اذهبي الى المحتوى
~~أم أسيل~~

سندباد القســام قصة

المشاركات التي تم ترشيحها

السلام عليكــم ورحمـة الله وبركاتــة ،،

 

سنـدباد القســام .. قصة

 

بقلم :وميض القلم

 

منقولة

 

 

أتدري يا علي ؟.. رغم أنك قضيت بيننا فترة طويلة وعشت معنا كل هذا الوقت ، إلا أنك مازلت لغزاً بالنسبة لي .. وأظن أن أبناء عمك يشعرون بمثل ما أشعر به ..و لا أعرف إن كان والديك رحمهما الله يفهمانك ، أم أنهما كانا حائرين في أمرك مثلي .. و رغم ذلك أتمنى كثيراً لو كان أبنائي مثلك ، و لكني أتدارك نفسي و أحمد الله أنهم ليسوا مثلك ..

 

- في كل الأحوال يا عمي أنا ابنك بكل ما أحمل من سلبيات و إيجابيات .. فأنت من قمت برعايتي في بيتك بعد استشهاد والديّ وعاملتني كل هذه الفترة كواحد من أبناءك

 

- هذا ليس منةً مني يا علي .. بل هو واجب الأخ تجاه ابن أخيه .. و رغم أن أولادي يطيعونني أكثر منك ، إلا أن قدرك عندي و معزتك تفوق معزتي لأولادي دون أجد سبباً لذلك .

 

- ربما يكون شعورك بالشفقة عليّ ليتمي ، هو الذي جعل مشاعرك تجنح نحوي أكثر من أبنائك .. فهكذا هم الآباء دائماً .. يزداد حبهم لابنهم الصغير حتى يكبر، ويستأثر به المريض حتى يشفى ، و يتأجج و يشتعل للابن المسافر حتى يعود .. إنها مشاعر الأب تجاه أبنائه حتى لو كان بينهم من يعصيه .. أما عن نفسي ، فما كنت لأعصي لك أمراً .. فإن أمرت وجدتني طوع بنانك و لك عليّ من الطاعة ما لوالدي رحمه الله لو كان حياً ..

 

- أضحكتني بحديثك عن الطاعة يا علي.. أعطني أمراً واحداً أطعتني فيه وعملت فيه برأيي ؟

 

- مخالفتي لرأيك في بعض الأحيان ، ليست من العصيان أو التمرد .. بل هو الاختلاف في وجهات النظر ونظرة كل منا للأمور .. و دليلي على طاعتي لك ، أنني مازلت أعيش في بيتك استجابةً لرغبتك .. مع أنك تعلم أني أرغب وبشدة أن أعود لأعيش في بيت والديّ .. فأنا لم أعد صغيراً ويمكنني أن أعتمد على نفسي

 

- لم أعهدك يوماً صغيراً .. حتى حين كنت طفلاً كنت أنظر إليك كرجلٍ كبير .. ولكن أصدقني القول يا علي .. هل تضايقك الإقامة بيننا و أنت تعلم أننا جميعاً نحبك وبأنك قد أصبحت جزءً من حياتنا ؟

 

- تعلم أنت أيضاً يا عمي أني أبادلكم نفس الشعور وأكثر .. ولكنه الحنين للمكان الذي تضوعت أرجاؤه بأنفاس والديّ ، ورددت جدرانه صدى صوتيهما وهما يلعبان معي حين كنت طفلاً .. فمازلت أذكر هذا .. أذكره جيداً كأنه حدث بالأمس القريب .

 

- لا تثر شجوني يا بني بحديثك هذا .. فمسحة الحزن التي أراها على وجهك تكفيني لأتذكر و الدك و أخي الوحيد .. وكما اتفقنا من قبل .. لن تذهب لتعيش وحدك إلا في حالة واحدة فقط .. عندما تتزوج .. أما قبل هذا .. فيكفيك أنك تقضي معظم نهارك في بيت والدك بعد أن حولته إلى صالةٍ لتدريب الكراتيه .. ولا داعي لأن أذكرك أنك قمت بذلك رغم اعتراضي عليه

 

- لا يا عمي .. كن منصفاً .. أنت لم تعترض على ذلك إلا بعد أن أصبح واقعاً .. وتعلم أيضاً أنه مشروع يدر عائداً مادياً لا بأس به

 

- وهل تطلب مني أن أصدق هذا الكلام ببساطة ؟ .. عن أي عائد مادي تتحدث ؟! .. أنسيت أنك شريكي في التجارة بعد والدك رحمه الله ، وأن كل ما أملكه لك نصفه.. أليس من الأولى أن تهتم بما تركه والدك لك ، بدلاً من هذه المشاريع الصبيانية التي أنت غنىً عنها ؟

 

- هل طلبت أن تنفرد بي لنتحاور في أمور قتلناها بحثاً وحديثاً عشرات المرات ؟

 

- لا .. اليوم بالذات ليس لدي مزاج للشجار ، كما أنني وعدت زوجة عمك أني لن أتشاجر معك حين علمت أنني أريدك على انفراد

 

- ما كانت أمي لتدافع عني أكثر من أم حسين .. فأنا لم أشعر يوماً أنها زوجة عمي بقدر ما شعرت أنها أم لي

 

- دعنا من سيرتها الآن ولنتحدث فيما طلبتك فيه ، قبل أن تقتحم علينا الغرفة كالقضاء المستعجل .. فأكاد أُجزم أن الفضول سيأكلها لتعرف فيما نتحدث الآن

 

- كلي آذان صاغية

 

- كنت أريدك بشأن ابنة عمك سهام .. تعلم أن ابن الحاج محمود تقدم لخطبتها ، وهو شاب رائع ولا يعيبه شيء .. ولكنها رفضته دون إبداء أي أسباب تُذكر .. فهل تستطيع بذكائك أن تعرف سبب رفضها و أن تفاتحها في هذا الأمر

 

- سامحك الله يا عماه .. ألم تجد غيري لتكلفه بهذه المهمة ؟!.. أنت تعلم أني وسهام على خلاف دائم ، وهي لا تقبل مني حديثاً أو نصيحة .. قد يكون خالد أو أيمن أجدر مني بهذه المهمة .. أما أنا فلا أظن ذلك أبداً

 

- خالد وأيمن لا يحسنان سبر أغوار من يتحدثان إليه كما تفعل أنت .. كما إنها تخشاهما لأنهما أخويها .. أما أنت فالأمر مختلف معك ، لأنك لا تعاملها بخشونة كما يفعلان

 

- صدقني يا عمي .. مازلت مُصراً على أنني لا أصلح لهذه المهمة .. فالعلاقة بيننا ليست على ما يرام هذه الأيام.. ربما عمتي أم حسين تستطيع فعل ذلك فهي أمها ...

 

- إفهمني يا علي .. أعلم أنها لن تُحدثك بشيء ، ولكنك تستطيع أن تفهم ما تخفيه دون أن تقوله هي ..كما أني لم ألجأ إليك إلا بعد أن استنزفت أنا و زوجتي كل الوسائل معها كي تخبرنا بسبب رفضها لكل من يتقدم لخطبتها

 

- هل أنهيتما حديثكما ؟

 

هذا ما قالته أم حسين- زوجة عم علي- عندما فتحت باب الغرفة فجأة .. فقال لها زوجها غاضباً :

- ألم أقل لك يا امرأة أني لا أريد أن يدخل علينا أحد ونحن نتحدث ؟

 

سألت أم حسين علي دون أن تنظر لزوجها

-هل تشاجر معك كالعادة ؟

 

ابتسم علي قائلاً :

- لا .. كان حديث الأب لابنه

 

قطب أبو حسين حاجبيه و هو يقول:

– أقسم أنك من أفسدته بدلالك هذا.. ؟

 

قاطعه علي

-أفسدتني ؟!!

 

أم حسين

-دعك منه .. فهو يظن نفسه أبو العريف و أنه يفهم كل شيء

 

قام علي ليغادر الغرفة و هو يهمس لزوجة عمه

- الحقيقة أنه بارع في التوقعات ، فلقد قال لي قبل قليل بالحرف الواحد: ستدخل زوجة عمك علينا كالقضاء المستعجل

 

صرخ أبو حسين ضاحكاً

-حسناً حسناً يا علي .. سمعتك .. ولن أنسى لك هذا أبداً

 

غادر علي منزل عمه متوجهاً لبيت والديه حيث يعمل مدرباً للكراتيه ، وما أن انتهى من التدريب وغادر غالبية المتدربين ، انفرد علي بأصدقائه و قال لهم :

- سنجلس الآن لنأخذ قسطاً من الراحة ثم نواصل تدريبنا الخاص

 

- كان التدريب اليوم عنيفاً جداً يا علي .. خاصةً أنك كنت تتأخر في إيقاف مبارزة القتال الحر بعد إحراز النقاط ، ما سبب إصابة بعض اللاعبين .. يبدو أن هناك ما يشغل ذهنك عن التدريب اليوم ؟

 

- معك حق يا صلاح .. لم أعد أستطيع الصبر أكثر من ذلك منذ انقطعت أخبار عبد الله ، لم أعد أستطيع النوم أو التفكير في أي شيء أخر .. ليته يُرسل لي كلمة واحدة فقط أطمئن بها عليه

 

- أسأل الله تعالى أن يكون بخير وأن يبلغنا عنه ما يطمئننا عليه .. فجميعنا نشعر بالقلق بعد انقطاع أخباره في مصر

 

همهم علي

من المفروض أن يتصل أو أن يرسل رسالة .. ألا يعلم أن انقطاع أخباره بهذه الطريقة قد يقتلني قلقاً عليه

 

قال جمال :

- كلنا نعلم مدى حبك لعبد الله ونعلم أيضاً أن غيابه الطويل أثر عليك كثيراً .. أقترح أن نؤجل تدريب اليوم .....

 

قاطعه علي بقوله

- تحلم يا جمال .. لن أُؤجل التدريب من أجلك أنت بالذات .. فلي حساب معك ستعرفه في حينه

 

قال صلاح :

- هيا إلى التعب والشقاء وما جلبناه لأنفسنا بأيدينا

 

دخل الأصدقاء الخمسة إلى المكان المخصص للتدريب الخاص ثم استوقفهم علي قائلاً :

-لم يمر شهران بعد و هاقد بدأتم بالتذمر من التدريب الخاص ونسيتم أنه استجابة لرغبتكم و إلحاحكم

 

رد فريد

- أنا شخصياً أستمتع بالتدريب الخاص أكثر من التدريب العادي .. ليت الأمر يقتصر على التدريب الخاص فقط .. سيكون ذلك أفضل بكثير

 

أجابه علي :

- هل عليّ أن أُعيد ما أقوله دائماً ؟ .. لا يمكنكم استيعاب التدريب الخاص دون أن تكونوا قد قطعتم شوطاً طويلاً في لعبة الكراتيه ، فالتدريب الخاص مبني على هذه اللعبة ولعبة الكونغ فو أيضاً .. ثم إن تواجدكم مع اللاعبين أثناء التدريب العادي يمنحكم ستاراً جيداً لتواجدكم هنا

 

قال جمال :

- ما أود أن أفهمه .. كيف لنا أن نعرف أننا اجتزنا مرحلة التدريب الخاص؟ .. فقد اقتربنا من الحصول على الحزام الأسود في التدريب العادي ، أما التدريب الخاص فنحن لا نعلم في أي المراحل نحن .. هذا إن كان هناك مراحل فعلاً

 

قال علي بجدية :

- التدريب الخاص مرحلة واحدة فقط ، ثم تخرج منها إلى ما يُسمى بالتدريب الذاتي ، و تكون أنت مُدرب نفسك .. ثم تستمر في تدريب نفسك ذاتياً حتى ترضى عن نفسك .. وهذا أمر يطول شرحه وليس أوان الحديث عنه الآن

 

قال صلاح :

-ومتى نصبح جاهزين لتدريب أنفسنا ذاتياً ؟

 

رد علي

- الأمر يتعلق بالمتدرب نفسه.. فبمجرد أن يصل للقناعة بأنه قد أصبح قادراً على تدريب نفسه ذاتياً ، و أنه قد فهم فكرة أسلوب تنمية القدرات فوق الاعتيادية .. يمكنه الاعتماد على نفسه و تنمية القدرات التي يحتاج إلى تطويرها بنفسه

 

جمال

- إذاً ، لنبدأ التدريب فيبدو أنه مازال أمامي وقت طويل كي أستوعب الفكرة

 

أخذ علي مكان المدرب و هو يقول :

- سنتعلم اليوم كيفية الرماية بالمسدس بأسلوب خاص .. عندما تمسك المسدس يجب أن يصير جسمك معه قطعةً واحدة ، أي أن تعتبره جزءً لا يتجزأ من جسدك ، كلنا نعلم كيفية القنص باستخدام المسدس لكن هذه الطريقة التقليدية لا تنفع مع المحترفين الذين يزجون بأنفسهم وسط الأخطار ، فهي تبدو مناسبة لمن أراد تعلم الرماية على لوح ثابت ولكنها تفقد قيمتها حين يكون هناك خطر حقيقي ، الآن .. فليأت كل منكم بمسدسه ويمسكه بيده مع إبقاء السبابة محيطة بالزناد ، و لتأخذ أيديكم فقط دون أجسامكم وضعية الأفعى

- نعم .. الآن يمكنكم أن تمدوا أذرعكم نحو الأمام قليلاً مع الاحتفاظ بشد أعصابكم،

هذا الوضع هو ما يجب أن يكون حين تستخدمون المسدس .. لأنه يساعد على التحكم بردة فعل السلاح أثناء الرماية و يحد من تأثير الارتداد كما يُعطي للرامي حرية الحركة في مساحة أكبر

- و الآن سنتدرب على بعض الحركات مع تحريك الجسم بالكامل والاحتفاظ بمفصل الكتف ثابتاً

 

استمر علي في التدريب حتى انتصف الليل وبدا الإرهاق على الجميع من قسوة التدريب .. وبعد انتهاء التدريب استوقف علي جمال بعد مغادرة الآخرين و قال له :

- ستؤدي تمرين الضغط مائة مرة في أقل من عشرة دقائق و باستخدام قبضة اليد لا راحتها

 

تعجب جمال

-و لماذا ؟؟.. ماذا فعلت كي أستحق هذا العقاب ؟

 

- شاهدتك اليوم تستخدم حركة من تدريبنا الخاص أثناء القتال الحر ، وأنت تعلم جيداً أنه من غير المسموح لكم أن تستخدموا هذه الحركات أثناء تدريباتنا العادية

 

- ألم تلاحظ أني تراجعت عنها بسرعة قبل تسديدها ؟

 

- مجرد فقدانك لذاتية التحكم بنفسك و خلطك بين هذا وذاك هو أمر تستحق العقاب عليه.. و إن كررتها مرة أخرى فسيكون العقاب أكبر بكثير .. هيا هيا ، لا تضيع الوقت وتذكر أنك ستبدأ من جديد لو مر الوقت قبل أن تُكمل

 

حاول جمال أن يتهرب من التدريب فقال:

- ألا يمكن أن تؤجل هذا العقاب ؟.. فالتدريب اليوم كان قاسياً وأنسجة عضلاتي تصرخ من الألم

 

لكزه علي

-هيا يا جمال لا تماطل ، أنت تعرف القانون .. وأنا سأقوم بهذا معك أيضاً ، واحذر من الخداع فسأنتبه لك (

 

أجاب جمال يائساً

- حسبي الله ونعم الوكيل .. و صلاح يقول أنك كنت مشتت التفكير أثناء التدريب (!!

 

و ما أن انتهى علي وجمال عند الرقم مائة حتى انهارت قوى جمال وسقط على وجهه من فرط التعب و هو يقول بصوت ضعيف :

- أُقسم لو أن طفلاً قابلني في الخارج و أراد العراك معي لأوسعني ضرباً الآن

 

- لا تكن ضعيفاً فربما تفرض عليك الظروف أن تكون مرهقاً أكثر من ذلك وستكون مجبراً حينها على مواصلة القتال .. ثم إنني قمت بالتمرين معك ومازالت لياقتي كما هي

 

- أنت تفعل هذا منذ كنت طفلاً يا علي مع والدك رحمه الله .. أما أنا فأقوم به على كبر .. و لكن هل تقوم بتنفيذ تمارين العقاب مع كل من يُعاقب ؟

 

- نعم .. أفعل ذلك في أغلب الأحيان ، فهي بالنسبة لي تمارين و إن كانت بالنسبة لك عقابا

 

 

- بالمناسبة يا علي ، شاهدتك بالأمس تتحدث مع ذلك الشاب .. واستغربت كثيراً حين سرتما إلى مكان خالٍ لعلمي أن هذا الشاب مريب ، فخفت أن يكون أحدهم و يريد أن يستدرجك لمكان ما ، ثم شعرت بالشفقة تجاهه حين شاهدتك تسمك معصمه بقوة وتثنيه خلف ظهره .. ولبُعد المسافة بيني وبينكم لم أستطع سماع حديثكما...

 

- كنت أعطيه درساً في الأدب و أظنه سيستوعب الدرس جيداً .. وبالنسبة لك حين تراقب شخصاًٍ لا تقف في مكان يستطيع الهواء أن ينقل رائحة عطرك منه إلى أنف من تراقبه .. ولا تلمس أيضاً فروع الشجر حتى لا تفضحك وهي تتأرجح في الجو

 

- كان لدي شعور بأنك تعرف أني أراقبكما .. لكن يبدو أنه قام بفعلة كبيرة ، فالجميع يشتكي منه ومن تصرفاته .. و ليس من عادتك أن تتعامل مع أحد بعنف حتى لو أخطأ في حقك

 

قاطعه علي قائلاً :

- دعك منه الآن ولا تنسى أن تتقصى غداً عن أخبار عبد الله .. فغيابه وانقطاع أخباره كل هذا الوقت لا يطمئنني أبداً

 

تفرق علي وجمال و عاد كل منهما إلى منزله ولم يستطع علي أن ينام بسبب القلق والأفكار السوداء التي تطرق عقله عن صديق عمره عبد الله ولم ينقذه من هذه الأفكار سوى صوت أذان الفجر فاستغفر ربه وتوضأ ثم خرج إلى المسجد للصلاة

عاد علي إلى المنزل وتوجه إلى السطح ليمارس تمارين الطاقة (تشي كنغ) كعادته منذ كان صغيرا ، و بينما هو منهمك في تمارينه صعدت ابنة عمه سهام التي لم تنتبه لوجوده لتجمع الملابس المغسولة .. ولكنها لم تكمل جمع الملابس و توجهت نحو سور سطح المنزل و هي تنظر نحو الشارع بترقب ..

- ألن تذهبي إلى الجامعة اليوم ؟

 

نظرت سهام باستخفاف نحو علي ثم عادت تنظر نحو الشارع دون أن تجيب

 

- اعتقد أنه من الذوق أن تُجيبي عندما أسألك

 

ردت سهام بحدة

- وأعتقد أنا أيضاً أنه من الذوق أن لا تُلح في الحديث مع من لا يريد أن يتحدث إليك

 

- لم آت للشجار معك يا سهام .. جئت لأحدثك في موضوع وعليك أن تتحدثي معي باحترام

 

- ليس بيني وبينك حديث يا علي .. فلماذا لا تحترم أنت وحدتي وتتركني وشأني ؟

 

اقترب علي ووقف بجوار سهام موجهاً حديثه إليها:

- لن يأتي فلا تتُعبي نفسك بالانتظار

 

نظرت سهام بارتباك نحو علي و هي تسأله

- من تقصد ؟ .. ومن هو الذي أنتظره ؟

 

رد علي بسخرية

- أقصد ذلك الشاب الذي يقف يومياً على ناصية الشارع

 

إزداد ارتباك سهام وامتقع وجهها و هي تقول :

- لم أكن أتصور أنك بهذه الوقاحة ، لقد تجاوزت حدك هذه المرة يا علي ..أبلغت بك الجرأة أن تتهمني باتهام كهذا ؟

- هجوم استفزازي غير موفق يا سهام .. أنت تعلمين جيداً أنني رأيتك قبل أيام وأنت تُلقين له برسالة التقطها هو بسرعة بينما أسرعت أنت بالدخول وعلامات الارتباك والخوف بادية عليك عندما رأيتني

 

- هل هذا ما كنت تحدث أبي عنه بالأمس عندما انفردتما في غرفة الضيوف ؟

 

- لم أتحدث مع والدك في هذا الأمر ، ولكنه طلب مني أن أسألك عن سبب رفضك للزواج من سعيد ابن الحاج محمود

 

هزت سهام كتفيها بسخرية

- ألم يجد أبي غيرك ليسألني !؟

 

- وأنا لم أكن أحتاج لإجابة منكِ.. فأنا أعرف الجواب دون أن أسألكِ

 

- أنت غارق في الأوهام يا علي .. تظن أنك ذكي و مسيطر على الأمور ، لكنك مجرد إنسان مُدعٍ تُعطي لنفسك قدراً أكبر من قيمتها الحقيقية .. كل ما قلته الآن يمكنني أن أنفيه ، بل وأضعك في موقف لا تحسد عليه أمام أبي وأخواني

 

- أنت تعلمين جيداً أن ما قلته ليس مجرد اتهام ، وتعلمين أيضاً أن والدك سيصدقني أكثر منك ، لأنه لا مصلحة في أن أتهمك بما يُسيء لي قبل أن يُسيء لهم .. أم أنك نسيتِ أيتها الذكية أنك ابنة عمي ؟

 

ارتبكت سهام أكثر أمام حديث علي الواثق و قالت :

- أنا لا أقول أنك تتهمني كذباً .. بل أقول أنك فسرت ما شاهدته بسوء ظن .. فما ذنبي إن ألقيت ورقة فارغة لست بحاجةٍ لها و التقطها أحدهم ثم يذهب بك سوء ظنك أنها كانت رسالة له .. أنا لست مسئولة عما يدور في رأسك من أوهام .. و لن أقف صامتة لو أخبرت والدي بذلك ، وثق بأنني سأفعل كل ما في وسعي حتى أشوه صورتك أمام والدي قبل أن تفعل أنت ذلك

 

قال علي و هو يهم بالمغادرة

- يبدو أنني كنت مُخطئاً حين تحدثت إليك .. فقد تصورت للحظة أنك بالرغم من عنادك ستبوحين بكل شيء كما كنت تفعلين دائماً وأنت صغيرة ، ثم نحل هذا الأمر بيننا .. ولكن إنكارك هذا يعني أنك تركت رأسك للشيطان ليعبث و يفكر به نيابةً عنك .. سأطلع عمي على الأمر ليتدخل بطريقته و يُنقذك من نفسك قبل أن تضيعي ككل من فكرن بطريقتك

استوقفته سهام قائلةً :

- أرجوك يا علي انتظر.. سأقول لك كل شيء

 

- هل فكرتِ في كذبة جديدة لتجربيها معي ؟

 

- لن أكذب عليك هذه المرة ، ولكن عدني أن يبقى ما سأقوله سراً بيننا

 

- لن أعدكِ بشيء ، وإن أردتِ .. فاحتفظي بما ستقولين لنفسك فقد يئست منكِ ولم تعودي سهام التي أذكر

 

- حسناً سأقول لك كل شيء وأتركك لضميرك وشهامتك .. ولكن لماذا لا تُصدق أنني ألقيت بورقة فارغة و ألتقطها هو ظناً منه أنني ألقيتها له ؟

 

- هل رأيتِ ؟.. عدتِ للمراوغة من جديد .. أنت تدركين جيداً أن كل ما قلته هو الحقيقة

 

- حسناً يا علي .. سأقول كل شيء لك ، ولكن عليك أن تفهمني وعليك أيضاً أن تُقدر صراحتي

 

- إن شعرت أنك تقولين الصدق وأنكِ لم تُخفي شيئاً مهماً عني.. أعدك أنني سأتفهم ما ستقولين وسأعقله جيداً

 

- هذا ما كنت أخشاه .. ستعقل حديثي بعقلك الشرقي وستتصرف كأي رجل يُبيح لنفسه ما يمنعه على الفتاة

 

- سأنصت لك بالشق الغربي من عقلي طالما يزعجك الشق الشرقي

 

- إن كنت ستقابل حديثي بهذه السخرية فلن أواصل الحديث معك .. كيف تريد مني أن ألقي ما في قلبي وأنت تسخر مني بهذه الطريقة

 

- أنتِ تُراوغين يا سهام لتُظهري الموضوع و كأنه خلاف في وجهات النظر .. إن أردتِ الحديث حقاً ، فابدئي من البداية ، وقولي لي كيف تعرفتِ على ذلك الشاب

 

- بالرغم أن الموضوع خلاف في وجهات النظر فعلاً .. إلا أنني سأقول كل شيء لك .

عندما بدأ الفصل الدراسي كنت أشاهده دائماً في الصباح واقفاً أمام منزلنا و هو ينظر إليّ عند ذهابي للجامعة .. في البداية ظننت أنها مصادفة ، ولكن مع تكرار الأمر تبين لي أنه يأتي كل يوم إلى هنا كي يراني ، وتأكدت من هذا عندما لمحته من خلف النافذة يقف وبصره مُعلق بباب منزلنا .. ثم شيئاً فشيئاً وجدت نفسي أفكر فيه ولا أدري كيف

 

- هل تحدثتما أو قابلته ؟

 

- أقسم إني لم أفعل ذلك ولم يخطر ببالي أن أفعل .. لكنه أرسل لي عدة مرات رسائل بواسطة أخته الصغيرة وقمت بالرد على اثنتين منها وكانت الثانية التي رأيتني فيها

 

- وهل رفضتِ ابن الحاج محمود من أجل ذلك الشاب ؟

 

- لقد وعدني بأن يتقدم لخطبتي و طلب أن أمهله بعض الوقت لأن ظروفه وظروف والده المادية لا تسمح بذلك الآن

 

- هل تحبينه ؟

 

بقيت سهام صامتة لا ترد .. فأصر علي أن تجيب على سؤاله فقالت :

- علي أنت شاب مُثقف وتعلم جيداً أننا لا نملك التحكم بمشاعرنا

علي بمرارة-

إذاً تُحبينه !

 

- و لم نبرة الحزن في صوتك ؟ .. إياك أن تقول لي .. أنك ..

 

قاطعها علي بقوله

- أنا حزين لأجلك .. لم أكن لأتصور أن سهام صاحبة العقل المشتعل دوماً والتي لم يكن شيء ليُعجبها قد غررت بها عواطفها و انحدرت بهذه الطريقة ..

 

قاطعته سهام

– علي أنت تُهينني

 

- أنتِ من أهنتِ نفسك حين تركت مشاعرك تنجرف في غفلة من عقلك نحو شخص لا يستحق ، وتصرفتِ معه بطريقة تُسيئين بها إلى نفسك قبل إساءتك لنا جميعاً ..

 

- ولماذا لا يستحق ؟.. هل لأنه ليس من عائلتنا .. أم لشعورك بالغيرة منه ..

 

- انفضي عن رأسك هذا الوهم ، فحديثي معك لمصلحتك أنتِ .. وليس لي أي مصلحة فيه

 

- بل قل إن الغيرة تأكلك و إلا ما حاولت أن تشوه صورته أمامي بوصفك الذي ذكرت

 

- ألا تخجلين من نفسك بالرغم مما فعلتيه .. ثم ما الذي يجعلني أغار منه ؟ .. هل هو دلو السمن الذي يضعه على شعره لتلمع رأسه الفارغة في أشعة الشمس لمعاناً زائفاً فتخدع به الساذجات أمثالك.. أم هي قدرته على الصمود متسكعاً في الشوارع أو الوقوف أمام بيوت الناس بالساعات متربصاً بفريسة ساذجة علها تسقط في شباكه..

 

ردت سهام بحدة

- كفى يا علي .. لست بالساذجة أو من اللواتي يسهل التغرير بهن .. إن كانت هذه فكرتك عنه وتراه بهذه الصورة .. فهذا شأنك .. أما أنا فرأيت فيه الشاب الشهم البطل الذي يدافع عن وطنه ، والذي لا يسير إلا برفقة سلاحه .. بينما هناك من قُتل والديه أمام عينه ولم يفكر أن يفعل لهما شيئاً انتقاماً لهما .. هل تريد أن تسمع المزيد ؟ ..أم يكفيك هذا ؟

 

- إن كان لديك المزيد ، فأخرجي كل ما في جوفك دفعةً واحدة

 

قالت سهام بتحدٍ واضح

-حسناً يا علي أنت طلبت ذلك .. أنت تريد أن تنتقم لوالديك ، ولكنك في حقيقة نفسك لا تستطيع لشعورك بالعجز والخوف في آن واحد .. ومشاهدتك للمناضلين تُشعرك بالنقص ولذلك تحاول دائماً الانتقاص منهم موهماً إيانا أنك تستطيع أن تفعل الأفضل ، وما تعليقك لصور شهداء حماس في غرفتك إلا محاولة لإيهامنا أنك واحد منهم.. حتى بيت والدك حولته لصالة للرقص وادعيت أنك مُدرب كراتيه لتُخفي ضعفك وراء هذا الادعاء ..

 

قاطعها علي

- قد أفهم كل ما قلتيه .. ولكن ما علاقة الرقص بالكراتيه

 

قالت سهام بسخرية

- هل تظنني لا أعرف الكراتيه ؟ .. ما تفعله كل صباح في هذا المكان لا علاقة له بالكراتيه هو أشبه برقص الباليه إن كنت لا تعرف

 

ابتسم علي ابتسامة عريضة أدهشتها و هو يقول :

-ما أفعله كل صباح هي تمارين الانسجام مع الطاقة وهي تُشبه اليوجا لا الرقص .. لو كنت سألتني يوماً لأخبرتك بدلاً من ظنك أن بن عمك راقص باليه

 

أرادت سهام أن تُجادل فقاطعها علي قائلاً :

- كفى يا سهام .. اعترف أنك استفززتني .. ليس بحديثك عني .. ولكن بالفكرة التي تحملينها في رأسك عن البطولة والأبطال .. قد أعذرك لو كنت مراهقة ولا تحسنين التفريق بين من يحمل السلاح للنضال والمقاومة وبين من يحمله زينةً متباهياً به أمام الناس .. أما وقد تخطيتِ تلك المرحلة ، فلابد أن تعرفي أن من يحمل السلاح في الشوارع أمام الناس باستمرار دون سبب ، هو من لديه الشعور بالنقص وأن السلاح لا يُحمل إلا في أرض المعركة .. أما عن البطل الذي تتحدثين عنه ، فقد كان يكلف صديقاً له بكتابة الرسائل لكِ بعد أن حدثه عنك .. وكان صديقه يقرأ رسالتك له ثم يرد عليها ومن ثم يُرسلها لكِ وكأنه كاتبها .. بل أن البطل المناضل الشهم ، اضطر أمام ألم بسيط في معصمه أن يُعطيني رسائلك التي يباهي بها أمام أصدقائه ويعترف لي أنه كان ينوي إقناعك بالزواج عرفياً منه كما فعلها من قبل مع أخرى ..

 

كان علي يتحدث والدموع تنهمر بغزارة من عيني سهام التي انفجرت صارخة فيه

- كذب .. كذب .. كل ما تقوله كذب ..

 

قاطعها علي قائلاً :

- اخفضي صوتك فأنتِ تلفتين أنظار الجيران إلينا .. وحتى تُصدقي ما أقول هذا هو ما أرسلته له

 

أمسكت سهام برسائلها تنظر إليها غير مصدقة ، بينما شغل علي جهاز التسجيل في هاتفه لتسمع اعترافات الشاب وهو يتأوه ألماً وتتأكد بما لا يدع مجالاً للشك بأنها كانت ضحية لشاب عابث خدعها بمظهره وادعائه

 

انهارت سهام ودخلت في نوبة بكاء شديد ، وقبل أن يغادر علي سطح المنزل قال لها : ( لا أعرف لمَ تبكين وما هو الذي يدور في ذهنك الآن .. لكنني أنتظر منك أن تطوي هذه الصفحة من حياتك وتنظري للدنيا بطريقة أفضل وتعتبري أن ما حدث معك كان من تجارب الحياة التي لا تنتهي

 

 

 

- هل تحدثت مع سهام يا علي ؟

 

- تحدثت يا عمي ولكني لم أصل معها لشيء ، وكالعادة تحول حديثنا للشجار وتبادل اتهامات

 

- أرجو أن لا تكون قد أغلظت لك في القول حتى لا أكسر رقبتها .. فإن كنت أتجاوز عنها سابقاً ، فلن أفعل هذا الآن و قد كبرت

 

- لا عليك يا عمي .. فقد تعودت على سهام وعلى الشجار معها .. أذكر حين جئت للمكوث عندكم أن الجميع كان ينظر لي بعين الشفقة ، ولا أخفيك سراً أني لم أكن أحب هذه النظرة.. ولكن سهام كانت تعاملني بتلقائية و كخصم في أحيان أخرى مما خفف عني الإحساس بالغربة و جعلني أشعر أنها أخت لي وبأني أحد أفراد هذه الأسرة حقاً

 

- أذكر أنك كنت- حينها - في الثانية عشرة من عمرك بينما كانت هي في السابعة من عمرها ، وكان أقرب أخويها لها عمراً يكبرها بعشر سنوات .. و بعد ذلك انقطعت أم حسين عن الإنجاب لفترة طويلة بعد أن مات لها طفلين فحظيت سهام عند مجيئها بكل الدلال و الاهتمام .. ثم جئت أنت ، فشعرت أنك ستشاركها هذا الاهتمام ، ولذلك كنا نتفهم معاملتها لك بهذه الطريقة .. توقعت أن تتفهم حين تكبر الأمر ، ولكنها انطوت على نفسها أكثر .. حتى أنها لم تغادر غرفتها منذ يومين إلا بالكاد ، وحين سألت زوجة عمك عنها قالت : إنها مريضة ، ولكن حالها لا يوحي لي أن مرضاً قد أصابها

..

 

شعر علي بمرارة عمه وحيرته من أمر ابنته فقال له : مشكلة سهام يا عمي أنها تشعر بالوحدة بينكم .. فأنت مشغول طوال الوقت بعملك ,وأمها لا تتحدث إلا عن المنزل و المطبخ

 

- هل تريد منا أن ندللها وقد كبرت وأصبحت في سن الزواج ؟

 

- وهل ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة حتى بعد زواجها ؟.. ألم يلاحقها حنانه وعطفه حتى وهي في بيت زوجها ؟ .. ثم إن مصادقة الأب لابنته أو ابنه وكذلك الأم ..

 

قطع علي حديثه عندما رن جرس هاتفه وما أن أنهى مكالمته حتى استأذن من عمه وخرج على عجل دون أن يُجيب سؤال عمه له عن سبب خروجه؟

 

استقل علي سيارته وسار بها إلى حيث ينتظره جمال وحين وصل صعد جمال إلى السيارة قال له :

-هيا إلى منزل والدك الآن

 

سار علي بالسيارة نحو منزل والده وفشلت محاولاته في استجواب جمال عن الأمر الهام جداً –كما قال له - الذي يريده من أجله وما أن دخلا إلى المنزل حتى قال جمال :

- طلبت مني أن أتقصى عن أخبار عبد الله في مصر وعندما باءت كل محاولاتي بالفشل طلبت من شخص اعرفه له علاقة بتهريب السلاح أن يتقصى هو بنفسه عن عبد الله وأعطيته أوصافه وكيف يستدل عليه .. واليوم بعد الظهر ذهبت إليه لأسأله عما توصل إليه فقال لي ..

 

صمت جمال وكأن لسانه لا يطاوعه على مواصلة الحديث ما أثار غضب علي الذي شعر بالقلق يعض قلبه بلا هوادة على صديق عمره فقال لجمال غاضباً ..

- لماذا توقفت عن الكلام .. هل ابتلعت لسانك ؟

 

أشاح جمال بوجهه عن علي قائلاً :

- أنت مؤمن بقضاء الله وقدره يا علي ولست بحاجة لأذكرك بهذا ..

 

أمسك علي بذراع جمال صارخاً :

-لا تلوك الكلام في فمك يا جمال وهات ما عندك دفعة واحدة

 

- اهدأ يا علي .. أصابعك تكاد تخترق ذراعي

 

تراخت يد علي عندما فهم من دموع جمال أن عبد الله قد حدث له أمر عظيم ، فقال واللوعة تفطر قلبه :

- هل مات عبد الله ؟

 

همس جمال

-ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون .. كل المعلومات تؤكد أن الموساد هو من قتله

 

انتهى الجزء الأول

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

الجزء الثاني

 

 

 

أعاد خبر استشهاد عبد الله إلى علي ذكرى استشهاد والديه أمام عينيه ، ما أقسى الذكريات و ما أقسى الألم حين يعتصر قلبك بقبضة من الأشواك لا ترحم .. كان على حينها في الثانية عشرة من عمره و يستعد لدخول المرحلة الإعدادية حين اصطحبه والداه لشراء بعض مستلزمات الدراسة بمناسبة بدء العام الدراسي و شراء هدية له أيضاً لحصوله على الحزام الأسود في لعبة الكاراتيه التي يتقنها والده ، و كان علي وقتها يشعر بمدى سعادة والديه ، فأمه التي تعمل مُدرسة في ذات المدرسة التي يتلقى فيها تعليمه تُحب تفوقه الدراسي بينما تلمع عينا والده فرحاً لحصوله على الحزام الأسود في الكاراتيه رغم صغر سنه .

 

تحجرت دمعة متمردة في عيني علي قبل أن تشق طريقها إلى خده و هو يستعيدُ ذكرياته إذ أن بقاء السعادة واستمرارها في مكان كالذي يعيش فيه علي يُعتبر من المستحيلات مع وجود الصهاينة و جرائمهم التي لا تنتهي.

 

كان علي و والديه على موعد مع إحدى هذه الجرائم ، التي كانت تنتظرهم حين اقتربت سيارتهم من ذلك الحاجز اللعين الذي يقف عليه أحقر ما أنجبت البشرية من نفوس .. ففي الوقت الذي أشار فيه أحد الجنود لوالد علي كي يتقدم بسيارته نحو الحاجز ، طالبه جندي آخر بالتوقف والرجوع إلى الخلف ، ولكن الجندي الذي أمره بالتقدم طلب منه أن يقترب من الحاجز مرةً أخرى ، فاستشاط الجندي الآخر غضباً و دخل مع زميله في عراك بالألفاظ و انتهى به الأمر بأن صوب بندقيته نحو سيارتهم و أطلق النار على من فيها حتى أفرغ مخزنه بالكامل .. كان علي في المعقد الخلفي للسيارة ينظر بذهول لما حدث ، و مشهد الدماء التي تناثرت على وجهه من رأسي أمه وأبيه وفي كل ركن داخل السيارة يحاصره من كل جانب و بسبب الصدمة النفسية العنيفة التي تلقها علي وغزارة الدماء التي نزفت من عنقه حين خدشته إحدى الطلقات غاب عن الوعي تماماً ، ولم يستيقظ إلا داخل المستشفى بعد مرور أسبوع كامل على الحادث .

 

يومها حاول الجميع إخفاء الخبر عنه حين سأل عن والديه ، ولكن الأسى المرتسم على وجوه المحيطين به باح له بخبر يتمه و نقل الخبر الذي لم يجرؤ أحداً على التفوه به .

باءت محاولات الجميع لإخراج علي من حزنه بالفشل .. وعلى الرغم من تأقلمه على الحياة في بيت عمه الذي شمله بكل العطف والرعاية ، إلا أن بالغ الأثر في التخفيف عنه كان على يد خاله بعد خروجه من المعتقل إذ تكفل بتحفيظ علي القرآن مع عدد من الصبية في المسجد و هناك التقى علي لأول مرة بصديقه عبد الله يتيم الأب أيضاً ..

 

كان عبد الله بالنسبة لعلي بمثابة الأخ والصديق و عاش الصديقان مرحلتي الصبا والشباب معاً ، و أصبح كل واحد منهم كاتماً لأسرار الآخر و كانا لا يفترقان إلا عند النوم فقط لدرجة أن من لا يعرفهما يظن أنهما أخوين توأمين .

 

تنهد علي بحرارة الجمر المستعر في صدره وهو يتذكر يوم أُصيب عبد الله في ساقه أثناء إلقاءه الحجارة على الجنود الصهاينة في الانتفاضة الأولى .. وكيف أجبر الأطباء يومها - رغم اعتراضهم لصغر سنه - على أن يأخذوا الدماء التي يحتاجها عبد الله من عروقه لإجراء الجراحة له.. ثم تذكر يوم أن اعتقلت السلطة عبد الله من بيته بطريقة وحشية فظلت أمه بعدها تصارع الآلام و الأسقام حتى انتقلت إلى جوار ربها من شدة الحزن و المرض ليُصبح يتيم الأم والأب مثله تماماً ، و بالرغم من الأساليب الوحشية التي استُخدمت مع عبد الله في التعذيب ، إلا أنه رفض أن يذكر اسم علي الذي قام بتنظيمه في صفوف كتائب القسام بعد أن نظمه خاله فيها أولاً و لم يذكر حتى اسم أي فرد من أعضاء التنظيم أثناء التحقيق معه ..

 

مر شريط الذكريات كجنزير دبابه على قلب على لتهب بعده ريح الفراق و تعصف به و تلقيه في بحرٍ من الأحزان ، لتتقاذفه أمواجه من ذكرى لأخرى حتى وصل لليوم الذي غادر فيه عبد الله قطاع غزة متوجهاً إلى مصر في مهمة رفض بإصرار أن يصحبه علي فيها .. انتفض علي عندما وصل بذكرياته إلى هذه النقطة و قام ليدور بعصبية في الغرفة دون هدف و هو يصرخ و يتهم نفسه أنه سبب ما حدث لعبد الله..

 

اقتحم عم علي و زوجته الغرفة عندما سمعا الجلبة ، ليجدا علياً على الأرض مغشياً عليه ..

قالت زوجة عمه واللوعة تفطر قبلها :

- هل سنتركه يقتل نفسه هكذا .. مر أسبوع كامل و هو على حالته هذه دون أن نرى التقدم الذي وعدنا به الطبيب خليل

 

قال أبو حسين لزوجته بحزم مصطنع و هو يتهرب من الإجابة

- هل سنقف نُثرثر ونتركه هكذا ؟.. أحضري أي شيء بسرعة لنوقظه ..

 

استعاد علي وعيه وما أن فتح عينيه حتى هتف باسم صديقه فقال له عمه و الدموع تملؤ عينيه

- عبد الله استشهد يا بني .. و هو الآن حي عند ربه مع الشهداء والصديقين

 

نهض علي و هو يشعر بالألم لدموع عمه ثم قال:

- أعرف يا عماه .. أعرف ذلك تماماً و أشعر به .. و لكن ألم الفراق و الشعور بالذنب يلازماني دائماً ..

 

سأله عمه بدهشة :

- أي ذنب .. وما شأنك أنت بهذا الأمر

 

أجابه علي بمرارة

- كيف تقول ذلك يا عمي ؟ .. كان عليَّ أن أمنعه قبل أن ..

 

بتر علي عبارته عندما دخلت زوجة عمه قائلة :

- لقد اتصلت بخاله .. هو الوحيد القادر على أن يرجعه إلى صوابه

 

هتف زوجها غاضباً

- من قال لك أن تفعلي ذلك يا امرأة ؟..

 

قاطعته أم حسين

- أنت لم تستطع فعل شيء له .. و أنا أعرف أن خاله يستطيع مساعدته لأنه يعرف كل شيء عنه..

 

صرخ أبو حسين بغضب

- أُقسم أنك وخاله سبب ما هو فيه الآن .. أنتم تخفون عني شيئاً لا أعرفه .. ولن يهدأ لي بال حتى أعرفه

 

لم يمر الكثير من الوقت بعدها حتى حضر خال علي و دخل غرفة على و أغلق الباب خلفه

- ماذا دهاك يا علي ؟ أي بئر مظلم للأحزان تلقي فيه نفسك ؟.. ثم لم كل هذا الحزن وقد اعتدنا على فراق الأهل والأحباب ؟

 

رد علي بألم

- أتسألني يا خالي و أنت أكثر من يعرف !

 

- أسألك لأني أكثر من عرفك .. فأنت لم تعد علياً القوي الذي أعرف .. أنت لم تكن هكذا حتى في طفولتك ، فكيف تسمح الآن للضعف أن يتسلل إلى نفسك بعد كل ما مررت به من تجارب في شبابك ؟

 

- ليس الضعف يا خالي .. إنه الحزن و ألم الفراق و الشعور بالذنب ..

 

- أي شعور بالذنب الذي تتحدث عنه ؟ .. لقد كان عبد الله هو صاحب فكرة السفر إلى مصر عندما علم بإمكانية الحصول على سلاحٍ مضاد للدروع من هناك .. وهو من قرر الذهاب وحده دون أن يطلعنا على تفاصيل كافية

 

- ولكني كنت أستطيع أن أمنعه ، أو على الأقل أن أرافقه .. بل كان يجب عليَّ أن أرافقهُ حتى أحافظ على العهد الذي قطعناه سوياً بأن لا نفترق مهما حدث

 

- أولم تفعل حين عرضت عليه أن ترافقه و رفض عرضك بشدة ؟ لقد كان يعرف- رحمه الله - أنه سيُلقي بنفسه داخل أخطار المجهول ، و لقد احترمتُ فيه إصراره على الذهاب وحده حتى لا تكون خسارتنا جسيمة

 

- لو أنني ذهبت معه لما كان هناك خسائر أصلاً .. إني لأحتقر نفسي لأنني فكرت بطريقتكم هذه ..

 

- ما هذا الهراء الذي تغرقُ نفسك في أوحاله ، أُقسم أن مساً من الجنون قد أصابك.. هل ستعترض على إرادة الله وقدره بأمنياتك التي تعارض ما نفذ فيه أمر القضاء !؟.. هل أنت بحاجة لمن يُذكرك أن عبد الله قد استشهد في سبيل الله و أنه بلغ أسمى ما تمناه .. انفض عن رأسك هذه الأوهام يا بني و حاول أن تبكي إن استطعت ، عل البكاء يغسلُ ما بقلبك من مرارة و عذاب

 

- لو أن الدموعَ تغسل ما في القلوب من مرارة لخليت سبيلها و تركتها تجري أنهاراً .. و لكن المرَ لا يزول إلا بالدماء .. أعترفُ أنني كنت أحمقاً حين استسلمت للصدمة و مكنت اليأس من عزمي بينما كان يجب عليَّ أن أقوم بخطوات عملية من أجل الوصول إلى القتلة

 

- نجمة داود التي رُسمت على صدر عبد الله بعد أن أُلقيت جثته على الطريق الصحراوي بين العريش و رفح توجه بوصلة الاتهام نحو الصهاينة

 

- ألم يتوصل الأمن المصري إلى معلومات تدل على القتلة ؟

 

- قُيد الحادث ضد مجهول .. فالأمر غامض بالنسبة لهم و لم يستطيعوا حتى الآن التعرف على هوية عبد الله الحقيقية

 

- ألا يوجد جديد في معلوماتنا نحن ؟

 

- مصادرنا تشير إلى أنه غادر رفحاً المصرية متوجهاً إلى القاهرة بصحبة ذلك الشاب ، و بعد يومين من العثور على جثة عبد الله عثر الأمن على جثة الشاب ملقاة بجوار ترعة الإسماعيلية ، وهذا يشير أن أصابع القتلة تتحرك ضمن ذات الشبكة ..

 

خرج علي من عزلته بعد أن حدد لنفسه هدفاً عاهد الله أن يحققه .. و كم كان يشعر بالدهشة حين يرى الابتسامات و الضحكات على وجوه الناس .. كل شيء أصبح غريباً في عينيه حتى تمنى أن يتغير لون السماء حزناً على صديقه ، بالرغم من أنه يعلم جيداً أن عجلة الحياة لن تتوقف لرحيل صديقه

 

حاول أن يتحكم في حزنه و أن يطويه كما فعل مع أحزان سابقة عله يفكر بطريقة أفضل فيما يجب فعله ، إلا أن المشاعر في قلبه كانت الرياح التي تلهب نيران الأحزان من تحت رماد اللحظات ، فتشتعل عينيه بلون الدماء و تنتفض الأحلام في رأسه كمارد يحطم كل ما حوله من أعداء ليهدأ من جديد و هو يحوقل و يستغفر الله و يدعوه أن يوفقه للثأر لأخيه و أن يجعل الإخلاص رفيقه في كل أعماله ..

 

لفحت نسمةٌ باردة وجهَ علي و هو فوق سطح منزل والده و كأنها تُؤذن بقدوم الخريف ، فنظرَ للاتجاه الذي أتت منه و عندها وقع بصره على البحر الذي طالما شاركه أحزانه .. فناداه علي و قد ثار الحنين و اختلط مع الألم في نفسه

- اشتعل أيها البحر .. اشتعل بأحزاننا و اتقد غضباً ، اشتعل وخذ من آلامي وقوداً و ليعلو اللهب منارة لكل الصادقين و لعنة على الطغاة المعتدين .. اشتعل كثورة البركان الكامنة في أعماقي و أرسل الحمم شهباً تخترق السماء لتدك حصونهم .. اشتعل فأنت منا و نحن منك

 

- هل تتحدث مع نفسك يا علي ؟

 

التفت علي إلى مصدر الصوت و قال بضيق :

- هل تريد شيئاً يا جمال ؟

 

شعر جمال بالحرج حين انتبه أنه اقتحم على علي وحدته فهمس قائلاً :

- لا شيء .. و لكني جئت أخبرك أن الشباب قد انتهوا من تجميع العبوات و..

 

قاطعه علي قائلاً :

- و هل هذا خبر مهم .. ضعوا ما قمتم بتجميعه داخل السيارة كما أخبرتكم

 

تصبب جمال عرقاً و شعر أنه ارتكب حماقة ، فقال بتأسف وهو يهم بالانصراف :

- أعتذر لأني قطعت عليك وحدتك ، سأذهب لنقل الـ ..

 

ناداه علي و قد طغت نبرة الحسرة على صوته :

- انتظر يا جمال .. أنا الذي أعتذر ، يبدو أنني أزداد حُمقاً رغم محاولاتي الجادة للخروج من هذه الأزمة ..

 

رد عليه جمال بحب و ود

- كلنا نعلم مدى تعلقك بالشهيد ، ونعلم أيضاً أنك ستعود إلينا قريباً أقوى مما كنت سابقاً

صمت جمال للحظة ثم قال بهدوء حرص أن يبدو طبيعياً :

- أتدري يا علي .. حين اقتربت منك سمعت همهمتك ، فشعرت بالفرح لأني ظننت أنك تبكي ثم تبين لي أن تخاطب نفسك!

 

قال علي بشرود وهو يُشير بيده :

- كنت أتحدث مع البحر .. صدقني كم حاولت البكاء دون جدوى ، ثمة شيء ساخن يغلي في أعماقي ، فأشعرُ بالدماء تلتهب في رأسي و صوت قادم من أعماق عقلي يطالبني بفعل شيء ، و تغورُ الدموع من عيني فأهرب للبحر دوماً لأطفئ فيه أحزاني ..

 

- مصابك هو مصابنا يا علي ، و رحيل عبد الله ترك فراغاً كبيراً في قلوب الجميع .. نسأل الله تعالى أن يجمعنا به مع الشهداء والصديقين و أن يرزقنا ما رزقه من فضل الشهادة

 

أََمن عليٌ على دعاء جمال ثم قال له :

- غداً بإذن الله سنجتمع هنا لأُطلعكم على أمرٍ هام ، فأرجو أن تبلغ الجميع بذلك

 

و في اليوم التالي .. اجتمع علي بمجموعته ليحدثهم عن القرار الذي اتخذه :

- تعلمون أن الهدف الذي تسعى إليه مجموعتنا هو إنشاء نواةٍ صلبة لجهاز أمني يُمكنُنا العمل من خلاله بطريقة منظمة و مؤثرة ضد العدو .. و تعلمون أيضاً أن هدفنا هذا هو اجتهاد منا يتماشى بخط متوازٍ مع عملنا في اللجنة العلمية الخاصة بكتائب القسام كي تستفيد منه الأجنحة المختلفة للكتائب

صمت علي قليلاً ثم أضاف قائلاً

- و حقيقة القول أن القيادة لا علم لديها عن فكرة إنشاء هذا الجهاز.. و لكنهم على إطلاع كامل على فكرة التدريب فوق الاعتيادي التي ننفذها ، كما أن معظم ما قدمناه سابقاً كان له أثرٌ طيب على نظرة القيادة لمجموعتنا .. و كانت استراتيجيتنا تقوم على مواجهة جهاز الشباك الصهيوني لتأثيره المدمر على قوى المقاومة ، ولكن بعد أن دخل الموساد على جبهة المواجهة بقتله عبد الله وجبَ علينا أن نُبين له أننا أيضاً نستطيع أن نضرب و نرد الصاع صاعين..

 

قاطعه صلاح بحذر

- ولكن هذا يعني أننا سنواجه الصهاينة خارج الأرض المحتلة وهو ما يتعارض مع الخط الواضح للحركة بعدم نقل المعركة خارج أرض فلسطين

 

أطرق علي برأسه قليلاً ثم قال :

- لست وحدك يا صلاح من أدرك فحوى كلماتي .. فأنا واثق أن جميعكم قد فهم ما سأقوله من خلال مقدمتي هذه ، ولكن يجب أن تسمعوني للنهاية قبل أن تبدوا آرائكم

 

هتف جمال بحماس

- أنا موافق على مواجهة الموساد و أعتقد أن قواعد اللعبة سيكون فيها بعض التكافؤ لصالحنا ، لأن الموساد -غالباً- لا يملكُ أرض المعركة كما هو الحال مع الشاباك هنا .

 

أومأ علي برأسه موافقاً ثم استطرد قائلاً :

- هذا صحيح .. يمكننا أن نعمل بنفس طريقة الموساد دون أن نعلن عن أنفسنا لأحد ، و نوجه إليهم رسائلنا التي تعلن عنا بقوة و تحدٍ كما فعلوا ..

 

قال فريد بدهشة :

- حديثك يعني أن مجموعتنا ستنتقل للعمل خارج فلسطين ، وهذا أمر يحتاج لأبجديات كثيرة من بينها وقتٌ طويل للإعداد و الأهم منه موافقة القيادة التي سترفض ذلك حتماً

 

نظر علي إليه بعتاب و قال

- دعوني أبين لكم الفكرة أولاً دون مقاطعة .. ثم نناقش الأمر بعد أن أنتهي

 

قال جمال:

- تحدث يا علي و لن نقاطعك

 

تنهدَ علي قبل أن يُكمل حديثه و كأن ما سيقوله سيفتحُ له الكثير من الجراح

- تعلمون أن أخبار عبد الله قد انقطعت و لم يتصل بنا قبل أن يتم العثور على جثته بفترة .. و هذا يعني أنه وقع في يد جهة احتجزته لفترة من الوقت قبل أن تقتله بوحشية ، ما كنا نعرفه هو أن عبد الله كان على اتصال برجل مصري يسكنُ في مدينة الشيخ زويد و يتاجر بالأسلحة.. و كان هذا الرجل هو حلقة الوصل بين عبد الله و الجهة التي تملك سلاح الآر بي جي .. المعضلة المحيرة الآن أن هذا الرجل تم قتله أيضاً و أُلقيت جثته في ترعة الإسماعيلية ، و بذلك فقدنا طرف الخيط الذي يُمكِنُنا من الوصول لقتلة عبد الله .. كما أن الأمن المصري قيد القضيتين ضد مجهول لشح الأدلة و المعلومات ، رغم أن بعض المصادر لدينا تُفيد أن يداً ذات نفوذ تدخلت لإنهاء التحقيق بهذه الطريقة ، وهذا يعني أن دم عبد الله سيذهب هدراً وستبقى الجهة التي قتلته حرة طليقة .. ليس هذا و حسب بل إن هذه الجهة أرادت أن ترسل لنا رسالة تحدٍ صريحة تحمل في طياتها التهديد بعدم تكرار المحاولة و تبين فيها هويتها برسم النجمة السداسية على صدر عبد الله .

 

توقف علي عن الحديث لحظات ليراقب تأثير كلامه على وجوه رفاقه ثم استطرد قائلاً :

- بالنسبة لي فقد قبلت التحدي و أقسمت أن يدفعَ هؤلاء الأوغاد القتلة ثمن فعلتهم حتى يعرفوا أننا الأقوى حين يكون العملُ على أراضٍ عربية كمصر ، و لذلك قررت قراراً لا رجعة فيه أن أذهب إلى مصر ..

صمت علي للحظات ثم أكمل بحزم :

- و لن يمنعني عن قراري هذا سوى الموت

 

وقف جمال قائلاً

- و أنا أول المنضمين إليك .. و تبعه الجميع بصوت واحد : كلنا معك يا علي .. و لكن الدهشة أصابتهم حين قال علي :

- سأذهب وحدي فقط و لن يذهب أحد منكم معي .. كما أن بقاءكم هنا لاستكمال ما بدأناه سيساعدني أكثر

 

قاطعه صلاح بعصبية :

- أنت تُكرر نفس الخطأ الذي قام به عبد الله حين أصر على الذهاب وحده ، و لن نسمح لك بذلك حتى لو منعناك ...

 

رد علي بحزم :

- لن أكون وحدي في مصر وأنتم تعلمون ذلك .. هل نسيتم أن لنا خلية هناك تنتظر الأوامر بالعمل

 

قال صلاح

- هل تقصد الخلية التي كونها أخونا المصري أحمد ؟

 

هز على رأسه بإيجاب قائلاً

- نعم .. أنتم تعلمون جيداً أن أحمداً أصبح واحداً منا بعد أن جاء إلى هنا و شاركنا العمل و تعرف على كيفية إنشاء الخلايا والمجموعات العسكرية، وهو يسعى للشهادة بصدق كأي واحد فيكم ، وقد أثبت هذا بدمه حين أُصيب ومن بعد في العملية التي شارك في تنفيذها قبل أن يعود إلى مصر

 

تمتم صلاح

- أنا أثق بأحمد و أعتبره واحداً منا .. و لكن المجموعة التي معه قد لا توافق على العمل داخل مصر لأن دافعهم هو الجهاد هنا كما فعل أحمد و ليس العمل داخل الأراضي المصرية

 

أجابه علي

- كل شيء سيتضح أكثر حين التقي بهم .. رغم أني أصبحت أعرف الكثير عنهم وعن طريقة تفكيرهم من خلال اتصالي الدائم بأحمد ..

 

استطاع علي أن يُقنع أفراد مجموعته بما ينوي فعله و لكن خاله خالفه الرأي وحاول أن يمنعه ، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل أمام إصرار علي .. ثم انتهى الأمر أخيراً على أن يتحمل علي النتائجَ وحده ، و أن يترك موقعه كقائد للمجموعة ليكون صلاح حلقةَ الوصل بين القيادة و المجموعة

 

أنهى علي الإجراءات الرسمية للحصول على تأشيرة الدخول إلى مصر و استطاع في نفس الوقت أن يُقنع عمه بصعوبة بالغة بمباركة سفره و هو يظن أن علياً ذاهبُ لشراء بعض الأدوات الحديثة الخاصة بالتمارين الرياضية

 

 

 

- و كيف وافقت على ذهابه إلى مصر ؟

أجاب أبو حسين زوجته قائلاً :

- أبعد كل ما شاهدته تسألين.. لقد حاولت بشتى الطرق أن أمنعه ولكنه أصر على رأيه و يزعم أن السفر في مصلحته

 

قالت أم حسين باستنكار

- وماذا لو كان يسير في طريق صديقه عبد الله .. هل هذا في مصلحته أيضاً ؟

 

هز أبو حسين رأسه بالنفي وهو يقول :

- لا أظن أبداً أن هذا هو السبب .. ثم إن صديقه عبد الله دخل إلى مصر عن طريق الأنفاق ، وهذا شيء لن يفعله علي لأنه سيغادر بطريقة رسمية

 

ردت أم حسين بنبرة ساخرة

- يبدو أنه استطاع خداعك كما يفعلُ دائماً .. أما أنا فلا ، لأنني أعرفه جيداً و أعرف طريقة تفكيره

 

شعر أبو حسين بالغضب من من تهكم زوجته فقال لها محتداً

- و ماذا تريدين مني أن أفعل لأمنعه .. أأحبسه في المنزل ، أم أتبرئ منه ؟ أنسيت أنه قد كَبُر وأصبح رجلاً ..

 

قاطعته زوجته بحدة مماثلة

- وهل سنتركه يضر نفسه لأنه قد كبر؟

 

ازدادت حدة أبو حسين و علا صوته و هو يقول :

- هل تخليت عنه يا امرأة ؟! لقد كنت شاهدة على عدم موافقتي على سفره ، بينما كان يبيع سيارته و يسحب مبلغاً كبيرا من حسابه في البنك و يرتب أوراق السفر دون اكتراث بقولي... صمت ابو حسين ثم قال لزوجته بنبرة فيها شيء من الود

 

- لم يكن بمقدوري أن أعارضه أكثر من ذلك ، حتى لا يسافر رغماً عنا و ينشأ الخصام بيننا عندها لن نستطيع الاتصال به وهو هناك .. فرأيت أن يسافر برضاي ، لأني أعلم جيداً أن من له معزةً أكبر مني عند علي لم يفلح في ثني عزمه عن السفر

 

نظرت أم حسين بدهشة لزوجها و هي تسأله

- من تقصد ؟

 

رد أبو حسين

- خاله طبعاً .. ألا تعلمين أن تأثير خاله أكبر عليه من تأثيرنا جميعاً .. لقد جاءني في العمل منذ أيام طالباً مني أن أقنع علي بالتخلي عن فكرة السفر و حين قلت له لم لا تفعل أنت ذلك أجابني أن ذلك كاد يتسبب بالخلاف بينه و بين علي .. و لا أُخفيكِ سراً أنني ارتحت كثيراً حين علمت أن خاله يعارض هذا الأمر فأهم شيء عندي أن لا يكون لسفر علي علاقة بخاله و..

 

قطع أبو حسين حديثه عندما سألته سهام و هي تدخل من باب الغرفة باستغراب :

- من الذي سيسافر ؟

 

وجه أبو حسين حديثه لابنته باستهجان

- و من غير علي .. ألا تعرفين أنه سيسافر ؟

 

قالت سهام بدهشة :

- إلى أين ؟

 

رد أبو حسين محتداً

- إلى أين !! ألا تعيشين في هذا البيت ؟

 

تدخلت أم حسين و قالت

- علي قرر السفر إلى مصر لشراء أجهزة يحتاجها في عمله

 

ردت سهام بشيء من الحدة

- ولكن علي لم يذهب إلى مصر سابقاً .. فكيف تسمحون له بذلك الآن ؟

 

أشارت أم حسين لزوجها وهي تقول :

- والدكِ من سمح له !

 

نهض أبو حسين وهو يقول بضجر

- سأذهب إلى الديوان بدلاً من أن أُصاب بالجنون بسببكما .. أقول لواحدة ثور فتقول احلبوه ، و الثانية تُريد أن نقدم لها تقريراً عما يحدث في المنزل الذي تعيش فيه .. أي عائلة هذه !

 

عاد علي إلى المنزل في وقت متأخر من الليل ، فوجد ابنة عمه سهام مستيقظة فسألها بعد أن ألقى السلام :

- لماذا أنت مستيقظة في هذا الوقت من الليل ، هل حدث شيء ؟

 

- لم يحدث شيء ولكنني أردت أن أتحدث معك بشأن سفرك

 

- هل تريدين أن أشتري لك شيئاً معيناً من مصر ؟

 

تنهدت سهام بضجر وقالت :

- لا .. و لكن هل ستسافر حقاً ؟

 

أجاب علي :

- نعم سأسافر صباح الغد إن شاء الله

 

- بهذه السرعة ؟.. و لا أدري إلا بالصدفة !

 

- و كيف ستعرفين و أنت في عزلتك باستمرار و بالكاد نراكِ بيننا

 

سقطت دمعة من عين سهام رغماً عنها قبل أن تقول :

- ألا تعلم سبب عزلتي وما أنا فيه .. ألست على علم بكل شيء ؟

 

- و هل هذا سبب يدعوكِ للعزلة ؟

 

تدفقت الدموع أكثر من عيني سهام وهي تقول:

- أشعر أن الجميع يعلم بما ارتكبته من حماقة ، ولذلك أخجل من الظهور أمامهم باستمرار

 

- لا يبدو الأمر كذلك يا سهام بالنسبة لهم .. فما تعتبريه أنت خجلاً يعتبره المحيطون بكِ تكبراً و غروراً .. لأنهم لا يعرفون شيئاً مما حدث معك

 

- أُقسم أنه ليس تكبراً.. و لكني أشعر بالذنب تجاههم و لم أجد سوى الله لأتقرب منه أكثر و ذلك عملاً بنصيحتك

 

- حدثتني زوجة عمي أنكِ ارتديت النقاب وأنك تقرأين دائماً في كتاب الله ، وقد أسعدني ذلك كثيراً .. ولكننا يا سهام نلجأ إلى الله كي يكون معنا في الحياة و يحفظنا ، وليس هروباً من الحياة و من الناس .. خاصةً الأهل الذين لهم علينا حق الرحم والوصل

 

- أفهمُ كلامك وأعدك أن أعمل به .. ولكن اصدقني القول يا علي .. هل ذهابك إلى مصر له علاقة بالسبب الذي ذهب إليه صديقك عبد الله ؟

 

أقنع علي سهام أن سفره إلى مصر يأتي لتحسين أوضاع عمله فقط .. و في يوم السفر صمم عمه و زوجته على مرافقته إلى المعبر الحدودي لوداعه رغم كل محاولاته لإقناعهم بالعدول عن ذلك

 

و عندما وصلت السيارة التي تُقل علي وعمه وزوجته إلى رفح قال صلاح الذي كان ينتظر علي عند البوابة الحدودية :

- يبدو أنك ستنتظر حتى الظهر فالمسافرون كُثر و المعبر مزدحم

 

هم أبو حسين أن يتصل ببعض معارفه ليسهل الأمر ، و لكن علي منعه من ذلك محتجاً بأن له صديقاً في رفح سيذهب لوداعه و يقضي عنده الساعات المتبقية حتى يأتي ميعاد السفر ، ثم طمأنه بأنه سيتصل به بمجرد أن يصل إلى مصر .

 

بهذه الطريقة استطاع علي أن يقنع عمه وزوجته بالعودة إلى البيت وما كادت سيارة عمه تتحرك بعد وداعهم له ، حتى تقدمت سيارة أخرى من علي وصلاح فصعدا إليها متجهين نحو مدينة رفح

 

كان ياسر صديق علي يقود تلك السيارة و توجه بها نحو مخيم رفح على الشريط الحدودي مع مصر حيث يسكن ، وكانت مفاجأة كبيرة لعلي حين وجد خاله في بيت ياسر و هو يقول له :

- قلت لنفسي بما أنك ستقضي النهار هنا فلا بأس أن أقضيه معك

 

عانق علي خاله وهو يقول :

- أحمد الله تعالى أني رأيتك قبل سفري لأطلب منك السماح

 

رد خاله معاتباً

- وهل كنت تظن أن أتركك تسافر دون أن أودعك ؟ .. العمل شيء والقرابة والرحم شيء آخر

 

قال صلاح وهو يلكز علي غامزاً

- والعمل شيء والصداقة شيء آخر أيضاً .. فلا تنسى ذلك أبداً وأنت هناك

 

قال ياسر بمزاحه المعتاد :

- أبعد أن أنهيت كل إجراءات السفر تغادر إلى مصر من خلال نفق ؟

 

أجاب علي موضحاً

- لم يكن باستطاعتي أن أفعلَ غير ذلك أمام الأهل والجيران

ثم خفض علي صوته و قال بخبث

- و كذلك أمام الفضوليين أمثالك

 

ابتسم ياسر و قال

- صحيح أني لا أعرف سبب سفرك ، و لكن من المؤكد أنك لن تذهب لقضاء نزهة بريئة .. و على كل حال أرجو أن تُبلغ سلامي لصديقنا أحمد و لو أن الحظ لم يسعفني لأتعرف عليه أكثر لقصر الفترة التي قابلته فيها

 

سأل خال علي بدهشة

- من أحمد هذا ؟

 

رد علي بسرعة على خاله قبل أن يتحدث ياسر

- دعك منه فهو يسعى ليستدرجني ليحصل على أكبر قدر من المعلومات

ثم غير علي دفة الحديث و سأل ياسر قائلاً

- هل كل شيء على ما يرام ؟

 

أجاب ياسر بجدية

- نعم .. ستنطلق من هنا مساءاً نحو البيت الموجود به النفق برفقة صاحبه ، و بعد وصولك للطرف الآخر بإذن الله ستجد رفاقه هناك ، و سيحرصون على أن لا تعرف من أي البيوت خرجت .. و لكن أصدقائي هناك سيراقبون كل البيوت في المنطقة تحسباً لأي غدر ، فمعظم أصحاب الأنفاق لا يؤمن جانبهم

 

قال علي

- أعلم أن مافيا الأنفاق مخترقة حتى النخاع ، ولكنهم يبالغون في السرية فيما يخص عملهم ، و رغم ذلك فأنا أراهن أنك تعلم مكان البيت الذي يوجد به النفق هنا

رد ياسر بفخر

 

- لقد بذل صاحبه المستحيل كي يضللني و لكني استطعت معرفته بطرقي الخاصة .. لكن السؤال هل يسير النفق بخط مستقيم أم أنه يسير يميناً أو يساراً لمسافة معينة قبل أن يتوجه لاجتياز الحدود .. و هذا ما يجعل معرفة الطرف الآخر هناك أمراً صعباً للغاية

 

قال علي و علامات التفكير ظاهرة على قسماته

- اتصل بأصدقائك في الطرف الآخر وقل لهم أنه تم التأجيل لمدة يومين

 

فوجئ ياسر بكلام علي فقال :

- حسناً سأتصل الآن .. ولكن لم غيرت رأيك ؟

 

قال علي

- لم أغير رأيي .. و لكني لا أريد أن يعلم أحدٌ بقدومي ، حتى لو كانوا أصدقائك الذين نثق بهم من خلال تجارب سابقة

 

قطع خال علي الحديث و سأل علي

- هل تحمل سلاحاً ؟

 

أومأ علي برأسه في إيجاب و هو يقول

- معي مسدسي وبعض الطلقات

 

- حسناً أعطيني مسدسك وخذ مسدسي هذا

 

انبهر صلاح حين شاهد المسدس و قال :

- هذا المسدس لا أستبدله بعشر مسدسات من نوع مسدسك يا علي

قال علي

 

- أعرف قصة هذا المسدس جيداً فهو من نوع سميث عيار 9 مم و هو أفضل بكثير من نوع البراوننج الذي أحمله .. و لكني أعلم معزة هذا المسدس عندك يا خالي و أستغرب أن تعطيني إياه!

 

أجابه خاله وقد بدا عليه التأثر

- لا يوجد لدي من هو أعز منك لأهديه هذا المسدس ، بالرغم مما يمثلهُ لي من ذكرى حبيبة لقلبي .. و لكني أهديه لك لتذكرني دائماً و تتذكر نصائحي لك.. و أهم هذه النصائح أن لا تزجَ بنفسك في معركة لا تكون أنت الرابح فيها .. و إن فُرض عليك القتال فقاتل كالرجال

 

قال صلاح محاولاً تلطيف الأجواء

- لا أظن أنه ينسى ذلك أبداً .. فهو يكرر مثل هذه الأقوال لنا دائماً أثناء التدريب

 

قال ياسر مازحاً

- أعتقد أنكم ستتنفسون الصعداء في الفترة التي سيغيب فيها علي .. فلقد سمعت أن التدريب قاسٍ جداً

 

رد صلاح قائلاً

- هل تدري أنه لم يوافق على تدريبنا قبل أن يختبر قدرتنا على حبس أنفاسنا و رؤوسنا مغمورة تحت سطح الماء لمدة دقيقتين و نصف الدقيقة .. و لكي ننجح في هذا قضينا أكثر من شهر في التدريب على ذلك

 

بدا الحزن في نبرة صوت علي و هو يقول :

- هل تذكر المدة التي كان يقضيها عبد الله دون أن يتنفس تحت الماء ؟

 

صمت الجميع بعد عبارة علي الأخيرة و كأنهم شعروا بالذنب لفتحهم بوابة الأحزان و الذكريات من جديد ، ثم طلب منهم خال علي أن يتوضئوا لصلاة الظهر ، و بعدها أخذ علي صلاح إلى غرفة أخرى ليحدثه على انفراد و أوصاه بضرورة مواصلة التدريب ثم أعاد عليه كيفية الاتصال به باستخدام الإنترنت و الهاتف المحمول

 

قضى علي معظم ما تبقى من وقته مع خاله و في المساء .. عانق علي الجميع و ودعهم بعد أن وصل صاحب النفق .. و لم يمر الكثير من الوقت حتى كان علي في الطرف الثاني من النفق و أصبح في أراضٍ مصرية .. وبعد عشرة أيام البقية

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

كان علي برفقة أحد العاملين في النفق حين خرج من الجهة الأخرى للنفق ليجد نفسه في غرفة كبيرة دون نوافذ تملؤها صناديق السجائر و صناديق أخرى ، فنظر على للرجل الذي رافقه و قال له :

- هل هذه الصناديق للسجائر فعلاً أم أنها تحوي شيئاً آخراً ؟

 

أجابه الرجل بابتسامة قائلاً :

-هذه سجائر فعلاً .. فشريكنا هنا لا يتعامل مع الممنوعات لأنه يخشى كثيراً من رجال الأمن

 

رد علي متعجباً

- أليس حفر النفق في حد ذاته ممنوعاً!

 

أجابه الرجل باهتمام

- أن تنقل موادً عادية يُسمح بتداولها ، أمر يختلفُ تماماً عن التعامل مع تجار الممنوعات .. وهذا لأن تعاملك سيكون مع أناس بعيدين عن الشبهات .. لكن حين يتعلق الأمر بالممنوعات ستضطر للتعامل مع مافيا الممنوعات مما يعرضك لملاحقة رجال الأمن الذين يراقبون هؤلاء وكل من يحتك بهم ، ومع هذا فالسجائر تُدر ربحاً جيداً .

 

قال علي ساخراً

- أرى أيضاً مسحوق غسيل وعلب أدوية !

 

أجاب الرجل بلا مبالاة

- هناك أيضاً قطع غيار سيارات وأشياء أخرى .. المهم أن تكون هذه الأشياء من مصدر طبيعي ولا تعرضنا للتعامل مع المشبوهين .. فغالباً ما يتم اكتشاف الأنفاق عن طريقهم .. و تهمة هذه المخالفة كبيرة و تُدرج ضمن قضايا أمن الدولة في مصر

 

- وماذا عمَا تجلبوه من القطاع إلى مصر .. ! أم أن الأمر يقتصر على التوريد فقط ؟

 

-الأسعار في غزة مرتفعة ، وتقريباً لا يوجد شيء يمكن إدخاله إلى مصر من القطاع باستثناء الذين يريدون مغادرة القطاع كما فعلت أنت

 

أراد علي أن يغير دفة الحديث بعد أن أصابه الضجر فقال :

-هل سننتظر طويلاً قبل أن نغادر هذا المكان ؟

 

أجابه الرجل

– لا أعتقد ذلك ، فما زلنا في بداية الليل ، وهذا يعني أنك ستغادر قريباً قبل طلوع النهار .. وبالطبع تعلم أنك مضطر لقبول إجراءات الأمن هنا حتى نحتفظ بسرية المكان

 

رد علي بضيق

- أعرف ذلك .. و أرجو أن ننتهي من هذا الأمر بسرعة

 

و بعد مرور ساعة .. سمع علي و الرجل طرقات خفيفة على باب الغرفة ، فوجه الرجل حديثه لعلي قائلاً :

- ستلبس هذه النظارة السوداء وتمسك بيدي لأنك لن ترى شيئاً .. فبعد قليل ستُطفئ الأنوار و سنصعد سوياً في صندوق شاحنة مغطاة لتنقلنا إلى وسط المدينة ، وبعد توقفها ستنزل منها دون أن تلتفت خلفك

 

كانت السيارة تقف في مكان مظلم ، بعيداً عن باب الغرفة بمسافة تقل عن المتر الواحد .. ثم صعد علي على متنها بعد أن ارتدى النظارة المطلية باللون الأسود ومن بعده صعد الرجل خلفه .. و عندها تحركت السيارة و استمرت في السير حوالي نصف الساعة حينها شعر علي أنها تتجول في مدينة رفح المصرية بشكل عشوائي كنوع من التضليل .. وبعد توقفها طلب الرجل من علي أن يرتدي النظارة السوداء مرة أخرى مما أثار حنق علي ولكنه كتم ذلك في صدره تنفيذاً للاتفاق المبرم بينهم .

 

نزل علي من السيارة دون أن يلتفت خلفه و الرجل يقول له :

- يمكنك أن تُزيلَ النظارة الآن فقد انتهى الأمر أخيراً

 

ألقى علي نظرةً على المكان الذي يقف فيه ، فإذ به شارع جانبي ضيق يخلو من المارة بسبب الوقت المتأخر من الليل فقال علي وقد بلغ منه الضجر مبلغه

- و أخيراً انتهينا من إجراءاتكم السخيفة ؟

 

قال الرجل معتذراً

- نعم انتهى كل شيء ، ونحن نعتذرُ عن هذه الطريقة ، ولكنك تعلم ضرورة أخذ الاحتياطات اللازمة في أمور كهذه

 

أجابه علي بشيء من الارتياح

– حسناً ، لا بأس في ذلك ، المهم أننا انتهينا .. ولكن أين نحن الآن ؟

 

رد الرجل:

-إن سرتَ إلى نهاية هذا الشارع ستجد نفسك في وسط المدينة وهناك ستجدُ موقفاً لسيارات الأجرة ومنه يمكنك أن تصل إلى أي مكان في سيناء

 

- هل هناك سيارات يمكنها أن تُقلني إلى القاهرة ؟

 

-لا أعتقد أنك ستجد سياراتٍ متجهةً إلى القاهرة في هذا الوقت ، ولكنك تستطيع أن تستقل سيارة من هنا نحو العريش ، ثم تذهب من هناك إلى القاهرة .. سنفترق الآن و أتمنى لك التوفيق

 

ودعه علي ثم توجه نحو موقف السيارات .. وأثناء سيره كانت أصواتُ رصاصاتِ الموت و قذائفِ التدمير التي يُطلقها الصهاينة في رفح الفلسطينية واضحاً جداً و يخترقُ أذنيَ علي كخيوط من نار أشعلت في نفسه الإحساس بالغضب العارم و هو يشعرُ أنه يسمعُ نداءَ استغاثة من فلسطين ينادي كل الجيران و الإخوة من حولها ثم لا يلبث أن يتشتت في فضاءات الصمت ، و كلما ابتعد خطوةً عن فلسطين ، كان شعورٌ قوي بالحنين يشده إليها رغم أن ما يفصله عنها بضعة أمتار فقط .. رفع علي وجههُ إلى السماء و تمتم بدعاء خاشع أن يوفقهُ الله في مهمته كي يعود إلى وطنه بأسرع ما يمكن .

 

استقل علي إحدى السيارات المتجهةِ نحو مدينة العريش ، وعندما مرت السيارة بمدينة الشيخ زويد استوقف السائق بعجلة كي ينزلَ بحجة أنه سيعود إلى رفح ليحضر بعض الأغراض التي نسيها هناك ، و بعد أن نزل علي من السيارة سار للخلف باتجاه محطة وقود للسيارات كان قد لمحها و هو في سيارة الأجرة ، و أثناء مسيره نحوها أخرج هاتفه النقال المطفأ وقام بتشغيله ثم اتصل بصديقه جمال الذي عاجله بسؤال مباشر:

- هل استيقظت من نومك الآن ؟

 

رد علي بصوت ناعس :

- الآن فقط غادرت من الفراش

 

قال جمال بخبث

-هناك فلم فرنسي رائع اسمه السماء الصفراء ، تبثه المحطة التي حدثتك عنها

 

رد علي وقد بدا الأسف في نبرة صوته

- حاولت توليف القناة ولم أنجح

 

صمت جمال قليلاً و كأنه يتذكر ثم قال:

- هل جربت البحث على الموجة 124596

 

رد على بعجالة و هو ينهي المكالمة

– سأجرب الآن وإن لم أستطع سأتصل بك

 

أنهى علي الاتصال مع جمال و هو يركز نظره على سيارة من نوع بيجو صفراء اللون تقف في المحطة و تحمل لوحتها ذات الأرقام التي حدثه جمال عنها ، فتوجه مباشرة إليها و خاطب السائق قائلاً له :

-هل أنت مسافر إلى القاهرة ؟

 

أجابه السائق ببرود شديد

- الآن فقط وصلت من القاهرة و السيارة ما زالت بحاجة للراحة

 

قال علي :

-حسناً .. أوصلني إلى العريش وسأعطيك ما تطلبه

 

قال السائق بلهجة استغلالية واضحة

- سآخذ منك سبعون جنيها

 

قام السائق بتزويدَ سيارته بالوقود بينما جلس علي على المقعد الأمامي بجواره و بعد أن تحركت السيارة خاطبه السائق قائلاً

- اسمي مروان ، ولدي أوامرٌ بتلبية طلباتك وتنفيذ كل ما تأمر به

 

قال علي بهدوء

- هل يمكن أن نذهبَ الآن حيث دُفن عبد الله

 

صمت مروان ثم قال بتردد :

- الوقت متأخرٌ جداً ، وسيكون وجودنا في المقبرة في مثل هذا الوقت ملفتاً للنظر .. يمكنك أن تقضي الليلة في منزلي ثم نذهبُ في الصباح إلى المقبرة

 

هز علي رأسه موافقاً وهو يقول :

-حسناً لا بأس في ذلك ، فأنت أعلم بحال مدينتك مني

 

اتجه السائق مروان نحو منزله فسأله علي قائلاً

- هل يسكن معك أحد في البيت ؟

 

أجاب مروان

- نعم زوجتي وأبنائي الثلاثة

 

- وهل تترك سيارتك في الشارع أم لها مكاناً خاصاً بها ؟

 

رد مروان باستغراب

- هناك مكان مخصص لها بجوار البيت

 

- حسناً يا مروان .. اسمع ما سأقوله لك جيداً ونفذه بحذافيره .. حين نقترب من منزلك أخبرني قبل ذلك بفترة.....

