي الله عنها: " إذا أويتما إلى فراشكما أو أخذتما مضاجعكما فكبرا ثلاثاً وثلاثين وسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين " . وفي رواية لهما: " التكبير أربعاً وثلاثين ".

    3 - وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض بداخلة إزاره ، فإنه لا يدري ما خلفه عليه ، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" . وفي رواية: " ينفضه ثلاث مرات".

    4 - وفي الصحيحين عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما وقرأ فيهما ( قل هو الله أحد ) و ( قل أعوذ برب الفلق) و ( قل أعوذ برب الناس) ، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات . قال أهل اللغة : النفث: نفخ لطيف بلا ريق.

    5 - وفي الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري البدري عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في كل ليلة كفتاه ".
    اختلف العلماء في معنى كفتاه ، فقيل : كفتاه من الآفات في كل ليلة ، وقيل : كفتاه من قيام ليلته.
    قيل كفتاه من الشيطان، ويحتمل أن يكون الجميع مراداً كما قال النووي رحمه الله تعالى.

    6 - وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك ، وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت ، فإن مت مت على الفطرة ، واجعلهن آخر ما تقول" .

    7 - وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام ، وذكر الحديث ، وقال في آخره : " إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال معك من الله تعالى حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدقك وهو كذوب. ذاك الشيطان ".

    8 - وفي سنن أبي داود عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده ثم يقول: " اللهم قني عذابك يوم يبعث عبادك ثلاث مرات" .

    9 - وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه : " اللهم ربّ السماوات وربّ الأرض وربّ العرش العظيم ربنا وربَّ كل شيء ، فالق الحب والنوى ، منزل التوراة والإنجيل والقرآن ، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغنني من الفقر" . وفي رواية أبي داود: "واقض عني الدين، وأغنني من الفقر".

    10 - و في سنن أبي داود والترمذي عن نوفل الأشجعي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ ( قل يا أيها الكافرون) ، ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك ".
    والله أعلم .

    اسلام ويب


  11. القاعدة الثامنة: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)

    د.عمر بن عبد الله المقبل
     

    نقف  مع قاعدة من القواعد القرآنية العظيمة، التي تؤسس مبدأً شريف القدر، سامي الذرى، إنه مبدأ العدل، وهذه قاعدة طالما استشهد بها العلماء والحكماء والأدباء؛ لعظيم أثرها في باب العدل والإنصاف، تلكم هي ما دل عليها قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر: 7](1).

     

    والمعنى: أن المكلفين إنما يجازون بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وأنه لا يحمل أحدٌ خطيئةَ أحد ولا جريرتَه، ما لم يكن له يدٌ فيها، وهذا من كمال عدل الله تبارك وتعالى وحكمته.
    ولعل الحكمة من التعبير عن الإثم بالوزر؛ لأن الوزر هو الحمل ـ وهو ما يحمله المرء على ظهره ـ فعبر عن الإثم بالوزر لأنه يُتَخّيَلُ ثقيلاً على نفس المؤمن(2).

     

    وهذه القاعدة القرآنية تكرر تقريرها في كتاب الله تعالى خمس مرات، وهذا ـ بلا شك ـ له دلالته ومغزاه.
    وإن هذا المعنى الذي دلت عليه القاعدة ليس من خصائص هذه الأمة المحمدية، بل هو عام في جميع الشرائع، تأمل قوله تعالى:
    {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (*) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (*) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (*) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (*) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (*) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (*) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (*) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (*) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 33 - 41].

     

    وهذا المعنى الذي قررته القاعدة لا يعارض ما دلّ عليه قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، وقولُه: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]؛لأن هذه النصوص تدل على أن الإنسان يتحمل إثم ما ارتكب من ذنوب، وإثم الذين أضلهم بقوله وفعله، كما أن الدعاة إلى الهدى يثيبهم الله على عملهم وعمل من اهتدى بهديهم، واستفاد من علمهم.

     

    ولهذا لما اجتهد جماعة من صناديد الكفر في إبقاء بعض الناس على ما هم عليه من الكفر، أو حث من كان مؤمناً لينتقل من الإيمان إلى الكفر، أغروهم بخلاف هذه القاعدة تماماً، فقالوا ـ كما حكى الله عنهم ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 12، 13].

     

    وإنك أخي المتوسم إذا تأملت في كلام العلماء في كتب التفسير والحديث والعقائد، والفقه، وغيرها رأيت عجباً من كثرة الاستدلال بهذه القاعدة في مواطن كثيرة:
    فكم من رأي نقضه فقيه بهذه الآية، بل كم مسألة عقدية صار الصواب فيها مع المستدل بهذه الآية، والمقام ليس مقام عرض لهذه المسائل، بل المقصود التنبيه على عظيم موقعها.

     

    وإذا أردنا أن نبحث عن أمثلة تطبيقية لهذه القاعدة في كتاب الله، فإن من أشهر الأمثلة وأظهرها تطبيق نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم لها، وذلك أنه حينما احتال على أخذ أخيه بنيامين، بوضع السقاية في رحل أخيه ـ في القصة المعروفة ـ جاء إخوته يقولون: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 78]} فأجابهم يوسف قائلاً: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ[يوسف: 79]}.

     

    قارن هذا ـ بارك الله فيك ـ بقول فرعون حينما قال له كَهَنته: إنه سيولد من بني إسرائيل غلامٌ ستكون نهاية ملكك على يده! لقد أصدر مرسومه الظالم الآثم بقتل جميع من يولد من بني إسرائيل ـ وهم آلاف وربما أضعاف ذلك بعشرات ـ من أجل طفلٍ واحد فقط!! ولكن الذي كان يقول للناس: أنا ربكم الأعلى لا يستغرب منه هذا الأمر الخُسْر!
    وفي الواقع ثمة أناس ساروا على هدي يوسف؛،فتراهم لا يؤاخذون إلا من أخطأ أو تسبب في الخطأ، ولا يوسعون دائرة اللوم على من ليس له صلة بالخطأ، بحجة القرابة أو الصداقة أو الزمالة ما لم يتبين خلاف ذلك!

    وفي المقابل فمن الناس من يأخذ المحسنين أو البرءاء بذنب المسيئين..

     

    وإليك هذه الصورة التي قد تكرر كثيراً في واقع بيوتنا:
    يعود الرجل من عمله متعباً، فيدخل البيت فيجد ما لا يعجبه من بعض أطفاله: إما من إتلاف تحفة، أو تحطيم زجاجة، أو يرى ما لا يعجبه من قِبَلِ زوجته: كتأخرها في إعداد الطعام، أو زيادة ملوحة أو نقصها، أو غير ذلك من الأمور التي قد تستثير بعض الناس، فإذا افترضنا أن هذه المواقف مما تستثير الغضب، أو أن هناك خطأً يستحق التنبيه، أو التوبيخ، فما ذنب بقية الأولاد الذين لم يشاركوا في كسر تلك التحفة ـ مثلاً ـ؟! وما ذنب الأولاد أن يَصُبَّ عليهم جام غضبه إذا قصرت الزوجة في شيء من أمر الطعام؟! وما ذنب الزوجة ـ مثلاً ـ حينما يكون المخطئ هم الأولاد؟! ومثله يقال في علاقة المعلم والمعلمة مع طلابهم، أو المسؤول في عمله، بحيث لا ينقلوا مشاكلهم إلى أماكن عملهم، فيكون من تحت أيديهم من الطلاب والطالبات أو الموظفين ضحية لمشاكل ليس لهم فيها ناقة ولا جمل!!
    هنا يستحضر المؤمن أموراً، من أهمها: أن يتذكر هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فإن هذا خيرٌ مآلاً وأحسن تأويلاً، وأقرب إلى العدل والقسط الذي قامت عليه السماوات والأرض.

     

    وثمة فهمٌ خاطئ لهذه القاعدة القرآنية، وهو أن بعضا الناس يظن أن هذه القاعدة مخالفة لما يراه من العقوبات الإلهية التي تعم مجتمعاً من المجتمعات، أو بلداً من البلاد، حينما تفشو المنكرات والفواحش والمعاصي، وسَبَبُ خطأ هذا الفهم، أن المنكر إذا استعلن به الناس، ولم يوجد من ينكره، فإن هذا ذنب عظيمٌ اشترك فيه كلُّ من كان قادراً على الإنكار ولم ينكر، سواءٌ كان الإنكار باليد أو باللسان أو بالقلب وذلك أضعف الإيمان، ولا عذر لأحد بترك إنكار القلب، فإذا خلا المجتمع من هذه الأصناف الثلاثة ـ عياذاً بالله ـ مع قدرة أهلها عليها استحقوا العقوبة، وإن وجد فيهم بعض الصالحين.

     

    تأمل معي قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]!
    يقول العلامة السعدي(3): في تفسير هذه الآية: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} بل تصيب فاعل الظلم وغيره،وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره،وتقوى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن.

     

    ويوضح معنى هذه الآية الكريمة ما رواه الإمام أحمد: بسند حسن ـ كما يقول الحافظ ابن حجر(4) ـ من حديث عدي بن عميرة ا سمعت رسول الله ج يقول: "إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ـ وهم قادرون على أن ينكروه ـ فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة"(5).

     

    وروى الإمام أحمد: في مسنده (6) بسند جيد عن أبي بكر الصديق ا أنه خطب فقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} سمعت رسول الله ج يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه".
    وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش ل أنها سألت رسول الله ج فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث".

     

    والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وفيرة، يضيق المقام بذكرها وعرضها، والمقصود إزالة هذا الإشكال الذي قد يعرض لبعض القارئين في فهم هذه القاعدة القرآنية، والله سبحانه وتعالى أعلم.

    و قبيل أن أضع شباة القلم، أجره إلى قول المؤمل المحاربي:

    قَد بَيَّنَ الله في الكتاب *** فلا وازِرَةٌ غَيرَ وِزرِها تزرُ


    ______________
    (1)    وقد نص على كونها قاعدة الإمام المجدد في تفسيره: (57).
    (2)    ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور 5/293.
    (3)    تفسير السعدي (318).
    (4)    فتح الباري لابن حجر (13/4).
    (5)    المسند 29/258 رقم (17720).
    (6)    المسند 1/178.

     
     

    المسلم


  12. {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)}
     

    {يابني..} [لقمان: 16] نداء أيضاً للتطلف والترقيق {إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ..} [لقمان: 16] يريد لقمان أن يدل ولده على صفة من صفات الحق سبحانه، هي صفة العلم المطلق الذي لا تخفى عليه خافية، وكأنه يقول له: إياك أن تظن أن ما يخفى على الناس يخفى على الله تعالى {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14].
    وكما ان الله تعالى لا يخفى عليه مثقال حبة من خردل، حتى إن كانت في باطن صخرة، أو في السماوات، أو في الأرض، كذلك لا تخفى عليه حسنة ولا سيئة مهما دَقَّتْ، ومهما حاول صاحبها إخفاءها.

     

    وقلنا: إن المستشرقين وقفوا عند مسألة علم الله الخفي بخفايا خَلْقه، وعند قوله تعالى: {يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110] يقولون: الله يمتنُّ بعلم ما نكْتُم، فكيف يمتنُّ بعلم الجهر، وهو معلوم للجميع؟
    ونقول: الحق سبحانه في قوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110] لا يخاطب فرداً، إنما يخاطب جماعة، فهو يعلم جَهْر الجماعة في وقت واحد، ومثَّلْنا لذلك بمظاهرة مثلاً، فيها الآلاف من البشر يهتفون بأصوات مختلفة وشعارات شتى، منها ما يعاقب عليه القانون، فهل تستطيع مع اختلاط الأصوات وتداخلها أن تُميِّز بينها، وتُرجع كل كلمة إلى صاحبها؟
    إنك لا تستطيع، مع أن هذا جهر يسمعه الجميع، أما الحق تبارك وتعالى فيعلم كل كلمة، ويعلم مَنْ نطق بها ويردّ كل لفظ إلى صاحبه. إذن: من حقه تعالى أن يمتنَّ بعلم الجهر، بل إن عِلْم الجهر أعظم من علْم السرِّ وأبلغ.

     

    وقوله تعالى: {مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ..} [لقمان: 16] أي: وزن حبة الخردل، وكانت أصغر شيء وقتها، فجعلوها وحدة قياس للقلة، وليس لك الآن أن تقول: وهل حبة الخردل أصغر شيء في الوجود؟ فالقرآن ذكرها مثالاً للصِّغَر على قدر معرفة الناس بالأشياء عند نزوله، أما من حيث التحقيق فقد ذكر القرآن الذرة والأقلَّ منها.
    لذلك لما اخترعوا في ألمانيا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد(أي الجزء الذي لا يتجزأ)، واستطاعوا تفتيت الذرة، ظنوا أن في هذه العملية مأخذاً على القرآن، فقد ذكر القرآن الذرة، وجعلها مقياساً دينياً في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8] لكن لم يذكر الأقلَّ منها، ومعلوم أن الجزء أصغر من كله.

     

    ونقول: قرأتم شيئاً وغابت عنكم أشياء، ولو كان لديكم إلمام بكلام الله لعلمتم أن فيه احتياطاً لما توصلتم إليه، ولما ستتوصلون إليه فيما بعد، واقرأوا إن شئتم قول الله تعالى عن الذرة: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61]


    بل نقول: إن الاحتياط هنا احتياط مركب، فلم يقل صغير إنما قال(أصغر) وهذا يدل على وجود رصيد في كلام الله لكل مُفتّت من الذرة.
     

    وقوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله..} [لقمان: 16] {فِي صَخْرَةٍ..} [لقمان: 16] أي: على حبكة الوجود، وفي أضيق مكان {أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض..} [لقمان: 16] يعني: في المتسع الذي لا حدود له، فلا في الضيق المحكم، ولا في المتسع يخفى على الله شيء {يَأْتِ بِهَا الله..} [لقمان: 16] واستصحب حيثيات الإتيان بها بوصفين لله تعالى: {إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
    وجمع بين هاتين الصفتين؛ لأنك قد تكون خبيراً بالشيء عالماً بمكانه، لكنك لا تستطيع الوصول إليه، كأنْ يكون في مكان ضيق لا تنفذ إليه يدك، وعندها تستعين بآلة دقيقة كالملقاط مثلاً، فالخبرة موجودة، لكن ينقصك اللطف في الدخول.
    والحق سبحانه وتعالى لطيف، فمهما صَغُرت الأشياء ودقَّتْ يصل إليها، فهو إذن عليم خبير بكل شيء مهما صغر، قادر على الإتيان به مهما دقَّ؛ لأنه لطيف لا يمنعه مانع، فصفة اللطف هذه للتغلغل في الأشياء.

     

    ونحن نعلم أن الشيء كلما دقَّ ولَطُف كان أعنف حتى في المخلوقات الضارة، وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بمَنْ بنى بيتاً في الخلاء، وأراد أنْ يؤمِّن نوافذه من الحيوانات والحشرات الضارة، فوضع على النوافذ شبكة من الحديد تمنع اللصوص والحيوانات الكبيرة، ثم تذكّر الفئران والثعابين قضيّق الحديد، ثم تذكّر الذباب والناموس فاحتاج إلى شيء أضيق وأدقّ، إذن: كلما كان عدوك لطيفاً دقيقاً كان أعنف، واحتاج إلى احتياط أكثر.
    فقوله تعالى: {إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] يعني: لا يعوزه علم بالمكان، ولا سهولة ويُسْر في الوصول إلى الأشياء.
    كانت هذه بعض وصايا لقمان ومواعظه لولده، ولم يأمره حتى الآن بشيء من التكاليف، إنما حرص أنْ يُنبه: أنك قد آمنت بالله وبلغَك منهجه واستمعت إليه، فأطع ذلك المنهج في افعل ولا تفعل، لكن قبل أنْ تباشر منهج ربك في سلوكك اعلم أنك تتعامل مع إله قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يغيب عنه شيء، فادخل على المنهج بهذا الاعتقاد.
    وإياك أنْ تتغلَّب عليك شبهة أنك لا ترى الله، فإنك إنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك، واعلم أن عملك محسوب عليك، وإنْ كان في صخرة صماء ضيقة، أو في سماء، أو في أرض شاسعة.
    ويؤكد هذه المسألة قوله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي: إنْ كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم، وإنْ كنتم تعتقدون أنِّي أراكم، فَلِمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟).

     

    نداء الايمان


  13. القاعدة السابعة: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)

    د.عمر بن عبد الله المقبل

     

     

    الحمد لله، وبعد:
    فهذا مَناخ ظليل بين أفنان وخمائل موضوعنا المحجّل، ذي الغرة البهية: (قواعد قرآنية)، نتفيأ فيه ظلال قاعدة من قواعد التعامل الإنساني، تلكم القاعدة هي ما دل عليها قوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91].

     

    لقد وردت هذه القاعدة في سياق الحديث عن موقفٍ سجله القرآن لبيان أصناف المعتذرين عن غزوة تبوك ـ والتي وقعت في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة ـ ومَنْ هم الذين يعذرون والذين لا يعذرون؟!
    يقول سبحانه وتعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 90 - 93].

     

    والمعنى: "ليس على أهل الأعذار الصحيحة من ضعف أبدان أو مرض أو زَمَانة، أو عدم نفقةٍ إثمٌ، بشرط لا بد منه، وهو: " إذا نصحوا " أي: بنياتهم وأقوالهم سراً وجهراً، بحيث لم يرجفوا بالناس، ولم يثبطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا...، ثم أكد الرجاء بقوله " والله غفور رحيم" (1).

     

    وبما أن القاعدة المقررة عند أكثر أهل العلم هي: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا يعني توسيع دلالة هذه القاعدة القرآنية التي دل عليها قوله سبحانه: (ما على المحسنين من سبيل).
    وهذا يدل على أن الأصل هو سلامة المسلم من أن يلزم بأي تكليف سوى تكليف الشرع، كما أن الآية تدل بعمومها أن الأصل براءة الذمة من إلزام الإنسان بأي شيء فيما بينه وبين الناس حتى يثبت ذلك بأي وسيلة من وسائل الإثبات المعتبرة شرعاً.

     

    أيها المحب لكتاب ربه:

    لقد كانت هذه الآية ـ ولا زالت ـ دليلاً يفزع إليه العلماء في الاستدلال بها في أبواب كثيرة في الفقه، خلاصته يعود إلى أنه "من أحسن على غيره، في نفسه أو في ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن -وهو المسيء- كالمفرط، أن عليه الضمان"(2).

     

    وإذا تجاوزنا الجانب الفقهي الذي أشرتُ إليه بإجمال، فلنتلفت قليلاً إلى ميدان من الميادين التي نحتاج فيها إلى هذه القاعدة.. ذلك أن حياتنا تحفلُ بمواقف كثيرة يُفْتَحُ فيها باب الإحسان، وتتاح لآخرين أن يحسنوا على غيرهم فيبادروا بتقديم خدمة ما، وأول هؤلاء هم أهل بيت الإنسان: من زوجة أو زوج أو ولد! فمن المؤسف أن يتجانف البعض هداية هذه القاعدة القرآنية، فيلحقوا غيرهم اللوم والعذل، والعتاب الشديد، مع أنهم محسنون متبرعون، فيساهمون ـ بذلك ـ شعروا أم لم يشعروا بإغلاق باب الإحسان أو تضييق دائرته بين العباد.

     

    أخي الموفق: تأمل هذا الصورة:

    يسعى أحد الناس في محاولة إتقان عملٍ دعوي بناء، أو اجتماعي مصلح، أو عائلي مثمر، ويبذل فيه جهده، وربما يبذل ماله، ويسير بعزمات ووثبات، وهو في هذا الأثناء يطلب من غيره أن يساعده ويعينه على العمل فلا يجد مواسيا، ولا رفدا، ولا ساعدا مساعدا، فيمضي وحده، ويجتهد مثابراً لينجح العمل ويبدوا وضاح المحيا، متألق الطلعة، فإذا جاء موعد الإفادة من هذا العمل، وظهرت بعض الثغرات، وبعض النقص الذي لا يسلم منه عمل البشر، فإذا به ـ بدلاً من أن يقابل بالشكر والتقدير مع التنبيه على الأخطاء بأسلوب لطيف ـ! يقابل بعاصفة من اللوم والعتاب، هي أشبه برمي الشرر، أو وخز الإبر، مع أن هذا الشخص قد يكون استنجد بغيره للمساعدة فلم يجد، فواصل العمل وحده، فلما حان أوان قطف الثمرة، لم يجد إلا اللوم والعتاب والسباب، بسبب قلة حيلته، وضعف قدرته، أليس هذا من أحق الناس بقوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل}؟!

