اذهبي الى المحتوى
أختكم آيات

غزاوي في أسرة مصرية

المشاركات التي تم ترشيحها

غزاوي في أسرة مصرية

 

صهباء بندق

 

عمر الخولي عاد إلى غزة وترك قلوباً مصرية تدعو له

 

لقد استراح التاريخ طويلا في أرض مصر، ولطالما وجد من طيبة أهلها وكرمهم الكثير ليسجله، ولكن مع محنة العدوان الأخير على غزة تحرج التاريخ كثيراً قبل أن يسجل موقف مصر مع الغزاويّين، غير أن ثمة موقفا للشعب المصري لم ينتبه التاريخ ليسجله في غمرة تلك المواقف المحرجة.. لهذا أجد في قصة عمر الخولي فرصة لتأريخ ما لم يذكره التاريخ.

الحياة في عين الموت

وصل الجريح عمر أحمد موسى الخولي إلى مصر برفقة أخيه ياسر في يناير 2009 م، كان عمر في غيبوبة تامة، وبعد ثلاثة أسابيع قضاها في العناية المركزة بمستشفى البنك الأهلي انتقل إلى مستشفى فلسطين لاستكمال العلاج.. وهناك التقيته لأول مرة.

 

شاب نحيل منهك القوى يتمدد على سرير.. وجنتاه الحادتان مكسوتان ببشرة صفراء رقيقة يتميز بها عادة أولئك الذين لازموا غرفة الرعاية وقتاً طويلاً.. لا يتحرك في جسده سوى عينين محتقنتين بالألم.. ولكن شفتيه الواهنتين لم يسكتهما الألم ولم تتوقفا عن التسبيح والاستغفار وحمد الله، لم يمنعهما الألم أيضا من الترحيب بالزائرين والابتسام بهدوء في وجوههم.

 

كانت نظرة واحدة إلى قمة رأسه تغني عن السؤال.. نظرة عابرة يلقيها المرء على رأسه المهشم أبلغ من ألف نظرة يلقيها على الملف الذي يصف وضعه الطبي.. كان جزء كبير من دماغه يبرز من قمة رأسه لا يغطيه سوى جلد الرأس.. كنت أرى قطرات من القيح والدم تتدفق من الجرح الغائر في رأسه.. كان المشهد بالغ القسوة والغرابة معاً.. أذكر أنني كنت أقف كالتمثال أمام سرير عمر، وقد تجمدت وأنا أسمعه يتحدث ويبتسم وهو على هذه الحال، ولا بد أن كل من رآه قد تذكر قدرة الله على إخراج الحي من الميت وصدح مثلي بالسؤال الموجع الذي أدمى أعماقي: هل سيبقى حيًّا..؟

 

كان لقائي الأول بعمر صادماً وموجعاً إلى حد كبير؛ فهو مصاب بشظية صاروخ رشقها الحقد الصهيوني في تلافيف دماغه أدت إلى فقد الحركة في الأطراف السفلية واليد اليسرى وتهشم بالجمجمة، ويحتاج إلى شبكة معدنية يتم تثبيتها مكان الجزء العظمي المفقود من الجمجمة، وباستخدام ماده تسمى الأسمنت العظمي يتم ملء الفراغات البينية في تلك الشبكة.. وهي عملية كبرى تتطلب إمكانات مادية ومهارة طبية فائقة.

 

بين اليأس والرجاء

كان على عمر أن ينتظر عدة أسابيع قبل أن يتم تحديد موعد لإجراء العملية، وكان وضعه الصحي لا يحتمل التأخير الإداري في مستشفى فلسطين، حيث لا تتوافر الأشعة المقطعية، ويتطلب الأمر نقل المريض لأحد مراكز الأشعة التشخيصية؛ وهذه الخطوة تستدعي خطوات من التنسيق وتحديد الجهة المتكفلة بالنفقات، كذلك لم يكن الطبيب المكلف من قبل اتحاد الأطباء العرب متفرغاً لمتابعة الجرحى.. لم يعد بالإمكان احتمال كل هذه المماطلة، خاصة بعد أن استشهدت الطفلة ديما قبل أيام؛ وكانت في وضع مشابه لعمر.