 

قاطعه مروان بسرعة:

- قد اقتربنا من المنزل فعلاً .. فأنا أسكن بالقرب من هنا

 

انتقل علي من المقعد الأمامي بسرعة وتمدد على المقعد الخلفي وقبل أن يُبدي مروان دهشته من تصرف علي ، كان علي يقول :

-عندما تصل إلى بيتك تصرف بشكل طبيعي كأي يوم عندما تكون بمفردك

 

حاول مروان أن يفهم من علي سبب تصرفه ، ولكن علي أخبره أن تصرفه هذا لمصلحة الجميع ، لأنه لا يريد أن يشعر أحد بوجوده سواءً كان من جيران مروان أو من أهله وأخبره أيضاً أنه سيقضي ليلته داخل السيارة

 

و في الصباح .. و قبل شروق الشمس بقليل .. أحضر مروان طعام الإفطار وبعد أن تناولاه معاً ذهبا إلى المقبرة التي دُفن فيها عبد الله ، و أثناء الطريق كانت مشاعر على تتصارع في أعماقه بشدة ، فهو يقترب من المكان الذي يرقد فيه أغلى أصدقائه فشغل نفسه بالذكر و التسبيح حتى توقفت السيارة بجوار المقبرة و ترجل علي و مروان منها بصمت .. كانت المقبرة قديمة و القبور تملؤها .. سار علي و مروان بين القبور في شعاب ضيقة ، ثم توقف علي والتفت موجهاً حديثه لمروان و الحزن يُغالب كلماته

- تقدم أنت أمامي لتدلني على القبر

 

اكتست ملامح مروان بالدهشة وهو يقول :

- القبر الذي تقصده على يمينك مباشرة

 

غطى الحزن قسماتِ على و نظر بصمت خاشع للقبر .. ثم جثا على ركبتيه .. و وضع راحة يده بحنان عليه وهمس قائلاً بكل الحب الساكن في قلبه

- رحمة الله عليك يا أخي.. رحمة الله عليك يا توأم روحي، و هنيئاً لك الشهادة .. هنيئاً لك ما تمنيت يا صقر القسام الجارح و سيفه المجاهد ، و ما ضرك أن تموت غريباً عن أرضك و أحبابك .. ما ضرك و أنت في ضيافة الرحمن ، عهداً لك و لقبرك الطاهر أن لا تقرَ أعيننا حتى نلحق بك بعد أن نقتص لكل قطرة دم نزفت من جسدك و من أجساد أطفالنا و أهلنا .. عهداً لك أن نمضي على عهدِ القسام و الشهادة حتى يعود لنا أقصانا الغالي و سأصلي في رحابه مرتين ،مرة عني و مرة عن روحك الطاهرة و إن لحقت بك قبلها فهيئ لي مكاناً بجوار الحبيب المصطفى ...............

 

كان مشهد علي وهو يجثو أمامَ قبر صديقه مؤثراً للغاية مما جعل مروان ينسحبُ إلى الخلف و يقف بعيداً وهو يحاول عبثاً إيقاف دموعه التي تدفقت تأثراً بما يراه .. بعد لحظات انتصب علي واقفاً و توجه نحو مروان الذي عاجله بالسؤال قائلاً

- يبدو أنه – رحمه الله – قد كان عزيزاً عليك !؟

 

تجاهل علي عبارة مروان و سأله

- حدثني عنه بالتفصيل وعن كل ما تعرفه منذ لحظة دخوله إلى مصر و حتى انقطعت أخباره

 

بدأ مروان حديثه عن عبد الله و هو يشيد بأخلاقه و تدينه واستمر في حديثه حتى أتى على ذكر حامد الذي تعرف عليه عبد الله و الذي عُثر على جثته هو الآخر مقتولاً .. عندها استوقفه علي طالباً منه أن يدله على بيت حامد كي يلتقي بأخيه الأكبر، وأثناء الطريق طلب منه أن يحدثه عن أخ حامد ..

 

صمت مروان للحظات و كأنه يرتب معلوماته فيها ثم قال

- اسمه عبد الرحيم ويكنى بأبي محمود ، عمره حوالي 45 عاماً ، يعمل في هيئة النقل العام كسائق حافلة على خط القاهرة العريش ، ولديه سبعةً من الأبناء ، أكبرهم محمود يدرس في السنة الثالثة من المرحلة الثانوية .. عصبي المزاج ، ويخاف كثيراً من أجهزة الأمن .. و كل ما يتمناه في هذه الدنيا أن يربي أبناءه بعيداً عن المشاكل .. كان على خلاف مع أخيه حامد بسبب جُرأة حامد في الحديث عن قضايا يعتبرها أبا محمود خطاً أحمراً لا يجب تجاوزه ، كما أن لأخيه علاقة مع بعض المعروفين بتجارة السلاح ، وهم غالباً فئة تفتقد للأخلاق و لديها استعداد لفعل أي شيء من أجل المال.

 

كان علي ينصتُ لحديث مروان باهتمام حتى انتهى مروان منه ، فقال له على :

- أريدك أن تدلني على بيت هذا الرجل لأنني أنوي أن أزوره

 

- يمكنني الذهاب معك، لأن علاقتي وثيقة به و قد أفيدك ......

 

قاطعه علي بحزم واضح :

- لا أريد أن يعرف أحد أنك قابلتني.. كل ما أريده منك أن تدلني على بيته من بعيد و سأزوره بمفردي واعتبر أن مهمتك تنتهي عند هذا الحد لتواصل حياتك بعدها بصورة طبيعية و كأنك لم تشاهدني أو تلتقي بي .

 

ابتسم مروان قائلاً

- ولكني حقاً لا أعرفك.. فأنا حتى الآن لم أعرف اسمك أو أي شيء عنك

 

 

بعد ذلك أوصل مروان علي إلى المنطقة التي يسكن فيها أبا محمود و دله على منزله بالضبط ثم طلب علي من مروان أن يعتبر ما حدث بينهما مجردَ حلم سينساه نهائياً بمجرد أن يفترقا ، و بعد صلاة الظهر توجه علي إلى منزل أبي محمود ، وقبل أن يطرق باب البيت ، توجه نحوه شاب بدا من مظهره و ثيابه أنه طالب في المدرسة:

 

- هل تسألُ عن أحد في هذا المنزل

 

أجابه علي بلطف

- أليس هذا منزل أبي محمود ؟

 

- نعم ، وأنا ابنه محمود ..

 

– هل هو موجود الآن؟

 

- لا أدري فقد عدت للتو من المدرسة.. أنتظر قليلاً وسأرى إن كان أبي بالداخل

 

عاد محمود بعد قليل و قال لعلي باعتذار :

-إن أبي نائم الآن لأنه عاد قبل قليل من العمل ، يمكنك أن تأتي في وقت آخر

 

- لقد جئت إليه خصيصاً من سفر طويل وأريده في أمر هام .. فأنا أحمل رسالة هامة له

 

فكر محمود قليلاً ثم قال بتردد

-حسناً تفضل في غرفة الضيوف و سأذهب لإيقاظه بسرعة

 

مرت بضع دقائق ثم دخل أبو محمود إلى الغرفة التي ينتظره فيها علي وصافحه ثم طلب من محمود أن يجهز الشاي ... كان الإرهاق واضحاً على ملامح الرجل و الحاجة للنوم تبدو واضحة من عينيه المنتفختين ، و لكن علي لم يبدِ اكتراثاً لذلك كله ، حتى لا يُظهر أي ود تجاه الرجل فيؤثر ذلك على النتيجة التي يريدها من زيارته ، ولذلك حرص علي أن يظل جامد الملامح ، مما استفز أبا محمود فقال له :

- بلغني أنك تحمل رسالة لي

 

قال علي ببرود و بنبرة جافة خلت من الذوق

- نشرب الشاي أولاً ثم نتحدث عن الرسالة التي أحملها على انفراد

 

أزعج أسلوب علي أبا محمود ، فنادى على ابنه بصوت عالٍ ليستعجله بإحضار الشاي ، و بمرور اللحظات كان جو الألفة داخل الغرفة ينخفض تدريجياً بسبب برود علي الشديد و تنهدات أبي محمود الضجرة ، و بعد أن أحضر محمود الشاي ، قال أبو محمود لعلي بنبرة علاها الشك والحذر:

- أنت فلسطيني ، أليس كذلك؟.. لهجتك توحي بذلك ..

 

تجاهل علي السؤال و هو يرتشف الشاي بهدوء ثم وضع الكوب على الطاولة الصغيرة أمامه ورد قائلاً

- ألا تريد أن تعرف من الذي أرسل الرسالة لك ؟

 

- أنا انتظر كلامك

 

أخرج على الأحرف ببطئ من جوفه و هو يراقب أبا محمود بطرف عينه :

- الرسالة باختصار من أخوك حامد..

 

سعل أبو محمود عندما سمع اسم حامد ، و اضطربت يده التي تحمل كوب الشاي لينسكب بعضه على يده ، فالتقط ورقة من علبة المناديل أمامه و قال بعصبية واضحة

- هل جئت لتمزح معي ! .. ألا تعلم أن أخي قد مات ؟

 

قاطعه علي بحزم واضح

-مات ، أم قُتل ؟

 

- تستطيع أن تسأل الشرطة إن كان الأمر يهمك.. وأنصحك أن تشرب الشاي بسرعة و تذهب لسؤالهم مباشرة و..

 

قاطعه علي مرة أخرى بحدة

- ما رأيك أن نذهب سوياً .. ليس إلى الشرطة ، بل إلى مباحث أمن الدولة .. فأنا أتهمك أنت و أخوك باستدراج أخي الذي بات في بيتك ليلتين ، ثم قتلتماه بعد أن غررتم به و أوهمتماه بأنكم ستبيعانه السلاح

 

هب أبو محمود من مكانه واقفاً و ازدادت حدته وعلا صوته وهو يصرخ

– لا أعرف شيئاً عمَا تقوله ، ويمكنك أن تذهب وحدك إلى أي جهة وإن طلبوا استدعائي سأقول لهم ما أعرفه .. أما الآن فتفضل من هنا فأنا لا أرغب بوجودك في بيتي

 

جذب صوت أبا محمود العالي انتباه الأطفال الصغار في المنزل فتجمعوا على باب الغرفة برفقة أكبرهم محمود ، ولكن علي بقي جالساً في مقعده و وجه حديثه لمحمود قائلاً

– كيف حال التوجيهي معك يا محمود ؟

 

نظر أبو محمود لابنه بعصبية وأمره أن يأخذ أخوته الصغار بعيداً .. ثم وجه حديثه لعلي و قد نفذ صبره

- وأنت ورائك موعد مع مباحث أمن الدولة .. فتفضل من غير مطرود

 

ظل علي جالساً مكانه و هو ينظر بحدة لأبي محمود -الذي بلغ منه الانفعال مبلغه- ثم قال بهدوء وحزم

- ما رأيك في صفقة بيننا بعيداً عن مباحث أمن الدولة .. فأنت تعلم أنهم لو استدعوك لمجرد السؤال عن اسمك ، فستمكث عندهم شهراً كاملاً حتى يتحققوا من صدقك .. فكيف سيكون الحال لو كان سؤالهم عن قضية تهريب أسلحة و تحقيق في جريمة قتل كنت قد أخفيتَ معلوماتها عن الشرطة حين حققت معك بشأنها .. ثم ألا ترى أن الوقت الذي سيستضيفونك فيه عندهم أثناء التحقيق سيكون ممتعاً أكثر وأنت في بيتك بين أبناءك ؟.. وبدلاً من أن تصرخ في أبناءك كما فعلت قبل قليل .. ستجد عشرات الأصوات هناك تصرخ في وجهك ، لا يهم أصحابها سوى الترقية حتى لو كانت من خلال تلفيق قضية لك.

 

أُسقط في يد أبي محمود.. فهو يعرف أن ما يقوله علي صحيح تماماً ، فانهار جالساً على كرسيه و تبدل انفعاله الحاد إلى استسلام واضح فقال لعلي

- من أنت أيها الرجل ؟ .. وماذا تريد مني بالضبط ، كل ..

 

قاطعه علي قائلاً بعد أن نهض من مكانه و جلس بجواره

- هذا هو السؤال.. إن أعطيتني ما أريد .. أعدك أن لا تراني أبداً وستكون هذه آخر مرة نلتقي فيها .. أما إن حاولت اللعب معي فثق أنك ستفتح على نفسك بوابةً من المشاكل لا قبل لك بها

 

نظر أبو محمود بارتياب يخالطه الخوف لعلي و سأله

- هل تهددني ؟

 

أجابه علي:

- لم آتِ لتهديدك أو لأسببَ لك المشاكل ، و لتتأكد من صحة كلامي هذا سلاحي بين يديك

و بكل هدوء أخرجَ علي مسدسه وأمسك بيد أبي محمود و وضعه فيها كي يزيد خوفه أكثر .. وما أن فعل ذلك ، حتى ألقاه أبو محمود على الطاولة بخوف و كأن تياراً من الكهرباء يجري فيه .. ولكن علي لم يكترث لذلك و نهض نحو جهاز التسجيل الموجود في ركن الغرفة ووضع فيه شريطاً وجده على الطاولة وقام بتشغيله- كي يشوش على من خارج الغرفة - وهو يقول:

- كل ما أريده منك القليلُ من الوقت لتحدثني بهدوء عن الشاب الذي حضر بصحبة أخيك وبات في بيتك ليلتين قبل أن يسافر مع أخيك إلى القاهرة

 

- أقسم أني لا أعرف شيئاً.. فالشاب الذي تتحدث عنه كان صديق أخي ولو كنت أعرفُ أن له علاقة بالأسلحة والتهريب لما سمحت له أن يبقى في بيتي لحظة واحدة .. ولكنه كان ذو أخلاق عالية و يؤدي الصلاة في وقتها وهذا ما جعلني أطمئن لوجوده مع أخي .. وكل ما أعرفه عنه أنه طالبٌ فلسطيني يدرس في القاهرة وتقطعت به السبل حين أراد العودة إلى غزة بسبب المعبر المغلق

 

سأله علي و هو يلتقط المسدس من على الطاولة :

- ولماذا أنكرت أنك تعرفه حين سألتك الشرطة عنه بعد أن عثروا على جثته ؟

 

رد الرجال باستنكار واضح

- إنها جريمة قتل يا رجل .. ولو قلت أنه صديق أخي لوجهت الشرطة لأخي الاتهام خصوصاً أنهما سافرا سوياً إلى القاهرة في الحافلة التي أعمل عليها

 

أطرق علي برأسه وهو يقول :

- أهذا كل ما تعرفه ؟

 

- أقسم لك أن هذا كل ما أعرفه

 

- لا داعي للقسم .. فأنا أصدقك ولكنك لن تمانع لو سألت ابنك محمود بعض الأسئلة في حضورك ، وأعدك أن يكون هذا آخر شيء أفعله وسأغادر بعدها فوراً

 

رد أبو محمود برفض

- وما شأن ولدي بهذا الأمر ..

 

قاطعه علي

- لا شأن له أبداً .. ولكنك قلت ما تعرفه وقد يكون لدى ابنك كلاماً آخر .. فربما بسبب ظروف عملك وغيابك عن المنزل لم تسنح لك الفرصة لتعرف أكثر ، بينما محمود ..

 

قاطعه أبو محمود قائلاً

- ثق أن محمود لا يخفي عني شيئاً فأرجوك أن لا ..

 

قاطعه علي بإصرار

- يا سيد عبد الرحيم .. سأتحدث معه في حضورك ، وكما وعدتك ستكون هذه آخر مرة أتعرض فيها لأي شخص من هذه الأسرة .. فلا تضطرني لإيجاد طريقة أتحدث فيها معه بعيداً عنك

 

استسلم أبو محمود لرغبة علي ، وقبل أن ينادي ابنه استوقفه علي و أخفى مسدسه قائلاً

- قبل أن يأتي ابنك .. أخبره أن يقول كل ما لديه دون أن يخشاني فقد كان انفعالك قبل قليل كفيل بإثارة توتره و خوفه مني

 

حضر محمود استجابة لنداء والده الذي أمره أن يغلق باب الغرفة بعد دخوله وأن يجيب على أسئلة علي الذي عَرَّف عن نفسه بأنه أخٌ لصديق عمه، فالتفت محمود إلى علي و سأله بلهفة

- هل عبدالله أخوك حقاً ؟

 

أجابه علي بإيماءة من رأسه ، بينما قال أبو محمود لعلي :

- صدقني هذه أول مرة أعرف فيها اسمه .. فلقد كان أخي يناديه باسم "عبد" فقط

 

نظر علي إلى محمود ثم قال :

- منْ في رأيك قد يكون له مصلحة في قتل عمك وعبد الله ؟

 

هز محمود كتفيه ثم قال بنبرة حزينة

- لا أعرف، ولكن عمي حامد – رحمه الله – كانت علاقاته جيدة مع كل الناس حتى السيئين منهم ..

 

– عمك وعبد الله سافرا إلى القاهرة لمقابلة شخص ما .. هل تعرف من يكون ؟

 

- لا أبداً .. فلقد كانا يتحدثان بصوت منخفض دائماً و يصمتان حين يشعران بوجودي و ..

صمت محمود فجأة وكأنه تذكر شيئاً ما ثم قال:

- أذكر في إحدى المرات أنني دخلت عليهم وكان عبد الله مستغرباً من حديث عمي عن رجل سيئ للغاية ، فقال له عمي أنه كان شريكاً له و أنه يعرفه جيداً

 

قاطعه علي باهتمام

- متى كان هذا الحديث ؟

 

- قبل أن يسافرا بيوم واحد .. وأظن أن ذلك الرجل هو من قصداه في سفرهما ، لأن عمي حامد كان يقول لعبد الله : ستراه غداً لتتعرف على أقذر ما أنجبت البشرية

 

سأل علي أبا محمود عن هذا الشريك ، فأخبره أن أخاه كان يعمل لدى رجل يكنى "بعنتر " يمتلك محلاً لبيع أشرطة الفيديو .. ولكن هذا الرجل قام بفتح محل جديد في القاهرة في حي مصر الجديدة و ترك محله القديم في العريش ليديره حامد نظير نسبة من الأرباح ، وقد حدث الخلاف بين حامد و أبي محمود بسبب عمله مع هذا الرجل ، و أنهما لم يتصالحا إلا بعد أن ترك حامد العمل مع عنتر ، و استمر أبو محمود في الحديث عن عنتر بالتفصيل وكان واضحاً من حديثه أنه يكرهه بشدة .. و لم يتركه علي يكمل حديثه - عندما وبخ ابنه محمود لأنه لم يذكر هذا الحديث له من قبل- وطلب منه عنوان محل الفيديو ولكن أبا محمود لم يكن يعرف العنوان بالضبط ، وهنا قفز محمود خارج الغرفة ليعود بشريط فيديو يحمل ملصقاً دعائياً باسم المحل وأرقام التلفونات الخاصة به ، و بعد أن حصل علي على العناوين و همَّ بالمغادرة .. شعر بخوف أبي محمود وتوتره ، فطمأنه أن ما دار بينهم لن يطلع عليه أحد ، وشدد أبو محمود على أن يلتزم علي بوعده و رجاه أن لا يعاود زيارتهم مرةً أخرى

 

سافر علي إلى القاهرة في نفس اليوم ، وشعر أثناء عبوره قناة السويس أنه يُجبر روحه رغماً عنها كي ترافقه في رحلته ، ولم يعرف سبب تعلقها بتلك الأرض.. ربما لأنه يبتعدُ عن فلسطين أكثر ، و ربما من أجل صديقه الذي دُفن فيها غريباً مجهولاً .. وقبل أن يغرقَ علي في ذكرياته كان سائق السيارة ينادي على الركاب أن يصعدوا بسرعة ، لأن القاطرة التي تحمل السيارات على متنها قد وصلت بالفعل إلى البر الثاني لقناة السويس .

 

كانت الساعة تُشير إلى التاسعة مساءً حين ترجل علي من سيارة الأجرة التي أقلته من العريش إلى القاهرة ، لينتهي به المطاف أخيراً وسط ميدان رمسيس الذي بدا و كأنه خلية نحل لازدحامه الشديد ..

 

أطلق علي لقدميه العنان و سار على غير هدى حتى وصل إلى شارع "عماد الدين" المليء بمحلات الملابس ودور السينما، و حول مبلغاً من الدولارات من أحد محلات الصرافة هناك ، ثم توجه نحو أحد الهواتف العمومية وأجرى مكالمة سريعة ، وبعد نصف ساعة كان شابُ ينزل من سيارة فيات حمراء اللون وقفت بجوار بوابة سينما "ريفولي" ثم بدأ يتلفت حوله و يتفحص بلهفة وجوه المارة الذين ازدحم بهم الشارع .. وفي الوقت الذي أخرج الشاب فيه هاتفه النقال و بدأ بضغط أزراره و هو يبتعد عن سيارته بضع خطوات ، دخل علي إلى سيارة الشاب دون أن ينتبه إليه لانشغاله بالمكالمة التي يُجريها ، و كانت المفاجأة كبيرة للشاب حين التفت نحو سيارته ليجدَ علياً جالساً فيها و هو يبتسم له ، فتوجه نحوه بسرعة و لهفة ، وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة قال علي له:

- ما رأيك أن تأخذني لمكان يصلحُ للنوم أولاً ، ثم تخبرني بالكلام الذي تريده هناك ، فلا داعي لأي تصرف يُلفت الأنظار إلينا

 

صعد أحمد إلى السيارة وصافح علي بحرارة وهو يتأمله و كأنه لا يصدق عينيه و لم أن ينبس ببنت شفة ، ثم أدار المحرك وانطلق بالسيارة نحو منزله .. وما أن سأله علي عن أحواله حتى انطلق لسان أحمد يرحب بعلي، وانهال عليه بعشرات الأسئلة عن أحوال فلسطين والأخوة الذين تعرف عليهم حين زار قطاع غزة دون أن يعطي فرصة لعلي أن يجيب بكلمة واحدة.

 

و عندما وصلت السيارة إلى حي "الألف مسكن" ، أوقفها أحمد أمام بناية من تسعة طوابق ، و صعدا إلى الطابق السابع حيث يسكن أحمد ، وعندما دخلا إلى الشقة فتح أحمد ذراعيه قائلاً لعلي :

- هل لي أن أعانقك الآن ؟

ففتح علي ذراعيه أيضاً وتعانق الصديقان بحرارة وشوق .

 

تعرف علي على أم أحمد وأخته ريم الذين حدثهم أحمد كثيراً عنه وعن استضافته له في غزة أثناء رحلته هناك دون أن يخبرهم بتفاصيل أكثر ، ولذلك استقبلاه بكرم بالغ .

كانت والدة أحمد قوية الشخصية وتتميز بطيبة واضحة ، بينما كانت أخته ريم التي تدرس الحقوق في جامعة عين شمس على درجة عالية من التدين والثقافة .. أما والد أحمد فقد كان يعمل كموظف مرموق في إحدى شركات القطاع العام المختصة في مجال البترول ، وبعد حصوله على الترقية مؤخراً اضطر أن يقضي معظم أيام الأسبوع في مكان عمله بمدينة الغردقة المطلة على البحر الأحمر .

 

قضى علي ليلته في غرفة أحمد ، وبينما كان أحمد يغطُ في النوم ، كان علي مستيقظاً يفكر فيما جاء من أجله ، وفي الصباح خرج الصديقان وتوجها إلى أحد مقاهي الإنترنت ليرسل علي بعض الرسائل من هناك .. ثم تجولا في شوارع القاهرة واشترى علي بعض الملابس ومجموعة من أجهزة الهواتف النقالة .. وفي الوقت الذي كان علي يُجري فيه اتصالاً بمنزل عمه من أحد الهواتف العمومية ، كان أحمد أيضاً يُجري اتصالاً بهاتفه النقال يبلغ فيه أحد أصدقائه بأنه قادم لزيارته ومعه مفاجأة كبيرة له.

 

 

- أعرفك على مجدي وهو من أعز أصدقائي .. ضابط في الشرطة بدرجة ملازم أول وعلى وشك الحصول على ترقية قريبة .. وبالمناسبة ، سيكون زوج أختي مستقبلاً .. لا يكره شيئاً في حياته أكثر من اليهود ، فوالده قد استشهد في حرب العاشر من رمضان قبل مولده بشهر واحد ....

 

قاطعه مجدي مازحاً

- رويت قصة حياتي لصديقك دون أن تعرفني عليه ..

 

أشار أحمد بيده بأسلوب مسرحي وهو يقول

-هذا يا سيدي باختصار شديد .. أخوك علي الذي حدثتك عنه

 

ارتسمت الدهشة على وجه مجدي و نهض من مكانه قائلاً

- علي! .. علي الفلسطيني ؟

 

أومأ أحمد برأسه قائلاً

- بشحمه ولحمه

 

– وتركني أصافحه هكذا ؟

نظر مجدي إلى علي ثم قال

- بالحضن يا رجل .. حمداً لله على سلامتك

 

كانت لدى علي معلومات كافية عن الخلية التي أنشأها أحمد ، والتي كان من ضمنها صديق طفولته مجدي الذي قتل الصهاينة والده في حرب السادس من أكتوبر .. وكان مجدي يتحرق شوقاً للجهاد في فلسطين ، وازدادت رغبته أكثر حين أخبره أحمد عن التجربة التي قام بها أثناء زيارته لقطاع غزة واحتكاكه المباشر بكتائب القسام.

 

وبناء ً على طلب علي .. أجرى أحمد اجتماعاً بالخلية التي أنشأها في منزل صديقه مجدي ، وهناك تعرف علي عليهم عن قرب .. وبسبب الحماس الذي أبداه أفراد الخلية وعشقهم للجهاد والشهادة شعر علي فعلاً أنه يعمل مع خلية من كتائب القسام في فلسطين .

 

كانت فرحة أفراد المجموعة الأربعة كبيرة لأنهم التقوا بعلي الذي حدثهم أحمد عنه كثيراً ، وكعادة أحمد الذي لا يتوقف عن المزاح عرَّف عن أفراد المجموعة بطريقته وهو يخاطب علي قائلاً :

- طبعاً تعرفت على مجدي أما البقية فهم .. حسن مهندس زراعي و لديه قطعة أرض على طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي يجاهد في إصلاحها .. ومن شدة حبه للطعام يأكل أغلب المحصول دون أن يبيع منه شيئاً .

أما إبراهيم فهو زميل مهنة .. ولكنه يعمل في جريدة معارضة ، وهو الوحيد المتزوج بيننا ولديه طفل أسماه علي .

بعد ذلك يأتي رشاد .. فنان المجموعة و خريج كلية الفنون الجميلة .. وبنظرة بسيطة على طريقته في اختيار ملابسه يمكنك أن تعرف أن الفن مقتصر عنده على الخط العربي فقط ، وهو زميلي في نفس المجلة التي أعمل فيها .

و أخيراً محمد منشد المجموعة ويعمل مدرساً للغة الإنجليزية .. وهناك إشاعة تقول أنه سيتزوج قريباً ليكون فرقة إنشاد مختلطة .

 

كان الجميع يتبادلون الضحكات مع تعليقات أحمد و يردون بتعليقات ساخرة .. بينما اكتفى علي بابتسامة شاحبة تظهر وتختفي و بدا واضحاً أن شيئاً ما يشغله ، فسأله أحمد عن سبب وجومه .. فقال :

- أعلم أنكم تتساءلون عن سبب مجيئي إلى مصر ! .. ولكن قبل حديثي أحب أن أعرف ما هو تخمين كل واحد منكم ؟

 

رد مجدي بجدية

- ستصحبُنا معك إلى فلسطين .. فقد اجتمعنا كلنا من أجل ذلك .. وحتى لو لم تأت لذلك فأنا شخصياً لن أتنازل عن مرافقتك أثناء عودتك ..

 

قطع أحمد حديث مجدي موجها كلامه لعلي وهو يقول

- لقد حدثتك كثيراً عن رغبة الأخوة الشديدة للجهاد في فلسطين ، و بين فترة و أخرى يكررون السؤال عليّ عن موعد ذهابنا إلى فلسطين ، وأنا شخصياً ليس لدي أي شك بأن هذا هو سبب مجيئك .

 

شبك علي أصابع يديه ثم استند على مقعده و قال

- أعرف أنكم جميعاً قد تربيتم التربية الصحيحة التي نربي عليها شبابنا ، و هي تربية الإخوان المسلمين ولستم بحاجة لتعبروا لي عن رغبتكم في الجهاد وحبكم للشهادة الآن ، ولكن يهمني أن أعرف ما ذهب إليه تفكيركم حين علمتم بمجيئي ..

 

قال إبراهيم

- لقد تحدثنا في هذا الأمر قبل مجيئك ، وأجمعنا على أن سبب مجيئك ورغبتك لقاءنا هي من أجل هذا السبب فعلاً .. ولكن يبدو من حديثك أن ما جئت من أجله شيء آخر .. وإن أردت أن أخمن الآن ، فستذهب أفكاري إلى السفارة الصهيونية التي أحلم كلما مررت من جوارها أن أراها كومة من الحطام على رؤوس من فيها .

 

نظر علي إلى مجدي ثم قال :

-ما رأي الأخ مجدي في هذا الأمر .. هل تؤيد فعلاً ضرب السفارة الصهيونية هنا ؟

 

ابتسم مجدي و قال مازحاً :

- بصفتي ممثلاً عن وزارة الداخلية ، فلا مانع عندي أبداً من دك تلك السفارة الجاثمة على أرضنا كالسرطان ، فهذه السفارة لا تربطنا بها أي علاقة أبداً ، إنما علاقتها مع وزارة الخارجية فقط .. ولذلك فأنا أؤيد ضرب هذه السفارة إن كانت هناك فائدة من ذلك.. ولكن لدي اقتراح أفضل من ضربها ، وهو اختطاف بعض العاملين فيها و المساومة بهم للإفراج عن المعتقلين .

 

هز علي رأسه موافقاً و قال

- تعجبني طريقتك في التفكير.. ولكن ما جئت من أجله لا علاقة له بالسفارة الصهيونية ، وسأشرح لكم الدافع الحقيقي الذي جئت من أجله ..

 

 

قطع علي حديثه عندما صدح صوت آذان العصر منادياً للصلاة ، فقام الجميع وصلوا في جماعة وراء علي ، وبعد أداء الصلاة جلس علي ليشرح لهم سبب مجيئه إلى مصر ، و التزم الجميع الصمت و بدا التأثر واضحاً عليهم من حديثه .. وعندما انتهى أبدى الجميع حماساً قوياً لمشاركته في المهمة ، وطلبوا منه أن يعتبرهم جنوده في مصر وعاهدوه على كتاب الله أن يلتزموا بكل أوامره .

 

تفرَّق الجميع بعد أن اتفقوا على ميعاد آخر في مزرعة حسن ليشرح علي المهمة لهم ، وعاد علي مع أحمد إلى منزله و لديه ثقة قوية بأن الله سيذلل له الصعاب وأن مهمته ستُكلل بالنجاح بعد أن قابل أفراد الخلية ، فحمد الله على نعمته وفضله و صلى صلاة الشكر لله .

 

و في المساء حضرَ مجدي إلى بيت أحمد ليخبر علي بالمعلومات التي طلبها منه دون أن يعرف أحد ، فاستغرب أحمد من زيارة مجدي وسأله مازحاً

- هل جئت لزيارة خطيبتك أم لزيارة علي ؟

 

وقبل أن يُجيب مجدي تدخل علي قائلاً :

- بالمناسبة ..مبارك لك الخطبة ، فقد نسيت أن أبارك لك بالرغم من أن أحمد قد أخبرني بالأمر منذ عام تقريباً

 

رد مجدي وهو يتوعد أحمد بنظراته قائلاً

- بارك الله فيك .. لكن ألم يخبرك ذلك المتحذلق أن ريم زوجتي وليست خطيبتي؟ فلقد عقدنا القران منذ خمسة أشهر وهي الآن بحكم زوجتي

 

قاطعه أحمد قائلاً وهو يضحك

– قل ذلك لأمي إن كنت تجرؤ

 

قال مجدي بثقة

– أقوله للدنيا كلها وليس لحماتي فقط .. أليست هذه الحقيقة ؟

 

دخلت أم أحمد عندما سمعت صوت مجدي وهي تسأل

- سمعتك تذكرني .. ما الذي تريد أن تقوله ؟

 

حاول أحمد أن يُجيب ، فوضع مجدي يده على فمه وقال

- كنت أقول لم لا نسرع في إتمام الزواج يا حماتي طالما كل شيء جاهز

 

ردت أم أحمد وهي تهز رأسها بآسف

- أنت متسرع منذ صغرك .. ألم نتفق يا ولد أن يكون الزواج بعد أن تحصل ريم على الليسانس ؟ .. ثم إننا لم ننتهي من جهازها بعد .. أم تريد أن تفضحنا أمام أمك ؟

 

قال أحمد بعد أن ابتعد عن مجدي

-لا يا أمي .. لم يكن هذا ما قاله بل ..

 

قاطعه مجدي صائحاً

- أحمد ...

 

قاطعت أم أحمد الجميع وهي تقول بحزم

- كفوا عن مزاحكم السخيف هذا .. أنسيتم أن لدينا ضيفاً ؟

ثم نظرت إلى علي وقالت مازحة بود وحنان

- أرجو يا بُني أن لا تكون قد أخذت فكرة سيئة عن المصريين بسبب رعونة هذين الأخرقين .. فهما مثلٌ سيئ للمصريين

 

هز علي رأسه نافياً وهو يقول

- بالعكس يا أم أحمد .. فهما شابان رائعان ، و مزاحهم يدل على قوة صداقتهما ..

 

قاطعته أم أحمد قائلة

- ولكنك يا بني نادراً ما تبتسم ومسحة الحزن في عينك لا تفارقها أبداً ..

 

تدخل أحمد قائلاً

- تعرفين يا أمي المشاكل والأحداث التي تدور في فلسطين .. ولعل علي قلقٌ على أهله بسبب ما يحدث هناك

 

و ما أن أنهى أحمد جملته حتى بدأت أم أحمد بالحديث عن مشاعرها وبكائها عندما تشاهد أو تسمع عما ما يجري في فلسطين و الدموع تخالط كلماتها ، فتدخل مجدي قائلاً :

- لقد وعدت علي أن أصحبه في جولة لأريه القاهرة وجمالها في الليل ، ولذلك اسمحوا لنا أن نخرج الآن ، وإن تأخرنا فهذا يعني أن علي سينام في ضيافتي الليلة ..

 

قاطعه أحمد قائلاً

- ومن سيسمح لك أصلاً بأن تأخذ علي معك ؟

 

حاول مجدي أن يقنع أحمد ولكنه لم ينجح وانتهى الأمر بخروج ثلاثتهم معاً ، وفي الطريق قال علي لمجدي

- لا بأس من التحدث أمام أحمد ، فأنا أعرف أنك أتيت بالمعلومات.

 

قال أحمد بدهشة

- معلومات !! .. ودون أن أعرف ؟

 

قال علي

- الأمر يتعلق بشخص طلبت من مجدي أن يتحرى عنه ، فلدي شعور قوي أن هذا الشخص طرف الخيط الذي سيوصلنا إلى شبكة الموساد التي تعمل هنا

 

قال أحمد وقد بدا عليه الضيق

- ولكن هذا يعني أنكم بدأتم العمل دون أن يعرف الجميع ..

 

قال علي مقاطعاً

- لم نبدأ العمل بعد .. ولقد كنت أنوي أن أكلفك بهذه المهمة ، و لكني قدرت أن وصول مجدي للمعلومات سيكون أسهل وأسرع بحكم طبيعة عمله .. ثم إن ما جاء به من معلومات سيُبنى عليها ما سنقوم بعمله بعد الاجتماع غداً ، والاجتماع هو بداية العمل .... أمر آخر أحب أن يفهمه الجميع أيضاً بخصوص التذمر ، فهو شيء مرفوض تماماً في عملنا .. فقد يكون بين اثنين عمل من الأفضل أن يُنجز دون معرفة أحد .

 

تفهم أحمد الأمر بسرعة ، ثم قال مجدي :

- في البداية كنت سأتحرى عنه ، ولكني تذكرت الكومبيوتر الخاص بوزارة الداخلية فبحثت عن اسمه ضمن الأسماء المشتبه بها ، وكانت المفاجأة أني عثرت على ملف دسم له لدى إدارة مكافحة المخدرات وقضايا تخص شرطة الآداب ، ومع هذا لم يصدر أي حكم بحقه لعدم وجود أدلة تدينه .. ما لفت نظري أيضاً أن الرجل يمتلك باسمه و دون شراكه أحد محلاً كبيراً في حي مصر الجديدة لبيع أشرطة الفيديو ، وفيه أيضاً استوديو كبير للتصوير .. كما يعمل أيضاً كمتعهد حفلات ، والمثير في هذا الأمر أن ثمن المحل وحده في ذلك الموقع يتجاوز العشرين مليون جنيه مصري ، والأغرب من ذلك أنه يسكن في حارة فقيرة داخل حي السيدة نفيسة ويعيش في شقة أقل من متواضعة .

 

أكدت معلومات مجدي لعلي صحة كلام أبي محمود ، وكانت شكوك علي بوجود علاقة مباشرة لعنتر بمقتل عبد الله تزداد كلما تعمق مجدي في الحديث عن قذارته .

 

في اليوم التالي اجتمع أفراد المجموعة في مزرعة حسن التي تبعد عن القاهرة ستين كيلومتراً على طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي و حدثهم علي عن ضرورة السرية وأهميتها فيما هم مقدمون عليه ، ثم حدثهم عن طبيعة أولى المهام التي سيقومون بها قائلاً

- سنقوم باحتجاز ذلك الشخص واستجوابه ، و ليتم ذلك ، يجب أن نضع خطة محكمة نشارك فيها جميعاً ، ولنبدأ أولاً بالمكان الذي سنستجوبه فيه ، إذ يجب أن يكون مكاناً مناسباً لأن فترة احتجازه قد تطول ..

 

قاطعه حسن قائلاً

- أنتم في المكان الآن ، و كل الشروط متوفرة فيه

 

قال أحمد

- أتقصد هنا في مزرعتك ؟

 

رد حسن

- نعم .. فلدي غرفة خاصة بالمنحل لا يدخلها سواي ، كما أنني أعمل في المزرعة وحدي ولست بحاجة لعمال في الأيام القادمة

 

قال إبراهيم

- أنا أيضاً لدي مكان لا بأس به

 

ذهب الجميع لمشاهدة الغرفة التي تحدث عنها حسن ، وكانت في طرف المزرعة وسط خلايا النحل التي تحيط بها أشجار متوسطة الارتفاع ، فاستقر الرأي عليها وتم وضع خطة محكمة للقبض على الصيد .. وفي يوم التنفيذ ذهب أحمد وعلي إلى مزرعة حسن ليروا كيف أعد الغرفة ، وكانت مفاجئة لهم حين شاهدوا بعض الإضافات التي قام بها حسن فأخذ أحمد يضحك وهو يقول :

- ما هذا الذي فعلته بالغرفة .. سيموت الرجل بمجرد أن يراها قبل أن نستجوبه

 

كانت أول مرة يضحك فيها علي أيضاً منذ زمن حين شاهد الغرفة وما فعله حسن بها ، فقد طلاها باللون الأسود مستخدماً زيوت محركات السيارات و وضع بها مكتباً متهالكاً وكرسياً ومصباحَ قراءةٍ ، و تراشقت على المكتب وعلى أرض الغرفة بقع من الدماء ، جعلت علي يسأله عن سبب فعله لذلك .. فأجاب مدافعاً عن نفسه

- لقد قلتم لي جهز الغرفة و غط نافذتها بستارة ، فقمت بذلك وأحضرت القليل من دماء الدجاج الذي ذبحته لكم اليوم كي أُضفي على المكان جواً من الرهبة

 

قال أحمد وهو ما يزال يضحك

- أفضل شيء فعلته أنك ذبحت لنا دجاجاً .. ولكن لم يكن هناك داع لكل هذا

 

قاطعه علي عندما لاحظ الإحراج على وجه حسن قائلاً

- لا بأس فيما فعله بالغرفة .. فالرجل يجب أن يشعر بالخوف فعلاً ، لأن أمثاله يروق لهم أن يزرعوا الخوف في نفوس الناس ، فلا بأس من أن يشعر به قليلاً

 

قال أحمد

- أنا متأكد أننا ستحصل على نتيجة منه.. فما قلته بالإضافة للمعلومات التي جاء بها مجدي تؤكد أنه أداة في يد قوة كبيرة تحركه

 

وجه علي حديثه لحسن وهو يناوله هاتفاً نقالاً

- كل واحد منا يحمل هاتفاً كهذا و ستجد أرقامنا عليه بأول حرف من الاسم .. وطبعاً لن تستخدم هذا الجهاز مهما حدث إلا للاتصال بالأرقام الموجودة عليه وسيكون ذلك عند الضرورة فقط .. فغالباً سيكون عليك تلقى اتصالاتنا .

 

و في مساء نفس اليوم ، كان علي ومجدي ينتظران في أحد الشوارع الجانبية الخالية ، بينما جلس أحمد وإبراهيم في السيارة على جانب الطريق الضيقة ينتظران قدوم الصيد "عنتر" من هذا الطريق كما يفعل يومياً بعد أن يُغلق المحل

 

لم يدم الانتظار طويلاً فقد تلقى مجدي اتصالاً من رشاد يخبرهُ أن الرجل يقوم بإغلاق المحل ، فاتصل مجدي بأحمد و طلب منه أن يستعد ويبقي خط الهاتف مفتوحاً

و بعد لحظات مرت السيارة المستهدفة من جوار علي ومجدي ، فأمر مجدي أحمد بأن يتحرك بسيارته ليقطع الطريق أمام عنتر الذي أوقف سيارته بسبب وقوف سيارة أحمد الذي كان يقوم بحركات تُوحي بأنه يُعدل من وضعية سيارته

 

كان الطريق ضيقاً ويصطف على جانبيه الكثير من السيارات التي تخص سكان الحي ، فاضطر الرجل لانتظار أحمد حتى يعدل وضعية سيارته .. وفي أقل من دقيقة كان مجدي يفتح باب السيارة المجاور لكرسي السائق بينما فتح علي الباب الخلفي وقبل أن ينطق عنتر بكلمة واحدة كانت قبضة علي تهوي على مؤخرة رأسه لتفقده الوعي ، ثم جذبه للكرسي الخلفي بسرعة لينتقل مجدي لكرسي القيادة ، و بعدها غادر الجميع بخفة و سرعة المكان دون أي ضوضاء .

 

تفرق الجميع إلى منازلهم بعد ذلك ، بينما قاد مجدي السيارة التي تُقل علي وعنتر نحو المزرعة بعد أن أكد له حسن أن كل شيء على ما يرام

 

أثناء الطريق كان الرجل قد بدأ يستعيد وعيه ليجد نفسه مكممَ الفم ومقيد اليدين وعلى وجهه كيس من القماش حجب عنه الرؤية ، وعندما وصلت السيارة إلى المزرعة أطلق حسن صفيراً طويلاً لإعجابه بالسيارة الفخمة التي لا يقل ثمنها عن نصف مليون جنيه مصري والتي تحمل لوحة رقمية كُتب عليها جمرك نوبيع

 

طلب علي من حسن أن يُخرج كل محتويات السيارة وأن يقوم بتفتيشها جيداً و أن يضع كل ما يجده فيها داخل أحد الأكياس دون أن ينسى شيئاً مهما كان صغيراً ، بينما أفرغ هو ومجدي كل ما في جيوب الرجل وقيداه على الكرسي داخل غرفة المنحل ثم تركاه داخلها وذهبا إلى حسن

 

-هل حدثت مشاكل في الطريق ؟

 

أجاب مجدي على سؤال حسن قائلاً

–كل شيء سار على ما يرام و حسب الخطة والحمد لله

 

كان علي مشغولاً بفحص أرقام الهاتف النقال الخاص بالرجل ثم أغلقه ونزع البطارية منه ، بينما قام مجدي بتشغيل كاميرا فيديو صغيرة عثر عليها حسن داخل السيارة مع مجموعة من أشرطة الفيديو.. أما حسن فقد شهق بصوت عال مما أثار انتباه مجدي وعلي ، فوجداه ينظر بدهشة كبيرة لمجموعة من الصور أخرجها من مظروف وجده في السيارة ، ناولهم حسن الصور بصمت فوجدا أنها تحتوي على صور أطفال و قد جُردوا من ملابسهم و هم عراة تماماً ، بينما كُتب على خلفية كل صورة بيانات باللغة الإنجليزية

 

أمسك علي صورة وأخذ يقرأ ما هو مكتوب على خلفيتها ، ثم ألقى بها على الأرض بغضب واضح ، فسأله حسن باهتمام :

-ما الذي قرأته

 

قال علي

- يبدو أنها صور لأطفال تم اختطافهم لغرض التجارة بالأعضاء البشرية .. فقد كُتبت بعض التحاليل الطبية وفصيلة الدم الخاصة بكل طفل على خلفية الصورة الخاصة به

 

قال مجدي مذهولاً

- اللعنة على هؤلاء الأوغاد .. في البداية ظننت أن الصور لها علاقة باستغلال الأطفال جنسياً ، ولكن تخمينك أقرب للحقيقة فملامح الأطفال والذعر البادي على وجوههم يؤكد أن إرادتهم مسلوبة تماماً

 

قال علي

- يبدو أن المعركة ستبدأ فعلاً من الآن يا رفاق ، وعلينا أن نعد لها جيداً قبل أن نخوضها

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

كان علي ومجدي وحسن يتفحصون ما وجوده داخل سيارة و جيوب عنتر باهتمام بالغ ، و بدا واضحاً من طبيعة المتعلقات أن الرجل كتلة متنقلة من الإجرام والانحلال ، فقد احتوت أشرطة الفيديو التي عثروا عليها داخل سيارته على تسجيلات تشبهُ امتحاناً لفتيات يظهر أنهن في اختبار لمواهب الغناء والتمثيل والرقص ، وكان واضحاً من ملابس البعض منهن أنهن تلميذات مدارس من المرحلة الإعدادية و الثانوية .. بينما لم تحتوي بعض الأشرطة على أية مادة تسجيلية بل كان بداخلها أكياس صغيرة لمسحوق أبيض أكد مجدي أنه هيروين نقي لم يخلط بعد

 

كل هذا لم يكن يعني لعلي شيئاً فقد كان يتوقع الكثير من هذا الرجل لكثرة ما جمعه من معلومات عنه ، ولكن دهشته كانت كبيرة حين شاهد أحد الأشرطة فانتزعه بخفة من يد مجدي مما أثار فضول مجدي بشدة .. خاصةً حين لمح شبح ابتسامة ساخرة على شفتي علي الذي أولى بالغ اهتمامه لذلك الشريط فسأله قائلاً :

- ما الذي يعنيه هذا الرمز الذي جذب اهتمامك ؟

 

قال علي و نبرة الارتياح واضحة في صوته

- هذا ليس رمزاً .. بل أحد حروف الأبجدية العبرية و هو مكتوب بخط اليد ..

ثم استطرد علي و هو يلتفت إلى مجدي ليوضح الأمر بشكل أكبر

- يكتب اليهود بنوعين من أشكال الحروف ، و حرف الألف هذا مكتوب بخط اليد وهو يختلف في الشكل عن حروف الطباعة .. فعلى ما يبدو أن أحدهم لم ينتبه وهو يضع المادة المخدرة داخل الشريط لهذا الحرف

 

نظر حسن إلى مجدي وكأنه ينتظر تعليقه ولكن مجدي لم يعلق و وجه سؤاله لعلي قائلاً

- وما الذي يعنيه هذا ؟

 

ارتسمت الدهشة على وجه علي وهو يقول

- هذا يعني أن هذا الشريط بالذات كان بحوزة اليهود قبل أن يصل ليد عنتر

 

- ولكن هذا أمر طبيعي طالما يتعامل مع الموساد .. وكل المصريين يعرفون أن المخدرات تأتي عن طريق اليهود من سيناء ..

 

قاطعه علي قائلاً

- عمل عنتر مع الموساد كان مجرد افتراض بحاجة لما يدعمه .. ولكن مع هذا الدليل أصبح الأمر مؤكداً .. وهذا يعني أننا نسير في الطريق الصحيح بحمد الله

 

قال حسن

- سواء كانت له علاقة بالموساد أم لم تكن ، فما عثرنا عليه معه يعرضه لعقوبة الإعدام في حال سُلم للشرطة باعتبار أن عقوبة الاتجار في المخدرات هي الإعدام شنقاً

 

ضحك مجدي من حديث حسن و قال له

- كثيراً ما وقع بعض المجرمين في أيدينا و كانوا يحملون كميات من المخدرات كهذه و أكثر منها ، و تمكنوا بعد ذلك من الفرار من العقوبة بسبب ثغرات في القانون كخطأ روتيني في إجراءات الضبط والتفتيش وما شابه و..

 

قاطعه علي قائلاً

- كل هذا لا يعنيني في شيء .. وما سأركز عليه هو علاقته بالموساد والشبكة التي اغتالت عبد الله ، فهذا ما جئت من أجله ولن أرضى بأقل من أن يدفعوا ثمن فعلتهم هذه ، و لن أنسى أن أُضيف إلى الحساب جرائمهم الأخرى ..

 

- على رسلك يا علي .. أنت تتحدث وكأن مهمتنا معك قد انتهت ، مع أنك قلت قبل قليل أن المعركة ستبدأ الآن

 

- نحن فريق واحد يا مجدي وهذا ما اتفقنا عليه في أول لقاء لنا .. لكن ما سأقدم عليه بناء على المستجدات الجديدة يحتاج لموافقة جماعية منكم.. فمازلت لا أدري إلى أي مدى يمكنكم أن تكملوا المشوار معي ، خاصةً وأن ظروف العمل ستجعلنا نصطدم بقوانين البلد ، ومن المؤكد أن لهذا الأمر تبعات كثيرة .. ولمزيد من الإيضاح أحب أن تعرفوا جميعاً أن هذا الرجل المدعو عنتر لو كان له أي ضلع هو أو غيره بمقتل عبد الله فلن يكون جزائهم سوى القتل .. و قد أخذت على عاتقي فعل ذلك وأعلم جيداً أن القانون هنا يعد ارتكاب جريمة قتل أمر يوجب عقاب مُنفذيها دون الالتفات للدافع الذي دفعهم لـ..

 

قاطعه حسن وقد أصابته الدهشة

-ما الذي تقوله يا علي ؟ هل تظن أننا سنتخلى عنك خوفاً من القانون أو ..

 

قال علي حديث حسن وهو يُشير بيده نافياً

- أعرف كل ما ستقوله يا حسن ، ولكن يجب أن أجتمع معكم مرةً أخرى لأطلعكم على المزيد من التفاصيل لنقرر إن كنتم ستواصلون معي حتى النهاية أم أن دعمكم لي سيتوقف عند حد معين ومن ثم أُكمل الطريق وحدي

 

هز مجدي رأسه آسفاً وهو يقول

- لقد صُدمت بحديثك يا علي .. ولكني لن أعلق عليه حتى أسمع ما تبقى منه في الاجتماع الذي تحدثت عنه .. أما الآن فلمَ لا نزور ذلك الوغد في الغرفة ، لنستخرج ما لديه من معلومات ، وسترى كيف سأنتزع منه كل ما نريده.. .

 

قاطعه علي مرةً أخرى

- بل لنتركه الليلة يضرب أخماساً في أسادس ، فهو لا يعرف الجهة التي اختطفته و هذا سيفيدني كثيراً خلال التحقيق معه .. و سيصاحبني في ذلك حسن بينما تذهب أنت في الصباح إلى عملك كالمعتاد ، ثم تأتي مع المجموعة في المساء لنرسم معاً الخطة التي سنسير عليها بعد استجوابه ، وحتى لا يفوتكم الاستجواب سنسجله بكاميرا الفيديو هذه

 

وافق مجدي على مضض و لم يكن أمامه إلا أن ينفذ الأوامر التزاماً بالعهد الذي قطعه هو ورفاقه أمام علي .. وفي الصباح غادر مجدي المزرعة عائداً إلى القاهرة بينما بقي علي وحسن يمهدان لاستجواب عنتر الذي لم يكف عن الصراخ منذ أن أشرقت الشمس

 

كان من الواضح أن عنتر يتألم فعلاً ولشدة الألم كان يقوم بحركات هستيرية و قد قُيد على الكرسي ، حتى شج جبهته لكثرة ارتطامها بالطاولة أمامه ،مما أغرق كيس القماش الذي على وجهه بالدماء .. و مع استمرار صوت الصراخ دخل علي و حسن إلى الغرفة و هما يرتديان أقنعة سوداء على وجهيهما ليتحققا من سبب صراخه المتواصل.

اقترب علي من عنتر ونزع عن وجهه الكيس لكنه رغم ذلك استمر في الصراخ للحظات ثم بدأ بالتوسل لهما و استعطافهما كي يسمحا له بأخذ جرعة من مخدر الهروين ، و لكنهما تجاهلاه تماماً وغادرا الغرفة بعد أن أبعد علي الطاولة عن مقعد عنتر الذي عاود للصراخ والاستعطاف مرة أخرى ثم بدأ يكيل لهما الشتائم بعد ذلك

 

- واضح يا علي أنه مدمن على الهروين ولا أظن أننا سنستفيد منه وهو في هذه الحالة ..

 

قال علي بتريث

- سنحاول الاستفادة من كل شيء تمنحه الظروف لنا .. فإنسان يملك الكثير من المال مثله ليس متعوداً على الانقطاع عن الهروين فجأة ، ومن المؤكد أنه حديث العهد بهذا الشعور ، ولذلك أريده أن يشعر به و يعاني منه لأن هذا سيساعدنا في استجوابه

 

-تقصد أنك ستساومه على الاعتراف مقابل المخدرات ؟

 

- نعم .. بعد قليل سنعود إليه و نضمد جرحه ونسقيه شربة ماء ثم نبدأ التحقيق معه و لكن حاذر أن تتحدث بأي كلمة أمامه مهما كانت الظروف وعندما أعطيك الإشارة ستقف في زاوية الغرفة وتبدأ التصوير دون أن يلحظ هو ذلك

 

- قد لا يستجيب للمساومة و سيحاول خداعنا ..

 

قاطعه علي قائلاً

- الهدف من المساومة أو ما سأقوم به معه هو شل قدرته على التركيز حتى أستطيع أن أتبين مدى الصدق في كلامه

 

عاد علي و حسن إلى الغرفة مرةً أخرى وقد بلغ هيجان عنتر ذروته مما صعب على حسن تضميد جرحه ، ولكن علي أمسكه من منطقة بين كتفه وأسفل عنقه فتوقف جسده عن الحركة كلياً وكأن شللاً قد أصابه .. وبعد أن انتهى حسن من تضميد جرح عنتر توجه نحو الركن الأكثر ظلمة في الغرفة ، بينما قام علي بحل القيد من يد عنتر ليربط يده أمامه ، عندها حاول عنتر أن يتحرك ويقاوم ، فثنى علي إبهامه في لمح البصر بقوة وكسره بقسوة فأطلق عنتر من حنجرته صرخة ألم عنيفة، فتجاهله علي ثم تحدث معه بلهجة بدت كلهجة يهودي يتحدث الفلسطينية

- حاول أن تتعاون معنا دائماً حتى لا أكسر لك طرفا في كل مرة ، ثم أضطر أخيراً لكسر رقبتك

 

كان عنتر يتأوه من شدة الألم وهو يقول

- من أنتم وماذا تريدون مني ؟

 

أجابه علي بسخرية

- هل تعتقد أننا أتينا بك إلى هنا كي توجه الأسئلة لنا..

 

قاطعه عنتر بصوت عال

- حسناً اسألوني أنتم .. أو اقتلوني ولكن لا تتركوني هكذا ..

 

أمسك علي بيد عنتر وهزها بعنف وهو يقول

- إن رفعت صوتك مرةً أخرى فسأكسر يدك .. تذكر هذا دائماً

 

حاول عنتر أن يسحب يده قائلاً باستجداء واضح

- أترك يدي أرجوك .. سأذكر هذا دائماً

 

ترك علي يد عنتر فضمها الأخير إلى صدره وبقي صامتاً و جسده يرتجف من شدة الألم و شدة الحاجة للمخدر.. و بمجرد أن رأى كيس الهروين في يد علي بعد أن أخرجه الأخير من جيبه توقف جسده عن الارتجاف وبرقت عيناه و تعلقتا بالكيس فقال له علي و هو ينظر إليه بسخرية:

- هل تريده ؟

 

هز عنتر رأسه قائلاً

- أرجوك .. سأموت إن لم أتناول الجرعة الآن

 

- لا نريدك أن تموت الآن ولذلك سأعطيك حاجتك منه ، ولكنك قطعاً تعلم أن لكل شيء ثمن

 

هتف عنتر و جسده يرتجف من جديد

- أطلب أي شيء و سأعطيك ما تريد .. ولكن أرجوك أعطني هذا الكيس .. أرجوك ..

 

- حسناً سأعطيه لك بعد أن تستمع لقصتي الحزينة .. فإن تعاطفت معها منحتك الكيس ، وإن لم تفعل أعطيته للرفاق في الخارج وسيشكرونك على ذلك كثيراً

 

- حسناً سأستمع لقصتك .. ولكن أرجوك أن تُسرع ، فخناجر مسمومة تمزق جسدي

 

قال علي بنبرة حزن بدت مصطنعة وساخرة

- أريد أن أحكي لك عن مجموعة رفاق طيبين للغاية و يؤدون عملهم بشكل أكثر من رائع و لم يكن عليهم سوى إنجاز ما يُطلب منهم على أكمل وجه .. وكانوا يكافئون من يساعدهم ويمد لهم يد العون فيجزلون له العطاء دون حساب .. باختصار .. كانت مجموعة رائعة جداً لدرجة أن الجميع توقع لها مستقبلاً باهراً ..

 

كان علي يتحدث ويتعمد أن ينطق حرف الحاء بصعوبة فبدأ عنتر يتململ في مقعده و قد انصب تركيزه على كيس الهروين الذي يلوح به علي أثناء حديثه .. ولكنه نظره تشتت و انتقل فجأة نحو علي بخوف حين تغيرت نبرة صوته وتحولت من السخرية إلى الغضب وهو يُكمل حديثه قائلاً

- وبسبب خيانة شخص حقير .. تافه.. كانوا قد أحسنوا إليه كثيراً .. ضاع مستقبل هذه المجموعة .. بعد أن كان الجميع يتوقع لهم مستقبلاً حافلاً بالنجاحات .. و تحولوا جميعاً لوظائف يأنف منها عامل نظافة في الشوارع القذرة .. تُرى يا عنتر ما رأيك بذلك الشخص الخائن .. وما هو العقاب الذي يستحقه ؟

 

هتف عنتر بحماس ولهفة وهو يقول محاولاً إرضاء علي :

-الموت بكل تأكيد .. الخائن جزاءه الموت .. هيا أعطني الكيس الآن أرجوك

 

عاد علي للسخرية مرة أخرى وهو يقول

- أحسنت .. فقد حكمت عليه بنفسك ، وأعدك أن أنفذ ما حكمت به .. ولذلك فأنت تستحق هذه

 

ثقب علي كيس المخدر ورش منه القليل على يد عنتر التي كُسر إبهامها وتحول لونه إلى اللون الأزرق، فسارع عنتر باستنشاق البُدرة المخدرة بلهفة واضحة ولعق ما تبقى منها على يده ، وهنا جذب علي عنتر من شعره و سأله

- لماذا خنتنا يا عنتر و لم نقصر معك في أي شيء ؟

 

أجاب عنتر بصوت مخنوق

- أنا لا أعرفكم أصلاً ، فكيف أخونكم ..

 

قاطعه علي قائلاً

- حقاً لا تعرفنا ..

 

- أقسم أنني لا أعرفكم ولا أعرف ما الذي تريدونه مني ..

 

قاطعه علي مرةً أخرى وسأله مباشرةً

- منذ متى تتاجر بالسلاح دون علمنا ؟..ومن الذي سمح لك بذلك ؟

 

لم يجب عنتر على سؤال علي ، وبقي صامتاً فما كان من علي إلا أن أمسك يده وهزها بقوة فصرخ عنتر وهو يقول :

- أخبرني من أنتم و سأخبرك بكل شيء .. أقسم أن أخبرك بكل شيء

 

رد علي بسخرية

- ألم تعرفنا بعد ؟ .. نحن يعرفنا الناس حين يشعرون بنا .. ولذلك سأجعلك تشعر بنا حتى تتعرف علينا

 

أمسك علي بيد عنتر مرةً أخرى وكسر له إصبع السبابة ، فصرخ عنتر بشدة ، و لكن علي كسر له إصبعه الوسطى أيضاً فصار يصرخ و قد غالبه الانهيار ، فتركه علي و سأله بجملة عربية تخللتها كلمة واحدة عبرية :

-نو .. هل شعرت بنا الآن أم تحتاج للشعور بنا أكثر ؟

 

جذب عنتر يده إلى صدره بعد أن تركها علي دون أن يجيب واستمر يتأوه ألماً فعاد علي ليمسك يده مرةً أخرى وهو يقول:

- ما زلت تحتفظ بسبعة أصابع قبل أن ننتقل إلى جزء آخر ، وأنا متأكد أنك ستشعر بنا في نهاية المطاف

 

هتف عنتر بذعر شديد

- لقد عرفتكم .. وشعرت بكم من الوهلة الأولى .. ولكني أتلقى الأوامر من صفوت وأنفذ ما يطلبه بكل أمانة .. فإن كانت هناك خيانة فهي من صفوت وليست مني لأنه رجلكم وأنا مجرد تابع له..

 

قاطعه علي قائلاً و هو يصفعه بشدة

- أتكذب أيها الحقير .. فصفوت يدعي أنك كنت تقوم بصفقات لحسابك دون علمنا ..

 

- بل هو من يكذب .. فأنا أنفذ ما يقوله بالحرف الواحد دون أن أسأل أو أفهم شيئاً .. فكيف لي أن أعرف أن ما أقوم به خيانة لكم ، وأنا لم ألتقي بكم مرة واحدة في حياتي

 

- سنرى إن كنت صادقاً .. حدثني عن آخر صفقة بخصوص السلاح أمرك بها صفوت

 

- صدقني لا أعرف ماذا تقصد .. أنا لم أقم بأي صفقة سلاح ولم يطلب مني أحد أن أفعل ..

 

قاطعه علي بسرعة وقال وهو ينظر إلى وجهه ليرى ردة فعله

- تكذب أيها الوغد .. ماذا عن حامد الذي كان ينفذ صفقات لحسابك

 

هتف عنتر دون أن يطرأ أي تغيير على ملامح وجهه وهو يقول

- حامد هذا ، لم أره منذ تركت العريش وجئت إلى هنا بعد أن طلب مني صفوت أن أفعل ذلك

 

- وماذا طلب منك صفوت بالضبط .. تحدث بالتفصيل ولا تنسى شيئاً

 

أجاب عنتر وقد بدت الدهشة على وجهه من سؤال علي

- طلب صفوت أن أُشيع بين تجار السلاح في سيناء أن قطعاً من سلاح الآر بي جي قد وصلت من العراق ، وكان من بين الذين اتصلت بهم حامد ولكنه لم يكترث وقال أن تلك الأمور لم تعد تعنيه.. ثم اتصل بي بعد شهر تقريباً وسألني عنها ، فقلت له بناءً على أوامر صفوت : أن ما تبقى من الكمية خمسون قطعة و لا يمكن أن يتم بيعهن إلا دفعة واحدة ، فقال أن لديه مشترٍ ولكنه يُريد أن يعاين القطع ، فأمرني صفوت أن أجاريه وأعطيه ميعاداً عندي في المحل .. وعندما حضر في الموعد استقبلته أنا و صفوت ، وتحدث معه صفوت كأنه صاحب الصفقة ثم ذهبا بعدها .. و انتهت صلتي بهذا الأمر نهائياً

 

- وهل كان حامد لوحده يومها؟

 

-كان معه شخص آخر أظنه المشتري

 

- وهل اشترى السلاح فعلاً ؟

 

نظر عنتر بذهول إلى علي ثم قال باستغراب

- كيف يشتري شيئاً لا وجود له ؟

 

سأله علي بغضب

- ألم تقل أنهما ذهبا مع صفوت لمعاينة الصفقة ؟

 

أجاب عنتر بحيرة واضحة

- ما فهمته أن صفوت نفسه لا يعلم شيئاً عن هذا الأمر فقد قال لي متذمراً أنه يقوم بهذا الأمر بناءً على أوامر صدرت إليه ، وكان متخوفاً جداً لأن التعامل مع تجار السلاح غير مأمون الجانب و..

 

قاطعه علي وهو يقترب منه قائلاً :

- وما هو قدر المعلومات التي يعرفها حامد والشخص الذي كان بصحبته عنك أنت وصفوت

 

أجاب عنتر وهو يبعد يده عن علي قائلاً

- أياً كانت المعلومات فلا معنى لها لأنها دفنت معهم

 

كادت أعصاب علي تفلت منه ولكنه تدارك نفسه ثم قال بهدوء

 

- ومن قتلهما ؟ .. أنت أم صفوت ؟

 

أجاب عنتر

- لقد انقطعت صلتي بهم بمجرد أن خرجا مع صفوت كما قلت لك .. ولا أعتقد أن صفوت قد فعل ذلك .. لأنه أخبرني أنه قام بتسليمهم للجهة التي أمرته باستدراجهم ..

 

- و برأيك من الجهة التي أمرت صفوت باستدراجهم؟

 

- لم يكن لدي أدنى شك بأنه سلمهما لكم أنتم .. ولكن صفوت لم يخبرني أبداً أنه يعمل معكم وإن كان هذا الأمر واضحاً لي منذ بداية تعرفي عليه

 

- هل تقصد أن صفوت لم ينجح بإخفاء علاقته معنا ؟

 

- الحقيقة هو لم يحدثني يوماً عن الجهة التي يعمل لحسابها .. ولكن الأمر لا يحتاج للكثير من الذكاء لأفهم أنكم من يصدر له الأوامر

 

- هل تعتقد أن صفوت كان يخوننا ؟

 

- لا أعرف .. ولكني كنت أنفذ ما يطلبه مني ولا أستطيع الإقدام على أي أمر دون الرجوع إليه .. فإن كان يستغلني لخيانتكم فهذا لا يعني أنني خنتكم و..

 

قطع علي حديث عنتر عندما لكزه في رأسه وهو يقول:

- ولكنك خنت بلدك

 

نظر عنتر بدهشة إلى علي ثم قال

- ولكني لم أخنكم أبداً لأنني لم أخن صفوت وكنت ..

 

قاطعه علي قائلاً

- من يخون وطنه وشعبه يخون الجميع ..

 

هتف عنتر مقاطعاً

- لا يوجد عمل بيني وبين من ذكرتهم لأخونهم فمصلحتي كانت مع صفوت

 

كان عنتر يسترسل في اعترافاته حتى كون علي فكرة عن طبيعة العمل الذي يقوم به عنتر وصفوت من خلال شبكة الموساد التي تحركهما وكلما أوغل في الحديث كان علي يستشيط غضباً أكثر لدرجة أنه أبتعد عنه خشية أن تصدر منه حركة فيقضي عليه قبل أن يستنزف ما لديه من معلومات

 

لم يكن عنتر يدرك أنه يُدلي باعترافاته لأحد رجال القسام بعد أن وقع في الفخ لدهاء علي حين أوهمه أن فرقة من الفرق العاملة في الموساد هي التي اختطفته ولذلك كانت اعترافاته دقيقة للغاية ، وقد فهم علي منها أن مهمة عنتر تدخل ضمن مخطط الموساد في تدمير شباب مصر بإغراقهم في المخدرات والترويج للرذيلة والانحلال الأخلاقي من خلال نشر مواخير الفساد تحت مسميات عديدة ومشاريع تستتر خلف السياحة والاستثمار الأجنبي مستغلين التسهيلات التي يقدمها النظام من أجل تشجيع الاستثمار الأجنبي

 

وعندما وصل حديث عنتر إلى خطف أطفال يسكنون في المناطق العشوائية في القاهرة بهدف المتاجرة بأعضائهم البشرية ، وصل غضب علي إلى ذروته و ضرب الطاولة التي تفصله عن عنتر بقدمه فشطرها إلى نصفين ، مما أصاب عنتر بفزع شديد ممتزج بالدهشة والذهول وهو يحدق في عيني علي المشتعلتين بنظرات الكراهية ، وشعر أنه ميت لا محالة ولكن علي توقف فجأة ثم أدار ظهره وغادر الغرفة على عجل فلحق به حسن بعد أن أغلق الغرفة دون أن يُجيب على تساؤلات عنتر الحائرة

 

جلس علي على ربوة من الرمال بينما اقترب منه حسن وهو ينزع القناع عن وجه قائلاً

- كيف يمكن للأرض أن تتحمل كل هذا الشر .. أي نوع من البشر هؤلاء ..

 

لم تكن حالة علي تسمح له بالإجابة فتسارعت أنفاسه وازدادت نبضات قلبه بشدة مما جعل حسن يربت على كتفه قائلاً :

- هون عليك يا علي فأنا أسمع دقات قلبك المضطرب بوضوح .. ثم إنك قد شفيت شيئاً من غليلك ، بينما كانت الدماء تغلي في عروقي وأنا أستمع لحديثه عن بعد دون أن أحرك ساكناً التزاماً بأوامرك

 

نظر علي إلى حسن وهم بقول شيء ما ، ولكنه تراجع وصمت قليلاً ثم قال بهدوء

- ما معنى كلمة عشوائيات التي تحدث عنها ذلك الوغد

 

- العشوائيات هي مناطق على أطراف القاهرة لا تحظى بخدمات الدولة وحال سكانها يجمع بين الفقر والجهل والبؤس ..

 

- ولكنه تحدث عن اختطاف عشرات الأطفال من نفس المناطق .. فكيف يمر هذا ويتكرر دون أن يلفت انتباه الأمن أو على الأقل الأناس المعنيين بالأمر وأهالي الأطفال

 

- يا علي .. قلت لك أن تلك المناطق ساقطة من حسابات الدولة والفقر والجهل يعشش فيها .. فلا يوجد فيها من يكترث كثيراً لغياب طفله لأن احتمالات هروب الأطفال من ذويهم واردة جداً بسبب حالة البؤس وما يتمخض عنها من مشاكل أسرية ، ويمكنك أن ترى نماذج كثيرة لهؤلاء الأطفال تحت الجسور أو محطات القطارات وغالباً ما يسقطون ضحايا لعصابات تستغلهم في التسول أو الإجرام ..

 

قاطعه علي بغضب

- أو يتحولون لقطع غيار بشرية ليعيش أطفال اليهود !!

 

و في المساء حضر أفراد المجموعة وبدت عليهم جميعاً علامات الذهول والغضب الشديد وهم يشاهدون ويستمعون لاعترافات عنتر المفصلة .. وبعد أن انتهى التسجيل صمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير من هول ما سمعوه حتى قطع أحمد الصمت هامساً :

-إلى هذه الدرجة وصل استهتارهم بنا ..

 

رد علي

- ما سمعتموه أقل بكثير من الحقيقة.. ولكن هذا العنتر لا يعرف الكثير بسبب ضآلة موقعه داخل الشبكة

 

قال مجدي

- تقصد أن صفوت لديه المزيد من المعلومات ؟

 

أجابه علي

- من المؤكد أن صفوت لديه معلومات أكثر غزارة من عنتر لأنه الأقرب منهم .. فهو يمتلك كما سمعتم عدداً من القرى السياحية في سيناء وهذا يسهل عليه الاتصال المباشر بهم

 

هتف إبراهيم بحنق

- يجب أن نحضر صفوت إلى هنا ولا أظن أننا بحاجة لعنتر هذا بعد أن أدلى بما لديه من معلومات ، فبقاءُه على قيد الحياة سيكون عبئاً علينا

 

قال رشاد

- بما أنكم جميعاً اشتركتم في مهمة خطف عنتر فأرجو منك يا علي أن تسمح لي بقتل هذا الوغد ، كي لا تقتلني الحسرة

 

قاطعه محمد قائلاً

- أنا أيضاً كان دوري ثانوياً في تلك المهمة .. و يجب أن أفعل شيئاً لأشارككم.

كان علي يراقب نقاش المجموعة وقد أسعده كثيراً الحماس الذي أبدوه خلال حديثهم مع بعضهم البعض ، حتى قال مجدي و قد لاحظ أن علي لم يتدخل في الحوار

- لحظة يا رفاق .. أنسيتم أننا جميعاً ملتزمون بالأوامر التي سيصدرها علي لنا بصفته قائداً للمجموعة

 

قال علي

- أريد أن أعرف إلى أي مدى يمكنكم أن تسيروا معي في المهمة وهل تستطيعون..

فوجئ علي حين صاحوا جميعاً بجملة واحدة : إلى جهاد نصر أو استشهاد

 

صمت علي للحظات و هو يتذكر شباب القسام في القطاع ، ثم نظر لمجدي وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة ذات مغزى ، فأشاح مجدي بوجهه و قال و الحزن يخالط كلماته

- لا تنظر إليّ هكذا يا علي فحديثك صباحاً أحبطني ، فجلست مع البقية وحدثتهم عما يجول في صدرك فأصابهم جميعاً ما أصابني ..

 

قاطعه علي وهو ما يزال محتفظاً بابتسامته قائلاً

- فاتفقتم على أن تقولوا هذه الجملة عندما أبدأ الحديث معكم

هم أحمد بالحديث ولكن علي أشار له بالتوقف قائلاً

- صدقوني .. لم أشك في أي لحظة بنياتكم أو إخلاصكم .. ولكن هناك أمر يجب أن أطلعكم عليه قبل موافقتكم الكاملة

 

تململ الجميع وبدا أن كل واحد منهم لديه ما يقوله ولكن علي واصل حديثه بنبرة حازمة دون أن يلتفت لذلك وتابع قائلاً

- أعرف أن كل واحد منكم يتمنى الجهاد في سبيل الله والإثخان في العدو كحال مئات الألوف من شباب مصر.. وأدرك تماماً أن حلم الشهادة يراود كل واحد منكم في يقظته ونومه .. ولكن هذا يختص بالتضحية بالنفس والمال والوقت في سبيل الله .. لكن ماذا عن التضحية بأشياء أخرى كالأهل مثلاً؟

أريدكم أيها الأخوة أن تدركوا أننا نواجه عدواً قذراً يستخدم أساليب أشد قذارة مما تتصورون ، هذا إلى جانب وسائله التكنولوجية والمادية ، ويجب أن نعترف جميعاً أنه يتفوق علينا في ذلك، لتكون لنا فرصة المبادرة باختيار أدوات القتال وكذلك أرض المعركة كي لا نزج بأنفسنا في معركة خاسرة معه .. ومن المهم جداً أن أقول أننا سنخوض هذه المعركة بصورة ارتجالية لا علاقة لها بكتائب القسام ، فقد صدر أمر بتجميد عضويتي منذ اتخذت قراري بالسفر إلى مصر ، فأنتم تعلمون جميعاً أن حركة حماس قد حصرت المعركة مع العدو داخل أرض فلسطين على الأقل في الوقت الراهن ، وهذا يدعوني لأنبهكم أن احتمال الخطأ وارد في عملنا وسيعرضكم هذا لأمرين .. الأول هو : اصطدامكم مع أجهزة الأمن هنا ، لأن ما نفعله يُعد خرقاً للقوانين ، والثاني : سينكشف أمركم للعدو الذي نواجهه وهو غالباً ما يستخدم أسلوب العقاب الجماعي إن تحداه أحد ولذلك أريد أن أنوه أنه بمجرد المُضي في المهمة فإنكم ستعرضون أهلكم وذويكم جميعاً لخطر جسيم إن كشف الموساد أمر أي واحد منكم ..

 

أطال علي الحديث مع أفراد المجموعة ليطلعهم على حقيقة الأمر ، وطلب منهم أن يفكر كل واحد منهم بانفراد و بمعزل عن الآخرين ، وأن لا يكون الرد جماعياً ، ولكن حماس الشباب لم يتأثر قيد أنملة ورفضوا جميعاً مهلة الساعتين التي حددها لهم للتفكير ، رغم أنه شدد بأنه سيتفهم انسحاب أي منهم ، و لن يعتبر ذلك آخر المطاف و سيكون بإمكان من يتراجع أن يعود مرةً أخرى للمجموعة ، ولكنهم صمموا على المضي في تنفيذ المهمة وشددوا على تنفيذ حكم الإعدام بحق عنتر ولكن علي رفض ذلك قائلاً

-تصفية عنتر يجب أن تكون بشكل هادئ حتى لا نُثير انتباه العدو ويبقى عنصر المفاجأة متوفراً لنا .. ولذلك أقترح أن تكون تصفيته بطريقة تُظهر الأمر و كأنه حادث عرضي

قال رشاد :

- ألا تلاحظون أنه كف عن الصراخ منذ وقت طويل ؟ .. أخشى أن يكون قد هرب لذلك يجب أن نذهب لاستطلاع الأمر فقد بدأ القلق يتسلل إلى نفسي ..

 

قاطعه حسن قائلاً

- من المستحيل أن يهرب ويديه وقدميه موثقتان بالقيود المعدنية التي أحضرها مجدي ، كما أنه مربوط بسلسة معدنية في قضبان نافذة الغرفة و طولها لا يسمح له بالوصول إلى الباب ، ثم إنه يظن أن هناك عدداً كبيراً من الحراس خارج الغرفة فقد تعمد علي أن يشغل راديو سيارته على إذاعة عبرية أثناء استجوابه

 

هتف مجدي مقاطعاً

-نستطيع أن نستخدم سيارته في تصفيته فيبدو الأمر و كأنه حادث طرق طبيعي فنتخلص منه ومن السيارة في نفس الوقت

 

قال محمد ساخراً

- هل تُصدق أنني أحببت هذه السيارة وسيعز عليّ تدميرها في حادث

 

قال مجدي وهو ينظر لعلي

- أعتقد أن علي موافق على ضرورة التخلص من السيارة ؟

 

أجاب علي

- التخلص من السيارة ضروري .. ولكن ما هي خطتك بشأن حادث الطرق ؟

 

- لدي فكرتين الأولى : عن طريق إلقائه هو والسيارة في الترعة والثانية عن طريق إلقائها من فوق جبل المقطم وهو بداخلها

 

- أليس المقطم هو المكان الذي قال عنه عنتر أنه عنوان بيت صفوت ؟

 

أومأ مجدي برأسه موافقاً وهو يقول

- نعم هذا صحيح .. فالمقطم منطقة جبلية وسيكون من الطبيعي موت عنتر في تلك المنطقة لأنه سيُفسر بأنه كان ذاهباً لزيارة صفوت وبسبب تناوله للمخدرات فقد السيطرة على السيارة وانحدرت به نحو الهاوية

 

أتفق الجميع على فكرة مجدي الأخيرة وقرروا البدء في التنفيذ حتى لا يتسلسل الشك إلى أحد بسبب غياب عنتر ، وعندما ذهبوا للغرفة المحتجز بها عنتر وجوده مرمياً على الأرض وعلى وجهه أثار مخدر الهروين فقام مجدي بفحص نبضه و تبين له أنه قد فارق الحياة

 

تذكر علي أنه قد وضع كيس الهروين على الطاولة وبعد أن تحطمت الطاولة سقط كيس المخدر على الأرض وسط الحطام دون أن ينتبه لذلك .. واستنتج الجميع أن عنتر شعر عنتر بحاجته للمخدر فاستنشق جرعة زائدة أودت بحياته ولكن ذلك لم يُغير في خطة التخلص من عنتر والسيارة من خلال دفعها من فوق قمة المقطم ، و قد قام بتنفيذ هذه المهمة مجدي ومحمد بينما عاد كل من علي وبقية المجموعة باستثناء حسن إلى القاهرة

 

كان لدى الجميع رغبة قوية في إحضار صفوت الذي يملك الكثير من المعلومات إلى نفس الغرفة التي كان بها عنتر .. ولكن علي طلب منهم أن يصبروا ريثما يتم جمع معلومات أكثر عن صفوت

 

- كيف سارت الأمور معكم ؟

 

ابتسم مجدي وهو يُجيب على سؤال علي قائلاً

– كل شيء سار على ما يرام والحمد لله .. فلقد أوقفنا السيارة في مكان مناسب تماماً على سفح جبل ، ثم وضعنا جثة عنتر خلف عجلة القيادة وبدفعة بسيطة سقطت إلى الهاوية ولا أظن أنهم اكتشفوا أمرها إلا في الصباح فلقد كانت المنطقة خالية تماماً

 

قال علي لمجدي

- بما أنك خبير في مثل هذه القضايا .. فهل حدثتني عن إجراءات التحقيق التي تتم في مثل هذه الحوادث

 

أجاب مجدي باهتمام

- لأن الحادث سيبدو للوهلة الأولى أنه حادث طرق طبيعي .. لذلك سيتم فحص السيارة بشكل روتيني وبعد تشريح جثة عنتر سيتبن لهم أن السائق قد مات أثناء القيادة بسبب جرعة زائدة من المخدر بينما استمرت السيارة في سيرها وانحدرت نحو الهواية .. ولكن إن تقدم أحد من أهله ببلاغ لاشتباهه في جريمة قتل .. سيكون الفحص والتدقيق بشكل أوسع مما هو عليه في الظروف العادية

 

قال علي ساخراً

- لا أظن أن أحداً من أهله سيعنيه كيف مات .. فلقد عرفت أن أهله أهدروا دمه مُنذ سنوات عندما اغتصب إحدى محارمه .. وبعد فراره انقطعت صلته بهم من يومها

 

- حتى لو حدث تحقيق بسبب شبهة جنائية فلن يُغير من الأمر شيئاً ، فهو قد مات فعلاً بسبب المخدرات وهذا يحدث كثيراً مع المدمنين .. أعتقد يا علي أنك نادماً على عدم قتلك إياه بيدك كي تُشفي غليلك

 

- ليس قتل عنتر هو ما يُشفي غليلي لأنه أحد أذرع الأخطبوط الهامشية .. ما يُشفي غليلي حقاً هو الوصول لرأس الشبكة الأخطبوطية .. وهذا لن يتم إلا إذا تعاملنا معها بهدوء شديد ليظل عامل المفاجئة في صفنا .. كما يجب أن نُكثر من الدعاء إلى الله لأن التوفيق أولاً وأخيراً من عنده سبحانه وتعالى

 

تم رسم خطة لمراقبة صفوت وجمع أكبر قدر من المعلومات عنه وقد تم تكليف مجدي بالجزء الأكبر من هذه المهمة واستطاع في يوم واحد أن يجمع الكثير من المعلومات حول النشاط الظاهر لصفوت وقد ساعده في ذلك الاعترافات التي سمعها أثناء استجواب عنتر

 

كان كل شيء يسير على ما يرام وبدقة متناهية ولكن مجدي طلب من علي بإلحاح أن يعرفه على صديق له يريد أن يضمه للمجموعة ، ولقد تردد علي كثيراً لأن صديق مجدي لم يكن من الإخوان المسلمين كما هو حال بقية المجموعة ولكنه وافق أخيراً -بعد إلحاح مجدي - أن يتعرف عليه أولاً كي يُكون فكرة عن ذلك الشاب ومن ثم يُقرر إن كان سيضمه للمجموعة أم لا

 

- لا أعرف يا مجدي لمَ تُصر على أن نضم صديقك هذا وأنت تعلم أن أمثاله يحترفون الخداع وولائهم للنظام كبير

 

- صدقني يا علي أنك ستُغير رأيك عند أول لقاء معه .. فلقد كان سبب فصل علاء من المخابرات العامة لأنه قدم ولاءه لمصر عن ولاءه للنظام .. ثم أننا كدنا نقترب من النادي الذي يعمل فيه وأعدك أن لا أراجعك في قرارك أو أسألك عن أسباب الرفض إن رفضت ولو أنني متأكد أنك لن ترفض

 

- يبدو أنك واثقٌ جداً من صديقك وهذا أمر لا يحدث إلا بعد طول عشرة ومعاملة

 

- علاء كان زميلاً لي في كلية الشرطة ومن هناك تعرفت عليه وتوطدت صداقتنا لأبعد حد .. ولكن بعد التخرج انقطع كل منا عن الآخر واقتصرت العلاقة بيننا على اتصالات هاتفية بسبب انتقال كل واحد منا للعمل في الأقاليم المختلفة ، ولقد استغربت كثيراً عندما تم فرزه للعمل في مباحث الكهرباء خاصةً وأن والده كان برتبة لواء في الشرطة ، ولأنه كان أيضاً من أكفأ أفراد دفعتنا .. ولكني اكتشفت بعد ذلك أن هذه الوظيفة كانت مجرد ستار لأنه ألتحق بالمخابرات العامة بعد دورة تدريبية فور تخرجه وهذا لا يحدث مع طلبة كلية الشرطة إلا نادراً جداً ..