     

    ثم أوليس أولئك خليقون أن يقال لهم:

    أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ *** من اللوم، أو سدوا المكان الذي سدوا

    وأمثال هذه الصورة تتكرر في مواقف أخر.. في البيت، في المدرسة، في المؤسسة، وفي الشركة، في الدائرة الحكومية، وفي العمل الإعلامي، مع العلماء والدعاة، والمحتسبين، ومع غيرهم، فما أحوجنا إلى استشعار هذه القاعدة، وطريقة التعامل مع أوهام أو أخطاء المحسنين؛ لكي لا ينقطع باب الإحسان، فإنه إذا كثر اللوم على المحسنين والمتبرعين، وتقاعس من يفترض منهم العمل، فمن يبقى للأمة، ومن يوردها على العذب الزلال؟!

     

    وهذا كلّه ـ بلا ريب ـ لا يعني عدم التنبيه على الأخطاء أو التذكير بمواضع الصواب التي يفترض أن ينبه عليها، ولكن المهم أن يكون ذلك بأسلوب يحفظ جهد المحسن، ولا يفوت فرصة التنبيه على الخطأ؛ ليرتقي العمل، ويزداد جودة وجمالاً، ونضرة ورواءً.

     

    ومن المهم ـ أيضاً ـ ونحن نتحدث عن هذه القاعدة القرآنية، أن لا نخلط بين ما تقدم وبين أن يلتزم الإنسان بشيءٍ ما، ثم يتخلى عنه، بحجة أنه محسن، فإن هذا من الفهم المغلوط لهذه القاعدة، ذلك أن الإنسان قبل أن يلتزم بوعد لطرف آخر فهو في دائرة الفضل والإحسان، لكن إن التزم بتنفيذ شيءٍ، والقيام به، فقد انتقل إلى دائرة الوجوب الذي يستحق صاحبه الحساب والعتاب، ولعل مما يقرب تصور هذا المعنى: النذر، فإن النذر إلزام المكلف نفسه بشيءٍ لم يكن واجباًً عليه بأصل الشرع، كمن ينذر أن يتصدق بألف ريال، فهذا قبل نذره لا يلزمه أن يتصدق ولو بريال واحد، لكنه لما نذر، فقد التزم، فوجب عليه الوفاء، وهكذا ما نحن بصدده، وإنما نبهت على هذا لأن من الناس من أساء فهم هذه القاعدة، وطردها في غير موضعها، فصار ذلك سبباً في وجود النفرة بين بعض الناس؛ لأن أحد الطرفين اعتقد التزام الطرف الآخر، فاعتمد عليه ـ بعد الله ـ ثم تخلى ذلك الطرف عما التزم بحجة أنه محسن فوقع خلاف المقصود من باب الإحسان.

     

    وبما تقدم من هذا الإيضاح، يتبين لك ـ أيها المؤمن الموقر لكلام ربه ـ عظمةُ هذا الكتاب العزيز، حيث تأتي الآية موجزة المبنى، معدودة اللفظ، ثم هي تزخز بمعانٍ آسرة، كبيرة المضمون، كثيرة الدلالة، غزيرة النبع، فيفيد منها العلماء الأجلاء، والمربون الأكفاء، وأمم من الناس تسقي من عيونها المتفجرة إشراقة وجزالة، وجلالة وفخامة، وإيجازا في إعجاز، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.

     

    وصدق حسان رضي الله عنه حين قال:

    لقد كان في القرآن لو كنت عالما *** به مجدنا في محكمات البصائر


    _________________
    (1)    ينظر: المحرر الوجيز ـ موافق للمطبوع - (3 / 78)، تفسير ابن كثير / دار الفكر - (2 / 464).
    (2)    تفسير السعدي: (347).

     

    المسلم


  14. القاعدة السادسة: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)

    د.عمر بن عبد الله المقبل

     

    هذه نسمة عنبرية، وزهرة عبهرية مع موضوعنا المرقوم بـ: (قواعد قرآنية)، نقف فيها مع قاعدة من القواعد المهمة في بناء المجتمع، وربط أواصره، وإصلاحه، وتدارك أسباب تفككه، إنها قول ربنا العليم الخبير: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.

     

    وهذه القاعدة القرآنية الكريمة، وردت مشرقة المعنى، مسفرة المبنى، في سياق الحديث عما قد يقع بين الأزواج من أحوال ربما تؤدي إلى الاختلاف والتفرق، وأن الصلح بينهما على أي شيء يرضيانه خير من تفرقهما، يقول سبحانه: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.

     

    ويمكننا القول: إن جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الإصلاح بين الناس هي من التفسير العملي لهذه القاعدة القرآنية المتينة.
    ومن المناسبات اللطيفة أن ترد هذه الآية في سورة النساء، وهي نفس السورة التي ورد فيها قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].

     

    يقول ابن عطية: ـ مؤكداً اطراد هذه القاعدة ـ: (وقوله تعالى: {والصلح خير} لفظٌ عام مطلق، يقتضي أن الصلح الحقيقي ـ الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف ـ خيرٌ على الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة)(1).

     

    ومعنى الآية باختصار (2):
    أن المرأة "إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي: تَرّفَعه عنها، وعدمِ رغبتِه فيها وإعراضه عنها، فالأحسن ـ في هذه الحالة ـ أن يصلحا بينهما صلحا، بأن تسمح وتتنازل المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها: إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن، أو القسم بأن تسقط حقها منه، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها، فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها، لا عليها ولا على الزوج، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال، وهي خير من الفرقة، ولهذا قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}".

     

    يقول العلامة السعدي:
    "ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى: أن الصلح بين من بينهما حقٌ أو منازعة ـ في جميع الأشياء ـ أنه خيرٌ من استقصاء كل منهما على كل حقه، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح.
    وهو ـ أي الصلح ـ جائزٌ في جميع الأشياء إلا إذا أحل حراماً أو حرم حلالاً، فإنه لا يكون صلحاً، وإنما يكون جوراً.
    واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير، والخيرُ كلُّ عاقلٍ يطلبه ويرغب فيه، فإن كان -مع ذلك- قد أمر الله به وحث عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه.

     

    وذكر المانع بقوله: {وأحضرت الأنفس الشح} أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعاً، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك.

     

    فمتى وفق الإنسان لهذا الخلق الحسن، سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب، بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر"(3) انتهى كلامه.

     

    ومن تأمل القرآن، وأجال فيه ناظريه، رأى سعة هذه القاعدة من جهة التطبيق، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره من الإصلاح بين الأزواج، فإننا نجد في القرآن الحث على الإصلاح بين الفئتين المتقاتلتين، ونجده يثني ثناء ظاهراً على الساعين في الإصلاح بين الناس: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

     

    بل تأمل ـ أخي القارئ ـ في افتتاح سورة الأنفال، فإنك مبصرٌ عجباً، فإن الله تعالى افتتح هذه السورة بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [الأنفال:1] فلم يأت الجوابُ عن الأنفال مباشرة، بل جاء الأمر بالتقوى وإصلاحِ ذاتِ البين، وطاعةِ الله ورسوله؛ لأن إغفال هذه الأصول الكبار سببٌ عظيم في شر عريض، ولعل من أسرار إرجاء الجواب عن هذا التساؤل: لبيان أن التقاتل على الدنيا ـ ومنها الأنفال (وهي الغنائم) ـ سببٌ في فسادِ ذات البين، ولهذا جاء الجواب عن سؤال الأنفال بعد أربعين آية من هذا السؤال.
    ولأهمية هذا الموضوع ـ أعني الإصلاح ـ: أجازت الشريعة أخذ الزكاة لمن غرم بسبب الإصلاح بين الناس.

     

    إذا تقرر هذا المعنى المتين والشامل لهذه الآية الكريمة (والصلح خير)، فمن المهم ـ حتى نفيد من هذه القاعدة القرآنية ـ أن نسعى لتوسيع مفهومها في حياتنا العملية، وأصدق شاهد على ذلك سيرة نبينا ج الذي طبق هذه القاعدة في حياته، وهل كانت حياته إلا صلاحاً وإصلاحا؟ وكما قال شوقي:

    المصلحون أصابعٌ جمعت يداً *** هي أنت، بل أنت اليدُ البيضاءُ

    1 ـ وبخصوص هذا الموضع الذي وردت فيه هذه القاعدة القرآنية العظيمة، طبق النبي ج هذه القاعدة وأجراها حينما كبرت زوجه أم المؤمنين سودة بنت زمعة ل،وقع في نفسه أن يفارقها، فكانت تلك المرأة عاقلة رشيدة، فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها، وأبقاها على ذلك.

     

    وإذا برحنا مطوفين إلى ميدان سيرته الفسيح ج فإنا واجدون جملةً من الأمثلة السامقة الرائقة، منها:
    2 ـ أنموذج آخر في قصة بريرة ـ وهي أَمَةٌ قد أعتقتها عائشة ل ـ فكرهت أن تبقى مع زوجها، وكان زوجها شديد التعلق بها، حتى قال ابن عباس ب ـ كما في الترمذي(4) ـ وهو يصف حب مغيث لبريرة: وكان يحبها، وكان يمشي في طرق المدينة ـ وهو يبكي ـ واستشفع إليها برسول الله ج، فقالت: أتأمر؟ قال: لا بل أشفع، قالت: لا أريده!
    فانظر كيف حاول ج أن يكون واسطة خير بين زوجين انفصلا، وشفع لأحد الطرفين لعله يقبل، فلم يشأ أن يجبر؛ لأن من أركان الحياة الزوجية الحب، والرغبة!

     

    3 ـ خرج مرة ج ـ كما في الصحيحين ـ من حديث سهل بن سعد ا أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأُخْبِرَ رسول الله ج بذلك، فقال: اذهبوا بنا نصلح بينهم(5).

     


    وعلى هذه الجادة النبوية سار تلاميذه النجباء من أصحابه الكرام وغيرهم ممن سار على نهجهم، ومن ذلك:
    4 ـ خروج ابن عباس ب لمناظرة الخوارج ـ الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي ا ـ فرجع منهم عدد كبير.
    ومن قلّب كتب السير وتنقل بين ردهاتها ألفى نماذج مشرقة لجهود فردية في الإصلاح بين الناس على مستويات شتى، ولعل مما يبشر بخير ما نراه من لجان إصلاح ذات البين، والتي هي في الحقيقة ترجمة عملية لهذه القاعدة القرآنية العظيمة: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.

     

    فهنيئاً لمن جعله الله من خيار الناس، الساعين في الإصلاح بينهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

    ثم الصلاة على المختار سيدنا *** وأفضل القول قول هكذا ختما


    ____________________
    (1)    المحرر الوجيز ـ موافق للمطبوع - (2/141).
    (2)    هذا التوضيح مختصر من كلام العلامة السعدي.
    (3)    تفسير السعدي: (        ).
    (4)    في ح (1156).
    (5)    صحيح البخاري: (        ).

     
     

    المسلم


  15. القاعدة الخامسة: (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى)
    د.عمر بن عبد الله المقبل

     

    نقف  مع قاعدة من قواعد التعامل مع غيرنا، ومن القواعد التي تعالج شيئاً من الأخلاق الرذيلة عند بعض الناس، تلكم القاعدة هي قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}.
    وهذه الآية الكريمة، وضاءة المعنى، بديعة السبك والحبك، جاءت في سياق قصة موسى مع فرعون ـ الذي قضى حياته افتراء على الله ـ وسحرته الذين هداهم الله، يقول سبحانه وتعالى عن فرعون: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه: 56 - 62].

     

    والافتراء يطلق على معانٍ منها: الكذب، والشرك، والظلم، وقد جاء القرآن بهذه المعاني الثلاث، وكلها تدور على الفساد والإفساد(1).

    قال ابن القيم: مؤكداً اطراد هذه القاعدة: (وقد ضمن سبحانه أنه لا بد أن يخيب أهل الافتراء ولا يهديهم وأنه يستحتهم بعذابه أي يستأصلهم)(2) اهـ.

     

    وإنك ـ أخي المتدبر ـ إذا تأملت هذه القاعدة وجدت في الواقع ـ وللأسف ـ من له منها نصيب وافر، وحظ حاضر سافر، ومن ذلك:

    1 ـ الكذب والافتراء على الله، إما بالقول عليه بغير علم بأي صورة من الصور، استمع لقول ربنا تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: 93]}.
    وقد دلّ القرآن على أن القول على الله بغير علم هو أعظم المحرمات على الإطلاق! قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، وأنت إذا تأملت في هذا الأمر: وجدت أن المشرك إنما أشرك لأنه قال على الله بغير علم!
    ومثله الذي يحلل الحرام أو يحرم الحلال، كما حكاه الله تعالى عن بعض أحبار بني إسرائيل.

     

    وكذا الذين يفتون بغير علم، هم من جملة المفترين على الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
    وكلُّ من تكلم في الشرع بغير علم فهو من المفترين على الله: سواء في باب الأسماء والصفات، أو في أبواب الحلال والحرام، أو في غيرها من أبواب الدين.

     

    ولأجل هذا كان كثير من السلف يتورع أن يجزم بأن ما يفتي به هو حكم الله إذا كانت المسألة لا نص فيها، ولا إجماع، قال بعض السلف: "ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم كذا فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا"(3).
    "ولهذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ا حكماً حكم به، فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر! فقال: لا تقل هكذا، ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

     

    وقال ابن وهب: سمعت مالكاً: يقول: "لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحداً اقتدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنا فينبغي هذا ولا نرى هذا"(4).

    فعلى من لم يكن عنده علم فيما يتكلم به أن يمسك لسانه، ويقبض مِقوَله، وعلى من تصدر لإفتاء الناس أن يتمثل هدي السلف في هذا الباب، فإنه خير مقالاً وأحسن تأويلاً.

     

    2 ـ ومن صور تطبيقات هذه القاعدة القرآنية:

    ما يفعله بعض الوضاعين للحديث ـ في قديم الزمان وحديثه ـ الذين يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويفترون عليه: إما لغرض ـ هو بزعمهم ـ حسنٌ كالترغيب والترهيب، أو لأغراض سياسية، أو مذهبية، أو تجارية، كما وقع ذلك وللأسف منذ أزمنة متطاولة وأيام غابرة!

     

    وليعلم كل من يضع الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم أنه من جملة المفترين، فلن يفلح سعيه، بل هو خاسر وخائب كما قال ربنا: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}، ولا ينفعه ما يظنه قصداً حسناً ـ كما زعم بعض الوضاعين ـ فإن مقام الشريعة عظيم الشَّأو، وجنابها مصون ومحترم، وقد أكمل الله الدين، وأتم النعمة، فلا يحتاج إلى حديث موضوع ومختلق مفترى، يُضلُّ ولا يكاد يبين، وليست شريعةٌ تلك التي تبنى على الكذب، وعلى منْ؟ على رسولها صلى الله عليه وسلم؟

     

    ومن المؤسف المقلق أن يُرى لسوق الأحاديث الضعيفة والمكذوبة رواجاً في هذا العصر بواسطة الإنِّترنت، أو رسائل الجوال؛ فليتق العبدُ ربَّه، ولا ينشرن شيئاً ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتثبت من صحته عنه.

     

    3 ـ ومن صور تطبيقات هذه القاعدة القرآنية الكريمة المشاهدة في الواقع:

    ما يقع ـ وللأسف الشديد ـ من ظلم وبغي بين بعض الناس، وهذا له أسبابه الكثيرة، لعل من أبرزها:
    الحسد ـ عياذاً بالله منه ـ والطمع في شيء من لعاعة الدنيا، أو لغير ذلك من الأسباب، ويَعْظُمُ الخطب حينما يُلبِّسُ بعضُ الناس صنيعه لبوسَ الدين؛ ليبرر بذلك فعلته في الوشاية بفلان، والتحذير من فلان بغياً وعدواناً.
    ولقد وقفتُ على كثير من القصص في هذا الباب، منها القديم ومنها المعاصر، اعترف أصحابها بها، وهي قصص تقطع الكبد ألماً، وتفت الفؤاد فتًا، بسبب ما ذاقوه من عاقبة افترائهم وظلمهم لغيرهم، وكانت عاقبة كذبهم خسرا.

     

    وكما قال الكيلاني:

    الصدق من كرم الطباع وطالما *** جاء الكذوب بخجلة ووجوم

    و أكتفي من ذلك بهذين الموقفين؛ إذ في تضاعيف ذكرهما عظةٌ وعبرة:
    1 ـ تحدثتْ إحداهن ـ وهي أستاذة جامعية ومطلقة مرتين ـ فقالت: حدثت قصتي مع الظلم قبل سبع سنوات، فبعد طلاقي الثاني قررتُ الزواج بأحد أقاربي الذي كان ينعم بحياة هادئة مع زوجته وأولاده الخمسة، حيث اتفقت مع ابن خالتي ـ الذي كان يحب زوجة هذا الرجل ـ اتفقنا على اتهامها بخيانة زوجها! وبدأنا في إطلاق الشائعات بين الأقارب، ومع مرور الوقت نجحنا، حيث تدهورت حياة الزوجين وانتهت بالطلاق!

     

    وبعد مضي سنة تزوجت المرأةُ ـ التي طلقت بسبب الشائعات ـ برجل آخر ذي منصب، أما الرجل فتزوج امرأة غيري، وبالتالي لم أحصل مع ابن خالتي على هدفنا المنشود، ولكنا حصلنا على نتيجة ظلمنا حيث أصبت بسرطان الدم!
    أما ابن خالتي فقد مات حرقاً مع الشاهد الثاني، بسبب التماس كهربائي في الشقة التي كان يقيم فيها، وذلك بعد ثلاث سنوات من القضية.

     

    2 ـ أما القصة الأخرى: فيرويها شخص اسمه (حمد): عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية حدثت مشاجرة بيني وبين أحد الطلاب المتفوقين، فقررت ـ بعد تلك المشاجرة ـ أن أدمر مستقبله، فحضرت ذات يوم مبكراً إلى المدرسة، ومعي مجموعة من سجائر الحشيش ـ التي كنا نتعاطاها ـ ووضعتها في حقيبة ذلك الطالب، ثم طلبت من احد أصدقائي إبلاغ الشرطة بأن في المدرسة مروجَ مخدرات، وبالفعل تمت الخطة بنجاح، وكنا نحن الشهود الذين نستخدم المخدرات.

     

    يقول حمد هذا: ومنذ ذلك اليوم وأنا أعاني نتيجة الظلم الذي صنعته بيدي، فقبل سنتين تعرضت لحادث سيارة فقدت بسببه يدي اليمُنى، وقد ذهبت للطالب في منزله أطلب منه السماح، ولكنه رفض لأنني تسببت في تشويه سمعته بين أقاربه حتى صار شخصاً منبوذاً من الجميع، وأخبرني بأنه يدعو عليّ كل ليلة؛ لأنه خسر كل شيء بسبب تلك الفضيحة، ولأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب فقد استجاب الله دعوته، فها أنا بالإضافة إلى يدي المفقودة أصبحت مقعداً على كرسي متحرك نتيجة حادث آخر! ومع أني أعيش حياة تعيسة، فإني أخاف من الموت لأني أخشى عقوبة رب العباد(5).

     

    ومن صور تطبيقات هذه القاعدة في عصرنا:
    ما يقع من بعض الكُتاب والصحفيين، الذين يعمي بعضَهم الحرصُ على السبق الصحفي عن تحري الحقيقة، والتثبت من الخبر الذي يورده، وقد يكون متعلقاً بأمور حساسة تطال العرض والشرف، وليتدبروا جيداًً، هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}، والقاعدة المحكمة في باب الأخبار: {فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة}.
    و مع الختام أهمس بقول القائل:

    الصدق في أقوالنا أقوى لنا *** والكذب في أفعالنا أفعى لنا


    _________________
    (1)    مفردات الراغب: (634).
    (2)    الصواعق المرسلة - (4 / 1212).
    (3)    إعلام الموقعين عن رب العالمين - (1 / 39).
    (4)    المصدر السابق.
    (5)    نشرت هذه القصص في مقال للكاتب محمد بن عبدالله المنصور، بعنوان: (رسالة بلا عنوان!) في جريدة اليوم الإلكترونية، عدد (11854)، الأثنين 26/10/1426هـ، الموافق: 28/11/2005 م

     

    المسلم


  16. تفسير الشبخ الشعراوي

    سورة لقمان

    15-14-13

     

    {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}
    يعطينا الحق سبحانه طرفاً من حكَم لقمان التي رواها القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ..}
    [لقمان: 13]

    قوله: {وَإِذْ..} [لقمان: 13] أي: اذكر يا محمد حين قال لقمان لابنه، وتوجيه حكمة لقمان ونصيحته لابنه يدلُّنا على صدق ما رُويَ عنه أنه كان يفتي الناس ويعظهم قبل سيدنا داود عليه السلام، فلما جاء داود أمسك لقمان وقال: ألا أكتفى وقد كُفِيت، ثم وجه نصائحه لمن يحب وهو ولده.
     