 

بعد أيام من المحاولات المضنية، ووسط أزمة علاج هذا العدد الكبير من الجرحى؛ أدركت أن مهمة المتطوعين في العمل الإغاثي ينبغي أن تكون إضفاء اللمسات الإنسانية التي تضيع غالباً في زحام تطبيق القواعد الروتينية والإجراءات الرسمية.

 

وبعد حيرة شديدة هدانا الله إلى فكرة نقل عمر إلى مستشفى خاص لإجراء العملية في أسرع وقت، وبالفعل قمت مع إحدى الطبيبات المتطوعات بالتنسيق مع أحد أساتذة جراحة المخ والأعصاب الذي اطلع على تقارير الأشعة ووافق على إجراء العملية في مستشفى المنيل التخصصي، وتنازل عن جزء كبير من أتعابه تعاطفاً مع عمر بعد أن علم أننا نساعده بتغطية خاصة وبجهودنا الشخصية.

 

كما قمت بالتنسيق مع إحدى شركات مستلزمات جراحة العظام التي قامت مشكورة بمنحنا الشبكة البلاتينية والأسمنت العظمي والمسامير أي ما يوازي قيمة 6 آلاف جنيه مصري من إجمالي تكلفة العملية بدون مقابل.

 

وبعد ليلة من الخوف والتردد ابتهلت فيها إلى الله كثيراً، وأديت وزميلتي صلاة الحاجة راجين الله أن ينجي عمر وألا يعرضنا لأي مساءلة أو مخاطر إدارية، وأن يقينا شماتة اللُوّام والمعارضين لإجراء العملية في مستشفى خاص.. ومع بزوغ فجر اليوم المحدد للعملية؛ كنت في غرفة عمر بمستشفى المنيل التخصصي.. حاولت بكل طاقتي أن أخفف التوتر عنه وعن أخيه ياسر، بينما كنت في الواقع أحاول أن أخفي توتري وأطارد هواجسي.

 

ابن لأربع أمهات

ولحظة دخول عمر غرفة العمليات بكيت كثيراً، وكل خلية في جسدي تلعن إسرائيل آلاف المرات.. بكيت عندما تصورت دموع أمه وقلبها الذي يعتصره الألم في غزة بينما تجري به عجلات السرير وحيداً في الممر المؤدي إلى غرفة العمليات، حيث فتحت الغرفة فمها وابتلعت عمر في جوفها، ثم أطبقت شفتيها العابستين في وجوهنا معلنة أن علينا الانصراف.

 

لم أتمكن من البقاء أكثر، فلم أكن أتحكم في دموعي.. خرجت أجوب الطرقات وقلبي ينبض بالدعاء والاستغفار، وقصدت مسجد صلاح الدين المجاور للمستشفى وفيه صليت وابتهلت إلى الله فهدأت نفسي واطمأننت.

 

وبعد أكثر من أربع ساعات خرج عمر من غرفة العمليات، وتهافتت القلوب المصرية الحنونة على زيارته.. كانت السيدة صفاء أبو بكر (أم رقية) التي تسكن بعيداً جدًّا عن المستشفى تأتي لزيارة عمر وتقرأ له الأدعية وتتلو القرآن طلباً للشفاء، بينما كانت الطبيبة المصرية (أم يوسف) تعمل على تهدئة خاطر عمر وفتح طاقات الأمل أمام عينيه.. كنا نحن الثلاثة نتناوب على زيارة عمر وإدخال السرور إلى قلبه.

 

شعر عمر بذلك الفيض من الحنان؛ فكان يقول بسعادة كبيرة: أنا عندي أربع أمهات.. أمي صهباء، وأمي (أم رقية)، وأمي (أم يوسف) هؤلاء أمهاتي المصريات بالإضافة لست الحبايب أمي الغزاوية في غزة.

 

وبعد أسبوع غادر عمر مستشفى المنيل التخصصي عائداً إلى مستشفى فلسطين، وهناك تقدم عدد كبير من المتطوعين المصريين لزيارة الجرحى في مستشفى فلسطين بينهم المهندسون والصيادلة والمحاسبون والتجار، فقد اختلفت اختصاصاتهم ولم تختلف دوافعهم النبيلة.. وكان عمر بالتحديد هدفاً محبباً للجميع.