وصل كل من علي ومجدي لنادي الرماية الذي يعمل فيه علاء ، واتفق علي مع مجدي أن لا يستغرب من تصرفاته مع صديقه لأن ما سيقوم به سيكون من باب الاختبار

 

كان علاء منهمكاً في عمله أثناء دخول علي ومجدي لصالة التدريب والتي ما كان لأحد من غير أعضاء النادي أن يدخلها لولا أن جميع العاملين في النادي يعرفون أن مجدي ضابطٌ في الشرطة .. و ما إن شاهد علاء مجدي حتى صافحه بحرارة ومعاتباً إياه على قلة زيارته وانقطاعه عن التمرين .. ولكن مجدي قاطعه قائلاً

- دعني أعرفك أولاً على صديقي الحميم علي وهو من فلسطين

 

نظر علاء باهتمام نحو علي وصافحه قائلاً

- أعتذر منك يا أخ علي فلقد توعدت ذلك المتهرب بعقاب لتخلفه عن التمرين

 

قال علي ساخراً

- أحياناً يكون سوء أداء المُدرب سبب هروب التلميذ من التمرين

 

ابتلع مجدي ريقه ونظر بذهول نحو علي ولكن علاء قال بسرعة

- في هذه الحالة يجب أن يرد التلميذ الجميل لمدربه بأن يقول له صراحةً : بأن تدريبه سيء كي ينتبه المدرب لأدائه مع تلاميذه .. فكما تعلم أن المدرب أحياناً يتأثر أداءه بسبب البطء في استيعاب بعض الطلاب فينعكس ذلك على بقية الطلاب

 

رد علي وهو ينظر لمجدي

- ولمَ تقول كما تعلم ؟ .. هل حدثك مجدي عني من قبل

 

قال علاء بأدب

- سأجيبك ولكني أستأذنكم لإنهاء التدريب وإغلاق قاعة التدريب وسأتفرغ لكم تماماً

 

ذهب علاء نحو طلابه بعد أن سمح له كل من علي ومجدي ليتمم إجراءات الانتهاء من عمله بينما قال مجدي لعلي هامساً

- لاحظ أن علاء حساس وعلى درجة عالية جداً من الأخلاق ولن يُفيد استفزازك له لأنه لن يرد عليك ولكني أخشى أن يأخذ عنك انطباع سيء

 

قال علي بخبث

- قد لا يدفعه الاستفزاز بأن يرد عليّ بالمثل لأنني بالنسبة له ضيف في بلده وفي مكان عمله .. ولكن بعض التصرفات التي تبدأ من طرفة العين واختلاج الأنفاس وتنتهي باستعراضات واضحة أو مبطنة قد تكشف بوضوح سلوك ونفسية الإنسان .. وعلى كل حال أنت ما عليك إلا أن تُشاهد وتستمع وترد بشكل طبيعي إن لزم الأمر فلا تُقيد ردة فعلك وكأنك جئت لتُشاهد استفزازي له .. كما أنك ستخبرني بأمانة بأي كلمة يهمس لك بها عني إن حدث ذلك

 

- حسناً يا علي كما تريد ولكن ثق أنني لم أحدثه عنك أبداً ولا أعلم لمَ تحدث معك وكأنه يعرف بأن لك علاقة بالتدريب

 

هم علي بقول شيء ولكنه صمت بعد أن تقدم علاء نحوهما بعد أن غادر المتدربين قاعة التدريب وهو يعتذر عن انشغاله عنهما فقال له علي مازحاً :

- هل مازلت تذكر سؤالي يا أخ علاء ?

 

ابتسم علاء وهو يُجيب قائلاً

- الأمر لا يحتاج للكثير من الفطنة فأثار التمرين واضحة على يدك وأصابعك وواضح أنه تمرين متقدم له علاقة بفنون القتال وهو ما جعلني أخمن أن لك علاقة بالتدريب والتمارين

 

قال علي

- ملاحظة ذكية .. فأنا فعلاً مُدرب للكراتيه ولحظت أيضاً أن لك علاقة بهذا الأمر

وأظن أن التايكندو هو لعبتك المُفضلة مع أني لحظت أن تمارين الكونع فو واضحة على أصابع يدك

 

قال مجدي وهو يربت على كتف علاء

- علاء كان بطل الكلية في الكونغ فو ولكني لا أعرف أنه يلعب التايكندو أيضاً

 

قال علاء باستغراب

- أنا فعلاً ألعب التايكندو ولكن كيف يمكن أن تلاحظ ذلك

 

قال علي بزهو مبالغ به

- الأمر لا يحتاج للكثير من الفطنة .. فمعظم لاعبي التايكندو لهم طريقة معينة في السير والوقوف لأن اللعبة تُركز على القدمين بالدرجة الأولى

 

استمر الحديث بين ثلاثتهم في الرياضة ثم انتقلوا إلى الأوضاع في فلسطين وقد بدا الضيق يظهر بوضوح على علاء بسبب حديث علي الذي تعمد الاستخفاف بما يحدث في فلسطين فبدا وكأنه لا يكترث كثيراً لما يجري في بلده وبالرغم من أن علي نجح فعلاً في استفزاز علاء إلا أن علاء لم يرفض طلب علي أن يقوم بتعليمه الرماية بالمسدس على الألواح الثابتة وفي الوقت الذي كان فيه علاء يشرح عن كيفية الاستعداد قبل الرماية قال له علي وهو يتصنع الشفقة

- مسكين مجدي .. فلقد كان يمر بأزمة مالية سببت تأجيل زواجه ولولا أنني أقرضته بعض المال لكان وضعه صعباً للغاية

 

كانت هذه الجملة كفيلة بأن يكره علاء علي حقاً ولكنه رد قائلاً

- لو يعرف مجدي أنك قلت لي هذا ، لرد إليك مالك فوراً .. كما أنني مندهش حقاً للجوء مجدي إليك من أجل اقتراض مال دون أصدقائه ومعارفه الذين لن يتأخروا لو شعروا بذلك ودون أن يطلب مجدي ذلك

 

قال علي وهو يضع السماعة الخاصة بكتم الصوت على أذنه

- ربما لأنني أعز أصدقائه

 

رد علاء هامساً

- وهذا أمر استغربه كثيراً أيضاً

 

أطلق علي طلقة طائشة لم تصب الهدف المحدد وكأنه لم يسمع عبارة علاء الأخيرة وكان واضحاً أن علاء غير راغب في مواصلة تعليم علي الذي سبب له بشعور كبير بالاشمئزاز ولكن علي وفر عليه ذلك قائلاً

- يبدو أن الرماية لا تستهويني كثيراً .. ولذلك واصل مع مجدي ولو أني استغرب كيف لضابط شرطة أن يتدرب على الرماية وهي من صميم عمله

 

حاول علاء أن يرد ولكنه صمت بعد أن ذهب علي باتجاه مجدي فأخذ منه علبة عصير كانت بيده وقال له هامساً : دورك الآن وسأحكم عليه بما سيقوله لك على أن تنقل لي ذلك بكل أمانة

 

اتجه مجدي نحو علاء بينما حاول علي الابتعاد عنهما قدر المستطاع مدعياً أنه يُطالع صور الأسلحة الموجودة على الجدران .. ولكن الغريب في الأمر أن علاء لم يتحدث كثيراً مع مجدي بسبب ما أصابه من وجوم .. وكان واضحاً من نظرات الشفقة التي ينظر بها نحو مجدي وهو منشغل بالرماية كأنها ترثي لحاله بسبب صداقته لشخص بأخلاق علي

 

انتهى مجدي من التمرين فاقترب منهما علي موجهاً حديثه لمجدي وهو يقول

- أعتقد أن علينا اللحاق بموعدنا حتى لا نتأخر

 

قال علاء

- لقد انتهيت الآن من عملي ويمكنني أن أوصلكما بسيارتي إلى أي مكان

 

قال مجدي

- معنا سيارة نسيبي أحمد و..

 

قاطعه علي موجهاً حديثه لعلاء بود

- ما رأيك أن تأتي معنا إن لم يكن لديك مانع؟ .. فالموعد مجرد عشاء على شاطئ النيل وسنكون سعداء لو انضممت إلينا

 

حاول علاء أن يقول شيئاً ولكن مجدي رجاه أن يأتي معهما فوافق علاء على أن تكون دعوة العشاء على حسابه ، وأثناء ذهابه لاستبدال ملابسه قال علي لمجدي

- لم يحدثك عني أليس كذلك ؟

 

- نعم .. ولو أنني أشعر أنك قلت له شيئاً فظيعاً انعكس على نفسيته وغير حاله

 

انتهى علاء من استبدال ملابسه وقبل أن يغادرثلاثتهم المكان قال له علي

- بالمناسبة يا أخ علاء .. أعتذر عن أسلوبي الاستفزازي معك .. كما أرجو أن تنسى كل ما قلته لك عن ما اقترضه مني مجدي ، لأن هذا لم يحدث .. فالأمر كله كان مزاح من النوع الثقيل كي أرى إن كان حديث مجدي عن صداقتكما صحيحاً أم أنه يبالغ .. فلقد شعرت أنه من الضروري التعرف عليك عن قرب أكثر بسبب كثرة حديث مجدي عنك .. ولذلك أرجو أن تتقبل اعتذاري

 

بدا الارتياح واضحاً في حديث علاء وهو يقول

- تقصد أن كل ما حدث كان يُشبه الكاميرا الخفية لترى ردة فعلي ؟

 

أومأ علي برأسه موافقاً وهو يقول

- نعم هذا صحيح .. ولذلك اعتبر مصافحتي لك الآن هي بداية تعرف حقيقية بعيداً عن التجارب ، وأرجو أن تصفو نفسك من ناحيتي لأني أعرف أي انطباع أخذت عني

 

مد علاء يده ليصافح علي وهو يقول ضاحكاً

-أقبل اعتذارك بشرط .. أن تكون دعوة العشاء على حسابك

 

ضحك مجدي بدوره وهو يقول

يا راجل .. كان المفروض أن تقبل اعتذاره على أن يعطيني ما ادعى أنه أقرضني إياه من مال .. لكن بالمناسبة يا علي ، كم كان المبلغ الذي أقرضتني إياه ؟

 

أجاب علي قائلاً

سبعة جنيهات وثلاثون قرش

 

هتف مجدي

- أقبل شرط علاء ولا أريد السبعة جنيهات ولا حتى الثلاثون قرش

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

جلس على ومجدي وعلاء في أحد المطاعم المطلة على ضفاف نهر النيل ، وكان الجو رائعاً في نهاية فصل الخريف و زاده جمالاً منظر النيل و أنوار الأضواء البرتقالية المتراصة على جوانبه تلتمع على صفحته و تمتد على جسوره الكثيرة فقال علي

- القاهرة أجمل بكثير في الليل منها في النهار ..

 

رد علاء وقد أعجبه كلام علي سائلاً

- هل شاهدت الأهرام ؟

 

أجاب علي ساخراً

- تقصد تلك التي بناها اليهود في الجيزة ؟!.. لم أرها عن قرب ولكني شاهدتها من فوق قلعة محمد علي ..

 

قاطعه علاء بانفعال

- وهل لقنوكم في المدارس أن اليهود هم بناة الأهرام ؟

 

هز علي رأسه بالنفي و أجاب بهدوء

- مناهجنا الدراسية مصرية ، و فيها أن الفراعنة هم الذين بنوا الأهرام ، ولكن لدى اليهود من الحجج ما يؤكد أنهم هم من بنوا الأهرام

 

بلغ التعجب ذروته لدى علاء فسأل علي مستنكراً

- وهل تصدق اليهود فعلاً ؟

 

رد علي قائلاً

- فليكن بناة الأهرام من كانوا ، فإثارة الغبار عما حدث قبل آلاف السنين لا يعنيني كثيراً ، .. ولكن كُن على ثقة أن لليهود حججاً قوية تجد أُذناً صاغية في كل العالم.. ما يهمني هو ما نبنيه الآن ، ومن نحن الآن لا كيف كنا قبل آلاف السنين

 

كان الانفعال واضحاً على ملامح علاء و رغم ذلك حرص أن يكون صوته هادئاً وهو يقول:

- الإنسان المصري هو باني الأهرام و هو من حفر قناة السويس و شيد السد العالي .. ثم إن الحاضر والمستقبل امتداد لحضارة الماضي ، فهل حقاً لا يعنيك الماضي ؟!

 

أسند على ظهره للكرسي و رد بهدوء

- أوافقك تماماً فيما قلت ، فكلامك يناسب ندوة ثقافية وسيصفق لك أصحاب النظارات السميكة من المثقفين .. وبعد أن ينفض العرس الثقافي بإمكانك كمصري صاحب حضارة فرعونية عريقة ، أن ترى كيف يكون الفرق في التعامل بينك وبين أمريكي لا يملك تراثاً حضارياً في أي مطار دولي يجمعكما ، وحتى في مطارات الدول العربية .. هذا الفرق الذي ستشعر به حتماً سببه النظرة الواقعية لفارق حضارة اليوم لا أمس الأجداد .

 

رد علاء بامتعاض قائلاً

- حتى لو قَيَمَنا البشر كما قلت ، فهذا لا يعني أننا تبخرنا وتلاشينا ، فالدنيا دول ومن بنى أجداده تلك الحضارة العريقة يمكن لأحفاده أن يبنوا خيراً منها .. ربما تعود نظرتك التشاؤمية لحالة اليأس والإحباط التي يشعر الفلسطينيون بها بسبب الاحتلال ولكن ثق أن ..

 

قاطعه علي بقوله

- ليست نظرة تشاؤمية يا علاء و لكنه الواقع .. أما اليأس فهو العامل الوحيد الذي يشترك فيه العرب في عصرنا هذا

 

تدخل مجدي قائلاً

- كنا في الحديث عن الأهرام فتحول إلى السياسة ومشاكلها

 

قال علاء بسخرية واضحة

- يبدو أن صديقك يشك فعلاً أن اليهود هم من بنوا الأهرام وربما الحضارة الفرعونية

 

تبسم مجدي و قال

- لا أظن أن علي لا يعرف أن اليهود لا يتورعون عن سرقة تاريخ وحضارات غيرهم ، كما سرقوا الأرض وشردوا أصحابها

 

مط علي شفتيه و وجه حديثه لعلاء

- هل سمعت كلام مجدي ؟ سرقوا الأرض !! وأنتم كمصريين تدركون هذا و تعاملونهم كأنهم أصحاب الأرض الحقيقيين و لليهود سفارة يرفرف عليها علمهم هنا ، وفي نشرات أخباركم تسمونها إسرائيل و ليس فلسطين ، وهذا يعني أنكم مقتنعون بكونهم أصحاب الأرض الشرعيين ، فكيف تلومني لشكي بأنهم أصحاب الأهرام ؟

-

صمت علاء قليلاً ثم انفجر ضاحكاً وهو يقول

- للمرة الثانية أقع في الفخ وبنفس الطريقة .. لكن يا سيد علي لم يكن هناك حاجة للخداع حتى تعرف رأيي في هذه السفارة والاعتراف بإسرائيل كدولة .. فأنا والسواد الأعظم من شعب مصر نرفض وجود السفارة التي أفرزتها اتفاقية كامب ديفيد والتي رأى السياسيون حينها أننا لن نخسر كثيراً بإعطاء اليهود بناية صغيرة في حي العجوزة مقابل خروجهم من سيناء و لكن الشعب المصري أثبت طوال تلك الفترة أنه ضد التطبيع مع اليهود وإقامة أي علاقات معهم

-

أيده مجدي قائلاً

- كلام علاء صحيح .. الشعب المصري يكره اليهود ، و كلمة يهودي تُعتبر شتيمة لدى العامة..

-

قاطعه علي بحدة

- ومن يهتم بالشعب.. النظام هو المتحدث باسم الشعب المصري وهو وحده من يقرر .. علاء يقول أنهم منحوا اليهود بناية في حي العجوزة مقابل خروجهم من سيناء .. فهل خرج اليهود فعلاً من سيناء ؟

الجواب الواقعي لا ، فهم موجودون الآن في سيناء بأعداد أكبر من تلك التي كانت قبل توقيع الاتفاقية .. وبدلاً من استخدام كلمة مستوطنات على تجمعاتهم استخدموا كلمة قرى سياحية ..

 

قاطعه علاء قائلاً

- وجودهم كسياح تحت السيادة المصرية يختلف عن وجودهم كمستوطنين ..

 

قطع علاء حديثه عندما اقترب النادل ليدون طلباتهم ، وبعد أن ذهب قال علي:

- أرجو أن لا تظن أني أُعايركم يا علاء .. و انظر معي للأمر بواقعية فالسواح اليهود كما سميتهم أنت لا يحتاجون لتأشيرة دخول إلى سيناء كحالي مثلاً و القرى السياحية في سيناء تعود ملكيتها لهم بشكل أو بآخر و أظنك تدرك أن يجلبون منتوجاتهم معهم كي لا تتذرع بالنفع الاقتصادي لحركتهم السياحية ، و الدولة لا تكسب منهم إلا الضرائب التي تنفق أضعافها لعمليات حماية السواح!! فعن أي سيادة تتحدث ؟

 

ساد جو من الصمت بعد حديث علي واستمر لفترة حتى أحضر النادل العشاء وفور انصرافه وجه مجدي حديثه لعلاء

- إن كان كلام علي صحيحاً فنحن نعيش احتلالاً بشكل آخر

 

راقب علي باهتمام أثر عبارة مجدي على ملامح علاء و لكن الأخير أجاب و هو يمد يده نحو الطعام قائلاً

- بإمكاني أن أدحض كل ما جاء على لسان علي وأحدثه عن السياسة والمتغيرات الدولية وما هو أهم ولكني سأقول ما لا يقنعني .. فالكثير من كلام علي يمس الحقيقة بشكل مباشر و إن اختلفت معه في المسميات خاصة كلمة احتلال .. و دعني أسميها بالنفوذ الإسرائيلي القوي في سيناء بعد أن عقدت الحكومة معهم اتفاقيات اقتصادية و زراعية و سياحية لتحسين ظروف البلد الاقتصادية ، و قد زادت هذه الاتفاقيات الطين بلة و رغم ذلك مازالت الدولة تمضي قدماً لإبرام المزيد منها ، لتقلل تحريض اللوبي اليهودي في أمريكا ضد مصر .. كي لا يصيب النظام هنا ما أصاب نظيره في العراق ..

 

قاطعه علي قائلاً

- لا تدافع عن السياسات الخاطئة فاليهود يعنيهم التفوق على كل الدول العربية اقتصادياً وعسكرياً و هو ما يضمن بقاءهم .. لذلك فهم يمارسون التخريب بشكل منظم ومدروس في كل الدول المحيطة بهم ، و بسبب ستار السلام كانت مصر أكثر الدول تضرراً نتيجة لانتشار المخدرات بشكل كبير وسط الشباب المصري ودخول فكر جديد إلى عقول فئة كبيرة منهم مثل عبادة الشيطان وتغلل المافيا على اختلاف أنواعها والتي تعمل بشكل مباشر تحت قيادة الموساد و..

 

توقف علاء عن تناول الطعام و قال بدهشة

- من أنت بالضبط يا علي وما هو عملك ؟ .. فما تقوله لا يعرفه الإنسان العادي

 

قال علي بهدوء شديد

- أنا فلسطيني لا يسره ما آل إليه حال مصر بسبب تغلغل يد اليهود فيها

 

قال علاء بمرارة

- مصر يا علي ليست ضعيفة كما تتصور.. وحالة الضعف هذه لن تدوم طويلاً

 

لم يرق الحوار كثيراً لمجدي فقد بات يشعر أن علي اتخذ قراراً بعدم الموافقة على ضم علاء إلى المجموعة .. و كم تمنى أن يُظهر علاء كرهه لليهود كما كان يفعل معه أثناء الحديث عنهم ، أو أن يركز علي في اختباره على تدين علاء ليكتشف تمسكه الشديد بتعاليم دينه كشباب الاخوان المسلمين .. ومع ذلك فقد كان يعذره لأن علي لم يتوقف عن استفزازه بحديثه فقال بمرح و هو يحاول تغيير دفة الحديث

- ما رأيكم لو أكملنا الحديث في منزلي ، فأنا ألحظ أن رواد المطعم قد بدأوا يصغون لحديثنا

-

قال علاء ساخراً

- صديقنا العزيز مجدي أصبح يخشى على وظيفته من الثرثرة في السياسة ككبار المسؤولين.. فكرتك جيدة فقد عانيت من هذا الأمر ولكن تأخري عن زوجتي سيفتح لي محضر اً بعد أن تعودت في الفترة الأخيرة على انضباط مواعيدي

 

ضحك مجدي و قال

-نسيت أن أقول لك يا علي أن علاء يخشى كثيراً من زوجته فهي تحاسبه حساب المَلَكين إن تأخر بضع دقائق

 

ضحك علاء بود و قال

- لا تصدقه فهو يبالغ .. وسنرى كيف يكون حاله عندما يتزوج ..

 

رد مجدي بلا مبالاة

- مواعيد عملي غير ثابتة و ليست مثل مواعيد عملك الجديد

 

عقد علاء حاجبيه و قال

- المشكلة في زوجتي الثانية يارا فهي التي تحرض زوجتي الأولى ضدي ..

 

سأل علي بدهشة

- متزوج باثنتين ؟

 

ضحك مجدي قائلاً

– وهل يجرؤ ؟! .. يارا ابنته الصغيرة و هي تقلد أمها في استجوابه حين يتأخر

 

قاطعه علاء قائلاً

– تذكرت شيئاً مهماً .. اتصل بي والدي صباحاً و أصدر لي أمراً عسكرياً بأن أُحضر العائلة لزيارته غداً كي يرى يارا .. فما رأيكما بقضاء يوم الجمعة غداً عند والدي .. وبالمناسبة يا علي ستتعرف على أعظم رجلٌ في الدنيا و ستشاهد أجمل مكان في هذا العالم

 

قال مجدي بأسف واضح

- هناك عمل يجب عليّ إنجازه غداً رغم شوقي للجلوس مع سيادة اللواء .

 

قال علاء ساخراً

- ابق في عملك و سأعرف علي على الريف المصري

 

حاول علي أن يعتذر عن تلبية دعوة علاء ولكن علاء أصر بشدة قائلاً له :

- إن الحديث بيننا لم ينته بعد ..

و شعر مجدي أن زيارة علي قد تقنعه بضم علاء للمجموعة فانضم لعلاء في إصراره و وافق علي أخيراً على تلبية الدعوة .

 

عاد علي ومجدي إلى المنزل ليجدا أحمد بانتظارهما في شقة مجدي وقد بلغ به الضجر مبلغه فقال لهم

- ما معنى تأخركم حتى الآن وإغلاقكم لهواتفكم النقالة ؟

 

قال مجدي ساخراً

- الحمد لله أن أختك ليست مثلك .. أخبره يا علي ريثما آخذ حماماً سريعاً

 

ابتسم علي و لف ذراعه حول عنق أحمد قائلاً بود

- تعال لأخبرك بما حدث ، ولكن أخبرني أولاً عن مهمتك الصحفية حول الشباب الضائع

 

قال أحمد باهتمام وهو يجلس على أحد الكراسي

- ذهبت إلى صالة الديسكو كما طلبت مني ، وبعد عناء وطول انتظار قابلت مديرة الصالة ..

 

قاطعه علي مستنكراً

- مديرة !! .. أليست الصالة باسم رجل يُدعى فواز

 

أجاب أحمد وقد أخرج جهاز تسجيل -كأجهزة الصحفيين- من جيبه

- هذا ما كنت أتوقعه أنا أيضاً ولكن من قابلتها هناك عرفت عن نفسها بأنها صاحبة الصالة ومديرتها ، فلم أستطع التعليق على ذلك وبعد أن سألتني عدة أسئلة سمحت لي بإجراء حوار مع بعض الشباب الموجودين داخل الصالة و قد كانوا جميعاً منحطي الأخلاق و بدأوا يسخرون مني ومن ملابسي بمجرد أن عرفوا هويتي و..

 

قاطعه علي متعجباً

- ملابسك !! .. وكيف كانت ملابسك التي ذهبت بها إلى هناك

 

- هي ثيابي التي أرتديها الآن .. ولكن لا تتعجب فطريقتهم في ارتداء الملابس غريبة و ثيابهم تحمل رسومات غريبة وأعلام أمريكية ، كما أنهم لا يحلقون رؤوسهم تشبهاً بالهيبز الأمريكان .. على كل حال دعنا منهم و استمع للشريط المسجل هنا

 

استمع علي للحوار المسجل وقد بدا عادياً في البداية حين طلب أحمد من مديرة الصالة أن تسمح له بإجراء حوار صحفي عن مشاكل الشباب مع بعض رواد صالة الديسكو والعاملين فيها ، إلا أنها سمحت له بإجراء الحوار مع رواد الصالة فقط باستثناء الموظفين بحجة ازدحام الصالة بالرواد وقد يعطل الحوار مع العاملين سير العمل .. و ابتسم أحمد حين طلب علي منه أن يُعيد إحدى العبارات أكثر من مرة فقال له بحماس

- أنا أيضاً لاحظت ذلك

 

التفت علي نحو أحمد و قال بشغف

- ماذا تقصد بقولك لاحظت ذلك

 

- أقصد أن لكنة المرأة غريبة بعض الشيء في كلامها

 

قال علي بارتياح واضح

- نعم فعلاً .. هذا ما جذب اهتمامي فهي تُخفق في نطق بعض الكلمات باللهجة المصرية

 

ابتسم أحمد ابتسامة ظفر و قال

- استمع لبقية الحوار فقد سألتها عن سبب اختلاف لهجتها فادعت أن والدها أحد شيوخ القبائل في سيناء بينما والدتها من القاهرة

 

استمع علي حتى انتهى الحوار ثم علق قائلاً

- كيف كانت ردة فعلها حين سألتها ذلك السؤال ؟

 

أجاب احمد بخبث

- لم يفتني أن أنتبه لحركة أصابع يدها والمنطقة التي تحت عينيها ولقد شعرت باضطرابهما للحظة ولكنها أجابتني بالأسلوب الجريء الذي سمعته مما سبب لي الكثير من الخجل وأنا أتحدث معها

 

سأله علي باهتمام بالغ

- صف لي هذه المرأة وحدثني عن انطباعك عنها

 

أجاب أحمد بشيء من الخجل والسخرية

- الحقيقة أنها جميلة للغاية رغم أنها لا تستخدم مساحيق التجميل ببذخ ومبالغة كبقية الفتيات من رواد الصالة ولكن يبدو لي أنها تستخدم عدسات لاصقة..

 

قاطعه علي بحزم

- على رسلك يا رجل .. أنا اقصد الوصف بشكل عام .. سمراء .. شقراء .. طويلة قصيرة .. عمرها ..

 

قاطعه أحمد بدوره وهو يضحك

- ألم تقل لي أن أدقق في كل التفاصيل .. ثم إن الحديث آت فلا تتعجل .. هي طويلة بالنسبة لمثيلاتها من النساء ولكن يصعب تحديد عمرها فهي تبدو في نهاية العشرينات من العمر ولكن قوة شخصيتها توحي بأنها أكبر من ذلك فكما تعلم يصعب تحديد عمر النساء هذه الأيام

 

هز علي رأسه بأسف

- لو أنك نظرت ليدها لعرفت عمرها بالتحديد .. و لكن أخبرني هل كانت سمراء كبنات البدو ؟

 

غمغم احمد بحيرة

- لا أستطيع الإجابة بدقة فقد بدت شقراء بسبب العدسات اللاصقة كما أنها تصبغ شعرها بأكثر من لون وإن غلب عليه اللون الأسود أكثر .. ثم أنني كنت بالكاد أنظر لوجهها لخجلي منها

 

دخل مجدي على حديثهما و صاح بسخرية

- الله الله .. ومن هي التي تصبغ شعرها.. هل يبحث لك هذا المغفل عن عروس يا علي ؟

 

أشار علي بيده لمجدي قائلاً له

– دعنا من مزاحك الآن .. هيا يا أحمد أكمل .. ما هو انطباعك عنها وعن المكان برمته

 

قال أحمد باهتمام بالغ

–شخصيتها قوية جداً فهي تسيطر على الوضع تماماً و لا تُحدث من حولها إلا بصيغة الأمر .. و لم يكن هناك ترحيب بوجودي إذ تعرضت لبعض المشاكسات وقد ابتسم أحد الحراس الأجانب بشماتة حين خرجت غاضباً … آه .. نسيت أن أقول لك أن هناك حارسان أجنبيان ضايقني أحدهما حين طلبت مقابلة مسؤول الصالة ، و قد ادعت سارة أنهما أوكرانيين ومسؤولين عن الراقصات العاملات في الصالة ، ولكن سيطرتهما على المكان وامتثال بقية الحراس لأوامرهما توحي بأن شأنهما أكبر مما وصفته سارة

 

قاطعهم مجدي قائلاً

- من سارة هذه وما دخلها بصالة الديسكو ؟

 

قال علي وهو ينهض من مكانه

- فليحدثك أحمد عنها .. أما أنا فسآخذ حماماً كما فعلت أنت ولا تنسى أن تخبره عن رحلتي غداً مع صديقك

 

سأل أحمد بدهشة

- رحلتك !!.. إلى أين ؟

 

قال علي وهو يهم بالانصراف

– مجدي سيخبرك بذلك

 

شرح أحمد لمجدي ما حدث أثناء زيارته لصالة الديسكو وأخبره مجدي عن رحلة علي مع علاء وأمنيته في أن يقبل علي بانضمامه للمجموعة بعد أن رفض ذلك لأنه لا ينتمي للإخوان المسلمين ولعمله السابق مع أحد الأجهزة الأمنية المنفذة لسياسة الحكومة .. وقبل أن يخرج علي من الحمام استعاد أحمد مفاتيح سيارته من مجدي وعاد إلى البيت لتلقيه اتصالاً قلقاً من أهله و حين خرج علي من الحمام أخبره مجدي بذلك ثم سأله

- ما هي خطوتك التالية بناءً على المعطيات التي توفرت عن الصالة و المعلومات التي جمعناها عن صفوت ؟

 

عقد علي حاجبيه وكأنه يفكر

- صفوت مرتبط بشكل مباشر مع الموساد ومن المؤكد أن المس به قبل أن نحيط بشكل دقيق بطبيعة ارتباطه معهم قد يفقدنا عنصر المفاجأة ويتسبب في هروب الصيد الكبير ، فقد يعتقدون أن أمن الدولة يقف وراء هذه الحوادث خاصة إن أصاب صفوت ما أصاب عنتر ، ولن يصدقوا أن موت الرجلين كان مصادفة .

 

استمر الحديث بين علي ومجدي لوقت متأخر من الليل وطلب علي منه أن يبذل جهده غداً ليجمع أكبر قدر من المعلومات عن صفوت مع الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة وأعطاه صلاحية اختيار عنصرين من أفراد المجموعة كي يدرسوا فيلا صفوت ويلتقطوا لها عدداً من الصور خلسة ، وفي الصباح الباكر جاء علاء كي يصحب علي معه .

 

شعر علي بشيء يشده نحو الأرض وهو يشاهد الريف المصري بجماله الساحر الذي لم تلوثه المدنية بعد .. و سرح بخياله نحو ريف فلسطين وأشجار اللوز والزيتون ورائحة البحر المعطرة بثرى الأرض حين تلامسها قطرات المطر .. وقبل أن يسترسل في خيالاته كانت يارا ابنة علاء تسأله ببراءة

- هل يوجد شجر ونيل وقناطر في فلسطين

 

ابتسم علي لسؤالها البريء ثم قال

- كل شيء في فلسطين يا يارا .. فيها نهر الأردن وفيها أشجار اللوز والزيتون والرمان وكل الفواكه .. فيها بحيرة طبرية والحولة وجبال الجليل وصحراء النقب .. فيها الشلالات وعيون الماء والبحر الأبيض والأحمر والميت .. كل شيء فيها يا حبيبتي .. فهي جنة الله في أرضه ، وزينة هذه الجنة مدينة القدس ودرة تاجها المسجد الأقصى الذي شرفه الرسول صلى الله عليه وسلم بزيارته وأمَّ كل الأنبياء فيه

 

ابتسم علاء و قال

- يبدو أن الفضولية قد أثارت الحنين في نفسك إلى فلسطين ..

 

قاطعته زوجته سلوى بسؤالها

- من أجمل يا أستاذ علي .. مصر أم فلسطين ؟

 

أجاب علي

- مصر جميلة جداً ولكن جمالها يُذكرني بجمال فلسطين فلا أرى فيها إلا فلسطين

 

قطعت السيارة سبعين كيلومتراً على الطريق السريع ، ثم اتخذت طريقاً ترابياً وسط الحقول إلى أن وصلت إلى بيت اللواء عمر والد علاء

 

كان دهشة علي كبيرة حين رأى والد علاء بالملابس التقليدية لفلاحي مصر ، ربما لأنه رسم له صورة في خياله وهو ببذلته العسكرية بسبب حديث علاء عنه أثناء الطريق وهو يصف طباعه العسكرية الصارمة وتمسكه الشديد بالانضباط ، وقد لمس هذه الصرامة حين استقبل ابنه علاء مؤنباً إياه على تأخره في الزيارة ، ولكنها تهاوت دفعة واحدة حين استقبل حفيدته التي اندفعت نحوه فضمها بشوق ثم حملها وهو يسأل ابنه عن علي ، وحين أجابه سلم على علي بحرارة واستقبله بحفاوة بالغة

 

و بالرغم من أن والد علاء لواء مُتقاعد في الجيش المصري إلا أنه كان فلاحاً بمعنى الكلمة ، وقد بدا هذا واضحاً لعلي وهو يستمع لحديثه بلهجته القروية عن ذكرياته في الحروب التي خاضها مع اليهود وكذلك عن بطولة الشهيد أحمد عبد العزيز والتي كانت سبباً في تحويل مجرى حياته بعد أن قرأ عنها ما جعله يلتحق بالكلية العسكرية فسأله علي باهتمام

- هل تعرف يا سيدي أن الشهيد أحمد عبد العزيز كان وجماعته من الإخوان المسلمين

 

أجاب والد علاء بزهو

- كل شيء عن الشهيد أعرفه و لديّ صورة نادرة له ، استطعت الحصول عليها من أحد أقرباءه ومازلت أحتفظ بها إلى اليوم .. ولكن يبدو أنك متحيز لفكر الإخوان لأنك ذكرتهم بهذا الفخر

 

رد علي

- الإخوان المسلمون في كل مكان ولهم شعبية كبيرة في فلسطين تكاد تساوي شعبية كل الأحزاب الموجودة على الساحة هناك

 

غمز والد علاء بعينه وهو يقول دون أن تفارق فمه ابتسامته العريضة :

- بما أنك صديق مجدي فلابد أن يكون لك علاقة بالإخوان المسلمين و لأنك من فلسطين فأنت من مؤيدي حركة حماس الفلسطينية فهي جناح الإخوان المسلمين في فلسطين

 

أُعجب علي بذكاء الرجل وقدرته على ربط الأمور ببعضها فقال مبتسماً:

- أحياناً أميل لتأييد حماس ولكني أرى أن ما ينادون به أصبح مستحيلاً بعد أن ثبت اليهود أقدامهم جيداً في فلسطين ..

 

قاطعه والد علاء وهو يقول:

- لا تقل هذا يا بني ! .. فالحمد لله الذي قيض لفلسطين من يطالب بها كاملةً بعد أن تخلى الجميع عنها.. وثق تماماً أني لو كنت في شبابي لما جلست هنا لحظةٌ واحدة ولذهبت للتطوع في صفوفهم ..

 

تدخل علاء قائلاً

- بعد إذنك يا أبي سأصحب علي لأريه الأرض و لترى يارا شجرتها

 

كان بيت اللواء عمر كبيراً يتوسط عشرة فدنات تحاذي أحد أفرع النيل و يسمى بالرياح .. وبدا واضحاً أن والد علاء مولع بالأشجار التي ورد ذكرها في القرآن فتحولت الأرض إلى قطعة من الجنة مليئة بأشجار النخيل والعنب والرمان وأشجار أخرى كثيرة ، فشعر علي أن علاء لم يبالغ حين وصفها بأجمل مكان في العالم ,و أبدى استنكاره لأن علاء يفضل العيش في صخب المدينة عن العيش في هذا المكان الساحر فرد عليه علاء

- عندما استقلت من عملي فكرت بجدية في أن استقر في المكان الذي عشت فيه طفولتي ، و أقمت هنا فترة من الوقت كي تستقر حالتي النفسية ، إلا أنني وجدت أن الإقامة في القاهرة أنسب لي لأنه لا يوجد هنا عمل يُناسبني كما أنني تعودت على حياة المدينة

 

سأله علي باستغراب

- وهل ترى أن العمل الذي تقوم به يُناسبك بعد أن كنت ضابطاً في الشرطة

 

أجاب علاء بتوجس و دهشة

- هل قال لك مجدي أني كنت ضابطاً في الشرطة ؟

 

قال علي بلا مبالاة

– قال أنك كنت ضابطاً في مباحث الكهرباء .. أليست تابعة لجهاز الشرطة ؟

 

أومأ علاء برأسه موافقاً

– نعم هي كذلك .. لكن دعنا من هذا الحديث وتعالا لنرى كيف كبرت شجرة يارا ، فأنا لم أرها منذ زمن طويل وكذلك يارا

 

فرحت يارا لأن شجرتها كبرت و تدلت أغصانها لتلامس نهر النيل ، فقال علاء لعلي موضحاً

– هذه الشجرة عمرها أربع سنوات زرعها أبي يوم ولدت يارا .. أما الشجرة التي بجوارها فهي على اسمي و زُرعت في اليوم الذي ولدت فيه و تلك التي بجوارها لأختي التي هاجرت إلى أستراليا مع زوجها

 

سأله علي باهتمام

- لكن لماذا شجر الكينا بالذات وليس الشجر المثمر مثلاً ؟

 

أجاب علاء شارحاً

– شجر الكينا من الأشجار المعمرة كما أنه يحافظ على حدود الأرض ويمنع تآكلها بسبب جريان النهر

 

قال علي مبتسماً

– منظر النهر مغر جداً للسباحة ، بسبب هدوء مائه الخالي من الموج

 

قال علاء وهو يُلقي أحد أعواد الذرة اليابسة في النهر

– السباحة في النيل تختلف كلياً عن السباحة في البحر بسبب التيار الجاري .. انظر إلى ما ألقيته الآن في الماء ستراه يسير بسرعة التيار ..

 

قاطعه علي قائلاً

– البحر أيضاً به بعض التيارات التي لا يسبح فيها إلا سباح ماهر

 

غمغم علاء ساخراً

– وهل أنت ماهر في السباحة ؟ .. أحذر قبل أن تُجيب فالمثل يقول : المية تُكذب الغطاس ، وها نحن بالقرب من الماء

 

رد علي قائلاً

- المهارة صفة نسبية فقد أكون بالنسبة لشخص عادي سباحاً ماهراً بينما يختلف الرأي بالنسبة لسباح لمحترف

 

قال علاء مازحاً

- إذاً ما رأيك أن نتسابق بعد صلاة الجمعة لأحكم على مهارتك .. ولا تخشى شيئاً بالنسبة للبلهارسيا فهي موجودة في الترع فقط

 

وافق علي على اقتراح علاء وبعد صلاة الجمعة ذهبا إلى النهر و بَيّنَ علاء لعلي أن السباق سيكون بالوصول إلى الضفة الأخرى للنهر ثم العودة إلى نفس المكان مرةً أخرى وما أن قفزا وقطعا شوطاً في السباحة ، حتى توقف علاء و تلفت حوله باحثاً عن علي الذي غطس تحت الماء و لم يظهر فأخذ علاء يغطس في المكان الذي اختفى فيه علي أكثر من مرة حتى تسلل الشك إلى نفسه بأنه قد غرق

 

مرت ثلاث دقائق طويلة قبل أن يظهر علي وهو يسبح بالقرب من الضفة الأخرى للنهر نحو العلامة التي حددها علاء للسباق فخرج علاء غاضباً بعد أن رآه ثم جلس على درجات سلم موجودة على حافة النهر منتظراً قدوم علي وقد بدا عليه الغضب والتوتر .. وقبل أن يصل علي إليه قاطعاً عرض النهر كان غضبه قد خف كثيراً فتصنع الغضب وهو يقول :

- لولا أنك في ضيافتي لأوسعتك ضرباً على فعلتك

 

قال علي مبتسماً وهو ما يزال في الماء

- عن ماذا تتحدث ؟

 

عقد علاء حاجبيه وقال محتداً

– لقد أخفتني يا رجل و تصورت لوهلة أنك قد غرقت حين غطست كل هذه الفترة

 

ضحك علي و قال بمكر

- بل أنا من أصيب بالإحباط الشديد عندما نظرت إليك وأنا على الضفة الأخرى فظننت أنك سبقتني

 

أشاح علاء بوجهه غاضباً

-توقفت عن السباق كي أبحث عنك .. ولو واصلت السباحة لسبقتك

 

رشق علي بعض الماء على وجه علاء وهو يقول

- لا تكن سخيفاً يا علاء واعترف بأني هزمتك

 

قال علاء بحدة مفتعلة وهو يمسح الماء عن وجهه

– لا تفعل هذا ثانيةً وإلا نزلت إليك وأوسعتك ضرباً

 

رشق علي وجهه مرة أخرى بالماء و سأله وكأنه لم يفهم قصده

– ما هو الذي لا أفعله ثانيةً ؟

 

وقف علاء وقبل أن يقفز إلى النهر قال له

– سأريك الآن إني جاد في تحذيري

 

غطس علي إلى الأعماق فلحق به علاء ولكنه لم يعثر عليه فأخذ يتلفت حوله بينما أخرج علي رأسه وسط أغصان شجر الكينا المتدلية في النهر ثم صعد إليها متسللاً و هو يراقب علاء الذي واصل البحث عنه لفترة طويلة حتى يأس من ذلك فخرج من الماء ، وهو ينادي عليه طالباً منه الخروج لأن ميعاد الغداء قد حان وأن والده سيتضايق إن لم يحضرا في الموعد ، ولكن علي لم يجبه وظل فوق الشجرة يراقبه إلى أن توقف بجوار تجمع لنبات ورد النيل يطفو على السطح و قال

– اخرج يا علي فأنا أعرف أنك وسط ورد النيل

 

قفز علي من فوق الشجرة إلى الماء ثم خرج و قال مازحاً

- هل تتحدث مع نفسك ؟

 

رد علاء باهتمام واضح

- هيا نرتدي ملابسنا بسرعة قبل أن يخضعنا اللواء عمر لمحاكمة عسكرية لتأخرنا عن موعد الغداء

 

قال علي وهو يرتدي جلابية الفلاحين المصريين

- هل تصدق أن هذه أول مرة في حياتي أرتدي جلابية مع أنه أمر مألوف لدينا في فلسطين

 

غمغم علاء وهو يلكز ه بيده مازحاً

- وهل الاستفزاز أمر مألوف لديكم أيضاً ؟

 

ضحك علي قائلاً وهو يمسك بيد علاء

- و ما أسهل فعل ذلك معك ..

بتر علي حديثه فجأة وتغيرت ملامح وجهه واكتست بحزن شديد مما أصاب علاء بالدهشة فسأله

- ما الذي حدث لك ؟! .. تغيرت فجأة وانقلب حالك رأساً على عقب .. فهل قلت شيئاً أزعجك ؟

-

كانت نبرة الحزن واضحة في صوت علي وهو يجيب بالنفي ولكن علاء أصر أن يعرف سبب حزنه فقال له علي

– تذكرت أعز أصدقائي ولا أدري لم تخيلتك أنك هو حين مازحتك .. ولا أدري أيضاً هل كان مزاحي شوقاً له أم أنني بدأت أنساه

 

تعاطف علاء مع حزن علي و سأله

– تتحدث عنه وكأنه ليس على قيد الحياة

 

التفت علي بحدة نحوه وهو يقول

– بل هو حي يرزق عند رب لا يُخلف وعده

 

همس علاء

– تقصد أنه مات ؟

 

قال علي وقد بدا عليه التأثر

– بل استشهد .. أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدا

 

تعاطف علاء مع علي و واصلا سيرهما نحو المنزل دون أن ينبس أحدهما للآخر ببنت شفة ، و أثناء جلوسهم لتناول الغذاء شعر والد علاء بالتغيير الذي طرأ على علي وعندما سأله أخبره ابنه أن علي تذكر صديقه الشهيد .

 

حاول والد علاء أن يُسري عن علي وبالرغم من أن علي بادلهم الابتسامات إلا أنه كان يلوم نفسه بشدة لأنه نسى صديقه و ما جاء لأجله ، كان يشعر أن النيران تشتعل في قلبه حين يتذكر أن أحد الذين شاركوا في قتل عبد الله مازال يتنفس ومازالت أقدامه تدب على الأرض وقبل أن يشعر أحد بغضبه أو يلمح نظرة الكره في عينيه استأذن للخروج و جلس على ضفاف النهر و هو يُفكر في طريقة للحصول على معلومات من صفوت دون أن يشعر أسياد صفوت بذلك ..

وبينما هو منهمك في التفكير سمع صوت حصوات تلقى في الماء ، فالتفت ليرى يارا تبتسم له فنادى عليها لتجلس بجواره ففعلت ، ثم عرضت عليه أن تسمعه نشيداً تعلمته في الروضه فصفق لها علي وأثنى عليها ، فطلبت منه أن ينشد لها نشيداً فلسطينياً فابتسم قائلاً

- لا أحفظ الكثير من الأناشيد ولكن استمعي ..

من بين حطام الأشياء ، نورٌ يبزغ يسمو .. من بين ركام الأشلاء ، غصنٌ يكبر ينمو .. طفلٌ مقلاع قرآن ، نارٌ ويقين .. جيلٌ إعصارٌ بركان ، نصر تمكين .. راية قرآن خفاقة ، تسمو كالشمس .. أرواحٌ ظمأى مُشتاقة ، لعبير الأمس .. بيتي آمالي أحلامي أرضي عمري..

 

توقف علي عن الإنشاد عندما حضر علاء وهو يقول:

- أرجو أن لا تكون هذه الشقية قد أزعجتك.. فمنذ أن علمت أنك فلسطيني وهي تسعى لأن تعرف كل شيء عن فلسطين

 

قال علي وهو يمسح بيده على رأس يارا

- فيها شبه كبير من طباع و شموخ والدك

 

طلب علاء من يارا أن تذهب إلى جدها ثم قال لعلي

- يبدو أنك أُعجبت بوالدي كما أُعجب بك .. هل تدري ماذا قال لي قبل قليل بعد خروجك ؟

التفت علي إلى علاء دون أن يجيب فاستطرد علاء قائلاً

– قال إنك صديقٌ يُعتمد عليه وطلب مني أن لا أفرط فيك .. وعندما استفسرت منه عن السبب رغم أنه لم يعرفك جيداً قال : إنه شاهدك وأنت تصلي بخشوع عجيب ولا يفعل هذا إلا من كان قريباً من الله .. و لكني لا أوافقه في تسرعه في الحكم على الأشخاص فطبيعة عملي علمتني أن لا أثق بأحد .....

 

قاطعه علي بتهكم

– تقصد عملك في نادي الرماية ؟

 

زفر علاء من أعماق صدره و قال

- بل عملي السابق في المخابرات العامة قبل أن أستقيل

 

التفت علي إلى علاء بدهشة حقيقية لأن مقدمة علاء لم توحي له بأن يكشف هذا السر إلا أن علاء أكمل قائلاً

– لا تستغرب .. فقد عملت في صفوف المخابرات العامة عدة سنوات و بسبب اختلافي مع رؤسائي تم تحويلي للعمل في وظيفة روتينية ليس لها قيمة وهذا يُعتبر عقاباً لضابط في قسم العمليات فرفضت ذلك وقدمت استقالتي

 

سأله علي متعجباً

- وهل قبلوا استقالتك بسهولة ؟

 

تنهد علاء قبل أن يجيب ثم قال

– بعد أحداث سبتمبر والاتفاقيات الأمنية التي وقعتها الحكومة مع عدد من الدول الأوربية وكذلك أمريكا تم تقليص عدد كبير من العاملين في المخابرات وتحويلهم إما لجهاز مباحث أمن الدولة أو المخابرات العسكرية ولم يعد مهماً أن يستقيل ضباط المخابرات العامة لأن الجهاز أصبح تابعاً لوزارة الخارجية وتحول عمله إلى الدبلوماسية بعد أن كان الدرع الواقي لأي خطر يتهدد مصر من الخارج ..

 

قاطعه علي مكملاً

– وبعد أن تحول الأعداء إلى أصدقاء يتهددهم خطر واحد لم يعد هناك معنى لوجودكم في المخابرات وعليكم أن تلتحقوا بأجهزة الأمن الداخلي لأن الخطر الحقيقي يأتي من الشعب المصري .. أليس كذلك ؟

 

بدا علاء مهموماً وهو يجيب

- لا ألومك إن فكرت بهذه الطريقة ، فالوضع سيء فعلاً و يسير إلى الأسوأ .. لا أعرف لمَ أقول لك هذا ولكني أطمع في أن تعرف عن نفسك أكثر فأنت لست كما تدعي وإن كنت لا أُشك أنك إنسان جيد

 

همس علي قائلاً

– سأترك لمجدي تلك المهمة فهو يعرف كل شيء عني

 

كان واضحا أن علي قد اتخذ قراره بضم علاء إلى المجموعة بعد أن تعرف على مثله الأعلى وطريقة تربيته ، ولكنه طلب من مجدي حين عاد إلى القاهرة أن يُرجئ ذلك حتى ينتهوا من أمر صفوت ، والذي جمع مجدي وبقية أفراد المجموعة الكثير من المعلومات عنه وعن ممتلكاته وأرصدة حسابه في البنوك وكان أكثر شيء ملفت للنظر هو تردد صفوت الدائم على صالة الديسكو التي اشترى أرضها ثم باعها لرجلٌ يُدعى فواز يحمل الجنسية الأمريكية مع أن المعلومات التي جمعها عنه مجدي تُفيد بأنه من مواليد محافظة جنوب سيناء وابن أحد شيوخ القبائل

 

كانت فرحة مجدي كبيرة حين أخبره علي بموافقة على بضم علاء معهم ، ولكن علي طلب منه أن يبقي هذا الأمر سراً وأن لا يفاتح علاء حتى يأخذ منه إشارة بذلك ، ثم سأله عن آخر المعلومات لديهم فقال مجدي

- لقد قمنا بتصوير الفيلا واكتشفنا أنه لا يوجد بها سوى البواب وهو رجلٌ مسن وزوجته المسنة التي تخدم داخل الفيلا وهذا غريب لأن الفيلا ضخمة الحجم وتحتاج للكثير من الخدم والحراس ..

 

قاطعه علي باهتمام

- وماذا عن الحراسة الإلكترونية ؟

 

عقد مجدي حاجبيه بحيرة

- الغريب في الأمر أيضاً أن أسوار الفيلا تخلو من كاميرات المراقبة أو أي نظام إلكتروني للحماية عدا وجود كلب وولف وهذا أمر طبيعي لا يدعو للريبة

 

هز علي رأسه متفهماً

- من الطبيعي أن لا يكون هناك كاميرات مراقبة لأنه لا يوجد من يتابعها ولا أظن أن العجوز المسنة المسموح لها بدخول الفيلا يمكنها أن تهتم بهذا الأمر ولا تقل لي أنك لم تتأكد أنها والبواب مسنين فعلاً

 

ضحك مجدي وهو يقول

- لا عليك فقد تعلمت الدرس و وضعت في الحسبان مسألة التنكر .. ولكن لدي ما هو أهم فلقد اكتشف محمد أن الفيلا القريبة من فيلا صفوت تُشبه الثكنة العسكرية وفيها كل إجراءات الأمن الإلكترونية وعدد كبير من الحراس وحين جمعت عنها معلومات أولية تبين أن صاحبها مستثمر أجنبي فتح مصنعاً لمساحيق التجميل ثم أغلقه بسبب الخسارة وعاد إلى بلده ولم يأت إلى مصر منذ عامين وبالرغم من هذا فالحركة في الفيلا حيوية للغاية وحراسها متأهبون كأنهم يتوقعون هجوماً عسكرياً

 

ساله علي باهتمام

- وماذا عن زوجة صفوت وأبنائه ؟

 

أجاب مجدي

- الزوجة الأولى سافرت إلى اليونان مع زوجها الجديد بعد أن طلقها صفوت ثم تزوج بعدها زيجات قصيرة كان آخرها فتاة صغيرة أنتج لها شريطاً غنائياً ثم تزوجها ومن ثم سجل إحدى القرى السياحية القريبة من شرم الشيخ باسمها ، وهي تقيم فيها الآن ، فكما تعرف أن من بين أعماله الكثيرة إنتاج أشرطة الكاسيت و أغاني الفيديو كليب

 

قال علي

- وماذا عن فواز .. ألم تأتوا بمعلومات جديدة عنه ؟

 

- فواز شخصية غامضة لا نعرف عنه سوى أنه المالك الحقيقي لصالة الديسكو التي باعه أرضها صفوت ، والمثير في الأمر أن أخته شريكةٌ له في العمل وهي التي التقاها أحمد ..

 

قاطعه علي قائلاً

- ألا تلاحظ أن سماح رجل بدوي الأصل لأخته بالعمل في مكان كالذي وصفتموه أمر يخالف عادات وتقاليد البدو

 

هز مجدي رأسه موافقاً و قال

- ليس بالنسبة للبدو فقط .. هو أمر ينافي الفطرة الإنسانية .. فكما أخبرتك أن صالة الديسكو أقرب إلى الكباريه منها إلى صالة ديسكو وربما أكثر انحلالاً .. والمدهش في الأمر أن سارة تسكن بمفردها في شقة في مدينة نصر بينما يُقيم أخوها بشكل دائم في صالة الديسكو عندما يكون في القاهرة ويترك لها حرية التصرف بشكل كامل حين يسافر إلى جنوب سيناء

 

قلب علي الصور التي التقطها الشباب لصفوت وسارة والمناطق التي يسكنون فيها وركز اهتمامه على صور الفيلا القريبة من فيلا صفوت وحدث مجدي عن إمكانية وجود نفق بينهما ، ثم استبعد ذلك بسبب بعد المسافة وطبيعة المنطقة الصخرية

 

شعر علي بضرورة الحديث مع صفوت و قرر أن يكون ذلك بالدخول إلى بيته في جبل المقطم واستجوابه هناك ، بخطة ينفذها كافة أفراد المجموعة و طلب من مجدي أن يحدد موعداً مع أفراد المجموعة

 

جلس علي مع أفراد المجموعة وتحدث قائلاً

- في البداية أحب أن أعبر لكم عن إعجابي بالعمل الذي قمتم به أثناء جمع المعلومات عن صفوت و الشخصيات التي ظهرت خلال جمع هذه المعلومات ... الآن ليس أمامنا إلا اقتحام فيلا صفوت وإجراء تحقيق سريع معه داخل الفيلا وسنواجهه باعترافات عنتر المسجلة وسنحاول أن نعرف حقيقة العلاقة بينه وبين فواز وأخته سارة ، وإن كنت أُخمن أنهما هما من جنداه للعمل في الموساد .

توقف علي عن الحديث للحظة ثم استطرد قائلاً

- الخطة ستكون كالتالي : سأتسلل أنا ومجدي إلى فيلا صفوت بمجرد أن يدخلها وبعد أن نسيطر على الموقف في الداخل سأعطيكم الإشارة بالدخول باستثناء أحمد ورشاد فسيتوليان مراقبة الفيلا الأخرى ، وكذلك فيلا صفوت لإبلاغنا بأي تطورات تحدث في الخارج

 

صمت علي مرة أخرى مما أتاح لحسن فرصةً للسؤال:

- بالنسبة لمن وراء صفوت .. ألا تعتقد أنهم سيربطون ما حدث لعنتر بما سيحدث لصفوت

 

أجاب علي باهتمام

- سنحرص أن يظهر الأمر كأنه حادث سرقة وسيساعدنا في ذلك وجود البواب وزوجته فقط .. لكن سيبقى احتمال الربط بين الحادثين وارداً و رغم ذلك سيكون من الصعب عليهم تحديد الجهة التي تقف وراء تلك الحوادث لأنهم لم يألفوا هذا الأسلوب من قبل

 

هتف مجدي قائلاً

- إذاً على بركة الله .. متى ستكون ساعة الصفر ؟

 

رد علي مباشرةً

- غداً بعد الصلاة العشاء سنمضي ليلتنا إن شاء الله في ضيافة صفوت

 

في مساء اليوم التالي كان علي ومجدي ينتظرون الإشارة بالقرب من الناحية الخلفية للفيلا و بعد مرور ساعة تلقيا اتصالاً من أحمد يخبرهم فيه أن صفوت دخل بسيارته إلى حديقة الفيلا و أنه ليس بمفرده بل ترافقه إمرأة ....

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

كانت الساعة نحو الحادية عشرة ليلاً حين قرر علي و مجدي أن يدخلا متسللين إلى حديقة الفيلا.. وبعد أن تفحصا المكان جيداً قررا الدخول إلى مبنى الفيلا من شرفة في الطابق الثاني بتسلق إحدى الأشجار القريبة منها ليجدا نفسيهما في غرفة نوم صفوت ، عندها اقترح مجدي أن يمكثا داخل غرفة النوم حتى يصعد صفوت إليها بصحبة المرأة التي معه ، فرفض علي ذلك لأهمية الاستفادة من كل لحظة أثناء وجودهما داخل الفيلا وقرر مفاجأة صفوت الذي كان يتحدث في الطابق السفلي تلك المرأة .. و قبل أن يقتحما على صفوت خلوته قاما بفتح كل الغرف الموجودة بالأعلى شاهرين مسدسيهما ليتأكدا من خلوها ، ثم توجها إلى السلم وشاهدا صفوت و قد استغرق في الحديث مع المرأة .

 

أشار علي إلى مجدي بألا يتحرك و أنصت بهدوء للحوار الدائر بين المرأة التي بدت فتاة لم تتجاوز العشرين من عمرها وكان واضحاً من حديثها مع صفوت أنها متذمرة مما يطلبه صفوت منها ، بينما كان صفوت يحاول إقناعها بضرورة وأهمية ما فعلته كي تحقق الشهرة التي تطمح إليها ولكنها صاحت قائلةً بانفعال:

- كل المشاهد التي أجبرتني على تصويرها لم يتم وضعها في الأغنية .. فلماذا جعلتني أفعل ذلك أمام عشرات العيون التي تراقبني أثناء التصوير كأنك تتعمد ذلك ..

 

قاطعها صفوت ملوحاً بيده التي تحمل سيجاراً كبيراً :

- يجب أن تعرفي يا عزيزتي أنه لولا تلك الحركات والمشاهد التي قمت بها لما عاملك طاقم التصوير والإخراج بذلك الصبر و الود .. ولا يعني كوني المنتج أنني أستطيع التدخل في عملهم ..

 

قاطعته الفتاة بحدة أكبر وهي تصرخ

- وهل من ضروريات العمل أن تلاحقني كاميرا التصوير أثناء تغييري لملابسي أيضاً ؟

 

نهض صفوت من مكانه واتجه نحو بار مليء بأنواع مختلفة من زجاجات الخمر فأتاح لعلي أن يراه بوضوح عن قرب.. و كان واضحاً أنه في العقد الخامس من العمر و كان يسند الكأسين على كرشه المتدلي أمامه ، ثم توجه نحو الفتاة و ناولها أحد الكأسين و جلس بجوارها وهو يقول :

- يا حبيبتي .. حتى لو رأى المخرج أن هناك ضرورة لتصويرك أثناء استحمامك ، فلا أستطيع أن أمنعه لأن ذلك من صميم عمله .. ثم ما الذي يُضيرك من التصوير طالما أن هناك مونتاجاً ، أم أنك تظنين أن الرقابة المُتخلفة ستسمح لنا بنشر كل ما نصوره !!

 

التفت الفتاة بحدة نحو صفوت وهي تقول

- وطالما تعرف أن هناك رقابة ، وأن تلك المشاهد لن تُعرض ، فما الداعي لتصويرها أمام كل طاقم التصوير وضيوفكم الحمقى الذين يحضرون عمداً لمشاهدة تصوير اللقطات التي لن تعرض أبداً

 

قاطعاها صفوت وهو يلف ذراعه حول كتفيها

– ألم أقل لكِ أن هؤلاء الضيوف هم مندوبي القنوات الفضائية ، و هم وحدهم القادرون على منحك الشهرة التي تطمحين إليها .. ثم إن من وصفتهم بالحمقى بينهم أمراء ورجال أعمال ورجال دولة لهم وزنهم .. ولولا تشجيعهم للفن لما استطعنا أن ندبر أمورنا و أن نصور ما نشاء في أي وقت وفي أي مكان تحت حمايتهم

 

لم يكن الحديث بين صفوت والفتاة التي معه مهماً بالنسبة لعلي ولذلك أشار لمجدي بيده .. وما إن حصل مجدي على الإشارة حتى نزل بسرعة على السلم و صوب مسدسه نحو صفوت والفتاة و هددهما بالقتل إن صدر منهما أي صوت أو حركة .. كانت الفتاة ترتجف من الخوف والهلع وهي تنظر لمجدي وعلي الذي لحق به و هما يخفيان وجهيهما خلف قناعين ، بينما قال صفوت باستنكار واضح:

- من أنتم وماذا تريدون .. وكيف دخلتم إلى هنا ؟

 

ألصق مجدي فوهة المسدس أسفل فك صفوت و قال بحزم و هدوء

- لا ترفع صوتك و إلا أخرستك إلى الأبد

 

ابتلع صفوت ريقه بصعوبة وهو ينظر في عيني مجدي المليئتين بالحقد والكره ثم همس بخوف

- أنا تحت أمركما .. ماذا تريدان مني ؟

 

أبعد مجدي مسدسه عن وجه صفوت وهو يقول ساخراً

- هكذا أحبك أكثر .. كل ما نريده منك أن تفتح لنا الخزينة الخاصة بك وتعطينا كل ما خف وزنه وغلا ثمنه و إلا فعلنا ذلك على جثتك دون أن نبالغ في إزعاجك

 

التفت صفوت إلى علي الذي انتزع بقسوة قلادة كانت حول عنق الفتاة التي أصابها الذعر فقامت بخلع كل الحُلي استجابةً لإشارته وهو يصوب مسدسه نحوها .. وبينما كان علي يدس الحُلي في جيبه كان صفوت يقول

- الخزينة فارغة ولا يوجد بها أي مال و..

 

ضربه مجدي بقبضة مسدسه على وجهه مما جعل أنفه وفمه ينزفان بغزارة ثم قال له بحزم وهو يسبه كما يفعل العامة

- نفذ ما آمرك به دون جدال و إلا نفذت تهديدي وقتلتك الآن

 

هز صفوت رأسه بخوف موافقاً دون أن يفتح فمه الذي أخفاه بيده محاولاً إيقاف النزيف منه ، فجذبه مجدي من بذلته بعنف وهو يقول

- هيا معي أرني أين تضع خزينتك

 

نهض صفوت مكرهاً وسار أمام مجدي ذليلاً بينما قام علي باصطحاب الفتاة إلى إحدى الغرف في الطابق العلوي وقام بإحكام قيدها متجاهلاً توسلها له بأن يتركها ثم وضع شريطاً لاصقاً على فمها وخرج موصداً الباب خلفه دون أن يحدثها بكلمة واحدة

 

كان مجدي بصحبة صفوت في غرفة المكتب بينما نزل علي إلى بهو الفيلا و فتشه جيداً ثم قام بإجراء اتصال سريع بكلمات مقتضبة وخلال أقل من دقيقتين كان محمد وحسن يدلفان إلى الفيلا بعد أن فتح لهما علي الباب الرئيسي سائلاً

- كيف سارت الأمور معكما؟

 

أجابه حسن وهو يعُدل وضيعة القناع على وجهه

- لم نلق أي صعوبة فالرجل وزوجته طاعنان في السن ولم يقاوما فقمنا بتقيدهما و تكميمهما وهددناهما بالقتل إن بدت منهما أي حركة .. لكن ماذا عن صفوت والفتاة التي معه ؟

 

أجابه علي ساخراً

- صفوت بالداخل يتعرض للسرقة على يد أحد اللصوص .. أما الفتاة فهي محتجزة في الطابق العلوي بإحدى الغرف ، ولا أريد من أحد أن يقترب من تلك الغرفة لأننا سنحاول الاستفادة من هذه الفتاة حين تُدلي بشهادتها للشرطة

 

أومأ حسن ومحمد برأسيهما بإيجاب ، ثم توجه ثلاثتهم نحو غرفة المكتب حيث مجدي وصفوت ..

وكان الأخير يتوسل إلى مجدي ويقسم أنه لا يحتفظ إلا بالخزينة التي في مكتبه ثم توقف عن الكلام وفغر فمه بدهشة حين رأى علي وبرفقته حسن ومحمد الذي وضع الحقيبة التي يحملها بيده على المكتب ، وقبل أن يصدر صفوت أي كلمة أخرسته إشارة علي بالصمت وهو يرفع القناع عن وجهه قائلاً بلكنة فلسطينية

- انتهت المسرحية يا صفوت .. تعال الآن اجلس على مكتبتك كي تشاهد الفيلم الذي سيعجبك كثيراً لأني سأمنحك دور البطولة في فيلم مشابه

 

لكز مجدي صفوت بعنف وهو يجبره على الجلوس خلف مكتبه .. بينما أخرج علي كاميرا الفيديو من الحقيبة الموضوعة على المكتب كي يستمع صفوت و يشاهد مقاطعاً من اعترافات عنتر التي تُدينه .. كانت صدمة عنيفة لصفوت و حدق بذهول في شاشة الكاميرا الصغيرة و هو لا يكاد يصدق ما يسمعه و يراه ، وعندما انتهى التسجيل قطع صفوت الصمت في الغرفة وهو يصرخ قائلاً

- كل ما قاله كذب أنا..

 

ابتلع صفوت لسانه عندما هوى كف مجدي على مؤخرة رأسه وهو يقول

- لا تتحدث إلا عندما نسألك فقط

 

سادت لحظات من الصمت قبل أن يتحدث علي بهدوء شديد وهو ينظر في عيني صفوت مباشرة

- لابد أن الأمور قد اختلطت عليك الآن .. نحن لسنا لصوصاً ولسنا من أجهزة الأمن .. نحن من كتائب عز الدين القسام .. هل سمعت بها قبل ذلك ؟

 

كادت عينا صفوت تقفزان خارج محجريهما من شدة المفاجأة و ألجم الصمت لسانه فصفعه مجدي مرةً أخرى ليحثه على إجابة السؤال فقال

- نعم نعم سمعت بها كثيراً ..

 

قاطعه علي بنفس الهدوء وهو يقول

- أحب أن تعلم أن قراراً بإعدامك قد صدر كما حدث مع عنتر .. و لكي لا يحدث لك ما حدث لتلك الفتاة البلهاء التي زعمت أنها لا تعرف شيئاً فاضطررنا لذبحها بسرعة لأنها ضيعت وقتنا بكلام لا معنى له ، أنصحك أن تتحدث بكلام مفيد وأنت تُجيب على أسئلتي كي لا تلحق بالفتاة والعجوزين اللذين يسكنان في حديقة الفيلا ، إلا إذا كنت على عجلة من أمرك وتود اللحاق بهم بسرعة إلى عالم الآخرة ..

صمت علي للحظة ليراقب تأثير كلماته على صفوت الذي انتفض جسده البدين بقوة من شدة الرعب و تدلى فكه ببلاهة فاستطرد علي بقسوة

- سأمنحك فرصة تستطيع من خلالها أن تطيل في عمرك بعض الوقت وهذا لن يكون إلا إذا أجبت على أسئلتي باختصار شديد .. فإن رأيت أنك تقول الصدق سأمنحك سؤلاً آخراً ، أما إن كذبت فستحظى برصاصة بين عينيك تأخذك إلى صديقك عنتر الذي ينتظرك بلهفة في الجحيم .. فما رأيك ؟

 

بدأ جسد صفوت السمين يرتجف بشدة وهو ينظر للمسدس بيد علي ثم هتف بفزع :

- اسأل ما تريد وأقسم أني سأقول الصدق ولكن أرجوكم لا تقتلوني .. أتوسل إليكم لا أريد أن أموت ..

 

هز علي رأسه بأسف وهو يقول

- الأمر ليس بيدي .. فقرار موتك قد صدر سواءً صدقت أو كذبت .. ولكن إن قلت الصدق فقد نفكر في تأخير الأمر لبعض الوقت .. فاحرص على أن يكون حديثك صادقاً ومختصراً إن كان سماع السؤال التالي يعنيك .. فما رأيك هل نبدأ أم أنك لست بحاجة لسماع الأسئلة ..

 

قال علي عبارته الأخيرة وهو يقرب المسدس من صفوت أكثر فهتف الأخير بسرعة وتوتر شديد

- بل أسمع .. أسمع

 

كان صفوت قد وصل إلى مرحلة من اليأس وبدا واثقاً أنه قاب قوسين أو أدنى من الموت وأنه يعد لحظات عمره الأخيرة ، فلم يكن أمامه إلا أن يطيل تلك اللحظات عله يجد في لحظة أو أخرى بصيصاً من الأمل في النجاة وإن كان موقناً من استحالة ذلك و هو يرى إصرار علي على قتله ، فاستسلم لبكاء شديد وهو يستجدي الجميع بنحيب حار و يعدهم أنه سيخبرهم بكل شيء كي لا يقتلوه فسأله علي بشكل مباشر

- منذ متى تتعامل مع الموساد ؟

 

جحظت عينا صفوت وظل صامتاً للحظات ثم استطرد بسرعة حين سمع صوت تكة صمام الأمان و قد رفعه علي استعداداً لإطلاق النار

- منذ أكثر من عشر سنوات ..

فتابع علي بنفس الحزم

- وما اسم الشخص الذي جندك

أجاب صفوت بسرعة وهو يراقب أصابع يد علي وهي تقبض على المسدس بتحفز

- اسمه فواز

رفع علي مسدسه إلى مستوى أعلى فأغمض صفوت عينيه بشدة و هو يستمع لصوت علي و هو يسأله بصرامة

- و من الذي قتل الشاب الذي جاء بصحبه حامد بعد أن استدرجه عنتر إليك

قال صفوت بذعر شديد

- فواز .. أقصد ميخا ..

تدخل مجدي قائلاً بسرعة

- أطلق النار عليه بسرعة فهو يكذب ويراوغ ..

قال صفوت و هو يصرخ برجاء و خوف

- لا .. أرجوك لا تطلق النار .. أقسم أني لا أكذب

نظر علي إلى حسن ومحمد وسألهما باهتمام

- هل تظنان أنه يكذب حقاً ؟

وقبل أن يتحدث أي منهما نهض علي وتوجه نحوهما و همس في أذن حسن قائلاً

- اذهبا و فتشا كل شبر في الفيلا جيداً و لتكن بدايتكما من غرفة نومه بالأعلى

 

شعر صفوت بالخوف الشديد و أن نهايته قد اقتربت وتمنى أن يعرف ما الذي يجري بين علي ورفيقيه ، وحين عاد علي إليه أخفى وجهه بيديه وهو يرجوه أن لا يقتله ولكن علي تجاهله ووجه حديثه لمجدي بنبرة يأس

- أنا أيضاً أشعر أنه يكذب ولدي إحساس بأن فواز أو سارة سيتعاونان معنا أكثر ..

 

حاول صفوت أن يقول شيئاً و هو يحاول النهوض من مقعده ولكن قبضة مجدي منعته من النهوض فاستطرد قائلاً

- أقسم أنني لا أكذب .. فواز صاحب قرار قتل الشاب وميخا ذراعه الذي ينفذ مثل هذه المهام .. أرجوكم امنحوني فرصة لأقول لكم كل شيء دون أسئلة لأنها تربكني ولن أكذب عليكم أبداً

 

نظر علي إلى مجدي وقال

- ما رأيك أن نمنحه فرصة للحديث دون أسئلة ، وأعدك أنني سأطلق النار على رأسه مباشرة إن شعرت بأنه يكذب

 

هز مجدي رأسه نافياً وهو يقول

- لا أنصح بذلك ولا أظنه سيقول الصدق بل سيتعمد أن يضيع وقتنا بكلام نعرفه دون أن يُضيف أي جديد .. ولكن إن كنت ترغب في ذلك فجرب وأراهن أنك ستطلق النار على رأسه بسرعة لأنه سيكذب ويراوغ معنا كما فعل عنتر

 

كان علي ومجدي ينفذان الخطة التي اتفقا عليها مسبقاً لاستجواب صفوت وقد انطلت الحيلة على الرجل الذي قال دون أن يترك شيئاً إلا و أقسم به أنه لن يقول إلا الصدق فقاطعه علي قائلاً

- هات ما لديك ولكن حذار من الكذب

 

هز صفوت رأسه بارتباك موافقاً ثم قال

- تعرفت على فواز حين كنت أقوم بتصوير أغنية في صحراء سيناء منذ عشر سنوات وعرض عليّ أن يوفر لي راقصات روسيات بدلاً من الراقصات اللاتي اعتمد عليهن لأنهن أكثر جمالاً وأقل كلفة .. وحين حقق ذلك لي نجاحاً ، بدأ مشوار علاقتي به يتطور خاصةً بعد أن جاءتني عروض من شخصيات عربية لها وزنها في عالم الاقتصاد لإقامة حفلات خاصة .. وكان ذلك يتم في بعض القصور التي يملكها أمراء وشيوخ في عدد من الدول العربية .. وفي أحد الأيام لجأ إليّ أحدهم وكان منهاراً وعرض عليّ مبلغاً كبيراً من المال نظير أن يتوقف فواز عن ابتزازه

 

توقف صفوت عن الحديث للحظات وكأنه يسترجع ذاكرته ثم استطرد قائلاً بسرعة حين شعر بضجر علي

- في البداية استغربت من الأمر فكيف يستطيع فواز أن يبتز شخصية لها وزنها في بلدها كتلك الشخصية ، ولكني تفهمت ذلك عندما علمت أن الرجل مصاب بمرض الإيدز الذي انتقل إليه من إحدى الراقصات الروسيات وأن فواز قام بتصويره مع الفتاة دون علمه أثناء علاقتهما اللاشرعية ، ثم أخذ يهدده بأنه سينشر الشريط في وسائل الإعلام الأجنبية وعلى مواقع الإنترنت إن لم ينفذ ما يطلبه منه ..

 

قاطعه علي قائلاً

- وما الذي كان يطلبه منه بالتحديد ؟

 

ابتلع صفوت ريقه قبل أن يُجيب

- كل ما يخطر على بالك .. لدرجة أنه أجبره أن يُعرف إحدى الفتيات على أخيه الأكبر وهو ذو منصب سياسي كبير وقد رفض الرجل ذلك بشدة واستعد أن يدفع لفواز ثلاثين مليون دولار كاملة مقابل أن يتوقف عن ابتزازه ويعطيه الشريط ورأس الفتاة .. ولكن فواز رفض ذلك رغم العرض الكبير وحين راجعته في ذلك أخبرني أنه يعمل لحساب المافيا الروسية وأنه يتلقى الأوامر منهم ومحذراً إياي أنني أصبحت من رجالهم وعليّ أن أمتثل أيضاً لأوامرهم دون أي اعتراض

 

قاطعه علي مرةً أخرى سائلاً بنبرة توحي بالملل والضجر

- وما كان دورك خلال كل هذه العشر سنوات ؟

 

هتف صفوت وقد بدأ اليأس يزداد في داخله بعدم النجاة

- كل ما كنت أفعله هو شراء بعض المشاريع السياحية أو قطع الأراضي باسمي ثم أبيعها لهم في الخفاء واستمر هذا لفترة طويلة حتى جاءني فواز ذات يوم وطلب مني أن أحضر عقود عمل للعديد من الراقصات الروسيات اللاتي يرغبن في المجيء إلى مصر ، واكتشفت أنه كان يقوم بتهريبهن عبر الحدود من صحراء سيناء إلى إسرائيل و بعد أن يُحقن هناك بفيروس الإيدز بدون علمهن ومن ثم يعدن مرةً أخرى إلى مصر ليعملن في ممارسة البغاء وهو العمل الأساسي الذي أتين من أجله ، وكان دوري أن أسهل لهن ذلك عن طريق عملهن في الملاهي الليلية و يتم ذلك بكل سهولة دون أي معوقات ، لأن الفتيات أتين إلى مصر وخضعن للفحص الطبي ويحملن شهادات صحية تثبت خلوهم من أي أمراض ولا يوجد على جوازات سفرهن أختام تثبت أنهن غادرن مصر

 

هتف مجدي مقاطعاً

- أيها الكاذب الحقير .. هل تريد أن تقنعني أن الفتيات يعملن طوال هذه الفترة دون أن يعلمن أنهن يحملن الفيروس المميت ، وأنه لم يحدث ولو لمرة واحدة أن تقوم إحداهن بإبلاغ الشرطة أو سفارة بلدها؟ !

 

التفت صفوت إلى علي بعد أن استمع لحديث مجدي و قال بخوف

- الفتيات في الغالب لا يعرفن أنهن يحملن الفيروس كما أنه لا يسمح لهن بالحركة دون مرافقة الحراس الروس الذين يقتلون لمجرد الشك إن خالفت إحداهن الأوامر كما لا يسمح لهن بحمل أي مبلغ من المال و ..

 

قاطعه علي بدوره وهو يسأله بشكل مفاجئ

- هذا عن الروسيات .. فماذا عن الأطفال ؟

 

بدا الارتباك واضحاً على وجه صفوت و أصيب بالدهشة لأنه لم يعرف أنهم يعلمون تلك المعلومة التي لم يسمعها على الشريط بسب المونتاج و لكنه قال بسرعة

- تقصد المشردين !! ..

 

قطع صفوت حديثه عندما دلف محمد إلى الغرفة وهو يحمل بيده قطعة سلاح رشاش ومسدس مزود بكاتم للصوت ثم همس في أذن علي

- لم نعثر على شيء ذو أهمية باستثناء هاتين القطعتين فعلى ما يبدو أنه أكثر حرصاً من عنتر ولا يحتفظ بأشياء مهمة في منزله

تناول علي منه المسدس والسلاح الآلي وطلب منه أن يواصل البحث بهدوء و أن يتنبه لإحكام ستائر النوافذ أثناء دخوله للغرف ثم وجه حديثه لصفوت قائلاً بتهكم

- رشاش من نوع mb5 و مسدس مزود بكاتم للصوت .. ما حاجتك لهما ؟

 

أجاب صفوت وهو يشير للرشاش قائلاً

- هذا السلاح لدي رخصة بحمله لأنني أتنقل في أماكن صحراوية خطيرة .. أما المسدس فقد أعطته سارة لي كي أقتل أحد رجالي بعد أن ضايقها بملاحقته ففعلت لأثبت لها مدى إخلاصي

 

ازدادت ملامح علي صرامة وهو يسأله قائلاً

- هل هذا ما لديك فقط ؟

أجاب صفوت على الفور

- إن أردت قصصت عليك حكاية ذلك الرجل ..

قاطعه علي

- بل احك لي قصة الأطفال التي توقفت عندها

 

لم يطرأ أي تغيير على وجه صفوت اليائس فقال على الفور

- عرفني فواز على أحد الأطباء الأجانب وهو صاحب مستشفى كبير ، وفهمت منه أنه يعمل لصالح مافيا الأدوية وأنهم بحاجة لأعضاء بشرية لصالح عدد من المستشفيات واقترح عليّ ذلك الطبيب أن أفعل كما يفعل رجاله في البرازيل حيث يستدرجون الأطفال المشردين ، و عرض عليّ مبلغاً كبير من المال نظير كل طفل أحضره له، وحين حاولت رفض ذلك لخطورة الأمر ، نبهني فواز أن ذلك غير ممكن وأني أعرض نفسي للخطر لأن هؤلاء لا يطلع على أسرارهم إلا من يعمل معهم ، و لكي أبعد الخطر عن نفسي أوعزت لعنتر بأن يتكفل بهذه المهمة فبدأ يتعامل معهم بشكل مباشر و يحضر لهم العديد من الأطفال فيفحصوهم للتأكد من خلوهم من الأمراض ثم يقومون بتهريبهم إلى إسرائيل بنفس طريقة تهريب الفتيات الروس عبر الحدود من صحراء سيناء ولقد كانوا يدفعون له بسـ..