    وفَرْق بين أنْ يتكلم الإنسان مع عامة الخَلْق، وبين أنْ يتكلم مع ولده، فالابن هو الإنسان الوحيد في الوجود الذي يودُّ أبوه أن يكون الابن أفضلَ وأحسن حالاً منه، ويتمنى أن يُعوِّض ما فاته في نفسه في ولده ويتدارك فيه ما فاته من خير.
     

    ومعنى {وَهُوَ يَعِظُهُ..} [لقمان: 13] الوعظ: هو التذكير بمعلومة عُلِمت من قبل مخافة أنْ تُنْسى، فالوعظ لا يكون بمعلومة جديدة، إنما يُنبه غفلتك إلى شيء موجود عندك، لكن غفلت عنه، فهناك فَرْق بين عالم يُعلم، وواعظ يعظ، والوعظ للابن يعني أنه كان على علم أيضاً بالمسائل، وكان دور الوالد أنْ يعظه ويُذكِّره.
     

    ونلحظ في أسلوب الآية أن الله تعالى لما أخبر عنه قال {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ..} [لقمان: 13] ولما تكلم لقمان عن ابنه قال {يابني..} [لقمان: 13] ولم يقل يا ابني، فصغّره تصغير التلطف والترقيق، وليوحي له: إنك لا تزال في حاجة إلى نصائحي، وإياك أنْ تظن أنك كَبِرت وتزوجت فاستغنيتَ عني.
     

    وأول عِظَة من الوالد للولد {لاَ تُشْرِكْ بالله..} [لقمان: 13] وهذه قمة العقائد؛ لذلك بدأ بها؛ لأنه يريد أنْ يُصحِّح له مفهومه في الوجود، ويلفت نظره إلى أن الأشياء التي نعم بها آباؤك وأجدادك لا تزال تعطي في الكون، ومن العجيب أنها باقية، وهي تعطِي في حين يموت المعطَى المستفيد بها.
     

    وتأمل منذ خلق الله الكون كم جيل من البشر انتفع بالشمس؟ ومع ذلك انذثروا جميعاً، وما زالت الشمس باقية، كذلك القمر والهواء والجبال.. إلخ. فكيف وأنت سيد هذا الكون يكون خادمك أطول عمراً منك؟
    إذن: على العاقل أن يتأمل، وعلى الإنسان الذي كرَّمه الله على سائر المخلوقات أن يقول: لابد أن لي عمراً أطول من عمر هذه المخلوقات التي تخدمني، وهذا لا يتأتى إلا حين تصل عمرك في الدنيا بعمرك في الآخرة، وهذا يستدعي أن تؤمن بالله وألاّ تشرك به شيئاً، فهو وحده سبحانه الذي خلق لك هذا كله، وأعدّه لخدمتك قبل أن توجد.
    واقرأ: {هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ..} [لقمان: 11].
    فكيف تدعي أن لله شركاء في الخَلْق، وهم أنفسهم لم يدَّعوا أنهم آلهة، أو أنهم خلقوا شيئاً في كون الله؟ كيف وأنت تسير في الصحراء، فترى الحجر يعجبك فتأخذه وتُسوِّيه وتجعله إلهاً ولو هبَّتْ الريح لأطاحتْ به؟
    ثم ما المنهج الذي جاءتكم به هذه الآلهة بِمَ أمرتكم وعَمَّ نهتكم؟ ماذا أعدت من نعيم لمن عبدها، وماذا أعدَّت من عذاب لمن كفر بها؟ إذن: فهذه آلهة بلا تكليف، والعبادة في حقيقتها أنْ يطيع العابد أمر معبوده، إذن: هي آلهة باطلة لا يخفى بطلانها على العاقل.

     

    لذلك يقول لقمان: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] نعم الشرك ظلم؛ لأن الظلم يعني: نَقْل حق الغير إلى الغير، وقمة الظلم ومنتهاه أن تأخذ حق الله، وتعطيه لغير الله، ألا ترى أن الصحابة ضجُّوا لما نزل قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
    وقالوا: يا رسول الله، ومَنْ منا لم يخالط إيمانه ظلم؟ فهدَّأ رسول الله من رَوْعهم وطمأنهم أن المراد بالظلم هنا ظلم القمة أي: الشرك بالله {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

     

    {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)}
    أهذه وصية من وصايا لقمان لابنه، أم هي كلام جديد من الله تعالى جاء في سياق كلام لقمان؟ قالوا: هو من كلام الحق تبارك وتعالى، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا...} [لقمان: 15].
    ومن التكريم للقمان أن الله تعالى ساق هذه الوصية بعد وصيته لابنه، فجاءت وكأنها حكاية عنه.
    ومعنى {
    وَوَصَّيْنَا } [لقمان: 14] يعني: علّمنا ووعظنا، وهما يدلان على معلومات تبتدئ بعلمنا ويذكر بها في وعظنا، ويُوفى بها حين جمعنا كل الخير في كلمة واحدة؛ لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما خطب الناس في حجة الوداع ذكر أمهات الفضائل، لماذا؟ لأنه آخر كلامه إليهم، والموقف لا يناسب أنْ يذكر فيه تفاصيل الدين كله، فاكتفى بذكر أسسه وقواعده، كالرجل منَّا حين تحضره الوفاة يجمع أولاده، ويوصيهم، فيختار الأمور الهامة والخلاصة في أضيق نطاق.
    الله تعالى يقول: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ...} [لقمان: 14] والوصية بالوالدين بالذات أخذتْ رقعة واسعة في كتاب الله، في هذه الآية ذكر علة الوصية، فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ...} [لقمان: 14].

     

    وفي خمس آيات أخرى وردتْ كلمة(إحساناً)، في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً...} [البقرة: 83].
    وفي سورة النساء: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً...} [النساء: 36].
    وفي الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً...} [الأنعام: 151].
    وفي الإسراء: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً...} [الإسراء: 23].
    وفي الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً...} [الأحقاف: 15].
    وفي آية واحدة وردت كلمة(حسناً) في سورة العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً...} [العنكبوت: 8].
    وفي آية واحدة أيضاً جاءت الوصية بالوالدين دون ذكر لهاتين الكلمتين:(حُسْناً وإحساناً) هي الآية التي نحن بصدد الحديث عنها.

     

    لكن، ما الفرق بين(إحساناً) و(حُسناً)؟ الفرق أن الإحسان مصدر أحسن، وأحسن حدث، تقول: أحسن فلان إحساناً. أما حُسناً فمن الحسن وهو المصدر الأصيل لهذه المادة كما تقول: فلان عادل، فوصفته بالعدل، فإنْ أردتَ أنْ تبالغ في هذا الوصف تقول: فلان عَدْل أي: في ذاته، لا مجرد وَصْف له.
    إذن: فحُسْناً آكد في الوصف من إحساناً، فلماذا جاءت في هذه الآية بالذات: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً...} [العنكبوت: 8] قالوا: لأن هذه الآية تتعرض لمسألة صعبة تمسُّ قمة العقيدة، فسوف يطلب الوالدان من الابن أنْ يشرك بالله.
    لذلك احتاج الأمر أنْ نوصي الابن بالحُسْن في ذاته، وفي أسمى توكيداته فلم يقُلْ هنا(إحْسَاناً) إنما قال(حُسْناً) حتى لا يظن أن دعوتهما إياه إلى الشرك مبرر لإهانتهما، أو التخلي عنهما؛ لذلك يُعلِّمنا ربنا: {فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15].

     

    وإنْ كانت الوصية هنا بالوالدين ألا أن حيثيات الوصية خاصة بالأم {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فلم يذكر شيئاً عن دور الأب، لماذا؟ قالوا: لأن الكلام هنا كلام رب، وما عليك إلا أنْ تُعمِل فيه فكرك وقلبك لتصل إلى دقائقه.
    الله تعالى يُذكِّرنا هنا بدور الأم خاصة، لأنها تصنع لك وأنت صغير لا تدرك صُنْعها، فهو مستور عنك لا تعرفه، أما الأفعال الأب وصنعه لك فجاء حال كِبَرك وإدراكك للأمور من حولك، فالابن يعرف ما قدَّم أبوه من أجله.
    فكأن أفعال الأب وُجِدت حين تم تكوين العمر العقلي الواعي، ففهم الابن ما فعل أبوه، وكثيراً ما سمع الابن: أبوك ذهب إلى كذا، أبوك أحضر لك كذا، وهذا الأمر عندما يأتي أبوك.. إلخ، فدوْر الأب ظاهر على خلاف دور الأم؛ لذلك ذكره الحق تبارك وتعالى هنا {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ} [لقمان: 14].
    ويأتي مَنْ يقول: أليس الابن نتيجة التقاء الأب والأم، فهما فيه سواء؟ ونقول: بلى، لكن مشقة الأم فيه أوضح أثناء الحمل وعند الولادة، ولولا أن الله تعالى ربط النسل بالشهوة لَزهدَ الناس فيه لما تتحمله الأم من مشاق، ولما يتحمله الأب من تبعات الأولاد.

     

    ونعرف قصة المرأة التي ذهبت تقاضي زوجها لأنه يريد يأخذ ولدها منها، فقالت للقاضي وقد قال لها: أليس الولد ولدكما معاً؟ قالت: بلى، ولكنه حمله خِفّاً ووضعه شهوة، وحملتُه وهناً على وهن، فحكم لها.
    ومعنى: {وَهْناً على وَهْنٍ..} [لقمان: 14] أي: ضعفاً على ضعف، والمرأة بذاتها ضعيفة، فاجتمع لها ضعفها الذاتي مع ضعف بسبب الجنين الذي يتغذى منها، ويكبر في أحشائها يوماً بعد يوم؛ لذلك قلنا: إن من حكمة الله تعالى في خَلْق الرحم أنْ جعله قابلاً للتمدد والاتساع ليحتوي الجنين في مراحل الحمل المختلفة إلى أنْ يزيد الجنين زيادةً لا يتحملها اتساع الرحم فينفجر إيذاناً بولادة إنسان جديد وخَلْق آخر كما قال تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14].
    فالجنين كان خَلْقاً تابعاً لأمه في غذائه وفي تنفسه وحركته، لكن حينما جاء أمر الله وأذن بميلاده أنشأه خَلْقاً آخر له مُقوِّمات حياة مستقلة غير متصل بأمه.
    ويقولون في هذه العملية(القرن طش) كما تنفجر البالونة إذا نُفخت لدرجة أكثر مما تتحمل، ومن العجيب أن الرحم يتسع بقدرة الله لعدة توائم كما نرى ونسمع.
    ومن عظمة الخالق سبحانه في مسألة الرزق أن رزق الجنين يأتيه منفصلا عن رزق أمه، فلكل منها رزق لا يأخذه الآخر، ومعلوم أن المرأة حين يُقدَّر لها حَمْل ينقطع عنها الدم الذي كان ينزل بصفة دورية حال فراغ الرحم من الحمل، هذا الدم هو الذي جعله الله غذاءً للجنين الجديد.
    أما إذا لم يُقدَّر لها حمل فإنَّ جسمها يطرد هذا الدم ويتخلص منه ولا يستفيد به، لماذا؟ لأنه ليس غذاءها، وكأن الخالق- عز وجل- يُنبِّهنا أن لكل منا رزقه الذي لا يتعدَّاه إلى غيره.

     

    وأيضاً من حكمته تعالى في وَضْع الجنين في بطن أمه عند الولادة أنْ ينزل برأسه، وهذا هو الوضع الطبيعي لولادة طفل سليم؛ لأن أول ضروريات الحياة للطفل ساعةَ ينفصل عن أمه أنْ يتنفس، فإذا نزل برأسه- وهذا الوضع يحاول أطباء الولادة التأكد منه- استطاع التنفس حتى وإنْ تعسر نزول باقي جسمه، أمّا إنْ نزل الطفل بعكس هذا الوضع فإنه يختنق ويموت قبل أنْ يتم نزوله.
     

    ثم يقول سبحانه: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ..} [لقمان: 14] الفصال: أي الانفصال عن الأم في مسألة الرضاعة، ومنه: يسمون ولد الناقة الذي استغنى عن لبنها: الفصيل أي الذي فُصِل عن أمه، وأصبح قادراً على أنْ يأكل، وأن يعيش دون مساعدتها، وحتى عملية فصال الولد عن أمه فيها مشقة وألم للأم.
    أما العملية الجنسية التي أثمرتْ الولد فكانت شركة بينهما، وبذلك لابد أن نعترف أن للأم الدور الأكبر وعليها العبء الأكبر في مسألة الأولاد؛ لذلك كان لها الحظ الأفر في وصية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي سأله: مَنْ أحق الناس بحُسْن صحابتي يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، فأعطى كلاً منهما على قدر ما قدَّم.
    ومسألة الفصال هذه شُرحت في آيات أخرى، ففي سورة البقرة: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة...} [البقرة: 233] وهذه تؤكد {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14].
    وفي آية أخرى تجمع الحمل والرضاعة معاً: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً...} [الأحقاف: 15] وبخصم العامين من الثلاثين شهراً يكون الباقي ستة أشهر، وهي أقلّ مدة للحمل.
    وهذه المسألة اعتمد عليها الإمام علي- رضي الله عنه- حينما رأى عمر رضي الله عنه يريد أن يُقيم الحد على امرأة ولدتْ لستة أشهر؛ لأنه يعتقد أن مدة الحمل تسعة أشهر، فقال لعمر: يا أمير المؤمنين، الله يقول غير ذلك، فقال: وماذا يقول الله؟ فذكر عليٌّ الآيتين السابقتين: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً...} [الأحقاف: 15].
    والأخرى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} [لقمان: 14].
    ثم بيَّن له عليٌّ أن أقلَّ مدة للحمل بناءً على هاتين الآيتين ستة أشهر، فقال عمر: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن.

     

    وقوله تعالى: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} [لقمان: 14] فالله تعالى هو المستحق للشكر أولاً؛ لأنه سبحانه هو الذي أنشأ من عدم، وأمدَّ من عُدْم، ثم الوالدان لأنهما السبب في الإيجاد وإنشاء الولد.
    فكأن الحق سبحانه مسبِّب أعلى؛ لأنه خلق من لا شيء، والوالدان سبب من أسباب الله في الوجود، إذن: لا تُحسِن شكر الله الخالق الأول والمسبِّب الأعلى حتى تُحسِن شكر الوالدين، وهما السبب الثاني في وجودك.
    فقوله سبحانه: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} [لقمان: 14] أي: على الإيجاد، لكن في موضع آخر: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24] وهذه للإيجاد وللتربية وللرعاية، فكما أن هناك أبوةً للإيجاد هناك أبوة للتربية، فكثيراً ما نجد الطفل يريبه غير أبيه وغير أمه، ولابد أنْ يكون لهؤلاء نصيب من الشكر ومن الولاء والبرِّ ما دام أن الله تعالى ذكرهم في العلة {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24].
    والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فإذا لم يكُنْ للأب الحقيقي وجود، فالأبوة لمن ربَّى، وله نفس حقوق الأب من حيث الشكْر والبر والمودة، بل ينبغي أن يكون حقُّه مضاعفاً؛ لأن في الأب الحقيقي عطف البُضع على البُضع، وفي الأب المربِّي عطف الدين على الدين، وهذه مسألة أخرى غير مجرد الأبوة.
    لكن، هل شكر الله أولاً دُرْبة على أنْ تشكر الوالدين، وهما السبب المباشر في وجودك؟ أم أن شكرَ الوالدين دربةٌ على أن تشكر الله الذي خلقك وأوجدك؟ نقول: هما معاً، فشُكْر الله يستلزم شكْر الوالدين، وشكر الوالدين ينتهي إلى شُكْر الله.
    وقوله: {إِلَيَّ المصير} [لقمان: 14] أي: المرجع، والمعنى: أنني أوصيك بأهم شيء فاحذر أنْ تخالف وصيتي؛ لأنني أقدر على أنْ أعاقب مَنْ خالف.


    {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)}
    يؤكد الحق سبحانه على أمر الوالدين، وكأنه سبحانه استدرك غير مُستدَرك، فليس لأحد أنْ يستدرك على الله، وكأن واحداً كان يناقش رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الوالدين وما نزل في شأنهما، فسأل: كيف لو أمراني بالكفر، أأكفر طاعة لهما؟ لذلك جاء الحكم من الله في هذه المسألة.
    وفي آية العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8].
    فذكر فيها(حُسنْاً) ولم يقل فيها {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] فكأن كلمة الحُسْن، وهي الوصف الجامع لكلِّ مدلولات الحُسْن أغنتْ عن المصاحبة بالمعروف.
    ومعنى {جَاهَدَاكَ..} [لقمان: 15] نقول: جاهد وجهد، جهد أي في نفسه، أما جهاد ففيها مفاعلة مع الغير، نقول: جاهد فلان فلاناً مثل قاتل، فهي تدل على المشاركة في الفعل، كما لو قلت: شارك عمرو زيداً، فكل منهما فاعل، وكل منهما مفعول، لكن تغلب الفاعلية في واحد، والمفعولية في الآخر.

     

    فمعنى {وَإِن جَاهَدَاكَ..} [لقمان: 15] لا تعني مجرد كلمة عَرَضَا فيها عليك أن تشرك بالله، إنما حدث منهما مجهود ومحاولات لجذبك إلى مجاراتها في الشرك بالله، فإن حدث منهما ذلك فنصيحتي لك {فَلاَ تُطِعْهُمَا..} [لقمان: 15].
    ثم إياك أنْ تتخذ من كفرهما ودعوتهما لك إلى الكفر سبباً في اللدد معهما، أو قطع الرحم، فحتى مع الكفر يكون لهما حق عليك {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً..} [لقمان: 15] ثم إنهما كفرا بي أنا، وأنا الذي أوصيك بهما معروفاً.
    وقوله تعالى: {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ..} [لقمان: 15] أي: لن تكون وحدك، إنما سبقك أُنَاسٌ قبلك تابوا وأنابوا فكُنْ معهم {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ..} [لقمان: 15] أي: مأواكم جميعاً.
    قالوا: إن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالي سعد، فليُرني امرؤ خاله» ولما أسلم سعد غضبت أمه- وكانت شديدة الحب له فكادت تُجَنُّ وحلفتْ لا تأكل ولا تشرب ولا تغتسل، وأنْ تتعرَّى في حَرَّ الشمس حتى يرجع دينه، فلما علم سعد بذلك قال: دعوها والله لو عضَّها الجوع لأكلتْ، ولو عضَّها العطش لشربتْ، ولو أذاها القمل لاغتسلتْ، أما أنا فلن أحيد عن الدين الذي أنا عليه، فنزلا: {وَإِن جَاهَدَاكَ..} [لقمان: 15].
    ولو أن الذي يكفر بالله ويريد لغير من المؤمنين أنْ يكفر معه كابن أو غيره، ثم يرى وصية الله به رغم كفره لعلم إن الله تعالى رب رحيم لا يستحق منه هذا الجحود.

    والحق تبارك وتعالى حين يقول بعد الوصية بالوالدين: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15] إنما لينبهنا أن البرَّ بالوالدين ومصاحبتهما بالمعروف لم يُنسى لك ذلك، إنما سيُكتب لك، وسيكون في ميزانك؛ لأنك أطعتَ تكليفي وأمري، وأدَّيْتَ، فلك الجزاء لأنك عملتَ عملاً إيمانياً لابد أن تُثاب عليه.

     

    نداء الايمان


  17. جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فقالَ إنَّ أبي اجتاحَ مالي فقالَ أنتَ ومالُكَ لأبيكَ وقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إنَّ أولادَكم من أطيبِ كسبِكُم فَكلوا من أموالِهم
    الراوي : عبدالله بن عمرو | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح ابن ماجه
    الصفحة أو الرقم: 1870 | خلاصة حكم المحدث : صحيح

    التخريج : أخرجه أبو داود (3530)، وابن ماجه (2292) واللفظ له، وأحمد (7001)

     

    يقول الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانه – أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس:- لقد اتفق الفقهاء على أنه يجب على الولد الموسر أن ينفق على والده الفقير المحتاج وإن لم يفعل فهو آثم عند الله سبحانه وتعالى .
     

    يقول الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانه – أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس:- لقد اتفق الفقهاء على أنه يجب على الولد الموسر أن ينفق على والده الفقير المحتاج وإن لم يفعل فهو آثم عند الله سبحانه وتعالى .

    ويجوز للأب أن يأكل من مال ولده ويأخذ منه قدر حاجته ما لم يكن في ذلك سرف أو سفه فقد ورد في الحديث عن عائشة قالت : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم ) رواه أصحاب السنن الأربعة وأحمد وابن حبان والحاكم وهو حديث حسن صحيح كما قال الترمذي.

    وفي رواية لأحمد ( ولد الرجل من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم هنيئاً ) ورواه الحاكم وصححه . وينبغي للابن أن يبذل ماله لأبيه ولا يمنعه منه وليس معنى ذلك أن الأب يملك مال الابن من غير طيب نفس من ابنه.

