عمود الانتصار لا يتنزل إلا على شمعدان الانكسار

[في جنة الله أحيا 103]

عمود الانتصار لا يتنزل إلا على شمعدان الانكسار

 

 

بقلم/ تراجي الجنزوري

 

المتابع للوضع الراهن في مصر.. يجد عجبا ً.. أصواتا ً عالية.. استعلاءً بالذات.. استقواءً بالأعداد .. اعتزازا بالأحزاب.. افتخارا بالأتباع.

من أجل ذلك كان حتما ولزاما أن أهدي:

رسالة.. أرسلها لمن يغتر بقوته.

همسة.. أبعثها لمن يعتز بكثرته

نصيحة.. أهديها لمن يتعالى بشيعته

برقية.. أهمس بها في أذن من يفتخر بحزبه وجماعته

قالوا : لن نغلب اليوم من قلة

النتيجة: " وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ".. وهذه عاقبة كل من كان شعاره : "لن نغلب اليوم من قلة".

جبل الطور سيد الجبال

بم صار جبل الطور سيدا للجبال؟.. عجب عجاب.. حيث صار سيدا للجبال يوم أن كان حاله الانكسار.. حيث أوحى الله إلى الجبال أني نازل على واحد منكم.. فاشرأبت الجبال جميعها وتطاولت.. إلا جبل الطور طأطأ رأسه وانخفض.. وقال:

هذا قدري.. فنزل عليه الملك سبحانه.

وبه الله أقسم لشرفه "وَالطُّورِ* وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ".. "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ".

عمود الانتصار لا يتنزل إلا على شمعدان الانكسار

ابن تيمية يرفع شعار:

أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسكين في مجموع حالاتي

أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي والخير إن يأتينا من عنده يأتي

لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ولا عن النفس لي دفع المضرات

والفقر وصف ذاتي لازم أبدا كما الغنى أبدا وصف له ذاتي

وهذه الحال حال الخلق أجمعهم وكلهم عنده عبد له آتي

وكان هذا الشعار واقعا عمليا له.. حيث كان يمرغ وجهه في التراب.. معلنا فقره وذله بين يدي مولاه.. قائلا:

يا معلم إبراهيم علمني.. فيمتن الله عليه بالإجابة .

آدم عليه السلام.. خلقه الله بيده.. أسجد له ملائكته.. علمه الأسماء كلها.. اسكنه جنته.. عهد إليه أن يأكل منها بأسرها.. إلا شجرة بعينها.. ولكنه عصى فغوى.

يقول ابن القيم رحمه الله:

(ما انتفع آدم بعز اسجدوا.. ولا خاصية وعلم.. ولا قطيعة اسكن.. ولكن نفعه قوله: " رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"عندها.. وعندها فقط "فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى").

يقول أحد السلف:

"نظرت فإذا أبواب الجنة كلها ملى.. إلا باب الانكسار والذلة لله".

أيها الأحبة:

من اعتمد على عقله ضل.. ومن اعتمد على علمه زل.. ومن اعتمد على ماله قل.. ومن اعتمد على عدده مل.. ومن اعتمد على الله فلا قل ولا مل ولا ضل ولا اختل ولا زل.

يا رب إني قد أويت لكل مأوى في الحياة فلم أجد مأوى سوى مأواك

وتلمست نفسي السبيل إلى النجاة فلم أجد منجى سوى منجاك

وبحثت عن سر السعادة جاهدا فوجدت هذا السر في تقواك

فليرض عني الناس أو فليسخطوا أنا لم أعد أسعى لغير رضاك

إبراهيم عليه السلام.. وقمة الانكسار بين يدي الرحمن "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام".

قل لي بالله عليك : كم واحدا منا رفع هذا الشعار بين يدي الرحمن.

نوح عليه السلام.. رفع عمود الانكسار"فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ".

فنزل شمعدان الانتصار " فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ* وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ..........".

موسى عليه السلام.. وقمة الافتقار إلى الرحمن.. "فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ".. وضع تحت كلمة "فَقِيرٌ" عشرات الخطوط.. ومن منا يعلنها.

النتيجة.. "فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا".

لن يرتفع البلاء حتى يسقط الرداء

وفي ذلك قمة الانكسار.. وقمة الذلة بين يدي الرحمن.

اليوم يوم بدر.. "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ".. وفرت العير ولم يبق إلا النفير..عندها رفع رسول الله يديه إلى مولاه.. وظل يناشد ربه.. "اللهم نصرك الذي وعدتني.. اللهم أنجز لي ما وعدتني".. حتى سقط رداؤه (صلى الله عليه وسلم).. فأشفق عليه سيدنا أبو بكر وقال له: "يا رسول الله إن الله منجز لك ما وعدك".

عندها.. وعندها فقط "فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ".

نور الدين محمود.. قبل كل معركة.. ماذا كان يفعل ؟.. كان يمرغ وجهه في التراب.. تذللا ً وانكسارا ً لرب الأرباب.. فكان يبشره (صلى الله عليه وسلم) في نومه بالانتصار.. بما قدمه من جميل الانكسار.

وعلى هذه الشاكلة كان ديدن سيف الدين قطز.. فكان النصر حليفهم.

اللهم إنك ترى مكاني.. وتسمع كلامي.. ولا يخفى عليك شيء من أمري.. وأنا البائس الفقير.. المستغيث المستجير.. الوجل المشفق.. المقر بذنبه.. أسألك مسألة المسكين.. وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل.. وأدعوك دعاء الخائف الضرير.. دعاء من خضعت لك رقبته.. وذل لك جسده.. ورغم لك أنفه.. وفاضت لك عبرته.. اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا.

وكن بي رءوفا ً رحيما ً.. يا خير المسئولين.. ويا خير المعطين.. يا رب العلمين.