 

قطع صفوت حديثه عندما هوى مجدي بيده على مؤخرة رأسه وهو يسبه ويلعنه فنظر له علي معاتباً إياه على فعلته ثم وجه حديثه لصفوت بهدوء

- عندما سألتك من جندك للموساد قلت فواز .. ولكنك تحدث طوال الوقت عن المافيا الروسية .. فمتى عرفت أن فواز يعمل لصالح الموساد

 

نظر صفوت باضطراب إلى مجدي الذي يتميز من الغيظ ثم غمغم قائلاً

- عرفت ذلك بالصدفة عندما نشب خلاف بين فواز وسارة حين زارت السفارة الإسرائيلية هنا وسمعته يقول لها : أنه لا يحق لها أن تتجاوزه لأنه المسئول المباشر عنها وأعلى منها رتبة وأن السفارة الإسرائيلية مراقبة باستمرار من المخابرات المصرية ، ولكنها عللت ذلك بأن المعلومة التي حصلت عليها كانت خطيرة ورأت أنه من واجبها أن تقوم بإيصالها لأعلى المستويات على وجه السرعة كي تمنع زيارة مسئول كبير في الحكومة الإسرائيلية إلى مصر ، وبالرغم من أنني لم أُفاجأ بعملهم مع الموساد - لأن فواز أخبرني أنه يعمل مع من يدفع له أكثر حتى لو تعامل مع الشياطين - لكني صدمت وشعرت بالخوف أكثر حين فهمت أنهما ليسا مجرد متعاونين فقط ، بل لهما رتب عسكرية و أنهما على اتصال برجال القرار في إسرائيل وهو أمر لم يكن يخطر على بالي خاصةً أنني أعرف أنهما مصريا الجنسية و ..

 

قاطعه علي بحزم وهو يسأله

- وهل عرفا أنك تعلم حقيقتهما ؟

 

هتف صفوت وهو يهز رأسه نافياً

- لا .. لم يعرفا ذلك ، لأني لم أجرؤ أن أخبرهما أنني تنصت عليهما أثناء حديثيهما خشية أن يقتلاني و استمريت في تنفيذ كل ما يطلبانه مني دون نقاش ولقد سعدا بهذا التطور ولم يقصرا معي في أي مبلغ كنت أطلبه ..

 

قاطعه علي بحدة

- وهل كانوا يعطونك راتباً شهرياً أم يدفعون لك المال كمكافأة على كل عمل تقوم به ؟

هتف صفوت بتوتر خشية أن يضربه مجدي

 

- كانوا يدفعون لي عن طريق المخدرات وأقوم أنا ببيعها لتجار المخدرات هنا بمبالغ كبيرة جداً

 

مال علي باتجاهه وهو يلوح بمسدسه و كأن الملل قد أصابه

- وكم حصلت نظير استدراج الشاب الذي سلمته لفواز وقتله

 

هتف صفوت بذعر

- أقسم أنني لم أحصل على شيء ، ولم أكن أعلم أنهم سيقتلونه وحين راجعتهم في الأمر لأن هذا يعرض عنتر للخطر ، أخبرني فواز أن الشخص الذي تم استدراجه لم يكن هو المطلوب وأن ميخا قتله بالخطأ أثناء استجوابه وطمئنني أنهم قتلوا صاحب عنتر كي يقطعوا أي خيط يربطه به ..

 

قاطعه علي مرة أخرى

- ومن هو الشخص المطلوب الذي كانوا يقصدونه

 

هز صفوت رأسه نافياً وهو يقول

- صدقني لا أعرف ولم أكن أجرؤ على سؤالهم .. ولكني فهمت أنه شخص أكبر من الشاب الذي حضر لأن فواز بمجرد أن رآه قال لي: يبدو صغيراً ولا أظن أنه الشخص المطلوب ولكن لا مانع من الاستفادة منه فقد يكون لديه شيء مفيد وهذا آخر ما سمعته منه قبل أن أفترق عنه

 

- وكيف عرفت أنهم قتلوه بعد ذلك

 

أجاب صفوت بسرعة

-عرفت ذلك من ميخا فهو مدمن على شرب الخمر وأخبرني بذلك أثناء حالة سكر شديد و هو يستعرض سكينه الكبير قائلاً أنه استمتع بقتل ذلك الشاب الذي أحضرته لفواز وطلب مني ساخراً أن أستدراج أمثاله ، وحين راجعت فواز بذلك أخبرني بما قلته لك ..

 

استمر صفوت بالإدلاء بالمعلومات التي لديه ولم يكن يدري أن علي قد شغل كاميرا الفيديو الموضوعة على المكتب ليسجل اعترافاته بعد أن شاهد على شاشتها الصغيرة اعترافات عنتر التي تدينه .. وحين سأله علي عن الفيلا التي بجوار فيلاه ، قال أنها عيادة مزودة بأحدث الوسائل الطبية لفحص الأطفال الذين يتم اختطافهم بعد إحضارهم في سيارة كبيرة يوحي مظهرها بأنها تابعة لشركة خاصة بالتنظيف المنزلي وبالرغم من أنه المسئول عن عنتر إلا أنه لم يكن له علاقة بهذه الفيلا ولم يدخلها يوماً كما كان يفعل عنتر

 

قضى علي فترة طويلة من الوقت وهو يستجوب صفوت الذي لم يجرؤ على إخفاء أي معلومة خوفاً من تهديد علي له ولكنه فوجئ تماماً وكاد يقبل يد علي فرحاً حين قال له :

- لأنك تعاونت معنا ولم تخفي عنا شيئاً لن أطلق عليك النار ولكني سأقيدك في كرسيك وحين تأتي الشرطة أخبرهم أن اللصوص اقتحموا الفيلا وسرقوا كل ما هو ثمين

 

كان علي يتحدث إلى صفوت بينما مجدي يحكم وثاقه على الكرسي ثم أخرج علي الشريط اللاصق و وضعه على فم عنتر و هو يقول بسخرية

- آه .. نسيت أن أخبرك أن تقول للشرطة أيضاً أن اللصوص كانوا أغبياء ولم يعرفوا أن تكميم فمك وأنفك سيمنع عنك الهواء مما سيتسبب في موتك بطريق الخطأ

 

لم يكد علي يكمل عبارته حتى جحظت عينا صفوت و قد غطى الشريط اللاصق فمه وأنفه و بدأ جسده ينتفض بقوة و علي ينظر إليه قائلاً

- هذا أقل جزاء يمكن أن يلقاه خائن ومفسد في الأرض مثلك ، ولو كان الأمر بيدي ولدي متسعاً من الوقت لجعلتك تموت في كل لحظة مئة مرة جزاء ما اقترفت يداك

 

تأكد مجدي أن صفوت قد فارق الحياة تماماً بينما أجرى علي اتصالاً سريعاً بأحمد ليسأله عن الأحوال في الخارج ، وبعد أن اطمئن أن كل شيء يسير على ما يرام غادر الجميع الفيلا بعد أن أخذوا معهم ما يثبت أن دخولهم لها كان بهدف السرقة

 

نزل مجدي من السيارة و توجه نحو أحد الهواتف العمومية ثم أجرى اتصالا بقسم شرطة منطقة المقطم ليخبرهم أن فيلا صفوت يقتحمها اللصوص مدعياً أنه أحد جيران الفيلا و قد تردد كثيراً قبل أن يقوم بالبلاغ وأنه لا يستطيع الإفصاح عن هويته خشيةً من اللصوص

بعد ذلك عاد الجميع إلى مزرعة حسن باستثناء مجدي الذي بقي في القاهرة بسبب عمله و لينفذ بعض الأمور التي طلبها علي منه

 

-ألا تشعر بحاجتك للنوم يا علي ؟.. أنت لم تنم منذ الأمس

 

ابتسم علي و أجاب حسن

- تعودت أن أبقى مستيقظاً لفترة أطول من ذلك بكثير .. لكن أخبرني كيف حال الأخوة .. أما زالوا نائمين ؟

 

ضحك حسن وهو يقول

- لم أستطع النوم جيداً بسبب السيمفونية التي يعزفها إبراهيم ..انتظر قليلاً و سأوقظهم الآن

 

قاطعه علي وهو يهز رأسه نافياً

- لا داعي لذلك فحديثنا سيكون بعد أن يأتي مجدي ..

 

قاطعه حسن وهو يغمز بعينه

-لست أنا من سيوقظهم بل رائحة الملوخية التي ستملؤ الأجواء بعد قليل ..

 

اعتدل علي في جلسته و قال وابتسامته لا تفارق وجهه

- أنت طاه بارع فعلاً يا حسن .. لكن لمَ لم تتزوج حتى الآن بالرغم من أنني أرى أنك مستعد لذلك

 

أجابه حسن بتأثر

- بعد أن سددت آخر قسط في ثمن الأرض طلبت من والدتي أن تبحث لي عن عروس ، ولما فعلت وشاهدتها تعلق قلبي بها فوراً وتمنيت أن تكون من نصيبي ..

عقد علي حاجبيه وهو يسأل

- هل رفضوك ؟

تنهد حسن وكأنه يسترجع ذكرى أليمة وهو يقول

- بل على العكس تماماً وافقوا دون أي تحفظات ولم يكن لهم سوى شرط واحد ..

نظر علي إليه مستفهماً فقال حسن

- شرطهم الوحيد هو أن تقيم في القاهرة وليس في الصحراء كما يسمونها .. وهذا يعني أن أشتري شقة في القاهرة وهو أمر مكلف جداً بسبب ارتفاع الأسعار ولا أقدر عليه .. كما أن عملي يضطرني للمبيت هنا في المزرعة ولا يعقل أن تكون زوجتي في مكان وأنا في مكان آخر

 

مط علي شفتيه ثم غمغم قائلاً

- لا أرى أن المسافة بعيدة من القاهرة إلى هنا فالوقت الذي أقطعه من ميدان رمسيس إلى حي الألف مسكن حيث يسكن أحمد هو بالكاد نفس الوقت الذي أحتاجه للوصول إلى مزرعتك هنا بسبب الزحام الشديد داخل المدينة ..

 

غلبت نبرة السخرية حديث حسن وهو يقول

- ما رأيك لو قلت لك أنهم يعيشون في حي أمبابة في الجيزة ..

ضحك علي وهو يقول

- لن يتغير رأيي فأنا لا أعرف ذلك الحي ..

 

استيقظ الجميع و صلوا الظهر جماعة ثم تناولوا طعام الغداء ، وطلب علي منهم أن يحضروا الأجهزة الخلوية التي أعطاها لهم رغم تعجب الجميع من ذلك و لم يبدِ أي منهم أي احتجاج على تصرف علي حين أحرق كل الهواتف مع هاتفه موضحاً أن ذلك أفضل و أن الحذر خير من الندم

 

و عندما حضر مجدي أخذ علي هاتفه أيضاً و أحرقه ثم سأله عن آخر التطورات في قضية صفوت فأجاب مجدي و قد بدا الإرهاق واضحاً عليه

- المعلومات التي لديّ هي أن الشرطة دخلت الفيلا بناءً على اتصال من مجهول وعندما وجودا العجوز وزوجته مقيدان في غرفة حديقة الفيلا قاموا بكسر باب الفيلا وعثروا على الفتاة مقيدة في إحدى الغرف ثم عثروا على جثة صفوت الذي مات خنقاً بسبب الشريط اللاصق ..

صمت مجدي قليلاً وكأنه يستعيد ترتيب الأحداث كما عرفها ثم استطرد قائلاً

- تبين من خلال التحقيق وتقرير المعمل الجنائي أن الفيلا تم الدخول إليها من إحدى الشرفات في الطابق الثاني بعد أن قيد لصان مقنعان البواب وزوجته في غرفة الحديقة ثم اقتاد أحدهما الفتاة بعد أن جردها من حليها و قيدها و وضع الشريط اللاصق على فمها بنفس الطريقة التي تمت مع صفوت ، ولكن بشكل سمح لها بالتنفس و يرجح خبراء المعمل الجنائي أن اللص قام بإضافة المزيد من الشريط اللاصق بسبب توتره ، مما أدى إلى اختناق صفوت الذي ظهرت على وجهه ورقبته بعض الكدمات ويرجحون أنه حاول المقاومة .. في الغد سيقوم الطب الشرعي بإرسال تقرير للنيابة يبين فيه سبب الوفاة ووقت حدوثها

 

ابتسم علي بارتياح وهو يقول

- كل شيء يسير على ما يرام والحمد لله .. لكن هل تم اعتماد فكرة أن المهاجمين لصين تحديداً أم أن هناك شكوكاً بأنهم أكثر من شخص ؟

 

تثائب مجدي وهو يجيب

- شهادة الشهود الثلاثة تؤكد أنهما لصين.. لكن هناك تضارب بين حديث الفتاة و زوجة البواب التي قالت أن اللصين كانا لطيفين معها وخاطباها باحترام .. أما الفتاة التي تشك النيابة أن لها علاقة مع اللصوص فتقول : أن الشابين كانا في غاية الفظاظة والإجرام وأنها متأكدة أنهم قتلة محترفون

 

استمع علي وأفراد المجموعة لحديث مجدي حتى النهاية ثم اعتدل علي في جلسته وبدا الاهتمام على وجهه بوضوح وهو يقول

- أعلم أن كل واحد فيكم قد أجل الكثير من أمور دنياه لما استجد في الأيام السابقة ولذلك سيعود كل واحد إلى عمله المعتاد بشكل طبيعي و سينسى ما حدث تماماً وهذا يعني أنكم لن تتحدثوا مع بعضكم البعض فيه أبداً ولا حتى مع أنفسكم ..

شاهد علي علامات الدهشة على وجوه الجميع إلا أن أحدهم لم يعلق بكلمة فاستطرد قائلاً

- لقد قطعنا شوطاً لا بأس به في المهمة وتوصلنا من خلال اعترافات صفوت المسجلة إلى رأس الشبكة التي قامت بتجنيده وهذا يعني أن الأسلوب الذي اعتمدناه يجب أن يتغير لأننا سنواجه محترفين و من المؤكد أنهم سيربطون الأحداث ببعضها و أعني ما حدث لعنتر وصفوت ... لذلك يجب علينا أن نتوقع كل الاستنتاجات التي ستخطر على بالهم وإن كنت أرجح أن شكوكهم ستتجه بشكل مباشر إلى المخابرات المصرية وهو ما قد يدفعهم إلى إيقاف كل عملياتهم ليستوضحوا إن كان ما حدث مجرد صدفة أم أن جهة ما وراءه .. و بالنسبة لنا من المفترض أن نصفي فواز و سارة والطاقم الذي حولهما وهذا شيء سهل للغاية وأستطيع القيام به بنفسي لأني لست محتاجاً لاعترافاتهم أو التحقيق معهم .. ولكني فكرت أن بعملي هذا سأكون أنانياً و سأترك المجال للكثيرين من أعضاء الشبكة لمواصلة التخريب دون أن يلقوا ما يستحقوه من العقاب وواضح أن الشبكة كبيرة ومتشعبة لكننا لا نستطيع ملاحقة كافة أفرادها ، لأن هذا سيتطلب وقتاً كبيراً بسبب ضعف إمكانيتنا في الحصول على المعلومات اللازمة لتعقبهم ..و لذلك قررت أن أشرك أجهزة الأمن المصرية في هذه القضية ولكي يحدث هذا يجب أن يتنحى جميع أفراد المجموعة جانباً ويكتفوا بما قاموا بتقديمه كي لا يصيبهم ضرر سواءً من الأجهزة الأمنية أو من الموساد الذي سيفعل كل ما يستطيعه لمعرفة هوية من وراء كل ما يحدث ..

 

كانت عبارة علي الأخيرة بمثابة قنبلة انفجرت وسط الجميع فقاطعه حسن بعصبية

- عفواً على المقاطعة يا علي .. ولكن حديثك يعني أننا جبناء ويجب أن نخرج من الأمر كي لا يصيبنا ضرر ..

 

قاطعه علي بحزم قائلاً

- هل كنت أتحدث الصينية يا حسن .. لقد قلت أن هناك ضرورة لدخول الأجهزة الأمنية في العملية وهذا يعني أننا لا نستطيع الظهور في الصورة ..

 

صاح أحمد مستنكراً

- ولماذا نقحم الأجهزة الأمنية في الأمر طالما نستطيع إتمامه وحدنا بنفس الأسلوب ..

 

تدخل مجدي لتلطيف الأجواء قائلاً بهدوء

- أنت لم تشرح وجهة نظرك بشكل كاف يا علي ، وما قلته ليس مقنعاً لنشرك الأجهزة الأمنية في قضية نعرف سلفاً أنها ستتلكأ فيها بسبب الإجراءات الروتينية والبحث عن أدلة .. ومن المؤكد أن المعلومات ستتسرب للموساد وهو ما يعني أنهم سيأخذون حذرهم ويطمسون أي دليل يدينهم

 

أطرق علي برأسه قليلاً كأنه يفكر فيما سيقوله ثم أردف قائلاً

- حسناً يا مجدي سأشرح لكم بالتفصيل وإن كان من المفترض أن تفهموا ذلك دون أن أشرحه .. حين بدأنا العمل كنا نظن أن الشبكة حديثة التشكيل وهذا ما نفاه صفوت حين قال أنه تم تجنيده قبل عشر سنوات وكذلك المعلومات التي قمنا بجمعها تؤكد أن لهم أذرعاً كثيرة ومتشعبة في كل مكان في مصر ، إذ من غير المعقول أن يقوم فواز طيلة السنوات العشر بتجنيد صفوت وحده فقط .. الأمر الآخر أن لصفوت مجموعة أخرى من الرجال غير عنتر و الأخير أيضاً كان يقود عصابة تخطف الأطفال وأخرى تروج له المخدرات .. ولا يعني أبداً أن تلك العصابات ستتوقف عن الإجرام بمجرد تصفية عنتر وصفوت وكذلك الشبكات التي قام فواز بتجنيدها والتي لا نعلم عنها شيئاً حتى الآن فهي أيضاً تمارس عملها بطريقة أو بأخرى .. الخلاصة .. أن كل هؤلاء سيفلتون من العقاب وسيبقى ضررهم قائماً إن اعتمدنا تصفية الرموز فقط .. ولو أردنا ملاحقتهم جميعاً فهذا يعني أننا سنلاحق عشرات وربما مئات الأفراد المنتشرين في أماكن مختلفة وهو أمر صعب التحقيق بالنسبة لإمكانياتنا وما لدينا من معلومات قليلة .. ولكن إن تم ترتيب خطة محكمة نقحم فيها الأجهزة الأمنية من جهة و نحصل من جهة أخرى على ما نريده نكون بذلك قد ضربنا عصفورين بحجر واحد و سنكون بذلك قد حاصرنا الأفراد الصغار و تأكدنا أنهم لن يفلتوا من العقاب أما عن الرؤوس الكبيرة فسيتم قطفها قبل ذلك مع إبقاء رأس واحدة فقط لتكون دليلاً للأجهزة الأمنية و سنسلمه لهم في الوقت المناسب

 

دار نقاش طويل بين علي وأفراد المجموعة انتهى باقتناع الجميع بوجهة نظر علي الذي طلب منهم أن يكونوا مستعدين إن احتاجت الخطة التي يقوم بإعدادها أن يتم تنشيط الخلية مرة أخرى ، وشدد في نفس الوقت على أن ينسى كل فرد ما حدث و ألا يتحدثوا عنه فيما بينهم إلا إن فاتحهم هو شخصياً فيه ، وطلب منهم أن يعاهدوا الله أمامه على ذلك ، وعندما فعلوا تنفس علي الصعداء وكأنه قد أزاح عن كاهله حملاً كبيراً ، وقد شعر مجدي بذلك وحدثه عن هذا الشعور عندما عاد علي إلى القاهرة وأقام عنده في بيته فوضح له قائلاً

- ما نحن مقدمون عليه لا يحتاج للكثير من الأفراد وكلما قل العدد كان الأمر أفضل لأن الخطة التي سأعتمد عليها في المرحلة الثانية ستكون أشبه بالتصفية دون الحصول على معلومات .. ولكن لن يتم هذا إلا بعد أن تتحدث مع علاء وتجس نبضه أولاً إن كان مستعداً للانضمام إلينا أو لا فقد يكون له دور كبير لأنني أعتمد عليه في تنفيذ المرحلة الثانية

 

بدت الفرحة واضحة على وجه مجدي وهو يقول

- أنا متأكد أنه سيوافق من دون تردد .. ولكن هل يعني أن الأمر سيقتصر على ثلاثتنا فقط ؟

 

ابتسم علي وهو يقول لمجدي

- ربما يكون بيني وبين علاء فقط .. فكما قلت لك أنه كلما قل العدد كلما كان أفضل ..

 

تجهم وجه مجدي وهو يقول

- لا تقل لي أنك تعني ما تقول وقل أنك تمزح ..

 

أثارت طريقة مجدي في الحديث ضحك علي فقال

- أنت تذكرني بغضبك الطفولي ببدايات عملي مع الكتائب عندما كنت أعلم أن بعض أفراد المجموعة التي أنتمي إليها خرجوا في مهمة دون أن أكون معهم ولكني أصبحت أتفهم ذلك مع الوقت ورأيت أنه من ضروريات العمل الأمني .. لكن على كل حال في المرحلة الثانية سنحتاجك أنت وأحمد وربما ينضم إلينا الآخرون حسب الظروف .. كل هذا سيتم الحديث فيه تفصيلاً بعد أن تنهي مهمتك مع علاء وحاول أن يكون ذلك على وجه السرعة وتستطيع أن تقول له كل شيء وأخبره كذلك أن في نيتنا إشراك الأجهزة الأمنية في هذه القضية وسيحصل على التفاصيل حين ألتقي به

 

في اليوم التالي كان مجدي قد فاتح علاء في الأمر وقد استنتج أن علي له ضلع كبير فيما يجري دون أن يخبره مجدي بذلك ، وعندما شاهد علاء اعترافات عنتر وصفوت المسجلة استشاط غضباً ولام مجدي كثيراً لأنهم لم يشركوه معهم منذ البداية ولكنه تفهم ذلك بعد أن التقى علي وتحدث معه مبدياً بعض الملاحظات التي تم إغفالها والتي تحتاج إلى تركيز ولكن علي قال له

- هذا ما جعلني أطلب من مجدي أن يفاتحك في الأمر لأننا سنحتاج إلى ضابط كبير ذو سمعة طيبة في جهاز المخابرات العامة نضع بين يديه كل ما لدينا من أدلة ونسلمه شخصية مهمة في الشبكة ، ولكن لن يتم ذلك قبل القضاء على فواز و الروس التي تحيط به وخاصةً الوغد ميخائيل أو كما ينادونه ميخا

 

عقد علاء حاجبيه وهو يقول

- أفهم من ذلك أنك تريد الإبقاء على سارة فقط كدليل ..

 

أومأ علي برأسه موافقاً ثم قال

- لدي إحساس كبير أن سارة ليست مصرية وأنها ليست أختاً لفواز الذي لا نعرف الكثير عنه.. لأنه لا يعقل أن أخاً يسمح لأخته أن تدير مكاناً موبوءً كالذي حدثناك عنه وإن كان مظهره الخارجي يوحي بأنه مجرد صالة ديسكو فقط..

 

هتف مجدي مقاطعاً

- لقد تأكدت من هوية سارة وفواز وهم بالفعل أبناء أحد شيوخ القبائل الصغيرة في جنوب سيناء ولكن هذا لا ينفي أنه قد يكون في الأمر خدعة لا نعرفها

 

مط علاء شفتيه وبدا كأنه يفكر ثم قال

- كانت هناك قضية مشهورة لأب وابنته ،وكانت تمارس الرذيلة ويساعدها والدها في ذلك وعندما قبضت عليها الأجهزة الأمنية أتضح أنها مصابة بالإيدز وتعمل بشكل مباشر مع الموساد

قاطعه علي ساخراً

- تقصد فائقة مصراتي ووالدها ؟

 

بدت الدهشة على وجه علاء وهو يهز رأسه موافقاً ثم قال

- نعم .. يبدو أن لديك معلومات كثيرة في هذا المجال

 

أجاب علي بمرارة

- أخشى أن يحدث مع سارة إن ثبت أنها يهودية ما حدث مع فائقة مصراتي ووالدها وكما حدث أيضاً مع دانيا هانتر و نوريا بتشون وجانيت جاديا و فابيرا عوفاديا وكلهن استخدمن نفس الأسلوب في التجسس وابتزاز ضحايهن عن طريق الإيدز.. ولكن للأسف تم الإفراج عنهن لأنهن يهوديات حتى الرجال ومنهم مردخاي ليفي و أكوكا و عمير ألوني صاحب قضية اللاسلكي و يوسي ملكا مروج الدولارات المزيفة و دافيد برزاني الذي تم ضبطه وهو يروج المخدارات كصاحبه بسيمونت كانت .. كل هؤلاء وغيرهم أفرجت أجهزة الأمن المصرية عنهم في السنوات القليلة لأنهم يهود تحت ضغط الحكومة الصهيونية و سفير أمريكا في القاهرة

 

هتف مجدي مستنكراً

- وما الذي يردعهم عن تكرار المحاولة طالما حكومتنا تقوم بالإفراج عنهم رغم ما ارتكبوه من كوارث بحق أمن البلاد ومن يدري ربما يفرجون غداً عن عزام عزام الذي صدر بحقه حكم ..

 

قاطعه علي قائلاً

- عزام درزي وهو ليس مهماً كما هو الحال مع اليهود وما يمارسوه من ضغط علني هو كي يثبتوا لعملائهم أنهم لا يتركون رجالهم ولكن حين يتعلق الأمر باليهود أنفسهم يختلف أسلوب الضغط..

 

استمر الحديث بين علي ومجدي وعلاء عن قضايا التجسس التي تم ضبطها في مصر مؤخراً وتفاجئ علاء بالمعلومات التي يعرفها علي عن هذا الأمر .. لكن علي أخبره أن هذه المعلومات ليست سرية لأن معظمها قد نُشر على صفحات الجرائد وتناولتها وسائل الإعلام في حينه .. وعندما اقترح علاء أن يقوم بجمع معلومات عن فواز من المكان الذي يتردد عليه في جنوب سيناء وهو قبيلة والده حذره علي قائلاً

- منطقة جنوب سيناء خاضعة لسيطرة اليهود بشكل كامل ، والموساد لم يترك مؤسسة حكومية هناك إلا وتغلل فيها ولا داعي لأن أذكرك بالجاسوس سمحان امطير الذي قبضتم عليه و قد كان مستشاراً لمحافظ جنوب سيناء وكذلك الجاسوس سمير عثمان و قد كان يعمل أيضاً في جهاز أمني حساس .. لذلك فإن أي معلومة ستحاول جمعها من هناك يحتمل أن تفسد كل شيء و تكون طرف خيط للموساد

 

هز علاء رأسه نافياً وهو يقول

- لا اقصد جمع المعلومات عن طريق الأجهزة الأمنية أو المؤسسات الحكومية هناك ، لأنني لم أعد محسوباً عليهم ولا يحق لي السؤال لكن ما قصدته هو أن اذهب بنفسي لتلك المنطقة و أتحرى بنفسي عن الأمر بشكل شخصي ولا توجد مشكلة في ذلك

 

صمت علي قليلاً ثم هتف بحماس

- ما رأيك لو قمت بزيارة لصالة الديسكو بنفسي وادعيت أنني أريد شراءها .. أعتقد أن هذا مدخل جيد لمقابلة فواز ولقاءه عن قرب خاصةً حين يعرفون أني مستعد لدفع مبلغ كبير في الصالة

أجاب علاء وبدا تحمسه واضحاً

- فكرة جيدة وهي تقصر علينا الكثير من المسافات ومن المؤكد أنها ستفيدنا كثيراً

أتفق علي وعلاء على القيام بزيارة لصالة الديسكو وحاول مجدي إقناعهم بأن يرافقهما في تلك الزيارة ولكن علاء أخبره أن قدومه قد يفسد الأمر إن تعرف أحد عليه وعلم أنه ضابط في الشرطة وقد وافق علي علاء في رأيه وبعد صلاة العشاء من نفس اليوم كان علي وعلاء داخل صالة الديسكو يسألان أحد العاملين فيها عن صاحب الصالة فأخبرهم أنه سيأتي بعد قليل و بإمكانهما انتظاره على إحدى الطاولات .. وقبل أن يمر الكثير من الوقت تقدمت فتاتان من الطاولة التي يجلس حولها علي وعلاء فجلست إحداهما دون أن يدعوها أحد ثم قالت ما ستعرفوه في الجزء التالي

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

هل يضايقكما لو انضممنا إليكما .. أم أن هناك من تنتظرانه

نظر علاء تجاه علي بعد أن أنهت الفتاة عبارتها بغمزة ذات مغزى ثم وجه حديثه إليه قائلاً بنبرة علتها السخرية

- ما رأيك يا عزيزي في شيء من الترفيه قبل أن يأتي من ننتظره

 

أجاب علي وهو يتصنع الجدية في حديثه

- بعد أن ننتهي من العمل سيكون لدينا متسع من الوقت للترفيه .. أما الآن فلنهتم بما جئنا من اجله وبعدها لكل حادث حديث ..

 

لم يكد علاء يهم بالرد حتى سبقته الفتاة قائلة له:

- يبدو أن صديقك خجول للغاية وواضح أنه غريب وليس من هنا ..

 

قاطعها علاء وهو يرسم على وجه ابتسامة مصطنعة

- هو ليس من هنا بالفعل ، و ما خجله إلا لأنه لم يألف الجو هنا بعد ..

 

لم يكن علي يهتم بالحديث الذي يدور بين علاء و الفتاة .. وبدا أنه لم يستمع لما يدور بينهما من حوار .. فقد كان هناك ثمة شيء ما يشغله ويشد انتباهه عندما لمح ذلك الرجل الضخم على إحدى طاولات البلياردو .. ولأن أوصاف الرجل تنطبق تماماً على أوصاف ميخا الذي قتل صديقه عبد الله -كما أخبره صفوت- بدأ يشعر أن بركان الغضب بداخله أخذ بإلقاء حممه استعداداً للانفجار ، وهو أمر قد يفسد كل الخطة إن حدث .. لذلك حاول عبثاً أن لا ينظر إليه وأخذ يشغل نفسه في منفضة السجائر التي أمامه و يحرك فيها بأصابعه .. ولكن ثورة الغضب التي بداخله كانت أقوى من أن يتحكم في نظراته التي لمحها علاء وكذلك الفتاة التي توترت بشدة عندما شاهدت منفضة السجائر المعدنية تنثني بين أصابع علي كأنها ورقة من الكرتون ثم سرعان ما شعرت بالغيرة حين ظنت أن علي ينظر نحو الفتيات الأجنبيات اللاتي يحطن بذلك الرجل فوجهت إليه حديثها بسخرية شديدة وهي تقول :

- هل تعجبك تماثيل الشمع اللاتي يقفن هناك ؟

 

رمقها علي بنظرته التي يتصاعد منها اللهب ثم قال بضجر

- أبعد كل ما قلناه لكِ مازلتِ هنا ! .. أنصحك أن تأخذي صديقتك من هنا وتتركي الطاولة قبل أن أسمعك كلاماً لا تحبينه

 

لم تستطع الفتاة أن تخفي غضبها فقالت بتحد وشيء من الخوف بسبب نظرات علي القاسية

- وفر كلامك لأولئك الروسيات اللاتي ستأكلهن بعينيك .. ولكني أنصحك أن لا تفعل ، لأنهن لا يعرفن العربية ، كما أنهن لا يجالسن الزبائن و ..

 

تدخل علاء مقاطعاً و محاولاً تهدئة الموقف فقال وهو يضحك

- أرجو أن لا تغضبي من صديقي .. فهو جاء إلى هنا للعمل فقط وليس للترفيه ، ولكن من المؤكد أننا سنلتقي ..

 

قاطعته الفتاة بعصبية و تهكم وهي تُشير بيدها نحو الفتيات بينما صديقتها تحاول جذبها والابتعاد بها

- واضح أنه جاء للعمل !.. بدليل أن عيناه لم يطرفا عنهن طوال الوقت إعجاباً بهن .. ومن المؤكد أنه سيحدث له ما حدث لغيره بعد أن يشم رائحتهن الكريهة على ..

 

لم تكمل الفتاة عبارتها بسبب جذب صديقتها لها فأخذتها وابتعدت بها بينما قال علاء لعلي

- ما الذي فعلته .. كان يمكن أن تتصرف بشكل ..

 

قاطعه علي بشكل مفاجئ

- أريد أن أغادر هذا المكان فوراً

 

هتف علاء بدهشة

- لماذا ؟

 

أجاب علي وهو ينظر لما في يده بهدوء وصوت منخفض

– ذلك الرجل الذي يقف بجوار طاولة البلياردو .. لدي إحساس كبير أنه ميخا الذي تحدث عنه صفوت ، ويبدو أنني لن أستطيع التحكم في انفعالاتي وأعصابي بسبب الموسيقى الصاخبة وذلك الصوت الذي يصرخ في أعماقي و يحثني على قتله الآن

 

ألقى مجدي نظرة بطرف عينه نحو الرجل فوجده يمسك بطريقة فظة ذراع الفتاة التي كانت تتحدث معهما قبل قليل وكأنه يسألها عن سبب تذمرها .. ولكنها لم تطل معه الحديث وأشارت نحو الطاولة التي يجلس عليها علي وعلاء ، ثم أفلتت ذراعها من يده بحدة بينما وقف هو ينظر باهتمام باتجاه الطاولة التي يجلس عليها علي وعلاء مما جعل علاء يقول

- يبدو أن الفتاة حدثته عنا لأنه ينظر نحونا الآن

 

قال علي:

- أستطيع تخمين ما قالته له ، لذلك دعنا نغادر هذا المكان على وجه السرعة قبل..

 

قاطعه علاء قائلاً:

– لا أنصح بذلك فقد فات الأوان .. فهاهو قادم نحونا لذا حاول أن تكون هادئاً و تحكم في أعصابك جيداً ، لأنه لو كان الشخص المقصود ، فهو ميت في كل الأحوال .. فمجرد قيامك بعمل عاطفي قد يفسد كل شيء

 

لم يعلق علي وبقي صامتاً خاصةً حين اقترب الرجل منهما أكثر وانضم إلى طاولتهما ثم جلس على أحد الكراسي دون أن يتحدث بكلمة واحدة .. فقال له علاء بحدة واستنكار

- هل أذن لك أحد بالجلوس لكي تفعل ؟

 

رسم الرجل الضخم ابتسامة نفاق عريضة على وجه قبل أن يقول بعربية يبدو أنه لا يحسنها جيداً

- قيل لي أنكما ترغبان في فتياتي .. فجئت أختصر عليكما الطريق ، لأن الاتفاق مع أي واحدة منهن لا يكون إلا من خلالي ..

 

قاطعه علاء بضجر وهو يقول

لم نأتي لفتياتك .. جئنا لنقابل صاحب هذه الصالة ، ونحن الآن في انتظاره ، ويستحسن أن تنصرف الآن لأن وجودك هنا لا يروق لنا

 

كان الرجل يشبه في جسمه أجسام المصارعين وقد بدا على ملامحه الغضب حين خاطبه علاء بازدراء فأخذ يضرب كرة البلياردو التي بيده على سطح الطاولة و جسمه الضخم يتمايل مع إيقاع الموسيقى دون أن يرد على حديث علاء ، مكتفياً بابتسامة ساخرة مستفزة بدت مهينة ، ولكن علاء صاح فيه بعصبية قائلاً بالإنجليزية

هل أنت أصم !!.. ألم تسمع ما قلته لك ؟

 

لم يكترث الرجل لانفعال علاء واتسعت ابتسامته المستفزة وهو يميل بجسمه على الطاولة أكثر موجهاً حديثه لعلي الذي يتحاشى أنفاسه الكريهة :

- أخبر صديقك أنني أعرف العربية جيداً .. وأخبره أيضاً إن كان لا يحب الفتيات ولديه ميل شاذ فأنا في الخدمة ويسعدني أن أقوم بذلك مجاناً ..

 

لم يلبث الرجل إكمال جملته حتى أمسك علي بطرف الطاولة بيديه ثم دفع الكرسي الذي يجلس عليه للخلف بقدمه اليمنى وبكل ما أوتي من قوة سدد ضربة وهو ينزلق تحت الطاولة بنفس القدم بين فخذي الرجل ألقته بعنف هو وكرسيه مسافة بعيدة وسط طاولات الزبائن محدثاً ضجيجاً وفوضى سببا الذعر لرواد الصالة الذين توقفوا عن الرقص واللعب لشعورهم أن شجاراً كبيراً سينشب بعد قليل

 

سادت جو من الصمت بعد أن توقفت الموسيقى و تطلع الجميع نحو الرجل الضخم وهو يهم بالنهوض متوعداً علي ومطلقاً سباب بالعامية المصرية ، ولكن علي الذي شعر أن ضربته لم تكن موفقة لأنها أصابت الكرسي قبل أن ترتطم بهدفها عاجله بضربة أخرى في نفس المكان جعلته يطلق صرخة كبيرة قبل أن يسقط على الأرض يتلوى من الألم كخرتيت يتعرض لصدمات كهربائية .. وقبل أن يقترب المسئولين عن أمن الصالة أكثر ، توقفوا فجأة عندما أشهر علاء مسدسه في وجوههم بينما اقترب علي من الرجل الذي استمر يتلوى من الألم على الأرض قائلاً له بسخرية وتهكم :

- هل مازال عرض خدماتك سارياً أم أنك غيرت رأيك بعد أن شعرت بحمض الألم في حلقك

 

حاول الرجل النهوض مرةً أخرى بصعوبة بالغة بالرغم من شعوره الشديد بالألم والمهانة وفي نفس الوقت كان علي يفكر في تسديد ضربة واحدة بقدمه أسفل القرط الذي يضعه في أذنه اليسرى بسنتيمترين ، فهو يعرف جيداً أنه مهما كانت قوة الرجل سيموت على الفور لدراسته الأجزاء الحساسة في جسم الإنسان والتي فيها مقتله إن تم تسديد ضربة قوية إليها

 

وفي الوقت الذي كان يهم فيه الرجل بالنهوض ، كان علي في صراع عنيف بين غضبه وعقله وأين يتم تسديد ضربته التالية وهل يكتفي بضربة تفقده الوعي أم يسددها في مكان قاتل انتقاماً لصديقه .. وقبل أن يكمل الرجل نهوضه البطيء شاهراً سكينه أوقفته صيحة امرأة ثم ما لبثت أن اقتربت منه توبخه بشدة وصرامة قائلة

- هل كلما تغيبت عن الصالة أعود وأجدك تتشاجر مع الزبائن ؟ ..

 

تأكد علي أن ذلك الرجل هو ميخا فعلاً بعد أن صاحت المرأة باسمه ، وتمنى في قرارة نفسه أن لا يستجيب الرجل لأوامرها وهي تحثه بحزم عن الانصراف من هنا .. ولكن الرجل الذي تحول لون وجهه إلى الأحمر من شدة الألم انصاع صاغراً لأوامر تلك المرأة التي بدا أن لها سيطرة كبيرة عليه وعلى كل العاملين في الصالة ، خاصةً حين استجاب الجميع لها بعد أن أمرت بعودة الموسيقى ورجوع حراس الأمن إلى أماكنهم .. ثم وجهت حديثها لعلي قائلة :

- أعتذر عن الإزعاج الذي سببه ذلك الأحمق .. فهو عادةً يتصرف بحماقة حين يُكثر من الشراب .. ويبدو أنه كان ثملاً حين تعرض لكما ..

 

هتف علاء وهو يدس مسدسه مقاطعاً

– هل أنت صاحبة هذه الصالة ؟

 

أومأت المرأة برأسها موافقة ثم قالت :

نعم واسمي سارة ، وسيسعدني كثيراً لو قبلتما اعتذاري وتفضلتما إلى مكتبي كي أكفر عن ما سببناه لكما من إزعاج ..

 

قاطعها علي بسخرية وهو ينظر بتحد نحو ميخا الجالس على البار قائلاً

- لم يكن هناك أي إزعاج .. فلقد كسر خنزيركم الملل الذي أصابنا ونحن ننتظرك ..

 

هتفت سارة بدهشة مصطنعة

- تنتظراني أنا !

 

أجابها علاء على الفور

- نعم .. كنا ننتظرك لأمر ما .. ولكن بعد استقبالكم الحافل لنا غيرنا رأينا وسننصرف الآن ..

 

قاطعته سارة وهي تقول

- أكرر أسفي مرة أخرى .. وأعدكما أن يلقى ذلك الأخرق عقاباً مناسباً على ما سببه لكما من إزعاج .. وحتى تثبتا لي أنكما قبلتما اعتذاري اقبلا دعوتي في مكتبي كي نتحدث هناك بعيداً عن هذه الضوضاء

 

سار علي وعلاء خلف سارة بعد أن ألحت في دعوتها ، وأثناء مرور علي بالقرب من ميخا نظر، علي في عينيه بتحد كبير ثم بصق على الأرض ، ولكن ميخا لم يحرك ساكناً واستمر في الشرب كاتماً غيظه الشديد ، وقد ارتاح علي كثيراً وهو يرى نظرات الشماتة في عيون الفتيات اللاتي يحطن به طوال الوقت وكأنهن يتشفين فيه ، معتبراً أن تلك النظرات ستستفز ميخا وستجعله يعمد على الاحتكاك به مرةً أخرى قبل أن يغادر المكان

 

لم يكن المكتب فيه ما يستدعي جذب الانتباه باستثناء شاشة المراقبة التي تبث ما يحدث في الصالة من خلال كاميرا يبدو أنها مُثبتة في سقف منتصف الصالة ، وحين لمحها علاء قاطع حديث سارة التي أكثرت من الاعتذار بشكل مبالغ فيه قائلاً

- بما أنك كنت هنا في مكتبك وتشاهدين ما يحدث .. لمَ قال لنا النادل أن صاحب الصالة غير موجود وسيأتي بعد قليل ؟

 

أجابت سارة على الفور

- يبدو أن النادل ظن أنكما تسألان عن أخي فواز فهو شريكي في هذه الصالة و ..

 

قاطعها علي متصنعاً الدهشة

- أخاك وشريكك في هذا المكان !!

 

تراجعت سارة كي تسند ظهرها على كرسيها خلف مكتبها ثم مطت شفتيها باستغراب قبل أن تقول ملوحةً بيدها في غرور

- وما الغريب في الأمر ؟ .. أليس عمل كأي عمل !

 

جال علي ببصره في أرجاء المكتب كأنه يتفحصه قبل أن يقول ساخراً

- بالطبع ليس عملاً كأي عمل .. المفروض أن الأخ يغار على أخته من عمل كهذا

 

تناولت سارة علبة سجائر من على سطح مكتبها و أشعلت سيجارة وقالت بثقة كبيرة وهي تنفث دخانها بلا مبالاة

- تقول هذا لأنك لا تعرفني .. ولكن أخي فواز يعرفني جيداً ، ويعرف أنني قادرة على أن أدير مكاناً كهذا أفضل من عشرة رجال مجتمعين

 

تصنع علاء الإعجاب وهو يقول

- واضح أن لك شخصية قوية ومسيطرة .. فقد لحظت ذلك حين استجاب لك الجميع ..

 

لم تهتم سارة بحديث علاء بسبب وقوف علي المفاجئ واهتمامه بلوحة معلقة على أحد الجدران فسألته قائلة

- ما الذي يجذب انتباهك في تلك اللوحة ؟

 

رسم علي علامات الانبهار على وجهه وهو يقول بإعجاب شديد

- إنها رائعة للغاية .. و مدهشة حقاً .. هل هي لكِ ؟

 

أومأت سارة برأسها ثم قالت :

- نعم هي لي ..لكن يبدو أنك مهتم بالرسم التجريدي ومن النادر أن يهتم الشباب هذه الأيام بهذا الفن .. ترى ، ما الذي يعجبك في هذه اللوحة بالذات لأنك أثرت فضولي؟

 

تجاهل علي سؤالها وهتف بلهفة سائلاً

- هل تبيعينها لي ؟

 

استغرب علاء من اهتمام علي باللوحة وبدا له أنه معجب بها حقاً.. ولكن علي لاحظ أن سارة مولعة بالفن التجريدي بسبب القلادة غريبة الشكل المعلقة في عنقها وبعض الأشكال التجريدية الصغيرة الموجودة على المكتب .. ولأن لديه فكرة عن الرسم أراد أن يفتح موضوعاً من المؤكد أنها ستحبه وتسترسل في الحديث عنه ، مما يجعلها تتحدث عن نفسها دون أن يطلب منها أحد ذلك ، وهذا ما كان يخطط له علي من البداية وهو ما فهمه علاء بسرعة وترك سارة وعلي يتحدثان عن اللوحة التي دفع فيها علي عشرة آلاف جنيهاُ ، ولكن سارة رفضت ذلك وقالت : أن للوحة معزة خاصة عندها ، وقبل أن تدخل في موضوع جانبي تتحدث فيه عن تلك الذكرى قال علي :

- يبدو أن في عائلتك فناناً تجريدياً .. لأن هذا الفن لا يهتم به أحد إلا إذا كان دارساً له أو عن طريق الوراثة ..

 

قاطعته سارة سائلة :

- وهل أنت دارس لهذا الفن فعلاً ؟

 

أجاب علي بسرعة وهو يحول نظره عن اللوحة ناظراً في عيني سارة بشكل مباشر

- لا .. وإن كنت أتمنى .. ولكن أبي كان شديد الولع بالفن التجريدي بكل أشكاله ، ولقد أحببت هذا الفن من خلاله .. أعتقد أن نشأتك أنت أيضاً لها علاقة بذلك ، وأنا على يقين أنك ورثت حب هذا الفن من خلال فنان في عائلتك ..

قاطعته سارة مازحة

- ولمَ لمْ تخمن أنني درست هذا الفن .. أم أنك لا تراني أصلح بأن أكون فنانة ؟

 

ابتسم علي وهو يُجيب بثقة

- بالعكس .. مجرد الشعور بالفن والإحساس به يعتبر من أرقى أنواع الفنون .. ولكنني أعرف أن الدارسين لذلك الفن لابد أنهم سيعلقون لوحة من رسم يدهم .. وحسب ما أرى أن هذه اللوحة لرسام واضح من خلال توقيعه أنه ياباني الجنسية أو على الاقل آسيوي .. إلا إذا كنت تمضين لوحاتك بهذا الاسم

 

قال علي عبارته الأخيرة وأراد أن تخرج ابتسامته كأنه فخور باستنتاجه فأومأت سارة برأسها توافق كلامه ثم قالت :

- معك حق .. أنا لم أدرس ذلك الفن ، ولكن لا يوجد أيضاً في عائلتي من هو مهتم بهذا الفن .. كل ما هنالك أنني نشأت في بيئة صحراوية يأتي إليها الناس من جميع أنحاء العالم بغرض السياحة ولقد لحظت أن كثيرون منهم مهتمون بهذا الفن .. فأردت التعرف عليه عن قرب ، ثم وجدت نفسي في النهاية من عشاقه ..

 

قاطعها علي بهدوء وهو ما يزال ينظر في وجهها متمنياً أن يستمر انسجام حركة ملامحها مع ما تقوله

- الصحراء لوحة تجريدية غاية في الروعة .. ولكن أول مرة أعرف أن في مصر صحراء يأتيها الناس من جميع أنحاء العالم .. فعادة يأتي السائح إلى مصر لمشاهدة الآثار وليس الصحراء .. فما الذي يعجبهم في صحرائكم كي يأتوا إليها

 

ابتسمت سارة بفخر قبل أن تقول

- المناظر الخلابة والبحر الرائع يا عزيزي هو الذي يجذبهم .. فرأس الشيطان من أجمل المناطق التي يمكن الغوص فيها .. كما أنها خالية من التلوث و ..

 

رسم علي الدهشة على وجهه ببراعة وهتف قائلاً

- رأس الشيطان !! ..هل تقصدي أن هناك مكاناً جميلاً في الدنيا يحمل هذا الاسم البشع !

 

هتفت سارة باستنكار

- نعم .. في سيناء فرأس الشيطان مزار ديني ومكان ..

 

قاطعها علاء مصححاً

- ربما تقصدين رأس محمد في جنوب سيناء .. فهي منطقة ينطبق عليها الأوصاف التي ذكرت ويأتيها السواح من جميع أنحاء العالم لممارسة رياضة الغوص ..

 

قاطعته سارة وهي تلوح بيدها نافية

- رأس محمد في عمق الجنوب بعد شرم الشيخ .. أما رأس الشيطان فهي بين طابا ونويبع و..

قطعت سارة حديثها فجأة عندما دخل رجل في نهاية الثلاثينات من عمره وبدا أنه مستاء من حديث سارة فقال بعصبية :

- أنت هنا تلقين محاضرة عن السياحة وجغرافية سيناء وميخا يتشاجر مع الزبائن ويحطم الصالة

 

كانت علامات الأسف التي بدت على وجه سارة تدل على أنها انجرفت في حديثها مع علي بدون داعي .. ولكنها استدركت ذلك وتمالكت نفسها قبل أن تقول بعدم اكتراث لعصبيته :

هذان السيدان هما من تعارك معهما ميخا ، وقد جاءا لمقابلتك فأحضرتهما إلى المكتب كي اعتذر لهما عن ما بدر من ميخا

صمتت سارة قليلاً قبل أن تتابع قائلة موجهة حديثها لعلي وعلاء

- هذا أخي فواز الذي تنتظرانه ..

 

قاطعها فواز موجهاً حديثه لعلي وعلاء

- أعتذر عن الإزعاج الذي سببه لكما ميخا .. وسيسعدني أن أقدم لكما أي خدمة تكفيراً عما سببه لكما ذلك الثمل من إزعاج

 

لوح علي بيده بزهو وغرور قبل أن يقول

- لست أنت من سيقدم لنا .. بل نحن الذين سنقدم لك

تجاهل فوزا أسلوب علي المستفز وهز رأسه كأنه يحث علي على إكمال حديثه ، فتابع علي قائلاً بنفس الأسلوب

- بدون أي مقدمات .. أريد شراء هذه الصالة وسأدفع لك في المقابل ثمناً جيداً لها

 

بقيت ملامح فواز جامدة وإن كان ثبات عيناه في محجرهما يوحي بأن في داخله فضول شديد يحاول إخفائه بعدم اكتراث مصطنع .. ولكن علي لم يضف شيئاً جديدا على عبارته السابقة مما جعل فواز يقول بضجر

- نعم .. وماذا بعد !

 

رسم علي الدهشة على وجهه قبل أن يقول

- ما سيأتي بعد ، مرهون بردك على عرضي إن كنت موافقاً على مبدأ البيع

 

تنحنح فوزا قبل أن يقول :

- وإن لم أكن موافق على البيع ؟

 

أجاب علي بلا مبالاة

- في هذه الحالة سأبحث عن صالة أخرى

 

غمغم فوزا قائلاً

– إذاً أنت لا تقصد هذه الصالة بالتحديد كي تشتريها دون غيرها

 

هتف علي ملوحاً بيده

- بل اقصد هذه الصالة هذه أولاً دون غيرها .. وإن لم استطع شرائها سأبحث عن أخرى بالجوار .. المهم أن تكون في مدينة نصر

 

كانت سارة تتابع الحديث الذي يدور بين علي وأخيها وقد استغربت في البداية الاختلاف الكبير في الأسلوب الذي كان يتحدث به معها والأسلوب الذي يحدث به فواز .. فتدخلت قائلة

- ولماذا هذا الحي بالذات

 

رسم علي ابتسامة ودودة على وجه قبل أن يوجه حديثه لسارة قائلاً

– هذا سؤال لا تسأله امرأة ذكية مثلك .. بالطبع أنت تعرفين السبب ..

 

هتف فواز بخبث وسخرية

- طالما لديك المال ومستعد لدفع ثمن كبير .. فلمَ لا تقوم بإنشاء صالة جديدة بدلاً من أن تشتري شيء قد تدفع فيه ثمناً أكبر من قيمته ..

 

تدخل علاء موضحاً

- صديقي يسعى لشراء مشروعاً ناجحاً .. ولقد عرضت عليه من قبل إنشاء صالة جديدة أو بناء مطعم عائم في النيل ، فقال: أنه حين يشتري مشروعاً ناجحاً ، فهو يشتري الزبائن وسمعة المشروع قبل أن يشتري المنشئات .. وشراء مشروعاً ناجحاً أفضل من البداية فيه من الصفر حتى لو دفع فيه مبلغاً أكبر من قيمته الحقيقية ..

 

قطع علاء حديثه عندما رن جرس الهاتف على المكتب فاستغلت سارة انشغال فواز بالرد على الهاتف واقتربت من علي وهمست في أذنه مازحة :

- يبدو أنك لا تستلطف أخي ، أليس كذلك ؟ ..

 

مازحها علي بدوره وهمس قائلاً

- في الواقع أنا لا استلطفه قبل رؤيته .. فأخ يسمح لأخته الصغيرة بالتواجد في مكان كهذا من المؤكد أنه أخ سيئ

 

حاولت سارة أن لا يكون صوتها مسموعاً وهي تهمس قائلة

وماذا لو قلت لك أنني أكبر منه ؟

ابتسم علي قائلاً بخبث

- سأقول أن الكذب لا يناسب فتاة ذكية وجميلة مثلك

همست سارة بدلال

- هل أفهم من ذلك أنك تغازلني

أجاب علي ساخراً

- ولم لا تسميه نفاق

هتفت سارة بسخرية وغرور

- ولماذا تنافقني

أجابها علي وهو يضع يده على فمه كأنه يداري ضحكته

- ربما من اجل أن تبيعني لوحتك

 

أفلتت ضحكة عالية من سارة عند عبارة علي الأخيرة وحين رمقها فواز بنظرة باردة مستهجنة ، لم تعره أي اهتمام وجلست على حافة المكتب قبل أن تقول بصوت مسموع :

- إن استطعت شراء الصالة فاعتبر اللوحة هدية مني لك .. وإن كنت أرى أن ذلك صعب للغاية

 

وضع فواز سماعة الهاتف بعد أن أنهى محادثته التي أنصت لها علي جيداً ، وقبل أن يعلق علي على حديث سارة استطرد قائلاً بضجر وملل كأنه يريد إنهاء المقابلة

- للأسف أيها السيدان .. كان بودي أن أخدمكما ولكني لا أنوي بيع هذه الصالة ولا أفكر في ذلك

 

مط علي شفتيه مدعياً الأسف وغمغم قائلاً وهو ينهض

- لا بأس يا سيد فواز فهذا حقك .. وإن كنت أرى أن صفقة كبيرة أفلتت منك ، لأنني كنت مستعد شرائها بالثمن الذي تطلبه

 

نهض فواز خلف مكتبه ومد يده ليصافح علي وهو يقول :

- كان بودي أن أخدمكما ولكني لا أفكر في بيعها مطلقاً..

 

تجاهل علي يده الممدودة كأنه لم يرها ثم وجه حديثه لسارة هامساً :

- إن كنت لم أحظ بشراء اللوحة أو حتى الصالة ، فعلى الأقل حظيت بمقابلة فتاة ذكية وجميلة وهذا نادراً ما يحدث ..

 

حاولت سارة أن ترد على الإطراء وهي تهم بصحبة علي وعلاء نحو باب المكتب ، ولكن عبارة فواز أوقفتها عندما طلب منها البقاء لأنه يريدها في أمر هام ، فردت عليه بلامبالاة واخبرته أنها ستعود بسرعة بعد أن توصلهما إلى الخارج تحسباً من تعرض ميخا لهما

 

كان ميخا يقف على باب المكتب في الخارج فعلاً و كأنه يحرسه وما إن شاهد علي حتى عض على شفته السفلى وهو ينظر بغضب شديد نحوه مما جعل علي يهتف ساخراً

- هاهو خنزيرك السمين يقف في الخارج ويبدو أنه يتوعدنا .. ربما لم يستوعب الدرس الذي لقنته إياه بعد أن زال الألم

 

ازداد غضب ميخا وأخذ يزمجر عندما ضحكت سارة بصوت عالي فاستطردت قائلة :

- لا تراهن على أنه لا يعرف العربية فهو يفهم كلامك ويعلم أنك تهينه ، وأخشى أن لا أستطيع السيطرة عليه إن زدت في استفزازه

-

هتف علي بسخرية ووقف ينظر في عيني ميخا باستخفاف وازدراء

- إن فقدتِ السيطرة عليه أخبريني وسأحول لك جلد جسده إلى شوال مملوء بعظام محطمة

 

زاد غضب ميخا وبدا أنه سيتحرك ولكن سارة أوقفته قائلة بحزم

- ميخا .. أدخل إلى فواز فهو يريدك بالداخل

-

استجاب ميخا لأمر سارة وحاول علي أن يستفزه أكثر قبل أن يفتح الباب وهو يقول

- لا أعرف ما الذي يجعلكم تحتملون أحمقاً مثله يسبب لكم المشاكل ثم تعتذرون عما يفعله

-

اكتفى ميخا بنظرة غاضبة قبل أن يدلف إلى المكتب فقالت سارة لعلاء مازحة

- لا أنصحك برفقة صديقك هذا لأنك ستشهر مسدسك كثيراً .. فقد يجعلك هذا تقتل أحدهم وأنت تدافع عنه

 

- تحرك علي باتجاه الصالة وتبعه كل من سارة وعلاء الذي هتف قائلاً

- وظيفتي أن أحميه يا سيدتي إن تعرض لخطر

 

هتفت سارة باستغراب

- إذاً أنت حارسه الشخصي ..

 

قاطعها علي بصوت عالي بسبب الموسيقى الصاخبة وهو يقول :

أيمن ليس حارسي الشخصي فقط .. بل هو صديقي أيضاً وبمثابة أخ عزيز ..

 

توقفت سارة على باب الخروج من الصالة ثم قالت غامزة

- عرفت أن أسمه أيمن .. ولكنني لم أتعرف على اسمك أنت حتى هذه اللحظة بالرغم من أننا سنفترق

 

مال علي ناحية سارة وهو يقول مازحاً

- اسمي علي وهذا رقم هاتفي إن فكرت في بيع اللوحة ..

 

 

جلس علي وعلاء في منزل مجدي يراجعان نتائج ما أسفرت عنه زيارتهما إلى صالة الديسكو و بعد مرور ساعة تقريباً على حديثهما دخل مجدي متذمراً وهو يقول :

- هل كان عليكما أن تسيرا كل هذه المسافة سيراً على الأقدام .. لقد تكسرت قدميّ وأنا أتتبعكما من شارع إلى شارع ومن زقاق إلى حارة حتى فقدت أثركما في مترو الأنفاق .. ثم ألم نتفق أننا سنلتقي في محطة المترو ..

 

قاطعه علاء وهو يضحك بشماتة

- صدقني لقد أشفقت عليك وأنا أفكر في أنك تتعقبنا كل هذه المسافة .. وحين وصلنا إلى مترو الأنفاق قلت لعلي أن يقف لينتظرك كما اتفقنا و لكنه قال : دعه يتدرب على المراقبة والاحتفاظ بالهدف جيداً ..

 

قاطعه مجدي بتهكم وهو يتحسس قدميه

- أن تراقب شخص عادي وتتبع خطواته أمر يسير .. ولكن مع بهلوانين مثلكما فهذا مستحيل .. لقد شاهدتكما وأنتما تنتظران المترو وكنت أنوي الصعود في نفس العربة ولكنكما فجئتماني عندما اقترب قطار المترو من الاتجاه المعاكس وقفزتما إلى الناحية الأخرى وصعدتما إليه ..

 

هتف علاء وقد زاد ضحكه

- ولمَ لمْ تلحق بنا يا حضرة الضابط ..

 

أشاح مجدي بوجهه متذمراً وهو يقول

- كان قد فات الأوان أيها الذكي .. فلو فعلت ذلك لدهستني عجلات المترو .. وطبعاً كان من المستحيل أن أدور حوله بعد وقوفه لأن ذلك سيتطلب فترة طويلة من الوقت و هو ما سيجعل المترو الذي صعدتما إليه يتحرك قبل أن أصل أبوابه من الجهة الأخرى ..

 

ربت علي على كتف مجدي ثم قال مبتسماً وهو يهون عليه

- على كل حال يا عزيزي لم نصعد لعربة المترو كما ظننت .. بل استخدمناها كستار بيننا وبينك وصعدنا من الجهة الأخرى نحو سطح الأرض ، ثم وصلنا إلى الحي المجاور بسيارة أجرة و ما تبقى من مسافة إلى هنا قطعناه سيراً على الأقدام

 

تدخل علاء قائلاً باهتمام قبل أن يعلق مجدي

- المهم .. هل خرج أحدهم في أثرنا بعد أن خرجنا من الصالة ؟

 

قال مجدي وهو يهز رأسه نافياً

– لم يخرج أحد .. ولقد تعمدت أن يكون بيني وبينكما مسافة كبيرة وأنا أسير خلفكما وبسبب خلو الشوارع من المارة .. فقد كان سهلاً عليّ أن ألحظ أي تعقب لكما وإن كنت ناقماً عليكما لهرولتكم بسرعة كل هذه المسافة حتى تورمت قدماي..

 

قال علي وقد ارتسمت على وجهه ملامح الجدية

- كان لابد من ذلك .. فمن السهل على من يتعقب شخص ما ملاحظة إن كان أحد غيره يتعقبه .. وفي نفس الوقت من الصعب اكتشاف من يتعقبك إلا إذا قمت بحركات معينة ، ولكن مجرد القيام بهذه الحركات تثبت عليك الشبهة التي تحاول أن تنفيها عنك

 

هتف علاء باستغراب

- أليس مثيراً للشكوك أن لا يتعقبونا بعد كل الذي حدث بالداخل ؟

 

أثار سؤال علاء فضول مجدي الذي أراد أن يعرف ما حدث بالداخل ، فحكا له علاء و علي كل التفاصيل واستغرب مجدي من حديث علاء عن علي وهو يصف أسلوبه في مخاطبة سارة فعلق علي قائلاً

– النساء يا عزيزي يطربهن كثيراً كلمات المجاملة والإطراء وهذا شيء له علاقة بالفطرة بصرف النظر عن نوع المرأة وذكائها .. وحين يكون الإطراء لأنثى مثل سارة من شاب يصغرها بعشرة أعوام على الأقل ، فمن المؤكد أن ذلك سيشغل ذهنها عن التفكير بشكل سليم وحرفي.. وإن كانت لم تقدم لنا شيء مهم .. فعلى الأقل قد انشغل ذهنها بكلمات تحد من قدرتها على التفكير بشكل سليم .. ولعل علاء لاحظ أن سارة التي تحدثت معها فترة طويلة لم تعلق على اختلاف لهجتي بينما الفتاة الأخرى التي عاملتها بجفاء اكتشفت ذلك من أول لحظة

 

غمغم مجدي قائلاً

هل يعني ذلك أنهم لم يشكوا فيكما ؟

 

قال علي وهو يهم بالنهوض

- من المؤكد أننا تركنا أثراً كبيراً لديهم .. ولكن سيصعب عليهم تخمين من نحن ، وإن كنت أرجح أنهم سيظنون أننا من شرطة الآداب أو على الأقل من رجال الضرائب أو مترفين لديهم مالاً لا يعرفون أين ينفقونه..

 

قال علي عبارته الأخيرة وهو يبتسم ، فاستطرد علاء قائلاً

- من المؤكد أنهم سينتظرون منا زيارة أخرى .. وأعتقد أن ذلك وحده كفيل بإثارة شكوكهم

 

لم يعلق علي على عبارة علاء .. وبدلاً من ذلك حثهم على الوضوء استعداداً لصلاة الفجر وبعد الصلاة ، طلب علي من علاء أن يعود إلى منزله ويأخذ قسطاً من الراحة حتى لا تكتشف زوجته التي ذهبت للمبيت عند أهلها أنه قضى ليلته خارج المنزل .. ولكن علاء أخبره أن وجوده عند مجدي في مثل هذه الظروف أمر طبيعي وأصر على البقاء ليعرف ما هي خطة علي بناءاً على ما توصل إليه من معلومات ، فأخبره علي أن الخطة سيتم وضعها بحضور أحمد في المساء .. وعندما ذهب مجدي وعلاء إلى النوم بعد صلاة الفجر بقي علي يقظاً يمارس التمارين التي تعود عليها غارقاً في تدبر عظمة الخالق ورحمته بعباده حين شاهد مدى العصيان الذي يقوم به هؤلاء العباد بعد تجربته الأخيرة

 

عندما وصل أحمد ومعه طعام الغداء الذي أعدته والدته استقبله مجدي وقص عليه كل ما استجد من أمور وأخبره أن يبقى في المنزل حتى يستيقظ علي لأنه سيذهب إلى عمله في مديرية أمن القاهرة ولأن علاء أيضاً ذهب إلى عمله ثم سيجتمع الجميع في المساء لسماع ما سيقوله علي

 

وعندما استيقظ علي من النوم وجد أحمد ينتظره بعد أن أعد الطعام فستأذن منه لصلاة الظهر ثم تناول معه الطعام دون أن يعطي أحمد إجابة شافية على ما سينوي القيام به ، ولكنه أخبره أن الحديث المهم سيكون في المساء أمام الجميع .. ولكن أحمد حاول أن يدير دفة الحديث من ناحية أخرى فهتف مازحاً كأنه تذكر شيء :

- قال لي مجدي : أنك دفعت في لوحة موجودة في مكتب سارة عشرة آلاف جنيه .. هل كانت اللوحة تساوي هذا الثمن فعلاً ؟

 

أجاب علي بسرعة

- نعم .. تساوي أكثر من هذا المبلغ بكثير

 

هتف أحمد بدهشة

- هذا يعني أنها لو وافقت كنت ستدفع لها ذلك المبلغ

 

رد علي ببرود

- بالطبع كنت سأفعل وسأكون سعيداً لو قبلت ذلك

 

صمت أحمد قليلاً ثم استطرد قائلاً

– يبدو أنك تحب الفن التجريدي فعلاً .. ولكن حدثني عن تلك اللوحة وما الذي أعجبك فيها

 

مط علي شفتيه كأنه يفكر ثم قال

-اللوحة عبارة عن لون رمادي يتداخل مع درجات من اللون البني بأسلوب مثير مكونين في منتصف اللوحة سحابة قاتمة اللون فتشعر باختصار أنك أمام هراء وعبث يدفع فيه الحمقى مالاً

 

صمت أحمد قليلاً وهو يحدق بذهول في علي محاولاً أن يفهم ثم انفجر ضاحكاً وهو يقول

- لا تنسى أنك دفعت مالاً مقابل هذا الهراء ..

 

قاطعه علي وقد انتقلت إليه عدوى الضحك

- في الحقيقة لم أكن أشتري اللوحة .. بل كنت أشتري سارة نفسها من خلال اللوحة ، ولكن الخطة لم توفق لأنها ليست في حاجة إلى المال .. ربما تتصل بي إن أثرت فيها كلمات الإطراء التي قلتها بحقها لتوفر عليّ إيجاد طريقة في استضافتها

 

تمتم أحمد باستغراب

- هذه تحتاج لتفسير .. كيف تشتري سارة من خلال اللوحة ..ولماذا ؟

 

أجاب علي باهتمام

- لنفرض أنك ذهبت للبقال الذي أسفل هذه البناية ، وقلت له : سأعطيك خمسون جنيهاً نظير أن تعطيني معلومات عن مجدي ماذا سيكون رده ؟

 

همس أحمد في حيرة

- لا أدري ماذا ستكون ردة فعله .. فقد يتوجس مني ويرفض ذلك أو يقبل .. أعتقد أن هذا يعود لطبيعة البقال ونفسيته

 

قال علي موضحاً

- لكن لو أنك أخرجت الخمسون جنيهاً وأخذت تشتري بها بعض أنواع حلوى الأطفال وأنت تحكي له عن طلبات الأطفال وحبهم للحلوى .. من المؤكد أنه سيتجاوب معك لأنه من مصلحته أن يبيعك .. وهذا التجاوب سيولد جو من الألفة يجعلك تفتح معه الموضوع الذي تشاء وتسأله ما تريد بعد أن تكون قد تعرفت على نفسية البقال جيداً

 

هز أحمد رأسه متفهماً ثم قال

- هذا يعني أنك أردت من خلال حديثك عن شراء اللوحة التعرف على نفسية سارة

 

أجاب علي

- في الحقيقة أردت معرفة أشياء كثيرة غير نفسية سارة .. ففي البداية ظننت أن خلف اللوحة كاميرا مراقبة ولقد ساعدني الاقتراب منها تفحص أهم جزء في جدار المكتب جيداً .. بل وتفقد كل جزء في المكتب وأنا أنظر للوحات والأشكال الموجودة في كل ركن باهتمام وكأني معجب بها .. ولو وافقت تلك الأفعى على بيعي اللوحة كان سيمنحني ذلك اللقاء بها أكثر ودخول هذا المكان مرة أخرى بحجة شراء اللوحة فمن الطبيعي أن لا أحمل مبلغاً كهذا في جيبي الوقت الذي حدثتها فيه عن شرائها ..

 

شبك أحمد أصابعه واستنتج قائلاً

- هذا يعني أن عرضك كان من أجل إنشاء نوع من العلاقة يتيح لك فرصة العودة إلى المكان مرة أخرى من دون شكوك ؟

 

هز علي رأسه موافقاً ثم قال

هذا صحيح .. ولكنها وفرت عليّ الكثير حين أخبرتني عن المكان الذي نشأت فيه ومن المؤكد أنه نفس المكان الذي يذهب إليه فواز كثيراً .. المهم الآن كيف نعزلها عنهم

 

غمغم أحمد متوجساً

– ولكن ألا يعني ذلك أن ما قامت به يعد خطأ في عالم المحترفين

 

أسند علي ظهره إلى مسند الكرسي ثم قال

– هي لم ترتكب خطأ حسب وجهة نظرها فهي لم تقل شيء يّخفى عن الأمن المصري لو أراد معرفته .. و إن كان لديها شك تجاهنا فمن المؤكد أنها ستعتبرنا من أجهزة الأمن .. لذلك كانت تتحدث بتلقائية وبشكل عفوي في أمر عادي دون أن تدري أنها وفرت علينا الكثير من الوقت بعد أن فشلنا في معرفة المكان الذي كانت تعيش فيه تحديداً ..

 

 

في المساء أجتمع علي بكل من أحمد ومجدي وعلاء ليطلعهم على خطته قائلاً :

-باختصار شديد الخطة مبنية على حجز سارة أولاً في مكان نتحفظ فيه عليها .. ثم من بعد ذلك قتل فواز و ميخا .. وبعد أن يتحقق هذا بإذن الله نسلم سارة وكل ما لدينا من معلومات وتسجيلات إلى جهاز أمني مناسب كي يتابع بقية أذرع الشبكة ، وسيكون متوفراً لديهم شخصية مهمة في الشبكة متمثلة بسارة ومعلومات كثيرة من خلال التسجيلات وما سأرفقه من معلومات حصلنا عليها وحتى الاستنتاجات منها

 

انعقد حاجبا علاء وهو يقول باهتمام

- حسناً يا علي خطتك ممتازة .. ولكن ألا يمكن الإبقاء على فواز وميخا أيضاً أحياء فقد يكون لديهما معلومات مهمة لا تعرفها سارة ونكون بذلك قضينا على مصدر مهم من المعلومات

 

صمت علي للحظة محاولاً أن يضبط أعصابه لكي يخرج حديثه هادئاً ثم أردف قائلاً :

- سارة لا تقل أهمية عن فواز في الشبكة ولقد لحظت أنت مدى نفوذها وسيطرتها على ميخا الذي يعتبر رجل فواز الأول في تنفيذ عملياته المهمة حسب ما حصلنا عليه من معلومات ، وهذا يعني أن الأمن المصري إن أراد العمل بشكل جاد سيكون لديه مصدر رئيسي من المعلومات متمثلاً بسارة التي من المؤكد أنها ستعترف بمجرد مواجهتها باعترافات صفوت ومن خلال التحريات التي سيقومون بها .. أما ترك فوزا وميخا أحياء ! فهذا المستحيل بعينه ولن أتنازل عنه حتى لو كلفني ذلك حياتي

 

- اطرق علاء برأسه قليلاً ثم همس قائلاً

- لدي من الأسباب ما يحبذ قتل فواز وميخا وحتى وسارة بدلاً من تسليمهما لأجهزة الأمن.. ولكني أردت طرح هذا الافتراض كي أعرف وجهة نظرك فأنت تسبقني بالكثير من المعلومات عن هذه الشبكة ..

 

هتف مجدي مقاطعاً

- وما هي الأسباب التي تجعلك تفضل قتلهم جميعاً على تسليمهم للأمن ؟

 

أجاب علاء بأسف واضح

- ما لديكم من تسجيلات وأدلة ومعلومات كلها ليست قانونية وبإمكان أي محامي صغير أن يخرجهم جميعاً لعدم وجود أدلة قانونية أو حالات تلبس بتلك الجرائم ، وأقصى ما يمكن أن تفعله بهم النيابة هو أن تفرج عنهم بكفالة مالية مع استمرار التحقيق .. ومن المؤكد أنهم سيغادرون مصر إن شعروا بتضييق الخناق عليهم ..

 

تدخل أحمد قائلاً

- وماذا عن قانون الطوارئ ؟ .. فالحديث هنا عن أمن دولة وجرائم ضخمة فيها ذبح أطفال ونشر لمرض الإيدز !

 

طلب علاء من مجدي أن يجيب أحمد .. فقال مجدي موضحاً :

– قانون الطوارئ يتم اللجوء إليه إن تعلق الأمر بشيء يمس النظام أو سياسة الدولة .. ففي هذه الحالة فقط يختلف التعامل مع القضية وعندئذٍ يمكن اعتقال الجميع وذويهم وجيرانهم وزملائهم في الدراسة وكل من له علاقة بهم دون أن يكون هناك أي أدلة أو أمر من النيابة العامة .. بل ويستخدم في ذلك كل ما يمكن أن يأتي بمعلومات من اغتصاب واستخدام الكهرباء والكي بالنار أثناء التحقيق لمجرد الاشتباه .. حتى أنهم يلجئون أحياناً لاعتقال أطفال رضع بأمهاتهم إن فر أحد المشبوهين للضغط عليه كي يسلم نفسه ..

 

قاطعه علاء قائلاً

- ما أخشاه أن يتم الإفراج أيضاً عنهم حتى بعد اعترافاتهم إن تدخلت جهات من السفارة الإسرائيلية أو الأمريكية .. وهذا من الممكن جداً أن يحدث إن لم يعرف الرأي العام المصري بهذه القضية ..

 

قاطعه علي بضيق

- كفى يا علاء لقد أصابني حديثك بإحباط شديد وإن كنت أعرفه من قبل وأعرف العبارة المقيتة التي يقولونها بعد إطلاق سراح من يتم إلقاء القبض عليهم بالرغم من الجرائم الخطيرة التي يرتكبونها

 

هتف مجدي بأسف

- نعم .. تقصد عبارة من أجل الأمن القومي وسياسة الدولة العليا !

 

قال أحمد وهو يلوح بيده بأسلوب مسرحي

- الأمن القومي ، الأمن الغذائي ، الأمن الداخلي والخارجي .. كلها عبارات مبهمة القصد من ورائها استخفاف عقول الشعب كي يزداد الفراعين طغياناً ..

 

صاح علي بعد أن أصابه الضيق أكثر

- كفى أيها الأخوة .. لسنا هنا بمعرض الحديث عن سياسة النظام .. لنعود إلى موضوعنا كي لا يضيع الوقت سدا

 

شرح علي تفاصيل الخطة لأفراد المجموعة وطلب من أحمد أن يبلغ حسن بأن يستعد جيداً لأنه سيستضيف في مزرعته أفعى من النوع السام ، شرط أن لا يعطيه تفاصيل زيادة .. وفي اليوم التالي كان علي ومجدي ينتظران بجوار البناية التي تقطنها سارة في انتظار قدومها بسيارتها بعد انتهاء عملها في الصالة الواقعة في نفس الحي .. ولكن سارة تأخرت عن موعدها المعتاد فاضطرا تأجيل ذلك ليوم آخر بسبب شروق الشمس ، وفي المحاولة الثانية وصلت سارة في موعدها المعتاد -الثالثة صباحاً – وقبل أن تنزل من سيارتها أوقف مجدي سيارة علاء بجوارها تماماً مدعياً أنه يسأل عن أحد الشوارع وقبل أن تجيبه سارة كان علي يفتح الباب المجاور ويدخل إلى سيارتها وعندما حاولت الهروب منعها التصاق السيارة التي يقودها مجدي من فتح الباب المجاور لها ، ولأنها كتمت أنفاسها كي لا تشم الرذاذ المخدر الذي رشه علي على وجهها اضطر الأخير لضربها على مؤخرة رأسها كي تفقد الوعي ثم قاد السيارة لوحده باتجاه مزرعة حسن خارج مدينة القاهرة بينما تجلس هي بجواره كأنها نائمة

 

كان أحمد وحسن بانتظار علي في المزرعة وعندما وصل علي بالسيارة هتف أحمد قائلاً

- حمداً لله على سلامتك .. كيف سارت الأمور معك ؟

 

أجاب علي الذي بدا مرهقاً للغاية وبالكاد يستطيع الوقوف على قدميه

- في البداية حاولت الفرار بعدما فشلت في تخديرها بالإسبريه الذي أحضره صاحبنا .. ولكن المشكلة أنها كانت تستعيد وعيها بسرعة أثناء الطريق ، فكنت أضطر لرش المزيد من الرذاذ المخدر على وجهها كي لا أضطر لضربها ، ويبدو أنه بسبب النوافذ المغلقة تأثرت أنا أيضاً بهذا المخدر وأخذت أشعر أنني سأغيب عن الوعي وأنا أقود السيارة وكانت معجزة من الله ان استطعت الوصول إلى هنا

 

سلم حسن على علي وعانقه بشوق وهو يقول

- الحمد لله أنك وصلت أخيراً .. لولا أنك تحدثت لما عرفتك .. كيف استطعت تغيير شكلك بهذه الطريقة

 

همس علي في أذن حسن وهو يقول

- سأشرح لك ذلك لاحقاً .. أما الآن ستأخذ هذه الأفعى إلى سجنك الخاص وتقوم بإحكام وثاقها جيداً كما فعلت مع عنتر بالضبط ، و أحذر أن تستعيد وعيها قبل أن تقيدها جيداً .. فيبدو أنها مدربة تدريب عالي ..

 

قال علي عبارته الأخيرة وهو يبتسم بصعوبة فقاطعه حسن قائلاً

- هل تخشى أن تأخذني رهينة لديها وتساومكم على إطلاق سراحها ..

 

هتف علي مازحاً بصعوبة بالغة

- في هذه الحالة سأتركها تقتلك.. وبدلاً من أن تدخل الدنيا كما تقولون على يد امرأة ، تخرج منها على يد امرأة ..

 

شعر علي بثقل قدميه فاستند على مقدمة سيارة سارة بينما ذهب أحمد وحسن بسارة باتجاه غرفة المنحل وبعد عدة دقائق عادا إلى علي فسألهما

- هل تأكدتما أنها مازلت على قيد الحياة .. لأنني أخشى أن تكون كمية المخدر التي استنشقتها قد قتلتها ..

 

أجاب أحمد قائلاً

اطمئن .. كانت تستعيد وعيها ونحن نقيدها على الكرسي في الغرفة

 

هتف علي بدهشة

- تستعيد وعيها !! .. أنا بالكاد أستطيع الوقوف وأشعر بدوران شديد في رأسي بالرغم من استنشاقي للمخدر عن بعد !!

 

هتف حسن قائلاً

- واضح أنك تأثرت فعلاً بالمخدر الذي استنشقته داخل السيارة .. ولكن من الذي أحضر هذا المخدر ؟ وكيف استطاع..

 

قاطعه أحمد قائلاً

دعنا ندخل أولاً ثم نتحدث فيما سنقوم به ..

 

لوح علي بيده وهو يقول

-ليس الآن .. فقبل أن ندخل يجب أن نفتش و نفحص هذه السيارة جيداً وليتك يا حسن تحضر جهاز الراديو الصغير كي نفحص إن كان في السيارة جهاز تتبع أو تنصت كما فعلنا مع سيارة عنتر .. ولكن هذه المرة أرجو أن يكون الفحص بدقة أكبر لأن سارة شخصية مهمة في الشبكة

 

و بعد أن انتهوا من أمر السيارة وقاموا بفصل البطارية عنها .. طلب علي من حسن أن يعتني بسارة وأن لا يتحدث معها إلا في أضيق الحدود وأن لا يجيب على أي سؤال تسأله مع إبقاء الكيس الأسود على رأسها بشكل دائم .. وعندما ذهب حسن ليتأكد من استعادة سارة وعيها بشكل كامل ، اقترح أحمد التحقيق مع سارة ولكن علي رفض ذلك وقال أنها ستعرف صوته وستعرف صوت أحمد أيضاً بحكم أنها مدربة ، ولأنها حفظت شكله وشكل علاء ، فباستطاعتها أن تعطي تفاصيل الملامح لأي رسام خبير من الذين يعملون مع الأجهزة الأمنية وقد يتسبب ذلك في فتح ثغرة يستطيعون الوصول إلى الجميع من خلالها ..