    وأما الحديث المذكور وهو قوله ( أنت ومالك لأبيك ) فهو جزء من حديث ورد بروايات مختلفة منها عن جابر بن عبد الله أن رجلاً قال ( يا رسول الله إن لي مالاً وولداً وإن أبي يجتاح مالي . فقال عليه الصلاة والسلام : أنت ومالك لأبيك ) رواه ابن ماجة والطحاوي والطبراني وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني وقد ورد هذا الحديث من طرق كيثرة تكلم عليها الألباني بالتفصيل في كتابه إرواء الغليل 3/323-330 .

    ولم يأخذ أكثر الفقهاء بظاهر الحديث قال ابن حبان في صحيحه : تـحـت عـنـوان ” ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة العلم أن مال الابن يكون للأب … ” ثم ذكر الحديث وعقب عليه بقوله :[ ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم زجر عن معاملته أباه بما يعامل به الأجنبي وأمره ببره والرفق به في القول والفعل معاً إلى أن يصل إليه ماله فقال له ( أنت ومالك لأبيك ) لا أن مال الابن يملكه الأب في حياته عن غير طيب نفس من الابن له ] صحيح ابن حبان 2/142-143 .

    ويرى بعض أهل العلم أن اللام في قوله صلى الله عليه وسلم ( لأبيك ) تفيد الإباحة لا التمليك فيباح للوالد أن يأخذ من مال الابن حاجته ولا تفيد أن الأب يملك مال الابن فإن مال الابن له وزكاته عليه وهو موروث عنه .

    وقال الشيخ علي الطنطاوي :[ إن الحديث قوي الإسناد لكن لا يؤخذ عند جمهور الفقهاء على ظاهره بل يؤول ليوافق الأدلة الشرعية الأخرى الثابتة والقاعدة الشرعية المستنبطة منها وهي أن المالك العاقل البالغ يتصرف بماله وليس لأحد التصرف به بغير إذنه … ] فتاوى الطنطاوي ص 137 .

     

    اسلام اون لاين

     

     


  18. {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)}لقمان
     

    الحق سبحانه آتانا قبل أنْ يخلقنا، وآتانا بعد أن خلقنا بالمنهج ثم وَالَى إلينا بمواكب الرسالات التي تحمل إلى كل بيئة المنهج الذي يناسبها، وقبل أن يخرج آدم عليه السلام لتحمُّل عبء هذه الخلافة أعطى الله له تجربة، هذه التجربة مفادها أن يحافظ على منهج ربه في(افعل) و(لا تفعل) وأن يحذر كيد الشيطان.
     

    وقد مرَّ آدم بهذه التجربة البيانية قبل أن يجتبيه الله للنبوة وكثيرون يظنون أن عصيان آدم جاء بعد أن كُلِّف بالنبوة فيقولون: كيف يعصي آدم ربه، وهو نبي والنبي معصوم؟
    ونقول: نعم، عصى آدم ربه، لكن قبل النبوة، وهو ما يزال بشراً عادياً؛ لذلك قال سبحانه في حقه: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} [طه: 121-122].
    إذن: جاء الاجتباء بعد المعصية،

    فإنْ قلتَ: فما الداعي للعصيان يصدر من آدم، وهو يُعد للنبوة؟

    قالوا: لأنه أبو البشر، والبشر قسمان: بشر معصومون، وهم الأنبياء، وبشر ليست لهم عصمة وهم عامة الناس غير الأنبياء، ولابد لآدم أنْ يمثل النوعين لأنه أبو الجميع، فمثَّل البشر عامة حين وقع في المعصية، ومثّل الأنبياء حين اجتباه ربه وتاب عليه، فجمع بذلك بين الملحظين.


    هنا يقول سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا..} [لقمان: 12] والإيتاء يُطلَق على الوحي مع الفارق بينهما، فإنْ أطلق الوحي فإنه ينصرف إلى الوحي للرسول بمنهج من الله، ويُعرَف الوحي عامة بأنه إعلام بخفاء.
    ومن ذلك قوله تعالى في الوحي للملائكة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ...} [الأنفال: 12].
    ويُوحِي للبشر، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ..} [القصص: 7].
    ويوحى للحيوان {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً...} [النحل: 68].
    ومن ذلك أيضاً يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من شياطين الإنس أو الجن: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ...} [الأنعام: 121].
    كذلك يوحي الله إلى أهل الخير من أتباع الرسل: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي...} [المائدة: 111].
    هذا في المعنى اللغوي للوحي وهو: إعلام بخفاء، فإنْ قصدت الوحي الشرعي الاصطلاحي: فهو إعلام من الله لرسوله بمنهجه. وهذا التعريف يُخرِج كل الأنواع السابقة.
    والحق سبحانه عبَّر عن الإيتاء العام بقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ..} [الشورى: 51].
    والإيتاء يُقصد به الإلهام، ويكون حين تتوفر للإنسان آلة استقبال سليمة صالحة لاستقبال الإلهام والخاطر من الحق سبحانه وتعالى، وآلة الاستقبال لا تصلح للاستقبال عن الله تعالى إلا إذا كانت على مواصفات الخالق سبحانه صانعها ومبدعها، كما يلتقط(الراديو أو التليفزيون) الإرسال، فإنِ انقطع عنك الإرسال فاعلم أن جهاز استقبالك به عطب، أما الإرسال فموجود لا ينقطع، ولله تعالى المثل الأعلى.
    وله سبحانه إرسال دائم إلى عباده، لا يلتقطه إلا مَنْ صفَتْ آلة استقباله، وصلحت للتلقي عن الله، وهذه الآلة لا تصلح إلا إذا كانت على المنهج في افعل ولا تفعل، لا تصلح إذا تكونت من الحرام وتغذَّتْ به؛ لأن الحرام يفسد كيماوية الفطرة التي خلقها الله في عباده يوم أن أخذ عليهم العهد: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى..} [الأعراف: 172].
    فهذه الذرية لو ظلتْ على حالها من الصفاء يوم كانت في ظهر آدم ويوم أخذ الله عليها العهد، ولو التزمت منهج ربها في(افعل) و(لا تفعل) لكانت أهلاً لإلهام الله؛ لأن آلة استقبالها عن الله سليمة.
    وتأمل في وحي الله إلى أم موسى: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني..} [القصص: 7].
    فأيُّ آلة استقبال هذه التي استقبلتْ هذا الأمر ونفذته دون أنْ تناقشه، واطمأنتْ إليه قبل أنْ تفكر فيه؟ وكيف تقتنع الأم أن الموت المحقق يُنجي وليدها من موت مظنون؟
    لذلك نقول: إذا صادف الإلهام آلة استقبال سليمة فإنه لا يوجد في النفس ما يصادره، ولا ما يبحث عن دليل، فقامت أم موسى ونفذت الأمر كما أُلقي إليها، هذا هو الإيتاء.
    ومنه أيضاً قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] والعبد الصالح لم يكن نبياً، ومع ذلك آتاه الله بدون واسطة، فكان هو مُعلِّماً للنبي، وما ذلك إلا لأنه عبد لله على منهج موسى، وأخلص لله تعالى فآتاه الله من عنده.
    واقرأ قول الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً..} [الأنفال: 29] وقال سبحانه: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].

     

    إذن: كلُّ ما علينا لنأخذ إلهامات الحق سبحانه أنْ نحتفظ بصفاء البنية التي خلقها الله لتظل بمواصفات خالقها، ثم نسير بها على منهجه تعالى في افعل ولا تفعل، وكان سيدنا لقمان من هذا النوع الصافي الطاهر النقي، الذي لم يخالط جسمه حرام، والذي لا يغفل عن منهج ربه؛ لذلك آتاه الله الحكمة، وقال فيه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة..} [لقمان: 12].
    وقد اختلف العلماء فيه: أهو نبي أم غير نبي، والغالب أنه غير نبي؛ لأن القائلين بنبوته ليس لهم سند صحيح، والجمهور اجتمعوا على أنه رجل صالح مرهف الحس، دقيق الإدراك، والحسّ كما قلنا هو الأصل الأول في المعلومات، وكان لقمان لا يمر على الأشياء إلا بهذا الحسِّ المرهف والإدراك الدقيق العميق، فتتكون لديه مُدْركات ومواجيد دقيقة تختمر في نفسه، فتتجمع لديه مجموعة من الفضائل والقيم التي تسوس حركة حياته، فيسعد بها في نفسه، بل ويسعد غيره من حوله بما يملك من المنطق المناسب والتعبير الحسن، كذلك كان لقمان.
    وللعلماء أبحاث حول شخصية لقمان وجنسيته، فمنهم مَنْ ذهب إلى أنه كان أسود اللون غليظ الشفتين كأهل جنوب إفريقيا، لكنه مع ذلك أبيض القلب نقي السريرة، تخرج من بين شفتيه الغليظتين الحِكَم الرقيقة والمعاني الدقيقة.
    وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قالوا: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم).
    لذلك حين ترى مَنْ هو أقل منك في مال، أو صحة، أو جاه، أو منظر فلا تغتر بذلك، وانظر وتأمل ما تميزّ به عليك؛ لأن الخالق سبحانه- كما قلنا- وزَّع فضله بين عباده بالتساوي، بحيث يكون مجموع كل إنسان يساوي مجموع الآخر، ولا تفاضلَ بين المجموعات إلا بالتقوى: (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح).
    فالذين يحلو لهم أنْ يقسموا المهن مثلاً إلى مهن شريفة وأخرى حقيرة نقول: ليست هناك مهنة حقيرة ما دام المجتمع في حاجة إليها ولا تستقيم حركة الحياة إلا بها، فكيف تحقرها؟ وكيف تحقر أهلها؟ والله لو قعد الوزراء في بيوتهم أسبوعاً ما حدث شيء، لكن لو تعطل عمال النظافة مثلاً أو الصرف الصحي ليوم واحد لحدثتْ مشكلة، ولأصبحت الدنيا(خرارة).
    وكيف نحقر هذه المهن ونحقر أصحابها، وهم يرضوْنَ باليسير، ويتحملون ما لا يطيقه غيرهم، كيف نحقرهم، والله تعالى يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ...} [الحجرات: 11].
    فإن قلت: ما دام ليس نبياً، فكيف يؤتيه الله؟ نقول: بالمدد والإلهام الذي قال الله فيه: {إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29] فمَنْ يحافظ على مواصفات التكوين بمنطق الله يأخذ من الله مباشرة.
    كما لو طلب منك ولدك مبلغاً من المال يتاجر به في السوق، فتعطيه مبلغاً يسيراً تُجرِّبه به، فإنْ أفلح وربحت تجارته يطمئن قلبك فتزيده أضعاف ما أخذ في المرة الأولى، كذلك الإنسان إن أحسن صحبته لربه داوم الله عليه فضله ووالى إليه فيضه.
    لذلك يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز: ما قصر بنا في علم ما نجهل إلا عدم عملنا بما علمنا- يعني: لو كنا أهلاً للزيادة لزادنا، لو كنا مأمونين على ما علمنا فوظّفناه في حركة حياتنا لجاءتنا فيوضات إشراقية وعطاءات من ربنا ممتدة لا تنتهي، أما إنْ أخذنا العلم فألقيناه جانباً ولم نعمل به، فما الداعي للزيادة، وأنت لم تستفِدْ بما عندك؟
    وكما تكلم العلماء في شخصية لقمان وجنسيته تكلموا في حكمته، فسأله أحدهم وقد تبسَّط معه في الحديث: ألم تكُنْ عبداً تخدم فلاناً؟ قال: بلى، قال: فَبِمَ أوتيت الحكمة؟ قال: باحترامي قدر ربي، وأدائي الأمانة فيما وليت من عَمل، وصدق الحديث، وعدم تعرُّضي لما لا يعنيني.
    وهذه الصفات كافية لأنْ تكون منهجاً لكل مؤمن، ولأنْ ينطق صاحبها بالحكمة، والله لو كانت فيه صفة الصدق في الحديث لكانت كافية.
    لذلك وصل لقمان إلى هذه المرتبة وهو العبد الأسود، فآتاه الله الحكمة مباشرة، وهو ليس نبياً ولا رسولاً، وسُمِّيت إحدى سور القرآن باسمه، وهذا يدلك على أن الإنسان إذا اعتدل مع الله وأخلص في طاعته فإن الله يعطيه من فيضه الواسع، فيكون له ذِكْر في مصافِّ الرسل والأنبياء.

     

    ويُرْوَى من حكمة لقمان أن سيده أمره أن يذبح له شاة ثم يأتيه بأطيب مُضْغتين فيها، فذبح الشاة وجاءه بالقلب واللسان، وفي اليوم التالي قال له: اذبح لي شاة وأتني بأخبث مُضغتين فيها، فجاءه أيضاً بالقلب واللسان فسأله: ألم تَأْتِ بهما بالأمس على أنهما أطيب مضغتين في الشاة؟ قال: بلى فليس شيء أطيب منهما إذا طَابَا، ولا شيء أخبث منهما إذا خَبُثَا.

    وبعد لقمان جاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا هذا الدرس فيقول: «... ألا أن في الجسد مضغة إذا صَلُحت صلح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
    ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «من حفظ ما بين لحييه وما بين رِجْليه دخل الجنة».

     

    ويُروى أن لقمان كان يفتي الناس، وكانوا يثقون بكلامه، وكان ذلك قبل داود عليه السلام، فلما جاء داود كفَّ لقمان عن الفُتْيا، فلما سألوه: لماذا امتنعتَ عن الفُتْيا؟ فقال- وهذه أيضاً من حكمته: ألاَ أكتفي إذا كُفيت؟
    يعني: لماذا أتمسَّك بها وقد بعث الله لي مَنْ حملها عني، وهو يعلم تماماً أنه مجرد عبد صالح(أي: أنه أخذ الحكمة من منازلهم كما يقال)، أما داود فرسول من عند الله، ومن الحكمة أنْ يُفسِح له هذا المجال، ويترك له ساحة الفُتْيا في القوم لعله يأتي بأفضلَ مما عند لقمان؛ لذلك تركها له عن رضاً وطيب خاطر.
    والبعض يقول: إن الله خيَّره بين أن يكون نبياً أو حكيماً، فقال: أما وقد خيَّرتني يا رب، فأنا أختار الراحة وأترك الابتلاء، أما إنْ أردْتها يا رب عزمة فأنا سأقبلها سمعاً وطاعة؛ لأني أعلم أنك لن تخذلني.
    والحق سبحانه يُنطق لقمان بأشياء من الحكمة يسبق بها النبوة؛ ليبين لنا أن الإنسان من الممكن أن يكون ربانياً، كما جاء في الحديث القدسي: (عبدي، أطعني تكُنْ ربانياً، تقول للشيء كُنْ فيكون).
    ذلك لأن فضل الله ليس له حدود، وليس عليه حرج، وبابه تعالى مفتوح، المهم أن تكون أهلاً لأنْ تلِجَ هذا الباب، وأنْ تكون في معية ربك دائماً.

     

    ومما يُرْوَى من حكمة لقمان أنه غاب في سَفْرة، ثم عاد فلقيه تابعه، فقال له: مَا حال أبي؟ فقال: مات، فقال لقمان: الآن ملكْتُ أمري، ثم سأل: فما حال زوجتي؟ فقال: ماتت، فقال: جدّدتُ فراشي، ثم سأل عن أخته، فقال: ماتت، فقال: ستَر الله عِرْضي، ثم سأل عن أخيه، فقال: مات، فقال: انقصم ظهري.


    وهذا الكلام لا يصدر إلا عن حكمة، فكثيراً ما يفرح الابن- خاصة العاق- بموت أبيه؛ لأنه سيترك له المال يتمتع به، أما لقمان فيقول عندما علم بموت أبيه: الآن ملكْتَ أمري؛ لأنه في حياة أبيه كان له أمر، لكن أمره ليس في يده إنما في يد أبيه، فلما مات أبوه صار أمره بيده.
    وهذه الحكمة توضح لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت وما ملكت يداك لأبيك» كأنه من العيب أن تقول في حياة أبيك: أنا أملك كذا وكذا. أما الآن فقد تجاوز الأبناء كل هذه القيم، ونسمع الابن يقول لأبيه: اكتب لي كذا وكذا.
    أما قوله:
    (جددت فراشي) فهي كلمة لها معنى كبير: أنا لا أُدخِل الجديدة على فراش القديمة حتى لا أجرح مشاعرها، أو أنني لا أتزوج إلا بعد وفاة زوجتي الأولى؛ ذلك لأن الغيرة طبع في النساء.
    وكانت أم المؤمنين عائشة تغار حتى من ذكر السيدة خديجة، فقد دخلت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم على أبيها مُغْضبة فقال صلى الله عليهم وسلم: (ما أغضبك يا أم أبيها) فقالت: والله إن عائشة قالت لي: إن رسول الله تزوج أمك ثيباً، ولم يتزوج بِكْراً غيري. فقال لها رسول الله: (إذا أعادت عليك هذا القول- وانظر هنا إلى أدب النبوة في الردَّ وفي سرعة الخاطر- فقولي لها: ولكن أمي تزوجتْ رسول الله وهو بكر، وتزوجتيه أنت وهو ثيَّب) هذا كلام النبوة، ومن بعدها لم تُعِدْها عائشة مرة أخرى.
    وقد يقول قائل: وكيف تغار عائشة، وهي أم المؤمنين وزوج رسول الله؟ قالوا: هذه الغيرة لها معنى، فقد عقد رسول الله عليها وهي بنت السادسة، ودخل بها وهي بنت التاسعة، وقد جاوز صلى الله عليه وسلم الخمسين من عمره، ومع فارق السن بينهما رضيتْ عائشة برسول الله؛ لأنها رأتْ فيه من مزايا نوره ما جعلها تَغَار عليه رغم كِبَر سنّه وصِغَر سنها، فلم تنظر إليه على أنه رجل عجوز يكبرها، بل رأَتْ فيه ما يفوق ويعلو على مجرد الشباب.
    إذن: فمعنى: (جددت فراشي) أنني أراعي مشاعر الزوجة الجديدة، فلا أُدِخلها على فراش القديمة فأصدمها به، وأُلِهب مشاعر الغيرة عندها، حتى من التي ماتت، وأنا أريد أن تكون صافية التكوين لذاتي، راضية عن كل تصرفاتي، أريد أن أمنع كل شبهة تقلق كونها سكناً لي، وأنا سَكن لها.

     

    نعود إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة...} [لقمان: 12] فالذي آتى هو الله عز وجل، والحكمة: مادة حكَم تدل على وَضْع الشيء في موضعه، ومنها الحاكم؛ لأنه يضع الحق في نصابه، حتى في الدواب نسمي الحديدة التي توضع في فم الفرس لأتحكم في حركته(حَكَمه)؛ لأن الهدف من ركوب الخيل مختلف، فمرة أركبه للنزهة، ومرة أركبه لأدرك به صَيْداً، ومرة للكِّر وللفرِّ في المعركة، فكُلُّ هدف من هذه له حركة، وينبغي أنْ أتحكم في حصاني ليؤدي لي ما أريده منه.
    إذن: فالحكمة تعني في معناها العام وَضَع الشيء في موضعه، وهي مجموعة من مَلَكات الفضائل تصدر عنها الأشياء التي تضع كل أمر في محله لكن بيُسْر وبلا مشقة ولا تعب، كالشيخ الذي ظل يدرس في الأزهر مثلاً عشرين أو ثلاثين سنة تذهب إليه، وتستفتيه في أمر من الأمور، فيجيبك بيُسْر وسهولة، وبدون تفكير أو إعداد، لماذا؟ لأن الفُتْيا أصبحت ملَكَه عنده لا تحتاج منه إلى مجهود ولا مشقة.
    ومن الحكمة أنْ يخلق الله لك أشياءً، ويهديك لأنْ تستنبط منها أشياءً أخرى.
    وساعة تسمع من الله تعالى: {وَلَقَدْ..} [لقمان: 12] فاعلم أن هنا قَسَماً فالواو واو القسم، والمقسَم عليه مُؤكَّد باللام ومُؤكَّد بقد التي تفيد التحقيق.
    قوله سبحانه: {آتَيْنَا..} [لقمان: 12] الحق سبحانه وتعالى في إتيانه للأشياء يعني تعدَّي ما قدره لمن قدره من خير ظاهر ومن خير مستور. وقبل أنْ يخلق الله الإنسان خلق له، فجاء الإنسان الأول(آدم عليه السلام) وطرأ على كون فيه كل مُقوِّمات حياته من هواء وماء وأرض وسماء وطعام وشراب.. إلخ.
    وكل ذلك مُسخَّر له تسخيراً لا دَخْلَ للمنتفع به فيه، وهذا أول الإيتاء، بل قبل ذلك، وفي الأزل قبل أن يخلق الإنسان خلق له مُقوِّمات مادته ومُقوِّمات قيمه وروحه- أي: أوجدها.
    لأننا نعلم أن كل صانع قبل أن يُقدِم على صَنْعة لابد أن يُحدِّد الغاية، ويضع الهدف منها أولاً، لا أنْ يصنع الشيء ثم ينظر فيه: لأيِّ شيء يصلح هذا الشيء، كذلك لابد أنْ يسبق الصنعةَ منهجُ صيانتها.