 

كانت البسمات تعلو وجوه المتطوعين لمواساته والتخفيف من معاناته.. يملئون الغرفة بحضورهم الحميم.. وتتوالى الهدايا وتغدق القلوب كل ما لديها من حنان وحب على الجريح الغزاوي.. كان بوسع أي زائر عابر أن يلاحظ الحركة المكوكية للمتطوعين الذين تسابقوا في شراء الملابس وتقديم أشهى الأطعمة والمشروبات، وسريعاً تم تقديم جهاز لاب توب لعمر وأخيه ياسر وتوفير الاتصال عبر الإنترنت حتى يتمكنا من التواصل مع الأهل في غزة.

 

عام من المحبة

وذات نهار سعيد دخلت غرفة عمر وكان نفس المشهد المألوف طيلة الأشهر الأربعة السابقة؛ عمر يتمدد في فراشه وحوله أخوه ياسر الذي رحب بي وبدا مبتهجاً على نحو يفوق العادة، وعندما غادرت الغرفة لأداء صلاة الظهر عدت لأجد مفاجأة أبهجت قلبي بجنون.. رأيت عمر لأول مرة يجلس على الكرسي.. بدا طويلاً جدًّا أكثر مما تصورت، كان الفراش يخفي طوله ومظهره الخارجي بشكل كبير.. فعلها الأخوان ونجحا في مفاجأتي، كانت تلك إحدى أروع اللحظات التي جمعتني بهما والتي لن أنساها ما حييت.

 

بعد أسابيع قليلة تعافى عمر وتمكن من مغادرة فراشه، ونجح المتطوعون في توفير كرسي كهربائي يمكنه من التنقل بحرية في ممرات المستشفى، وكم غمرت الفرحة قلبي عندما رأيته في الشارع أمام بوابة المستشفى يفرج عن نفسه ويشتري بعض متطلباته من الكشك المجاور.. تذكرت فضل الله عندما برقت في ذهني صورته في لقائنا الأول وحمدت الله كثيراً كثيراً.

 

كما تكفلت أكثر من جهة متطوعة بتغطية نفقات العلاج الطبيعي والتي بلغت 1750 جنيها مصريا شهريًّا بالتعاون مع اتحاد الأطباء العرب وأحد اختصاصيي العلاج الطبيعي.. ولأن عمر طالب في الجامعة الإسلامية بغزة، وهو عازم على مواصلة مسيرته الدراسية في شعبة الدراسات الإسلامية؛ فلهذا حصل على مجموعة رائعة من الكتب القيمة علها تواسيه وتدخل الأنس إلى عقله وقلبه.

 

ولمدة عام كامل بقي عمر ضيفاً عزيزاً مكرماً في أحضان أسرة كبيرة من المتطوعين المصريين، غادر بعده إلى غزة محملاًَ بالهدايا والدعوات والذكريات الطيبة التي صنعها أولئك الذين فتحوا له صدورهم وقلوبهم، وكانوا عوناً له بعد الله في محنته القاسية.

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بارك الله فيك أختي الحبيبة آيات على هذا النقل الطيب

و بارك الله في الدكتورة صهباء و كثر من أمثالها

 

سبحان الله يقف اللسان عاجزا عن التعليق عن مثل هذه الحالات

فرغم رغم رغم كل الآلام و المحن و المصائب تبقى القلوب متعلقة بخالقها و الألسن شاكرة لربها على كل النعم

 

فاللهم اجعلنا من الذاكرين الشكرين في السراء و الضراء

 

و فك حصار غزتنا و انصرهم على القوم الظالمين الذين بغوا في الأرض و تجبروا

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،،

صراحة من اروع ما قرات

هذه هي الشهامة العربية

جزاكِ الله خير لنقل هذه الاحداث التي ان عبرت تعبر عن تضامن الشعب العربي المسلم مع اخوته من جميع بقاع الارض

وبارك الله بالاخت صهباء لنقلها هذا الموقف التي حصل ويثلج القلب

 

فاللهم اجعلنا من الذاكرين الشكرين في السراء و الضراء

 

و فك حصار غزتنا و انصرهم على القوم الظالمين الذين بغوا في الأرض و تجبروا

اللهم امين

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×