 

كان علي حريص على أن لا تشاهد سارة أي فرد من أفراد المجموعة وكان اقتراح علاء أن يتنكر علي ومجدي قبل أن يقوما باختطاف سارة ولقد ساعدهم علاء في ذلك لبراعته في هذا المجال الذي تدرب عليه جيداً ثم وضع لوحات رقمية مزيفة على السيارة قبل أن يقودها مجدي

 

في نفس اليوم عاد علي وأحمد إلى القاهرة و حاول علاء أن يعرف أين أخفوا سارة ولكن علي رفض أن يخبره لأنه لا يريده أن يتعرف على بقية المجموعة ولا أن يعرفوا هم أيضاً خبر انضمام علاء لها لعدم الحاجة لذلك .. وبعد أن ذهب أحمد إلى عمله كالمعتاد سأله علي قائلاً

- هل وصلت لشخص يستطيع أن يتولى القضية بشكل جيد .. أم أنك مازلت تبحث ؟

 

غمغم علاء وهو يقلب كفيه قائلاً

- في الحقيقة هناك ضابط ممتاز برتبة مقدم عملت معه في السابق في إحدى القضايا في دولة إثيوبيا .. ثم تم تحويله مؤخراً إلى عمل إداري في مكتب التنسيق بين المخابرات العامة وبقية الأجهزة الأمنية في الدولة وهو ضابط كفؤ لهذه المهمة

 

سأل علي باهتمام

- هل عمله هذا معلن أم انه يتخفى تحت ستار ما

 

أجاب علاء

- أعتقد أنه ما يزال يحتفظ بالغطاء السري .. فالجميع يتوقع له أن يعود لعمله السابق لكفاءته النادرة ..

 

قاطعه علي مازحاً

- في الاستيراد والتصدير أيضاً ؟

 

ضحك علاء وهو يجيب

- بل طيار مدني .. فهو يستطيع قيادة كل أنواع الطائرات التي تخطر لك على بال ..

 

رفع علاء حاجبيه بدهشة وهو يقول

- آخر شيء يمكن أن أتوقعه !.. ولكنه غطاء ممتاز يمنحه حرية الحركة في أي دولة دون أن يلفت الانتباه

 

استمر الحديث بين علي وعلاء عن ذلك الضابط ، و وافق علاء أن يقوم علي بزيارته في منزله بعد أن يتم القضاء على فواز وميخائيل ، ولقد أصر علي أن يقوم بالقضاء عليهما بنفسه دون أي مساعدة و مكتفياً باتصال مجدي الذي يرابط بالقرب من الصالة متنكراً في هيئة بائع جوال ومنتظراً منه رسالة على هاتفه النقال يخبره فيها أن فواز يتواجد بصالة الديسكو.. وبينما كان علي مسترخياً على أريكة في منزل مجدي غفلت عيناه قليلاً ثم استيقظ على جرس هاتفه النقال وكانت الرسالة المختصرة من مجدي تعني أن فواز أصبح فعلاً في الصالة

 

أخرج علي المسدس المزود بكاتم الصوت والذي حصل عليه أثناء اقتحام فيلا صفوت وبعد أن تأكد من جاهزيته ، طلب من علاء أن يوصله إلى الحي الذي تقع فيه صالة الديسكو ثم يذهب بعد ذلك إلى عمله مباشرة و أخبره أنه سيزوره في العمل هو و مجدي بعد إنهاء المهمة مؤكداً له أنها لن تأخذ الكثير من الوقت

 

ترجل علي من سيارة علاء ثم تحرك علاء بسيارته متجهاً إلى عمله - بناءً على رغبة علي - بعد أن دعا له بالتوفيق والسداد .. وعندما شاهد علي مجدي متنكراً في هيئة رجل مسن يبيع بعض السبح و زجاجات العطر الصغيرة أشار له بحركة متفق عليها بأن يغادر المكان ولقد امتثل مجدي وقام بجمع الأشياء التي يعرضها للبيع وفور مغادرته للمكان مستقلاً إحدى سيارات الميكروباص دخل علي الصالة وهو يهمس في نفسه قائلاً : بسم الله توكلت على الله ولا قوة إلا بالله

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

لم يكد علي يطأ أرض الصالة بقدميه ، حتى شعر بمزيج من المشاعر المختلطة التي أخذت تتنامى في أعماقه شيئاً فشيئا .. للوهلة الأولى شعر أنه يدخل وكراً من أوكار الشياطين .. فهنا يسقط الشباب ضحايا لفكر ومنهج يخالف عقيدتهم وتقاليدهم ، وهنا يسقط الشباب في حبائل الرذيلة وبيع الشرف والضمير ، و هنا يتجرد الإنسان من إنسانيته ويتحول إلى مسخ شيطاني بعد أن يسلم نفسه طوعاً لمردة شياطين الإنس و مروجي الفجور ..

 

ثمة شعور قوي أخذ يتعاظم في قرارة نفسه وهو يجول ببصره في أرجاء المكان بأن إبليس اللعين يقعي في أحد أركان الصالة و يراقب بابتسامة شامتة بني الإنسان وهم ينقادون طوعاً له وبرغبة منهم .. و لبرهة من الوقت تخيل علي أن حركات الرقص التي يقوم بها الشباب ما هي إلا تعظيم لهذا الشيطان الرجيم ..

 

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

همس بها علي بصوت منخفض عندما وصل تفكيره لهذه النقطة .. قبل أن يقترب منه أحد رجال الأمن المسئولين عن الصالة وهو يهمس وكأنه يخشى أن يشاهده أحد

- سيدي .. أرجوك غادر هذا المكان ، فذلك الرجل يضمر لك الشر .. لقد سمعته قبل قليل وهو يقول لرجاله أنه لن يتركك تخرج من هنا على قدميك هذه المرة

 

أراد علي أن يعقب على كلمات رجل الأمن ولكن الرجل ابتعد مسرعاً ، فما كان من علي إلا أن توجه نحو ميخا الذي يقف هو و رجلين بدا أنهما من نفس جنسيته حول طاولة البلياردو مباشرة .. و عندما اقترب علي منهم اتسعت ابتسامة ميخا لتشمل كل وجهه الضخم ، فهمس علي في نفسه قائلاً : أعدك أن يكون هذا اليوم هو آخر يوم تبتسم فيه

 

- هل جئت لتشتري الحي هذه المرة أيها الثري خفيف الظل ؟

قال ميخا جملته ثم أخذ يضحك وتبعه في ذلك الرجلين الآخرين

 

ابتسم علي بثقة وهو يدفع بيده إحدى كرات البلياردو لتصطدم بالأخريات ثم أجاب بهدوء ساخر

- ربما لديكم ما تشتروه مني ..

 

أثارت حركة علي غضب أحد الرجلين اللذين يقفان بجوار ميخا فاندفع نحو علي غاضباً ، لكن ميخا أوقفه وهو يصيح قائلاً

- إياكم أن يتعرض له أحد .. فهو لي وحدي ..

هتف علي بتهكم ممزوج بسخرية مسرحية وهو يقاطع ميخا:

- أرجوك يا سيد ميخا اصفح عني .. فلم أكن أعلم قدر شأنك الوضيع حين ضربتك ..

 

ضحك ميخا بصوت عال لدرجة أن جسده أخذ يهتز أثناء ضحكه بشدة ، ثم قطع ضحكته وهو يضم قبضته أمام وجهه ويعض على شفته السفلى بغضب قائلاً :

- سأشتاق كثيراً لسماع سخريتك وأنا أبعثرك في الهواء و ..

 

قاطعه علي هذه المرة و رسم الجدية على وجهه بشكل مفاجئ و قال بحزم

- توقف أيها الغبي عن هذه الأفعال الصبيانية .. فلدي معلومات مهمة عن الجهة التي اختطفت سارة ويجب أن أقابل فواز فوراً وبأسرع ما يمكن

 

نزلت عبارة علي على ميخا كالصاعقة فامتقع وجهه بشدة من المفاجأة و سأل باستنكار :

- ماذا قلت ! .. سارة مخطوفة ؟ .. من خطفها ؟

أجاب علي بنبرة متعجلة وبشكل جاد وصارم

- لا تضيع الوقت في أسئلتك السخيفة أيها الغبي وأخبرني أين أجد فواز لأخبره بسرعة .. فكل دقيقة تمر ، تعرض حياة سارة للخطر وقد لا نستطيع إنقاذها إن تأخرنا أكثر من ذلك

 

بدا الارتباك والتوتر واضحين على وجه ميخا وهو يقول

- حسناً تعال معي ..

 

سار ميخا وخلفه علي ولحق بهما الرجلان الآخران ، وما أن فتح ميخا باب المكتب حتى انتفض فواز واقفاً من خلف مكتبه وهو يقول بعصبية ناظراً نحو علي

- ألم أقل إنني لا أريد أن أقابل أحداً و..

 

قاطعه ميخا بسرعة ولهفة وهو يشير نحو علي

- هذا الرجل يقول أن سارة قد خُطفت و أنه يعرف مكانها ..

قال فواز بدهشة كبيرة

- خُطفت !

تدخل علي قائلاً بحزم وجدية

- هل سنقف على الباب هكذا ؟.. ما سأقوله خطير للغاية ويجب أن لا يسمعنا أحد حرصاً على حياة سارة

 

تلعثم فواز وهو يأمر ميخا بارتباك أن يغلق الباب ، وقبل أن يفعل دلف رفيقيه داخل المكتب فعلق علي قائلاً

- قلت لك لا أريد أن يسمعنا أحد ..

قاطعه فواز بانفعال

- ميخا ذراعي اليمنى وهذان الرجلان لا يفهمان العربية .. فهيا تحدث بسرعة وقل لي كيف عرفت أن سارة مخطوفة

مط علي شفتيه متذمراً ثم قال

- ألا يستحسن أن يقفا بالخارج بدلاً من أن يأتي أحدهم ويستغل وجود الجميع هنا و ينصت لما سأقوله ؟

 

بدأ صبر فواز ينفذ و لوح بيده بعصبية وانفعال قائلاً :

- اطمئن .. المكتب مزود بجدران عازلة للصوت ، وهؤلاء رجالي ولا خوف منهم .. والآن هيا أخبرني بسرعة أين اختفت سارة ومن هي الجهة التي خطفـ..

 

بتر فواز عبارته بشكل مفاجئ عندما أطلق علي رصاصتين من مسدسه الذي أخرجه بسرعة وبشكل مفاجئ.. وقبل أن يمتد ذراعه للنهاية كان الرجلان اللذان يقفان عند الباب يسقطان أرضاً بعد أن اخترقت الرصاصتان جبهتيهما.. و بينما كان ميخا يمد يده ليستل خنجره تحركت قدم علي بسرعة ليضربه بقوة وعنف بمقدمة حذاءه في حنجرته

 

أصيب فواز بحالة من الذهول والذعر الشديد وهو يتنقل ببصره بين الرجلين اللذين سقطا أرضاً دون أن يصدر منهما صوت واحد وميخا الذي جحظت عيناه وامتقع وجهه بشدة وهو يضع يده على عنقه من الألم.. فأخرجه علي من ذهوله وهو يقول بهدوء شديد سمعه فواز بصعوبة بسبب الصوت الشبيه بخوار الثور الذي يصدره ميخا

- طلبت منك أن تخرجهما من الغرفة فأخرجتهما بطريقتي من الدنيا

 

كان فواز يرتجف بخوف و ذعر شديدين مما أثار اشمئزاز علي و هو يستمع إليه عندما قال

- من أنت أيها الرجل وماذا تريد مني ..

 

هتف علي بصرامة مخيفة جعلت فواز يتجمد رعباً أمام نظراته القاسية

- اجلس أيها الحقير ودعني أرى يدك ممدودة باستمرار على سطح المكتب .. وإياك أن تصدر منك حركة مريبة حتى لا أجعلك تلحق بكلبيك

 

جلس فواز على الفور وهو يتحاشى النظر في عيني علي الذي استطرد بهدوء قائلاً

- بقتلك يا فواز أكون قد أخذت بثأر صديقي عبد الله بعد أن قتلت عنتر وصفوت وأختك سارة

هتف فواز بذعر

- هل قتلت أختي سـ

 

بتر فواز عبارته أثر صرخة أطلقها ميخا الذي حاول أن يستجمع قواه فعاجله علي بطلقة أصابت مفصل ركبته فسقط أرضاً وسط مجموعة من الصناديق الخشبية الصغيرة بدا أنها مغلقة بعناية .. فسار علي باتجاهها بهدوء غير مبال بصرخات ميخا وسبابه وسأل فواز

- ماذا تخفي أيها الشيطان داخل هذه الصناديق ؟

 

هتف فواز وقد بلغ به الذعر مبلغه

- إنه وسكي .. مجرد نوع من الويسكي الفاخر ..

 

هز علي رأسه وكأنه ينفض شيئاً ما عنه ، ثم قال مستغرباً

- لا أصدق أنني أمام ضابط موساد .. تمالك نفسك يا رجل فأنت بهذا الخوف والهلع تُسيء لسمعة جهازك الذي تفتخرون بشجاعة رجاله ..

هتف فواز وهو يرتجف وبدا أنه سيذوب في كرسيه من الخوف

- من المؤكد يا سيدي أنك مخطئ في العنوان .. فأنا حتى اللحظة لا اعرف ما الذي تريده مني بالضبط .. ومن هو صديقك الذي تقول أنني قتلته وما دخلي بالموساد ..

 

غمغم علي وهو يتفادى حركة يائسة من قدم ميخا الذي مازال يسعل ويبصق دماً واضعاً يده على عنقه بالرغم من إصابته في ركبته برصاصة

- يبدو أن ميخا أكثر شجاعة منك .. فهو مازال يقاوم مع ما يشعر به من ألم

 

هتف فواز بعد أن استجمع شجاعته

– إن كان بينك وبين ميخا حساب فتستطيع تصفيته معه وقتله إن شئت .. فأنا لست مسئولا عن أفعاله

 

نظر علي بازدراء نحو ميخا الذي عدل من جلسته وأخذ ينظر لعلي بكل حقد الدنيا و وجهه وملابسه ملطخة بالدماء ، ثم وجه له علي الحديث باللغة العبرية قائلاً

- هل رأيت أيها الخنزير! .. سيدك يتخلى عنك ويدفعني لقتلك ..

 

أخرج ميخا من فمه كمية كبيرة من الدماء قبل أن يقول بصعوبة بنفس اللغة

- اذهب إلى الجحيم ..

تجاهل علي عبارة ميخا ووجه حديثه لفواز وهو يشير بيده نحو ميخا

- ما هي رتبة هذا الخنزير في جهازكم ..

 

هتف فواز قائلاً

- أنت مخطئ أيها السيد .. لا علم لي بما تقوله ولا علاقة لي بأية اجهزة

صمت فوز قليلاً ثم أراد المتابعة وهو يُشير بيده نحو ميخا ، ولكنه ما كاد أن يفعل ذلك ، حتى انطلقت من مسدس علي رصاصة مكتومة أصابت مرفق يده فجعلته يصرخ من شدة الألم وهو ينظر ليده التي تدلت من معصمها و أخذت ترتعش بشدة .. فعلق علي وهو يلوح بمسدسه قائلاً

- ألم أحذرك ألا تحرك يدك من على سطح المكتب أبداً ..

 

انكمش فواز في مقعده ووضع يده السليمة على يده المصابة التي سالت منها الدماء بغزارة على سطح اللوح الزجاجي الموضوع على المكتب ، ثم أخذ يهز رأسه ببلاهة وخوف متفهماً تعليق علي بعد أن تأكد له أنه لا يتردد في إطلاق الرصاص

 

كان جو المكتب أشبه بمكان حدثت فيه مجزرة بسبب دماء الرجلين القتيلين ودماء ميخا وكذلك الدماء التي تنزف من يد فواز دون أن يجرؤ على وقف نزيفها .. مرت لحظات من الصمت المرعب وعلي يجول ببصره في أرجاء المكتب ، ثم نظر لفواز قائلاً بحزم وهو يصوب مسدسه نحوه

- هل تذكر الشاب الذي أحضره لك صفوت بعد أن استدرجه عنتر ؟

 

هتف فواز بسرعة وكان واضحاً لعلي أنه يكذب

- أقسم بكل مقدس أنني لا أعرف عن ماذا تتحدث

مط علي شفتيه وزفر بضيق كأنه أصابه الملل .. ثم قال وهو يلوح بمسدسه

- بقي في هذا المسدس عشر رصاصات سأبدأ في إطلاقها على خنزيرك السمين هذا وأرجو أن تعرف عن ماذا أتحدث قبل أن أطلق الرصاصة التاسعة على رأسه والعاشرة في رأسك أنت

 

لم يعلق فواز واكتفى بالنظر لميخا تارة ولعلي تارةً أخرى ولكن علي هز رأسه آسفاً ثم أطلق الرصاصة الأولى على ركبة ميخا السليمة فانتفض و هو يصرخ من شدة الألم فأعقبها علي برصاصة ثانية في مفصل كتفه الأيمن ثم ثالثة في مفصل كتفه الأيسر

 

كان علي يطلق رصاصته وهو يعدها بهدوء شديد و بدا أنه يستمتع بهذا العمل وهو يرسم على وجهه ابتسامة لا مبال بصرخات ميخا التي يطلقها عقب كل رصاصة وقبل أن يهتف بالرقم أربعة ، صاح ميخا منهاراً وأخذ يقول بيأس وانفعال

- نعم أيها الوغد ، أنا من قتلت صديقك ولقد استمتعت كثيراً وأنا أرسم على صدره نجمة دفيد بخنجري وهو حي .. وأعلم أنك جئت إلى هنا كي تقتلني ، فلقد رأيت ذلك في عينيك ولكني كذبت ظني ، فقد كان علي أن أقتلك وأن لا أستجيب لهذا الأحمق وأخته المغرورة عندما تعرضت لي

صمت ميخا للحظة وأغمض عينيه من شدة الألم ثم قال بتحدي واضح

- هل تريد أن تقتلني الآن ؟ .. هيا افعل ماذا تنتظر .. اقتلني واقتله معي ، فهو من أصدر لي الأوامر

 

كاد فواز أن يسقط مغشياً عليه عندما نظر علي نحوه بكراهية شديدة ولكنه ظل صامتاً ولم يعلق فقال علي بصوت فيه رجفة من شدة الغضب :

- ما قولك أيها الحقير .. هل تريد الرصاصة في رأسك أم في قلبك ؟

 

حاول فواز عبثاً أن يستجمع شجاعته ولكنه لم يستطع ثم قال برجاء

- هل سمعت ؟ .. لست أنا من قتله .. اسمعني جيداً .. أستطيع أن أعطيك الكثير من المال .. أكثر مما تتصوره وتحلم به .. بل تستطيع أن تأخذني رهينة وتفاوض عليّ كي يطلقوا سراح رفاقك من السجون .. أقسم لك أنني ضابط يهودي مهم في الموساد اسمي أفرايم إزاك ، ولست مصري خائن كما تتصور .. أرجوك أنصت إليّ وحكم عقلك جيداً ، فموتي لن يفيدك في شيء ، بل الإبقاء على حياتي سيكون أكثر فائدة .. وسأكون مستعداً أن ..

 

بتر فواز عبارته بغتة عندما أشار إليه علي بالصمت ثم ألقى نظرة على ميخا وصوب مسدسه نحو رأسه بهدوء شديد وأطلق رصاصة استقرت بين حاجبيه فأردته قتيلاً على الفور ، ثم نظر نحو فواز الذي انكمش في كرسيه وأخذ يتمتم بكلمات عبرية غير مفهومة يخالطها البكاء الشديد فسأله بحزم وصرامة

- وكيف أقنعت الجميع أنت وأختك أنكما مصريان ؟

 

لم يصدق فواز نفسه عندما بادره علي بهذا السؤال ، فقد كان على قناعة أنه سيطلق الرصاص على رأسه هو أيضاً ولكنه وجد في إجابة سؤال علي فرصة جديدة قد تمنحه بضع دقائق أخرى من الحياة

 

تحدث فواز عن أسرة بدوية كانت تسكن في بئر السبع ثم اضطرت للفرار إلى مصر بسبب ثأر على رب هذه الأسرة ، ولكن الموساد قام بتصفية هذه الأسرة و بعد سبع سنوات جهز مجموعة من أفراده انتحلت شخصيات أبناء تلك الأسرة والتي كان من ضمنها فواز وسارة وضابط كبير في الجهاز مثل دور الأب ، واستطاع هذا الضابط خداع قبيلة صغيرة تسكن بالقرب من رأس شيطان في جنوب سيناء ، ثم سيطر بسرعة على تلك القبيلة بالمال وما قام به من مشاريع حتى أصبحت تحمل اسمه الوهمي

 

وعن طريق المال أيضاً ، استخرج بطاقات هوية مصرية لكل من فواز وسارة على أنهما (ساقطي قيد ( بما أنهما من البدو ، ثم حصل كليهما على الجنسية الأمريكية بمساعدة عجوز أمريكي ثري وأصبحا في نظر القانون المصري مصريان يحملان الجنسية الأمريكية حتى لا يتعرض لهما أحد من الأمن المصري لما لهذه الجنسية من شأن عظيم لدى الأجهزة الرسمية في مصر والدول العربية

 

وعندما سأله علي عن سبب استدراجهم لعبد الله .. أخبره أن الخطة كانت تقتضي استدراج شخصية مهمة في الكتائب وردت عنها معلومات أنها تتواجد في سيناء للبحث عن سلاح مضاد للدروع ، وكانوا يظنون أن عبد الله له علاقة به ولكنه استفز ميخا أثناء الاستجواب فقتله الأخير مخالفاً للتعليمات التي اقتضت الإبقاء عليه حيا ، فما كان منهم إلا أن ألقوا بجثته في سيناء كي لا يفكر أحد من تجار السلاح أو من الفصائل الفلسطينية في الحصول على هذا السلاح الخطير بالنسبة للجيش الصهيوني والهام بالنسبة للمقاومة

 

استمر فواز لمدة ساعة يجيب عن كل الأسئلة التي سألها له علي وحين كان يرن جرس هاتفه النقال أو الهاتف الموجود على المكتب كان علي يمنعه من أن يرد ، ولكنه أثناء الحديث غاب عن الوعي وسقط مغشياً عليه بسبب كمية الدماء الكبيرة التي نزفت منه ..لكن علي لم يحاول إيقاظه وشعر أنه قضى مدة طويلة أكثر من اللازم داخل الصالة و لذلك صوب مسدسه باتجاه رأس فواز وأطلق منه رصاصتين أصابتا الهدف

 

ساد صمت كئيب داخل غرفة المكتب التي تناثرت فيها جثث القتلى ، وشعر علي أنه سيتقيأ بسبب الرائحة الكريهة المنبعثة من الدماء في الغرفة ، فقرر مغادرة المكتب دون أن يفتشه وقبل أن يغادر أخرج من جيبه بضعة رصاصات وأخذ يحشو خزنة مسدسه .. وأثناء عمله هذا ، لفتت نظره تلك الصناديق التي قال عنها فواز أنها أحد أنواع الويسكي ، فأثارت فضوله وأرد أن يستطلع ما بداخلها ، وعندما تيقن من أنها فعلاً زجاجات من الخمر بعد أن شمها ، قام بسكب محتوياتها على جثة ميخا ، ثم فتح بقية الزجاجات الموجودة داخل الصندوق الذي فتحه وسكب ما فيها من خمر في كل أرجاء المكتب و أخرج من جيبه ثلاث طلقات ونزع المقذوف منها وسكب البارود الذي بداخلها على سطح المكتب وعمل منه خيطاً طويلاً كفتيل إشعال ينتهي بأوراق مبللة بالخمر ثم أشعل طرف خيط البارود بقداحة موجودة على سطح المكتب وخرج من الغرفة بكل هدوء مغلقاً الباب خلفه

 

سار علي بهدوء في الممر الذي يصل بين قاعة الديسكو ومكتب فواز وكانت الموسيقى الصاخبة تصم الأذان .. ولكنه قبل أن يصل للباب الرئيسي بأمتار قليلة انطلق صفير إنذار الحريق بصوت عال فبدأ رواد الصالة يندفعون نحو الخارج فزعين بشكل عشوائي ، كان علي يشق طريقه وسط الجموع الفارة حتى خرج من الباب وهو يهمس في نفسه قائلاً

- لمجرد إنذار حريق فزعتم كل هذا الفزع !! ..أليس الأولى بكم أن تفزعوا من إنذار نار وقودها الناس والحجارة !

 

كان مجدي في قمة التوتر والانفعال عندما عاد علي إلى المنزل وبعد أن رد السلام حاول أن يستوضح منه عما حدث إلا أن علي قاطعه قائلا

- كل شيء سار على ما يرام والحمد لله .. أما الآن فاتركني اغتسل أولاً ، ثم نخرج لمقابلة علاء وهناك سأتحدث عن التفاصيل بشكل يرضي الفضول الواضح في عينيك ..

قطب مجدي حاجبيه ثم علق قائلاً

- أقسم أنك لو كنت مكاني لما تركتني قبل أن تعصر الكلام مني عصراً .. فلم لا تقدر حالي وتخبرني ولو بشيء يسير عما حدث ..

غمغم علي مازحاً وهو يفرغ ما بجيوبه ويضعه على المنضدة

- أشم رائحة تمرد وعصيان تلوح في الأفق .. ذكرني أن نتحدث عن هذا أيضاً ..

قال علي عبارته الأخيرة ثم توجه نحو الحمام فهتف مجدي قائلاً

- دقيقة واحدة فقط تخبرني فيها بشكل مختصر و..

أطرق علي برأسه قليلاً ثم التفت نحو مجدي قائلاً بنبرة بدا فيها التأثر واضحاً

- هل تظن أنني سأحكي عن شيء استمتعت به .. إن ما قمت به شيء ما كنت أتمنى أن أفعله لولا الاضطرار .. لذا دعني أتحدث عنه مرة واحدة فقط ، وسيكون هذا بحضور علاء الذي من المؤكد أنه ينتظر سماع الأخبار مثلك تماماً

غمغم مجدي قائلاً بسرعة

- حسناً كما تريد .. ولكن أسرع لأن فترة دوام علاء انتهت منذ نصف ساعة ، ومن المؤكد أنه ينتظر الأخبار على أحر من الجمر..

هز علي رأسه متعجباً هو يبتسم دون أن يعقب على حديث مجدي ثم مضى ليأخذ حمامه ويستبدل ملابسه

 

 

لم يكن علاء بأفضل حالاً من مجدي ، فقد أنهى عمله مبكراً وأخلى قاعة التدريب وجلس ينتظر قدوم مجدي وعلي حسب الاتفاق ، وعندما اجتمع ثلاثتهم ، حدثهم علي ما حدث معه بالتفصيل فعقب علاء قائلاً

- لم أكن أعرف أنك تجيد الرماية إلى هذا الحد .. فمازلت أذكر اليوم الأول الذي تقابلنا فيه هنا ، وكانت رمايتك رديئة للغاية

 

نظر علي في عيني علاء بشكل مباشر وابتسم بخبث مما جعل علاء يعلق وهو يلوح بيده قائلاً

- لا تنظر إليّ هكذا ، فأنا أعلم يومها أنك كنت تريد أن تعطيني انطباعاً بأن لا علاقة لك بالأسلحة

ربت علي على كتف علاء بود ثم قال وهو يرسم ابتسامة عريضة على وجهه

- تعال لأعلمك شيئاً لا يتم تدريسه في نوادي الرماية أو حتى الكليات العسكرية

 

سار علاء ومجدي خلف علي باتجاه منصة الرماية ثم طلب منه أن يقوم بإبعاد الشاخص الهدف إلى أبعد مسافة ممكنة وقال له :

- أرني كيف يمكن أن تصيب ذلك الشاخص من هذه المسافة بكل الرصاصات التي في مخزن مسدسك

حاول علاء أن يصوب نحو الشاخص البعيد ولكن علي كان يقف خلفه ويحرك كتفه فمنعه ذلك من الإطلاق لصعوبة التصويب فهتف قائلاً

- بهذه الطريقة لن أستطيع إصابة الهدف ..

قاطعه علي قائلاً

- حسناً .. ضع الآن مسدسك في حزامك وعندما يعطيك مجدي الأمر بإطلاق النار أخرجه بسرعة وافرغ ما فيه من رصاصات نحو الهدف

أومأ علاء برأسه موافقاً وفعل ما طلبه منه علي ، وما أن أعطى مجدي الأمر بالإطلاق حتى أخرج علاء مسدسه من مكانه وقبل أن يصوب أمسك علي بيده بشكل مفاجئ وهي قابضة على المسدس وأطلق ما فيه من رصاص نحو الشاخص الورقي ، وعندما فرغ المسدس من الذخيرة ، هتف علاء باستغراب

- لماذا فعلت ذلك ؟ ..

أجاب علي باهتمام وهدوء قائلاً

- هذا درس في الرماية لا أعتقد أن بإمكانك الحصول عليه في أي كلية عسكرية

غمغم علاء ساخراً

- درس !! ..

قاطعه علي بنفس الاهتمام

- دعنا أولاً نرى كم رصاصة أصابت الشاخص ثم نتحدث عن الدرس

ضغط علاء على مفتاح تحريك الشاخص فتحرك وقبل أن يصل إليهم تماماً ارتسمت الدهشة على وجهي علاء ومجدي فهتف الأخير متعجباً

- لو قال لي أحد هذا ما صدقته أبداً ..

 

قاطعه علاء بانبهار بعد أن قام بعد الثقوب التي أحدثتها الرصاصات في الشاخص

- شيء مذهل حقاً .. فالتسع رصاصات أصابت الشاخص من كل هذه المسافة بشكل دقيق للغاية ولا أعتقد أن رسمك بالرصاص على الشاخص لعينين وأنف وابتسامة جاء بالصدفة وكأنك رسمت بالطلقات وجهاً يبتسم .. والمدهش حقاً أنك أطلقت والمسدس بيدي ولم يكن لديك وقت كاف للتصويب قبل الإطلاق ..

هتف علي موضحاً

- لا داعي لكل هذا العجب .. فكل شيء بالتدريب يصبح ممكناً بعد أن كان في عداد المستحيلات .. كما أن المسألة أبسط مما تتصورون ..

هتف مجدي بدهشة

- أبسط ! .. ما فعلته لا يستطيع فعله بطل العالم في الرماية وبمسدس مجهز من نوع خاص ..

قاطعه علي موضحاً

- ولكن يستطيع فعله لاعب كونغ فو ويصبح مقبولاً حين يصيب بالنجوم المعدنية الحادة هدفاً بعيداً بالرغم من أنه يلقيها بيده .. أو لاعب السرك الذي يقذف الخناجر من مسافة بعيدة حول جسم إنسان دون أن يصيبه .. وهذا كله يحتاج لتدريب ..

 

غمغم علاء وهو يضع يده على ذقنه كأنه فهم ما يرمي إليه علي

- لكنك حين تلقي الخنجر نحو هدف لا يكون هناك ارتداد الطلقة الذي يمنعك من التصويب بشكل جيد بعكس الخنجر الذي يعتمد على حركة المرفق والذراع ..

 

أجاب علي بهدوء

- معك حق ، فحركة الذراع هي حركة ذاتية نستطيع التحكم بها لأن الذراع جزء من جسمنا ولكن لا تنسى أن وزن الخنجر عامل خارجي وهو يعادل هنا ارتداد المسدس ساعة الإطلاق .. وكل ما نفعله أثناء رمي الخنجر أننا نجعل ذراعنا وأصابعنا ينسجمان مع وزن الخنجر فينطلق نحو هدفه بشكل صحيح

 

هتف مجدي معلقاً

- تقصد ، أنه قبل التدريب على التصويب نتدرب على إيجاد علاقة تنسجم بها أيدينا مع ارتداد السلاح

مط علي شفتيه ثم قال

- ليس اليد فحسب .. بل الجسم كله والحركة المنتظمة للأنفاس من شهيق وزفير وكل شيء في الجسم يجب أن ينسجم مع وزن السلاح وارتداده أثناء الإطلاق .. حتى أنني لا أبالغ لو قلت :- أن خفقان القلب أيضاً يؤخذ بعين الاعتبار أثناء الرماية بالمسدس بسبب فارق السرعة الكبير بين انطلاق الطلقة ورمية الخنجر

هز علاء رأسه وهو يقول

- هذا أمر معقد للغاية ويشبه إلى حد كبير تعقيدات التاي شي

 

هتف علي وهو يحرك يده نافياً ثم قال

- لو أنني بحثت عن تفسير علمي للعلاقة بين كل هذا والرماية ربما أقضي عمري كله دون أن أصل لتعريف حقيقي ، ولذلك يكون الموضوع معقداً عند الشرح النظري فقط .. لكن لو أنك ربطت ذراعك بزنبرك ووضعت على المسدس مؤشر أشعة وألصقته بشكل معين ليمثل دور الطلقة ، ثم أخذت تحرك يدك لتصيب بالشعاع أهدافاً تحددها أنت ، ستجد يدك تنسجم تلقائياً مع وزن المسدس والحركة الخارجة عن إرادتك والتي يمثلها الزنبرك المربوط بذراعك ، ويمكنك تطبيق هذا الأسلوب في التدريب على كل أنواع الأسلحة ، وكلما كان عدد الزنبركات المربوطة في ذراعك أكثر ، ستتكيف ذراعك على الانسجام بشكل أفضل

 

غمغم علاء قائلاً

- هذا عن تكيف الذراع مع ارتداد السلاح أثناء الرماية .. ولكن دقة التصويب ترتكز على العين ، وإن لم تكن العين منسجمة مع النيشان فالتصويب لا يكون دقيقاً .. فكيف تنسجم العين مع حركة نيشان السلاح الذي يتحرك باستمرار أثناء الرماية السريعة .. كما أنه صعباً في الأهداف الثابتة ، فكيف يكون الحال إن كان الهدف متحركاً ؟

 

ابتسم علي بعد عبارة علاء الأخيرة ثم قال

- في الوقت الذي تتدرب فيه على الرماية بالطريقة التي ذكرتها ، يجب أن يكون لك رسم خاص من الدوائر المتداخلة مرقمة ترقيم الساعة تتدرب عليه ثم تحفظه في ذهنك جيداً كي تستطيع استحضاره بالخيال عند الحاجة ومن ثم تسقطه على الهدف المراد التصويب عليه ، وستجد عقلك حينها يحدد بشكل سريع لا إرادي أن هدفك في النقطة كذا من الدوائر التي حفظتها وتدربت عليها جيداً ، وعندها تتحرك السبابة للضغط على الزناد بعد أن يكون مرفق يدك قد اتخذ الوضع الذي تعود عليه عندما كان يتلقى الإشارة من الدماغ أثناء تدريبك على تلك الأرقام ، وكل هذا يحدث في أجزاء من الثانية مما يجعلك ..

 

استمر علي يشرح لعلاء ومجدي أسلوبه في التدريب على الرماية وشدد على أنهم أثناء التدريب بهذه الطريقة سيكتشفون الكثير من الأسرار التي يصعب شرحها نظرياً ، وفي اليوم التالي ، ذهب علي وأحمد إلى مزرعة حسن ثم لحق بهما مجدي الذي همس في أذن علي فور وصوله قائلاً

- طلب مني علاء أن أبلغك أن كل شيء على ما يرام وهو ينتظرك الساعة التاسعة مساء

أومأ علي برأسه ثم قال

- هذا يعني أننا يجب أن نغادر المزرعة في السابعة والنصف على أقل تقدير

 

صاح مجدي متذمراً

- ما هذه الألغاز .. وكيف فهمت ما يود قوله من هذه العبارة التي رفض أن يشرحها لي طالباً مني أن أبلغك ذلك وحسب ..

 

ضحك علي من أسلوب مجدي في الحديث و أردف قائلاً

- هذا يعني أيها الذكي أنه تم تحديد الموعد المناسب الذي سنسلم فيه سارة للأجهزة الأمنية .. فلقد اتفقنا على تسليم الأمر برمته لرجل مناسب من أجهزة الأمن ومن المؤكد أن صاحبنا تقصى عن الوقت المناسب والمكان المناسب الذي يتواجد فيه هذا الضابط كي يتسلم القضية برمتها

 

غمغم حسن قائلاً

- هل اتخذتم كافة التدابير اللازمة كي لا يتقصوا عنا ؟

 

أومأ علي برأسه موافقاً ثم أشار نحو أحمد قائلاً

- لقد قام أحمد بعمل رائع في منتجة أشرطة الفيديو ووضعها في قرص سي دي سيسهل عليهم متابعة القضية بكافة تفاصيلها ..كما أنني كتبت تقريراً وافياً عن هذه الشبكة وضعت فيه كل المعلومات التي حصلنا عليها ومن المؤكد أن هذا سيساعدهم كثيراً ويجعلهم يتحركون بصورة أكبر

 

همس أحمد قائلاً

- أرجو أن يتحركوا بالفعل فالأمر خطير جداً وينذر بكارثة إن تم السكوت عليه أو تجاهله ..

 

هتف مجدي كأنه تذكر شيء

- ما أخبار سارة ؟ ..

أجاب حسن بازدراء

- صباح اليوم ، أحضرت لها بعض الساندويتشات كي تأكل فشتمتني بكل الشتائم التي قد تخطر ببالك ، وبعد أن يئست من أن تسمع مني كلمة واحدة قالت أريد أن أتصل بسفارتي ، ولولا تحذير علي بأن لا أتحدث معها أبداً ، لكنت سألتها عن أي سفارة تقصدين .. فلم أكن أعرف أنها تحمل الجنسية الأمريكية إلا من علي حين أخبرته بهذا الأمر ..

 

قاطعه مجدي قائلاً

- يبدو أن الأفعى تظن أنها في قبضة الأجهزة الأمنية وطبعاً ستطلب محامي و مقابلة سفيرها و ..

 

همس أحمد بشيء من القلق مقاطعاً

- ستكون كارثة لو علمت السفارة الأمريكية أنها محتجزة لدى الأجهزة الأمنية وأخشى أن يصدر قرار بالإفراج عنها لعدم وجود دليل مادي ضدها أو حتى بكفالة ..

 

شعر علي بمدى قلق أحمد فطمئنه قائلاً

- لقد احتطت لهذا الأمر ، وسيساعدنا في ذلك كمية الهروين التي حصلنا عليها من عنتر .. أما الآن فلتحضروا سارة كي نضع آخر اللمسات على هذه القضية فأعتقد أنه قد مر وقت كاف كي تؤثر فيها الحبوب المنومة

 

تم إحكام وثاق سارة جيداً ووضعها في صندوق سيارتها بعد أن دس لها حسن حبوب المنوم في الماء دون أن تدري فراحت في سبات عميق ، ثم غادر أحمد بسيارته بينما صعد مجدي وعلي في سيارة سارة بعد أن ودعا حسن وأثناء الطريق سأل مجدي الذي يقود السيارة قائلاً

- متى وضعتم لها الحبوب المنومة ؟

أجاب علي

- قبل أن تأتي أنت بساعة تقريباً وضع لها حسن حبتي منوم وبحسب ما قاله لنا علاء أن أمامها عشر ساعات على الأقل كي تستيقظ وهذا وقت كاف كي تبقى هادئة في صندوق السيارة

غمغم مجدي قائلاً

- هل ستغضب لو قلت لك أنني لا أشعر بالارتياح لمجرد التفكير أننا نقيد امرأة في صندوق السيارة حتى لو كانت سارة التي نعرف ..

همس علي بازدراء

- لو تعرف ماذا يفعلون بأسيرتنا والتعذيب النفسي والجسدي الذي يقومون به معهن لما أشفقت عليها .. ثم أنها نائمة ولا تشعر بشيء ..

غمغم مجدي وهو يهز رأسه نافياً قائلاً

- لم أكن اقصد الشفقة .. هو مجرد شعور بالاشمئزاز عند التعامل مع النساء بهذا الأسلوب العنيف

 

شرح علي عن التدريبات التي تتلقاها ضابطات الموساد وكيف يتم غرس الكراهية في قلوبهن تجاه العرب واستمر الحديث بينهما حتى وصلا إلى مشارف القاهرة وقبل أن يتوغلا فيها اتصل علي بعلاء وأخبره أنه وصل إلى القاهرة فطلب منه علاء أن يخبر مجدي أنه ينتظره أمام مدرستهم القديمة ، وبعد أن أغلق علي الخط أخبر مجدي بذلك ، فعرف مجدي المكان الذي يقصده علاء فتوجه إليه ليجد علاء ينتظرهم بسيارته التي ترجل منها فور وصولهم وبيده حقيبة دبلوماسية .. ثم طلب من مجدي أن يعود للبيت بسيارته واستقل هو سيارة سارة وتوجه بها نحو حي المعادي

 

سأل علاء عن سارة ، فأخبره علي أنها نائمة في صندوق السيارة وأن كل شيء على ما يرام فقال علاء وهو يعطي علي منديلاً

- امسح بصماتي من على الحقيبة وتأكد إن كانت محتوياتها كاملة ..

 

قام علي بتفحص الحقيبة جيداً ثم أخرج منها أكياس الهروين التي عثروا عليها مع عنتر ووضعها في تبلون السيارة وهو يقول ساخراً

- بهذه الطريقة لديهم سبب وجيه وقانوني لاحتجازها ..

هتف علاء قائلاً

- بكل تأكيد أن رجلنا سيحسن التصرف .. المهم أن تكون أنت مستعد لما ستقوله له

 

وصلت السيارة إلى حي المعادي ، وعندما مرت بجوار البناية التي يسكنها ضابط المخابرات أشار إليها علاء ليعرفها لعلي ثم استمر في السير للنهاية ومن ثم قام بالالتفاف من طريق آخر ليعود لبداية الشارع مرةً أخرى ثم قال شارحاً بعد أن أوقف السيارة

- ستوقف السيارة أسفل البناية ثم تتوجه بهدوء وثقة نحو بواب العمارة وتسأله عن الكابتن محمد كأنك أحد معارفه وعندما تقوم بإنجاز المهمة إن شاء الله حاول أن تقوم بعملية تمويه قبل أن تعود للبيت فربما يرسل أحداً في أثرك ليتعقبك ولو أنني استبعد ذلك

أومأ علي برأسه متفهماً وهو يقول

- إن شاء الله سيسير كل شيء على ما يرام

 

افترق علي عن علاء الذي عاد إلى منزل مجدي ، بينما قاد هو بنفسه السيارة وعندما وصل للبناية ترجل منها حاملاً حقيبته ، ثم توجه نحو أحد بوابي البناية وسأله عن الكابتن محمد ، فأخبره البواب أنه في الأعلى في الطابق السادس شقة رقم 22 فصعد إليها وضغط على جرس المنزل فوجد أمامه صبياً في الثانية عشرة من عمره ، وبعد تبادل التحية سمح له الصبي الذي عرف عن نفسه بأنه ابن الكابتن محمد بالدخول إلى غرفة الصالون حيث استقبال الضيوف

 

لم يدم انتظار علي أكثر من ثلاث دقائق حتى استقبله الكابتن محمد مصافحاً إياه راسماً على وجهه ابتسامة ودودة ومعتذراً عن التأخير فتنحنح علي قائلاً

- في الحقيقة أنا الذي أعتذر عن هذه الزيارة دون تحديد موعد مسبق و لكن الأمر غاية في الأهمية ولا يحتمل التأجيل

عقد محمد حاجبيه باهتمام ثم هتف قائلاً

- لا داعي للاعتذار .. ولكنني لم أتشرف بالتعرف عليك حتى الآن ..

قطع الكابتن محمد حديثه عندما دخلت زوجته تقدم عصير الفواكه فتناوله منها وقدمه لعلي وبعد أن ألقت التحية وخرجت همس علي قائلاً

- قبل أن أعرفك عن نفسي .. هل لك أن تغلق الباب لأن ما سأقوله أمر خطير وأفضل أن لا يسمعنا فيه أحد

هز محمد كتفيه في حيرة قبل أن يقول

- إن كان الأمر مهم لهذه الدرجة فلنكمل حديثنا في المكتب بعد أن تتناول شرابك

 

ارتشف علي رشفة من العصير ثم وضع الكوب على الطاولة أمامه وهو يقول

- سيكون أفضل لو عجلنا بذلك ..

 

بدا الشك واضحاً في عيني الكابتن محمد وهو يرسم على وجهه ابتسامة مصطنعة ثم قال

- واضح بسبب استعجالك أن الموضوع مهم جداً ..

أومأ علي برأسه موافقاً ثم قال

- هو كذلك بالفعل

 

نهض الكابتن محمد ثم قال والابتسامة المصطنعة على شفتيه

- طالما الأمر بهذه الأهمية سأطلب منهم أن يعدوا لنا القهوة حتى أستطيع التركيز ..

 

أومأ علي برأسه متفهماً دون أن يتحدث ومبادلاً إياه الابتسامة فخرج الكابتن محمد من الصالون ثم عاد بعد لحظات وطلب من علي أن يرافقه إلى غرفة المكتب وبعد أن جلسا قام علي بفتح الحقيبة التي بحوزته وأخرج منها ملفاً به العديد من الأوراق ووضعه على الطاولة قبل يقول :

- في البداية أحب أن أعرفك عن نفسي .. اسمي علي من فلسطين ولقد جئت إلى مصر في زيارة لسبب خاص ، وأثناء تواجدي هنا اكتشفت عصابة يديرها يهود تقوم بخطف الأطفال المصريين وتهريبهم إلى إسرائيل بغرض الاتجار في أعضائهم و ..

قاطعه الكابتن بتوتر لم يستطع إخفائه

- خطف .. عصابة .. يهود .. أنا لا أفهم شيئاً !

تدخل علي قائلاً وهو يضع يده على الملف

- في هذا الملف ستجد كل التفاصيل التي ستحتاجها ..

هتف محمد بتوتر مقاطعاً

- ما تقوله أمر خطير ورهيب فعلاً .. ولكن يبدو أنك أخطأت في العنوان .. فمثل هذه الأمور من اختصاص الشرطة وليست من اختصاصي فأنا مجرد طيار ..

هتف علي مقاطعاً

- أعرف أن مثل هذه القضايا ليست من اختصاصك ولكن من المؤكد انك تستطيع إيصالها لمن يهتم بها بدلاً من وقوعها في يد ضابط لا يقدر خطورتها وأهميتها فيفسد كل شيء

لوح محمد بيده مدعي الحيرة ثم قال

- مازلت لا أفهمك .. طالما تعرف أن هذه الأمور ليست من اختصاصي فلماذا لم تذهب مباشرة لقسم الشرطة أو مباحث أمن الدولة وتخبرهم بما لديك من معلومات

مط علي شفتيه ثم قال وقد اكتست نبرة صوته بالجدية والحزم

- سيدي .. ليس لدي وقت أضيعه معك في مراوغة .. باختصار شديد لديك قضية فيها شبكة تجسس كبيرة تقوم بالاتجار بأعضاء البشر وتعمل على نشر فيروس الإيدز وترويج المخدرات في مصر .. ناهيك عن عمليات الإسقاط لشخصيات عامة ومؤثرة في الدولة وابتزازهم للعمل لصالح منظمات يقف خلفها الموساد .. وما أود قوله هو : أن كل لحظة تمر دون إلقاء القبض على أفراد هذه الشبكة تشكل خطورة على أمن هذا البلد ..

 

أمسك محمد بسماعة الهاتف أثناء حديث علي فوضع علي يده على سماعة الهاتف بشكل مفاجئ وهو يقول

- ماذا تريد أن تفعل بالضبط ؟ ..

هتف محمد بعصبية

-أمرك غريب حقاً .. ألا تريد أن يتم إلقاء القبض على هذه الشبكة ..

قاطعه علي بعد أن زفر بضيق

- يا سيادة ضابط المخابرات العامة .. المفروض أن تطلع على ما بداخل هذا الملف أولاً ثم تقرر بعد ذلك بمن ستتصل

 

حاول محمد أن يخفي وقع المفاجئة عليه بضحكة عابثة مرتبكة ثم استطرد قائلاً

- من المؤكد أنك مريض نفسي أو في حالة سكر .. أنا مجرد طيار مدني لا أكثر ولا علاقة لي بالمخابرات

 

قاطعه علي بحزم

- حسناً .. أنت طيار مدني وأنا أهذي .. ما رأيك أن تقرأ ما في هذا الملف بروية ثم تفعل ما تراه مناسباً

 

حاول محمد أن يقول شيئاً إلا أن الإصرار البادي بوضوح في عيني علي جعلته يتناول الملف وما إن فعل حتى استغرق في القراءة ، فلقد قام علي بكتابته بأسلوب يتناسب مع شخصيته التي شرحها له علاء وكان واضح من الانفعالات البادية على وجهه وهو يقرأ أن الأمر أثار اهتمامه بشدة ، وما إن انتهى من القراءة حتى غمغم باهتمام وقد ارتسمت على وجهه الجدية قائلاً

- أين الصور والسي دي الذي يتحدث عنهما التقرير ؟

 

أخرج علي من الحقيبة مجموعة كبيرة من الصور وقرص السي دي ووضعهم على سطح المكتب وأثناء تناول محمد الصور بلهفة ، همس علي قائلاً وهو يخرج من الحقيبة ملف أكبر من الملف السابق

- في هذا الملف معلومات أكثر تفصيلاً ستفهمها بعد أن تشاهد السي دي ..

 

غمغم محمد مقاطعاً وهو ينظر للصور باهتمام

- من الذي قال لك أنني أعمل في المخابرات ؟

 

مط علي شفتيه كأنه يفكر ثم قال

– شخص يعرفك جيداً ويثق بك كثيراً

عقد محمد حاجبيه باهتمام قبل أن يهمس قائلاً

– ومن هو هذا الشخص ؟ ولماذا لم يأتي معك طالما يعرفني كما تقول ؟

أجاب علي قائلاً

هو قريب جداً من هنا وينتظر مني اتصال كي يأتي .. ولكن ليس قبل أن تعدني أن لا يأتي ذكر اسمه أو اسمي في هذه القضية حتى لا ينتقم منا الموساد

همس محمد ساخراً

– وكيف تثقان بوعدي وأمامي قضية من هذا النوع تحتاج لأدلة وشهود إثبات ؟

أجاب علي قائلاً

- هو الذي يثق بك ، أنا لا أعرفك جيداً .. فلقد قال لي : أنك رجل تحترم كلمتك .. وبالنسبة للأدلة ، ستجدها مفصلة في هذا الملف وستعثر عليها بسرعة ولكن ليس قبل أن تشاهد السي دي حتى تستوعب ما بداخل هذا الملف

نظر محمد مطولاً نحو علي ثم همس وكأنه قد اتخذ قرار

- حسناً ، اتصل به .. فلكما مني وعد بذلك

ابتسم علي وقد تهللت أساريره فرحاً ثم قال

- توقعت منك هذا التعاون .. هل تسمح لي بأن استخدم الهاتف لاتصل به كي يصعد ؟

أومأ محمد برأسه بلهفة موافقاً وما إن اتصل علي حتى رن هاتفه النقال فوضع سماعة الهاتف وهو يقول بأسف واضح

- يبدو أنه نسي هتافه النقال معي .. سأنزل لأناديه فهو ليس بعيداً عن هنا

حاول محمد أن يقول شيئاً حين هم علي بالانصراف فقاطعه الأخير قائلاً وهو يشير بيده وعلامات السرور بادية على وجهه

دقائق وسأعود إليك .. ولا تنسى أنك وعدتني

أسرع علي نحو الباب دون أن يعطي محمد فرصة للتحدث ومصراً على تذكيره بوعده .. وعندما خرج من المنزل ودخل إلى المصعد قام بنزع قميصه ووضع عدسات لاصقة على عينيه بلون مغاير وقطعة صغيرة من القطن الطبي تحت شفته السفلى وقبل أن يصل المصعد للدور الأرضي كان قد أنهى تعديل الباروكة في مرآه المصعد ، ثم خرج أمام البواب بهدوء طارحاً عليه السلام بشكل مختلف ومغاير تماماً عن الذي شاهده فيه

 

استقل علي سيارة أجرة وطلب من سائقها أن يتجه نحو ميدان رمسيس وبعد أن قطع السائق مسافة طويلة طلب منه علي التوقف وترجل من السيارة قبل أن تصل لميدان رمسيس ثم استقل سيارة أخرى وطلب من سائقاها أن يوصله لحي امبابة الذي سمع عنه من حسن وأثناء مرور السيارة فوق جسر امبابة المعدني الذي لم يشاهده علي من قبل ، طلب من السائق التوقف معللاً أنه سيكمل الطريق سيراً على الأقدام

 

كان الجو ملبد بالغيوم فلم يكن هناك أثر لنجمة واحدة في السماء وبدا لعلي أن الريح التي يشعر بها وهو في منتصف الجسر المعدني تحمل رائحة المطر ، فجذبه الفضول للنظر أسفل الجسر نحو نهر النيل ولا يدري لم تذكر في ذلك الوقت بحر غزة ولكنه لم يحاول إيجاد تفسير ذلك فأخرج من جيبه هاتفه النقال واتصل على آخر مكالمة لم يرد عليها ثم قال:

- لا أدري إلى أين وصلت في قراءة الملف .. ولكن لديك أسفل البناية سيارة حمراء اللون ستجد داخل صندوقها أهم شخصية ضمن الشبكة ، وقطعاً ليس لك الحق بالقبض عليها واستجوابها لكنك ستجد داخل تبلون سيارتها ما يزيد عن كيلوجرامين من مخدر الهرويين وسيساعدك ذلك في إيجاد حجة لاحجتازها كما هو موضح في نهاية التقرير ..

 

كان الطرف الآخر على الهاتف منفعلاً للغاية ومعاتباً علي على التأخير ولكن علي أفلت من يده الهاتف وتركه يسقط نحو نهر النيل ثم أخرج من جيبه هاتف آخر وقام بتشغيله وإجراء مكالمة أخرى ثم مضى عائداً نحو بيت مجدي حيث ينتظره الجميع هناك

 

 

كان مجدي وعلاء وأحمد بانتظار علي وما إن فتح له علاء الباب حتى سأله بلهفة

كيف سارت معك الأمور ؟

غمغم علي قائلاً

–إلى حد ما جيدة و كما خططنا لها ، وإن كنت أرجو أن ينشغل بالقضية أكثر من انشغاله بمن أحضرها له ..

غمغم أحمد قائلاً

- هل تعرف أنني منزعج لأن القضية قد انتهت .. فها نحن نعود إلى الحياة الكسولة الخالية من أي إثارة أو تأثير

همس علاء

- بل قل سنعود إلى حياة الفئران في جحورها حتى لا تلتهمنا الأفاعي التي تتربص بنا في الخارج

تمتم مجدي بتأثر

حتى الجحور لم تعد آمنة .. فهاهي الأفاعي اقتحمت علينا جحورنا التي حشرنا فيها أنفسنا بأنفسنا وبات من السهل عليها أن تقتنصنا واحد تلو الآخر

 

هتف علي قائلاً

– ما هذا التشاؤم ؟! .. إن كان هناك من يريدنا فئران ، فالأولى بنا أن نرفض ونصبح صقوراً تحلق في ضوء السماء لا في عتمة الجحور .. أما عن الأفاعي .. فهي لابد أنها ستهرب إن شعرت أن هناك من سينقض عليها من حيث لا تدري ..

 

نظر أحمد نحو علي ثم قال

– أنت لا تعرف مدى المعاناة التي نعانيها والحيرة التي تعصف بنا منذ أن وعينا وعرفنا أننا بشر لنا الحق في حياة كريمة .. فالمشكلة أننا محاسبون على مجرد الكلمة أو حتى إبداء الرأي ..فكيف هو الحال لو أننا حلقنا في السماء ..

قال علي لأحمد وفي عنينه نظرة عتاب

- عندما جئت عندنا إلى فلسطين حلقت بجناحيك معنا ولم يستطع أحد أن يمنعك .. الصقور يا عزيزي لا تأخذ إذناً من أحد حين تبسط أجنحتها وتحلق للطيران .. ولو خشيت فراخها عند تحليقها لأول مرة وعملت حساب كل شيء ، ستضل حبيسة عشها طوال حياتها .. ومهما انتظرت فلن يأتيها من يعيرها جناحين لتحلق بهما

 

غمغم مجدي قائلاً

– وإن كانت الأجنحة مكسورة وهزيلة ؟

هتف علي

- نجبرها ونداويها ونقويها بالإيمان والعزم .. فهذا أفضل من بقائها في العش تتخبط وتنتظر الثعالب لافتراسها

 

عقد علاء حاجبيه باهتمام وهو يلتفت نحو علي قائلاً

- كأن لديك شيء ما تود أن تقوله ..

هز علي رأسه نافياً ثم قال

ليس لدي إلا ما لديكم .. فنحن كعرب هدف واحد لليهود ، وإن كان من السهل عليهم تشكيل عصابات إجرام من أنذال يعيشون بيننا ، فالأسهل أن نشكل مجموعات من شرفاء مخلصين نواجههم بها أو على الأقل نعمل على طردهم من هذه الأرض

هتف أحمد بحماس

- المجموعة موجودة ومن السهل أن تصبح مجموعات فهناك الآلاف من المخلصين الذين يريدون من يأخذ بأيدهم وعلى استعداد للتضحية بأرواحهم ..

قاطعه علي قائلاً

- وهذه هي مهمتكم التي يجب أن تعملوا عليها ..

قاطعه أحمد وهو يقول

تقصد مهمتنا ..

همس علي وهو يربت على كتف أحمد

- هي مهمتنا حقاً ، ولكن كل منا في مكانه و موقعه .. فلقد اقترب موعد عودتي إلى فلسطين حيث مكاني وموقعي

هتف مجدي ملوحاً بيده

- أعتقد أن الحديث عن عودتك سابق لأوانه الآن ، فما زال أمامنا أسابيع طويلة لمتابعة القضية وكيف ستتصرف معها الأجهزة الأمنية .. فربما تستجد أمور تجعلنا نتدخل في القضية مجدداً ..

همس علاء قائلاً

- مجدي معه حق و ..

قاطعه علي قبل أن يكمل عبارته قائلاً

- مسألة متابعة القضية ستكون من اختصاص مجدي وسأتلقى تفاصيلها عن طريق أحمد فهو يعرف كيف يتصل بي .. أما أنا فقد حان موعد عودتي إلى فلسطين ولا يمكنني أن أتأخر أكثر من ذلك ..

همس أحمد بتأثر بالغ

- هل تقصد أنك حددت موعد رحيلك فعلاً ؟

هز علي رأسه موافقاً وهو يقول

– نعم .. لم يتبقى لدي سوى ربع ساعة فقط ثم أودعكم .. وأرجو أن تبلغوا سلامي لبقية أفراد المجموعة وتخبروهم عن لساني : أنهم كانوا رائعين وأنني لم أشعر أبداً بينهم بالغربة بل ..

 

لم يكد علي يكمل حديثه حتى هتف الجميع مستنكراً ولكن علاء كان أكثرهم حدة حين قال بانفعال شديد

– ما هذا الأسلوب الأناني الذي تعاملنا به .. كان الأفضل لك ولنا أن تذهب دون أن تكلف نفسك و تخبرنا ..

قاطعه مجدي مستنكراً صائحاً باسمه إلا أن علي استوقفه قائلاً له

– دعه يكمل فأنا أعرف أنه مجرد عتاب ..

 

صاح علاء بحدة أكبر ممزوجة بالسخرية وهو ينهض من مكانه

– ليس عتاباً أيها القائد ! .. إنها الحقيقة .. لماذا لا تقول أنك لا تثق بنا ، وصدقني كنا سنفهم ذلك ونعذرك ..

أمسك أحمد بذراع علاء يجذبه للجلوس ومحاولاً تهدئة قائلاً

- لا أجد أي مبرر لانفعالك هذا يا علاء .. فأنا أكثركم معرفة بعلي وطريقة تفكيره ..

صمت أحمد قليلاً ثم استطرد قائلاً موجهاً حديثه لعلي

ولكي أثبت لك أن كل ما قلته هراء فعلي لن يمانع أبداً لو طلبنا منه جميعاً أن يبقى معنا عدة أيام أخرى ..

 

همس علي بأسف وهو يقول

- للأسف الشديد لا أستطيع أن أبقى معكم إلا دقائق قليلة وسأغادر على الفور بمجرد أن أتلقى اتصال انتظره ..

صاح علاء مقاطعاً وهو يجذب ذراعه من يد أحمد بعنف

- يبدو أنك لم تعرف صديقك جيداً .. فهاهو يؤكد عدم ثقته فينا ..

 

قال علاء عبارته وابتعد عنهم ثم وقف بالقرب من النافذة فغمغم مجدي قائلاً بأسف

- لن يحدث شيء لو بقيت معنا مدة أطول يا علي .. فعلى الأقل حتى تودع بقية الإخوان فمنهم من لم يشاهدك منذ وقت طويل ..

 

أطرق علي برأسه قبل أن يهمس قائلاً و محاولاً أن يخفي ما يحدث بداخله

- أنت تعرف أن عودتي تحتاج لترتيب وإعداد يقوم به أخوة ويبذلون في سبيل ذلك مجهود كبير .. ولا أستطيع أن أضيع مجهودهم وأنا أكثر الناس حرصاً ..

تدخل أحمد قائلاً

- كان يمكنك أن تخبرنا قبلها بمدة ولكن ليس بهذه الطريقة المفاجئة ..

هتف علي مقاطعاً

- أن أرى هذا الوجوم في وجوهكم ربع ساعة أفضل لي ولكم من أن أراه عدة أيام .. ثم أنني لم أعرف أنني سأغادر مصر إلا اليوم فقط .. وكل ما حدث أن الأخوة طلبوا مني العودة بأسرع ما يمكن وحين أخبرتهم أني جاهز للعودة قالوا أن اليوم مناسب جداً كما أنني لست صاحب الخيار الوحيد في ..

 

قطع علي عبارته بعد أن صفق علاء بيده وهو يقول ساخراً

- حجة رائعة ، والمفروض أن نصدقها فوراً ..

قاطعه علي محتداً

- أنا لا اكذب يا علاء ..

هتف علاء بسخرية

- أعلم أنك لا تكذب وأعلم أنك تتعامل معنا بروح الفريق الواحد ! .. هل قال لك أحد أنك تكذب؟! .. وحتى أثبت لك أنني أصدقك ، تستطيع أن تذهب الآن دون أن تتلقى ذلك الاتصال ، وأعدك أن أبقى هنا حتى لا يلحق بك أحد ويتبعك ..

 

كان أسلوب علاء في الحديث مستفزاً للغاية مما جعل علي يقول

- سأنتظر الاتصال يا علاء ، وسأخرج فور تلقيه .. وإن أردت أن تتبعني لتعرف أين سأذهب .. أعدك أنني لن أحاول الإفلات منك..

 

حاول علاء أن يتحدث إلا أن مجدي صاح فيه بحدة قائلاً

- كفى يا علاء وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. فليست هذه الطريقة التي نودع بها علي ..

قاطعه علاء ساخراً

- تستطيعان وداعه بالأسلوب المناسب .. أما أنا فيكفيني أن أقول له رافقتك السلامة ثم أعود إلى بيتي فلقد بات الوقت متأخراً

قال علاء عبارته الأخيرة ثم مضى نحو الباب وخرج منه وأغلقه خلفه بعنف

 

ساد جو من الصمت لبضع دقائق داخل المنزل تخلله قصف الرعد وصوت قطرات المطر على زجاج النافذة فغمغم مجدي بأسف واضح موجهاً حديثه لعلي

- أرجو أن لا تغضب من علاء فأنا أعرفه جيداً .. هو دائماً يحاول إخفاء حزنه بانفعال و..

 

قاطعه علي وهو يربت على كتفه قائلاً

- لا عليك .. أعلم أنه تضايق لأمر عودتي المفاجئة ، ولكن صدقني أنني لم أعلم بذلك إلا قبل أن أصل إلى هنا بأقل من ساعة وكان عليّ الاختيار إما أن أغادر اليوم أو أنتظر مدة أطول لا أعرف إلى متى ستطول ..

همس أحمد بتأثر بالغ

- أعرف أنك مشتاق للعودة لفلسطين ، ولكن كان عليك أن تختار الخيار الثاني وتمضي معنا وقت إضافي ..

قاطعه علي وهو يبتسم بود

- صدقني كنت سأختار الخيار الآخر فمسألة عودتي ليست بهذه الصعوبة ولكنهم قالوا لي بأنهم يحتاجوني في أمر غاية في الأهمية ولم يكن بمقدوري أن أتأخر خاصةً وأن المهمة انتهت تقريباً

 

تمنى أحمد ومجدي لعلي التوفيق وتمنيا أكثر أن يتأخر الاتصال الذي ينتظره بعد أن مرت ربع ساعة ولكن جرس هاتف أعطى تنبيه بورود رسالة وعندما قرأها علي ونظر في وجهيهما كادت عيناه تزرفان الدموع إلا أنه تمالك نفسه قائلاً

- يبدو أنه قد حان الأوان للعودة ..

 

تعانق الجميع في مشهد مؤثر وطلب علي من أحمد أن يُعلم مجدي كيفية الاتصال به وطلب من مجدي كذلك أن يبلغ سلامه لعلاء ، وعندما عرض أحمد أن يوصله للجهة التي يريدها ، رفض علي وأخبره أنه سيلتقي بشخص لا يعرفه جيداً ولا يحب أن يراه هذا الشخص معه حتى يحافظ على سرية المجموعة

 

دس علي مسدسه الذي أعطاه إياه خاله في ملابسه بعد أن سلمه إياه مجدي ثم خرج على الفور وعندما وصل إلى الشارع كان المطر ينهمر بغزارة .. وقبل أن يتوجه نحو الشارع الرئيسي لفت انتباهه سيارة علاء المتوقفة بجوار البناية بينما يستند عليها علاء واقفاً بملابسه المبللة من أثر المطر فتوجه نحوه علي ووجه حديثه إليه مازحاً

- وقوفك هكذا سيعرضك لنزلة برد شديدة ..

قاطعه علاء بصوت مخنوق

- هل مازلت مصراً على الرحيل الآن ..

هتف علي مازحاً

- إن لم يكن لديك مانع ..

أشاح علاء بوجه ثم ضرب بيده بقبضته على سيارته دون أن ينبس ببنت شفة

 

نظر إليه علي مطولاً ثم همس قائلاً وهو يهم بالانصراف

- استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه

لم يكد علي يخطو خطوتين حتى هتف علاء قائلاً :

- هل لي بأن أعانقك أم أن هذا سيؤخرك أيضاً ؟

التفت علي ينظر إليه ثم تقدم باتجاهه فاتحاً ذراعيه فاندفع علاء نحوه يعانقه بقوة وهو يقول

- تباً لك .. ما كان عليّ أبداً أن أتعرف عليك

همس علي في أذنه قائلاً

- أما أنا فلقد سعدت بالتعرف عليك

أمسك علاء بكلتا يديه كتفي علي قائلاً بصوت مخنوق والدموع تنهمر من عينيه

- هل تذكر يوم السباق في النهر .. هل تذكر مزاحك وقولك لي حينها أنك نسيت نفسك وظننت أنك تمزح مع صديقك الشهيد

هتف علي بمزاح متعجباً

- هل تبكي يا علاء .. ؟

مسح علاء عينيه وهو يقول ضاحكاً بصوت يخالطه البكاء

- أنا ابكي! .. هل جننت ؟ .. إنها مياه المطر وليست الدموع .. أنت الذي تبكي ولست أنا

همس علي الذي لم يستطع التماسك أكثر

- سلم لي كثيراً على والدك وأخبره أنني تشرفت بالتعرف على شخص مثله

 

تعانق علي وعلاء في وداع أخير ثم مضى نحو الشارع الرئيسي واستقل سيارة أجرة طالباً من السائق أن يوصله إلى حي جسر السويس وعندما نزل من السيارة سار باتجاه سيارة نقل صغيرة تبادل مع سائقها كلمة السر ثم جلس بجواره دون أن ينبس ببنت شفة بسبب حالة التأثر التي كانت تعتريه .. وعندما طال صمته استطرد السائق قائلاً

- طلب مني خالك أن أفاتحك في أمر ما وبناء على قرارك سأحدد خط سيري

كانت مفاجئة لعلي أن يعرف السائق خاله فسأله بحذر

- كيف التقيت بخالي وما هو الأمر الذي طلب منك أن تحادثني فيه

ابتسم السائق قبل أن يقول

- أنا أعرف خالك جيداً منذ زمن ، ودائماً ألتقي به عندما أذهب إلى غزة .. أما الموضوع فهو بخصوص سفرك إلى العراق وبالتحديد إلى بغداد

هتف علي بدهشة

- بغداد !

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

تعانق علي وعلاء في وداع أخير ثم مضى نحو الشارع الرئيسي واستقل سيارة أجرة طالباً من السائق أن يوصله إلى حي جسر السويس وعندما نزل من السيارة سار باتجاه سيارة نقل صغيرة تبادل مع سائقها كلمة السر ثم جلس بجواره دون أن ينبس ببنت شفة بسبب حالة التأثر التي كانت تعتريه .. وعندما طال صمته استطرد السائق قائلاً

- طلب مني خالك أن أفاتحك في أمر ما وبناء على قرارك سأحدد خط سيري

كانت مفاجئة لعلي أن يعرف السائق خاله فسأله بحذر

- كيف التقيت بخالي وما هو الأمر الذي طلب منك أن تحادثني فيه

ابتسم السائق قبل أن يقول

- أنا أعرف خالك جيداً منذ زمن ، ودائماً ألتقي به عندما أذهب إلى غزة .. أما الموضوع فهو بخصوص سفرك إلى العراق وبالتحديد إلى بغداد

هتف علي بدهشة

- بغداد !

 

أخبرني خالك أنك لن تقتنع بسهولة ولذلك أرسل هذه الرسالة لك وقد كتبها بخط يده

أضاء علي ضوء صالون السيارة وبعد أن قرأ الرسالة مط شفتيه متعجباً و هو يقول :

- يبدو أن خالي يثق بك كثيراً يا أخ عمر .. فهو يطلب مني -إن وافقت على المهمة- أن أكون تحت قيادتك و أن ألتزم بكل ما تقوله

ابتسم عمر قائلاً :

- هل أفهم من هذا أنك تأكدت أن الرسالة من خالك فعلاً ؟

صمت عمر لحظة ثم ناول علي قداحة واستطرد قائلاً :

- على كل حال تستطيع أن تفكر و تدرس الأمر وعندما نصل لقناة السويس أخبرني عن قرارك حتى أحدد خط سيري ..

همس علي وهو يُحرق الرسالة

- وضع خالي العديد من الإشارات كي أتأكد أن الرسالة منه فعلاً رغم أني أعرف خط يده وأحفظه عن ظهر قلب .. عموماً لا داعي للتفكير في الأمر ، فأنا موافق ويمكنك أن تحدثني عن طبيعة المهمة من الآن ..

قال حسن وهو يشير بيده

- قبل أن أتحدث عن المهمة ستجد في تبلون السيارة جواز سفر مصري وبطاقة هوية عليهما صورتك باسمك الجديد .. فإن قابلنا أثناء الطريق أحد حواجز الشرطة فستُبرز الهوية لأن تلك الحواجز تكثر أثناء الليل خاصةً حين ندخل سيناء .. أما جواز السفر فستجد أنه لنفس الشخص وقد تم ختمه من إدارة الجوازات الأردنية وهذا يدل على أن صاحبه ما يزال في الأردن ..

قاطعه علي قائلاً

- كيف حصلتم على هذه الصور .. ومن هو رأفت صاحب هذا الجواز ؟ ..

أجاب عمر بعد أن هدأ من سرعة السيارة بسبب غزارة المطر

- الصور من خالك ، أما صاحب الجواز فهو مواطن مصري كان يعمل في الأردن ثم ذهب إلى العراق بعد الاحتلال لينضم هناك للمجاهدين ، ولقد أصبحت الآن تحمل اسمه رغم أنه يعتبر هنا مسافراً و لم يعد إلى بلده بعد

هتف علي سائلاً

- هل تقصد أنه استشهد ؟

أجاب عمر :

- آخر مرة شاهدته فيها كان في الفلوجة يوم أعطاني جواز سفره .. ولا أدري إن كان حياً الآن أم أنه استشهد

هتف علي متعجباً

- هل تقصد أنك كنت لوقت قريب في العراق ؟.. حسناً يا أخ عمر أعتقد أنه سيكون من الأفضل لو شرحت لي الأمر من البداية بدلاً من أن أقاطعك بأسئلتي ..

ضحك عمر وهو يقول

-أخبرني خالك عن فضولك الشديد واهتمامك بالتفاصيل ،و حدثني أيضاً عن أشياء كثيرة عنك وعن عنادك وتجميد عضويتك في الكتائب ، لكنه لم يقل لي ما الذي أتى بك إلى مصر ..

قاطعه علي قائلاً

- يبدو أن خالي أهتم بأن تثق بي أكثر من اهتمامه من أن أثق بك .. على كل حال ، فطلبه أن أثق بك يعني أنك إنسان محل ثقة .. لكن ما رأيك لو حدثتني عن تفاصيل المهمة ، ألن يكون ذلك أفضل ؟

نظر عمر نحو علي ثم استمر في النظر أمامه وتابع قائلاً

- قبل أن أتحدث عن المهمة سأشرح لك كيف تعمل مافيا السلاح هنا لأن هذا ضروري .. فهؤلاء معظمهم من قبائل البدو وهم يتحكمون في منافذ التهريب في الصحراء في ليبيا والسودان ومصر ويربطهم أيضاً نوع من العلاقة مع بدو السعودية واليمن والأردن وفي النهاية يرتبط الجميع بالمافيا الدولية .. فبعد احتلال العراق ، توطدت العلاقة بين كل هؤلاء وقبائل البدو في العراق بسبب كميات الأسلحة التي استولوا عليها بعد أن تركها الجيش العراقي وفر من المعركة .. وكما تعلم أن معظم تلك الأسلحة ممنوع تداولها والاتجار بها بين هؤلاء التجار وخاصةً في مصر .. كالسلاح المضاد للدروع والطائرات وصواريخ الأرض أرض ، ولكن يسمح به لقبائل اليمن والصومال والسودان ..

 

تدخل علي مقاطعاً

- أعلم أن بنادق الكلاشنكوف يأتي معظمها من ليبيا ويقطع المهربون الصحراء بها عن طريق الجمال ..

هتف عمر معلقاً على عبارة علي

- معلوماتك ليست دقيقة .. فالبنادق تأتي من ليبيا فعلاً ، لكنها موجهة لجون جرنج الذي كان النظام الليبي يدعمه بالسلاح ويشاركه في هذا الدعم الصهاينة .. ولكن جون جرنج ليس بحاجة لهذا الكم من السلاح الذي يتدفق عليه من القذافي خاصةً بعد الاتفاقيات التي أبرمها أخيراً مع حكومة السودان ..ولأنه بحاجة للمال أكثر من السلاح فهو يبيع السلاح الليبي المجاني لتجار السلاح في مصر ، ولكنه يخضع أيضاً لقوانين مافيا السلاح بعدم بيع الذخيرة أو الأسلحة المضادة للدروع والألغام وما شابه ، خشية أن تتسرب ليد الفلسطينيين .. فمن المؤكد أنك تعلم أن مافيا السلاح في الشرق الأوسط تربطها علاقات قوية بالموساد ..

هز علي رأسه موافقاً قبل أن يقول:

-نعم أعرف ذلك .. فلقد تضاعف سعر الذخيرة في فلسطين إلى ثلاثة أضعاف بينما ظلت أسعار البنادق كما هي .. لكن في كل الأحوال ، المقاومة الحقيقية لا تعتمد بشكل كبير على البنادق والرصاص ، لذلك فهذا الأمر لا يؤثر كثيراً على قوة المقاومة في فلسطين

أضاف عمر وهو يهمس قائلاً

- أما إذا دخل إلى فلسطين سلاح مضاد للدروع فسيعزز ذلك كثيراً من قوة المقاومة ..

هز علي رأسه موافقاً ثم قال مكملاً لحديث عمر

- ولأن تجار السلاح لا يجرؤون على مخالفة قوانين المافيا ، نذهب نحن إلى العراق ونأتي بهذا السلاح بعيداً عن أعين تجار السلاح الذين يرتبط أغلبهم مع المافيا والموساد

أومأ عمر برأسه موافقاً وهو يقول

- بالضبط .. فالموساد يضغط على مافيا السلاح بعدم بيع أنواع معينة من السلاح لمصر أو الأردن حتى لا تتسرب ليد الفلسطينيين ، لكنه يسمح لهم ببيعها في اليمن ودول الخليج والصومال ودول أخرى في أفريقيا كنوع من التعويض المادي لهم .. لكن في الفترة الأخيرة ظهرت لدى قبائل في الأردن أسلحة مضادة للدروع ، ولقد عرفنا أنهم جلبوها من العراق بعد الاحتلال ، وهذا يعني أن نفوذ الموساد ومافيا السلاح قليل نسبياً في العراق لأن القبائل التي امتهنت هذه المهنة في العراق مازلت حديثة العهد بها ولم تخضع بعد لقوانين مافيا السلاح .

 

أشرقت الشمس عندما وصلت السيارة إلى قناة السويس وبعد أن عبرا القناة عن طريق القاطرة التي تحمل السيارات هتف عمر قائلاً

- سنذهب الآن لمنطقة قريبة من الثمد ، وهناك سأخبرك عن طريقة الوصول إلى العراق ، فإن أردت أن تنام في السيارة ، يمكنك أن تفعل ذلك لمدة ساعتين لأنك بعدها لن تستطيع النوم بسبب وعورة الطريق التي سنسلكها ، وسيستغرق ذلك حوالي خمس ساعات على أقل تقدير

 

هتف علي متعجباً

- ولماذا لا تسير في الطريق الممهدة على الإسفلت ؟

أجابه عمر موضحاً

- لأن حواجز الأمن تختلف في التدقيق عن الحواجز السابقة التي سمحوا لنا بمرورها بسهولة بسبب المطر .. ثم أننا نقترب من طابا ومن مناطق يكثر فيها تواجد اليهود ، و كلما اقتربنا أكثر ، تزداد حواجز التفتيش و يزداد التدقيق فيها ، فالأمن هنا يشدد كثيراً على حمايتهم

 

لم تعجب علي اللامبالاة التي تحدث بها عمر عن تواجد اليهود في سيناء ، لكنه لم يعلق على ذلك وحاول أن ينام فعلاً ، و ما أن استغرق في النوم حتى استيقظ مع اهتزاز السيارة العنيف فقال عمر مبتسماً

- لم أشأ أن أوقظك عندما دخلنا الصحراء ، فلقد كانت الطريق جيدة لأن المطر الذي هطل جمد الرمال ولكن بقية الطريق ستكون مليئة بالصخور الصغيرة ، فكما ترى أننا الآن في منطقة جبلية .

 

جال علي ببصره في أرجاء المكان بينما كانت السيارة تسير في وادي عريض بين الجبال ، ثم هتف بإعجاب قائلاً :

- مكان رائع وجميل حقاً ، ولكنني ألاحظ أن هناك أعداداً كبيرة ميتة من أشجار النخيل في هذا الوادي و كأن هناك من يتعمد فعل ذلك

بدا الأسى واضحاً في نبرة صوت عمر وهو يقول

- وماذا ستقول لو عرفت أن أكثر من نصف نخيل سيناء أصبح على هذه الحالة ..

هتف علي مقاطعاً

- هل هو مرض أصاباها

أومأ عمر برأسه وهو يقول ساخراً

- نعم .. مرض اسمه اليهود ..

لم يفهم علي عبارة عمر فعلق الأخير قائلاً

- اليهود يدفعون المال لبعض البدو هنا كي يقطعوا لهم براعم النخيل بحجة استخدامه في طقوس دينية خاصة بعقيدتهم ، ومن الطبيعي أن يموت هذا النخيل بعد أن يفقد هذا البرعم ..

 

هتف علي حانقاً

- لا علم لي بطقوس دينية لديهم يستخدمون فيها قلب النخلة ، بل إن ما أعرفه عنهم تقديسهم للنخيل و..

 

قطع علي حديثه عندما قال عمر:

- هو عيد المظلة الذي يحتفلون به لمدة أسبوع ، يصلون فيه كي يهطل المطر ، ويقيمون من أجل ذلك عُرش مكون من أنواع معينة من فروع الأشجار و الذي يكون سعف النخيل أحدها ..

 

قاطعه علي بدوره قائلاً

- أعلم ذلك .. ولكنهم يستخدمون القليل من سعف النخيل وليس برعم النخلة بأكمله..

 

علل عمر لعلي : بأن الهدف من وراء قطع براعم النخيل في سيناء ، ربما يكون من أجل تفريغ شبه الجزيرة من سكانها الذين يسكنون في تجمعات حول المناطق التي يكثر بها النخيل أو لمجرد الإفساد والتخريب كعادتهم ، ولكن علي كان يربط في ذهنه بين تعامل اليهود مع النخيل في سيناء وبين ما يفعلوه بعقول الشباب كي ينفصلوا عن أجيالهم وتاريخهم وكأنهم يرون أن الخطر يكمن في البراعم فإن استأصلوها ، قطعوا امتداد الأمة ..

 

استمرت السيارة في السير بين الجبال وكان المنظر الطبيعي يتغير من منطقة لأخرى حتى انحرف عمر بسيارته وسلك طريقاً شديد الوعورة بدا فيه كأنه يحاول صعود الجبل بالسيارة من خلال منحدر يفصل بين جبلين .. ولاستحالة الأمر تعجب علي كثيراً وبدا له أن عمر يلهو بالسيارة في هذه المنطقة الخطرة ، إلا أن دهشته زالت عندما مرت السيارة من فجوة بين صخرتين كبيرتين بالكاد سمحت بمرور السيارة ثم انحدر بها نزولاً نحو وادٍ آخر من الجهة الجبل الأخرى فهتف عمر موجهاً حديثه لعلي وهو يبتسم :

- هل خفت من أن تنقلب السيارة بنا ؟

غمغم علي قائلاً

- الحقيقة أنني كتمت أنفاسي في بعض المناطق ، وتخيلت للحظة أنك تود تسلق الجبل بالسيارة ولولا شعوري بأنك تعرف ما تقوم به وخشيتي من أن أشتت انتباهك لسألتك عن هذا الجنون الذي كنت تقوم به

 

ضحك عمر من حديث علي ثم قال موضحاً

- هذه الطريقة الوحيدة التي نستطيع الدخول بها إلى هذه المنطقة بالسيارة .. فسلسلة الجبال هذه تمتد لمسافة طويلة جداً ثم تنتهي بطريق مليئة بالكثبان الرملية المتحركة ، ومن هذا المكان السري - الذي لا يعرفه إلا نحن فقط- نستطيع اختصار الطريق وندخل إلى منطقة كان من المستحيل أن نصلها إلا من خلال الطريق المعبدة أو بالطائرة

غمغم علي قائلاً

- ماذا تقصد بقولك لا يعرفه إلا نحن ..