     

    فالحق سبحانه قبل أنْ يخلق الإنسان وضع له مُقوِّماته المادية والمعنوية، والمنهج الذي يُصلِحه وحدّد الهدف من وجوده؛ لذلك يُنبِّهنا الحق سبحانه إلى هذه المسألة في قوله تعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان} [الرحمن: 1-3] فقبل أنْ يخلق الله الإنسانَ وضع المنهج الذي به صيانته، وهو القرآن الكريم.
    إذن: فمعنى الإيتاء أنْ يعدي الله ما قدره من خير ظاهر أو خير مستور لمن قدره، والخير يكون على نوعين: خير يقيم المادة، وخير يقيم القيم الروحية، المادة تقوم بالهواء وبالطعام وبالشراب.. إلخ، والقيم تقوم بالوحي وبالمنهج الذي حمله الرسل بافعل ولا تفعل.
    والله تعالى آتى كثيراً من خلقه، فلماذا خَصَّ لقمان بالذات، فقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة..} [لقمان: 12]؟ قالوا: لأن الله تعالى حين يأمر الرسل بأمر ليُبلِّغوه يُعِد الرسل لهذا الأمر، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يقول لنا، إن الفَطرة السليمة تهتدي إلى الله، وإلى المطلوب من الله بدون وحي، وبدون إعداد.

     

    ومن ذلك ما رُوِي عن سيدنا عمر- رضي الله عنه- من أنه كان يُحدِّث سيدنا رسول الله بالأمر، ويقترح عليه فيأتي الوحي موافقاً لرأيه، فكيف يتسنى لعمر أن يقترح على رسول الله وفي وجوده، وهو المشرع الثاني بعد القرآن؟
    نقول: لأن الله تعالى يريد أنْ يثبت لنا أن الفطرة السليمة إذا صَفتْ لله تستطيع أنْ تهتدي إلى الأشياء، وتصل إلى الحق قبل أنْ ينزل الوحي به.
    إذن: فالإيتاء من الله لا يأتي عبثاً، فالإيتاء الأول كان لآدم عليه السلام، وآدم شاء الله أنْ يجعله خليفة له في الأرض، ولا يعني هذا أنه أول المخلوقات في الأرض، والحق سبحانه لم يَقُلْ إنني أول ما خلقتُ خلقتُ آدم، وبدليل قوله تعالى: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27].

     

    ومسألة الخلْق هذه هيِّنة على الله، بدليل قوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 19-20] فالمسألة ليست نادرة حدثت مرة واحدة، ولن تحدث بعد ذلك.
    وللعلماء كلام طويل في عوالم أخرى غير عالمنا كعالم الحن، وعالم البنِّ، وعالم الجن وغيرها مما لا يعمله إلا الله، لكن إنْ حدَّثك المضللون الذين يريدون أنْ يستدركوا على الدين ويقولون: إن الحفريات أثبتت وجود مخلوقات قبل آدم، فكيف تقولون: إن آدم أول مخلوق؟
    ونقول لهؤلاء: لم يقُلْ أحد: إن آدم أول مخلوق على الأرض، إنما هو أول هذا الجنس البشري الذي نسميه (إنسان) لكن سبقته أجناس أخرى، وشاء الله أنْ يجعل آدم خليفة في الأرض، ثم أخبر الملائكة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً..} [البقرة: 30].
    والله حين يخبر الملائكة هذا الخبر لا يستشيرهم، إنما ليبين لهم أمراً واقعاً، وخصَّ الملائكة بهذا الإخبار؛ لأنه سيكون لهم دور مع هذا الخليفة الجديد. إذن: فالذين قال الله لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً..} [البقرة: 30] ليسوا كل الملائكة، إنما الذين لهم دور ومهمة مع هذا المخلوق، أما باقي الملائكة فلا يدرون بآدم، ولا يعرفون عنه شيئاً، وليس في بالهم إلا الله.
    والقرآن الكريم يشير لنا إلى هذه المسألة إشارةً دقيقة في قوله تعالى مخاطباً إبليس لما رفض السجود لآدم: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] والعالون هم الملائكة الذين لم يشملهم الأمر بالسجود.

     

    وقلنا: إن الله تعالى كرَّم آدم حين خلقه تعالى، وباشر خَلْقه بيده سبحانه، ولم يخلقه كباقي المخلوقات(بكُنْ)؛ لذلك جاء في حيثية النقد على إبليس: {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..} [ص: 75].
    إذن: مباشرة الخَلْق باليد دليل على العناية بالمخلوق؛ لأن اليد هي الآلة الفاعلة لأكثر الأشياء، وحتى الآن نفخر بعمل اليد فنقول(هذا الشيء يدويّ) يعني: لم تصنعه آلة صماء، إنما يد مفكر يتقن الصنعة.
    وفي مسألة خَلْق آدم- عليه السلام- يحلو للبعض أن يقول: هو الذي أخرجنا من الجنة، فهل قال الله تعالى قبل أن يصدر أول بيان عن آدم أنني خلقُته للجنة، ثم عصى آدم ربه وتسبب في أنْ نخرج منها؟
    لم يقُلْ ذلك، إنما قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً..} [البقرة: 30] فهو- إذن- مخلوق للأرض، وما الجنة التي دخلها إلا جنة التجربة لا جنة الخلد، والبعض يظن أن كلمة الجنة إذا أُطلقَتْ تعني جنة الآخرة، وهذا خطأ بدليل قول الله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17].
    وقوله تعالى: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ..} [الكهف: 32].
    فالجنة في اللغة هي المكان المليء بالأشجار الكثيفة التي تستر مَنْ يسير فيها، كما تستره أيضاً عن البيئة الخارجية؛ لأنها تكفيه بما فيها عن الاحتياج إلى غيرها، فبها كل مُقوِّمات الحياة، ومن ذلك الجنة التي دخلها آدم؛ لأن الله تعالى أراد أنْ يصنع لآدم تدريباً على مهمة الخلافة، ولم لا ونحن نُدرَّب كل صاحب مهمة على مهمته قبل أنْ يقوم بها، حتى لاعب الكرة.

     

    وحين نأخذ المتدرب لندربه على أداء مهمته لابد أن نوفر له كل مُقوِّمات حياته، ونتكفل له بكل ما يعينه على أداء مهمته، فنقدم له إقامة كاملة من طعام وشراب ومسكن.. إلخ وكذلك فعل الله تعالى لآدم فقال له {يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} [البقرة: 35].
    وحين نقارن بين ما أباحه الله لآدم وما حظره عليه نجد أنه تعالى أباح له كُلَّ ما في الجنة ولم يحرم عليه إلا هذه الشجرة التي أوضحها وبيَّنها له. كما نلحظ قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبَا..} [البقرة: 35] ولم يقُلْ: لا تأكلا؛ لأن القرب من الشيء قد يُغرِي بمزاولته، فاحتطْ أنت لنفسك بعدم القرب منه.
    وهذا التدريب لآدم فيه إشارة رمزية لكل تكليف من الله لخَلْقه في(افعل) و(لا تفعل).
    ثم يذكِّر الحق سبحانه آدم بالمقدمة العدائية التي حدثتْ بينه وبين إبليس، وينصحه بأنْ يحذر هذا العدو؛ لأنه أبى أنْ يسجد له لما أمره الله بالسجود استكباراً وعُتواً.
    والله حين يأمر بالسجود لآدم إنما يريد السجود للأمر والانصياع له، لا السجود لآدم في ذاته؛ لذلك نجد الأمر من الله تعالى يختلف باختلاف المأمورين، فمرة ينهي عن شيء ويأمر بمثله ليرى مدى انضباطك للأمر وللنهي.
    ففي الحج مثلاً، يأمرك أنْ تُقبِّل حجراً، وأنْ ترمي حجراً آخر وترجمه، وهذا حجر وذاك حجر، إذن: فالحجرية غير منظورة، لكن المنظور فيه إلى الأمر أو النهي.
    وبصرف النظر عن المصلحة أو الحكمة من الأمر أو النهي، فمثلاً حينما يتعذر الماء يشرع التيمم بدلاً من الوضوء،
    فيأتي مَنْ يقول: الوضوء للنظافة، فما النظافة في التيمم، وهو يُلوِّث الجسم؟

    ونقول: فَرْق بين النظافة والتطهير، والمراد من التيمم التطهير بشيء هو أصل في مادتك وتكوينك، فالمسألة انضباط في طاعة الأمر بأن تفعل شيئاً تجعله مقدمة لصلاتك، كأنك لا تُقبل على الصلاة إلا بتهيئة، وأيضاً لأن الصلاة بها قِوامَ روحك وحياتك، وحياتك في الأصل ومادتك من الماء الذي تستخدمه في الوضوء والتراب الذي تستخدمه التيمم.
    إذن: لهاتين المادتين رمزية يجب أن تُلحظ في الدخول على الله في الصلاة، ولا يليق بالمؤمن أنْ يُفلسف أمور العبادات ويبحث عن عِلّتها والحكمة أو المصلحة من أدائها، إنما يكفي أن يقول: عِلَّة هذا الأمر أن الله أمر به أنْ يفعل، وعلة هذا الحكم أن الله أمر به ألاَّ يُفعل.
    لذلك ورد عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال:
    لو كانت المسألة بالعقل لكان أسفل الخُفِّ أوْلَى بالمسح من أعلاه، إذن: المسألة طاعة والتزام للأمر وللنهي؛ لذلك من غير المناسب أن نقول: إن من حكمة الصوم: أنْ يَشعر الغني بألم الجوع، فيعطف على الفقير؛ لأنني سأقول لك إذن: لماذا يصوم الفقير؟

     

    ولتوضيح هذه المسألة ضربنا مثلاً وما زْلنا نكرره. قلنا: إن أعز شيء على المرء صحته، فإنْ أصابته علة، فأول ما يُعمِل عقله يبحث عن الطبيب المتخصص في مرضه فيذهب إليه، ثم يسلم له نفسه ليفحصه، ثم يكتب له الدواء فيأخذه ويتناوله دون أنْ يسأل عن عِلَّته، أو لماذا وصفه الطبيب، لماذا؟
    لأن الطبيب مؤتمن بعد أنْ تعلَّم ودرس وتخصَّص، فأنت لا تسأله ولا تناقشه: لماذا كتب لك هذا الدواء، وهو مع ذلك إنسان وعُرْضة للخطأ وللسهو وللنسيان، ومع ذلك لا يناقش. إذن: علة تناول الدواء أن الطبيب وصفه لي، وعلة كل أمر عند الآمر به.
    والآمر في العبادات هو الحق سبحانه وتعالى فلا يليق بالمؤمن بعد أن آمن بالله وبحكمته وقدرته أنْ يبحث ليعلم الحكمة من كل أمر يأتيه من ربه عز وجل.
    نعود إلى آدم- عليه السلام- وأن الجنة التي دخلها كانت للتدريب والتجربة ولم تكُنْ جنة الخلد، تدرَّب فيها آدم على: كل(افعل) وعلى: لا تقرب(لا تفعل) واحذر الشيطان فإنه عدو لك، وسوف يوسوس لك، ويغويك؛ لأنه لا يريد أنْ يكونَ عاصياً وحده، يريد أنْ يجرَّك معه إلى حمأة المعصية.
    وظل آدم وزوجته يأكلان كما قال تعالى من الجنة رغداً حيث شاءا، دون أنْ يقربا هذه الشجرة التي بيَّنها الله لهما إلى أنْ وسوس لهما الشيطان وأغراهما بالأكل منها، مع أن الله تعالى حذَّرهما، وأعطاهما حقنة مناعة ضد الشيطان ووسوسته، ومع ذلك حدثتْ من آدم الغفلة.
    وهذه الغفلة الله يُنبِّه بها ذرية آدم من بعده: أن الشيطان لن يدعكم، وسوف يدخل عليكم بألاعيبه وحيله، كما دخل على أبيكم آدم، فكونوا منه على حذر، وابحثوا بعقولكم ما يلقيه إليكم من وساوس بالله.
    ماذا قال إبليس لآدم حين أغواه بالأكل من الشجرة؟ قال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20].
    أليس من المنطق أن نقول: ولماذا لم تأكل أنت منها يا إبليس فتصير مَلَكاً، وتصير من الخالدين، ولا تتمحك فتقول: {فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36] إذن: كان على آدم أنْ ينتبه إلى مكايد الشيطان وألاعيبه.
    ثم يُنبِّهنا سبحانه وتعالى من خلال هذه القصة إلى أن الشيطان سيأتينا في مقام الطاعة، فلو أن آدم وزوجه ذهبا إلى هذه ذهبا إلى هذه الشجرة وأكلا منها ما وسوس لهما، فهذا دليل على أنهما احتاطا للأمر، فلم يقربا من الشجرة تنفيذاً لأمر الله؛ لذلك تدخَّل الشيطان.

     

    إذن: نقول إن الشيطان لا يتدخل إلاّ في مجال الطاعة، أما المعصية فصاحبها كفاه مؤنة الوسوسة، الشيطان يذهب إلى المسجد لا يذهب إلى الخمارة؛ لأن الذي يذهب إلى الخمارة صار شيطاناً في ذاته، فما حاجته لإبليس؟
    لذلك يقول تعالى حكاية عن إبليس: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] أي: في مواضع الخير وطرق الصلاح والهداية لأبطل أعمالهم، وأفسد عليهم أمرهم، ونحن نلحظ ذلك في صلاتنا مثلاً، فقد تنسى شيئاً، وتحاول أن تتذكره فلا تستطيع، وفجأة وأنت تصلى تتذكره.
    فلو أننا أخذنا(الروشتة) من خالقنا عز وجل وبمجرد أنْ ينزغنا الشيطان نقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لتنبّه الشيطان، وعلم أننا لسنا في غفلة، وأننا نكشف ألاعيبه، ونعرف حيله وصدق الله العظيم حين قال: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].
    وقد وصف الله الشيطان بأنه خنّاس، يعني: إذا ذُكِر الله خنس وتضاءل، فإنْ جاءك هذا الخاطر الشيطاني- حتى وإنْ كنتَ تقرأ القرآن- قُلْ بجرأة وقوة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ ليعلم أن ألاعيبه لا تخفي عليك فينصرف عنك، أما أن تخضع له فإنه يعطيك فقط طرف الخيط، ويفتح لك باباً يشغلك به، ثم يتركك أنت(تكُرُّ) هذا الخيط من نفسك، ويذهب هو(يستغفل) واحداً غيرك.

     

    والشيطان رغم عِلْمه، إلا أن فيه تغفيلاً بدليل أنه أعلن عن خطته، وأظهر لنا مكايده قبل أنْ يكيدنا بها، فقال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] وقال {لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ..} [الأعراف: 17]، فالذي يدبر المكايد ويتآمر على غيره لا يعلن عن مكايده مُقدماً، ونحن أيضاً كان علينا أنْ نحذر هذه المكايد خاصة، وقد أعلن عدونا عنها.
    ولك أنْ تلحظ في خطة إبليس أنه يأتيك من جهاتك الربع، ومعلوم أن الجهات ست، فلماذا لم يذكر فوقنا وتحتنا؟ قالوا: لأن هاتين الجهتين محلُّ نظر إلى الله عز وجل، فالعبد ينظر إلى عِزِّ الربوبية في عليائه وذُلِّ العبودية إذا اتجه في سجوده إلى أسفل.
    إذن: فأنت في معية ربك في هاتين الجهتين، والشيطان لا ينال منك إلا وأنت بعيد عن معية ربك. ومثَّلْنا لذلك، ولله المثل الأعلى؛ قلنا: إن الغلام إذا كان يسير في يد أبيه وفي صحبته، لا يجرؤ أحد من أمثاله على الاعتداء عليه، إنما إنْ سار وحده فهو عُرْضة للإيذاء.
    وهذا دليل على علم إبليس وعلى ذكائه، ونلحظ هذا أيضاً في قوله: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82-83] كأنه يقول لربه: أنا لا أقترب من عبادك الذين هم في حضانتك، وفي معيتك.
    والتغفيل الأكبر في إبليس أنه مع علمه بمقام ربه يتمرد على أمره، حين يأمره بالسجود فلا يسجد.
    إذن: نبَّه الله تعالى آدم وحذره من كيْد إبليس، وكان عليه أنْ يحذر وألاَّ تدخل عليه حيلة الأكل من الشجرة إلا أنه في غفلة منه عن أمر ربه أكل من الشجرة، فلما خالف الأمر اختلفتْ طبيعته، وبدَتْ له ولزوجه السَّوْءة، وكانت المرة الأولى التي يشعر فيها آدم بعورته عند خروج الغائط.

     

    لكن، ما الفرق بين فتحة دخول الطعام(الفم) وفتحة خروجه؟ ولماذا أصبحت هذه عورة، وهذه غير عورة؟
    قالوا: لأن آدم حال طاعته لأمر ربه في الأكل من ثمار الجنة كان يأكل بطهي ربه، وهو طهي بحكمة وبقدر معلوم، يكفي مقومات الحياة ولا يزيد عنها، لذلك لم يَبْق في بطن آدم فضلات، ولم توجد عنده غازات أو أرياح، فلم يشعر في هذه الحالة بحاجة إلى التغوط، فكانت الفتحتان متساويتين، هذه فتحة، وهذه فتحة.
    فلما خالف آدم ربه وذاق الشجرة اختلفتْ الأغذية في بطنه، وحدث لها تفاعلات، ونتج عنها فضلات وأرياح، ولما أحسَّ بها آدم نفر منها وأصابه الخجل، وشعر أنها عورة ينبغي أنْ تُستر، فالطبع السليم لابد أنْ ينفر منها؛ لذلك أخذ يزيل هذا الأذى عن نفسه، ويستره بأوراق الشجر، ومنذ ذلك الحين لم يستطع آدم أن يسدَّ هذه الفتحة، ولن تُسدَّ.
    إذن: الحق سبحانه جعل الدُّرْبة لآدم في الجنة هذه، وهيَّأ له فيها طعامه، ونهاه عن نوع بعينه، فأمره ونهاه وعلَّمه وحذَّره، فلما وقع في المخالفة وأغواه الشيطان، ولم يعمل بنصيحة ربه أخرجه إلى الأرض بهذه التجربة، لتكون رمزاً له ولذريته من بعده: إنْ سِرْتَ على منهجي ووِفْق أوامري في(فعل) و(لا تفعل) فلن تجد عورة في الكون كله، ونحن نرى ذلك فعلاً في حركة حياتنا في الكون، فلا نرى عورة في المجتمع ولا خللاً إلا إذا خُولِفَتْ أوامر الله.
    هذا هو الإتيان الأول، بعد ذلك قدَّر الله غفلة البشر، فأرسل إليهم الرسل بالمنهج، فكان إتيان آخر، كما قال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [النساء: 163] وقال في عيسى عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} [الحديد: 27].
    وهذا الإيتاء من الله يتم في خفاء؛ لذلك يُسمونه وحياً، وهو من الغيبيات، فالله تعالى لا يمدُّ يده فيعطي النبي أو الرسول شيئاً حسِّياً، ومن هنا ارتبط الإيمان بالغيبيات دون المحسَّات، فأنا لا أقول مثلاً: آمنتُ بأنني قاعد في مسجد الشيخ سليمان وأمامي جَمْع من الإخوة.. إلخ. إذن: لابد أنْ يكون الإيمان بأمر غيبي.