ابتسم عمر بحرج وهو يجيب

- أقصد بنحن ، أي معشر المهربين .. فلقد عملت مع المهربين مدة تزيد عن أربع سنوات قضيت معظمها رحالاً في صحراء الوطن العربي أهرب قطع غيار السيارات من ليبيا ومصر والأردن إلى العراق الذي كان يفتقد لهذه الأشياء بسبب الحصار .. لكن تخيل أن نظام صدام حينها كان يعاقب من يتم ضبطه بالإعدام .. مع أن العراق كان يعاني من حصار خانق و يحتاج مثل هذه الأشياء

عقد علي حاجبيه مستغرباً وهو يقول

- وما الذي يجبرك على عمل بهذه الخطورة خاصةً ..

قاطعه عمر قبل أن يكمل سؤاله قائلاً

- تلك حكاية طويلة قد أحكيها لك لاحقاً .. الأهم في حكايتي هو : أنني استطعت الدخول إلى فلسطين عبر أحد الأنفاق قبل عام وهناك تعرفت على شخص عرفني على خالك الذي أصر أن أعود لمهنة التهريب مرةً أخرى ، ولكن هذه المرة لتهريب السلاح وليس قطع غيار السيارات ..

 

أنهى عمر عبارته الأخيرة وهو يضحك ، فهمس علي قائلاً

- إذاً فقد تم تجنيدك للكتائب عندما التقيت بخالي ..

هز عمر رأسه نافياً ثم قال :

- ليس بالضبط .. فلقد انضممت لكتائب القسام في ظروف مختلفة قبل أن ألتقي بخالك ، لكن بعد لقائي به تم تحديد نوعية المهام التي أقوم بها وأغلبها تخص تهريب السلاح

 

أراد علي أن يعلق على حديث عمر إلا أنه عدل عن ذلك عندما أوقف عمر السيارة في مكان بدا وكأن قدم البشر لم تطأه من قبل ، و كان واضحاً لعلي أن عمر يعرف المكان جيداً فقد ترجل من السيارة و حث علي على فعل ذلك أيضاً ، ثم ذهب نحو مغارة تحجبها صخرة كبيرة وأخرج منها حقيبة فيها معلبات غذائية وبعض أنواع الطعام وعندما ذهب علي نحو المغارة هاله ما رأى .. فلقد كان عمق المغارة يمتد داخل الجبل لمسافة طويلة فهمس يسبح الله فعاجله عمر قائلاً :

- هذه المغارة لا يعرفها أحد سواي ، فقد اكتشفتها قبل ثلاثة أعوام ولم أخبر عنها أحداً وأنت ثاني من يراها بعدي

غمغم علي قائلاً

- يبدو أنك تستخدمها كاستراحة أثناء تجوالك .. لكن ألا يوجد سكان في هذه المنطقة خاصةً وأن أشجار النخيل تكثر هنا ..

قاطعه عمر مازحاً

- وما أدراك أنه لا يوجد سكان هنا ..

أشار علي بيده نحو النخيل مجيباً

- مظهر النخيل الذي لم يُشذب سعفه أحد وعدم وجود أي دليل أو أثر للإنسان يدل على ذلك ..

قاطعه عمر راسماً ابتسامة على وجهه

- إن كنت تقصد بالسكان ، الإنسان ، فمعك حق .. فأقرب قبيلة لهذا المكان تسكن على بعد مئة كيلومتر من هنا ، كما أن الجميع يتحاشى المرور من هذه المنطقة لما يحاك حولها من أساطير ..أما عن السكان ، فهذه المنطقة مليئة بالضباع والغزلان وأنواع من كباش الجبل .. فلقد اكتشفتها بالصدفة عندما طاردت غزالة بالسيارة فقادتني في النهاية إلى هذا المكان لاكتشف بعد ذلك هذه المغارة الهائلة التي تختفي خلف هذه الصخرة

عقد علي حاجبيه باهتمام وهو يقول

- ألم تحاول استكشاف المغارة من الداخل .. فعلى ما يبدو أنها تمتد لمسافة طويلة في عمق الجبل

ضحك عمر بصوت عال كأنه تذكر شيئا ما ، ثم عقب على حديث علي قائلاً:

- قادني الطمع والفضول لما فكرت فيه .. لكن صدقني رغم أنني قضيت فترة طويلة بين صحاري الوطن العربي إلا أنني لم أرى أعجب من هذه المغارة .. ففي بداية الأمر ظننت أنني قد أعثر على آثار ذات قيمة أو كنزاً كما نسمع في القصص والحكايات ، ولكن بمجرد دخولي مائتي متراً داخل هذه المغارة اكتشفت أنها تتفرع لعشرات الأفرع نزولاً وصعودا وكل فرع يتفرع بدوره لأفرع عدة فنفضت الفكرة عن رأسي خاصةً أن الظلام يزيد المكان رهبة ولما سمعته من قبل عن قصص من تاهوا في المغارات أو ابتلعتهم كما يقولون .. ولكي أثبت كلامي تعال وانظر بنفسك ..

 

تناول عمر من السيارة كشافاً ضوئياً وسارا نحو المغارة فتبعه علي ، وعندما لاحظ علي تفرع المغارة إلى فروع كثيرة وافق عمر في رأيه ، ولكن الأخير أراد أن يريه شيئاً آخراً فطلب منه أن يصعد فوق صخرة ثم ناوله كشاف الضوء وطلب منه أن يخبره عن الذي يشاهده من خلال فتحة تشبه النافذة .. وعندما فعل علي ذلك ، سبح الله كثيراً متعجباً مما رآه ثم أخبر عمر أنه يود النزول للداخل فحاول عمر أن يثنيه عن ذلك لما في الأمر من خطورة ثم انصاع أخيراً لرغبة علي وقرر أن يرافقه ، فقفز علي أولاً وتبعه عمر بعد أن ناوله الكشاف

 

كان المكان عبارة عن تجويف في بطن الجبل مساحته حوالي ثلاثة آلاف متر مربع تتوسطه بركة مياه -أقسم عمر أنه لم يشاهد في حياته كلها ماءً بهذا الصفاء والنقاء ووافقه علي في ذلك - ولم يكن لهذا المكان منفذ آخر سوى المنفذ الذي استخدماه للدخول إليه بينما يرتفع سقف هذا التجويف عالياً لدرجة أن شعاع ضوء الكشاف لم يصل إلى نهايته بسبب علوه وبسبب الظلال التي أحدثتها الترسبات الكلسية التي تكونت عبر آلاف السنين فبدت كأنها حراب صخرية مختلفة الأحجام تتدلى من الأعلى تنتهي أطرافها بقطرات ماء تنساب ببطء نحو نبع الماء الذي يتلألأ ماءه بفعل أشعة الضوء الساقطة عليه من الكشاف

 

عرف عمر سبب إصرار علي لدخول المكان عندما خلع حذائه وشمر عن ساعديه واستعد للوضوء فتبعه وتوضأ هو أيضاً وبعد أن صليا همس عمر قائلاً :

-الغريب في هذه المغارة أنه لا يسكنها أي حيوان على الرغم من كثرة الثعالب والضباع في هذه المنطقة .. والأغرب من ذلك أن معظم المغارات المهجورة لا تخلوا من الخفافيش باستثناء هذه المغارة التي لم أرى فيها خفاشا واحدا

 

لم يشاهد عمر ابتسامة علي بسبب الظلام قبل أن يقول :

- ربما تخشى الحيوانات من دخولها بسبب الصوت الذي ينبعث منها بين الفينة والأخرى ، كما أن الخفافيش أيضاً حساسة من ناحية الأصوات وتفضل المناطق الهادئة ..

قاطعه عمر متعجباً

- هل سمعت صوتاً أنت أيضاً ؟! .. لقد خشيت أن أقول لك أنني أسمع هذا الصوت خشية أن تتهمني بالخوف أو الهلوسة ، حتى أنني في إحدى المرات السابقة سمعته أعلى من هذه المرة بكثير وكنت أكذب أذني وأقول أنه مجرد خيال ..

 

همس علي بوشوشة أثارت ارتباك عمر عندما قال :

-إنه صوت حارس الجبل الذي غضب لأننا دخلنا دون أن نأخذ الإذن منه .. قد نجده أمامنا بعد قليل برأسه الضخم وعينيه المشتعلتين وهو يلوح بأذرعه الخمسة وأصابعه التي تحمل مخالب كالسيوف

ضحك عمر من حديث علي ثم قال

- أنت تمزح بلا شك .. فلقد سمعت من سكان الصحراء عن غيلان وعفاريت لها أوصاف مخيفة أكثر من ذلك ، ولكنني لم أشاهد إحداها أو حتى أثراً لها

قاطعه علي ساخراً

- وماذا أفعل لك إن كنت أنا اكتشفت سر الصوت بمجرد وقوفي للحظات على باب المغارة بينما تقول أنك اكتشفت هذا المكان من مدة طويلة ..

غمغم عمر مقاطعاً

- قلت لك أنني كنت أظنه خيالاً لذلك لم أبحث عن تفسير له ، فأي تفسير لن يتجاوز ما قلته أنت قبل قليل .. ولا تنسى أيضاً أنني مشبع بالحكايات والأساطير التي يحكيها البدو عن بعض المناطق في الصحراء والجبال ..

ضحك علي بصوت عال لدرجة أن صوته تردد في أرجاء المكان كأن عشرة أشخاص يشاركونه الضحك بسبب صدى الصوت فهتف عمر بعصبية قائلاً :

- لو أنك سمعت ما سمعته لخفت أنت أيضاً .. فلا تقل لي أن المكان تنقصه الرهبة ، وثق أنه لولا أننا اثنان لما تجرأت أن تدخل إلى هذا المكان بمفردك ..

نهض علي بعد أن أكمل ارتداء حذائه ثم هتف قائلاً:

-ثق تماماً يا أخي أنني لا أخشى إلا ممن خلق هذا الجبل فقط ، ولو كنت بمفردي وأملك المزيد من الوقت لما ترددت في الدخول إلى هذه المغارة التي أشعر أن بها شيئاً مريحاً للأعصاب خاصةً هذا المكان بالذات ..

سار علي نحو المنفذ بينما همس عمر قائلاً :

-لم تخبرني عن تفسيرك لهذا الصوت الذي سمعناه

توقف علي ثم قال :

- سأخبرك عندما نخرج .. أما الآن فارني كيف ستصعد نحو فتحة المنفذ التي قفزت منها قبل أن تضع في حسابك كيفية الصعود إليها ..

حاول عمر أن يجد شيئاً يقف عليه وهو يوجه الكشاف في أرجاء المكان ثم هتف قائلاً

- الأرض هنا ملساء كالرخام ولا يوجد شيء نضعه لنصعد عليه .. يبدو أنه ما من حل إلا أن أرفعك على كتفي ثم تذهب لتأتي بحبل من السيارة فتدليه من الفتحة ثم أتسلق عليه ..

ضحك علي ساخراً

-وهل أتركك وحدك مع حارس الجبل ليستفرد بك ..

صاح عمر متذمراً

- وهل لديك حل آخر غير ذلك ؟

ربت علي على كتف عمر ثم أخذ منه الكشاف ووضعه على الأرض موجهاً ضوءه نحو الفتحة ثم طلب من عمر أن يصعد على كتفه ليخرج وعندما فعل ألقى علي إليه الكشاف ليلتقطه ، ثم تراجع إلى الخلف وركض نحو الفتحة واضعاً قدمه على نتوء صخري ليقفز بعدها بسرعة وخفة جعلت عمر يقول بعصبية :

- طالما تستطيع أن تخرج بهذه السهولة ، كان عليك أن تفعل ذلك من البداية بدلاً من هذا الاستعراض ..

 

هتف علي مازحاً

-هذا الاستعراض جعلني اختبر أي نوع من الرجال وضعني خالي تحت إمرته

واصل عمر طريقه للخروج من المغارة وهو يتمتم :

كان خالك على حق عندما قال لي أنك كثير المشاكسة ويصعب السيطرة عليك .. على كل حال استعد جيداً لأنني سأتعامل معك بحزم أكبر في المرات القادمة .. ولا تنسى أنني الأمير طالما لم نصل إلى بغداد

قطع عمر حديثه بغتة عندما صدر صوت عال من داخل المغارة يشبه صوت الفيل فغمغم

قائلاً :

- ألن تخبرني عن سبب هذه الأصوات التي تصدر من الداخل

حاول علي أن يكتم ضحكته وهو يقول

- أعتقد أن هذا الصوت يعود لزوجة حارس الجبل ، فعلى ما يبدو أنها تلد وتعاني من آلام الوضع

توقف عمر عندما وصل لمخرج المغارة ثم قال بعصبية وهو يضع يده على عينيه بسبب ضوء النهار

- ألا تكف عن المزاح أبداً

قاطعه علي بشكل مفاجئ

- انتظر قليلاً وستسمع صوتاً عالياً هذه المرة أيضاً

مرت لحظات قليلة ثم انبعث صوت آخر يشبه الصوت السابق فبادر علي قائلاً

- لو توقفت على باب المغارة ستلاحظ أنه كلما هبت نسمة من الريح ، سيعقبها بلحظات الصوت الذي نسمعه ، وكلما كنت هبة الريح أقوى ، كان الصوت أعلى .. فعلى ما يبدو أن في أعلى سفح الجبل فتحة مواجهة للرياح وتتصل هذه الفتحة بباقي جسم المغارة فينتج هذا الصوت العميق الذي تبدده فروع المغارة كأنه يخرج من بوق عملاق

لاحظ عمر أن ما يقوله علي صحيح فهتف بإعجاب

- أنت دقيق الملاحظة للغاية لدرجة أنك عرفت..

بتر عمر جملته عندما قاطعه علي ملوحاً بيده نافياً وهو يقول :

- مع أنها فرصة مناسبة لاستعرض فيها عليك .. إلا أن تفسيري هذا لم يكن بهذه السرعة لولا هواية الطفولة عندما كنت أجمع القواقع من بحر غزة لأستمع لصوت الريح فيها

همس عمر بخجل

-أعتذر إن كنت ضايقتك عندما قلت لك أنك تتعمد الاستعراض أمامي .. ولكنك يا أخي تكثر من المزاح ، مع أن الصورة التي كونتها من خلال حديث خالك عنك ، أنك كئيب إلى حد ما

غمغم علي وهو يبتسم بود

- لو تعلم ما في نفسي من جراح وأحزان -كان أخرها قبل أن ألتقي بك بدقائق -لعرفت أنني أهرب منها بأسلوبي هذا .. ولذلك أنا الذي أعتذر إن كنت سببت لك الضيق

هز عمر رأسه نافياً وهو يقول

- لم أتضايق منك أبداً ، ولكني خشيت أن تنسى أننا في مهمة صعبة وتحتاج منا إلى جدية واهتمام بالغ ، فلا تأخذ الأمور ببساطة وكأننا في نزهة .. ثم أننا سنلتقي بأناس لا يعرفون المزاح ويفترض بك أن تتعامل معهم كمهرب محترف ..

 

شرح عمر لعلي كيفية تصرف المهربين مع بعضهم البعض وأخبره أنه سيقابل أناس يسري الشك في دمائهم و لا يهمهم سوى المال فقط كما أن أحوالهم متقلبة وقد ينقلبوا إلى أعداء في أي لحظة إن فسروا أي تصرف أو كلمة على أنها إهانة لهم ، ولكن علي طمأنه وأخبره أنه معني بنجاح المهمة ولن يفعل شيئاً يتسبب في إفشالها ..

 

حكى عمر لعلي الأحوال في العراق وحدثه عن كيفية الوصول إليها ، وبعد أن جمعا صلاة المغرب والعشاء استقلا السيارة التي توجه بها عمر نحو وادي وتير القريب من خليج العقبة في منطقة تقع بين نويبع وطابا ، وكم كانت سعادة علي كبيرة عندما وصلت السيارة إلى طريق معبدة ولكن عمر لم يواصل السير على هذه الطريق سوى عدة كيلومترات قليلة ثم عاد مرة أخرى وانحرف عنها داخل الصحراء وسط عتمة الليل حتى توقف في مكان لم يتبين علي معالمه جيداً بسبب الظلام ولكنه فهم إنها المحطة الأخيرة خاصة عندما اقترب منهما رجل يركب دراجة بخارية بأربعة عجلات مخصصة للسير في الرمال وبينما علي ظل صامتاً تبادل عمر وذلك الرجل عبارات التحية والسلام ثم سار بدراجته أمامهما وتبعه عمر بالسيارة حتى توقف ثم ترجل الجميع وواصلوا المسير سيراً على الأقدام بسبب وعورة المكان ولكن المسافة لم تكن طويلة ، فسرعان ما انتهى بهم الطريق إلى مغارة استقبلهم على مدخلها رجل يحيط به عدد من الرجال المسلحين وهو يلوح بيده قائلاً

- مرحباً بصديقنا العزيز عمر .. لم تطل الغيبة هذه المرة

هتف عمر مازحاً

- ألم أقل لك يا أبا تمام أنني لن أغيب هذه المرة .. المهم أن تكون قد جهزت ما طلبته منك ..

نظر أبو تمام بارتياب نحو علي ثم قال

- كل شيء جاهز كما طلبت .. ولكن دعنا نرحب بصديقك أولاً .. فيبدو أنه مرهق من السفر

هتف عمر مازحاً

- إنه ابن عمتي علي .. وهو مرهق من السفر والجوع أيضاً

 

دخل الجميع إلى المغارة التي كانت مزودة بمولد كهربائي وعدد من الأجهزة الكهربائية من بينها جهاز تلفزيون وقد لفت نظر علي أن أبا تمام هو أهم رجل بين المتواجدين ولفت نظره أيضاً معاملته لرجاله بقسوة وفظاظة بينما كان مرحاً وودوداً مع عمر ولقد فهم علي سبب هذا الود عندما نقده عمر مبلغاً من المال تناوله بلهفة ودسه في جيبه بسرعة دون أن يعده كأنه يخشى أن يراه احد ..

 

بعد أن تناول الجميع الطعام الذي بدا أنه تحضيره قد تم في أحد المطاعم نام الجميع داخل المغارة ، وفي الصباح أراد علي أن يستكشف المنطقة فخرج من المغارة واعتلى مكاناً مرتفعاً على الجبل ليكتشف أنهم قريبون جداً من خليج العقبة الذي يفصل بين حدود مصر والسعودية .. حاول علي أن يجد مكاناً بعيداً عن أعين الحراس ليصلي الصبح ، وفي ذهنه تنبيه عمرله بأن يخفي تدينه وأن يتصرف كشخص بعيد عن التدين كشأن كل المهربين .. ولكن الحراس كانوا يتابعون حركاته حتى لفت نظره أن أحدهم قام ليؤدي الصلاة و قبل أن تسلل الحيرة إلى نفسه جاءه صوت يهمس من خلفه :

- لا تغرنك صلاة هذا الرجل أو غيره ، حتى لو شاهدتهم جميعاً يؤدون الصلاة جماعة ، فهم يفعلون ذلك من باب التقاليد التي تعودوا عليها لا أكثر ..

لم يلتفت علي نحو عمر وظل ينظر بتعجب نحو الحارس و هو يصلي ثم هتف قائلاً :

- وهل شققت عن قلوبهم يا رجل ..!

جلس عمر بجوار علي ثم قال ساخراً

- من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فلا صلاة له يا عزيزي .. فهؤلاء يسترزقون من تهريب الخمور التي تأتي من منفذ طابا إلى هنا ثم يهربونها إلى المافيا البريطانية في السعودية .. أما تهريب السلاح أو المخدرات أو حتى الأفراد فهذا عمل ثانوي بالنسبة لهم ..

عقد علي حاجبيه باهتمام قبل أن يقول :

- هذا يعني أنهم يتعاملون مع اليهود أيضاً ..

قطع علي حديثه عندما ضحك عمر بصوت عال و قال:

- تستطيع أن تقول يا أخ علي أن ساحل خليج العقبة الممتد من رأس محمد حتى طابا هو منطقة يهودية وكل من يعيش هنا له علاقة ما مع اليهود لأنهم الأغلبية في هذا المنطقة ، فاليهود يتواجدون هنا بعشرات الألوف وأحياناً بمئات الألوف لأن هذا المكان هو الأكثر أمناً بالنسبة لهم في العالم .. بل أنه آمن لهم من فلسطين نفسها ..

 

لم يستطع علي أن يكتم غضبه وهو يقول :

- ألهذه الدرجة يشعرون بالأمان هنا ..؟

أشار عمر بيده نحو البحر وهو يقول

- أي تجمع تراه هناك بالقرب من البحر أغلبه من اليهود

قاطعه علي باهتمام بالغ قائلاً

- ماذا لو أننا دفعنا مبلغاً كبيراً من المال لرجل كأبي تمام وطلبنا منه في المقابل أن يستدرج لنا مجموعة منهم فنأخذهم نحو مغارتك السرية ونفاوض عليهم لإطلاق سراح الأسرى في سجون الصهاينة ..

هتف عمر ساخراً

- أبو تمام يعرف قواعد اللعبة جيداً .. فعلى الرغم من أنه مطلوب للحكومة المصرية في عدة قضايا وهارب من تنفيذ مجموعة أحكام صدرت بحقه ، إلا أنه يعرف جيداً أن الأمر سيكون مختلفاً تماماً إن تعرض لليهود هنا .. فهو يعلم أن الأجهزة الأمنية ستعتقل كل عائلته من أصغر طفل فيها إلى أكبر شيخ كي يقوم بتسليم نفسه لو أنه مس اليهود بضرر ، سواءً كان هو أو أحد رجاله .. وطالما اقتصر نشاطه على التهريب فقط ، ستكون فرضية وقوعه في أيدي أجهزة الأمن بسبب صدفة أو خطأ تكتيكي منه لا أكثر ، لأنهم لا يعملون بشكل جاد مع هذه النوعية من الخارجين عن القانون .. لذلك هو يحصر نشاطه في تهريب الخمور والمخدرات كي لا يؤلب عليه أجهزة الأمن هنا .

تنهد علي بحرارة قبل أن يقول :

- من المؤسف أن نستعين بأشخاص كهؤلاء لمساعدتنا في عملنا هذا ..

 

حاول عمر أن يرد على حديث علي إلا أنه صمت عندما دعاهم أحد الحراس لتناول طعام الإفطار ..

و أثناء تناول الطعام أبدى أبو تمام غضبه من طمع رجال الأمن المصريين واشتكى من مبالغتهم في طلباتهم التي لا تنتهي فعلق عمر على حديثه قائلاً

- لا تحاول معي يا أبا تمام .. فلن أدفع لك مالاً غير الذي اتفقنا عليه .. ثم أن الرحلة ليست مخصصة لنا وحدنا ، لأنها ستخرج بنا أو بدوننا

أمر أبو تمام أحد رجاله أن يصب القهوة ثم قال بفخر :

- أنت تعرف أنني لا أرجع في كلمتي أبداً ، ولكني أقول ذلك كي تأخذ الأمر بحسابك في المرات القادمة .. فعيوننا التي تخبرنا عن تحركات دوريات خفر السواحل زاد طمعها في الفترة الأخيرة وأصبحت مطالبهم لا تنتهي ..خصوصاً أننا تطورنا الآن وأصبحنا نتعامل مع رتب كبيرة

قاطعه عمر وهو يقول بسخرية

- المهم أن لا نكون إحدى هداياك لأمن الدولة ، فأنا أعلم أنك من حين لآخر تزودهم ببعض القضايا كي يغضوا الطرف عن نشاطك ..

ضحك أبا تمام قبل أن يهتف بخبث قائلاً

- هذا أفعله مع المنافسين أو حديثي العهد بالمهنة ، أما أنت فبيني وبينك عيش وملح ويكفي أنك تقصدني دائماً دون سواي مع أنك صاحب خبرة و تستطيع أن تفعل ما تريده دون مساعدتي

غمغم عمر بضيق

- هذا تهديد مبطن يا أبا تمام ولا يروق لي أبداً ..

هتف أبو تمام وهو يلوح بيده نافياً باعتذار

- انفض عن رأسك هذه الفكرة يا صديقي ، فليس بيننا ما يدعو للتهديد أو الشك ..

اقترب أبو تمام من عمر وهمس في أذنه قائلاً :

- لو أنني كنت أشك فيك لما سمحت لك ولصديقك الذي لا أعرفه بدخول مغارتي بأسلحتكم ، فهذا شيء لا أفعله حتى مع أقاربي ، ثم أنكم ستسافرون مع بضاعة لي لا يقل ثمنها عن مائة ألف دولار

هز عمر رأسه ثم قال بجدية

- لا بأس يا أبو تمام .. لكن متى سنسافر مع بضاعتك ؟

نظر أبو تمام لأحد رجاله ثم خاطبه قائلاً

- اتصل بالعقيد سعيد واسأله عن حالة الطقس

انتظر الجميع نتيجة الاتصال وبعد أن أغلق الرجل هاتفه قال بارتياح

- يقول أن الرياح هادئة والجو مناسب للصيد ، ولكن الريح ستشتد بعد الرابعة مساء

ابتسم أبو تمام بظفر قبل أن يأمر رجله قائلاً

- أخبر الجميع أن يستعدوا للصيد ..

تدخل عمر قائلاً

- هل يعني هذا أننا سنرحل اليوم ؟

التفت أبو تمام وهو يقول بمرح

- لقد سمعت بنفسك .. فمن الآن حتى الساعة الرابعة نستطيع الذهاب والعودة قبل موعد انطلاق الدوريات ، أما بالنسبة لكما فستخرجون مع الرجال على ظهر اليخت وسينزلونكما بالقرب من الشاطئ بقارب مطاطي في المنطقة التي تريدانها ثم يواصلون رحلتهم

 

لم يتوقع علي أن يكون القارب الذي سيقلهم ويقطع بهم خليج العقبة تجاه السعودية قارب سياحي فاخر ، والأغرب أن القارب كان يحمل على متنه مجموعة من الأجانب من بينهم أطفال ونساء مما يوحي بأنه مجرد يخت سياحي عادي مما جعل علي يهتف قائلاً :

- يبدو أن أبا تمام قد أعد العدة جيداً .. لكني لا أرى البضاعة التي تحدث عنها إلا إذا كانوا يخفونها في قاع القارب ..

عدّل عمر من وضع قبعته قبل أن يجيب قائلاً

- سأشرح لك ما الذي يفعله هؤلاء الأوغاد .. بعد أن يتأكدوا من خلو البحر من دوريات خفر السواحل بوسائلهم الخاصة ، يضعون صناديق الخمر أو ما يودون تهريبه في قاع القارب المعد لعملية التهريب ثم يتوجهون به نحو سواحل السعودية في منطقة معينة حيث يقابلهم قارب له نفس المواصفات والشكل والنوع وعندها يتم تبادل الركاب فقط ويتوجه القارب القادم من السعودية كأنه هو نفس القارب المغادر لسواحل مصر بينما يتجه القارب الآخر إلى ساحل السعودية بما يحمله وهو عادةً ما يكون مملوكاً لشركة أجنبية كنوع من التغطية .

عقد علي حاجبيه وقبل أن يعلق على حديث عمر كان أحد الرجال يتوجه إليهما قائلاً

- استعدا للمغادرة فلقد حان موعد رحيلكما

تناول عمر من يد الرجل النظارة المعظمة وبعد أن نظر من خلالها نحو الشاطئ هتف قائلاً

- ألا تستطيع أن تقترب بنا أكثر نحو الشاطئ ..

قاطعه الرجل قائلاً

- نحن ننقلكما دون معرفة أصحاب البضاعة وهذا مخالف للتعلميات ، لذا يجب أن تغادرا القارب الآن قبل ..

توقف الرجل عن الحديث بعد أن أشار له عمر بيده وهو يقول

- حسناً حسناً .. سننزل هنا ولو أنني مصاب بدوار البحر ولا قدرة لي على التجديف لهذه المسافة

 

اعتذر الرجل مرة أخرى وقال أنه لا يستطيع مخالفة الأوامر ثم توجه عمر وعلي نحو السلم حاملين أمتعتهما في حقيبتين صغيرتين وبعد أن ألقياهما داخل القارب المطاطي قفزا إليه وبدأ عمر بالتجديف بعد أن فك الحبل لينفصل القارب المطاطي الصغير عن اليخت الذي ابتعد عنهما بسرعة

 

تبادل عمر وعلي التجديف إلى أن وصلا إلى شاطئ المملكة السعودية الذي كان محاطاً بسور عالٍ من الجبال وبعد أن نزلا إلى الشاطئ قام عمر بتفريغ الهواء من القارب المطاطي وأخفاه بين تجويف صخري ثم حمل كل منهما حقيبته على كتفه وسارا بمحاذاة الشاطئ الصخري إلى أن وصلا لمكان يسهل من خلاله تسلق الجبل و قال عمر

-سنتوجه الآن نحو جبال اللوز فهناك من سيساعدونا في الوصول إلى العراق .. أرجو أن تكون في حالة جيدة لأننا سنسير مسافة طويلة في منطقة وعرة

 

رغم أن عمر وعلي استمرا في السير حتى حلول الظلام قطعا خلالها مسافة طويلة ، إلا أن علي كان يسمع صوت البحر باستمرار لدرجة أنه خمن أنهما يسيران بمحاذاة البحر ، ولكن عمر أخبره أن البحر أصبح بعيداً ، ولكن هدوء المكان وارتفاعه عن مستوى سطح البحر يجعل صوت البحر واضحاً خاصةً في الليل فعقب علي قائلاً

- إلى أي مسافة يمكننا سماع صوت البحر ؟

 

توقف عمر عن السير فجأة وقال وهو يجول ببصره في أرجاء المكان

-سنستريح هنا قليلاً ثم نواصل السير نحو قمة هذا الجبل ، فهو الجبل الوحيد الذي يمكننا من خلاله تخطي سلسلة الجبال هذه .. ومع أول خطوة تخطوها نحو الأسفل من الجهة الأخرى سيختفي صوت البحر

غمغم علي وهو ينظر نحو قمة الجبل

- أفضل أن نواصل السير ونستريح فوق قمة الجبل ..

ضحك عمر قبل أن يقول

- أخشى عليك من التعب ، فعلى الرغم من أن المسافة المتبقية تساوي ربع المسافة التي قطعناها إلا أنها الأكثر صعوبة وسنبذل فيها مجهوداً أكثر من الذي بذلناه طوال الطريق ..

قاطعه علي قائلاً

- إن كنت قد تعبت وتحتاج للراحة فلا بأس ..

هتف عمر مستنكراً

- أنا معتاد على السير في مثل هذه الظروف .. ولكني أراعي أنك مازلت حديث عهد بقطع هذه المسافات خاصةً أنك ستجد صعوبة في التنفس بسبب ارتفاع الجبل

هتف علي بمرح

-إذا فلنواصل السير نحو القمة ومن يشعر بالتعب أولاً يخبر الآخر ..

 

استمرا في السير وكان واضحاً أن عمر يحفظ الدروب السهلة التي تؤدي إلى قمة الجبل وبسبب جو التحدي الذي أشاعه علي كان عمر يواصل السير بسرعة إلا أن علي كان يتبعه خطوة بخطوة حتى وصلا في النهاية إلى قمة الجبل فعلاً وهنا هتف عمر قائلاً

- أنت تكابر يا علي .. لا تقل لي أنك لم تتعب ..

هتف علي مازحاً

- صدقني لو أني تعبت لأخبرتك .. ربما أشعر ببعض الألم في قدمي بسبب ضيق الحذاء الرياضي ، ولكني تعودت على الألم منذ بداية الطريق ولم يعد يشكل لي مشـ..

بتر علي عبارته فجأة عندما لمح مجموعة من الأضواء تتلألأ عن بعد فاستطرد قائلاً وهو يشير بيده

- هل تلك التجمعات المضيئة تعود لقبائل تسكن هذا المكان ..

أجابه عمر وهو ينظر تجاه الإشارة

- تلك الأضواء تعود لمدن سعودية صغيرة ، و من خلفك تستطيع رؤية الأضواء التي تنبعث من مدينة حقل السعودية والعقبة الأردنية و طابا المصرية وإيلات الإسرائيلية ..

قال علي بانزعاج

- تقصد أم الرشراش الفلسطينية وليست إيلات ..

 

صلى علي وعمر صلاة الفجر فوق قمة الجبل ثم هبطا منه للجهة الأخرى ، وبعد أن سارا عدة كيلومترات وصلا إلى مشارف القبيلة التي كان يقصدها عمر وهناك تم استقبالهما بحفاوة بالغة جداً ..

كانت القبيلة عبارة عن مجموعات صغيرة من الخيام تتناثر عن بعد حول خيمة كبيرة عرف علي بعدها أنها الخيمة التي يلتقي فيها رجال القبيلة كل مساء وهي الخيمة التي يقصدها كل عابر سبيل أو ضيف .. وبالرغم من مظهر الحياة البدائية التي يعيشها أفراد القبيلة إلا أن مشهد السيارات الحديثة ذات الدفع الرباعي و التي تتواجد بكثرة بجوار الجمال وقطعان الماشية جعل علي يشعر أن الماضي والحاضر يلتقيان في هذا المكان ، ولقد زاد هذا الشعور لديه عندما شاهد لواقط الأقمار الصناعية بجوار الخيام وكذلك لاحظ كثرة استخدام الهواتف النقالة من قبل رجال القبيلة .. ودهش أكثر حين أخبره عمر أن لديهم مولدات كهرباء تعمل بالطاقة الشمسية و أن عدد الذين يعرفون القراءة والكتابة في القبيلة لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة

 

كان كل شيء في هذه القبيلة مثير بالنسبة لعلي .. ففي الوقت الذي كان يرى فيه رجالها يقودون السيارات بمهارة عالية كان نفس الرجال يبهرونه أكثر حين يعتلون صهوة جيادهم كأنهم ولدوا فرساناً على ظهور الخيل .. و عرف من عمر أن سكان هذه القبيلة لا يحملون بطاقات هوية ولا أي شيء يثبت شخصيتهم وأنهم يعتبرون أنفسهم دولة مستقلة ولا ينسبون أنفسهم إلا لعشيرتهم فقط .. و حين لم يشاهد رجلاً بدون لحية أو امرأة بدون حجاب شعر أن سكان القبيلة ملتزمون دينياً ، إلا أنه تفاجأ أكثر عندما عرف أن غالبيتهم لا يصلون وأن الصلاة تقتصر فقط على كبار السن ، ولكن عمر أخبره أن بإمكانه أن يصلي هنا كما يشاء وأخبره أيضاً أنه لو شاهد أفراد القبيلة في شهر رمضان لظن أنهم من الصحابة من شدة التزامهم بمواعيد الصلاة في جماعة رجالاً ونساء وأطفالاً ولكن ذلك ينتهي مع انتهاء الشهر

 

لم يرتح علي لهذه القبيلة المليئة بالمتناقضات والتي لا يهتم رجالها إلا بمسائل الشرف والعار والثأر والتباهي وكأنهم يعيشون من أجل ذلك فقط ..

لم يدم مكوث عمر وعلي في تلك القبيلة أكثر من نهار وليلة .. فقد كان عمر ينتظر الابن الأصغر لشيخ القبيلة و هو الذي سيكون دليلهما في السفر لأنه أمهر رجال القبيلة في قيادة السيارات وأكثرهم دراية بدروب الصحراء ومسالكها ..و في الصباح و قبل أن يستقل علي وعمر السيارة مع زيد ابن شيخ القبيلة ، نقد عمر مبلغاً من المال لشيخ القبيلة قبل أن يودعه بحرارة ويشكره على حسن ضيافته

 

كان زيد يقود السيارة بمهارة منقطعة النظير وسط الصحراء بسرعة تجاوزت في بعض الأحيان 120 كيلومتراً في الساعة ، وعندما وصل إلى الطريقة المعبدة كان مؤشر عداد السرعة يشير باستمرار نحو الـ 180 كيلومتراً في الساعة فهتف علي ساخراً

- أراهن أنك تتمنى لو أصبحت هذه السيارة طائرة لتطير بها

هتف زيد بحماس

-آخر مرة وصلت فيها لعرعر الجديدة ، قطعت المسافة في ست ساعات فقط ، مع أن السيارة كانت محملة بحمل ثقيل وكانت أقدم من هذه السيارة

غمغم علي

- عرعر !!

ابتسم عمر الذي يجلس بجوار زيد ثم التفت نحو علي قائلاً

- عرعر الجديدة ، مدينة سعودية تقع على الحدود بين العراق والسعودية ..

قاطعه زيد قائلاً

- إن وصلنا قبل غروب الشمس ستكون أسرع رحلة إلى العراق

سأله علي باهتمام

- متى كانت آخر مرة سافرت فيها إلى العراق ؟

أجاب زيد بفخر

- المرة الأخيرة كانت عندما عاد معي عمر من هناك قبل أقل من شهر ، ولكني سافرت إلى الأردن أربع مرات بعدها ، فأنا أحب الذهاب إلى الأردن لأن أخوالي هناك كما أنني سأصاهرهم

لكزه عمر مازحاً

- ألم تتزوج العام الماضي من ابنة عمك

مط زيد شفتيه بامتعاض قبل أن يقول

- كانت تلك رغبة أبي .. فأنت تعلم أنه لا يوجد في القبيلة من يستطيع أن يرد له أمراً ..

 

لم يستطع علي التحدث بحرية مع عمر بسبب وجود زيد ، فتركهما يتحدثان وحاول هو أن ينام إلا أن محاولاته باءت بالفشل بسبب الرمال التي كانت تغطي أجزاءاً كبيرة من الإسفلت والتي كانت تتسبب في قفز السيارة إلى الأعلى بسبب السرعة الجنونية التي يقود بها زيد .. وعلى الرغم من أن ذلك كان مزعجاً بالنسبة لعلي إلا أن زيد كان يستمتع بقفزات السيارة القوية كأنه يتمنى أن يطير بها حقاً

 

استمر زيد في قيادة السيارة بسرعة وقبل أن يصل إلى مدينة عرعر بخمسين كيلومتر كما هو مكتوب على اليافطة .. انحرف نحو الصحراء مرة أخرى ليسير بنفس السرعة كأنه في سباقات الرالي .. وعلى الرغم من دخول الليل أثناء سيره إلا أنه لم يشعل أضواء السيارة و اعتمد على ضوء القمر ، فسأله علي عن سبب عدم إشعاله مصابيح السيارة فأخبره زيد أن ذلك أفضل حتى لا تقصفهم طائرات الأمريكان وأنه يرى جيداً في ضوء القمر

 

كانت مفاجئة كبيرة لعلي عندما عرف أنهم داخل العراق فعلاً وأنهم قريبون جداً من مدينة الهبارية العراقية ، فهو لم يتوقع أن يكون الدخول إلى العراق بهذه السهولة ولكن عمر أخبره أن التجوال بين الدول العربية أسهل بكثير مما يتصور خاصةً إن تنقل بصورة غير قانونية

 

توقف زيد لأول مرة منذ خرج من قبيلتهم بالسيارة و أخرج من تحت كرسيه لوحتي أرقام للسيارة خاصة بالعراق وبعد أن قام بتثبيتهما وأضاف المزيد من الوقود للسيارة ، انطلق بها مرة أخرى ليصل إلى طريق معبدة بدا أنها مهترئة بسبب كثرة الحفر و المطبات

 

كانت الساعة تُشير نحو الثانية صباحاً عندما وصل الجميع إلى مشارف قرية بالقرب من مدينة الهبارية ، حيث استقبلهم هناك رجل يدعى أبا عياد.. وبعد أن تناول الجميع الطعام لديه خلدوا إلى النوم و ظل علي مستيقظاً حتى سمع آذان الفجر فقام للصلاة هو وعمر بينما زيد مستغرق في نومه ، وبعد الصلاة أراد علي أن يصعد فوق سطح المنزل ليشاهد القرية التي لم يراها جيداً بسبب الظلام

 

ذهب عمر لينام ولكن علي -الذي كان يشعر بإرهاق شديد- لم يستطع أن ينام بسبب فضوله الشديد لرؤية الشمس وهي تشرق على أرض العراق .. استمر علي في ممارسة تمارين الطاقة فوق سطح المنزل بينما كانت أنفاس الصباح تتسلل إلى القرية التي بدت كواحة مليئة بالنخيل وسط صحراء كبيرة مترامية الأطراف ، وعلى الرغم من السعادة التي شعر بها لمجرد أنه في بلاد الرافدين إلا أن شعوراً بالغيظ والحنق كان يتنامى بداخله بسبب حالة البؤس التي كانت عليها تلك القرية ، فهو يعلم أن العراق بلد نفطي و زراعي ويتمتع بموارد كافية بأن تجعل ساكنيه أغنى أهل الأرض قاطبة ، فهو يملك من الموارد الطبيعية أضعاف ما تملكه أغنى الدول الأوربية ..

 

في الصباح ، صعد عمر إلى السطح فوجد علي جالساً على صندوق خشبي واضعاً رأسه على يده الممسكة بالسور وقد غالبه النعاس و سرعان ما استيقظ علي عندما داست أقدام عمر الأغصان اليابسة التي تتناثر على أرض السطح فهمس عمر قائلاً

- ألم يكن من الأفضل لو أنك نمت معنا بدلاً من النوم بهذه الطريقة ..

نظر علي صوب الشمس ليحدد الساعة ثم غمغم بتعجب

-هل أصبحت الساعة الآن العاشرة ..

أجاب عمر بعد أن نظر في ساعة هاتفه النقال

- بعد ربع ساعة تكون العاشرة .. على كل حال أمامك ثلاث ساعات تستطيع النوم فيها لأننا سنتوجه نحو كربلاء الساعة الواحدة تماماً ..

همس علي وهو يتحسس رقبته

- لا داعي للنوم ، فلقد أخذت كفايتي منه ..

هتف عمر ساخراً

- أما أنا فلم استطع النوم بسبب السيمفونية التي كان يعزفها زيد بشخيره ..

ضحك علي ثم قال :

- هل ما يزال نائماً ..

هز عمر رأسه نافياً وهو يقول

- لقد ودعته قبل قليل وهو في طريقه الآن إلى قبيلته ..

مط علي شفتيه متعجباً

- بهذه السرعة !

ابتسم عمر ساخراً

- زيد مولع بقيادة السيارات وهو على استعداد أن يقود السيارة يومان متواصلان دون أن يتوقف حتى لتناول الطعام .. ولعلك لا تصدق لو قلت لك أن ثمن السيارة الفارهة التي معه أقل بكثير من ثمن سيارة بائسة في قطاع غزة .. لذلك من النادر أن يحتفظ بسيارة واحدة لمدة شهر

 

كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد الظهر عندما استقل علي وعمر سيارة تنقل الخضروات متجهة نحو كربلاء .. وبعد أن وصلا إلى المدينة التقيا براشد الذي رحب بعلي عندما عرف أنه قادم من فلسطين مبدياً اعتزازه بالمقاومة الفلسطينية وجهاد حركة حماس وصلابة الشيخ أحمد ياسين ثم انطلق بهما بسيارة الأجرة التي يعمل عليها نحو بغداد وأثناء الطريق هتف علي قائلاً

- لم أتوقع أن تكون العراق بهذه الحالة من البؤس والفقر وهي أكثر دول العالم ثروات وموارد

حاول راشد أن يرد على حديث علي إلا أن عمر تدخل قائلاً

- وماذا سيكون حال بلد محتلة غير البؤس والشقاء ..

هتف علي وهو يهز رأسه نافياً

- أعلم أن الاحتلال ومن قبله الحصار كان لهما الأثر الكبير على تردي اقتصاد العراق ، ولكنني أقصد مئات البيوت المبنية بطوب اللبن والطين والتي تدل على أن الفقر والبؤس منذ عشرات السنين وليس بسبب الاحتلال ..

 

ضحك راشد بتهكم ومرارة قبل أن يقول :

- مرحباً بك يا أخ علي في العراق بلد العجائب والمستحيلات .. أنت لم تر شيئاً بعد يا صديقي، فإن كنت تتعجب من مظهر البيوت والمرافق البائسة مع أن العراق بلد نفطي غني بالبترول ، فماذا ستقول لو عرفت أن غالبية سكان بلاد الرافدين لديهم مشاكل حقيقية في الحصول على الماء ..

قاطعه عمر قائلاً

- هذا أيضاً يعود للمؤامرة الكبرى التي تعرض لها العراق ، فالحرب مع إيران التي أكلت الأخضر واليابس ثم اجتياح الكويت وما أعقبه من حصار وتدمير ، كفيل بأن يدمر البلد بشكل كامل ..

غمغم راشد معلقاً

- كل هذا ما كان ليحدث لوحده .. فحزب البعث هو سبب كل المعاناة التي يعانيها العراق وما سيعانيه مستقبلاً ، فالمؤامرة التي قام بها الحزب ضد الشعب العراقي لتحقيق مكاسب شخصية ضيقة هي السبب الرئيسي والجسر التي عبرت عليه المؤامرات الخارجية التي حدثت والتي تحدث والتي ستحدث في المستقبل .. مازلنا نتوقع الأسوأ في المستقبل أيها الأخوة

 

قال راشد عبارته الأخيرة بمرارة ثم ساد الصمت داخل السيارة التي اتخذ بها راشد طريقاً فرعياً ليتجنب لجان التفتيش الأمريكية التي تنتشر في مناطق معينة في الطريق التي تربط بين كربلاء وبغداد وعندها هتف عمر سائلاً

- لماذا اتخذت هذا الطريق الفرعي وأنت تعلم أن قطاع الطرق يتواجدون في هذه المنطقة بكثرة ..

أجاب راشد بأسف واضح

- لقد أقاموا نقطة تفتيش ثابتة قبل الطريق الذي كنا نسلكه في السابق ، أما هذا الطريق و على الرغم من كثرة اللصوص فيه كما تعرف ، إلا أنه يعتبر أكثر أمناً ، ثم أنني سلكته في الصباح ولم أشاهد أياً من اللصوص ، فقد سمعت قبل أسبوع أن مجموعة من شباب القبائل المتواجدة في هذه المنطقة أخذت على عاتقها ملاحقتهم وتطهير المنطقة منهم ..

هتف علي مستغرباً

- المفروض أن تحد المحن التي يتعرض لها البلد من الإجرام كما يحدث مع كل بلد يتعرض لأزمة ..

قاطعه راشد قائلاً

- هنا يختلف الأمر.. فالأمن غائب في العراق لدرجة أنك قد تشاهد كومة من الجثث أحدثتها مجزرة دون أن تعرف من الذي قتلهم ، وعندما تسأل كيف قتلوا: ستجد العشرات من الإجابات والقصص التي تنسج حول مقتلهم .. فهناك من سيقول لك أنهم قتلوا على خلفية طائفية أو أن طائرات الأمريكان قصفتهم أو أنهم تعرضوا للسرقة قبل أن يقتلوا على يد عصابة .. وأضف إلى ذلك الكثير من الروايات التي لا تنتهي والتي يصعب التوصل للحقيقة فيها

همس علي بأسف

- إلى هذه الدرجة ؟!

هتف عمر موضحاً

- بعد سقوط نظام البعث أصبح الاحتقان والحقد الصفة السائدة داخل المجتمع العراقي .. ففلول البعث ناقمة على الشعب العراقي لأنهم يعتقدون أنه تخلى عنهم ، كما أن الكثيرين من أبناء الشعب العراقي لديهم ثأر شخصي مع أنصار البعث وبعضهم يرى أن الظرف مناسب لتصفية الحسابات ، بالإضافة للكراهية المتنامية بين الشيعة والسنة وبين الأكراد والعرب كما أن الأمريكان وبعض الدول الأخرى لديهم مصلحة في بقاء واستمرار هذا الحال في العراق ويساعدون على تأجيج الكراهية أكثر ، فكل له حساباته ومصالحة الخاصة التي تختفي وتستتر خلف الفوضى وغياب جهة تنفذ القانون

همس علي موجهاً حديثه لراشد

- ما رأيك فيما قاله الأخ عمر ..

أجاب راشد

- ما قاله عمر حقيقي إلى حد ما ، ولكنه نصف الكأس الفارغة .. فالمقاومة بدأت تتشكل وتنظم صفوفها وهناك مساع حثيثة يقوم بها شرفاء العراق في توعية الناس ولفت نظرهم للعدو الحقيقي الذي يريد تدميرنا .. قد يتطلب ذلك فترة من الوقت ولكنني متأكد أن الله لن يضيع أجر من أحسن عملا..

 

لم يكن حال مشارف بغداد بأحسن حالا من القرية التي خرجوا منها ، فعلى الرغم من أن علي شاهد مدينة بغداد على التلفاز كثيراً إلا أن راشد أخبره أن تلك الصور كانت تخص أحياء بعينها وسط المدينة ولا تعكس بأي حال من الأحوال ضواحي بغداد ومعظم الأحياء الفقيرة التي تشكل غالبية تكوين المدينة ، ولعل مشهد مئات البيوت المبنية بالطين جعل علي يلمس السبب الرئيسي الذي جعل الأمريكان يدخلون مدن العراق الرئيسية بهذه السهولة ومن دون مقاومة أو بمقاومة متواضعة لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع كمية السلاح وعدد السكان

 

أوقف راشد سيارته بجوار أحد المنازل وترجل عمر وعلي وتبعاه إلى داخل المنزل الذي عرف علي بعد ذلك أنه منزل راشد وحين اختلى عمر بعلي بعد أن استأذنهما راشد ، أخبره أن راشد يسكن هو وأخته فاطمة بعد أن قصف الأمريكان منزل أسرته والذي لم ينجو منه أحد باستثنائه هو و أخته فقط ، وقبل أن يستفسر علي أكثر عن تلك الأسرة المنكوبة فاجأه عمر حين أخرج رسالة مغلقة من جيبه وهو يقول :

- آن الأوان لكي أعطيك هذه الرسالة .. فلقد طلب مني خالك أن لا أعطيك إياها إلا عند وصولنا بغداد ..

أمسك علي بالرسالة وأخذ يتفحصها بشكل روتيني ليرى إن كانت مغلقة بالطريقة التي يعرفها وأن أحداً لم يفتحها قبله ، وعندما تأكد أن الرسالة لم تفتح من قبل همس قائلاً :

- ألم يخبرك خالي عما بداخل الرسالة ..

أجاب عمر قائلاً

- لم يخبرني سوى أنه بمجرد تسليمك الرسالة أصبح تحت قيادتك وعليّ أن أنفذ كل ما تطلبه مني دون نقاش

حاول علي أن يكتم ابتسامته إلا أن تنهيدة عمر الضجرة جعلته يضحك وسرعان ما ضحك عمر هو أيضاً قبل أن يقول ساخراً

- ما الذي أضحكك..

أجاب علي وهو يبتسم قائلاً

- تذكرت حديثك في المغارة وشعوري بأنك لست راض عن انضمامي معك في هذه المهمة حتى وأنا تحت قيادتك ، فكيف سيكون حالك بعد أن أكون أنا القائد ..

هتف عمر وهو يلوح بيده نافياً

- لا لا .. أرجو أن لا تسيء فهمي .. فأنا لم أقل أنني لست راض عن انضمامك للمهمة و ..

صمت عمر للحظة بينما علي ينظر إليه باهتمام ثم استطرد قائلاً :

حسناً يا علي سأحكي لك الحكاية من البداية وأعتقد أنك ستفهم .. لقد حدثت خالك عن وجود سلاح الآر بي جي في الأردن واقترحت عليه أن نجلب قطعاً منها إلى غزة وأخبرته أن هذا سهل بالنسبة لي ، ولكنه عندما عرف أن ذلك السلاح من العراق سألني إن كان هناك إمكانية لجلبه مباشرة من العراق ثم إلى الأردن ، فأخبرته أن ذلك ممكن ولكنه أصعب ، فطلب مني أن أمهله فترة ليفكر في الأمر ويدرسه جيداً ، ثم جاء بعد ذلك وقال أن جلب السلاح من العراق مباشرة أفضل من التعامل مع قبائل البدو في الأردن لأن أغلب عمليات التهريب التي حدثت من خلالهم تم كشفها قبل إتمامها ..

قاطعه علي وهو يقول

- لحظة كي أفهم يا عمر .. لماذا تدخل بالسلاح إلى الأردن من العراق ألا يُفترض أن تجلبه من العراق مباشرة إلى سيناء بالطريقة التي أتينا بها إلى هنا ثم إلى غزة عن طريق النفق ..

غمغم عمر قائلاً

- لن يساعدنا أحد ممن التقينا بهم في طريقنا لو أنه عرف أن ما لدينا سلاح مضاد للدروع ، كما إنهم لا ينقلون شيئاً دون أن يعرفوه، وحتى إن قبلوا ذلك فتوقع الغدر في أي لحظة سواءً حدث هذا في البداية أم من الذين يتحكمون في الأنفاق في كلا الجهتين ..

غمغم علي قائلاً

- ولماذا نحن مضطرون لمساعدتهم .. لم لا نقوم بذلك وحدنا معتمدين على أنفسنا ..

عقد عمر حاجبيه ثم قال باهتمام

- اسمع يا علي ، كل منطقة حدودية لها من يسيطر عليها ويبسط نفوذه .. فهل تستطيع حركة حماس مثلاً أن تحفر نفقاً خاصاً بها من رفح فلسطين إلى رفح سيناء ؟

هز علي رأسه نافياً ثم قال

- بالطبع لا ..

هتف عمر قائلاً

- قس على ذلك كل المناطق الحدودية التي يمكن أن تتصورها .. فكل منطقة لها من يبسط عليها نفوذه وإن تجاهلتهم وأردت أن تعمل لحسابك الخاص سيمنعونك إما بقتلك وإما عن طريق الوشاية بك لحرس حدود إحدى الدولتين ..

وضع علي يده تحت ذقنه ثم قال

- أتفهم ذلك لأن المنطقة التي بيننا وبين مصر وتصلح لحفر الأنفاق لا يزيد طولها عن كيلومترين فقط ، لكن المناطق الحدودية الأخرى طويلة بعشرات أو مئات الكيلومترات ، ولا يعقل أن تكون كل المناطق خاضعة لنفوذ أحد ..

أومأ عمر برأسه موافقاً ثم قال

- قد يكون كلامك صحيح ولكنني لم اكتشف أياً من تلك المناطق حتى الآن .. لكن حتى لو استطعنا أن ندخل السلاح إلى سيناء فكيف لنا أن ندخله إلى غزة وأنت تعلم أن مافيا الأنفاق تشترط على من يتعامل معها أن يخضع لقوانينها ومن المؤكد أنهم سيرفضون التعامل معنا حين يعرفون أن ما نقوم بتهريبه هو سلاح مضاد للدروع .. أما بالنسبة للأردن فلقد استطعت الاتصال بأحد البدو في منطقة وادي عربة وهو له أقارب يعملون في جيش البادية الأردني وأقارب آخرون يعملون في سلاح حرس الحدود الإسرائيلي و قد جربته في بعض العمليات وقام بإتمامها على أكمل وجه ..

مط علي شفتيه وكأن الأمر لم يرق له ثم قال

- وماذا لو كانت تلك العمليات مجرد فخ أو مكيدة من المخابرات الصهيونية ..

هتف عمر قائلاً

- احتطنا لهذا الأمر جيداً .. فهو يستلم منا السلاح في الأردن ولا يحصل على مقابل مادي نظير نقله إلا بعد أن تأتي الإشارة من غزة أن كل شيء على ما يرام ..

غمغم علي قائلاً

- مازلت لا أفهم حتى الآن ما دوري في هذه المهمة .. فمن خلال حديثك فهمت أنك قادر على القيام بها لوحدك ..

قال عمر متعجباً

- الحقيقة أنني سألت خالك هذين السؤالين لم يجب عليهما بشكل واضح .. وعندما طلب مني أن أصحبك معي في المهمة ، وعلمت منه أنك في مصر ، سألته عن كيفية وثوقك بي في أمر كهذا وأنت لا تعرفني ولم تراني من قبل .. قال لي أعطه الرسالة التي أعطيتك إياها وسمح لي بأن أقرأها والحقيقة لم اقتنع أنك ستثق بي لمجرد كلمات مكتوبة في رسالة من الممكن أن يكتبها خبير خطوط أو حتى خالك نفسه تحت ضغط جهة ما .. وعندما سألته عن فائدة مشاركتك لي في المهمة أعطاني الرسالة المغلقة التي أعطيتك إياها وقال أنني سأفهم عندما تقرأها أنت وطلب مني أن أنفذ كل ما تطلبه بمجرد قراءتك للرسالة و..

 

قطع عمر حديثه بغتة عندما دخل راشد حاملاً بين يديه مائدة الطعام وهو يهتف قائلاً

- هل تأخرت عليكما ..

صاح عمر وهو ينهض من مكانه لمساعدة راشد

- خروف دفعة واحدة ..

بتر عمر عبارته عندما دخلت فاطمة وهي تقول

- إنه جدي أيها الذكي .. السلام عليكم أولاً ..

رد علي وعمر السلام بينما قال راشد

- هل تصدق يا عمر أن فاطمة هي من قامت بذبح هذا الجدي وسلخه ..

هتف عمر وهو يهز رأسه موافقاً

- أصدق جداً .. ألم تدرس ثلاث سنوات في كلية الطب ..

هز راشد رأسه نافياً وهو يقول

- الأمر لا علاقة له بكلية الطب ، فقد كانت مدللة لدرجة أنها لا تستطيع حتى سلق بيضة ، فوالدتي رحمها الله لم تكن تسمح لها بأن تدخل المطبخ وكانت تقول دائماً : أن فاطمة ولدت أميرة ويجب أن تكون كذلك حتى بعد أن تتزوج .. ليتها كانت اليوم بيننا لترى ابنتها المدللة بعد التغيير وهي تذبح وتسلخ وتطهو جدياً كاملاً دون مساعدة أحد ..

 

كانت نبرة الحزن قد تسللت إلى صوت راشد فقال عمر مازحاً

- أراهن أن فاطمة لا تدري أنني أحد المدعوين على وليمتها و إلا اكتفت بذبح دجاجة ..

هتفت فاطمة بحدة

- نحن العراقيين أهل كرم يا أخ عمر ومن عادتنا إكرام الضيف حتى لو كان عدواً ..

 

لم يكن هناك الكثير من الحديث عندما جلس الجميع لتناول الطعام ولكن علي لاحظ أن فاطمة تتعامل بحدة مع عمر و أنها بالكاد تبتلع كلامه و تقابله بسخرية حادة ولكن راشد كان يروقه الأمر فيضحك وإن كانت نظراته أحياناً تعاتب أخته لأسلوبها الجاف وهي توجه حديثها اللاذع لعمر ، وعندما فرغ الجميع من تناول الطعام حمل راشد المائدة ولحقت به أخته فهمس علي في أذن عمر قائلاً

- واضح أن فاطمة لا ترحب بوجودنا وهذا ..

قاطعه عمر قبل أن يكمل عبارته قائلاً

- حتى لا تسيء فهم ما يحدث سأشرح لك كي تكون الصورة واضحة أمامك .. فاطمة تكره وجودي فعلاً لأن فكرتها عني أنني مهرب .. فقبل أن يدخل الأمريكان إلى العراق كنت

أزورهم كثيراً في بيت الأسرة وعندما عرفت بالصدفة أنني وأخوها نعمل في تهريب وتسويق قطع غيار السيارات داخل العراق ، شعرت أنني أعرض أخوها للخطر كما أن الفكرة

لدى العراقيين عن المهربين أنهم رفقة سوء وإن كانت قد تغيرت لدى البسطاء بسبب الحصار وأصبحت في نظرهم عملاً وطنياً إلا أنها لم تتغير في نظر أسرة راشد التي لم تكن تعرف بنوع العمل الذي أقوم به مع راشد باستثناء فاطمة التي عرفت بالصدفة وأصبحت تنظر إليّ على أنني أسوق أخوها إلى الهلاك ، خاصة أن صدام كان يعاقب من يقوم بتهريب أي شيء حتى لو كان دواءً بالإعدام وغالباً ما يتم ذلك بدون محاكمة ..

قاطعه علي قائلاً

- كيف تكون البلد في حصار خارجي من عدو ، ومن ثم يُعاقب من يقوم بكسر هذا الحصار..

غمغم عمر قائلاً

- صدام يا عزيزي كانت لديه فلسفة خاصة به ، فهو يريد أن يسوء حال العراقيين ليصلوا إلى مرحلة المجاعة الكاملة والموت من المرض والفقر والجوع ثم يقوم بعد ذلك بعرض الجثث والتوابيت أمام وسائل الإعلام ليثبت لشعبه أنه صامد من جهة ومن جهة أخرى يستعطف المجتمع الدولي ليضغط على الأمريكان لفك الحصار والابتعاد عنه ..

تنهد علي قبل أن يقول بمرارة

- نفس الأسلوب الذي تطالب به السلطة عندنا ، فهم أيضاً يريدون منا أن نخرج في مظاهرات سلمية لنموت على حواجز الجيش كما كان يحدث في أول الانتفاضة ليستعطفوا العالم كي يضغط على الصهاينة من جهة ومن جهة أخرى يتاجرون بدماء الشهداء حين ينهبون التبرعات ..

هتف عمر مقاطعاً

- دعنا من كل هذا واسمع ما سأقوله لك لأنه سيفسر لك الكثير من الأمور ..

 

صمت عمر للحظة ثم أردف بعد أن هز علي رأسه موافقاً

- كانت أسرة راشد ميسورة الحال قبل اندلاع الحرب ، فقد كان لهم بيت كبير بحديقة جميلة و والديه كانا محاضران للطلبة في جامعة بغداد .. باختصار لم تكن الأسرة بحاجة للمال كي يقوم راشد بالعمل الخطر في مهنة تسويق المهربات ، ولكن راشد الذي تخرج من الجامعة ولم يجد وظيفة بما حصل عليه من مؤهل أراد أن يشاركني هذه المهنة حباً في الإثارة ولكي ينفق على نفسه بدلاً من أخذه المصروف من والده وهو الأمر الذي لم يرق لفاطمة ولم تستطع أن تجد له حلاً خاصةً وهي تعرف جيداً أن أي بلبلة في هذا الموضوع سيعرض أخوها للقتل على يد النظام ، لذلك لم تجد إلا أن تصب جام حقدها عليّ واعتبرتني أنني السبب في أن يسلك أخوها هذا الطريق ..وعلى الرغم من الحفاوة التي كنت ألقاها من والدي راشد إلا أن فاطمة كانت تقوم بالعكس وسط دهشة والديها المتعاطفين مع الفلسطينيين إلى حد كبير وكانا يعبران عن ذلك من خلال ودهما لي .. لكن في الأيام الأولى للحرب استشهد والديها عندما دمرت الطائرات الأمريكية الحي الراقي الذي كانا يسكناه تدميراً كاملاً ولولا قدر الله بأن يكون راشد وأخته عند جدتهما في الرمادي لكانا من بين القتلى ، فالمنزل تم تدميره تدميراً كاملاً وقد أدى هذا إلى فصل راشد وأخته عن حياتهما السابقة وساءت أحوالهما الاقتصادية كثيراً خاصةً أن راشد ليس له أقارب سوى عم واحد يعيش في عمان بينما جدته أم والده ماتت بعد استشهاد ابنها بثلاثة شهور حسرة عليه ..

 

توقف عمر عن الحديث عندما دلف راشد إلى الغرفة وبعد أن قدم الشاي هتف عمر قائلاً

- كنت أحكي للأخ علي عن الظروف التي مررت بها أنت وفاطمة ..

 

بدا لعلي أن ملامح راشد قد تغيرت واكتست بالحزن ولكنه تدارك نفسه ثم قال موجهاً حديثه لعلي:

- من عادتنا أن لا نسأل الضيف أو نسأل عنه إلا بعد مرور ثلاثة أيام على ضيافته ، ولكن من الواضح أن عمر يكن لك معزة خاصة وإلا ما حدثك عنا ..

 

ضحك عمر وهو يقول مقاطعاً

-أعرف ما يدور في رأسك يا راشد ، ولكن الأخ علي هو أحد مجاهدي كتائب القسام وتستطيع أن تقول أنه أميري ، فهو الشخص الذي ستتعامل معه بشكل مباشر في الأمر الذي

جئت من أجله ..

 

لم يرق لعلي حديث عمر فنظر إليه معاتباً ولكن عمر استطرد قائلاً

- أما الأخ راشد فهو أحد مجاهدي كتائب ثورة العشرين الجناح العسكري لحركة المقاومة الوطنية و الإسلامية وهي حركة مقاومة جديدة لا بد أنك سمعت عنها ، كما أنه الشخص الذي سيوفر لنا ما جئنا من أجله وهو من كنت أعتمد عليه في العمليات السابقة وكثيراً ما حدثت خالك عنه ..

 

ساد جو من الصمت بعد حديث عمر وأخذ كل من راشد وعلي ينظران إليه فصاح قائلاً:

- لا تنظرا إليّ هكذا ، فما قلته ضروري كي تزول الحواجز وليعرف كل منكما كيف يتعامل مع الآخر ..

 

أومأ راشد برأسه متفهماً ثم همس مخاطباً عمر

- طالما الأمر كذلك فيجب أن تعرف فاطمة حقيقتك فهناك أمر هام جداً يتعلق بها و برحلتك إلى الأردن و أود أن أحدثك فيه وهو لن يتم إلا إذا عرفت أنك مجاهد ولست مجرد مهرب ..

 

غمغم عمر معلقاً على حديث راشد

- كنت قد لمحت لهذا الأمر سابقاً في آخر لقاء بيننا ، ولكنني لا أستطيع أن أبت فيه لأن الأخ علي هو المسئول الآن عن العملية كلها وهو صاحب القرار الأول والأخير ..

 

غمغم علي مستفسراً

- عن أي أمر تتحدثان ..

 

هتف عمر قائلاً

- فليخبرك راشد إن شاء ذلك ..

 

تململ راشد قبل أن يقول

- في الحقيقة أنا وأختي فاطمة مررنا بظروف صعبة للغاية بعد استشهاد والديّنا ، وعلى الرغم من صعوبة تلك الظروف إلا أن فاطمة أثبتت جلداً وصلابة لم أكن أتوقعهما وعهدي بها الفتاة المدللة التي كانت تحظى في أسرتنا بكل الاهتمام والرعاية البالغة ، حتى عندما انخرطت في أعمال المقاومة أبت إلا أن تشاركني هذا العمل ، ولقد خرجت معي في كثير من العمليات حملت فيها الرشاش والآربي جي كأي مجاهد يسعى بصدق نحو انتزاع النصر أو الشهادة ..ولأن فاطمة ليس لديها أقارب في العراق سواي وأخشى إن حدث لي شيء هنا أن لا تستطيع تدبر شئونها من بعدي ، قررت أن تسافر إلى عمي في الأردن حيث ستجد عنده حياة أفضل تناسبها كأي فتاة ، كما أن أخوالها سيساعدونها كثيراً ويقدموا لها الرعاية اللازمة وتستطيع هناك أن تكمل تعليمها وتصبح طبيبة كما كان يتمنى والديّ .. ولكي يحدث هذا لم أجد أمامي إلا صديقي عمر كي أحمله هذه الأمانة حين يسافر إلى الأردن ليسلمها يداً بيد لعمي في عمان مع أنني أعلم أن خط سيره في الأردن بعيد عن عمان ..

 

نظر علي مطولاً لراشد ثم همس قائلاً

- اسمح لي يا أخ راشد فما تقوله ليس منطقياً بالمرة .. فما فهمته من كلامك أنك خائف على أختك و تريد أن تمنحها مستقبلاً أفضل وذلك بسفرها إلى الأردن ، ولكنك في نفس الوقت تعرضها لخطر كبير بفكرتك هذه ، فأنت تعلم أن الطريق محفوفة بالمخاطر على الأقل بالنسبة لفتاة في رحلة صعبة كتلك ، وحتى لو كانت هناك ضرورة ملحة بأن تذهب أختك إلى عمان ، فقد كان الأولى أن تصطحبها إلى هناك وتسلمها إلى عمك بنفسك ثم تعود مرة أخرى إلى هنا بعد اطمئنانك عليها ..

 

أطرق راشد برأسه قليلاً كأنه لا يدري ماذا يقول ثم نظر إلى عمر الذي هتف قائلاً

- الحقيقة يا أخ علي أن راشد سينفذ قريباً عملية استشهادية مع اثنين من الأخوة وأخته لا تعلم بذلك ، فهو يخشى أن ينتقم الأمريكان منها إن استشهد في هذه العلمية .. فالأخبار التي تتسرب من داخل معتقل أبو غريب -القريب من هنا- تفيد بأن الأمريكان ينكلون بذوي المجاهدين و المطلوبين أو اللذين نفذوا عمليات استشهادية ، وهناك أخبار مؤكدة تتحدث عن تعرض ذوي المجاهدين بعد اعتقالهم من أطفال ونساء للاغتصاب ، سواءً كان ذلك للضغط عليهم كي يرشدوا عن رجال المقاومة أو بدافع الانتقام من المجاهدين ..

 

تدخل راشد مقاطعاً حديث عمر

- من ناحية أخرى أختي فاطمة تطوعت للعمل الجهادي وقد رافقتني في معظم العمليات التي قمت بها ومن المؤكد أن اسمها موجود لدى الأمريكان وعملائهم ولذلك فهي لا تستطيع السفر بشكل رسمي حتى لو استخرجنا لها أوراقاً رسمية جديدة بدل التي فقدتها عندما قصف الأمريكان منزلنا ..

 

استمر الحديث لفترة طويلة حاول راشد من خلاله ن يقنع علي بوجهة نظره ولكن علي أخبره أنه سيرد على طلبه في الغد وعندما اختلى عمر بعلي سأله عن سبب ذلك فأخبره علي أنه لا يستطيع اتخاذ أي موقف قبل أن يقرأ رسالة خاله المغلقة فتفهم عمر ذلك ، وفي الصباح كان علي قد اطلع على الرسالة وقرأ ما فيها ثم أحرقها وعندما سأله عمر إن كانت الرسالة تحتوي على أشياء جديدة أجابه قائلاً

- لا يوجد شيء جديد باستثناء أنه يشدد على ضرورة إنهاء المهمة بأسرع وقت ممكن ويريد مني تأمين السلاح وتشفيره ..

غمغم عمر مستفسراً

- وما معنى هذا ؟..

أجاب علي موضحاً

- تأمين السلاح يعني فحص صلاحيته وفاعليته ، وتشفيره يعني وضع علامات معينة على القذائف نعرف من خلالها أن أحداً لم يعبث بالقذيفة أثناء رحلتها وهي بعيدة عن أعيننا ..

هتف عمر وهو يرفع حاجبيه مستغرباً

- فهمت عن فحص السلاح ولكني لم أفهم معنى التشفير .. فما معنى أن يعبث أحد بالقذيفة

أجاب علي شارحاً

- أحياناً يخترق الصهاينة بعض صفقات السلاح ويسمحون بتمريرها بعد أن يضعوا شراك داخل هذا السلاح فيصبح السلاح قاتل حامله ولقد حدث هذا مرات عدة ، فبدلاً من أن يطلق المجاهد النار على العدو ، ينفجر سلاحه فيه ويقتله وهو ما يطلق عليه اسم سلاح مُشرك

هز عمر رأسه متفهماً ثم قال

- أعتقد أن هذا هو السبب الرئيسي في إصرار خالك بأن ترافقني في هذه العملية ، فمعلوماتي عن الأسلحة قليلة ولا تتجاوز كيفية استخدامها فقط ..

ابتسم علي قبل أن يقول :

- ليس هذا هو السبب الوحيد ، هناك سبب آخر سأخبرك عنه في حينه إن دعت الحاجة لذلك ..

 

قبل صلاة الظهر حضر أحد الرجال إلى منزل راشد وعرف علي أنه مسئول راشد المباشر وأحد قيادي الجناح العسكري للمقاومة الوطنية الإسلامية كتائب ثورة العشرين ولقد فهم علي أن الرجل له سابق معرفة بعمر حين خاطبه قائلاً :

- كيف تركت فلسطين يا أخ عمر ..

نظر عمر نحو علي ثم قال

- كما هيّ يا أبا حفص ، تئِن من جرائم الاحتلال كما يحدث في العراق ، ولكني أحضرت معي شيئاً منها ..

 

نظر أبا حفص نحو علي بعد إشارة عمر ثم قال :

- حدثني راشد عن الأخ علي وطلب مني أن أقنعه بتلبية طلبه بشأن سفر فاطمة إلى الأردن وإن كنت أرى أن لا حاجة لإقناعك ، فمن المؤكد أنكما لن تمانعا في إسداء معروف لأخينا راشد الذي يثق بكما كثيراً ويعتبركما أخوة له وكذلك نحن ، فلولا ثقته بكما ، أو على الأقل بالأخ عمر ، لما كنا نمدكم بالسلاح ونحن لا نعرف عنه إلا ما يوثقه راشد ..

 

نظر علي نحو عمر بارتياب ثم أعاد نظره نحو أبو حفص قائلاً :

- هل أفهم من حديثك أن هذه مقابل تلك ..

 

تدخل راشد مقاطعاً

- بالطبع لا .. أبا حفص يقصد أنه يستمد ثقته بكما من خلالي ، فهو يمدكم بالسلاح بدون أي مقابل مادي دون أن يتلقى أي دليل من أن السلاح يصل فعلاً لحماس معتمداً على حديثي وثقتي بعمر فقط .. لذلك هو يستغرب أن أثق بكما كل هذه الثقة وفي نفس الوقت أحتاج لإقناعكما في أمر فيه إسداء خدمة لي .. أما عن طلب عمر بالنسبة لقذائف الآر بي جي فهو جاهز وتستطيعان أن تأخذاه في الوقت الذي تريدانه بغض النظر عن أي شيء آخر ..

 

أطرق علي برأسه ثم غمغم قائلاً

- ثق تماماً يا أخ راشد أننا لن نتأخر عن مساعدتك في أي أمر تريده حتى لو كلفنا ذلك حياتنا ، لكني استغرب أن تترك أختك تسافر وحدها وبإمكانك أن تأتي معنا ثم تعود من نفس الطريق .. أما عن ما قلته فيمكنك تأجيله حتى تعود ومن ثم تستأنف عملك الجهادي ..

 

تدخل عمر قائلاً

- كلام الأخ علي صحيح .. فالرحلة من هنا إلى الأردن ذهاباً وإياباً لن تتجاوز الأربعة أيام وهي ليست بالمدة الطويلة و ..

 

تدخل أبو حفص مقاطعاً عمر

- تقولان هذا لأنكما لا تعرفان فاطمة و ارتباطها القوي بأخيها .. فهي لن تقبل أن تترك أخوها في العراق وسط المعارك بينما تذهب هيّ إلى الأردن حيث الأمان ، فقد جربت ذلك بنفسي عندما كانت تصر دائماً أن ترافقه في أي عملية يخرج لها .. ولذلك ما من قوة في الأرض يمكن أن تقنعها بذلك إلا إذا عرفت أن راشد استشهد في عملية وهو بدوره سيترك لها رسالة يوصي فيها بأن تذهب معكما إلى الأردن ومن المؤكد أنها ستوافق فباستشهاد راشد سينقطع كل ما يربطها بالعراق ولن تجد أمامها إلا تنفيذ وصية أخوها ..

 

لم يدري علي لمَ قفزت صورة صديقه عبد الله أمامه أثناء حديث أبا حفص فسأل قائلاً

- هل تقصد أن أنه سينفذ العملية فعلاً قبل أن نسافر أم أنها مجرد خدعة لحثها على السفر ..

 

أجاب أبا حفص قائلاً

- بل سننفذها قبل أن تسافرا وسنقوم بالإعداد لها بمجرد أن نأخذ منكما الموافقة وتقطعا على نفسيكما عهداً أمام الله أن تبذلا كل ما بوسعكما لإيصال الأمانة سالمة إلى أصحابها وقبل هذا كله سأعرفكما على الشخص الذي سيتسلم الأمر من بعدي كي يستمر الاتصال بين فلسطين والعراق ..

 

هتف عمر قائلاً

- يخيل إليّ من كلامك أنك أحد الأخوين اللذين سينفذان العملية مع راشد ..

 

أومأ أبا حفص برأسه موافقاً مما جعل عمر يقول

- ولكن هذا ليس منطقياً أبداً .. فأنا أعرف أنك قائد التشكيل العسكري في هذه المنطقة وهو تشكيل حديث ومن المؤكد أن استشهادك سيحدث ربكة في الصفوف التي لم تنتظم بعد ..

 

هز أبو حفص رأسه نافياً ثم قال

- معلوماتك قديمة يا أخ عمر .. لقد توسعت كتيبتنا وانضم إليها عدد كبير من المجاهدين ولقد سلمت القيادة لمجاهد كان يعمل مقدماً في الجيش وهو إنسان رائع وذو خبرة عالية في المجال العسكري ومن المؤكد أنك ستتعرف عليه لأنه الشخص الذي ستتعامل معه من بعدي ولقد رتبت لكما لقاءً اليوم ليتعرف عليكما ..

 

استمر الحديث بين عمر وأبا حفص وراشد بينما ظل علي صامتاً حتى أذن الظهر فتوجه الجميع للصلاة في المسجد ، وبعد الصلاة عاد راشد إلى بيته بينما توجه كل من عمر وعلي وأبا حفص إلى أحد أحياء بغداد مستقلين سيارة أجرة أفسحت المجال أمام علي ليرى وسط مدينة بغداد وكانت دهشته كبيرة عندما رأى الجنود الأمريكان يتجولون بحرية داخل المدينة ويتسوقون من متاجرها بشكل طبيعي.. وعندما مرت السيارة بجوار إحدى الجامعات أثاره مشهد لم يكن ليتصوره فقد كان عدد قليل من الجنود الأمريكان لا يتجاوزون العشرة يقفون على باب الجامعة و يفتشون الطلبة والطالبات تفتيشاً شخصياً قبل دخولهم إلى الجامعة بينما يصطف العشرات منهم في طوابير طويلة ينتظرون دورهم في التفتيش ..

 

عندما ترجل ثلاثتهم من السيارة واصلوا سيرهم على الأقدام مسافة طويلة نحو جهة يعرفها أبو حفص ولأن ثلاثتهم كانوا يحملون السلاح كان أبو حفص يتعمد الالتفاف حول الشوارع التي يتواجد بها الجنود الأمريكان بكثرة ثم انتهى بهم الأمر أخيراً في أحد الأحياء حيث يتواجد مسلحون كثيرون بعضهم يتخندق حول حواجز تتناثر في أرجاء الحي كأنهم يستعدون لصد هجوم وشيك

 

دخل أبو حفص إحدى البنايات وتبعه علي وعمر ليستقبلهم رجل عرف علي من أبي حفص أنه قائد إحدى كتائب ثورة العشرين ويبدو أنه كان على علم مسبق بحضور عمر وعلي خاصةً حين هتف قائلاً

- مرحباً بأبي حفص و برجال فلسطين الأمجاد ..

 

تبادل الجميع التحية بينما علق أبو حفص مازحاً موجهاً حديثه لعلي وعمر

- أعرفكم على أخوكم سفيان أحد الضابط الكبار في الحرس الجمهوري سابقاً ومجاهد في سبيل الله حالياً ..

 

ضحك سفيان من حديث أبي حفص قبل أن يصيح قائلاً

- ألا يكفي مجاهد في سبيل الله دون التطرق لما كان في الماضي ..

 

هز أبو حفص رأسه نافياً قبل أن يقول

- أقول هذا كي يعرف الأخ علي أنه أمام أحد الذين يعرفون مخابئ أكبر كمية يمكن أن يراها في حياته من السلاح .. فهو لا يصدق أننا نستطيع تأمين خمسين قاذف آر بي جي بسهولة ..

 

ربت سفيان على كتف علي وهو يقول

- لو شئت ألف قطعة من هذا السلاح تستطيع أن تحملها غداً بدون أي مقابل .. المهم أن تثخنوا في الصهاينة الأوغاد لأن هذا يفيدنا كثيراً هنا ، تماماً كما تفيدكم المقاومة العراقية في الإثخان في الأمريكان ..

 

تدخل عمر مقاطعاً

- للأسف ما معنا من مال لا يكفي إلا تكاليف خمسين قطعة وحسب ، وهي كمية كبيرة بالنسبة للمناطق التي ستمر فيها قبل أن تصل إلى يد المجاهدين في فلسطين ..

 

نظر سفيان نحو أبي حفص قبل أن يهتف بدهشة

- مال !!

 

ابتسم أبو حفص وهو يقول

- الأخ عمر يقصد ما سيدفع من مال نظير نقل هذا السلاح وهو ليس بالمبلغ القليل ..

 

أومأ عمر برأسه موافقاً ثم قال :

-هذا صحيح .. فحتى لو اشترينا السلاح من هنا فهو لن يكلفنا شيئاً إذا ما قورن بما سندفعه نظير نقله وتهريبه عن طريق المهربين ..

 

صاح سفيان مستغرباً

- ولماذا تلجأون إلى المهربين ولا تقوموا بهذا العمل بأنفسكم ..

 

تدخل أبو حفص مجيباً

- سأشرح لك هذا فيما بعد ، فأنت مازلت حديث عهد بهذه الأمور ولكن ليس قبل أن تخبرني ماذا فعلت بشأن ما أوصيتك به ..

 

تبدلت ملامح سفيان على نحو يوحي بالحزن قبل أن يهمس بحذر

- هل مازلت مصراً على ما تنوي فعله بعد الذي قلته لك ..

 

لم يخفى على علي محاولة أبي حفص إخفاء حزنه خلف ابتسامته وهو يقول

- عزمنا أمرنا وتوكلنا على الله ولقد اقترب موعد التنفيذ ..

 

غمغم علي قائلاً

- هل تقصد الأمر الذي كنا نتحدث فيه مع راشد ؟ ..

 

أومأ أبو حفص برأسه وهو يقول

- نعم هو نفسه ..

همس علي وهو ينظر في وجوه الجميع قائلاً

- حسب ما شاهدت أثناء مروري في بغداد أن الوصول للأمريكان ليس بالأمر الصعب وبإمكان أي شخص مهاجمتهم دون اللجوء لعملية استشهادية ..

 

غمغم أبو حفص قائلاً

- الأمر لا يتعلق بالجنود المتواجدين في بغداد ، فنحن نتجنب مهاجمتهم وهم وسط المدينة خشية سقوط أبرياء أثناء الاشتباك .. على كل حال يا أخ علي أنت أصبحت واحداً منا ولا أخفي عليك أن الهدف الذي ننوي ضربه هو أحد الحواجز الكبيرة الموجودة على طريق الرمادي وأغلب الجنود العاملين فيه من أفراد المارينز وهم يختلفون عن المرتزقة الذين يملئون شوارع بغداد ..

 

همس علي قائلاً

- أعرف أن ثمة فرق بين المرتزقة وجنود المارينز .. لكن هل أفهم من ذلك أن وجود المارينز هو المغري في تنفيذ العملية ؟

 

هتف أبا حفص موضحاً

- ليس وجود المارينز هو المغري فحسب .. إن جنود ذلك الحاجز يقومون بإذلال العابرين فيه وكثيراً ما أطلقوا النيران على المدنيين وقتلوا منهم الكثير لمجرد الاشتباه .. فعلى ما يبدو أن لديهم أوامر لانتهاج سلوك عنيف كي يعطوا انطباعاً لدى العراقيين أن هذه الفرقة بالذات تختلف عن أي فرقة أخرى في الجيش الأمريكي ، وقد منحهم هذا التصرف نوعاً من الدعاية جعل الناس يتجنبون المرور في الأماكن التي يتواجدون فيها بسبب مما يحاك حولهم من حكايات ..

 

قاطعه علي قائلاً

- إذاً هو التحدي .. لكن هذا يعني أنكم ستهاجمون الحاجز وهو أيضاً ما قد يوقع ضحايا بين العراقيين المسافرين عبر هذا الحاجز .. إلا إذا كان هناك أوقات معينة يكون فيها الحاجز خالياً من المسافرين ..

 

مط أبو حفص شفتيه وهز رأسه آسفاً ثم قال

- للأسف الشديد ، الحاجز لا يخلو من المسافرين ، فالأوغاد يتعمدون حجز طابور طويل من السيارات يستخدمونه كدرع بشري ولذلك لا نستطيع مهاجمة الحاجز نفسه .. لكن يمكننا أن نهاجم رتل الآليات الذي يحمل شفت التبديل بعد أن ينطلق من المعسكر المجاور كعادته وقبل وصوله إلى الحاجز ، وسيتم هذا بسيارة مفخخة يقودها استشهادي يضرب فيها مقدمة الرتل ثم ينقض مجاهدان على الجنود الذين سيترجلون من آلياتهم لإسعاف الجرحى ويدخلون معهم في اشتباك من مسافة قصيرة حتى الاستشهاد ..

 

وضع علي يده تحت ذقنه كأنه يفكر ثم قال وهو يبتسم

- بهذه الطريقة تضربون المارينز دون أن يصاب أحد من المواطنين وفي نفس الوقت يكون هؤلاء المواطنون شهوداً على ضرب المارينز لقربهم من مكان العملية ..

 

أومأ أبو حفص برأسه موافقاً ثم قال بحماس

- تصور ما الذي سيعود علينا بعد أن نمرغ أنف هذه الفرقة في التراب من خلال هذه العملية .. فهي من جهة سترفع الروح المعنوية لدى المجاهدين ومن جهة أخرى سيصاب الجيش الأمريكي بالفزع بعد أن تتعرض أقوى فرقهم لضربة قوية من المقاومة ..

 

نظر سفيان نحو علي وكأنه فهم من نظراته شيئاً ما فسأله قائلاً

- ما رأي الأخ علي في الخطة التي رسمها أبو حفص بما أن لكم خبرة في هذا النوع من العمليات ..

 

همس علي وقد بدت على وجهه الحيرة

- أحب أن أسمع رأيك أنت بما لك من خبرة عسكرية ..

 

غمغم سفيان قائلاً و أبو حفص ينظر إليه باهتمام بالغ

- في الحقيقة حرب العصابات ضد جيش نظامي يملك وسائل تكنولوجية عالية تختلف عما تدربنا عليه في الجيش العراقي .. فجل تدريبنا كان ينصب على قمع تمرد شعبي أو محاربة جيش يملك ما نملكه من تقنيات كالجيش الإيراني أو السوري أو التركي على أبعد تقدير ، ومن المؤكد أنك تعلم أن تلك الجيوش تختلف عن الجيش الأمريكي من حيث التدريب ونوع العتاد العسكري .. لذلك لا أستطيع أن أقول أن الخطة جيدة أو سيئة ولكن نفسي تحدثني أن ثمة شيء ما ليس على ما يرام في الخطة وهذا الشعور لا يريحني .. لذلك أود أن أستمع إلى رأيك فربما أضع يدي على الخطأ ..

 

تدخل أبو حفص مقاطعاً

- لا تحاول يا سفيان .. فمهما كان رأي الأخ علي في الخطة فنحن سنقوم بإنجازها على النحو الذي أردناه وخططنا له ..

 

توقف أبو حفص عن الكلام عندما أشار علي بيده وهو يقول

- لحظة يا أبا حفص ، فالأمور لا تؤخذ هكذا على هذا النحو ،فمن المؤكد أنك معني بنجاح العملية ، لأن فشلها يعني تثبيت الفكرة المأخوذة عن تلك الفرقة ، وهو أمر سيصيب الجميع بالإحباط لو حدث لا قدر الله ..

 

هز أبو حفص رأسه موافقاً ثم قال

- معك حق ، ولذلك لم ندخر جهداً بجمع أكبر قدر من المعلومات عن ذلك الهدف حتى لا يحدث فشل .. فلقد استطعنا معرفة عدد الجنود وخط سير الآليات التي تحمل شفت التبديل ، حتى أننا حددنا مواقع الضباط وأي الآلات يستخدمون أثناء انتقالهم من المعسكر إلى الحاجز ليستلموا دورهم

 

هتف علي مقاطعاً

- كل هذا جيد وهو يدل على أنكم أحسنتم اختيار الهدف وبذلتم جهداً جيد لمراقبته .. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للخطة .. فهي من الناحية النظرية جيدة ولكنني لا أعتقد أن تأثيرها سيكون كبيراً ومساو لحجم التضحية التي ستبذلونها

 

عقد أبو حفص حاجبيه وكأن حديث علي لا يعجبه ثم هتف قائلاً

- ماذا تقصد بعبارتك الأخيرة ..

 

أجاب علي قائلاً

- تنفيذ عملية باستشهادي يقود سيارة مفخخة غالباً لا يتم اللجوء إليه إلا إذا كان الوصول إلى الهدف مستحيلاً ، أو استحالة عودة المجاهد بعد تنفيذ العملية وهذا أمر لا أراه فيما أنتم مقدمون عليه ..

 

قاطعه أبو حفص بعصبية وهو يقول

- تقول هذا لأنك لا تعرف طبيعة مكان العملية وجغرافية المنطقة .. فالطريق بين المعسكر والحاجز الذي ستسلكه الفرقة قصير نوع ما وعلينا أن نقوم باصطيادهم في مسافة معينة معظمها أرض مفتوحة .. فلو كان هناك أماكن نستطيع أن نكمن فيها لهم بقذائف الآر بي جي لما لجئنا لفكرة السيارة المفخخة ..

 

قاطعه علي قائلاً

- وماذا عن المجاهدان الآخران اللذان سينقضان على الرتل بعد ضربه بالسيارة المفخخة .. ألن يكون هناك مكان يكمنان فيه قبل وصول الرتل المصفح ..

 

أجاب أبو حفص قائلاً

- يوجد ، ولكنه بعيد نسبياً ومن المستحيل الرمي بالسلاح المضاد للدروع من تلك المسافة .. لكن بعد انفجار السيارة المفخخة سيساعدهم عنصر المفاجأة على الاقتراب من الرتل قبل أن ينتبه الجنود لذلك ..

 

هز علي رأسه بأسف مما أثار غيظ أبا حفص ثم قال

- استنتاج بعيد عن الواقع .. المفروض أن الجنود مدربين ويتوقعون الكمائن وهم في كل الأحوال لا يندفعون بشكل عفوي عند تلقيهم لأي ضربة ، بل إنهم غالباً ما يقفزون من الآليات ويحتمون بها ثم يقسمون أنفسهم لفريقين ، أحدهم يقوم بإسعاف الجرحى والفريق الآخر يحمي ظهورهم ، وفي هذه الحالة سيكون المجاهدان اللذان سيقطعان مسافة مفتوحة هدفاً سهلاً بالنسبة لهم ..

 

صاح سفيان مقاطعاً وموجهاً كلامه لأبي حفص

- ألم أقل لك أن تخمينك لردة فعل الجنود ليست في محلها ..

 

هم أبو حفص أن يقول شيئاَ ما لولا أن علي هتف قائلاً

- لدي خطة يمكن من خلالها ضرب المعسكر وشفت التبديل والجنود الذين يتواجدون على الحاجز

 

صمت الجميع بعد أن ألقى علي عبارته كأنهم ينتظرون منه أن يكمل حديثه فاستطرد قائلاً وسط دهشة عمر ولمعان عين سفيان وانعقاد حاجبي أبا حفص

- في البداية سنتخلى عن فكرة السيارة المفخخة لأنها ليست ذات جدوى مع الآليات المصفحة .. فقذيفة آر بي جي أكثر تأثيراً من سيارة تحمل عشرات الكيلوجرامات من المتفجرات ..

 

تدخل أبو حفص مقاطعاً وكأنه أصيب بخيبة أمل

- ألم أقل لك أنه لا توجد أماكن قريبة من الإسفلت ليختفي خلفها حامل الآر بي جي .. ثم أتريد إقناعي أن مئة كيلو جرام من المتفجرات لن تحدث تأثيراً في السيارة المصفحة بينما قذيفة تحوي أقل من كيلوجرامين من المتفجرات تؤثر أكثر ..

 

نظر علي نحو أبي حفص كأنه يعاتبه على المقاطعة ثم تابع قائلاً

- يمكن لسيارة مفخخة أن تعطل دبابة لو أنها تحمل كمية كبيرة من المتفجرات وهذا نادراً ما يحدث ، ولكن المستحيل أن يخترق الانفجار الدرع المحصن لبعد مركز الانفجار وشكله الهندسي عن جسم الدبابة المصفح جيداً ، وهو يعني أن أياً من الجنود الذين بداخلها لن يصاب بأذى بعكس لو كان الأمر من خلال قذيفة آربي بي جي أو عبوة كبيرة أسفل الدبابة .. ففي هذه الحالة فقط يمكن أن نضمن أن الانفجار سيخترق جسم الدبابة ويمس بركابها .. ولأنني أعرف أن دباباتهم محصنة ضد قذائف الآر بي جي بسبب سمك الصلب فيها ، لذلك أفضل استخدام العبوات الموجهة من خلال تفجيرها عن بعد ، وبدلاً من أن تكون عبوة واحدة فلتكن عشرة أو عشرين .. فاللهم لا حسد تملكون كميات كبيرة من المتفجرات لو كانت بحوزتنا لتغيرت طبيعة المواجهة بيننا وبين الصهاينة ..

 

تدخل سفيان مقاطعاً بعد أن شاهد خيبة الأمل ترتسم بوضوح على وجه أبي حفص

- هم يعرفون مسألة زراعة العبوات والألغام ولهذا يتعمدون أن تتقدمهم دبابة كاسحة للألغام تقوم بفحص الإسفلت لتتبين إن كان أحد قد عبث به، فمن الصعب أن تزرع لغماً في الإسفلت دون إخفاء ذلك ناهيك عن الزمن الطويل الذي سيحتاجه شخص ما لحفر حفرة في الإسفلت ..

 

هز علي رأسه موافقاً ثم قال

- لهذا قلت عبوة موجهة وليس لغماً .. فهذه النوعية من العبوات يمكن وضعها على جانب الطريق وإخفائها بسهولة بكومة من الرمال أو شيء يناسب طبيعة المكان لأنها تستطيع إصابة الهدف إصابة قاتلة من مسافة تقدر بحوالي 15 متر لكل 3سم من سماكة المادة المتفجرة ..

 

اعتدل سفيان وتحفزت كل ملامحه قبل أن يقول

-ولكن هذا النوع من العبوات ليس متوفراً لدينا و ليس لدي أي فكرة عنها ..

 

غمغم علي قائلاً

- لا توجد أي مشكلة في ذلك .. فإن توفرت لديك مخرطة بإمكاني أن أصنع واحدة أمامك ومن ثم تستطيع أن تقوم بعمل العشرات منها وبأحجام مختلفة طالما عرفت النسب المطلوبة لتشكيل العبوة وكيفية حشوها بالمتفجرات ..

 

تدخل أبو حفص مقاطعاً

- ما أعرفه أن انفجار العبوات إن لم يكن أسفل الدبابة مباشرة فهو لن يؤثر فيها أبداً ولقد شاهدت انفجار ألغام على بعد أمتار قليلة من آلياتهم دون أن يصيبها بأي أذى ..

 

أومأ علي برأسه موافقاً ثم قال

- هذا صحيح .. لكن اللغم يختلف عن العبوة الموجهة لأن شكلها الهندسي مصمم كي تخرج منه موجة الانفجار بشكل حلزوني كما هو في قذائف الدروع .. والدليل على ذلك أنك لو فككت قذيفة آر بي جي ، لوجدت أن السر في فعالية هذه القذيفة على قلة المتفجرات بداخلها ، هو قمع النحاس المقلوب وليس الشكل المدبب الذي يشبه الرمح كما يظن البعض فهو مضاف للقذيفة ليحفظ لها توازنها أثناء اصطكاكها بالهواء فقط ، كما أنه لا يحتوي على أي مادة متفجرة ، إنما الفضل كله يرجع لذلك القمع النحاسي الغائص في المادة المتفجرة في مؤخرة القذيفة لأنه يركز قوة الانفجار في نقطة واحدة وهو ما نفعله عند صناعة عبوة موجهة ولكن هذه المرة تكون أكبر تأثيراً بسبب كبر الحجم .. المهم الالتزام بالنسب بين العبوة والمادة المتفجرة ثم وضع الصاعق في مكانه المناسب ومن ثم زراعة العبوة بحيث تكون متعامدة مع منتصف الثلث الأول للهدف .. ولكي تصل لعبوة مثالية عليك أن تتبع القانون التالي :

وزن المادة المتفجرة (جم) = حجم العبوة (سم3) ÷ (6.) علما بأن حجم العبوة (سم3) = طول العبوة (سم) × عرضها (سم) × سماكتها (سم) .. ولحساب نصف القطر المستخدم رسم الزاوية تستخدم القانون التالي :- نصف القطر(سم) = (طول العبوة (سم) ÷ 0.0174603) ÷ زاوية تشكيل العبوة (درجة)

 

تدخل عمر مقاطعاً

- كل هذا جيد وتستطيع شرحه أثناء عمل نموذج لتلك العبوة .. ولكنك قلت أن الخطة التي لديك ستضرب من خلالها الرتل الآلي لشفت التبديل والمعسكر والجنود المتواجدين على الحاجز ..

أجاب علي موضحاً

- مبدئياً الخطة تعتمد على زراعة عدد من العبوات الموجهة يوازي عدد الآليات على الأقل ، ولو كان أكثر فسيكون ذلك أفضل .. ثم زراعة عدد آخر من العبوات تكون على بعد عدة كيلومترات قليلة من الحاجز وذلك كي يتم اصطياد الجنود الذين سينطلقون من الحاجز لمساندة رفاقهم بعد تعرضهم للهجوم .. عند سماع صوت انفجار العبوات وهو عادةً ما يكون عالياً جداً ويسمع من على بعد أميال تقوم فرقة من المجاهدين بقصف الثكنة العسكرية القريبة بقذائف الهاون بشكل مركز كي يتم تعطيل خروج أي فرقة إسناد من المعسكر لمنح المجاهدين فرصة الخروج من مكان العملية بسلام ..

 

قفز أبو حفص من مكانه وهو يهتف قائلاً

- الخطة رائعة ومقبولة جداً ، لكنني أحتاج لتصورك بالتفصيل عن سيناريو العلمية ..

 

خشي علي من أن يكون أبو حفص يسخر من حديثه فتغيرت نبرة صوته واتخذت طابعاً أكثر جدية وهو ينظر في وجوه الحاضرين ليعرف وقع كلامه عليهم

- في البداية سيمر الرتل المستهدف في المكان الذي زُرعت به العبوات ، وعند وصول أولى الآليات لآخر عبوة ، يتم تفجيرها وحدها فقط ، ولو كانت عبوتان متلاصقتان يكون أفضل لنضمن توقف الرتل .. في هذه اللحظة وعلى الجهة المعاكسة لمكان العبوات سيكون هناك قاذفان مضادان للدروع ورشاشان مثبتان على مقربة من الإسفلت بعد أن يتم إخفاؤهما بشكل جيد و يعدان للتحكم بهما عن بعد من خلال حبال الصيادين المصنوعة من النايلون .. عندما يقوم أحد المجاهدين بشد تلك الحبال ستنطلق النيران بشكل عشوائي وسيوحي ذلك بأن الرتل يتعرض لهجوم من الجهة المعاكسة للعبوات وهو ما سيدفع الجنود للاحتماء خلف آلياتهم للجهة المعاكسة بحيث تكون ظهورهم مكشوفة لبقية العبوات التي يجب أن تعد لتنفجر كلها دفعة واحدة فتصيب الجنود الذين خرجوا من آلياتهم وكذلك الموجودين بداخلها .. لن يمر الكثير من الوقت حتى يندفع الجنود المتواجدون في الحاجز لنجدة رفاقهم وعندئذ سيمرون أثناء طريقهم بالعبوات الأخرى التي ستنفجر فيهم .. أثناء تفجير العبوات الأولى .. ستصل للمعسكر رسالة استغاثة باللاسلكي تفيد بأنهم يتعرضون لهجوم كبير ولكي تحدث ربكة داخل المعسكر يتم قصفه بقذائف الهاون بشكل مركز لتعطيل أي..

 

استمر علي يشرح خطته بإسهاب و يجيب على الأسئلة وقد أبدى استعداده لمشاركتهم في العملية إلا أن سفيان رفض ذلك واكتفى بأن يصطحب علي إلى إحدى المخارط التي تخص أحد المجاهدين ليقوم بعمل عبوة أمامه كنموذج و يريه كيفية حشوها بالمتفجرات ، وبعد أن انتهوا لما خرجوا إليه عاد الجميع لمنزل سفيان و قضوا ليلتهم فيه ، إلا أنه لم تمضي ساعات قليلة على نومهم حتى استيقظ الجميع على صوت سفيان وهو يصيح مكبراً فظن علي وعمر أن الحي يتعرض لهجوم من قبل الأمريكان فاندفع كل واحد منهم إلى سلاحه وخرجا إلى صالة المنزل ليجدوا سفيان وهو مازال على حاله يكبر بفرح بينما أبو حفص يسجد على الأرض شاكراً لله ..

 

كان المشهد محيراً بالنسبة لعلي وعمر ولكنهما أدركا من علامات الفرح والسرور البادية على وجه سفيان أن التكبير ما هو إلا بسبب خبر مفرح مما جعل عمر يهتف سائلاً

- خيراً إن شاء الله ؟..

 

أجاب سفيان وهو بالكاد يستطيع أن يضبط كلماته بسبب تأثره

- عندما خلدنا إلى النوم لم يستطع أبا حفص أن ينام بسبب رغبته في تجربة العبوة .. وعندما قلت له أن الصباح رباح ، صمم على أن يذهب بنفسه ومعه عدد من المجاهدين ليكمنوا لدورية أمريكية في الطريق التي تؤدي إلى معسكر أبو غريب ..

 

توقف سفيان عن الحديث ليتلقط أنفاسه إلا أن أبا حفص تدخل مكملاً

- وضعنا العبوة وأخفيناها على جانب الطريق بحيث يكون الجزء المقعر منها صوب منتصف الثلث الأول من الهدف ، ثم مددنا سلك التفجير وكمنا خلف بناء يتوسط إحدى الحدائق وانتظرنا حوالي نصف ساعة دون أن نستطيع ضرب أي من الآليات المارة بسبب سرعتها .. عندها طلبت من أحد الأخوة أن يضع شيئاً في الطريق كي تهدئ الآليات من سرعتها أثناء مرورها أمام العبوة وما كاد أن يخرج إلى الطريق حتى ظهر أحد جيبات الهمر فحاول أن يلاحقه ،لولا أن الأخ دخل أحد الشوارع الجانبية فتوقف الجيب على مدخل الشارع قليلاً ثم قام بالالتفاف ليعود من الجهة الأخرى التي جاء منها ولكنه بهذا الالتفاف مر أمام العبوة تماماَ فقمت بالضغط على كبسة التفجير ..

 

تدخل سفيان مقاطعاً بعد أن بلغ الانفعال بأبي حفص مبلغه

- كان أبا حفص قد أوصى من معه أن يطلقوا النيران باتجاه الهدف بعد تفجيره إلا أن صوت الانفجار أصاب الجميع بالذهول ، فلم يطلق أحدهم رصاصة واحدة ، وبعد أن انقشع الغبار اتضح أن العبوة شطرت الجيب إلى نصفين ودفعت بأحدهما لمسافة بعيدة عن مكان الانفجار والنيران تشتعل فيه ..

 

كان واضحاً أن أبا حفص يحاول عبثاً كتم عبراته وهو يقاطع سفيان قائلاً

- عندما غادرنا المكان بسرعة ووصلنا إلى هنا ، كانت فرحتنا ناقصة لأننا لا نعرف مصير الأخ الذي انفصل عنا عندما حاول الهمر ملاحقته .. ولكنه عاد إلى الحي بعد عودتنا بقليل وفي يده قطعتي سلاح -16M إحداها تالفة - قال أنه أخذها من مكان الانفجار ومؤكداً أن جميع ركاب الهمر لقوا مصرعهم وتحولت جثثهم إلى أشلاء بسبب الانفجار ..

 

قال علي وعلى وجهه علامات السرور

- حمداً لله على سلامتكم .. كنت أعلم أن هذه العبوات يكون تأثيرها أكبر وأقوى بالمتفجرات الكلاسيكية من المتفجرات الشعبية التي نصنعها نحن .. لكن مع الأسف الشديد أن هذا النوع من المتفجرات ليس متوفراً لدينا ولذلك نلجأ لاستخدام النوع الشعبي رغم تكلفته العالية والتي قد يبلغ ثمن عبوة واحدة عندنا ثمن شاحنة مليئة بالألغام هنا ..

 

هتف سفيان بدهشة قائلاً

- ألا يوجد لديكم ألغام تستخرجون منها الـ TNT كما فعلت مع اللغم الذي أحضرته لك ؟ ..

 

غمغم علي ساخراً بمرارة

- من يعثر في غزة على لغم من مخلفات الحروب ، يعد نفسه قد عثر على كنز ، لأنه سيبيعه للمجاهدين الذين سيتهافتون على شراءه طمعاً فيما بداخله من TNT ..

 

هتف عمر بسخرية

- كثير من الدول تعاني من وجود الألغام بأراضيها وتعتبرها مشكلة ، أما قطاع غزة فهو يعاني من عدم وجود الألغام .. أليس شر البلية ما يضحك ..

 

همس سفيان وقد علا الحزن علامات الفرح التي كانت على وجهه

- هذا يوضح مدى حاجة إخواننا الفلسطينيين للسلاح وافتقارهم لما يدافعون به عن أنفسهم ..

 

هز علي رأسه وهو يقول بمرارة

- تخيل لو أننا حصلنا على نصف الدعم الذي كان ممنوحاً للمجاهدين الأفغان ، أو على الأقل فتحت دول الطوق الحدود أمامنا كي نجلب السلاح .. صدقني كان الحال سيتغير كثيراً مما هو عليه الآن ..

 

مط أبو حفص شفتيه بامتعاض قبل أن يقول

- الآن عرفت لماذا يكره الفلسطينيون عقد العرب اتفاقيات سلام مع الصهاينة .. فيبدو أن أهم شروط هذه الاتفاقيات هو مساعدة الصهاينة في إحكام الحصار على الفلسطينيين خاصةً من دول الطوق ..

 

هز علي رأسه موافقاً قبل أن يقول

- لم يقتصر الأمر على الحصار فقط .. لقد أصبحت تلك الدول ترسل رؤساء مخابراتها وتعطي النصائح المجانية للصهاينة في كيفية القضاء على المقاومة الفلسطينية ، لدرجة أن اليهود يطلبون منهم إرسال جنود من طرفهم لكبح جماح المقاومة بعد أن فشلت السلطة الفلسطينية في ذلك ..

 

صمت علي قليلاً ثم استطرد قائلاً

- دعنا من ذلك ، فو الله الذي لا إله إلا هو أن تلك الدول لن يكون مصيرها بأحسن حالاً من العراق لأنها تنجرف نحو الهاوية بإتباع عدو يتمنى موتها كي يحيا هو وأسال الله تعالى أن يستيقظوا قبل فوات الأوان .. ولكن قل لي هل اقتنعت الآن بتغيير الخطة بعد أن شاهدت تأثير العبوة ؟

 

هتف أبو حفص بحماس كبير

- إن شاء الله تعالى سأعتمد خطتك وسأسعى لنشر أسلوب تصنيع هذه العبوات بين أفراد المقاومة وخاصةً الإسلامية منها ..

 

هتف علي قائلاً

- هذا النوع من العبوات ليس سراً و يُعمل به عسكرياً في العديد من الدول ولكن أحداً لم يعد يلتفت إليه بعد انتشار السلاح الحديث المضاد للدروع والذي يُرمي عن بعد بكفاءة عالية بواسطة أشعة الليزر .. على كل حال عندما تنشر هذه الطريقة بين المقاومة الإسلامية تأكد بأنك تتعامل مع جماعة من المسلمين وليس جماعة المسلمين ..

 

عقد أبا حفص حاجبيه في حيرة ثم قال

- لم أفهم عبارتك الأخيرة .. ما الفرق بين جماعة من المسلمين وجماعة المسلمين ؟ ..

 

تدخل سفيان مقاطعاً وهو يقول

- .. سأشرح لك ما يقصده الأخ علي لاحقاً .. أما الآن فهيا إلى المسجد فقد حان موعد صلاة الفجر ، فقد بت أشعر بأن جوارحي كلها بحاجة ماسة للسجود شكراً لله ..

 

توجه أبو حفص وعلي وعمر إلى بيت راشد بعد صلاة الفجر بعد أن اتفقوا مع سفيان على ميعاد للالتقاء به مرة أخرى ، ولكنهم ما أن وصلوا إلى بيت راشد -وقبل أن يطرقوا باب المنزل - تناهى إلى مسامعهم صياح وصراخ فأدركوا على الفور أن ثمة مشكلة كبيرة قد وقعت بين فاطمة وراشد ، فطرق أبو حفص الباب بعنف ففتح له راشد و قد بدا عليه الانفعال الشديد فقال أبو حفص

- ما الذي حدث وما سبب كل هذا الصراخ ؟..

 

أشاح راشد بوجهه بينما وقفت فاطمة تنظر نحو أبي حفص بتحدٍ واضح على الرغم من أنها كانت تبكي ثم اندفعت نحو الباب وهي تصيح بانفعال شديد

- حتى أنت يا أبو حفص شاركتهم في هذه الخدعة .. أبعد كل ما قلته لك سابقاً وافقت راشد على ما هو مقدم عليه ..

 

دلف أبو حفص إلى الداخل بعد أن طلب من عمر وعلي الدخول وإغلاق الباب ، ثم هتف وهو يقلب كفيه حائراً

- اهدئي يا فاطمة ، و حدثيني بهدوء عن ماذا تتحدثين ، وأي خدعة التي شاركت فيها ..

 

تدخل راشد مقاطعاً و أمر فاطمة بالدخول إلى غرفتها وعندما رفضت بعناد هتف أبو حفص قائلاً

- ادخلي الآن يا فاطمة وأعدك أن لا أخرج من هنا قبل أن أجيب على كل أسئلتك ، ولكن دعينا الآن مع أخوك لنفهم منه ما حدث أولاً ..

 

كان واضحاً من أن فاطمة لا تريد الاستجابة لطلب أخيها وأبي حفص ، إلا أن وجود عمر وعلي أحرجها ، فاتجهت نحو غرفتها مكرهة بينما دخل الجميع إلى غرفة استقبال الضيوف ، وعندما سأل أبو حفص راشد عن الذي حدث أطرق الأخير برأسه ثم همس قائلاً

- إنها غلطتي .. كان عليّ أن أخفي الوصية في مكان لا تستطيع الوصول إليه ..

 

عقد أبو حفص حاجبيه بدهشة ثم قال

- هل تقصد أنها عثرت الوصية التي كان المفروض أن تقرأها بعد استشهادك ؟

أومأ راشد برأسه موافقاً دون أن يتحدث فهتف أبو حفص وهو يهز رأسه متفهماً

- أستطيع الآن استنتاج ما حدث بينكما ..

 

تدخل عمر وهو يقول ساخراً

- لن أتفاجئ لو أنها أطلقت عليّ النار بعد أن قرأت الوصية ووجدت اسمي فيها ..

 

غمغم راشد ممتعضاً

- ليس هذا وقت المزاح يا عمر .. أنت تعرف أن فاطمة عنيدة للغاية ، فمجرد قراءتها الوصية قبل أوانها يضعنا في مشكلة حقيقية لا أعرف كيف سنخرج منها .. فبالأمس فقط كنت أتحدث معها عنكما وأخبرتها أنكما مجاهدان فلسطينيان وليس كما توهمت ، وبعد أن أبدت ندمها عما كانت تفعله معك شعرت بالراحة لأنها أصبحت تثق بكما ، عثرت على الوصية في الصباح لينهار كل شيء ..

 

أثار هدوء أبا حفص راشد ثم طلب منه أن ينادي فاطمة وعلى الرغم من تحذير راشد له بأن فاطمة ليست في حالتها الطبيعية وأنها قد تؤذيه بكلامها إلا أن أبا حفص أصر على حضور فاطمة فاستجاب له راشد ونادى على أخته التي بدا أنها كانت في نوبة شديدة من البكاء فهتفت بعصبية و هي تحدث الجميع

- هل اتفقتم على خدعة جديدة وتريدون مني أن أصدقها ؟..

 

قاطعها أبو حفص قائلاً

- اجلسي يا فاطمة فنحن لم نكد نتحدث كي نتفق على شيء ، ولقد تعمدت أن تأتي كي تسمعي بنفسك ما جئت أقوله لأخيك ..

 

ساد جو من الصمت داخل الغرفة بعد أن اتخذت فاطمة ركناً بعيداً لتجلس فيه وهي تنظر نحو أخوها بعتاب ولوم شديدين و تحاول عبثاً إيقاف دموعها التي انسابت في صمت على وجنتيها ، ثم غمغم أبا حفص موجهاً حديثه إليها:

- تذكرين يوم طلبت مني أن تشاركينا العمل الجهادي ، وعندما رفضت وأخبرتك أنك لن تستطيعي الصبر على حياة المجاهدين وعزمت بالفعل على رفض طلبك فأقنعني راشد يومها و وصفك بأنك فتاة بعشرة رجال .. ثم قبلت انضمامك على أن يكون ذلك بصحبة أخوك وأن تستمعي له وتطيعي ، ليس لأنه أخوك الكبير ، بل طاعة الجندي لقائده لأنه أصبح مسئولك عسكرياً .. وقد وافقت يومها على هذا وعلى أن لا تتدخلي في أمور أو أشياء لم يطلبها منك أحد .. وأظن أنك جربت من خلال عملك معنا ، أن ليس كل ما نفعله يمكننا أن نبوح به لجميع أفراد الكتيبة ..

حاولت فاطمة أن تقاطع إلا أن أبا حفص استطرد بسرعة قائلاً

- لا أنكر يا فاطمة أنك كنت سبباً في تغيير وجهة نظري في مشاركة النساء في العمل الجهادي ، فلقد أبليت بلاءً حسناً في كل العمليات التي قمت بها وأثبت أن النساء لا تقل تضحيتهن عن الرجال عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الدين والوطن .. لكن ومع الأسف يبدو أنني سأعود لقناعتي الأولى .. ففاطمة القوية التي أعرف ليست هي التي أراها الآن أمامي ، بدليل هذا الضعف الواضح وعدم القدرة على رباطة الجأش وإحسان التصرف ، لدرجة أنها خاضت في أمور بصوت عال تجاوز جدران المنزل للخارج ، على الرغم من أنها تعرف جيداً أن هكذا حديث لا نخوض فيه إلا همساً بعد اتخاذ التدابير اللازمة كي لا يسمعنا أحد ..

 

أطرقت فاطمة برأسها خجلا وهي تهمس مقاطعة

- لم أتناول ما تلمح إليه ، فجل حديثي كان منصباً على رفضي لمبدأ مغادرة العراق تحت أي ظرف حتى ..

 

هتف أبا حفص مقاطعاً بحدة وحزم

- لا تكابري يا فاطمة .. فأي عين من عيون الاحتلال يمكنه ببساطة أن يفهم فحوى الموضوع لو صدف مروره بجوار المنزل ..

 

رمقته فاطمة بنظرة عناد قبل أن تهتف مقاطعة بانفعال شديد

- أخيراً وجدتم مخرجاً يضع اللوم عليّ لأتحمل خطأ مخالفة الأوامر ، و يفترض بي الآن أن أخجل من نفسي وأطلب الصفح ثم أتعهد أن لا أعود لذلك مجدداً كي لا تتغير قناعتكم عن النساء اللاتي أمثلهن حسب وجهة نظركم .. لا يا سادة اسمحوا لي أن أقول لكم أنني لن أفعل هذا .. بل أنني ..

 

كان واضحاً أن فاطمة بدأت تفقد السيطرة على نفسها وخيل للجميع أنها على وشك أن تدخل في انهيار عصبي بسبب حشرجة صوتها ودموعها التي تنهمر بغزارة ، وقبل أن يتدخل راشد ليهدأ من روعها هتف علي بهدوء شديد

- لحظة واحدة أيها الأخوة .. لا أدري إن كان من المفروض أن نسمع حواركم ، أم أن الظروف فرضت عليكم ذلك .. لكن لدي كلمة يجب أن أقولها بما أنني سمعت ما دار بينكم

 

تنفس الجميع الصعداء بسبب توقف فاطمة عن الحديث بعد تدخل علي المفاجئ ، فسادت لحظات من الصمت داخل الغرفة قطعها أبو حفص قائلاً

- تفضل يا علي ، فلقد أصبحت واحد منا وأصبح رأيك محل تقدير لنا جميعاً ..

 

أومأ علي برأسه وعلى وجهه ابتسامة ثم قال

- يسرني أن أسمع هذا منك.. لكني أخشى أن حديثي هذه المرة لن يعجبكم .. في البداية ما فعلته الأخت فاطمة خطأ فادح ويجب أن تعترف به على الأقل بينها وبين نفسها ..

توقف علي عن الحديث للحظة عندما رفعت فاطمة رأسها و هي تنظر إليه بغيظ بينما تنحنح عمر كأنه لا يريد من علي التدخل في هذا الأمر ولكن علي تجاهل ذلك و استطرد قائلاً

- لكن هذا لا يمنع أنكم وقعتم في نفس الخطأ ولكن بشكل أكبر .. فالمدة القصيرة التي قضيتها بينكم أتاحت لي التعرف على أمور كثيرة ، ما كان لكم أن تطلعوني عليها لسببين .. الأول أنكم لا تعرفون عني شيئاً يدعوكم لكشف أوراقكم بهذه الطريقة ، حتى لو كانت ثقتكم بعمر كبيرة .. أما الثاني فهو لأنكم تعلمون جيداً أننا قد نتعرض للاعتقال بسبب طبيعة العمل الذي جئنا من أجله .. لذا لم يكن هناك أي ضرورة لأن أطلع على أشياء ربما لا أستطيع كتمانها تحت التحقيق لو تعرضت للاعتقال .. لذلك أسمحوا لي بأن أسجل ملاحظة مهمة وهي أنكم بحاجة لتدعيم الحس الأمني لديكم إن أردتم أن تستمر المقاومة ويكون نفس الجهاد أطول من نفس الاحتلال ..

ضاقت عينا أبي حفص وهو ينظر لعلي باهتمام وبعد أن هز رأسه موافقاً تابع علي قائلاً

- أما عن الأخ راشد فلقد وقع هو أيضاً في خطأ عندما أدخل أموره الشخصية في عمل جهادي وعندما أخفى عن أخته التي يعلم جيداً أن مصيرها مرتبط إلى حد كبير بمصيره لأنه تقريباً كل عائلتها ، وهو يفرض عليها وصية هو نفسه ليس متأكداً من أنها ستنفذها ، ومن المؤكد أنه يعلم أيضاً أننا لا نستطيع إجبارها على السفر ، وتعلمون أيضاً أنه لا يوجد لدينا وقت كاف لإقناعها .. هذا إن منحتنا هي أدوات الإقناع ورضيت أن تستمع إلينا فالأمر سيبدو لها في حينه أننا شاركنا بما تسميه الآن خدعة ومن المؤكد أنها ستناصبنا العداء لهذا السبب ..

أراد راشد أن يقاطعه فبتر عبارته عندما هتف علي مستطرداً

- نقطة أخيرة وتستطيعون التعليق بعد ذلك .. وهي تخص مسألة جهاد النساء في العراق أو السماح لهن بذلك .. أولاً لستم أنتم من قرر أو يقرر ، هل تشارك النساء في الجهاد والمقاومة أم لا .. الظروف هي التي قررت هذا بعد أن أصبح الاحتلال الأمريكي يعتقل نساء المجاهدين حتى يضغط على ذويهم لتسليم أنفسهم ، و في نفس الوقت لردع كل من يفكر أن يسلك طريق المقاومة لو أنه أراد ذلك .. فكلنا يعلم أن ما من مجاهد يستطيع أن يدافع عن أخته أو أمه أو ابنته في مثل هذه الظروف ، أو يمنع عنها ضرراً أراده لها الاحتلال .. والنتيجة هي أن النساء إما أن يجلسن في بيوتهن في انتظار المجهول الذي يعلم الله وحده ما يكون ، وإما أن يخرجن وينخرطن في المقاومة بجوار رجالهن و يجري عليهن ما يجري على الرجال لأن الأمر في كلا الحالتين سيان .. ولكنه في الحالة الثانية سيكون أخف ضرراً وأكثر إيجابية .. ربما لو أنكم لستم من أهل البلد لتغير الموقف حيث تجاهدون وتقاتلون بينما نسائكم في مكان آمن لا يصل إليه العدو ، أو على الأقل لم يُدخل العدو ذوي المجاهدين كطرف في المعركة وخاصة النساء .. ولكن و طالما حدث ذلك وأصبحت النساء جزءاً من هذه الحرب ، فسيكون من الظلم أن تمنوا عليهن بأنكم سمحتم لهن بالجهاد بينما حقيقة الأمر أن طبيعة الاحتلال هي التي فرضت عليهن وعليكم ذلك ، سواء شاركت في المقاومة أو لم تفعل .. لذا أسجل ملاحظة هنا أيضاً أن يتم التعامل مع هذا الأمر بشفافية وصراحة أكبر حتى يعرف الرجل ما عليه وكذلك المرأة ما عليها .. لأن مسألة المفاضلة لم تعد موجودة في مثل هذه الظروف التي جعلت رسغ المرأة والرجل في قيد واحد و بانتظار مصير واحد ..

 

 

تنهد أبو حفص قبل أن يبتسم قائلاً

- لو سمعك أنصار السلفية لاتهموك أنك من دعاة تحرير المرأة .. صحيح أننا سمحنا لبعض النساء المشاركة في أعمال المقاومة تحت ظروف معينة .. ولكن إن كان هذا الأمر مقبولاً لدينا ، فهو مرفوض كلياً عند بعض التنظيمات الإسلامية وأخص منها السلفية الجهادية التي بدأت تنظم صفوفها وأصبح لها شعبية لا بأس بها في العراق .. فكما تعرف أن الفكر السلفي له وجهة نظر معينة بخصوص مشاركة المرأة للرجل في العمل الجهادي ، وأنا شخصياً أتبنى وجهة النظر هذه ، وأرى أنها تناسب المجتمع العراقي ، وإن كنت اقتنع ببعض الاستثناءات لظروف معينة ..

غمغم علي وهو يهز رأسه نافياً

- أحياناً تتحول الاستثناءات إلى عموميات بسبب تغير الظروف ، فكما قلت لك : أن الظرف في العراق فرض على المرأة ذلك بعد أن جعلوها طرفاً خصماً لمجرد أنها قريبة مجاهد ، فأنا أسمع أن النساء يتعرضن لأبشع عمليات التعذيب والتنكيل لهذا السبب فقط ، وليس لأنهن يشاركن في المقاومة ، ولا أعتقد أن ما يتعرضن له سيكون أسوأ لو أنهن شاركن في العمل الجهادي .. فعلى الأقل تستطيع أن تدافع عن نفسها إن تعرضت للاعتقال كما يفعل الرجال الذين لا يستطيعون أن يردوا عنها أي اعتداء قد يقدم عليه الأعداء .. أما الفكر السلفي الجهادي بالنسبة لمشاركة المرأة ، فهو مختلف من مكان لمكان حسب ظروف المعركة .. ففي أفغانستان مثلاً كان المجاهدون العرب يقاتلون بينما نسائهن في بلاد بعيدة لا تستطيع يد العدو الوصول إليهن ، ولذلك لم يكن مقبولاً لديهم أن تشارك المرأة في الجهاد وهذا أمر طبيعي .. حتى السكان الأفغان ما كانوا ليسمحوا لنسائهم بالمشاركة ، لأن العدو لم يدخل المرأة حينها كطرف في المواجهة ..لكن عدواً آخر فعل ذلك في الشيشان مع المقاومة الشيشانية ، فلم يكن أمام المجاهدين إلا أن يصنعوا من نسائهم مجاهدات.. لدرجة أن الكثير من العمليات كانت نسبة المجاهدات من النساء أكثر من نسبة المجاهدين من الرجال ، وقد كان معهم الحق في ذلك ، لأنهم وقفوا عاجزين عن حماية نسائهن وهن في بيوتهن .. وأظن أن هذه الحالة تنطبق إلى حد كبير مع يحدث هنا في العراق ..

 

حاول راشد أن يعقب لولا أن أبا حفص تدخل قائلاً

- على كل حال لن نضيع الوقت في مناقشة هذا الأمر الآن فلدي ما أقوله لراشد ، وأحب أن تسمعه فاطمة أيضاً فقد حدثت تطورات جديدة ألغت ما كنا سنقوم به ..

 

بدأ أبو حفص يشرح لراشد التطورات الجديدة ، وقد عارض راشد بشدة في بداية الأمر إلا أنه اقتنع ورحب بما استجد عندما شرح له أبا حفص بقية التطورات حتى النهاية وعندما تطرق راشد لإقناع أخته بالسفر إلى الأردن بصحبته هو وعلي وعمر غادر الأخيران منزل راشد عندما جاءهم رسول من سفيان ثم رافقهم إلى حيث كان ينتظرهم في مكان يبعد عن بغداد 20 كيلومتراً ، فهم علي على الفور أنه أحد مخازن الأسلحة السرية التي كان يقصدها سفيان

 

كانت دهشة علي كبيرة عندما شاهد هذا الكم من الأسلحة والذخائر ، ولكن سفيان أخبره أن هذا جزء بسيط من الأسلحة التي تم نقلها من الثكنات التابعة للحرس الجمهوري إلى أماكن سرية عدة في العراق حتى لا يعثر عليها الاحتلال دفعة واحدة ، وأخبره أن العديد من تلك المخازن قد كشفها الاحتلال وقام بإتلاف ما بداخلها من أسلحة وأنه يخشى أن يعثروا أيضاً على هذا المخبأ ويريد نقل ما بداخله إلى مكان أخر أكثر أمناً لأنه لاحظ تحليقاً غير عادياً لطائرات الهيلوكبتر في هذه المنطقة على الرغم من أنها منطقة هادئة لا ينشط فيها أي نوع من أعمال المقاومة

 

استطاع علي أن يتأكد من فعالية القذائف و أن يشفيرها قبل أن ينقضي النهار بينما كان سفيان وعمر وعدد من الشباب منهمكون في نقل بعض الذخائر والأسلحة في خزان شاحنة لنقل الوقود .. وعندما حاول علي مساعدتهم بعد انتهائه من عمله جذبه سفيان من يده وهو يقول له

- دعك من هذا الآن فلقد وجدت ما طلبته مني تحت صناديق قذائف الهاون ..

 

ذهب علي بصحبة سفيان الذي توقف أمام مجموعة من الصناديق ثم فتح أحدها أمام علي الذي هتف قائلاً

- رائع .. هل هي صالحة للاستخدام ؟ ..

أومأ سفيان برأسه موافقاً ثم قال

- إنها بحالة ممتازة .. كل ما عليك هو أن تضع القذيفة داخل القاذف وبعد أن تصوب وتطلق ستتجه القذيفة فوراً ناحية الحرارة المنبعثة من محرك الطائرة ..

التفت علي ناحية سفيان وهو يسأله باهتمام

- مهما كان ارتفاع الطائرة ؟ ..

مط سفيان شفتيه وهو يجيب قائلاً

- ليست المشكلة في الارتفاع .. المشكلة تكمن في ما تطلقه الطائرات من بالونات حرارية لأنها فعالة جداً مع هذه الصواريخ ..

 

هز علي رأسه متفهماً وقبل أن يعقب على ذلك تدخل عمر مقاطعاً باستنكار وهو ينظر نحو الصواريخ

- هل تنوي أن تجلب هذا النوع من السلاح معنا ؟ ..

نظر علي نحو عمر ثم قال

- نعم .. وما المشكلة ؟ ..

اقترب عمر من أذن علي ثم همس قائلاً

- ولكن خالك لم يتفق معي على هذا الأمر ولم نقم بأي ترتيبات بشأنه مع من سينقله لنا ..

ربت علي على كتف عمر ثم قال

- ولكنه طلب مني ذلك .. أم أنك نسيت الرسالة المغلقة ..

تدخل سفيان الذي لم يسمع الحوار قائلاً

- هل هناك مشكلة ؟ ..

أجابه علي قائلاً

- عمر يقول أنه لم يجري ترتيبات مع المهربين بشأن هذا النوع من السلاح ..

تعجب سفيان ثم قال

- وما شأنهم إن كان السلاح مضاداً للطائرات أو للدروع ؟ ..

أجابه عمر

- لقد استطعت إقناعهم بصعوبة أن يقبلوا نقل قذائف الآر بي جي بعد أن كان العمل مقتصراً على البنادق والرصاص فقط ، ولقد اقتنعوا بصعوبة بعد أن عرضت عليهم ثلاثة آلاف دولار نظير كل قطعة آر بي جي وأخشى إن عرفوا أن داخل القذائف صواريخ مضادة للطائرات أن يرفضوا العمل نهائياً فيضيع تعبنا كله سدى فلا نحصل على هذا ولا ذلك ..

 

قاطعه علي قائلاً

- لن نأخذ الكثير من مضادات الطائرات ولا أعتقد أنهم سيرفضون الصفقة لوجود قطعتين أو ثلاثة ويضيعوا على أنفسهم مبلغاً كبيراً من المال لأنه غايتهم أولاً وأخيراً ..

 

هز عمر رأسه موافقاً ثم قال

- على كل حال يجب أن يعلموا بوجود هذه القطع فإن قبلوا بنقلها كان بها ، وإن رفضوا أبقيناها في الأردن واكتفينا بمضادات الدروع فقد يأتي يوم ونجد لها حلا ..

 

ابتسم علي وهو يربت على كتف عمر ثم قال مازحاً

- هل رأيت كم هو الأمر بسيط ..

 

توقف علي عن الحديث عندما غمغم سفيان قائلاً

- ثلاثة آلاف دولار للقطعة الواحدة !! .. هل تدرون كم قطعة تستطيعون شرائها بهذا المبلغ ؟ ..

 

ضحك عمر بعد عبارة سفيان الأخيرة وأخبره أن هذا المبلغ يضاف إليه مصاريف النقل الأخرى وكانت مفاجأة سفيان كبيرة عندما عرف أن ثمن قطعة الآر بي جي في فلسطين وصل في بعض الأحيان لعشرين ألف دولار ولكن علي بين له أن هذا الأمر ما كان ليحدث لولا إحكام الحكومات العربية الحصار على فلسطين وضرب مثلاً بأن تهمة تهريب السلاح يعاقب عليها الصهاينة مدة تتراوح بين ثلاث إلى سبع سنوات من السجن بينما يتم تنفيذ حكم الإعدام في دولة كالأردن لمن يثبت أنه يحاول تهريب السلاح إلى فلسطين

 

انتهى الشباب من تحميل الشاحنة بالسلاح الخاص بهم بينما وضع عمر مضادات الدروع وثلاثة من مضادات الصواريخ في أعلى الشاحنة التي انطلقت نحو جهة مجهولة مع سفيان و عاد عمر وعلي إلى بيت راشد حيث كان أبو حفص في انتظارهم وقد بدا عليه القلق والتوتر فصاح بحدة

- لماذا تأخرتما كل هذه المدة ..

قاطعه عمر وقد انتقل إليه التوتر

- أصر علي أن يقوم بفحص القذائف بتفكيكها واحدة تلو الأخرى في نفس المكان كما أن سفيان قام بنقل بعض السلاح من المخزن إلى مخزن جديد وعندما انتهينا من حمولة الشاحنة جئنا إلى هنا على الفور .. لكن لماذا كل هذا القلق ؟ نحن لم نتفق على ميعاد محدد كي تنتظرنا ..

صمت عمر للحظة عندما شاهد شبح ابتسامة خبيثة على وجه راشد فتملكه شيء من الحيرة جعله يهتف مستفسراً

- حقاً ماذا هنالك ..هل حدث شيء ؟

 

تلعثم أبو حفص وهو يهتف باقتضاب قبل أن يدير ظهره ويدخل إلى غرفة الجلوس

- لم يحدث شيء ..

 

نظر عمر نحو راشد وقلب كفيه في حيرة وهو يغمغم

- ما بال أبو حفص.. لا تقل لي أنه انزعج من حديث علي ، فلقد كان الرجل يعبر عن ..

 

بتر عمر عبارته عندما لوح راشد بيده نافياً وهو يهتف

- لا لا ، الأمر ليس كذلك .. هو محبط لسبب آخر ، أفضل أن يفصح عنه بنفسه ..

 

أنهى راشد عبارته الأخيرة ثم دخل إلى غرفة الجلوس حيث أبا حفص ، فلحق به علي وعمر الذي سأل متذمراً

- ما هذه الألغاز ، وما شأن إحباطه بنا ؟ ..

 

غمغم راشد وهو يحاول كتم ضحكته

- حسناً .. سأخبرك أنا طالما يرغب بالسكوت ..

بتر راشد عبارته عندما ألقى أبو حفص نحوه إحدى الوسائد محذراً إياه من التفوه بكلمة إلا أن راشد انفجر ضاحكاً و قال:

- لقد خطب أبو حفص أختي فاطمة وطلب مني أن أسألها عن رأيها وعندما فاتحتها في الأمر قالت ما معناه : أن ردها سيكون متوقفاً على إجابة سؤال ستوجهه للأخ علي، ومن تلك اللحظة وهو ينتظر حضوركما ولكنكما تأخرتما كثيراً فنامت العروس وبقي العريس مستيقظاً تعصف به الحيرة ..

 

غمغم علي وهو يضحك

- يبدو أن فاطمة فقدت الثقة بكما و تريد إجراء اختبار قبل أن ترد على الطلب ..

 

هتف راشد وهو يضحك موجهاً حديثه لأبي حفص الذي يتميز من الغيظ

- هل رأيت أيها العبقري .. لقد عرف علي المغزى من وراء السؤال وأراهن أنه استطاع تخمينه كما فعلت ..

 

هتف عمر موجهاً حديثه لأبي حفص

- أعتقد أن راشد واثق من رد فاطمة الإيجابي على طلبك ، فلو كان غير ذلك لما رأيته هكذا ، بل لظهر الإحراج عليه أكثر من الابتهاج ..ثم أن فاطمة تكن لك الكثير من الاحترام والتقدير ، وهذا الأمر لاحظته من قبل الاحتلال بعكس ما كان يحدث معي ..

 

غمغم أبو حفص قائلاً

- هذا ليس ابتهاجاً يا عمر بل هي الشماتة .. فقد مارس معي دور العم مذ فاتحته في الأمر وعندما عاد برده المقلق لم يتوقف عن العبث بأعصابي ..

 

هتف راشد مقاطعاً

- لا تصدقه .. بل هو الذي أرهقني بأسئلته و يريد مني أن أخمن السؤال وكذلك الإجابة المناسبة ، مع أنه يعرف جيداً أنه من الصعب أن يعرف أحد كيف تفكر فاطمة ..

 

فهم علي وعمر أن فاطمة رفضت عرض أخوها للذهاب إلى الأردن حتى لو كان ذلك بصحبته ، فاقترح عمر التعجيل باستئناف الرحلة فوافقه علي بينما حاول راشد وأبو حفص اقناعهما بالبقاء لفترة أطول و في الصباح كان واضحاً أن أبا حفص هو الوحيد الذي لم ينم جيداً وعندما وضع راشد طعام الإفطار اكتفى أبو حفص بشرب كوب من الشاي فهمس عمر في أذنه مازحاً

- ألهذه الدرجة قلق أنت..

 

أشار أبو حفص بأصعبه ليحث عمر على الصمت ثم همس في أذنه يرجوه قائلاً

- الموقف لا يحتمل المزاح يا عمر ، فلقد بت أشعر أن الأمر أصبح مهيناً بالنسبة لي بسبب هذا الانتظار .. أعتقد أنني أخطأت في اختيار التوقيت والمكان المناسبين لطلبي ، فما كان عليّ أن أقوم بهذا وأنا أعلم مسبقاً أنني سأبيت في بيت راشد ..

 

كادت أن تفلت ضحكة من بين شفتي عمر بسبب ارتباك أبي حفص إلا أنه كتمها وهو يجيبه بصوت منخفض

- أنا أيضاً استغربت من هذا التحول .. فقد تركناكم وفاطمة ناقمة عليكما ، وحين عدنا وجدنا أن الحديث أخذ منحاً آخر لا يناسب الأجواء التي تركناكم عليها ..

 

تنهد أبو حفص قبل أن يميل على أذن عمر قائلاً

- ما يغيظني أن ردها متعلق بإجابة سؤال سيجيب عليه صديقك علي الذي لم يمض على وجوده بيننا سوى أيام قليلة ، فهو لا يعرفها جيداً وأخشى أن يستخف بذكائها فيقول كلاماً يفسد الموضوع برمته دون قصد منه .. ثم لماذا اختارت علي بالتحديد بينما تعرفك منذ زمن و ..

ابتسم عمر بخبث قبل أن يهمس قائلاً

- ربما بسبب حديثه الذي أيد فيه دخول المرأة العراقية في العمل الجهادي ، وربما ظنت أنها تستطيع الحصول على الإجابة من علي لانطباع معين أخذته عنه .. فهو أحياناً يبدو ساذجاً لدرجة تظن فيها أنك تستطيع استدراجه لمعرفة ما يخفيه ، ولكني اكتشفت أخيراً أنه يستخدم هذا الأسلوب لغرض في نفسه ، لذا لن ألوم فاطمة لو كان انطباعها عن علي بأنه ساذج لأن هذا الأمر قد حدث معي ..

 

قطع عمر حديثه عندما دخل راشد ومن خلفه فاطمة بينما طوى علي الصحيفة التي كان يقرأ فيها ثم نظر نحو أبي حفص الذي بادر قائلاً وكأنه يحاول الخروج من شعور ما

- أمازلت مصراً على الرحيل اليوم يا أخ علي ؟..

 

كان واضحاً لعلي ما يرمي إليه أبو حفص فابتسم بخبث قبل أن يقول

- بإذن الله تعالى سنتحرك اليوم .. فلقد تأخرنا بما فيه الكفاية ..

 

هتف راشد مقاطعاً

- ألا يمكنكما أن تؤجلا ذلك لبعض الوقت ، فلستما مرتبطين بموعد محدد ..

 

غمغم علي وهو ينظر نحو أبي حفص مبتسماً

- كان بودي البقاء أكثر في العراق على الأقل كي أحضر الحدث السعيد ، ولكن نحن أيضاً لدينا وطن محتل بحاجة لوجودنا فيه تماماً كما هو الحال مع العراق وحاجته لأبنائه ..

 

تدخلت فاطمة مقاطعة بنبرة فيها شيء من الارتباك و الخجل بسبب عبارة علي الأخيرة وهي تقول

- أخ علي .. سمعت أنك عارضت العملية التي كان سيقوم بها أخي .. فهل كانت معارضتك لأنك لا تؤيد العمليات الاستشهادية أم لشيء آخر ..

 

غمغم علي وهو يدعي الاستغراب

- لست ضد العمليات الاستشهادية إن كانت السبيل الوحيد للإثخان في العدو ، لكن إن وُجدت طريقة يستطيع فيها المجاهد أن يلحق الأذى بعدوه أكثر من مرة ، فهي بالتأكيد أفضل من عملية واحدة .. فالمجاهد يسعى أولاً وأخيراً بعمله الجهادي للنصر أو أسبابه ، وهو يفعل ذلك مطمئناً أن جزاء قتله الشهادة ثم الجنة والتي هي أفضل من الدنيا وما فيها .. صحيح أن الشهادة غاية كل مجاهد ، لكن لا يحظى بها إلا من أحسن جهاده وذلك يكون بنية نصرة الله ودينه في الدنيا .. سواء كان ذلك من خلال عملية استشهادية أو سقط مقتولاً في معركة ..

 

نظرت فاطمة نحو أخوها قبل أن تسأل علي قائلة

- أصدقني القول أو امتنع عن الإجابة إن شئت.. هل كنت تعرف أن أبا حفص سيشارك أخي في العملية التي كانوا سيقومون بها قبل أن تعرض عليهم خطتك ؟ ..

 

أجاب علي على الفور

- نعم كنت أعرف ذلك ..ولكنه اقتنع بصعوبة بالعدول عن الخطة بعد أن فهم أن هناك خطة أفضل من اللجوء لعملية استشهادية ..

 

بدا الارتياح واضحاً على وجه فاطمة التي ادعت فجأة أنها ستقوم بإعداد إبريقاً من الشاي على الرغم من أن الشاي موجود فعلاً ، وعندما خرجت من الغرفة هتف أبو حفص موجهاً حديثه لراشد

- أنا لا أفهم شيئاً ..

 

قلب راشد كفيه و غمغم- ولا أنا ..

 

نظر علي نحو راشد الذي لحق بأخته ثم وجه حديثه لأبي حفص وابتسامته على وجهه قائلاً

- مبارك عليك يا أبا حفص .. كنت متأكد أنها موافقة ولكن يبدو أنها كانت تخشى أن العملية ما تزال قائمة ، وأن عرضك للزواج كان بديلاً عن سفرها للأردن كنوع من الشفقة .. فأي فتاة مكانها كانت ستفكر بهذه الطريقة ، خاصة وأن تسلسل الأحداث يوحي بذلك ..

هتف أبا حفص وهو يكاد يطير فرحاً

- على العكس تماماً ، فقد كنت أفكر في هذا الموضوع منذ زمن ولكن الظروف كانت تحول دائماً بيني وبين فتحه ..

لكزه عمر وهو يقول بخبث مازحاً

- قبل قليل كنت تقول أنك أخطأت في اختيار الوقت .. يبدو يا عزيزي أن الموضوع فيه نوع من الهوى وإلا ما كان حالك هكذا

 

دفعه أبو حفص وهو يهمس مازحاً

-قاتل الله الغباء .. هل لدينا وقت لهذا الهراء يا سيء الظن .. كل ما هنالك أن قوة شخصيتها واعتزازها بنفسها ورجاحة عقلها كانو السبب وراء تفكيري بها كزوجة وأماً لأبناء من المؤكد أنها ستزرع فيهم العزة والإباء و ..

 

ضحك عمر وهو يقاطعه قائلاً

- حسبك يا رجل .. وهل يختلف ما قلت عن الهوى .. كأني بك ستنشد فيها شعرا ، فما كدت تجد الفرصة المناسبة حتى بدأت تتحدث عن شعورك ..

 

دفعه أبو حفص هذه المرة بقوة أكبر وهو يهتف موجهاً حديثه لعلي بصوت منخفض خشية أن يسمعه أحد

- خذ صديقك عني و إلا أوسعته ضربا ..

أمسك علي بعمر الذي ما يزال يضحك ثم قال مدعياً العتاب

- كف عن مزاحك السخيف يا عمر ، ولا تفسد على الرجل حالة الوجد والهيام ..

 

مط أبو حفص شفتيه و هو يتظاهر بالغيظ

- حتى أنت يا علي ؟!

 

وافقت فاطمة بالفعل على الزواج من أبي حفص وتمنى الأخير أن يبقى علي وعمر لحضور عقد القران ويشهدا عليه ، إلا أن علي أصر على استئناف الرحلة معللاً ذلك بشوقه للوطن .. وعندما حضر رسول من قبل سفيان ، خرج أبو حفص ومعه علي وعمر بعد أن ودعا راشد في مشهد مؤثر متجهين لمنطقة نائية خارج بغداد حيث كان سفيان في انتظارهم بسيارة نقل صغيرة محملة بالخضروات كنوع من التمويه لإخفاء القاذفات وعندما حاول عمر أن يدفع ثمن السيارة رفض أبو حفص بإصرار وقال أنها هدية من مجاهدي العراق إلى مجاهدي فلسطين

 

كان وداعاً حارا لدرجة أن عمر بقي لأكثر من ساعتين يقود السيارة في صمت و يحاول عابثاً أن لا يرى علي دموعه ولكن علي مل من احترام صمته وحزنه فهتف قائلاً

- هل تشعر بهذا الحزن في كل مرة تفارقهم فيها ، أم أن هذه المرة حالة خاصة ..

 

غمغم عمر كأنه يتحدث رغما عنه

- كل مرة أشعر فيها بالحزن عند فراقهم ، فراشد صديقي الوحيد في هذه الدنيا .. لكن ما يؤلمني حقاً أنه رفض مني أي مساعدة رغم الضائقة المالية التي يعيشها .. فالسيارة التي يعمل عليها لا تدر عليه ما يفي بمتطلبات الحياة ، خاصة أنه يستخدمها في أعمال المقاومة ويرفض الحصول على أي مقابل نظير ذلك ..

 

قطع عمر حديثه عندما رن هاتفه الجوال وتعجب عندما شاهد رقم راشد فقال لعلي قبل يفتح الخط

- يبدو أن ثمة شيء هام قد حدث ، فهو لا يتصل بي على هذا الهاتف إلا إذا كان الأمر هاماً

 

كان عمر يتحدث إلى راشد و يقسم أنه لا يعلم بالأمر وأن علي فعل ذلك دون علمه ، فانتزع علي الهاتف من يد عمر و قال

- اسمع يا أخ راشد .. الحديث في هذه الأمور يفسد الود الذي نشأ بيننا وما قلته لك في الرسالة هو الذي أعنيه ولا شيء آخر.. لذلك ، أنت الآن أمام خياران ، إما أن تقبل الهدية من أخوة لك وإما أن تبحث عن سبيل آخر تبرهن فيه أنك لا تقبل بنا كأخوين لك واعذرني لأنني سأقطع الاتصال فالموضوع لا يحتاج هذه المغامرة ..

 

قام علي بفصل الخط فوراً بعد عبارته الأخيرة دون أن ينتظر رداً من راشد فهتف عمر قائلاً

- حسناً فعلت بهذا الرد المقتضب ، فهو عنيد ولا ينفع معه سوى هذا الأسلوب .. ولكن كيف خطرت لك فكرة الرسالة وما الذي كتبته فيها ومتى فعلت ذلك ؟..

 

ضحك علي من كثرة أسئلة عمر ثم قال

- خطرت لي الفكرة عندما كان يتشاجر مع أخته ونحن على باب المنزل ، فقد فهمت أن الضائقة المالية التي يعيشونها أكبر مما تبدو ، خاصة وأن فاطمة كانت تصرخ فيه بأنها على استعداد أن تعمل كخادمة في البيوت على أن تترك العراق ..

غمغم عمر مقاطعاً بنبرة حزن

- نعم ، لقد سمعتها وهي تقول ذلك ولا تدري كم أثر هذا في نفسي لأنني أعلم جيداً كيف كانت تعيش فاطمة في أسرتها قبل أن يحدث لها ما حدث .. لكن لم تجبني ، من أين وفرت هذا المبلغ ، ومتى كتبت الرسالة وأنا لم أفارقك لحظة واحدة ؟ ..

أجابه علي قائلاً

- المبلغ هو آخر ما تبقى معي من رحلتي إلى مصر وهو من مالي الخاص ولا علاقة له بالعمل .. أما الرسالة فقد كتبتها على الصحيفة عندما كنت تتحدث أنت وأبو حفص عني ولقد قلت فيها أن هذا المبلغ هدية مني ومنك لزواج فاطمة ..

ظهرت علامات الخجل واضحة على وجه عمر قبل أن يقول

- هل سمعت كل ما دار بيني وبين أبي حفص بشأنك ..

ابتسم علي قبل أن يقول

- نعم .. و أنصحك إن كنت لا تريد أن يسمعك أحد وأنت تتحدث ، فلا تجلس بجوار شخص يحمل صحيفة مفتوحة لأنها تنقل الوشوشة بوضوح ..

غمغم عمر قائلاً

- على كل حال كنا نتحدث عنك بالخير ..

صمت عمر قليلاً ثم استطرد وهو يضحك

- لكن ألا تعرف أن التصنت على الناس عمل غير لائق !!

التفت علي نحو عمر بحدة ثم قال

- كنت مشغولاً بكتابة الرسالة على عجل قبل أن يأتي راشد وسمعت ما دار بينكما دون أن أتعمد ذلك .. ثم لا تغير الموضوع فأنت مدين لي بستمائة دولار وأنا أريدها الآن ..

ضحك عمر بصوت عال قبل أن يقول

- الآن عرفت لم نتعوذ من غلبة الدين وما علاقته بقهر الرجال المال الذي معي الآن خاص بالعمل وما لدي من مال خاص أقل من المبلغ الذي فرضته عليّ كدين ..

 

قام علي بتعديل وضع الكرسي كي يسند ظهره ثم قال

- سأتنازل لك عن الدين إن قدت بشكل أستطيع فيه النوم ..

هتف عمر باستنكار

- ما هذه الأنانية ، هل تريد أن تنام وتتركني أكلم نفسي ..

اعتدل علي في جلسته ثم قال :

سأهون عليك الأمر .. تذكر أنك كنت قبل قليل في حالة حزن وكآبة ولا تريد أن يتحدث معك أحد أو تتحدث مع أحد..

هتف عمر ساخراً

- أبعد أن أخرجتني تريد مني أن أعود إليها بهذه السهولة ..

غمغم علي وهو يتظاهر بالضيق

- هذا ما جنيته على نفسي

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

استمر عمر في قيادة السيارة لساعات طويلة حتى وصل إلى القرية التي نزلا بها سابقاً ، وبعد أن استراحا فيها بعض الوقت ، أفرغ عمر الخضروات التي كانت محملة على الشاحنة بعد أن جلب له عياد أكياساً من التبن بدلاً عنها ، ثم انطلقا مرة أخرى تحت ستار الظلام متجهين نحو الحدود الأردنية في دروب يحفظها عمر عن ظهر قلب

 

لم يكد عمر يصل إلى الطريق المعبد حتى ثبت لوحتي أرقام على السيارة و طلب من علي أن يستخدم جواز السفر الذي يحمله ويتصرف كمصري إن حدث احتكاك بأي من حواجز الأمن ، و لكنهما على الرغم من طول الطريق لم يصادفا سوى حاجز واحد لشرطة المرور اكتفى أفراده بالتلويح لهم بالمرور بسبب برودة الجو وعندما مرت السيارة غمغم علي قائلاً

- ماذا لو أنهم طلبوا منك تفتيش السيارة و اكتشفوا السلاح .. هل تدري ما الذي يمكن أن يحدث لهؤلاء المساكين..

 

قاطعه عمر و هو يبتسم بهدوء

- أعلم أنك لن تستلم للأمر وأنك لن تدع أحداً يمس هذا السلاح .. ولذلك أخبرتك أن لا تقوم بأي ردة فعل مهما حدث ، فأنا أحمل بطاقة هوية تمكني من عبور أي حاجز دون أن يعترضني أحد ..

 

غمغم علي في حيرة

- ما سر تلك البطاقة التي تثق بها كل هذه الثقة .. هل هي بطاقة مزورة لجهاز أمني أردني ..

 

ضحك عمر وهو يقول

- هل تعرف أنها فكرة جيدة .. على كل حال هي بطاقة هوية حقيقية تحمل اسم ابن أحد وجهاء معِن وهو رجل مشهور هنا وله مكانة كبيرة بين القبائل التي يعمل الكثير من أبنائها في سلاح البادية ، ومن الطبيعي جداً عندما يرون الاسم أن لا يجرؤ أحدهم على تفتيش السيارة ..

 

لم يقتنع علي بحديث عمر ولكن الأخير أخبره أن الرجل المعني هو نفسه من أعطاه الهوية وكانت مفاجأة علي كبيرة عندما عرف أن هذا الوجيه فعل ذلك بإيعاز من خاله .. وعندما اتضحت الصورة أمام علي أكثر ، خاصةً بعد أن عرف أن للرجل علاقة بكفالة التمويل ، وأن تسليم المال للمهربين الذين ينقلون السلاح من الأردن إلى فلسطين يتم عبر أشخاص من طرفه ، استطاع أن يستوعب اطمئنان عمر الذي انحرف بالسيارة نحو واد عبر طريق غير ممهد يقودها في دروب كثيرة ومختلفة ماراً بمناطق زراعية وأخرى صحراوية ثم توقف في النهاية في مكان خال وهو يهتف قائلاً

- سنخفي السلاح هنا قبل أن ندخل القبيلة ، وستكون هذه آخر مرة نراه فيها وأسأل الله تعالى أن نراه المرة القادمة في غزة ..

ترجل علي من السيارة وهو يقول

- هل يعني هذا أننا بالقرب من حدود فلسطين ؟ ..

أجابه عمر موضحاً

- نحن في منطقة تتساوى فيها المسافة بين حدود فلسطين وحدود السعودية وحدود مصر ، أي أنك لو سرت نفس المسافة بخط مستقيم في اتجاهات مختلفة ستصل إلى إحدى تلك الدول ..

نظر علي حوله ثم همس سائلاً

- أفهم من ذلك أننا قريبون من مدينة معان ؟ ..

هز عمر رأسه نافياً ثم قال

- أقرب إلى المدورة من معان ، فالمسافة من هنا لمعان هي نفس المسافة من هنا إلى أول قبيلة نزلنا فيها بعد خروجنا من سيناء .. على كل حال سنستريح هنا ثم نواصل طريقنا مع أول ضوء فجر تجاه قبيلة حسان حيث سنلتقي بالوسيط الذي سينقل السلاح من هنا إلى وادي عربة ثم إلى فلسطين ..

 

بعد أن انتهى علي وعمر من إخفاء السلاح جيداً ، أمضيا ليلتهما داخل السيارة وعلى الرغم من برودة الطقس ونفاذ ما لديهما من طعام ، إلا أنهما استغرقا في النوم بسبب الإرهاق الشديد الذي سببه طول السفر وقلة النوم لهما ، ومع أول ضوء من الفجر استأنفا رحلتهما نحو القبيلة التي تحدث عنها عمر قائلاً :

- هذه القبيلة تختلف كثيراً عن القبائل التي مررنا بها .. فكل فرد من سكانها لا شأن له بما يفعله الآخرون ، كما أن سيد القبيلة هنا ضعيف و لا يمتلك سلطة حقيقة على أفرادها لأنه لم ينجب ذكوراً .. لذا ستلاحظ أن الأفراد يحقد بعضهم على الآخر ومن المؤكد أنه سيصيبنا جانب من هذا الحقد لمجرد اتصالنا بشخص واحد دون غيره من أفراد القبيلة ..

 

مط علي شفتيه و غمغم قائلاً

- لكن هذا قد يوقعنا في بعض المشاكل .. فقبيلة بهذا الوصف يكثر فيها المتطفلون والفضوليون وهذا أمر لا أحبه وقد ..

قاطعه عمر قائلاً

- التطفل والفضول صفة كل سكان الصحراء ، فنادراً ما يقتحم حياتهم الروتينية شيء ما ، ولكي تتجنب أي عداوة محتملة ، عليك أن توهم الجميع أنك لا تمانع في عقد صفقات مع أي منهم ، فهذا وحده كفيل بأن يجعلهم ودودين وكرماء للغاية .. لكن يجب أيضاً أن يلمسوا فيك خشونة وغروراً دون أن يعرفوا سبباً لذلك .. فهم رغم اعتزازهم بأنفسهم وشجاعتهم ، إلا أنهم يخشون من أي شيء مبهم غير واضح الملامح .. باختصار ، المجهول فقط هو ما يخيفهم ويرهبهم ..

 

تمتم علي قائلاً

- لكن ماذا عن تدينهم ومذهبهم .. هل هم كقبيلة زيد ؟

ابتسم عمر قبل أن يقول

- يعجبني فيك أنك تحب معرفة أين ستضع قدمك قبل أن تخطو خطواتك .. هم بالفعل يشبهون قبيلة زيد .. فكل قبائل البدو التي تتواجد في صحراء الحجاز والشام يتحكم فيهم قانون العيب والعار ، وما يوافق هذا القانون من تعاليم الإسلام تمسكوا به وما يخالفه قللوا من أهميته ووضعوه جانباً .. ربما تحدث نفسك أن الإسلام لا يحرم عيباً ولا يحلل ما يجلب العار .. لكن المشكلة مع هؤلاء أن مفهوم العيب والعار متطرف للغاية ..

 

هز علي رأسه موافقاً ثم قال

- أعلم أنهم لا يتورعون عن قتل رجل بريء لمجرد أن قريبه قتل أحد أفراد قبيلتهم ، فهم في هذه الحالة لا يقيمون وزناً لقوله تعالى (ولا تزروا وازرة وزر أخرى )..

 

وافق عمر علي و استطرد موضحاً

- نعم ، هذا صحيح .. فهذه القبيلة هي مثال على ذلك .. فقبل عدة أعوام قتل أحد أفراد فخوذها رجلاً من فخذ آخر فكان على فخذ القاتل وأقرباءه من رجال ونساء وأطفال أن يتركوا القبيلة ويحتموا بقبيلة أخرى ، مع العلم أن الفارين أبناء عم وأقرباء سكان هذه القبيلة ، وهذا أمر يتعارض مع مفهومهم لمعنى العار .. لأنهم بذلك وضعوا أعراضهم في حماية قبيلة غريبة وفي نفس الوقت أضعفوا قبيلتهم حين غادرها أبناء عمهم .. وتستطيع أن تتخيل ما يعقب ذلك من قطع للرحم لأنهم عادةً ما يتزوجون من بعضهم البعض ..

 

عض علي شفته السفلى باشمئزاز قبل أن يقول

- هذا يعني أنه قد يكون في القبيلة من يُهجر أخته لقبيلة غريبة لمجرد أن زوجها قريب للقاتل ، وفي نفس الوقت يبرر لنفسه فعلته هذه ، لأن وجود أهل القاتل في القبيلة سيجلب له العار ..

غمغم عمر

- هذا ما حدث فعلاً ..

زفر علي بضيق قبل أن يقول

- صدق سيدنا يوسف حين ساوى بين السجن وحياة البدو حين خاطب قومه في قوله تعالى : ( وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو )

 

 

ما أن وصل عمر وعلي إلى القبيلة حتى التف حول السيارة عدد من الرجال والأطفال و هم ينظرون إليها بفضول ، وعندما ترجل عمر منها ، هتف أحدهم باسمه مرحباً و عانقه بود و فعل نفس الشيء مع علي الذي شعر من همهمات بعض المتواجدين أنهم يعرفون عمر جيداً وتأكد له ذلك عندما اصطحبهم الرجل إلى خيمة شيخ القبيلة الذي سارع بدوره بالترحيب بهم بنفس الأسلوب التقليدي المتبع بين القبائل

 

كانت هذه القبيلة تختلف بالفعل عن القبيلة الأولى حيث بدا واضحاً أنها أفقر وأقل عدداً ، كما أن الجو المشحون بين أصهار الشيخ الخمسة وأسلوبهم الحاد والتهكمي في حديثهم مع بعضهم البعض ، جعل علي يلمس بوضوح ضعف شيخ القبيلة الذي لم يكن أحد يكترث لوجوده ، حتى أن بعض الحضور كان يقاطع حديثه بطريقة تخلو من الذوق دون أي اعتبار للحرج والضيق الباديان على وجهه ..

 

بعد أن انتهى الجميع من الوليمة التي أقامها الشيخ على شرف ضيوفه ، انفض أغلب المتواجدين باستثناء أصهار الشيخ الخمسة الذين صمتوا جميعاً لأول مرة عندما سأل الشيخ عمر ممازحاً:

- هل جئت هذه المرة للبيع أم للشراء ؟

قهقه عمر على نحو خال من الذوق قبل أن يجيب قائلاً

- لا تقل لي يا شيخ حسان أنك تريد المغامرة بالدخول في مجال عملنا ، فلقد عرضت عليك هذا الأمر عندما كنا نلعب في لعبة قطع غيار السيارات ورفضت ذلك ، فكيف هو الحال والأمر يتعلق بما هو أشد خطورة ..

هز أبو حسان رأسه نافياً ثم قال بمكر

- لا شأن لي بعملكم وإن كانت نفسي تحدثني أحياناً أن أشارككم فيه بسبب العائد الذي يدره والذي بت ألحظه على صديقك جابر ..

حاول عمر أن يرد إلا أن أحد أصهاره و يدعى جابر تدخل مقاطعاً بسخرية

- تعلم يا شيخ حسان أن زينة الدنيا لا تكتمل إلا إذا كان فيها مال وبنون ، وأنا والحمد لله لدي البنون ، فلم لا أسعى للمال كي تكتمل الزينة ..

 

كان واضحاً أن جابر يهمز الشيخ حسان لعدم إنجابه ذكوراً ، فاستغل علي ذلك ووجه حديثه لجابر بنبرة حازمة وهو ينظر في عينيه مباشرة :

- أحياناً يخسر الإنسان حياته وزينتها بسبب طمعه في جمع المال .

 

تعجب جابر من عبارة علي ونظراته القاسية التي ليس لها أي مبرر وقد راق ذلك للشيخ حسان فهتف ساخراً

- أن يخسر حياته هو فلا بأس في ذلك ، أما زينته فهم أحفادي ، أسأل الله أن يحفظهم من طمع أبيهم ..

 

بدا جابر حائر النظرات وهو ينظر لعمر محاولاً أن يفهم سبب حديث علي القاسي فتجاهل عمر ذلك و وجه حديثه لشيخ القبيلة قائلاً

- هذا ابن خالتي علي وهو من الرجال الذين يُعتمد عليهم ، لكنه يكره بشدة الطمع والخيانة ، فأنت تعلم يا شيخ حسان أن مهربي الآثار يميلون أحياناً للطمع ، خاصةً إذا عرفوا أن ما لديهم عليه إقبال كبير من عدة جهات ، وكثيراً ما يلجأ بعضهم لتزييف وتقليد الآثار طمعاً في المال بغير وجه حق

 

كان عمر قد شرح لعلي أن علاقته بجابر أمام أفراد القبيلة تختفي وراء ستار تهريب الآثار ، ولذلك دار معظم الحديث داخل الخيمة عن الآثار وما تم نهبه من متحف بغداد وغيره من الأماكن الأثرية في العراق ثم استأذن جابر من شيخ القبيلة في أن يبيت عمر وعلي في خيمته فتفهم الشيخ ذلك وشكر عمر الذي أهداه السيارة التي جاءوا بها من بغداد وعندما قام عمر بمفاتحة جابر في أمر تهريب السلاح غادر علي الخيمة رغم إصرار عمر أن يبقى معهما ليسمع الحديث ، إلا أن علي طلب منه أن يتفق مع جابر ويخبره لاحقاً بما توصلا إليه ، ثم خرج نحو ساحة القبيلة متجهاً نحو أحد رجالها الذي كان حاضراً معهم داخل خيمة الشيخ و خاطبه قائلاً

- ها قد جئت كما وعدتك ، لكن أرجو أن يكون ما لديك مهماً ، فقد كنت أنوي أن أنام كي أستريح من عناء الرحلة ..

همس الرجل وهو يتلفت حوله بارتياب

- ظننت أنك لم تسمعني حين همست في أذنك داخل الخيمة .. اسمع لن ينفع الحديث هنا ، فالجميع ينظرون إلينا .. تعال معي إلى خارج القبيلة عند ذلك الجبل وهناك أخبرك بما لدي ..

 

سار علي برفقة الرجل إلى حيث أشار بعيداً عن مضارب القبيلة حيث كان هناك رجل و فتى و قد ظهر عليهم الابتهاج لقدوم علي مع ذلك الرجل الذي قال له

- طبعاً تعرفت على أخي عندما كنا في خيمة الشيخ ، أما هذا فهو ابنه البكر جواد ..

هز علي رأسه موافقاً ثم قال

- إذاً أنت وأخوك عديلان و بالتالي يكون جابر عديلكما أيضاً .. يبدو أن الشيخ حسان يصاهر أغلب رجال القبيلة ..

 

ضحك علي بعد أن قال عبارته الأخيرة فهتف أبو جواد قائلاً

- الشيخ حسان له سبعة عشر ابنة ولم ينجب ذكوراً رغم أنه متزوج من أربعة نساء لذا فمعظم من في القبيلة لهم علاقة بالشيخ .....

قاطعه علي بتهكم قائلاً

- سبعة عشر ابنة ، يعني نفس العدد من الأصهار وعشرات الأحفاد .. هذا جميل وطريف في نفس الوقت ..

بدا واضحاً لعلي أن أبا جواد يضحك نفاقاً و هو يستطرد قائلاً

- بنات الشيخ حسان لم يتزوجن جميعاً فبعضهن مازلن صغيرات و ..

قاطعه علي بشكل مفاجئ وحازم وهو يقول بملامح جامدة :

- لندخل في الموضوع مباشرة ، وأحب أن أعرف لماذا أردتم الالتقاء بي سراً ؟ .. وأفضل أن يكون ذلك باختصار شديد ..

ساد جو من الصمت قبل أن يهتف أبو جواد باهتمام قائلاً

- حسناً لندخل في الموضوع .. نعلم أنك وعمر تتاجران في الآثار ونريد أن نعرض عليك عرضاً ولكن ليس قبل أن نعلم كيف تقيمون تلك الآثار وعلى أي أساس تدفعون ثمنها ..