     

    الحق سبحانه وتعالى يُؤتِى على توالي العصور أنبياءه معجزات، ويؤتيهم منهجاً يسوس حركة الحياة، ولا يقتصر إيتاء الله على الرسل، إنما يؤتى غير الرسل، ويؤتى الحيوان.. إلخ.
    ثم يعطينا الحق سبحانه نموذجاً للحكمة التي آتاها لقمان: {
    أَنِ اشكر للَّهِ..} [لقمان: 12] هذه هي الحكمة الأولى في الوجود؛ لأنك إنْ شكرتَ الله على ما قدَّم لك قبل أنْ توجد، وعلى ما أعطاك قبل تسأل، وعلى ما هدى جوارحك لتؤدي مهمتها حتى وأنت نائم، كأنه تعالى يقول لعباده: ناموا أنتم فربكم لا تأخذه سنة ولا نوم.
    فإن شكرك لله يهدم أول لبنة من لبنات الاغترار، فالذي يفسد خلافة الإنسان في الأرض أنْ يغترَّ بما أعطاه الله وبما وهبه، وينسى أنه خليفة، ويعتبر نفسه أصيلاً في الكون، والشكر لله تعالى يكون على ما قدَّم لك من نعم.
    ومن ذلك قوله تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] أي: تشكر الله على ما سبق، فقد وُلدتَ لا تعلم شيئاً، ثم تكونت عندك آلات الإدراك والعلم، فعلمتَ وملأت قلبك بالمعاني الجميلة؛ لذلك تشكر الله عليها، فجَعْل هذه الآلات لك، عِلَّته أنْ تشكر أي: على ما مضى.
    ثم هناك شكر آخر، لا على ما فات، لكن شكر هو في ذاته نعمة جديدة، وتأمل في ذلك قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ..} [الروم: 46] هذه كلها نِعَم يعطف عليها بقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46].
    فعطف الشكر على النعم السابقة يعني أنه في ذاته نعمة، وإلا لقال كما في الآية السابقة {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
    والشكر بهذا المعنى هو المراد في قوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ..} [إبراهيم: 7] فهذا شكر لما سبق، وهذا شكر لما هو آتٍ.
    والشكر في قوله تعالى: {أَنِ اشكر للَّهِ..} [لقمان: 12] مُوجه إلى الله تعالى، فكيف إذا توجه الشكر في أسباب تناوله إلى غير الله، كأنْ تشكر صاحبك الذي قدم لك معروفاً مثلاً؟ قالوا: لو تأملتَ شكر غير الله ممن قدَّم لك معروفاً يستوجب الشكر لوجدته يؤول إلى شكر الله في النهاية.
    لذلك قالوا: لا تشكر الله إلا حين تشكر مَنْ ساق لك الجميل على يديه، يعني: جعله سبباً في قضاء حاجتك، ثم إن الذي قدَّم لك جميلاً، ما قدّمه لك وما آثرك على نفسه إلا لأن الله أمره بذلك، ودعاه إليه. وأثابه على فعله، فإذا سلسلتَ الشكر لانتهى إلى شكر الله تعالى.

     

    ثم يقول سبحانه: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12] علمنا أن الشكر لله هو أول الحكمة، فلماذا؟ لأن مَنْ يشكر تعود إليه ثمرة شكره.
    وإياك أن تظن أن من مقومات قيومية ربك أنْ تشكره، فشكْرك وعدمه سواء بالنسبة لله تعالى، كيف وقد وسِع سبحانه الكافر الذي كفر به، ولم يقطع عنه نعمه؛ ذلك لأنه سبحانه غني عن خَلْقه {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12] لأنه سبحانه يعرف أنه رب، حتى للكافر الجاحد.
    ونلاحظ في الأسلوب هنا عظمة وروعة، ففي الشكر قال سبحانه: {وَمَن يَشْكُرْ..} [لقمان: 12] أما في الكفر فقال: {وَمَن كَفَرَ..} [لقمان: 12] ولم يقل: ومَنْ يكفر، وفَرْق بين الأسلوبين، والكلام هنا كلام ربٍّ، ففي الشكر جاء بالفعل المضارع {يَشْكُرْ...} [لقمان: 12] الدال على الحال والاستقبال، فالشكر متجدد ودائم على خلاف الكفر.
    وكأنه سبحانه وتعالى لا يريد من عبده الدوام على كفره، فلعله يتوب ويرجع إلى ساحة الإيمان، فجاء بالفعل الماضي {كَفَر..} [لقمان: 12] أي: في الماضي فحسب، وقد لا يعود في المستقبل، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم.

     

    ومعنى {حَمِيدٌ} [لقمان: 12] من صيغ المبالغة على وزن (فعيل) وتأتي مرة بمعنى (فاعل) مثل رحيم، ومرة بمعنى (مفعول) مثل قتيل أي: مقتول، والمعنى هنا {حَمِيدٌ} [لقمان: 12] أي: محمود وجاءت هذه الصفة بعد {غَنِيٌّ} [لقمان: 12] لأن الكافر لو كان يعلم أن الله لم يقطع عنه نعمه رغم كفره به لحمد هذا الإله الذي حلم عليه، ولم يعامله بالمثل.

     

    نداء الايمان


  19. الأذكار الواردة بعد السلام من الصلاة

     

    1- أستغفر الله ثلاثًا؛ رواه مسلم وغيره.

    كما في صحيح مسلم عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاتِهِ، اسْتَغْفَرَ ثَلاثًا، وَقَالَ: اللهُمَّ، أَنْتَ السَّلامُ، وَمِنْكَ السَّلامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ.

     

    2- اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام؛ رواه مسلم وغيره.

     

    3- لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ (متفق عليه)، مرة بعد كل صلاة، وعشر مرات بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب.

    في الحديث: من قال قبل أن ينصرف ويثني رجليه من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب الله له بكل واحدة عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، وكانت له حرزا من كل مكروه وحرزا من الشيطان الرجيم، ولم يحل لذنب أن يدركه إلا الشرك، وكان من أفضل الناس عملا؛ إلا رجلا يفضله بقوله أفضل مما قال. رواه أحمد وقال الهيثمي والمنذري: رجاله رجال الصحيح غير شهر بن حوشب. وقال الألباني: حسن لغيره.

    وقد بوب ابن السني والمنذري والهيثمي على الإتيان بهذا الذكر بعد الصلاة وذكروا هذا الحديث في ذلك.

     

    4- لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ رواه مسلم.

     

    5- لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون؛ رواه مسلم.

     

    6- اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد؛ متفق عليه.

     

    7- اللهم أعنِّي على ذِكرك وشكرك وحسن عبادتك؛ رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.

     

    8- ربِّ أجرني من النار، سبع مرات بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب فقط؛ رواه أبو داود بإسناد حسن.

     

    9- سبحان الله والحمد لله والله أكبر، ثلاثًا وثلاثين مرة، ثم يقول: لا إله إلا الله... إلخ؛ رواه مسلم.

     

    10- قراءة آية الكرسي: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255]؛ رواه النسائي.

     

    11- قراءة: ﴿ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مرة بعد كل صلاة، وثلاث مرات بعد صلاة الفجر وصلاة العصر؛ رواه أهل السنن الأربعة.

     

    وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

     

    أخي المسلم، حافظْ على هذه الأذكار بعد كل صلاة؛ ليحفظك الله بها، وفَّقك الله لكل خير، وحفظك من كل سوء، وجعلك مباركًا أينما كنت، وأعانك على ذِكره وشكره وحسن عبادته.

     
     

  20. تفسير الشيخ الشعراوي

    سورة لقمان11-10

     

    خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
    ١٠-لقمان

    أولاً: ذكر الحق سبحانه آية كونية لم يدَّعها أحد لنفسه من الكفار أو من الملاحدة، وهي آية موجودة ومُشَاهدة، وبعد أن قال سبحانه أنا خالق السماء والأرض لم يعارضه أحد، ولم يأْتِ مَنْ يعارضه فيقول: بل أنا خالق السماء والأرض.
    وسبق أنْ قلنا: إن القضية تسلم لصاحبها ومدعيها إذا لم يَقُمْ لها معارض، فإن كانت هذه القضية صحيحة، والحق سبحانه هو الخالق فقد انتهتْ المسألة، وإذا كان هناك خالق غيره سبحانه فأين هو؟ هل درى أن واحداً آخر أخذ منه الخَلْق، ولماذا لم يعارض ويدافع عن حقِّه؟ أو أنه لم يَدْرِ بشيء فهو إله (نائم على ودنه)، وفي كلا الحالين لا يصلح أن يكون إلهاً يُعبد.
    لذلك قال تعالى: { { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران: 18]، فهذه شهادة الذات للذات، ولم يعارضها معارض فصَحَّتْ لصاحبها إلى أنْ يوجد معارض.

     

    وسبق أن مثَّلنا لذلك - ولله المثل الأعلى - بجماعة جلسوا في مجلس فلما انفضَّ مجلسهم وجد صاحب البيت حافظة نقود لا يعرف صاحبها، فاتصل بمن كانوا في مجلسه، وسألهم عنها فلم يقُلْ واحد منهم أنها له، إلى أن طرق الباب أحدهم وقال: واللهِ لقد نسيت حافظة نقودي هنا، فلا شكَّ إذن أنها له وهو صاحبها حيث لم يدَّعها واحد آخر منهم.
    والحق سبحانه يقول في إثبات هذه القضية: { { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [الإسراء: 42] أي: لذهبوا يبحون عمَّنْ أخذ منهم الخَلْق والناس، وأخذ منهم الألوهية.
    فإنْ قالوا نحن آلهة لكن فوقنا إله أكبر يردُّ الحق عليهم: { { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 51].

     

    وقوله تعالى: { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [لقمان: 10] حين تدور في أنحاء الكرة الأرضية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها تجد السماء تظلّك، ومع سعة السماء لا تجد لها عمداً ترفعها، وكلمة { تَرَوْنَهَا } [لقمان: 10] تحمل معنيين: إما هي فعلاً بغير عمد، أو لها عمد لكن لا نراها { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [لقمان: 10] يعني: لا نرى لها عمداً، لكن الحقيقة أن لها عمداً لا ترونها بإحساسكم ومقاييسكم.
    فإنْ قلت، فما هذه العمد التي لا نراها؟ البعض يقول: هي الجاذبية، وهذا القول مجانب للصواب، والحق سبحانه يكفينا مؤنة البحث في هذه المسألة، فيقول سبحانه: { { .. وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [الحج: 65].
    إذن: لا نملك إلا أنْ نقول إنها ممسوكة بقدرة الله، ولكي لا نحار في كيفية ذلك يُقرِّب الله لنا هذه المسألة بمثال مُشاهد لنا، فالطير يمسكه الله في جو السماء: { { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ .. } [النحل: 79].

    وفي موضوع آخر يقول الحق سبحانه: { { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ } [فاطر: 41] إذن: فهو سبحانه يمسكها بقانون، لكن لا نعرفه نحن ولا ندركه.
     

    والسماء في اللغة: كل مَا علاك فأظلّك، فالغيم الذي يعلوك وتراه قريباً منك يُعد من السماء بدليل قول الله تعالى: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } [لقمان: 10] والماء ينزل من الغيم، لا من السماوات العلا، والفرق بينهما أن الغيم تراه في مكان دون آخر، وتراه مُتقطعاً منفطراً، أمَّا السماء العليا فهي بشكل واحد، لا ترى فيها من فطور.
    وحين تكلم الحق سبحانه عن الأرض والسماء قال: إنها سبع سماوات، ولم يقُلْ سبع أراضين، بل { { وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [الطلاق: 12] فدلَّ على أن الأرض سبع كالسماء، وإنْ كانت السماء كل ما أظلّك، فالأرض كل ما أقلَّك، لكن أين هذه الأرَضين السبع؟
    لقد أخبرنا القرآن الكريم أن السماوات سبع، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه مرَّ بها في مرحلة المعراج فقال في الأولى كذا وكذا، وفي الثانية كذا وكذا، وما دامتْ السماء كل ما أظلك، والأرض كل ما أقلك فالخَلْق في السماء الأولى مثلاً سماؤهم السماء الثانية، وأرضهم سماؤنا الأولى، وهكذا وهكذا.

     

    ثم يقول سبحانه: { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ } [لقمان: 10] أي: الجبال الراسية الثابتة المتصلة بالأرض اتصالاً وثيقاً بحيث لا تتخلخل منها، والعلة في خَلْق الجبال الرواسي على الأرض { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [لقمان: 10] أي: تميل وتضطرب بكم، ولو أن الأرض مخلوقة على هيئة الثبات لما احتاجت إلى ما يثبتها.
    إذن: فالأرض متحركة، وما خُلِقت الجبال إلا لتثبيتها وضبط حركتها، فدَّلت هذه الآية على صِدْق النظرية القائلة بدوران الأرض، كذلك في قوله تعالى: { { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [النمل: 88].
    إذن: فللجبال حركة مرتبطة بحركة الأرض، فإنْ قُلْتَ: ولماذا لا نراها؟ نقول: لأن وحدة المكان تجعلك لا تدرك هذه الحركة، فالمتحد في مكان لا تختلف مرائي الأشياء بالنسبة له.

     

    فلو تصوَّرنا أن هذا المسجد الذي يجمعنا صُمِّم على هيئة رَحَىً تدور بنا، فهل نشعر بدورانه ونحن ندور بدورانه؟ لا نشعر، لماذا؟ لأن مواقعنا من بعض ثابتة لا تتغير، كذلك موقعنا من المكان؛ لذلك لا نشعر بالحركة لكن نشعر بالحركة حين نقيس متحركاً بثابت، فلو فتحنا الباب مثلاً أو الشباك ورأينا ما هو خارج المسجد، عندها نشعر أننا نتحرك.
    إذن: لا يمكن لمَنْ على الأرض أن يشعر بحركتها؛ لأنه يتحرك معها، وما دامت الجبال أوتاداً في الأرض وهي - أي الجبال - تمر مرَّ السحاب فلا بُدَّ أن الأرض كذلك تمر وتتحرك بنفس الحركة، وحركة الجبال ليست ذاتية، إنما هي تابعة لحركة الأرض، والحق سبحانه شبَّه حركة الجبال بحركة السحاب، والسحاب حركته غير ذاتية، إنما هي تابعة لحركة الرياح.

     

    ثم يذكر الحق سبحانه علة أخرى لخَلْق الجبال: { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [لقمان: 10] وسبق أنْ أوضحنا أن الجبال تمثل مخازن للقوت الذي به قوام الحياة للإنسان وللحيوان والذي ينشأ من الزرع، وبيَّنا أن الطبقة الخارجية للجبال تتفتتْ بعوامل التعرية، ثم يحملها ماء المطر إلى الوديان فتزيد من خصوبة الأرض بمقدار كل عام، ومن الجبال أيضاً يتكون الماء في الأنهار او في مسارب الأرض فنخرجه حين الحاجة إليه.
    ومن حكمته تعالى أنْ جعل الجبال راسية ثابتة، وجعلها صلدة وإلا لو كانت هشّة لأذابتها الأمطار وفتتها في عدة سنوات، ثم حرمت الأرض من الخصوبة التي تستمدها من الجبال؛ لذلك يقول الله تعالى: { { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر: 21] فمع زيادة السكان تزداد المساحة الخِصْبة التي يُكوِّنها الغِرْين الذي يتفتت من الجبال عاماً بعد عام.
    واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى: { { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا .. } [فصلت: 9-10].
    فالجبال جعلها الله راسية حتى لا تضطرب بنا الأرض، وجعلها صلبة لأنها مخزن الخِصْب الذي يُمِدُّنا بالزرع الذي به قِوَام حياتنا.
    ومن رحمة الله بالإنسان أنْ جعل فيه ذاتية استبقاء الحياة، فإن مُنِع عنه الطعام أو الشراب تغذَّى من المخزون في جسمه؛ فيأخذ أولاً من الدهن، ثم من اللحم، ثم من العظم؛ لذلك قلنا: إن العظم هو آخر مخازن القوت في جسم الإنسان، وفي ضوء ذلك نفهم قول سيدنا زكريا: { { إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } [مريم: 4].
    يعني: قد بلغتُ آخر مرحلة من مراحل استبقاء الحياة.
    فكان من رحمة الله بالخَلْق أنْ جعل حتى شَرَه الإنسان للطعام والشراب رحمة به، حيث يتحول الزائد عن طاقته وحاجته إلى مخزون في جسمه، فإذا انقطعتْ به السُّبُل أو تعذَّر عليه الطعام والشراب استمد مما في جسمه.
    كذلك من رحمة الله بالإنسان أنْ جعله يصبر على الطعام إلى شهر، ويصبر على الماء من ثلاثة أيام إلى عشرة بحسب ما في جسمه من مخزون الطعام والشراب، أما الهواء فلا يصبر عليه إلا بمقدار شهيق وزفير؛ لذلك تتجلى رحمته تعالى وحكمته في خَلْقه بألاَّ يُملِّك الهواء لأحد، فلو مَلكه عدوك لمتّ قبل أن يرضى عنك.

     

    وقوله: { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [لقمان: 10] بث أي: نشر، والدابة: كل ما له دبيب على الأرض، والدبيب بحسب ما يدبّ على الأرض، وكل ما يمشي على الأرض له دبيب نسمعه في الحيوان الضخم مثلاً، لكن لا نسمعه في النملة مثلاً، فهي أيضاً لها دبيب بدليل قولنا: فلان يسمع دبّة النملة، إذن: لها دبيب على الأرض، لكن أذن مَنْ التي تستطيع أنْ تسمعه؟
    وقوله تعالى: { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [لقمان: 10] كل تعني سوراً كلياً يضم كل ما له حركة ودبيب على الأرض، يعني: كل ما يقال له دابة بداية من النملة أو الفيروسات الآن إلى أكبر حيوان على الأرض. وقوله (من) تتدرج من الصغير إلى الكبير فتدلُّ على الشمول.
    ومن هذه الدواب ما أحله الله ومنها ما حرمه؛ لذلك يقول البعض: ما دام الله حرَّم هذه الحيوانات، فما الضرورة في خَلْقها؟ وهل كل شيء مخلوق يُؤكل؟
    لا، ليس كل مخلوق من الحيوانات يؤكل؛ لأن له مهمة أخرى يؤديها.
    ولو تأملت ما حُرِّم عليك لوجدته يخدمك في ناحية أخرى، فمنه ما يمد الحيوانات التي تأكلها، ومنه ما فيه خاصية تحتاج إليها في غير الأكل، فالثعبان مثلاً لا نرى فيه إلا أنه مخلوق ضار، لكن ألم نحتَجْ إلى سُمِّه الآن، ونجعله مَصْلاً نافعاً؟ ألسنا ننتفع بجلوده؟ الخ، فإذا كنا لا نأكله فنحن نستفيد من وجوده في نواحٍ أخرى.

     

    كذلك الخنزير مثلاً: البعض يقول: ما دام الله تعالى حرمه، فلماذا خلقه؟ سبحان الله، هل خلق الله كل شيء لتأكله أنت؟ ليس بالضرورة أنْ تأكل كل شيء، لأن الله جعل لك طعامك الذي يناسبك، أتأكل مثلاً البترول؟ كيف ونحن نرى حتى السيارات والقطارات والطائرات لكل منها وقوده المناسب له، فالسيارة التي تعمل بالبنزين مثلاً لا تعمل بالسولار .. الخ، فربك أعطاك قُوتَك كما أعطى لغيرك من المخلوقات أقواتها.
    لذلك؛ إذا نظرت في غابة لم تمتد إليها يد الإنسان تجد فيها جميع الحيوانات والطيور والدواب والحشرات .. الخ دون أنْ تجد فيها رائحة كريهة أو منظراً مُنفِّراً، لماذا؟
    لأن الحيوانات يحدث بينها وبين بعضها توازن بيئي، فالضعيف منها والمريض طعام للقوي، والخارج من حيوان طعام لحيوان آخر .. وهكذا، فهي محكومة بالغريزة لا بالعقل والاختيار.
    وكل شيء لا دَخْلَ للإنسان فيه يسير على أدقِّ نظام فلا تجد فيه فساداً أبداً إلا إذا طالتْه يد البشر، ولك أنْ تذهب إلى إحدى الحدائق أو المتنزهات في شم النسيم مثلاً لترى ما تتركه يد الإنسان في الطبيعة.
    لكن، لماذا وُصِف الإنسان بهذا الوصف؟ ولماذا قُرِن وجوده بالفساد؟ نقول: لأَنه يتناول الأشياء بغير قانون خالقها، ولو تناول الأشياء بقانون الخالق عز وجل ما أحدث في الطبيعة هذا الفساد.

     

    وسبق أنْ بيَّنا أن الإنسان لا قدرةَ له على شيء من مخلوقات الله إلا إذا ذلَّلها الله له ويسِّرها لخدمته، بدليل أن الولد الصغير يركب الفيل ويسحب الجمل ويُنيخه ويحمله الأثقال في حين لا قدرةَ لأحدنا على ثعبان صغير، أو حتى برغوث، لماذا؟ لأن الله تعالى ذلَّلَ لنا هذا، ولم يُذلِّل لنا هذا.
     