تظاهر علي بالاهتمام وهو يسأل

- هل لديكم شيء تريدون بيعه ؟ ..

أجابه أبو جواد قائلاً

- نستطيع بكل سهولة أن نجلب ما تود شرائه و بسعر أقل مما يطلبه جابر منكم .. لكن نريد أن نفهم كيف تقيمون الآثار وعلى أي أساس تدفعون ثمنها

ابتسم علي بخبث قبل أن يجيب قائلاً

- نحن نتعامل بأنواع معينة من الآثار وبما أن خبرتكم معدومة في هذا المجال ، فأي قطعة أثرية تجدون عليها رسماً لنجمة سداسية أو حروفاً باللغة العبرانية القديمة ، سيكون ثمنها مبدئياً كوزنها ذهباً وهذا ينطبق على الآثار المعدنية أو الفخار والحجارة ،وتذكروا دائماً أن المهم في الأمر هو النقوش الموجودة على الأثر ..

هز أبو جواد رأسه متفهماً وهو يغمغم

- هذا سيسهل علينا الكثير من الأمور .. فنحن نستطيع الوصول لبعض الرجال الذين حصلوا على آثار كثيرة من بغداد أيام الاحتلال ، ولكننا لا نعرف أيها الأكثر قيمة ..

تدخل ابنه جواد مقاطعاً

- هل تشترون جياداً عربية أصيلة .. لديّ حصان أدهم كان من أفضل الخيول في إسطبلات صدام حسين ..

ابتسم علي وهو يجيبه بود

- هذه تجارة لا أفهم فيها .. لكنني أعدك لو أنني التقيت بمشتر لمثل هذا النوع ، سأحرص أن تحصل على أعلى سعر له

صمت علي قليلاً ثم استطرد وهو يوجه حديثه لأبي جواد

- يبدو أن ابنك له من اسمه نصيب ، فاسمه جواد و هو يحب الجياد أيضاً ..

قال أبو جواد بفخر

- على الرغم من صغر سنه إلا أنه فارس لا يشق له غبار ، ربما تكون هناك فرصة لتراه وهو يعتلي صهوة جواده ..

تبدلت ملامح علي واتخذت الطابع الجدي عندما قال

- يستحسن أن أراه الآن وأرى ذلك الجواد .. حتى إذا سأل جابر عما دار بيني وبينكم قلت له أن الأمر يتعلق بذلك الحصان العربي .. فأنا لا أحب أن يعرف ما دار بيننا بشان الآثار لأنني لا أرتاح له ..

 

كانت عبارة علي الأخيرة مريحة للغاية بالنسبة لأبي جواد وأخيه ، خاصةً عندما عرفا أن علي لا يثق بجابر ، واستطاع علي بذكاء أن ينفرد بجواد بحجة رؤية الحصان وبسرعة كبيرة نشأ جو من الثقة والألفة بين علي وجواد الذي انبهر بمهارة علي في الرماية وطلب منه أن يعلمه كيف يطلق النار بهذه الصورة الدقيقة

 

قضى علي مع جواد ساعتين عرف منه خلالهما أدق التفاصيل عن جابر وعن أقاربه الذين يعملون في الجيش الصهيوني و كان الفتى يمتلك الكثير من المعلومات لأنه من نفس عائلة جابر ، وهو ما جعله يسترسل عن تفاصيل مهمة بالنسبة لعلي و قد كان واضحاً أن الفتى لا يحب جابر بسبب العلاقة المتوترة بين الأخير ووالده ، لذا لم يكن يعنيه أن يقول أي معلومة حتى لو كانت ستسبب الضرر لجابر

 

عندما عاد علي إلى خيمة جابر كان عمر في انتظاره فقابله مستفسراً

- أين كنت طوال الوقت .. هل وجدت أحداً تعرفه في هذه القبيلة ؟

 

ظهرت علامات الاهتمام على وجه جابر في حين أجاب علي بعدم اكتراث

- يبدو أن أحدهم حصل على بعض الخيول التي سرقت من قصور صدام وأراد أن يريني أحدها ظناً منه أنني أهتم بتلك الخيول ..

صاح جابر محذراً

- لا يوجد خيول ولا ما يحزنون .. كل ما هنالك أن لديهم جواداً واحداً فقط ، فاحذر منهم فقد يحتالون عليك ..

قاطعه علي بخشونة وصرامة عندما قال

- لا أظن أن هناك مجنوناً يعرض نفسه وعائلته للذبح لمجرد المزاح معنا من أجل ثمن حصان .. فنحن كرماء للغاية مع من يخلص لنا وشديدي القسوة مع من يفكر بالغدر بنا ..

صمت علي قليلاً ثم مد يده ناحية عباءة جابر ليعدل له من هندامه على نحو خال من الذوق ثم تابع قائلاً:

- تعلم يا شيخ جابر أن مثل تلك الأمور تمس بشكل كبير بهيبتنا ، ونحن مضطرون في مثل تلك الأحوال لفعل أي شيء كي نحافظ على هيبتنا .. على كل حال دعونا من كل هذا وأخبروني على ماذا اتفقتم ..

غمغم عمر الذي أدهشه الأسلوب بعد أن وجه عبارته الأخيرة إليه

- سيقوم جابر بنقل البضاعة من المكان بطريقته بعد غد ، ولقد وافق على نقل ما أضفناه بصعوبة نظير مبلغ جديد من المال ، شرط أن تكون هذه آخر مرة يقوم بها بنقل تلك الإضافة ..

 

تدخل جابر مقاطعاً وموضحاً وهو يناول علي فنجان القهوة

- هذا النوع كبير الحجم وما طلبته من مال إضافي ليس لي ، بل هو لمن سيساعدني في الداخل ..

 

تناول علي القهوة من يد جابر ثم اتكأ على الفراش وهو يهمس غامزاً

-بلغني أن نايف أصبح له شأن كبير في مشمار هقفول ، ولكني لم أعرف ما هي الرتبة التي حصل عليها ..

ارتبكت يد جابر وهو يصب القهوة لعمر فسقط منها القليل على الأرض ثم غمغم وقد امتقع لون وجهه بشدة

- مازال يحمل رتبة ميجر ولم يترق بعد .. لكن من أين تعرف نايف ، و ..

قاطعه علي قائلاً

- بَشره أنه سيحصل قريباً على ترقية فقد يسعده ذلك ..

كان واضحاً أن جابر قد أسقط في يده عندما قال

- هل أنت من سكان راهط ؟ ..

 

دار حديث طويل بين علي وجابر وكان عمر يستمع إليهما وهو في غاية الدهشة .. فقد بدا له أن علي يعرف كل شيء عن جابر و تركيبة المجتمع البدوي في النقب والمشاكل التي بين العائلات ، و رفض جابر أن يصدق أن علي ليس من سكان إحدى القرى البدوية في صحراء النقب ، ولكن علي ألقى بقنبلة جعلت جابر يضرب أخماساً في أسداس عندما منحه انطباعاً بأنه يعمل مع المافيا دون أن يصرح بذلك علانية ، بل أن علي جعله يتأكد تماماً بأنه يعرف عن حياته الخاصة كل شيء عندما أشار إلى خلافه مع ابنه الذي غادر القبيلة متوجهاً إلى العراق مع مجموعة أخرى من شباب القبائل للجهاد هناك

 

في اليوم التالي أفاق الجميع على جلبة في الخارج كان مصدرها زيد الذي أوقف سيارته الفاخرة في ساحة القبيلة وأخذ يطلق أبواقها بشكل مزعج وعندما دلف جابر إلى الخيمة التي ينام فيها عمر وعلي ، سأله الأخير وهو منشغل في تنظيف مسدسه دون يرفع نظره إليه

- ما كل هذه الضجة في الخارج ؟..

 

غمغم جابر بضيق واضح

- إنه صديقكم زيد .. لا أعرف كيف تتحملون رجلاً مغروراً كزيد هذا !..

 

توقف جابر عن الحديث عندما قال عمر وهو ينهض من فراشه

- امسك عليك لسانك ، فأنت تعلم أن أكثر ما يزعج زيد هو أن يتهمه أحد بالغرور .. ولكن أين هو الآن ..

 

أجابه جابر ببرود

- بالتأكيد ذهب إلى خيمة خاله الشيخ حسان .. فقد ازداد تردده كثيراً على القبيلة في الأيام الأخيرة ويبدو أن الشيخ يريد أن يزوجه ابنته صفية ، ولكنه محرج من أن يفعل ذلك قبل أن تتزوج أختها الأكبر منها .. آه لو يعلم والده بأنه سيتزوج ابنة الشيخ حسان على ابنة عمه ذات الحسب والنسب ..

 

غمغم عمر ساخراً

- لن يفعل شيئاً ، فقد سبقه بذلك عندما تزوج أخت الشيخ حسان التي هي أم زيد .. من شابه أباه فما ظلم يا شيخ جابر

 

خرج جابر من الخيمة وهو يتمتم بغيظ قائلاً

- سأذهب لاستقباله والترحيب به حتى لا يظن أني أتعمد تجاهله ..

 

مط علي شفتيه متعجباً وهو يراقب جابر الذي هرول تجاه خيمة الشيخ حسان ثم وجه حديثه لعمر قائلاً

- عجيب هذا الرجل .. بعد كل الذي قاله ، يذهب للترحيب به وهو لا يحمل له إلا البغض ..

 

ابتسم عمر بخبث وهو يقول

- عجيب أمرك أنت .. تلقي بعبارتك هذه وكأنك تنتظر مني أن أعرفك على شخصية جابر .. مع أن من يشاهدك وأن تتحدث معه ليلة أمس يظن أنك تعرف عنه كل شيء وخاصة جبنه .. لكن أصدقني القول ، من أين أتيت بكل هذه المعلومات ، فلقد بت ليلتي وأنا أفكر في ذلك دون أن أصل إلى استنتاج مقنع لدرجة أنني صدقت أنك كنت تنتمي لإحدى العصابات الإجرامية التي تنشط في المجتمع اليهودي ..

 

ضحك عمر بعد عبارته الأخيرة فتجاهل علي ذلك وأجاب بجدية

- معظم المعلومات حصلت عليها من الفتى جواد ، أما المعلومات الأخرى فهي من جابر نفسه الذي كان يتحدث دون تحفظ، وعندما أعيد عليه ما أعطاني من معلومات وكأنني أعلم بها مسبقاً يندهش لذلك ويسترسل أكثر .. لكن دعنا من كل هذا وأخبرني متى ستنتهي من التفاصيل مع جابر ..

 

قاطعه عمر وهو يهمس قائلاً

- هل زاد شوقك إلى الوطن ؟..

 

تنهد علي بعمق و هو يطرق برأسه لبرهة من الزمن ثم قال بصوت متهدج

- بت أشعر أني في نزهة هنا بينما أحبتي هناك يتعرضون يومياً لعمليات الاغتيال .. فلقد صعد الصهاينة الأوغاد من وتيرة استهدافهم بالطائرات ، ولا يكاد يمر يوم إلا وهناك عملية أو محاولة اغتيال تختلط فيها دماء الأحبة و أشلاؤهم بالتراب و شتلات الزيتون .. كم اشتقت لبحر غزة و حارات و أزقة المخيمات و هل هناك أغلى من أرض فلسطين و فيها رجال صدقوا العهد مع الله فمضوا على درب الحق و الجهاد ..

 

تنهد عمر بمرارة بعد حديث علي ثم قال بصوت هامس

- على كل حال طالما أن زيد قد جاء إلى هنا ، فهذا يعني أن رحلتنا قد شارفت على الانتهاء .. فغداً سيقوم جابر بتحميل جماله ويتوجه بها إلى وادي عربة وعندما يقطع الحدود ستكون وسيلة النقل أسرع وبحماية الجيش الصهيوني ، وربما نصل إلى غزة في نفس الوقت الذي يصل فيه السلاح إن شاء الله ..

 

غمغم علي بقلق

- ألا يوجد احتمال أن يقوم هؤلاء الجنود بخدعة ما تفسد كل ما قمنا به ..

 

هز عمر رأسه وهو يقول

- عادةً ما نتعامل مع هذا الاحتمال بأنه سيحدث فعلاً ، ولذلك نعمل على أخذ التدابير اللازمة كي لا تتخطى خسارتنا فقدان السلاح وحسب .. على كل حال ، التجارب السابقة أثبتت أن هؤلاء الجنود معنيون بالمال فقط ، فمعظمهم من مدمني المخدرات وحاجتهم للمال كبيرة ، ولا تنسى المثل البدوي الذي يقول : لا يدخل الجيش إلا الهامل

أومأ علي برأسه متفهماً ثم قال

- أنا معك أنهم باعوا دينهم وخانوا وطنهم ومن السهل عليهم أن يخونوا اليهود أيضاً ، لكن الكثيرون منهم يفعلون ذلك ولا يعتبرونه خيانة ، بل إنهم يعتبرونه نوعاً من التضحية ، وعندما يسقط أحدهم مقتولاً بأيدينا ، يعتبره أهله شهيداً ويقيمون له جنازة ولا يغسلونه بحكم أنه شهيد ..

قال عمر ساخراً

- من المؤكد أنك تعرف أن الفرق بين إخلاص الكلب و إخلاص الإنسان ، هو أن الكلاب لا يهمها نوع من تخلص له إن كان شريراً أو طيباً ، بينما الإنسان السوي لا يخلص إلا لمن يقف بجانب الحق فقط ، ومن يخالف ذلك من بني الإنسان ينزل لمستوى الكلاب بأنواعها الكثيرة ، فمنها الضالة ومنها المدربة ومنها المصابة بالسعار ..

 

ضحك علي وقهقه عالياً من حديث عمر ثم قال

- يبدو أنك تعرف الكثير عن عالم الكلاب ..

 

همس عمر وهو يتنهد بمرارة

- السنوات التي قضيتها في الصحراء علمتني أن ثمة علاقة و أوجه شبه بين سكانها من البشر و سكانها من الحيوانات ، وأخطر سكان الصحراء من البشر هو النوع الذي يشبه الكلاب البرية إن كنت تعلم عنها شيئاً ..

 

هز علي رأسه بالإيجاب ثم قال وهو يغمز بخبث

- هذا عن السيئين من البشر .. فماذا عن الجيدين ؟.. أم أن سكان الصحراء جلهم من السيئين ! ..

التفت عمر نحو علي وهم بقول شيء ما ، إلا أنه تدارك نفسه ثم تنهد وهو يقول

- آه منك ومن أسلوبك هذا .. كأن المكر يسري في دمائك يا رجل .. على كل حال أنا لست من سكان الصحراء ولن أضيف على ذلك شيئاً آخر .. فلا تحلم باستدراجي للحديث عن نفسي لأن خالك شدد عليّ أن لا أفعل ذلك معك أبداً ..

ابتسم علي قبل أن يقول

- أعلم أنك تتجنب الحديث عن نفسك .. ولكني لو أردت استدراج من يتحدث عنك لفعلت ذلك مع صديقك الذي خرجت به من الدنيا ..

قال عمر

- تقصد راشد ..

أومأ علي برأسه مجيباً ، فاستطرد عمر قائلاً

- أنا واثق من أنك ما كنت لتفعل هذا كما أنه لا يوجد ما يستوجبه ، ومع هذا حتى راشد أيضاً لا يعلم عني كل شيء ..

نهض علي واقفاً وقال وهو يدس مسدسه في حزامه

- على كل حال حتى لو لم تكن من سكان الصحراء فلقد أصبحت واحد منهم ، ولذلك فأنا أشبهك بهذا ..

مال عمر برأسه تجاه باب الخيمة لينظر إلى حيث أشار علي .. ثم تبسم بعد أن شاهد صقراً يبسط جناحيه في السماء متنقلاً بانسياب بين تيارات الهواء وغمغم قائلاً

- الكثير من سكان الصحراء يشبهون هذا الصقر .. لكن وقبل أن أنسى ، أريد منك أن تخفف من خشونتك مع جابر فأرى أنك أحياناً تبالغ في ذلك وأخشى أن يتوقف الرجل عن التعامل معنا بسب ذلك ..

أومأ علي برأسه متفهماً ثم قال

- تعمدت أن أضع هذه الفكرة في رأسه كي يقتنع أنه يتعامل مع عصابة لأن هذا أسلم لنا وله .. فالناس على شاكلته يحسبون الأمور بشكل مختلف عندما يتعاملون مع عصابات الإجرام لأنهم يعلمون أن الجماعات التي تناضل من أجل مبدأ تكون ردة فعلها تجاه الخيانة محدودة على العكس من الجماعات الإجرامية ..

 

أمضى عمر وعلي بقية النهار في خيمة الشيخ حسان الذي كان يحتفي بابن أخته زيد وفي اليوم التالي توجه عمر وعلي وجابر بسيارة زيد نحو المكان الذي تم إخفاء السلاح فيه كي يتعرف عليه جابر ، ثم انفرد عمر بجابر وأخرج من جيبه شيكاً وُقعَ من قبل على بياض ووضع عليه رقماً لمبلغ كدفعة أولى ، ثم وعده أن يستلم بقية المال أثناء التسليم على الحدود بين قطاع غزة وفلسطين الـ48 كما هو الاتفاق

 

كان من المفروض أن يقضي علي وعمر بعض الوقت في القبيلة بانتظار إشارة أبي تمام إلا أن الأخير أخبر عمر عندما اتصل به أن هناك إمكانية لملاقاة اليخت مع أول ضوء في الصباح ، وبعد أن استشار عمر علي ، اتفقا على أن يأخذهم زيد إلى أقرب نقطة يمكن أن تصل إليها السيارة باتجاه سلسلة الجبال التي يختفي خلفها البحر ، حيث ترجلا من السيارة وودعا زيد بعد أن نقده عمر مبلغاً من المال وواصلا الطريق نحو الجبال في نفس خط السير الذي سلكاه من قبل و قد عزما ألا يتوقفا للراحة إلا عند شاطئ البحر لكنهما لم يجدا الوقت الكافي لذلك عند وصولها فقد كان عليهما أن يتبادلا نفخ القارب المطاطي الكبير بالفم و فعلا ذلك بصعوبة بالغة بسبب الإرهاق الشديد الذي أصابهما و كذلك بسبب المطر الغزير الذي هطل في تلك الليلة الباردة

 

بعد أن تم تجهيز القارب المطاطي لاحظ علي الإعياء الشديد الذي ظهر على وجه عمر فقال له بقلق

- أنت مريض يا عمر .. يبدو أنك أصبت بنزلة برد شديدة ..

غمغم عمر بسخرية محاولاً إخفاء حاله

- تتحدث عني أم عن نفسك ؟..

تجاهل علي عبارته ووضع يده على جبهته فأشاح عمر بوجهه وهو يقول

- حتى لو أصبت بالبرد فأنا متعود على هذا ، فلا تقلق .. المهم أن لا يصاب الهاتف بضرر بسبب ماء المطر الذي أصابه .. فلو فقدنا الاتصال بتمام ، فهذا يعني أننا سنضطر لتسلق الجبل مرة أخرى لقبيلة زيد ، لننتظر رحلته التالية هناك ..

نظر علي إلى قمة الجبل فخيل له أنه أعلى من آخر مرة رآه فيها فتمتم قائلاً

- إن شاء الله سيسير كل شيء على ما يرام ..

 

أجرى عمر مكالمة أخرى مع تمام ، فأخبره الأخير أن اليخت سيقلع بعد قليل باتجاه حدود السعودية وسينتظرهم أثناء عودته لمدة نصف ساعة فقط ثم يواصل طريقه نحو شواطئ مصر مرة أخرى .. وعلى الرغم من أن الطقس كان قد تحسن في الصباح إلا أن إنزال القارب في الماء كان شديد الصعوبة بسبب الأمواج التي كانت ترتطم بالصخور الحادة بشدة مما جعل علي يقفز إلى الماء ويسحب القارب بعيداً عن تكسر الأمواج ثم قفز عمر بدوره في الماء بعد أن قذف بالحقائب نحو علي ، ولكنه لم يستطع الصعود إلى القارب بسبب الإعياء الذي بلغ منه بلغه ، فنزل إليه علي كي يساعده وعندما صعدا إلى سطح القارب غمغم عمر قائلاً

- يبدو أنني أصبت بالفعل بنزلة برد حادة هذه المرة .. لذا فلتبدأ أنت بالتجديف أولاً ريثما ارتاح قليلاً ثم آخذ دوري من بعدك

همس علي وهو يهز رأسه موافقاً

- لا تشغل بالك بهذا .. المهم كم نحتاج من الوقت لنصل إلى نقطة الالتقاء ..

رد عمر بهدوء

- يجب أن يتم ذلك في أقل من ثلاث ساعات ، لذلك حاول وأنت تجدف أن تسير بخط مستقيم وقمة ذاك الجبل أمامك ، و احذر أن يسحبك التيار بعيداً عنه كي لا نهدر الوقت في تعديل مسار القارب مرة أخرى ..

 

نطق عمر عبارته ووضع رأسه على حافة القارب مغمضاً عينيه ، بينما أخذ علي يجدف بقوة وبسرعة وهو ينظر نحو قمة الجبل التي أشار إليها عمر حتى بدأت تبتعد شيئاً فشيئاً ، وبعد مرور فترة من الوقت ، لاحظ أنه أصبح أقرب إلى الساحل المصري من الساحل السعودي فتوقف عن التجديف و نادى عمر كي يسأله أيواصل التجديف أم لا ولكن عمر لم يجب و كان جبينه يتفصد عرقاً و هو يهذي بكلمات غير مفهومة ، فحاول علي أن يوقظه بمسح وجهه بماء البحر إلا أن محاولاته ذهبت أدراج الرياح و شعر أن حال عمر قد صار سيئاً للغاية فلم يعد يشعر بما يدور من حوله ..

 

خطرت ببال علي فكرة أن يواصل طريقه نحو الشاطئ المصري إن لم يعثر على اليخت فأمسك بالنظارة المعظمة و نظر بها نحو الشاطئ ليبحث عن منطقة خالية يجدف نحوها ثم انتقل ببصره صوب البحر يبحث عن اليخت في محاولة أخيرة ، فشاهد يختين متشابهين تماماً يقفان بجوار بعضهما ، أحدهما يحمل رجلاً مسناً ومجموعة من الأطفال الأجانب ، بينما يحمل الآخر مجموعة من الأجانب بينهم أحد رجال تمام و كان يُنزل العلم الكندي من فوق سطح اليخت ويسلمه للرجل العجوز على اليخت الآخر ، ثم مضى اليختان باتجاهين مختلفين ، و أحدهما يحمل العلم الكندي بينما الآخر يحمل العلم البريطاني متجهاً في طريقه نحو القارب الذي يحمل علي وعمر

 

توقف اليخت على بعد أمتار قليلة من القارب فجدف علي نحوه فقابله أحد الرجال وهو يصيح سائلاً

- ما الذي حدث لقريبك .. هل أصابه مكروه ؟

صاح علي ، وهو ينظر للأعلى نحو سطح اليخت

- يبدو أنه أصيب بنزلة برد ، ويحتاج لعلاج سريع ..

صاح الرجل بعد أن تشاور مع زميله وهو يلقي حبلاً لعلي

- اربط هذا الحبل في القارب وعندما نقطعه جدف نحو الشاطئ وهناك سيقابلك رجالنا

 

سار اليخت لمدة ساعتين وهو يسحب القارب خلفه ، ثم اتجه نحو الشاطئ وسار بمحاذاته فترة من الوقت ، ثم قام أحد الرجال بفصل الحبل الذي يربط اليخت بالقارب المطاطي ، وعندما وصل علي إلى الشاطئ ، وجد رجال تمام بانتظاره فسارعوا بحمل عمر الغائب عن الوعي وأدخلوه داخل سيارة جيب ، بينما حمل علي الحقيبتين ولحق بهم إلى السيارة وهو يدعو الله في نفسه بالشفاء لعمر

 

عندما وصل الجميع إلى مغارة تمام أصر علي على أن لا يفارق عمر الذي كان غائباً عن الوعي فبقي إلى جواره طيلة الوقت ..

 

 

-حمدا لله على سلامتك ، أقلقتنا عليك يا رجل

تلفت عمر حوله وجال ببصره في أرجاء المكان ثم غمغم قائلاً

- أين نحن ؟.. وما الذي حدث بعد أن قفزنا إلى البحر ؟

روى علي لعمر ما حدث وأخبره بأنه قد مر يومان كاملان على ذلك و بعد لحظات شاهد ظلاً يقترب ببطء في عتمة الممر فقال :

- هذه أم تمام .. كانت في زيارة لابنها يوم جئنا والحمد لله أنها لم تغادر قبل وصولنا .. فهي التي قامت بتطبيبك أثناء مرضك ..

قاطعته أم تمام بحزم وهي تقول

- اصمت أنت .. فعمر ليس بحاجة لتعرفني به ..

نقل عمر بصره بين علي و بين أم تمام بعد أن أدهشته ردة فعلها ، ثم همس وهو يبتسم

- كيف حالك يا خالة .. مر زمن طويل على آخر لقاء بيننا ..

قالت أم تمام بعصبية وخشونة

- دعك من حالي الآن واشرب هذا الدواء كي تستعيد عافيتك ..

ساعد علي عمر كي يجلس في فراشه وعندما أمسك الأخير بالكأس وقربه من أنفه أشاح بوجهه نافراً و قال

- ما هذا يا خالة .. إن له رائحة توقظ الموتى من قبورهم .. هل هو نوع من الأعشاب أو البذور المطبوخة

مطت أم تمام شفتيها و قالت بازدراء

- أعشاب ؟!! .. وهل تبقيك الأعشاب وحدها يومين على قيد الحياة دون أن تتناول الطعام !!..

 

ضحك علي وهو يحاول أن يبعد وجهه عن بخار الدواء الساخن بسبب رائحته ثم قال:

- منذ أن جئت إلى هنا وأنت تتناول هذا الدواء مرتين في اليوم ، ولم تستيقظ إلا الآن .. أنصحك أن تشرب الدواء دون أن تعرف تركيبته الرهيبة وحاول أن تقنع نفسك بأنه مزيج من الزهور البرية ..

صمت علي بسبب مقاطعة أم تمام التي قالت بضجر

- زهور !! .. أي رجال أنتم ؟! .. ثم ألم أقل لك يا ولد أن تصمت ولا تسمعني صوتك أبداً ..

 

للمرة الثانية استغرب عمر من معاملة أم تمام لعلي ولكنه لم يعلق و جرع الدواء دفعة واحدة ثم صاح باشمئزاز و قد اكفهر وجهه

- اللعنة .. ما الذي فعلته بنفسي ! أي دواء هذا يا خالة ، أقسم أني لن أفعلها ثانية حتى لو كلفني ذلك حياتي ..

أخذت أم تمام الكأس من يد عمر بعصبية وهي تقول :

- هل تظن أن تحضير هذا الدواء أمر سهل ؟! .. لكن دعنا من هذا و أخبرني .. لماذا عدت للتعامل مع تمام ؟ ألم أنصحك بالابتعاد عن طريقه وعدم التعامل معه ؟

أطرق عمر برأسه وهو يقول

- للضرورة أحكام يا خالة .. أعلم أنك لست راضية عن تمام وعن أعماله ، ولكن كوني على ثقة أنه ليس بيني وبين ولدك أي نوع من العمل ، وما وجودي هنا إلا للمرور فقط ..

قاطعته أم تمام بسخرية

- هل تظن أن عجوزاً مثلي تجاوزت السبعين من عمرها سينطلي عليها حديثك هذا ..

-أقسم لك يا خالة أني أقول الصدق .. فأنا وولدك لا يجمعنا أي عمل .. ولا حتى ..

ضاقت عينا أم تمام و قاطعته قائلة

- ربما تكون صادقاً في أنه لا يوجد بينك وبين ولدي عمل مشترك ، ولكني واثقة تمام الثقة أنك تقوم بعمل أفظع مما يفعله تمام ، و إلا ما كانت ترافق شخصاً مثل هذا ..

نظر عمر إلى علي عندما أشارت إليه العجوز، فرآه يبتسم فوجه حديثه إليها

- تقصدين علي !! .. ما الذي فعله فأغضبك منه إلى هذه الدرجة ؟

نظرت أم تمام لعلي و قالت بازدراء

- فليخبرك هو بنفسه .. أما أنا فسأذهب إلى المغارة الأخرى لأخبر تمام أنك قد عدت إلى وعيك

 

عندما خرجت العجوز شرح علي لعمر أن ما حدث بينه وبين تمام من شجار كان بسبب معاملة الأخير ، فلقد أصر تمام أن يقيم عمر في مكان آخر غير المكان الذي يتواجد فيه علي، ولكن علي رفض ذلك بإصرار وصمم على أن لا يفارق رفيقه لأي ظرف كان ، وعندما حاول تمام أن يرغم علي على ذلك ، رفع الأخير مسدسه في وجه تمام وكادت أن تحدث معركة بينهما لولا تدخل العجوز التي أجبرت ابنها على الاستجابة لرغبة علي فانصاع تمام لذلك على مضض ..

 

هتف عمر متعجباً

- ولكن ما الذي دفعك لفعل هذا وأنت الذي تنصح دائماً بعدم الدخول في معركة خاسرة؟

أجاب علي قائلاً

- بعض المعارك تُفرض علينا فنضطر لخوضها رغما عنا .. لقد لاحظت اهتمام تمام الشديد بأن يأخذ حقيبتك ويعزلك عني وهذا ما لم أكن لأسمح به تحت أي ظرف .. فلقد كنت تهذي بكلمات خطيرة وأنت غائب عن الوعي في القارب ، و خشيت أن يدرك تمام أو أحد رجاله شيء منها ، خاصة وأن فرضية اختراق مثل هذه العصابات من الموساد ممكنة إن لم يكن تمام نفسه على صلة بالموساد بشكل أو بآخر

غمغم عمر بأسف

- ما فعلته لن يمرره تمام ببساطة ، فمن المؤكد أنه يحضر لك شيئاً ما ، واستغرب أنه لم يغدر بك طيلة اليومين الماضيين ..

ابتسم علي قبل أن يقول

- ربما كان ينتظر أن تسترد عافيتك ومن ثم يتخذ قراره بشأني ..

هز عمر رأسه قبل أن يقول ..

- هذا احتمال وارد، لكن ما يحيرني أن إهانتك لتمام ليست سبباً كافياً لكي تبغضك أمه كل هذا البغض .. فأنا أعلم جيداً أنها لا تحب أفعال ابنها و قد قاطعته زمناً طويلاً بسبب أفعاله ..

اتسعت ابتسامة علي وهو يوضح قائلاً

- هي امرأة طيبة حقاً ، ولكن حدث بيني وبينها سوء تفاهم عندما أحضرت لأول مرة الطعام لي والدواء لك ، و أصرت بإلحاح على أن آكل ولكني رفضت واكتفيت بما تبقى لدينا من طعام ، وعندما قدمت لك الدواء طلبت منها أن تتذوقه ففهمت توجسي واعتبرته إهانة لها ، خاصةً وهي تعتبر أنها تقوم بحمايتنا من بطش ابنها .. ثم دار بيني وبينها حوار فقسوت عليها في الكلام .. وفي اليوم التالي تحسنت علاقتي بها ولكن بعد أن عدت إلى وعيك تغيرت معاملتها لي بدون سبب ..

قال علي عبارته الأخيرة وهو يضحك فقال عمر بغيظ

- لو تعلم الورطة التي وضعتنا بها لما ضحكت ..

تبدلت ملامح علي نحو أكثر صرامة وقال بنبرة جادة

- لم آت إلى هنا لكي أقيم علاقات مع عقارب وثعابين الجبال المفسدين في الأرض ، لدي عمل ويجب أن يُنفذ على أكمل وجه تحت أي ظرف ، حتى لو اضطررت لقتل تمام وكل رجاله ..

أشاح عمر بوجهه وهو يقول

- ما هذا الهراء الذي تقوله ، وهل تعرف كم عدد رجال تمام ولا حتى أين يقيمون .. أخشى أن تنقلب ثقتك بنفسك إلى غرور فيودي بك إلى المهالك .. فالواقع يقول أننا نحن الذين في قبضة تمام ويجب أن نحكم العقل في التعامل معه كي نخرج من هنا بدون مشاكل ..

ابتسم علي و قال ساخراً

-ويحك أيها الجندي ، أفقدت ثقتك بأميرك بهذه السرعة أم أنها آثار الحمى !

صاح عمر بعد أن أثاره تهكم علي محاولاً أن يبين له خطورة الموقف

- أرجوك يا علي كن جاداً ، فالأمر لا يحتمل هذه السخرية .. فالرجل لن يتركنا نرحل بسلام بعد أن أهنته أمام رجاله دون أن يُرد اعتباره أمامهم وأمام أمه التي يعنيه كثيراً أن يكون قوياً وصلباً أمامها .. فأنا أعرفه جيداً ، و أثق أنه يعد شيئاً ما ليغدر بنا .. ربما هو الآن ..

قاطعه علي قائلاً

- اترك الأمر لي ولا تشغل بالك بهذه الأمور .. فالرجل أجبن مما تتصور وهو يمر بمشاكل كثيرة هذه الأيام ولا أظن أن تلك المشاكل تسمح له بالتفكير في أمرنا ..

سأله عمر متعجباً

- وكيف عرفت أنه يمر بمشاكل .. هل أخبرتك أمه بذلك ؟

همس علي وهو يجيب

- بالأمس انتهزت فرصة سوء الأحوال الجوية وتسللت تحت جنح الظلام أثناء هطول المطر وقمت بعملية مسح سريعة للجبل وللمغارات التي يتواجد فيها رجال تمام .. لاحظت أن هناك ثلاث مغارات غير هذه المغارة ، واحدة لتمام وأمه وقد كانا نائمين والثانية كان بها بعض الرجال مجتمعين حول النيران ،أما المغارة الثالثة فكانت عبارة عن مخزن به عدد من البنادق والقنابل اليدوية وصندوقين من الديناميت و مخزون من الطعام بالإضافة لفراش لرجلين يبدو أنهما تركا المغارة للتسامر مع الرجال في المغارة الثانية .. أما الجهة المواجهة للبحر فلا يمكن لأحد أن يسير فيها بسبب انحدارها الشديد ولا أعتقد أن ثمة مغارات بها

صمت علي قليلاً ثم استطرد قائلاً

- كان الرجال يتحدثون عن مشكلة سببها انشقاق بعض الرجال عن تمام وانضمامهم لرجل آخر يبدو أنه غريم تمام ، ولقد فهمت من الحديث أن من تبقى من الرجال مع تمام هم سبعة فقط و ..

قاطعه عمر

- هل عرفت اسم الرجل الذي انضم له رجال تمام ؟

هز علي رأسه نافياً وهو يقول

- لا .. لكن واضح أنه من أقارب تمام أو من قبيلته .. فلقد ذكر أحدهم أن العلاقة السيئة بين تمام و ذلك الرجل كانت منذ طفولتهما ..

أطرق عمر برأسه وهو يهمس قائلاً

- أظن أني عرفت الرجل المقصود .. و هو لا يختلف كثيراً عن تمام إن لم يكن أكثر سوءاً.. لكن هذا يعقد الأمر أكثر، فمن الواضح أن هيبة تمام بين رجاله قد تأثرت بسبب ما قلته ومن الطبيعي أن لا يتركنا نرحل قبل أن يرد اعتباره أمام من تبقوا من رجاله و إلا ما استطاع أن ..

قاطعه علي بعصبية

-فليذهب إلى الجحيم يا رجل .. وهل سأنتظره ليرد اعتباره أو أدعه يبادرني بشيء ..

قاطعه عمر بعصبية أكبر وهو يقول :

- بماذا يا علي ؟ .. مسدسين مقابل سبعة من الرجال يحملون بنادق آلية !..

غمغم علي ساخراً

-نسيت أن أقول لك أنني استعرت إحدى البنادق من المغارة الثالثة وخمسة من مخازن الذخيرة وثلاثة من القنابل اليدوية كما أنني حددت مكان سيارتك جيداً .. فلقد قمت بإعداد خطة للخروج من هنا رغماً عن أنوفهم إن حصل ما توقعته..

أطلق عمر من صدره زفرة ضيق قبل أن يقول :

- دعنا من خططك الآن واترك لي الأمر كله لأحله بطريقتي ، أم أنك فقدت الثقة بي ..

ضحك علي وهو يقول

- قلت أنني سأفعل ما قلته إن حصل ما تتوقعه .. وهذا سيتبين بعد حديثك مع تمام

أومأ عمر برأسه قائلاً

- حسناً هذا جيد .. المهم أين وضعت الأدوات التي استعرتها ؟

أشار علي بيده وهو يقول

- أخفيتها في مكان هناك في إحدى التجويفات العالية بين الصخور ..

توقف علي عن الحديث عندما دخل تمام وأمه إلى المغارة وهو يهتف قائلاً

- حمدا لله على سلامتك يا عمر .. صدقني كنت أنوي أن أحضر الطبيب ولكن خالتك أم تمام رفضت ذلك وقالت على جثتي أن يدخل طبيب في مكان أنا فيه ..

ابتسم عمر بامتنان بعد حديث تمام وقال

- أم تمام أشهر من مارس الطب بالأعشاب ، فشهرتها تخطت حدود سيناء إلى البوادي الأخرى .. هل تذكر كيف عالجت والدك من العشى الليلي

ضحك تمام وهو يقول

- وهل ينسى شيء كهذا .. لقد طلبت منا أن نحضر لها ضبعاً صغيراً و أمرتنا بذبحه و إخراج مرارته من كبده ، ثم وضعت سائلها في قنينة ، وكلما أرادت أن تقطر لوالدي في عينه ،جعلتنا نقوم بتكتيفه و هو يصرخ من شدة الألم من هذا الدواء العجيب .. كنت أظن يومها أنها تنتقم منه لأنه كان يريد الزواج من أخرى، ولكن بعد أن شُفي، صدقت أنها طبيبة لا يشق لها غبار..

هتفت أم تمام مقاطعة

- اخرس يا ولد .. هل ستتندران عليّ وأنا أقف بينكما ؟

تبدلت ملامح تمام فجأة ثم قال ببرود

- هل أخبرك قريبك أنه وضع المسدس في رأسي وهددني بالقتل لأنني كنت أنوي أن تعالجك أمي في المغارة التي تُقيم فيها معي ، حتى تكون تحت عينيها ورعايتها طيلة الوقت ؟

 

اعتذر عمر لتمام عما قام به علي من تصرفات ، وأبدى الأخير تفهماً خاصة عندما بين عمر له جهل علي بطبيعة العلاقة التي بينهما ، ومع أن عمر لم يقتنع بما أبداه تمام من تفهم ، إلا أن علي كان واثقاً من غدر تمام وقد لاحظت العجوز تلك النظرات التي تبادلها تمام وعلي وعرفت أن أحدهما سيقتل الآخر فقالت موجهة حديثها لعمر

- سأعود اليوم إلى قبيلتي .. ما رأيك يا عمر أن تأخذني في طريقك بدلاً من أن أعود سيراً على الأقدام كما جئت .. فأنت تعلم أن الطريق طويلة ولم يعد كبر سني يسمح لي بقطع كل هذه المسافة كما كنت أفعل في السابق..

 

فهم عمر غاية العجوز فوافق على الفور بحجة أنه تأخر ويجب أن يسرع ، بينما أبدى علي اعتراضاً شديداً على مغادرته المغارة وهو ما يزال في مرحلة النقاهة .. ولكن ما أرادته العجوز تم على الرغم من إلحاح ابنها في بقائهم فترة أطول ..

 

- كنت تريد قتله أليس كذلك ؟..

نظر علي في مرآة السيارة لوجه العجوز الغاضبة ولم يعلق على حديثها ، فقال عمر الذي يجلس بجواره

- من يقتل من يا خالة ؟

صاحت العجوز وهي تقول

- لقد شاهدت أصابع صديقك هذا وهي تتحفز لالتقاط المسدس الذي يخفيه في ثيابه أثناء حديث تمام معك ، وأقسم أنه كان يرغب في قتله أكثر من رغبة ولدي الذي سامحه وأعطاه الأمان ..

تمتم علي بسخرية و تعجب

- سامحني !! ..

قاطعه عمر

- اصمت يا علي .. فالخالة فهمت الأمر على غير حقيقته ..

قاطعه علي بدوره وهو يقول

- انتظر لحظة يا عمر ، فالسيدة تظن أنني بحاجة لعفو ابنها .. نعم يا أم تمام ،

كنت أتمنى أن تصدر من ابنك أي إشارة غدر لأصنع له ثقباً بين عينيه ، وهي أمنية تمنيت تحقيقها منذ أن التقيت به أول مرة ، فمثله من المفسدين في الأرض لا يستحق الحياة لحظة واحدة ، أم أنك لا تعلمين أن والدك يتاجر في الخمور والمخدرات والأعراض ..

قاطعه عمر بحدة صائحاً

- قلت لك اصمت يا علي ، فأنت لا تعرف أي شيء ..

تدخلت العجوز قائلة لعمر

- دعه يتحدث كما يشاء .. فكل ما يقوله ليس جديد عليّ وأعرف أن ابني يستحق الموت .. ولكن ماذا عنكما ؟ هل تتاجران في العطور والبخور ؟ هل التقيتما بتمام لينضم إليكما لفلاحة الأرض ورعي الغنم .. أنتما أيضاً مثله وربما أسوأ ، والفرق بينه وبينكما هي ملابس الحضر التي تلبسونها فتظهرون بها على أنكم الأنظف والأسمى أخلاقاً ..

 

حاول عمر أن يهدئ العجوز أثناء حديثها إلا أنه كان يسعل بشدة ، و حين بدأت بالبكاء من شدة تأثرها أشفق علي عليها فأوقف السيارة وهو يقول

- سامحيني يا سيدتي لم أقصد إزعاجك أو أن أسبب الضيق لك.. إنما هو الشيطان عليه من الله ما يستحق .. فهوني عليك وأرجوك أن تسامحيني ..

 

هدأت أم تمام ثم استرسلت في حديثها عن طفولة تمام وطيشه في شبابه والمشاكل التي سببها لوالده الذي تبرأ منه وأبعده عن القبيلة .. ثم تحدثت عن سبب زيارتها لابنها ، والذي فهم منه علي أن أمراً ما قد حدث فقلب سيناء كلها رأساً على عقب ، فقامت الأجهزة الأمنية بملاحقة الخارجين عن القانون واعتقال ذويهم للضغط عليهم كي يسلموا أنفسهم وكان من بين هؤلاء والد تمام وأخويه ، وأخبرتهم كيف تسللت من القبيلة إلى الجبل سيراً على الأقدم لإقناعه كي يسلم نفسه و ينقذ والده العجوز وأخويه من السجن ،ولكن تمام رفض ذلك وأخبرها أنهم سيفرجون عنهم في نهاية المطاف بينما إن سلم هو نفسه فسيُنفذ فيه حكم الإعدام الذي صدر بحقه غيابياً ..

 

كان من الواضح لعلي أن العجوز في حيرة من أمرها ولا تدري ما الذي تفعله فلم يجد علي شيئاً يقوله إلا أن يُسري عنها ، ثم استأنف المسير معتمداً على توجيهات عمر حتى وصل إلى مكان ليس بالبعيد عن قبيلتها فطلبت منه التوقف كي لا يراها أحد فيتبع آثار السيارة ويعرف مكان ولدها .. وعندما ترجلت من السيارة وابتعدت قال علي

- أنا لا أرى أي قبيلة .. أين تقع قبيلتها بالضبط ؟

غمغم عمر وهو يشير بيده

- قبيلتها خلف ذلك التل وهي تحفظ هذه المنطقة عن ظهر قلب لأنهم لا يقيمون في مكان واحد مدة طويلة ، ففي العادة يتنقلون من مكان إلى مكان وراء الرعي والماء .. كما أن لديهم قدرة على السير على الأقدام لمدة طويلة وخاصة النساء منهم لأن مهنة الرعي عندهم تخص النساء دون الرجال ..

هز علي رأسه متعجباً ثم قال

- غريبة حياة هؤلاء البدو .. فعلى الرغم من غيرتهم الشديدة على نسائهم إلا أنهم يتركون بناتهم يسرن وحدهن في هذا الصحراء الخالية ..

 

استأنف علي السفر واستمر في قيادة السيارة -معتمداً على توجيهات عمر - لمدة تزيد عن السبع ساعات حتى وصلت إلى الطريق المعبدة وعندها تولى عمر القيادة لمسافة قصيرة ثم انحرف نحو طريق ترابي جانبي تحفه من الجهتين مزارع البرتقال حتى دخل إحداها ثم ترجل منها وهو يهتف قائلاً

- حمداً لله على سلامتك .. إنها النهاية يا عزيزي .. كل ما عليك فعله هو أن تسير من هنا بسرعة لمدة نصف ساعة تحت الأرض دون توقف لتجد نفسك في قلب مدينة رفح الفلسطينية

 

نزل علي من السيارة وهو يجول ببصره في أرجاء المكان محاولاً فهم مغزى عبارة عمر ثم غمغم وهو يقلب كفيه في حيرة

- أعلم أننا في رفح المصرية ، ولكن ما الذي تقصده بتحت الأرض ؟ .. هل فتحة النفق قريبة من هنا ؟

ابتسم عمر وهو يقول

-ساعدني في تغيير إطار السيارة

 

أحضر علي الإطار البديل وهو يعرف أن إطارات السيارة سليمة بينما قام عمر بفك براغي أحد الإطارات و أخذ يزيح الرمال بيديه حتى انكشف غطاء من المعدن له مقبض فأزاحه وهو يقول

- هيا يا علي بسرعة .. ستسير في هذا النفق بسرعة وستجد على الأرض حبلاً سيكون دليلك حتى لا تضيع في متاهات الأنفاق القديمة ، فالأكسجين قليل بالداخل ..

 

حاول علي أن يعترض على هذا التصرف لكن عمر حثه على النزول بسرعة لأنه لا يستطيع في الوقوف في هذا المكان طويلاً حتى لا يلفت الأنظار و يُكشف سر النفق .

 

لم يكد علي يخطو أولى خطواته داخل النفق ، حتى شعر أنه تعرض لخدعة من عمر الذي لم يمنحه حتى فرصة للوداع .. وعلى الرغم من شعوره الكبير بالغيظ إلا أنه ابتسم شامتاً في نفسه التي تتذوق الآن ما كان يفعله بمن يلتقي بهم في مواقف مشابهة عند الفراق .. لكن هذه الأفكار تبددت فجأة و حلت مكانها قشعريرة دافئة هزت كل خلايا بدنه بالحب و الحنين المستعر فيها عندما شعر أنه يسير في باطن الأرض .. أرض فلسطين ..

 

عجز الكشاف الكهربائي الذي بيده أن يبدد ملامح العتمة التي يسير فيها.. فكل شيء متشابه في جوف الأرض .. فالظلام واحد .. وحبات الرمل التي تشكل جدران النفق كلها تشبه بعضها .. و رائحة الثرى تسيطر على المكان .. الشيء الوحيد المختلف هو آثار الأقدام التي عبرت هذا النفق ، وكان واضحاً أن أصحابها على عجلة من أمرهم .. ربما لأنهم شعروا بضيق التنفس الذي يشعر هو به لقلة الأوكسجين .. وربما لخشيتهم من انهيار النفق بسبب التفجيرات التي يقوم بها الصهاينة في باطن الأرض من آن إلى آخر .. وربما لأسباب أخرى تخص كل واحد منهم على حدا .. حتى هو ، وجد نفسه فجأة يسرع الخطى ليخرج من باطن الأرض ، بينما تسيطر عليه فكرة أنه بذرة يجب أن تنبت لأعلى نحو الضوء والحرية ولكن ليس قبل أن تغوص جذورها نحو الأعماق ..

 

وبعد مرور نصف ساعة من السير في النفق الملتوي والمتعدد المنافذ معتمداً على الحبل المُلقى على الأرض كدليل ، عرف من خلال الضوء الذي كان مصدره مصباح كهربائي أنه وصل إلى نهاية النفق ، فأخذ يصعد السلم المثبت في بئر النفق في الوقت الذي استقبله صوت مألوف لديه يرحب به ، تبين له بعد ذلك أنه صوت صديقه ياسر ..وبعد أن تبادلا عبارات الترحيب ، غادرا المكان على الفور واستقلا سيارة كانت تقف على مشارف مخيم رفح الحدودي ثم تحدث ياسر قائلاً ..

- لن تذهب إلى منزلك بالطبع قبل أن يتم الإعلان عن فتح المعبر ، فالجميع يعلم أنك سافرت إلى مصر بشكل رسمي وليس من الطبيعي ..

أومأ علي برأسه متفهماً و قال مقاطعاً

- نعم ، أفهم ما تود قوله .. ولكن متى أغلق الأوغاد المعبر ؟ ..

زفر ياسر بضيق قبل أن يجيب

- منذ أن صّعدوا حملة الاغتيالات الأخيرة .. أي منذ أسبوعين تقريباً .. على كل حال ، ستُقيم في بيت استأجرناه في مكان بعيد عن العيون وستجد خالك بانتظارك هناك ..

 

وقت طويل قضاه علي وهو يُحدث خاله عما فعله في العراق والأردن وعندما سأله عما فعله في مصر أجاب علي ساخراً:

- عصرتني عصراً بشأن ما حدث في العراق وقد أجبت عن كل شيء بالتفصيل لعلمي أنه من حقك .. ولكنك تتعمد تغيير الموضوع كلما سألتك عن الصفقة وخاصةً ما حدث للصواريخ..

أشاح خاله بيده و قال

- ألم أخبرك أن كل شيء سار على ما يرام والحمد لله .. أعتقد أن هذا يكفي ..

هز علي رأسه موافقاً وهو يقول

- نعم يكفي .. ولكن ما معنى كلامك أنك أبقيت الصواريخ داخل الخط الأخضر .. لماذا لم تدخل إلى القطاع ؟

عض خاله على شفته السفلى وهو يقول ساخراً

-قاتل الله الفضول .. ولنفرض أننا أسقطنا بها إحدى طائراتهم هنا ، ولو أن هذا صعب نظراً للوسائل الدفاعية التي تتمتع بها طائراتهم لمواجهة مثل هذه الصواريخ .. لكن افترض أننا أسقطناها بالفعل .. ألم تسأل نفسك ، أين ستسقط تلك الطائرة بكل ما تحمله من صواريخ ووقود في مكان مكتظ كالقطاع ؟..

نظر علي نحو خاله عندما فاجئه السؤال ثم ابتسم لأنه عرف المغزى

- تقصد أن الصواريخ ستذهب إلى الضفة .. نعم معك حق ، فهناك ..

صمت علي للحظة ثم هتف بحماس قائلاً

- ولم أصلاً طائرة عسكرية مزودة بوسائل دفاعية .. لم لا تكون طائرة مدنية على متنها صيد ثمين من الذين يقودون حملات الإبادة ضد هذا الشعب ..

نهض خاله من مكانه وقال و هو يهز رأسه آسفاً

- اصمت يا علي ولا تكن فضولياً ، فما يجب أن تعرفه قد عرفته ويكفيك هذا .. الآن حدثني عن الذي فعلته في..

قاطعه علي بشكل مباشر وهو يسأل

- من هو عمر ؟ ..

صمت خاله للحظة ثم أطرق برأسه محاولاً إخفاء ابتسامته عن علي ثم قال:

- ألم يخبرك هو ؟..

ظل علي صامتاً ليحث خاله على الحديث ولكن الأخير أجاب وهو يضحك

- إن لم يخبرك هو بنفسه .. أتريد أن أخبرك أنا ؟!.. لقد أصبحت فضولياً أكثر من المعتاد بعد هذه الرحلة .. عموماً دعنا من عمر والصواريخ وحدثني عن الذي فعلته في مصر ..

نظر علي في عيني خاله بشكل مباشر وهو يقول

- الغريب يا خالي أنك لم تكن بهذا الفضول قبل سفري .. لقد أصبحت فضولياً أكثر من المعتاد عندما عدت ..

قال علي عبارته الأخيرة ثم انفجر ضاحكاً مما أثار غيظ خاله الذي قال

- إذاً واحدة بواحدة ؟..

- ليس الأمر كذلك يا خالي .. ولكن لا تنسى أنكم جمدتم عضويتي في الكتائب بسبب سفري هذا ..

- ألم نكلفك بالهمة في العراق ؟ .. هذا يعني أن عضويتك قد عادت.. لذلك أنت ملزم بالإجابة عن أي سؤال يسأله قائدك ..

أدار علي وجهه عن خاله وهو يبتسم ثم قال

- نعم .. ولقد أخبرت قائدي بما حدث في العراق وكل ما يتعلق بالمهمة .. أما الأمور الخاصة فتبقى خاصة.. حتى على قائدي ..

زفر خاله بضيق ثم قال

- هذا عن قائدك ..وماذا عن خالك الذي يحبك ويعتبرك قطعة منه ؟..

صمت علي بعض الوقت قبل أن يقول وعلى وجهه ابتسامة ود

- في هذه الحالة الأمر يختلف ..

 

دار حديث طويل بين علي وخاله عن رحلته في مصر وقد أبدى خاله انزعاجه وانتقد تصرفات علي في بعض المواقف، وأبدى ارتياحاً وموافقة في أخرى.. وعندما سأله علي عن أحوال عمه أخبره خاله قائلاً

- كان ينزعج حين أقول له أنك اتصلت بي وأنك بخير ، فيقول بعصبية : لماذا يتصل بك فقط و لا يتصل بي أيضاً ؟ ..

سأله علي

- و ماذا كنت تقول له ؟ ..

أجاب خاله

- كنت أتعذر بأنك قد حاولت ، ولكنك لم تنجح بسبب رداءة الاتصال بالهواتف وأنك تعتمد عليّ في السؤال عنهم و على إخبارهم عن أحوالك .. بالمناسبة لقد طلب أحد إخواننا خطبة ابنة عمك سهام ..

كان التغيير الذي طرأ على ملامح علي واضحاً بعد عبارة خاله الأخيرة ولكنه لم يعلق فاستطرد خاله قائلاً :

- ولكن عمك رفض طلبه ، ولا أخفيك سراً أنه يتوقع منك أن تخطبها أنت ، و قد لمح لي بذلك ..

قال علي متعجباً

- أنا ؟!

أجاب خاله على الفور

- نعم ، ولم لا ؟.. من الواضح أنك تميل إليها ..

غمغم علي بدهشة

- أميل إليها ؟.. صدقني لم أفكر في سهام إلا كأخت ليس أكثر .. فلقد تربينا في بيت واحد منذ كنا ..

قاطعه خاله بقوله

- لا تراوغ يا علي .. فلقد شاهدت تبدل ملامحك حين تحدثت عن خطبتها ,ولقد تعمدت ذلك ليجيبني هذا التغيير بدلاً من سؤالك مباشرة فتراوغ كعادتك ، ولا أظن أنا ما بدا عليك في حينه يمت للسرور بصلة ..

أشاح علي بوجه وهو يقول

- لا أدري لمَ أزعجني الخبر .. ربما لأن زواجها يعني أنني لن أراها كما تعودت سابقاً، وأظن أن أي أخ سيشعر بهذا عندما يعلم أن أخته التي تربى معها وتعود على وجودها، ستغادر البيت إلى حياة جديدة و..

 

توقف علي عن الحديث عندما شاهد خاله يهز رأسه نافياً وهو يبتسم بخبث فاستطرد قائلاً

- صدقني لا أجد تفسيراً إلا هذا ، ولك كل الحق أن لا تقتنع به ، فأنا نفسي لست مقتنعاً به ..

قاطعه خاله قائلاً

- ليس هذا ما يشعر به الأخ تجاه أخته في ظروف كهذه .. ربما أنت تستبعد فكرة الميل إليها ، لشعورك بأنها أمانة يجب أن تحفظها حتى من مشاعرك وأفكارك ، لظنك أن هذا من الإثم .. وأخشى إن كنت تُفكر بهذه بالطريقة أن تفاجئك نفسك بشيء كبير تحمله لها عندما تصير لغيرك .. ثم لماذا نتحاور في الأمر و أنت في سن الزواج ولن تجد أفضل من ابنة عمك لتشاركك حياتك ويصبح لك أسرة مثل الجميع ..

نظر علي إلى خاله و هو لا يدري ما يقول ، فاستطرد خاله وهو يبتسم قائلاً

- ما رأيك لو خطبتها لك من عمك ؟..

ارتبك علي قليلاً قبل أن يقول

- وهل ظروفنا تسمح لنا بالتفكير في مثل هذه الأمور ؟..

أجاب خاله بحب واضح

- وما شأن الظروف بأمر كهذا ؟.. بل على العكس تماماً ، فما يجب أن نفعله هو أن نمارس حياتنا بشكلها الطبيعي تحت أي ظرف ، إن لم يكن نكاية في عدونا فمن أجل القدرة على الاستمرار بنفس طويل ..

 

هم خال علي بالانصراف ، وعندما وصل إلى الباب التفت إليه قائلاً

- بالمناسبة .. لقد اشترينا لك بعض أجهزة الرياضة ، فإن سألك أحد عن الأجهزة التي ذهبت لشرائها ، قل لهم أنها في الجمارك .. فالجميع يعلم أنك سافرت لأجل هذا السبب ..

 

غادر خال علي البيت و ترك الأخير يفكر فيما قاله خاله بشأن زواجه من ابنة عمه ، وانتبه أنه لأول مرة في حياته يفكر في الزواج بشكل جدي .. فعلى الرغم من كل الكلمات التي كان يسمعها حين كانت تصفه بأنه يفوق من هم في مثل عمره تفكيراً وإدراكاً ، إلا أنه كان يشعر في قرار نفسه أنه ما يزال ذلك الطفل الصغير الذي لم يُكبر منذ أن استشهد والديه أمامه .. حتى تفكيره في مسألة الزواج كان محصوراً في تخيلات تُجيب كلها على سؤال واحد.. كيف كانت أمه ستتصرف في موقف كهذا ؟ .. وما شكل الفرحة التي كان سيراها في ملامح والده ؟ .. لابد أنه كان سيشاهد في ملامحه نفس علامات الفرح عندما كان يفاجئه بحفظ سورة من سور القرآن ، وربما كانت أمه ستضمه إلى صدرها بحنان كما كانت تفعل دوماً عندما يتفوق في دروسه .. استسلم علي بإرادته لهذه التخيلات، كأنه يُعيد والديه للحياة مرة أخرى، فتوقف جسده عن الحركة باستثناء ابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيه ودمعة حنين إلى والديه شقت طريقها إلى خده، حتى غالبه النعاس وهو على هذه الحالة..

 

مكث علي يومين كاملين في ذلك البيت بانتظار الإعلان عن فتح المعبر ، و التقى فيهما بإخوانه الذين افتقدهم وافتقدوه ، و اتصل بعمه وأخبره أنه سيعود بمجرد أن يفتح المعبر ، وفي صباح اليوم الثالث حضر خاله وهو يحمل له خبر فتح المعبر فتنفس علي الصعداء لأن صبره كان قد أوشك على النفاذ لشعوره أنه في سجن ..

 

- أعلم أن الأيام الثلاثة قد مرت عليك كأنها الدهر .. ولكني أعتقد أنك كنت بحاجة لها ، فلقد أخبرني عمر أنك بذلت مجهوداً كبيراً متواصلاً وقضيت أياماً طويلة دون أن تنال قسطاً وافراً ..

قاطع علي حديث خاله سائلاً

- عمر !.. أين التقيت به .. وهل هو هنا ؟ ..

لم يجبه خاله واكتفى بابتسامة وهو يُشير إليه بالصمت لأنهما اقتربا من السيارة التي ستأخذهما إلى بيت عمه حيث يقيم علي.. خيم الصمت في السيارة على الرغم من أن سائق السيارة من رفاق خاله ، وعندما وصلا على بيت عمه قال خاله

- لو وجدت الظرف مناسباً سأفاتح عمك في الأمر ..

همس علي ساخراً

- أخشى أن يرفض عمي لأنك أنت بالذات من يطلب هذا ..

ضحك خال علي وهو يقول

-هل تراهن أن علاقتي به ستتحسن كثيراً لأنني طرف في هذا الموضوع ..

 

استقبل أبو حسين علي وخاله بحفاوة ، لم تخلو من العتاب لقلة اتصاله بيت عمه .. ولأن علي كان قد أعد رداً لكل سؤال توقع أن يسأله عمه ، سارت الأمور بشكل طبيعي بدون أي مشاكل باستثناء انزعاج أم حسين زوجة عمه التي لاحظت عليه الضعف والذبول ..

 

- لم أتوقع أن تصل بهذه السرعة عندما عرفت أن الأنجاس سمحوا للمسافرين بالمرور .. فيبدو أنك أول مسافر تعبر بعد فتح المعبر ..

نظر علي إلى خاله وهو يبتسم ، فابتسم الأخير بدوره كأنه يعترف أن هذا الأمر قد فاته ثم هتف مازحاً

- حدثني علي كثيراً عن شوقه للعودة وكان ينتظر بفارغ الصبر فتح المعبر .. فيبدو أنه كان يقف بجوار البوابة من كثرة شوقه ، وبمجرد أن فتحت سارع بالدخول ..

لم يشارك أبو حسين الجميع ضحكهم و قال

- أنا لا أعرف سبب اتصالك بخالك فقط دوننا .. فهل ترى أن له فيك أكثر ما لنا نحن..

تدخل علي مقاطعاً

- ليس الأمر كذلك يا عماه ، وأنت تعلم ذلك جيداً .. كل ما هنالك أن الاتصال على الهواتف الثابتة أصعب من الهواتف النقالة.. وأنت لا تحب حمل هذا النوع من الهواتف حتى تكون بعيداً عن سيطرة أم حسين ..

ضحك عم علي وهو يقول

- هكذا أنت دائماً تتهرب من الحديث الجاد بمزاحك الذي يوقع بيني وبين زوجة عمك ، ومع أنها تعلم جيداً أنك تمزح وتفعل ذلك للتّهرب ، إلا أنها تستغل الفرصة كي تستفسر وتسأل وتحقق وتشغلني عن الموضوع الأصلي ..

تدخلت أم حسين موجهة حديثها لعلي بعتاب

- صحيح أن عمك لا يحمل هاتفاً نقالاً ، ولكنك تعلم أن سهام تحمل واحداً

قاطعها علي بقوله

- أعلم نعم .. ولكني فقدت الرقم من ذاكرة الهاتف ولم استطع تذكره ، فاكتفيت بان ينقل لكم خالي أخباري وأعرف منه أخباركم والحمد لله أنكم جميعاً بخير و..

قاطعته أم حسين سائلة

- وهل أخبرك خالك أن زوجة الحج سعد جاءت لتخطبها لابنها ؟..

أومأ علي برأسه بإيجاب ثم قال

- نعم ، وأخبرني أيضاً أنكم رفضتم .. هل ترين كيف أتابع أخباركم و أهتم بها ..

مطت أم حسين شفتيها وقالت ساخرة

- سهام هي التي رفضت بنفس الحجة .. أريد أن أكمل تعليمي ..

قاطعها زوجها بحدة وهو يقول

- وحتى لو لم ترفض هي ، كنت سأرفضه أنا ..

غمغم علي متعجباً

- مع أني أعلم أن ابن الحاج سعد ، شاب مهذب وعلى خلق ولا أعتقد أن به عيباً يجعلك ترفض ..

قاطعه عمه قائلاً

- هو كذلك كما تقول تماماً .. ولكن يعيبه أنه من القسام ..

تغيرت نبرة علي و قال

- وما الذي يسوءه إن كان من كتائب القسام ؟..

هتف أبو حسين موضحاً وهو ينظر إلى خال علي

- لا شيء أبداً .. بل أنها ميزة ، فوالله أنني أحترم هؤلاء الشباب وافتخر بهم وأعلم أنهم من خيرة الشباب .. ولكن مع هذا ، هم لا يصلحون للزواج ..

رمقته زوجته بنظرة عتاب قبل أن توجه حديثها إلى خال علي قائلة

- ليس ما يقوله أبو حسين هو السبب الرئيسي .. فهو ينتظر أن يتقدم لها أحد شباب العائلة بحجة أن من نعرفه أفضل من ..

قاطعها علي متجاهلاً لكزة خاله وموجهاً حديثه إلى عمه

- وماذا لو كان هذا الشاب من العائلة وينتمي لحماس ؟.. فما أعلمه أن الكثيرين من أبناء عائلتنا يؤيدون حماس وربما فيهم من ينتمي إليها ..

أشاح عمه بيده وهو يقول

- ليس لدي أي مشكلة مع من ينتمي إلى حماس أو يؤيدها .. فأنا نفسي أؤيد هذه الجماعة وأُفضلها على كل الجماعات الموجودة في الساحة .. ولكن من يعمل في القسام وضعه يختلف ، فهؤلاء يا بني أقرب إلى الموت من الحياة ، ولعلك ترى الطائرات التي تترصدهم بصواريخها .. فبالله عليك قلي ، أي أب يستطيع أن يعطي ابنته لرجل ، إما يسعى إلى الموت سعياً وإما يسعى له الموت ..

 

لا حظ خال علي التغيير الذي طرأ على وجه ابن أخته فقاطع أبو حسين قائلاً

- الأعمار بيد الله يا أبا حسين .. ثم من أين لك أن تعرف أن من يتقدم لابنتك من القسام فعلاً ؟ .. لقد جرت العادة أن هذه الأمور تكون خافية عن الناس وحتى عن الأهل ..

 

هتف أبو حسين قائلاً

- لا يوجد شيء في هذه البلد يخفى على أحد .. كما أنني أستطيع أن أميز بين المؤيدين لحماس مثلك ومثل علي ، وبين الذين يعملون في جناحها العسكري كبعض أصدقاء علي سبب الخلاف الوحيد بيني وبينه ،خصوصاً صديقه عبد الله رحمة الله عليه ، وكثيراً ما كنت أقول لأم حسين أنني أخشى أن..

 

بتر أبو حسين عبارته عندما دخلت سهام وألقت التحية فنظر والدها إلى ساعته ثم قال :

- أرى أنك عدتِ مبكراً هذا اليوم من الجامعة ..

 

لم تعلق سهام على استفسار والدها واكتفت بعبارة مقتضبة موجهة لعلي

- حمداً لله على سلامتك يا علي ..

 

وبينما كان علي يرد عليها هتفت أم حسين موجهة حديثها لزوجها قائلة

- اتصلت بها وأخبرتها أن علي قد عاد من السفر ولقد فرحت كثيراً بالخبر ، فأنت تعلم مدى قلقها على ابن عمها منذ سافر ، فهذه أول مرة يسافر فيها وحده ..

 

غمغم أبو حسين ساخراً

- أرجو أن لا يكون فرحها بقدومه ، لأنها ستجد من تناكفه .. هل تصدق يا علي أننا كنا بالكاد نسمع صوتها منذ سافرت .. حتى أنني ترحمت على تلك الأيام ، عندما كنت لا أستطيع الاستماع إلى نشرة الأخبار بسبب المشادات التي تحصل بينكما إن علق أحدكما على أي خبر يرد في النشرة ..

 

لاحظ علي الإحراج الذي بدا على وجه سهام فآثر الصمت واكتفى بابتسامة لا معنى لها ، بينما قال خاله موجهاً حديثه لسهام

- ما شاء الله يا سهام ، كبرت وأصبحت عروساً .. لو كان ابني يحيي في سن الزواج لكنت خطبتك له على الرغم من أنف والدك .. ولكن قاتل الله اليهود وسنوات المعتقل التي جعلت عمر ابني البكر اثني عشر عاماً فقط وأنا في هذه السن ..

 

تضرج وجه سهام بحمرة الخجل ، و خرجت مسرعة من الغرفة دون أن ترد بينما علق والدها على الحديث قائلاً ..

- لنا الشرف يا أبا يحيي أن نصاهركم مرة ثانية ، فلقد خبرناكم بوالدة علي وكنتم نعم النسب ..

 

تبادل خال علي وعمه الحديث عن ذكريات الماضي بينما غادرت الغرفة زوجة عمه لتعد طعام الغذاء وبقي علي جالساً بصمت حتى تنبه لعبارة خاله وهو يقول

- طبعاً أنا أعرف نوع العلاقة بينك وبين علي .. وربما ما سأقوله يخصكما وحدكما بما أنكم عائلة واحدة .. ولكن ابن أخيك له عندك طلب وخجله وحرجه يمنعاه من طلبه بشكل مباشر ، لذا فسأطلبه نيابة عنه ..

 

بتر خال علي عبارته عندما قاطعه الأخير قائلاً

- في الحقيقة يا عمي هو طلب كنت طلبته منك من قبل وأنت كنت ترفضه دوماً ، ولكن هذه المرة أنا مصمم عليه وطلبت من خالي إقناعك بالقبول حتى لا أُضطر للقيام به على الرغم من رفضه و رفضك ..

 

تفاجئ خال علي من حديث الأخير ثم نظر إلى عمه بدهشة وهو يقول

- تقصد موضوع انتقالك للعيش في بيت والدك وحدك ؟ ..

 

أومأ علي برأسه موافقاً و قال

- نعم يا عمي .. فأنت تعلم ..

 

قاطعه عمه بحدة وهو يقول

-أنت الذي تعلم أننا قتلنا هذا الموضوع حديثاً ومناقشة ، ولن أقبل بهذا حتى لو جلبت لي كل أفراد العائلة ليقنعوني بوجهة نظرك ..

 

استمر الحديث بين علي وعمه حول هذا الموضوع وكل منهما يُصر على رأيه دون أن يتدخل خال علي في الحديث .. ولكن إصرار علي هذه المرة كان أكبر من أي وقت سابق ، وقد فهم عمه أنه سيغادر البيت حتى و إن رفض هو ذلك، وفي النهاية عرض عليه عمه أن يمكث في بيت والده أسبوعاً و يكون الأسبوع الآخر في بيته هو بالتناوب .. وعلى الرغم من أن علي أبدا موافقة على العرض ، إلا أنه كان عازماً في قرارة نفسه بأن تكون هذه آخر ليلة يقضيها في بيت عمه الذي نشأ وتربى فيه ..

 

في مساء اليوم نفسه عاد علي إلى البيت في وقت متأخر من الليل و قد عزم أن يعد أغراضه ومتعلقاته للإقامة في بيت والديه ففوجئ بوجود سهام في حديقة المنزل فغمغم قائلاً ..

- لماذا تجلسين وحدك هنا في هذا الوقت من الليل و البرد القارص ؟ ..

- انتظرك ..

- خيراً .. هل حدث شيء ؟ ..

طال صمت سهام قبل أن تقول بنبرة حزينة

- ستكون هذه آخر ليلة لك هنا .. أليس كذلك ؟ ..

تجاهل علي سؤال سهام وهمس قائلا

- هل أنتِ بخير يا سهام ؟..

همست سهام بحسرة

- كنت أعلم أنك قد عزمت على الرحيل نهائياً حتى وأنت توافق على عرض والدي ..

غمغم علي ساخراً وهو يُشير بيده نحو الباب

- فلنكمل حديثنا بالداخل .. هل تجلسين في هذا البرد لتخبريني أنك عرفت ما أنوي فعله ..

توجه علي نحو الباب بينما هتفت سهام وهي تنهض

- لا تكن فظاً يا علي وحدثني كما أحدثك ..

التفت علي إليها وهو يقول بحدة لم يعرف سببها

- ما الذي تريدين قوله بالضبط ؟ ..

أجابت سهام بانكسار واضح

- لا تغادر البيت يا علي وابق معنا كما كنا في السابق ..

هز علي رأسه بأسف وهو يتنهد بضجر ثم قال

- أبعد كل ما دار بيني وبين والدك حول هذا الأمر ، تأتي لتقولي ابق معنا .. أنتِ تعرفين أن هذه رغبتي منذ زمن ، واليوم فقط استطعت الحصول على موافقة والدك ..

قاطعته سهام قائلة

- والدي وافق شريطة أن تقيم هنا أسبوعاً وفي بيت والديك أسبوعاً آخر .. ولكني أعلم أنك لن تعود للإقامة هنا وأنك قررت في نفسك أن تضع والدي أمام الأمر الواقع ..

غمغم علي قائلاً

- حتى لو كان ما تقولينه صحيح ، فهذا لا يعني أنني سأقطع علاقتي بكم ومن المؤكد أنني سأزوركم من وقت لآخر فأنتم بمثابة ..

قاطعته سهام بانفعال أكبر هذه المرة وهي تقول

- دعك من حديث والدي وما اتفقتم عليه .. هل تفهم معنى أن أقول لك لا تغادر من أجلي .. هل يرضي غرورك لو رجوتك أن تبقى ، فببقائك فقط أستطيع احتمال هذه الحياة التي اكتشفت أنها شيء بلا معنى منذ سافرت .. نعم يا علي .. هذا ما اكتشفته في الأيام الأخيرة عندما كنت أتلفت حولي فلا أجد الأخ الناصح الذي كان يمد لي يد العون في كل مشكلة توقعني فيها حماقتي .. أتدري يا علي ؟ .. في كل مرة كنت تقوم فيها بدور الملاك الحارس كان ذلك يعمق عندي شعوراً كنت أبغضه كثيراً وأفر منه بتصنع الكبرياء وارتكاب حماقات أخرى أثبت بها لنفسي أن هذا الشعور شعور كاذب ، و كان يغيظني أكثر أن العكس هو ما يحدث .. لكن هذا الشعور تأكد و تحول إلي يقين يوم أن غادرت المنزل وافترقنا لأول مرة .. أتدري ما هو هذا الشعور ؟ .. أنني لا أستطيع العيش في مكان لا تكون فيه .. هل تفهم معنى ما قلته وأنت أكثر من يعرفني ؟ .. هل وصل إليك معنى الكلمة التي حاولت أن لا أبوح بها ، فقلت ما هو أكبر منها في غفلة ضعفي ..

 

قالت سهام عبارتها الأخيرة وجلست على الكرسي الخشبي واضعةً وجهها بين كفيها وأجهشت في البكاء بينما التزم علي الصمت وظل واقفاً يلعن في نفسه حظه العاثر الذي جعله يسمع منها هذا الكلام .. وكما هي العادة في مثل هذه المواقف ، تتداخل الأفكار في رأسه بسرعة كبيرة و كلها تحث بحر الحزن الكامن في أعماقه على الهياج فتتشتت أفكاره ويعجز عن التفكير ، فيطول صمته ولا يدري ما يقول .. رفعت سهام وجهها الغارق في الدموع بعد أن تمالكت نفسها ثم قالت

- لا اصدق نفسي أنني استطعت قول هذا .. لا أصدق أنني قلته لك أنت بالذات ..

 

قالت سهام جملتها الأخيرة وأسرعت إلى الداخل بينما بقي علي يلوم نفسه لأنه سمح لابنة عمه أن تقول ما قالته .. فلقد كان يستطيع أن يفعل ما بوسعه لتجنب هذا الموقف حتى لا يزيد القرار الذي اتخذه صعوبة، ولكنه لم يحاول أو يبادر بشيء كأنه تعمد ذلك أو كان يتمناه على الرغم من أن ما سمعه سيُضيف لأحزانه حزناً آخر

 

مرت نسمة باردة أطاحت ببعض أوراق الدالية الجافة على الطاولة فأمسك بإحداها و هو يعتصرها بين أصابعه بقوة وهمس كأنه يخاطب الدالية التي كادت أغصانها تخلو من الأوراق

- ليتني أستطع أن أُغير ما في نفسي كما تفعلين بأوراقك .. ليتني أستطيع

 

في اليوم التالي كان علي في بيت والديه يحاول عبثاً أن يرتب ما قام بنقله من بيت عمه .. وكلما حاول التركيز ، تردد في رأسه صدى حديث سهام وحديث عمه ، فينفض عن رأسه أي فكرة تحاول أن توافق بين ما يشعر به وما يجب أن يفعله ، لدرجة شعر فيها أنه بحاجة لمن يتحدث إليه ، لكن حتى هذا الشعور جر عليه ذكرى صديقه عبد الله ، فهو الوحيد الذي كان يمكن أن يحدثه في أمر كهذا وهو مطمئن النفس ..

 

- هل استرحت الآن بعد أن نفذت ما في رأسك ..

تفاجئ علي بصوت خاله الحزين الذي لم يشعر بقدومه فغمغم قائلاً بصوت متقطع

- أهلاً خالي . المعذرة فلم أشعر بقدومك إلا عندما خاطبتني ..

اقترب منه خاله وأمسك بذراعه بحنان ثم قال و هو ينظر إليه مباشرة

- لماذا هذا الحزن الكبير الذي أراه في عينيك ؟ .. هل تذكرت والديك ؟

تنهد علي من صدره بحرارة قبل أن يقول

- ربما لأنني ابتعدت عن هذا البيت أياماً طويلة فأحيا ذلك في نفسي تلك الذكريات والأحزان ..

هز خاله رأسه نافياً وهو يقول

- لا أظن أن هذا السبب الوحيد .. فحالك هذا يذكرني بحزنك على عبد الله رحمه الله .. فإما أن يكون هناك سبب آخر أو أنك أصبحت تستعذب الحزن ..

قاطعه علي و هو يشعر أن قلبه يكاد يتمزق محاولاً تغيير دفة الحديث بقوله :

- ما رأيك .. أليس من الأفضل أن يعود الشباب للتصنيع هنا ، أفضل من المكان الذي انتقلوا إليه بعد سفري ، فهنا كما تعلم يمكنهم أن ..

قاطعه خاله وهو يقول

- كف عن أسلوبك هذا وأجبني عن سؤالي .. ما بك يا علي ؟ .

غمغم علي وهو يقلب كفيه محاولاً رسم ابتسامة خرجت باهتة

- صدقني .. لا شيء ..

تنهد خاله وهو يقول

- حسنٌ .. ألم نتفق أن أفاتح عمك بشأن زواجك من ابنة عمك سهام .. لماذا غيرت رأيك وجعلتني أبدو كأنني جئت لأقنعه بأن تقيم في بيت والديك ؟

غمغم علي قائلاً

- عمي أجاب على طلبك قبل أن تطلبه ، و له الحق في كل ما قاله .. فلماذا نربط حياتنا ومصيرنا بحياة إنسان يريد الحياة ؟ ونحن نعلم أننا أقرب إلى الموت منه إلى الحياة ..

- وهل نحن برأيك لا نريد الحياة ؟

- نريدها .. ولكن على طريقتنا وليس كما فُرضت علينا ، وحتى تكون لنا هذه الحياة ، يجب أن نكمل الطريق للنهاية ..

- ولما لا نواصل السير في طريقنا ونمارس حياتنا بشكلها الطبيعي .. أنسيت أنه لا تموت نفس حتى تُوفى أجلها ؟

قاطعه علي وهو يهمس قائلاً

- أعلم كل ما ستقوله ولقد جادلت نفسي كثيراً في هذا ، فنازعني فيه الماضي والحاضر والمستقبل واكتشفت أنني لا أستطيع .. حتى لو كان غيري يستطيعه فأنا لن أقدر عليه .. لن أجلب يتامى جدداً مثلي لهذا العالم .. يعيشون فيه بألحان الألم كما عشت و يعانون مرارة الوحدة كما عانيتها و تنهشهم الذكريات بمرارة الصور الجميلة فلا يجدون حضناً دافئاً يضمهم .. لا أستطيع أن أربط مصيري بحياة إنسانة تمنحني حبها و إخلاصها و تحلم بحياة تحفها الأطيار و الأشجار و الجمال و تنعم فيها بالأمان في كنف زوج يحوطها بحبه و حمايته و هي لا تعلم شيئاً عما أقوم به ، وفي نفس الوقت لا أستطيع أن أخبرها ليكون لها الخيار ..

قاطعه خاله بغضب واضح وهو يقول بصوت متهدج

- هذا ضعف منك يا علي ، لم أعهده فيك من قبل و أنت المؤمن بالغيب و القضاء و القدر .. ثم إنك لم تعاني كما عانى غيرك من اليتامى ..

قاطعه علي بانفعال و قد اغرورقت عيناه بالدموع وهو يقول

- بل عانيت وتعذبت بصمت و ألم ، لأنني كنت أعي ما يدور حولي منذ كنت طفلاً .. كنت أعاني ومازلت أعاني حتى هذه اللحظة .. فأنت لا تعرف معنى اشتياق طفل لحضن أمه أو والده في لحظات كثيرة تمر عليه .. لا تعلم ما الذي كنت أفعله وأنا صغير كي أبدو قوياً متماسكاً خشية أن يضمني أحدهم إلى صدره عطفاً وشفقة منه ، مع أنني كنت في أوقات كثيرة بحاجة ماسة للبكاء في حضن أحدهم .. لكن مشكلتي أنني كنت أعرف ما الذي تعنيه كلمة يتيم ، عرفتها مبكراً منذ استشهاد أمي وأبي ، وعرفت أيضاً أنه لا ينبغي لي أن أُبدي أمام أحد حزني و شوقي لأمي وأبي ، حتى لا أعكر صفو حياة من حولي وأذكرهم بمأساتي التي لا ذنب لهم بها فيمنحوني شفقة إن كفكفت دمعاتي فهي تجرح أعماقي .. كنت أعاني وأنا اشتاق لفرحة أبي و أمي بنجاحي في دراستي لاستمد منها العزيمة والمواصلة ، كنت أشتاق لعتابهما لي لضحكاتهما لنصحهما لنور الحب في غضبهما من أخطائي و لبريق الحياة في رضاهما عني .. أتدري يا خالي .. كنت أدخر الكثير من الأشياء لأقدمها لهم لأرى في عيونهم الفخر بابنهم .. تلك العيون التي خطف بريقها وحنانها أولئك الأنجاس وخطفوا من بعدها عبد الله الذي كان توأم روحي .. هؤلاء الصهاينة هم سبب كل ما أنا فيه .. هم سبب كل مصيبة حلت عليّ وعلى غيري .. لذلك لن أحيا كما يحيّ الناس إلا بعد أن يخرجوا من هذه الأرض ، لن يهنأ لي عيش ولن يكون لدي متسع من الوقت لأي شيء آخر، لأنني سأعمل على أن يخرجوا من هنا حتى آخر نفس يخرج من صدري ، فإن لم يكن من أجل والديّ ومن أجلي ، فمن أجل من يأتي بعدي ..هذا فقط ما سأفعله وأعيش من أجله ، ولن يشغلني عنه شيء آخر ، فهم لم يمنحوني فرصة إلا أن أكون هكذا ، وهذا ما يجب أن يكون

النهاية

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×