    ثم يقول تعالى: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [لقمان: 10] من السماء: أي من جهة العلو ومن ناحية السماء، وإلا فالمطر لا ينزل من السماء، إنما من الغمام { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا .. } [لقمان: 10] أي: في الأرض: { مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [لقمان: 10] زوج أي: نوع من النبات، فهي كلمة تدل على مفرد، لكن معه مثله، والبعض يظن أنها تعني اثنين وهذا خطأ؛ لذلك نقول عن الرجل زوج، وعن المرأة زوج رغم أنه مفرد، لكن قُرِن بغيره.
    وقال تعالى عن التكاثر: { { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ .. } [الذاريات: 49] فَسمّي الذكر (زوج) وسمّي الأنثى (زوج).
    ومثلها كلمة (توأم) فهي تدل على مفرد، لكن مفرد لم يُولَد وحده إنما معه غيره، والبعض يقول (توأم) ويقصد الاثنين، إنما الصواب أن نقول هما توأمان.
    ووصف الحق سبحانه الزوج أي النوع من النبات بأنه { كَرِيمٍ } [لقمان: 10] لأنه يعطيك بكرم وسخاء، فالحبة تعطيك سبعمائة حبة، وهذا عطاء المخلوق لله، فما بالك بعطاء الخالق عز وجل؟

    ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
     

    هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ ٱلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
    ١١
    -لقمان

    والكلام هنا مُوجَّه للمكابرين وللمعاندين الجاحدين لآيات الله: { هَـٰذَا .. } [لقمان: 11] أي: ما سبق ذِكْره لكم من خَلْق السماوات بغير عمد، ومن خَلَق الجبال الرواسي والدواب وإنزال المطر وإحياء النبات .. الخ.
    هذا كله { خَلْقُ ٱللَّهِ .. } [لقمان: 11] فلم يدَّعهِ أحد لنفسه، وليس لله فيه شريك { فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذيِنَ مِن دُونه .. } [لقمان: 11] أي: الذين اتخذتموهم شركاء مع الله، ماذا خلقوا؟
    وليس لهذا السؤال إجابة عندهم، حيث لا واقع له يستدلون به، ولا حتى بالمكابرة؛ لأن الحق أبلج والباطل لجلج، لذلك لم نسمع لهم صوتاً ولم يجرؤ واحد منهم مثلاً على أن يقول آلهتنا خلقت الجبال مثلاً أو الشمس أو القمر، فلم يستطيعوا الردّ رغم كفرهم وعنادهم.

     

    والحق سبحانه في الرد عليهم يبين لهم أن المسألة لا تقف عند عدم قدرتهم على الخَلْق، إنما لا يعرفون كيف خُلُقوا هم أنفسهم: { { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 11].
    وفي قول الله { { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 51] دليل على صِدْق القرآن ومظهر من مظاهر إعجازه، فقد أخبرنا الحق سبحانه أنه سيُوجد مُضِلون يضلون الناس في مسألة الخَلْق، ويصرفونهم عن الحق بكلام باطل.
    وفعلاً صدق الله وسمعنا من هؤلاء المضلين مَنْ يقول: إن الأرض قطعة من الشمس انفصلتْ عنها، وسمعنا مَنْ يقول إن الإنسان في أصله قرد .. الخ، ولولا هذه الأقاويل وغيرها ما صدقت هذه الآية، ولجاء أعداء الإسلام يقولون لنا: أين المضلون الذين أخبر عنهم القرآن؟
    فكأن كل كلام يناقض { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ .. } [لقمان: 11] هو كلام مُضِل، وكأن هؤلاء المضلين - في غفلة منهم ودون قصد - يؤيدون كلام الله { { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 51].
    ونجد هذه المسألة أيضاً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يطلع علينا من حين لآخر مَنْ ينكر سنة رسول الله ويقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما كان فيه من حلال حللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه.
    وعندها نقول: سبحان الله، كأن الله تعالى أقامكم دليلاً على صِدْق رسوله، فقد أخبر الرسول عنكم، وعما تقولونه في حَقِّ سنته، حيث قال: "يوشك رجل يتكئ على أريكته، يُحدَّث بالحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه" .

     

    ومعنى: { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ .. } [لقمان: 11] أي: مخلوقاته { فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ .. } [لقمان: 11] ولن نطلب منك خَلْقاً كخَلْق السماء والأرض والجبال، ولا إنزال المطر وإحياء الأرض بالنبات، بل اخلقوا أقلّ شيء في الموجودات التي تروْنها، وليس هناك أقل من الذباب: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ .. } [الحج: 73] بل وأبلغ من ذلك { { وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [الحج: 73].
     

    ثم يختم الحق سبحانه الآية بقوله: { بَلِ ٱلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [لقمان: 11] أي: ضلال محيط بهم من كل اتجاه، والضلال المبين المحيط لا تُرْجى معه هداية، فلن يهتدي هؤلاء، وما عليك إلا أنْ تصبر على دعوتك يا محمد حتى يُبدلك الله خيراً من هؤلاء، ويكونون لك جنوداً يؤمنون بك، وينصرون دعوتك. وقد كان.

     

    نداء الايمان


  21. رمضان 1445

    ثمان خطوات للاستعداد لرمضان

     
    د. عمر بن عبد الله المقبل
     

    1 – الاجتهاد في إنهاء ما قد يَشغل في رمضان من الآن، ومن أكثر ما يشغل الناس: الاستعداد للعيد بملابسه وتَبِعاته، فبعضهم لا يفطن لذلك إلى وسط رمضان! وكأن يوم العيد يومٌ مفاجئ!

     

    2 – أن يتدرب الإنسان على بعض أعمال رمضان من الآن، كصيام ما تيسر من شعبان، وزيادة نصيبه من صلاة الليل، والزيادة على حزبه الذي اعتاده من القرآن ولو قليلاً.

     

    3 – تهيئة أهل البيت معك، والتنويه عليه في الجلسة الأسرية:
    - بتذكيرهم بقرب الشهر الكريم.
    - وتدريب من أطاق منهم على بعض ما سبق ذِكره وما سيأتي.

     

    4 – إذا وضعتَ مجموعةً من الأعمال في هذا الشهر فحاسب نفسك عليها يومياً؛ لتدرك أوجه الخلل، ومن أين أُتيت؟ فإذا دخل رمضان إذا بك قد تهيأت جيداً، وعرفت أوجه القصور.

     

    5 – ومن أهم الخطوات: التدرب على قراءة القرآن بقلب، لغرض إصلاحه، لا لمجرد التلاوة، فالقرآن يَعظم أثرُه على القلب إذا قُرئ بقلب، فإن قُرئ بلسان لم يَكد يتجاوز أثرُه اللسان! قال الحسن: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار". فتأمل كلمة "يتفقدونها"، ولو لم تستعد لرمضان إلا بهذا لكفى!

     

    6 – احرص على أن يكون لك خلوات خاصة، تنفرد فيها بذكر الله تعالى خالياً عن الناس والأجهزة والجوالات وكل ما يشغل؛ فلعل الله أن يهيئ لك قلباً يتلقى ذاك الشهر العظيم، ولعل الله أن يفتح عليه بدمعة؛ فتكون من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".

     

    7 – تقليل الخلطة بالناس إلا لحاجة: كوظيفة، وقضاء حوائج الأهل في الأسواق، وتخفيف الارتباط الذي لا مقصد منه إلا التسلية فحسب، وربما تضييع الوقت في غير فائدة! فإن الخلطة عموماً – بالتجربة والبرهان – إذا خرجت عن حد الحاجة أفسدت القلبَ وقسّتْه – كما هو معلوم في كل وقت – فكيف بمثل هذه الأزمان الفاضلة!

     

    8 – كثرةُ الدعاء والإلحاحُ على الله تعالى في أن يبارك له في وقته وعمره، وأن يبارك له في شعبان ورمضان، واللهُ تعالى كريم، لا يخيّب مَن وقف على بابه، وفعل ما بوسعه من الأسباب

     

    موقع المسلم

     


  22.  
     

    قوله تعالى: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101].

     

    هذه الآية خاتمة لقصة يوسف، وقد تضمنت مناجاة يوسف عليه السلام لربه، وتذللـه له، واعترافه بما أنعم به عليه، من الملك والعلم، وغاية هذه المناجاة سؤال حسن الخاتمة: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). وقد توسل إلى الله في هذه المناجاة لنيل غايته بأنواع من التوسل:

     

    1ـ الاعتراف بنعمه سبحانه: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ).

     

    2ـ والاعتراف بربوبيته العامة: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)،

     

    3ـ الاعتراف بولايته الخاصة: (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

     

    وخَتْمُ القصةِ بهذه المناجاة من بديع البيان ومن حسن الختام، فصلوات الله وسلامه على الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليه وعلى آبائه وسائر النبيين وعلى خاتمهم سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم أجمعين، هذا؛ ويحسن هنا ذكر ما جاء في الشرع من أنواع التوسل في الدعاء، وهي:

     

    التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته، (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، وشواهد هذا في السنة كثيرة، ومن ذلك ما تضمنه سيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).

     

    التوسل إلى الله بالافتقار إليه، والاعتراف له بإنعامه، والاعتراف بالتقصير، كما في سيد الاستغفار: (أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي).

     

    التوسل إلى الله بالإيمان والعمل الصالح، كما في قوله تعالى عن عباده الذاكرين: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) الآيتين، وكما في قصة الثلاثة أصحاب الغار.

     

    التوسل إلى الله بالفقر إليه في رزقه وكشف ضره، كما في قول موسى عليه السلام: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، وقول أيوب عليه السلام: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

     

    التوسل بدعاء من دعا من نبي وصالح، كما في قول عمر رضي الله عنه: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا ـ أي بدعائه ـ وإنا نتوسل إليك بعم نبينا ـ أي بدعائه ـ

    أملاه

     

    عبد الرحمن بن ناصر البراك

    المسلم


  23.  
     

    قوله تعالى: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101].

     

    هذه الآية خاتمة لقصة يوسف، وقد تضمنت مناجاة يوسف عليه السلام لربه، وتذللـه له، واعترافه بما أنعم به عليه، من الملك والعلم، وغاية هذه المناجاة سؤال حسن الخاتمة: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). وقد توسل إلى الله في هذه المناجاة لنيل غايته بأنواع من التوسل:

     

    1ـ الاعتراف بنعمه سبحانه: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ).

     

    2ـ والاعتراف بربوبيته العامة: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)،

     

    3ـ الاعتراف بولايته الخاصة: (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

     

    وخَتْمُ القصةِ بهذه المناجاة من بديع البيان ومن حسن الختام، فصلوات الله وسلامه على الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليه وعلى آبائه وسائر النبيين وعلى خاتمهم سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم أجمعين، هذا؛ ويحسن هنا ذكر ما جاء في الشرع من أنواع التوسل في الدعاء، وهي:

     

    التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته، (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، وشواهد هذا في السنة كثيرة، ومن ذلك ما تضمنه سيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).

     

    التوسل إلى الله بالافتقار إليه، والاعتراف له بإنعامه، والاعتراف بالتقصير، كما في سيد الاستغفار: (أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي).

     

    التوسل إلى الله بالإيمان والعمل الصالح، كما في قوله تعالى عن عباده الذاكرين: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) الآيتين، وكما في قصة الثلاثة أصحاب الغار.

     

    التوسل إلى الله بالفقر إليه في رزقه وكشف ضره، كما في قول موسى عليه السلام: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، وقول أيوب عليه السلام: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

     

    التوسل بدعاء من دعا من نبي وصالح، كما في قول عمر رضي الله عنه: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا ـ أي بدعائه ـ وإنا نتوسل إليك بعم نبينا ـ أي بدعائه ـ

    أملاه

     

    عبد الرحمن بن ناصر البراك

    المسلم


  24. القاعدة الرابعة: (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)

    الحمد لله، وبعد:
    فهذه مشكاة أخرى من موضوعنا الموسوم بـ: (قواعد قرآنية)، نقف فيها مع قاعدة من قواعد التعامل مع النفس، ووسيلة من وسائل علاجها لتنعم بالأنس، وهي مع هاتيك سلّمٌ لتترقى في مراقي التزكية، فإن الله تعالى قد أقسم أحد عشر قسماً في سورة الشمس على هذا المعنى العظيم، فقال: "قد أفلح من زكاها"، تلكم القاعدة هي قول الله تعالى: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}!

     

    والمعنى: أن الإنسان وإن حاول أن يجادل أو يماري عن أفعاله و أقواله التي يعلم من نفسه بطلانها أو خطأها، واعتذر عن أخطاء نفسه باعتذارات؛ فهو يعرف تماماً ما قاله وما فعله، ولو حاول أن يستر نفسه أمام الناس، أو يلقي الاعتذارات، فلا أحد أبصر ولا أعرف بما في نفسه من نفسه.

     

    وتأمل ـ أيها المبارك ـ كيف جاء التعبير بقوله: "بصيرة" دون غيرها من الألفاظ؛ لأن البصيرة متضمنة معنى الوضوح والحجة، كما يقال للإنسان: أنت حجة على نفسك! والله أعلم.

     

    إن لهذه القاعدة القرآنية مجالات كثيرة في واقعنا العام والخاص، فلعنا نقف مع شيء من هذه المجالات؛ علّنا أن نفيد منها في تقويم أخطائنا، وتصحيح ما ندّ من سلوكنا، و ما كَبَتْ به أقدامنا، أو اقترفته سواعدنا، فمن ذلك:

     

    1 ـ في طريقة تعامل بعض من الناس مع النصوص الشرعية!

    فلربما بلغ بعضَ الناس نصٌ واضح محكمٌ، لم يختلف العلماء في دلالته على إيجاب أو تحريم، أو تكون نفسه اطمأنت إلى حكمٍ ما، ومع هذا تجد البعض يقع في نفسه حرجٌ! ويحاول أن يجد مدفعاً لهذا النص أو ذاك لأنه لم يوافق هواه!
    يقول ابن القيم رحمه الله: "فسبحان الله! كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها؟ " اهـ(1).
    ولا ينفع الإنسان أن يحاول دفع النصوص بالصدر فالإنسان على نفسه بصيرة، وشأن المؤمن أن يكون كما قال ربنا تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

     

    يقول ابن الجوزي، في كتابه الماتع الذائع الرائع (صيد الخاطر) يقول رحمه الله ـ وهو يحكي مشاعر إنسان يعيش هذه الحال مع النصوص الشرعية ـ:
    "قدرتُ مرة على لذة ظاهرها التحريم، وتحتمل الإباحة، إذ الأمر فيها متردد، فجاهدت النفس فقالت: أنت ما تقدر فلهذا تترك! فقارِبِ المقدورَ عليه، فإذا تمكنتَ فتركتَ، كنت تاركاً حقيقة! ففعلتُ وتركتُ، ثم عاودت مرة أخرى في تأويل أرتني فيه نفسي الجواز ـ و إن كان الأمر يحتمل ـ فلما وافقتها أثّر ذلك ظلمه في قلبي؛ لخوفي أن يكون الأمر محرماً، فرأيت أنها تارةً تقوى عليّ بالترخص والتأويل، وتارةً أقوى عليها بالمجاهدة والامتناع، فإذا ترخصتُ لم آمن أن يكون ذلك الأمر محظوراً، ثم أرى عاجلاً تأثير ذلك الفعل في القلب، فلما لم آمن عليها بالتأويل،... إلى أن قال رحمه الله: فأجود الأشياء قطع أسباب الفتن، وترك الترخص فيما يجوز إذا كان حاملاً ومؤدياً إلى ما لا يجوز "(2) انتهى كلامه رحمه الله.

     

    2 ـ ومن مجالات تفعيل هذه القاعدة ـ في مجال التعامل مع النفس ـ:

    أ ـ أن مِنَ الناس مَنْ شُغف ـ عياذاً بالله ـ بتتبع أخطاء الناس وعيوبهم، مع غفلة عن عيوب نفسه، كما قال قتادة: ـ في تفسيره لهذه الآية ـ: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} قال: إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم، غافلاً عن ذنوبه(3)، وهذا ـ بلا ريب ـ من علامات الخذلان، كما قال بكر بن عبدالله المزني: إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس، ناسيا لعيبه، فاعلموا أنه قد مُكِرَ بِهِ.
    ويقول الشافعي:: بلغني أن عبدالملك بن مروان قال للحجاج بن يوسف: ما من أحد إلا وهو عارف بعيوب نفسه، فعب نفسك ولا تخبىء منها شيئاً(4)، ولهذا يقول أحد السلف: أنفع الصدق أن تقر لله بعيوب نفسك (5).


    ب ـ ومن مواضع تطبيق هذه القاعدة: أن ترى بعض الناس يجادل عن نفسه في بعض المواضع ـ التي تبين فيها خطؤه ـ بما يعلم في قرارة نفسه أنه غير مصيب، كما يقول ابن تيمية: في تعليقه على هذه الآية: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فإنه يعتذر عن نفسه بأعذار ويجادل عنها، وهو يبصرها بخلاف ذلك(6).

     

    ج ـ ومن دلالات هذه القاعدة الشريفة:

    أن يسعى المرء إلى التفتيش عن عيوبه، وأن يسعى في التخلص منها قدر الطاقة، فإن هذا نوع من جهاد النفس المحمود، وأن لا يركن الإنسان إلى ما فيه من عيوب أو أخطاء، بحجة أنه نشأ على هذا الخلق أو ذاك، أو اعتاد عليه، فإنه لا أحد من الناس لا أعلم منك بنفسك وعيوبها وأخطائها وذنوبها، وما تسره من أخلاق، أو تضمره من خفايا النوايا.

     

    وإليك هذا النموذج المشرق من حياة العلامة ابن حزم:، حيث يقول ـ في تقرير هذا المعنى ـ:
    "كانت فيَّ عيوب، فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين ـ في الأخلاق وفي آداب النفس ـ أعاني مداواتها، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها، ليتعظ بذلك متعظ يوماً إن شاء الله.
    ثم ساق الإمام ابن حزم جملة من العيوب التي كانت فيه، وكيف حاول التغلب عليها، ومقدار ما نجح فيه نجاحاً تاماً، وما نجح فيه نجاحاً نسبياً(7) اهـ.

     

    د ـ ومن مواطن استفادة المؤمن من هذه القاعدة:

    أن الإنسان ما دام يدرك أنه أعلم بنفسه من غيره، وجب عليه أن يتفطن أن الناس قد يمدحونه في يومٍ من الأيام، بل قد يُفرطون في ذلك، وفي المقابل قد يسمع يوماً من الأيام من يضع من قدره بمنسم الافتراء، أو يخفض من شأنه، وربما ضُرِّس بأنياب الظلم والبغي، فمن عرف نفسه: لم يغتر بمدحه بما ليس فيه، ولم يتضرر بقدحه بما ليس فيه، بل يفيد من ذلك بتصحيح ما فيه من أخطاء وزلات، ويسعى لتكميل نفسه بأنواع الكمالات البشرية قدر المستطاع.

     

    وخاتمة هذه المجالات التي تناسب حديثنا هنا ـ ولعله من أشرفها ـ:

    أن من أكبر ثمرات البصيرة بالنفس، أن يوفق الإنسان إلى الاعتراف بالذنب، والخطأ، وهذا مقام الأنبياء والصديقين والصالحين، وتأمل في قول أبوينا ـ حين أكلا من الشجرة ـ: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]}،ثم من بعدهما نوح، وموسى،في سلسلة متتابعة كان من آخرها: ما أثبته القرآن عن أولئك المنافقين الذين اعترفوا بذنوبهم فسلموا وتيب عليهم، قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102] "فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين" (8)
    أسأل الله تعالى أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يقينا شحها.

    ومع توديعة الختام أهمس:

    أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه *** عنك، فإن جحودَ الذنب ذنبانِ

     

    __________________
    (1)    الرسالة التبوكية.
    (2)    صيد الخاطر: (152).
    (3)    تفسير ابن جرير.
    (4)    حلية الأولياء (9/146).
    (5)    حلية الأولياء (9/282).
    (6)    مجموع الفتاوى 14/445.
    (7)    رسائل ابن حزم (1 / 354).
    (8)    الصارم المسلول - (1 / 362).

     

    ناصر العمر

     


  25. العزف حرام مطلقًا، وجميع الأغاني إذا كانت مصحوبة بالعزف فهي محرمة، وأما أعياد الميلاد فهي بدعة، ويحرم حضورها والمشاركة فيها لقول الله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لقمان:6] الآية قال أكثر المفسرين: لهو الحديث هو الغناء ويلحق به أصوات المعازف

    قال عبدالله بن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع، وفي صحيح  البخاري عن النبي ﷺ قال: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف والحر: بالحاء المهملة والراء الفرج الحرام، والحرير: معروف، والخمر: كل مسكر، والمعازف: الغناء وآلات اللهو.
    وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.

    الامام ابن باز

    ////////////////////////////////

     

    تفسير الشيخ الشعراوي سورة لقمان

    7-6

     

    {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)}
     

    هناك نوعاً من الناس ينتفعون بالضلال ويستفيدون منه، وإلا ما راجتْ سوقه، ولما انتشر بين الناس أشكالاً وألواناً.
    لذلك نرى للضلال فئة مخصوصة حظهم أن يستمر وأن ينتشر لتظل مكاسبهم، ولتظل لهم سيادتهم على الخَلْق وعبوديتهم لهم واستنزاف خيراتهم.
    وطبيعي إنْ وُجِد قانون يعيد توازن الصلاح للمجتمع لا يقف في وجهه إلا هؤلاء يحاربونه ويحاربون أهله ويتهمونهم ويُشككون في نواياهم، بل ويواجهونهم بالسخرية والاستهزاء مرة وبالتعدي مرة أخرى.
    وربما قطعوا عليهم سبل الحياة، كما عزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِعْب أبي طالب، ثم يُكرهون أهل الحق على الهجرة والخروج من أموالهم وأهلهم إلى الحبشة مرة، وإلى المدينة مرة أخرى، لماذا؟ لأن حياتهم تقوم على هذا الضلال فلابد أنْ يحافظوا عليه.

     

    والحق سبحانه يبين لنا أن هؤلاء الذين يحاربون الحق ويقفون في وجه الدعوة إلى الإيمان يعرفون تماماً أنهم لو تركوا الناس يسمعون منهج الله وداعي الخير لابد أنْ يميلوا إليه؛ لذلك يَحُولُون بين آذان الناس ومنطق الحق، فهم الذين قالوا للناس: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ...} [فصلت: 26].
    وما ذلك إلا أنهم واثقون من لغة القرآن وجمال أسلوبه، واستمالته للقلوب بحلو بيانه، فلو سمعتْه الأذن العربية لابد وأنْ تتأثر به، وتقف على وجوه إعجازه، وتنتهي إلى الإيمان.
    فإذا ما أفلتَ منهم أحد، وانصرف إلى سماع الحق أتوْهُ بصوارف أخرى وأصوات تصرفه عن الحق إلى الباطل.

     

    وقوله {وَمِنَ الناس} [لقمان: 6] من هنا للتبعيض أي: الناس المستفيدون من الضلال، والذين يسؤوهم أنْ يأتم الناس جميعاً بمنطق واحد، وهدف واحد؛ وهدى واحد لأن هذه الوحدة تقضي على تميزهم وجبروتهم وظلمهم في الأرض؛ لذلك يبذلون قصارى جهدهم في الضلال {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله...} [لقمان: 6].
    قوله تعالى: {يَشْتَرِي} [لقمان: 6] من الشراء الذي يقابله البيع، والشراء أنْ تدفع ثمناً وتأخذ في مقابله مُثمناً، وهذا بعدما وُجِد النقد، لكن قبل وجود النقد كان الناس يتعاملون بالمقايضة والتبادل سلعة بسلعة، وفي هذه الحالة فكل سلعة مباعة وكل سلعة مشتراة، وكل منهما بائع ومُشْتر.
    ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 20].
    والمعنى: شروه أي: باعوه.
    ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله...} [البقرة: 207].
    أي: يبيعها، إذن: الفعل(شَرَى) يأتي بمعنى البيع، وبمعنى الشراء.
    أما إذا جاء الفعل بصيغة(اشترى) فإنه يدل على الشراء الذي يُدفع له ثمن، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً...} [آل عمران: 199].
    وقوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111].
    وعادة تدخل الباء على المتروك تقول: اشِتريتُ كذا بكذا.

     

    وحين نتأمل قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث...} [لقمان: 6] نجد أن هذه عملية تحتاج إلى طلب للشيء المشترَى، ثم إلى ثمن يُدفع فيه، وليت الشراء لشيء مفيد إنما {لَهْوَ الحديث} [لقمان: 6] وهذه سلعة خسيسة.
    إذن: هؤلاء الذين يريدون أنْ يصدوا عن سبيل الله تحملوا مشقة الطلب، وتحملوا غُرْم الثمن، ثم وُصِفوا بالخيبة لأنهم رَضوا بسلعة خسيسة، والأدهى من ذلك والأمرّ منَه أن يضعوا هذا في مقابل الحق الذي جاءهم من عند الله على يد رسوله بلا تعب وبلا مشقة وبلا ثمن، جاءهم فضلاً من عند الله وتكرماً: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23].
    فأيُّ حمق هذا الذي يوصفون به؟

     

    وكلمة اللهو: ذكر القرآن اللهو وذكر اللعب في عدة آيات، قدَّمت اللعب على اللهو في قوله تعالى: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].
    وفي قوله تعالى: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20].
    وقدمت اللهو في قوله تعالى: {وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64].
    فقدمت الآيات اللعب في آيتين؛ لأن اللعب أن تصنع حركة غير مقصودة لمصلحة، كما يلعب الأطفال، يعني: حركة لا هدفَ لها، ونقول عنها(لعب عيال) وسُمِّيت لعباً؛ لأن الطفل يلعب قبل أنْ يُكلِّف بشيء، فلم يشغل باللعب عن غيره من المهمات.
    لكن إذا انتقل إلى مرحلة التكليف، فإن اللعب يشغله عن شيء طُلب منه، ويُسمَّى في هذه الحالة لهواً، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} [الجمعة: 11].

     

    إذن: فاللهو هو الشيء الذي لا مصلحة فيه، ويشغلك عن مطلوب منك.
    فآية سورة العنكبوت التي قدمت اللهو على اللعب تعني أن أمور الاشتغال بغير الدين قد بلغت مبلغاً، وأن الفساد قد طمَّ واستشرى الانشغال بغير المطلوب عن المطلوب، فهذه أبلغ في المعنى من تقديم اللعب؛ لأن اللعب لم يُلهه عن شيء.
    لكن، ما اللهو الذي اشتروه ليصرفوا الناس به عن الحق وعن دعوة الإسلام؟ إنهم لما سمعوا القرآن فيه قصصاً عن عاد وثمود، وعن مدين وفرعون.. إلخ، فأرادوا أنْ يشغلوا الناس بمثل هذه القصص.

     

    وقد ذهب واحد منهم وهو النضر بن الحارث إلى بلاد فارس وجاءهم من هناك بقصص مسلية عن رستم وعن الأكاسرة وعن ملوك حِمْيَر، اشتراها وجاء بها، وجعل له مجلساً يجتمع الناس فيه ليقصّها عليهم، ويصرفهم بسماعها عن سماع منطق الحق في رسول الله.
    وآخر يقول: بل جاء أحدهم بمغنية تغنيهم أغاني ماجنة متكسرة.

     

    ومعنى: {لَهْوَ الحديث} [لقمان: 6] قال العلماء: هو كل ما يُلهي عن مطلوب لله، وإنْ لم يكُنْ في ذاته في غير مطلوب الله لَهْواً، وعليه فالعمل الذي يُلهي صاحبه من صناعة أو زراعة.. الخ يُعَدُّ من اللهو إنْ شغله مثلاً عن الصلاة، أو عن أداء واجب لله تعالى.
    ومن التصرفات ما يُعَدُّ لهواً، وإنْ لم يشغلك عن شيء كالغناء، وللعلماء فيه كلام كثير خاصة بعد أنْ صاحبته الموسيقى وآلات الطرب والحركات الخليعة الماجنة، ولفقهائنا القدامى رأيهم في هذا الموضوع، لكن العلماء المحدثين والذين يريدون أنْ يُجيزوا هذه المسألة يأخذون من كلام القدماء زاوية ويُطبِّقونها على غير كلامهم.
    نعم، أباح علماؤنا الأُنْس بالغناء في الأفراح وفي الأعياد اعتماداً على قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق الذي رأى جاريتين تغنيان في بيت رسول الله فنهرهما، وقال: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «دعهما، فإننا في يوم عيد».

    وكذلك أباحوا الأناشيد التي تقال لتلهب حماس الجنود في الحرب، أو التي ينشدها العمال ليطربوا بها أنفسهم وينشغلوا بها عن متاعب العمل، أو المرأة التي تهدهد ولدها لينام.
    ومن ذلك حداء الإبل لتسرع في سيرها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة: (رفقاً بالقوارير) فشبَّه النساء في لُطفهن ورقّتهن بالقوارير، فإذا ما أسرعتْ بهن الإبل هُزَّت بهن الهوادج، وهذا يشقُّ على النساء.
    إذن: لا مانع من كل نصٍّ له غرض نبيل، أما إنْ أهاج الغرائز فهو حرام-
    والكلام هنا عن مجرد النص- لأن الخالق سبحانه يعلم طبيعة الغرائز في البشر؛ لذلك نسميها غريزة؛ لأن لها عملاً وتفاعلاً في نفسك بدون أيِّ مؤثرات خارجية، ولها طاقة لابد أنْ تتحرك، فإنْ أثرْتَها أنت ثارتْ ونزعتْ إلى ما لا تُحمدَ عُقْباه.
     

    وسبق أن أوضحنا أن مراتب الشعور ثلاث: يدرك بحواسه، ثم وجدان يتكوَّن في النفس نتيجة للإدراك، ثم النزوع والعمل الذي يترجم هذا الوجدان.
    ومن رحمة الله بنا أن الشرع لا يتدخل في هذه المسألة إلا في مرحلة النزوع، فيقول لك: قِفْ لا تمدّ يدك إلى ما ليس لك: ومثَّلنا لهذه المسألة بالوردة تراها في البستان، ويُعجبك منظرها، وتجذبك رائحتها فتعشقها وهذا لك، فإن مددْتَ يدك لتقطفها يقول لك الشارع قِفْ ليس من حقك.
    إذن: فالشارع الحكيم لا يتدخَّل في مرحلة الإدراك، ولا في المواجيد إلا في مسألة واحدة لا يمكن الفصل فيها بين الإدراك والوجدان والنزوع، لأنها جميعها شيء واحد، إنها عملية نظر الرجل إلى المرأة التي لا تحل له، لماذا هذه المسألة بالذات؟
    قالوا: لأنها لا تقف عند حَدِّ الإعجاب بالمنظر، إنما يُرثك هذا الإعجاب انفعالاً خاصاً في نفسك، ويُورثك تشكلاً خاصاً لا يهدأ، إلا بأن تنزع، فرحمة بك يا عبدي أنا سأتدخل في هذا الأمر بالذات من أوله، وأمنعك من مجرد الإدراك، لأنك إنْ أدركتَ وجدتَ، وإنْ وجدتَ نزعتَ إلى ما تجد فأثمت في أعراض الناس أو كبت في نفسك، فأضررتَ بها، وربك يريد أنْ يُبرئك من الإثم ومن الإضرار بالنفس، فالأسلم لكم أنْ تغضُّوا أبصاركم.

     

    إذن: لا تقُل الغناء لكن قُلْ النص نفسه: إنْ حثَّ على فضيلة فهو حلال، وإنْ أهاج الغرائز فهو حرام وباطل، كالذي يُشبِّب بالمرأة ويذكر مفاتنها، فهذا حرام حتى في غير الغناء، فإذا ما أضفتَ إليه الموسيقى والألحان والتكسر والميوعة ازدادت حرمته وتضاعف إثمه.
    أما ما نراه الآن وما نسمعه مما يُسمُّونه غناء، وما يصاحبه من حركات ورقصات وخلاعات وموسيقى صاخبة، فلا شكّ في حرمته.
     

    فكل ما يُخرج الإنسان عن وقاره ورزانته وكل ما يجرح المشاعر المهذبة فهو حرام، ثم إن الغناء صوت فإنْ خرج عن الصوت إلى أداء آخر مُهيّج، تستعمل فيه الأيدي والأرجل والعينان والوسط.. الخ فهذا كله باطل ومحرم.
    ولا ينبغي للمؤمن الذي يملك زمام نفسه أن يقول: إنهم يفرضون ذلك علينا، فالمؤمن له بصيرة يهتدي بها، ويُميز بين الغثِّ والسمين، والحق والباطل، فكُنْ أنت حكماً على ما ترى وما تسمع، بل ما يرى وما يسمع أهلك وأولادك، وبيدك أنت الزمام إنْ شئتَ سمعتَ، وإنْ شئتَ أغلقتَ الجهاز، فلا حجة لك لأن أحداً لا يستطيع أنْ يجبرك على سماع أو رؤية ما تكره.

     

    ففي رمضان مثلاً، وهو شهر للعبادة نصوم يومه، ونقوم ليله، وينبغي أن نكرمه، ونحتفظ فيه بالوقار والروحانية، ومع ذلك يخرجون علينا بألوان اللهو الذي يتنافى والصيام، فإنْ سألتهم قالوا: الناس مختلفو الأمزجة، وواجبنا أن نوفر لهم أمزجتهم، لكن للمؤمن ولاية على نفسه وهو يملك زمامها، فلا داعي أن تتهم أحداً ما دام الأمر في يدك، وعليك أن تنفذ الولاية التي ولاك الله، فإنْ فعلتَ ففي يدك خمسة وتسعون بالمائة من حركة الحياة، ولغيرك الخمسة الباقية.
    ثم إن ما يحلّ من الغناء مشروط بوقت لا يكون سمة عامة ولا عادة مُلِحّة على الإنسان يجعلها ديدنه؛ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «روِّحوا القَلوب ساعة بعد ساعة».

     

    وهؤلاء المغنون والمغنيات الذين يُدخِلون في الغناء ما ليس منه من الحركات والرقصات لا يدرون أنهم يَثيرون الغرائز، ويستعدون على الشباب غير القادر على الزواج، ويلبهون مشاعر الناس ويثيرون الغيرة.. إلخ.
     

    إذن: القضية واضحة لا تحتاج منا إلى فلسفة حول حكم الغناء أو الموسيقى، فكل ما يثير الغرائز، ويُخرجك عن سَمْت الاعتدال والوقار فهو باطل وحرام، سواء أكان نصاً بلا لحن، أو لحناً بدون أداء، أو أداء مصحوباً بما لا دخلَ له بالغناء.
    لكن، لماذا يكلفون أنفسهم ويشترون لهو الحديث؟


    العلة كما قال الحق سبحانه: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} [لقمان: 6] وفرْق بين مَنْ يشتري اللهو لنفسه يتسلى به، ويقصر ضلاله على نفسه وبين مَنْ يقصد أن يَضِلَّ ويُضل غيره؛ لذلك فعليه تبعة الضَّلالَيْن: ضلالة في نفسه، وإضلاله لغيره.
    وقوله: {لَهْوَ الحديث} [لقمان: 6] لا يقتصر على الغناء والكلام، إنما يشمل الفعل أيضاً، وربما كان الفعل أغلب.
    وقوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان: 6] يدل على عدم معرفتهم حتى بأصول التجارة في البيع والشراء، فالتاجر الحق هو الذي يشتري السلعة، بحيث يكون نفعها أكثر من ثمنها، أما هؤلاء فيشترون الضلال؛ لذلك يقول الحق عنهم: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]

     

    والسبيل: هو الطريق الموصل إلى الخير من أقصر طريق، وهو الصراط المستقيم الذي قال الله تعالى عنه {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] لذلك نقول في علم الهندسة: المستقيم هو أقصر بُعد بين نقطتين.
    وقوله: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} [لقمان: 6] أي: السبيل؛ لأن السبيلِ تُذكَّر وتؤنث، تُذكَّرِ باعتبار الطريق، كقوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146].
    وتُؤنَّث على اعتبار الشِّرْعة، كقوله تعالى: {قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108].
    هؤلاء الذين يشترون الضلال لإضلال الناس لا يكتفون بذلك، إنما يسخرون من أهل الصلاح، ويهزأون من أصحاب الطريق المستقيم والنهج القويم، ويُسفِّهون رأيهم وأفعالهم.
    ثم يذكر الحق سبحانه عاقبة هذا كله: {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [لقمان: 6] أولئك: أي الذين سبق الحديث عنهم، وهم أهل الضلال {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [لقمان: 6] ووصْف العذاب هنا بالمهانة دليل على أن من العذاب ما ليس مُهيناً، بل ربما كان تكريماً لمن وقع عليه كالرجل الذي يضرب ولده ليُعلِّمه ويُربِّيه، فهو يضربه لا ليعذبه ويؤلمه ويهينه، إنما لكي لا يعود إلى الخطأ مرة أخرى. على حَدِّ قول الشاعر:
    فَقَسَا لِيزْدجِرُوا ومَنْ يَكُ حَازِماً ** فَلْيقسُ أحْيَاناً على مَنْ يَرْحَم

    إذن: فمن العذاب ما هو تذكير وتطهير أو ترضية وتكريم لمستقبل، وإنما سُمِّي عذاباً تجاوزاً، فهو في هذه الحالة لا يُعَدُّ عذاباً.
    وفي هذا المعنى قال الزمخشري رضي الله عنه: الملك يكون عنده الخادم، فيفعل ما لا يُرضي سيده، فيأمر صاحب الشرطة أنْ يأخذه ويعذبه جزاء ما فعل، فيأخذه الشرطي ويُعذَّبه بقدر لا يتعداه، لأنه يعلم أنه سيعود مرة أخرى إلى خدمة السيد، فالعذاب في هذه الحالة يكون بقدر ما فعل الخادم ليس مهنياً له. لكن إنْ قال له: خُذْ هذا الخادم واقْصِه عن الخدمة أو افصله، يعني: ليست له عودة فلا شكَّ أن العذاب سيكون مهنياً وأليماً.
    فالعذاب إنْ سمَّيناه عذاباً يكون إكراماً لمن تحب وتريد أن تطهره، أما العذاب المهين فهو لمن لا أمل في عودته، والإهانة تقتضي الأبدية والخلود.

     

    ,,,,,,,,,,,,,,,,,

     

    {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}
    قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً...} [لقمان: 7] بعد قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} [لقمان: 6] يدلنا على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أمر دعوته، حتى لمن يعلم عنه أنه ضَلَّ في نفسه، بل ويريد أنْ يُضل غيره.
    ومعنى {ولى} [لقمان: 7] يعني: أعرض وأعطانا(عرض أكتافه) كما نقول: وتولى وهو مستكبر {ولى مُسْتَكْبِراً} [لقمان: 7] أي: تكبَّر على ما يُدْعى إليه، أنت دُعيت إلى حق فاستكبرت، ولو كنت مستكبراً في ذاتك لما لجأت إلى باطل لتشتريه، إذن: فكيف تستكبر عن قبول الحق وأنت محتاج حتى إلى الباطل؟
    ولماذا تتكبَّر وليس عندك مُقوِّمات الكِبْر؟ ومعلوم أنك تستكبر عن قبول الشيء إنْ كان عندك مثله، فكيف وأنت لا تملك لا مثله ولا أقل منه؟
    إذن: فاستكبارك في غير محله، والمستكبر دائماً إنسان في غفلة عن الله؛ لأنه نظر إلى نفسه بالنسبة للناس- وربما كان لديه من المقومات ما يستكبر به على الناس- لكنه غفل عن الله، ولو استحضر جلال ربه وكبرياءه سبحانه لاستحى أنْ يتكبَّر، فالكبرياء صفة العظمة وصفة الجلال التي لا تنبغي إلا لله تعالى، فكبرياؤه سبحانه شرف لنا وحماية تمنعنا أن نكون عبيداً لغيره سبحانه.

     

    لذلك نسمع في الأمثال العامية(اللي ملوش كبير يشتري له كبير) فإنْ كان لي كبير خافني الناس واحتميتُ به، كذلك المؤمن يحتمي بكبرياء ربه؛ لأن كبرياء الله على الجميع والكل أمامه سواسية، لا أحد يستطيع أن يرفع رأسه أمام الحق سبحانه.
    إذن: فكبرياؤه تعالى لصالحنا نحن.
    وهذا المستكبر استكبر عن سماع الآيات {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} [لقمان: 7] أي: ثِقَل وصَمَم {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7] ونحن نعلم أن البشارة لا تكون إلا في الخير، فهي الإخبار بأمر سارٍّ لم يأْت زمنه، كما تبشر ولدك بالنجاح قبل أنْ تظهر النتيجة.
    أما البشارة بالعذاب فعلى سبيل التهكّم بهم والسخرية منهم، كما تتهكم من التلميذ المهمل فتقول له: أبشرك رسبت هذا العام. واستخدام البُشرى في العذاب كأنك تنقله فجأة من الانبساط إلى الانقباض، وفي هذا إيلام للنفس قبل أن تُقاسي ألم العذاب، فالتلميذ الذي تقول له: أُبشِّرك يستبشر الخير بالبشرى، ويظن أنه نجح لكن يُفَاجأ بالحقيقة التي تؤلمه.
    والشاعر يُصوِّر لنا هذه الصدمة الشعورية بقوله:
    كَما أبرقَتْ يَوْماً عِطَاشَاً غَمامَةٌ ** فَلمّا رأوْهَا أقْشَعَتْ وتجلَّتِ

    ويقول آخر:
    فَأصْبحتُ من ليلى الغَداةَ كقَابِضٍ ** علَى الماء خَانتْه فُروجُ الأصَابِع

    لذلك يقولون: ليس أشرّ على النفس من الابتداء المطمع يأتي بعده الانتهاء الموئس، وسبق أن مثلنا لذلك بالسجين الذي بلغ به العطش منتهاه، ورجا السجان، إلى أنْ جاء له بكوب من الماء، ففرح واستبشر، وظن أن سبحانه رجل طيب أصيل فلما رفع الكوب إلى فيه ضربه السجان من يده فأراقه على الأرض.
    ولا شكَّ أن هذا آلم وأشدّ على نفس السجين، ولو رفض السجان أنْ يأتي له بالماء من البداية لكان أخفّ ألماً. وهذا الفعل يسمونه (يأس بعد إطماع) فقد ابتدأ معه بداية مُطمِعة، وانتهى به إلى نهاية موئسة، نعوذ بالله من القبض بعد البسط.
    ثم يذكر الحق سبحانه عقوبة الإضلال عن سبيل الله والتولِّي والاستكبار {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7] فعذابهم مرة(مهين) ومرة(أليم).

     

    نداء الايمان

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×