اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

من روائـــــــــــــع القرآن (الشيخ صالح بن عبد الله التركي)

المشاركات التي تم ترشيحها

من روائع القرآن الكريم
- بعض مواطن تقديم الجن على الإنس في التنزيل -
د. صالح بن عبد الله التركي


قدَّم الله-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في التنزيل الجِنَّ على الإنس وقدَّم الله عزَّ وجل الإنس على الجِنِّ أَيْضًا؛ فمن تقديم الجن على الإنس في القُرْآن الكريم لما كان الحديث عن خلقهما يقول الله عزَّ وجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56].
فقدَّم الجن هنا لأنهم خُلقوا قبل الإنس كما قال الله عزَّ وجل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ)[الحجر: 26، 27].

وقدَّم الله-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الجن على الإنس في التنزيل لما كان الحديث عن دخول النار؛ ومعلومٌ أن أول الداخلين للنار هم الجن، يقول الله عزَّ وجل: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا)[الأعراف: 179]؛ فقدَّم الله عزَّ وجل الجن لأنهم هم أول الداخلين النار كما قال الله عزَّ وجل: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)[السجدة: 13]، وآياتٌ أُخر.

وقدَّم الله عزَّ وجل الجن على الإنس لما كان الحديث عن اختراق السموات والأرض، كما قال الله عزَّ وجل في الرحمن: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)[الرحمن: 33]، ولا جرم أن الجن هم أكثر استطاعةً من الإنس في هذا الأمر، فقدَّمهم الله-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عنايةً بهم واحتفالًا لهم في السياق.

وقدَّم الله عزَّ وجل الجن أَيْضًا لما كان الحديث عن الضلال والغِواية والإضلال، كما قال الله عزَّ وجل في فصلت: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)[فصلت: 29]. ومعلومٌ أن الشيطان نفسه أخذ على نفسه عهدًا أن يضل بني آدم كما قال الله عزَّ وجل عنه: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ)[النساء: 119].
وقال الله عزَّ وجل عنه: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ)[الناس: 4-5].
وقال الله عزَّ وجل عنه كذلك: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ)[طه: 120].

إِذًا مسألة تقديم الجن على الإنس والإنس على الجن فنٌ قرآنيٌ فريد اعتنى به كتاب الله عزَّ وجل فيقدم الكلمة إذا كان لها الأهمية في السياق ولها العناية في السياق والتركيز، وهذا شأنه شأن اللغة العربية. أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن ينفعنا بما سمعنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

اسلاميات

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
من روائع القرآن الكريم
- (ولكن أنفسهم يظلمون) - (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) -
د. صالح بن عبد الله التركي
تفريغ الأخ الفاضل سليمان الغليقة


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد: في التنزيل يقول الله-تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[آل عمران: 117]، وهذه الآية الوحيدة في القُرْآن الكريم التي خلت من لفظة "كانوا"، وهذه الآية في آل عمران، وبقيَّة آيات الله عزَّ وجل في التنزيل يقول الله عزَّ وجل فيها: (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة (57)، والأعراف (160)، والتوبة (70)، والنحل (33)، والنحل (118)، والعنكبوت (40)، والروم (9)] .

فللسائل أن يتساءل عن سبب سِرِّ هذا الاختلاف بين هذه الآيات المتناظرة المتشابهة، فأقول: إن في آية آل عمران مثْلًا ضربه الله عزَّ وجل للناس إذا يقول الله عزَّ وجل فيها: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[آل عمران: 117]. قال الله فيها: (وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[آل عمران: 117]، لأنه مثلٌ لم يقع أصلًا ولم يحدث في سير الزمان فقال الله عزَّ وجل فيها: (وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[آل عمران: 117].

والسخاوي في منظومته-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: ولفظ كان في الكتاب ما سقط إلا الذي في آل عمران فقط

وأما بقيّة الآيات في القُرْآن الكريم فَإِن الله عزَّ وجل يقول فيها: (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة (57)، والأعراف (160)، والتوبة (70)، والنحل (33)، والنحل (118)، والعنكبوت (40)، والروم (9)]؛ قال: (وَلَكِنْ كَانُوا) [البقرة (57)، والأعراف (160)، والتوبة (70)، والنحل (33)، والنحل (118)، والعنكبوت (40)، والروم (9)]، لأن بقيَّة هذه الآيات ضمَّت أحداثًا وقعت. كقول الله عزَّ وجل في سورة العنكبوت مثْلًا: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا)[العنكبوت: 40] كحال قوم لوط: (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ)[العنكبوت: 40] كحال قوم عادٍ وثمود: (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ)[العنكبوت: 40] كحال قارون: (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا)[العنكبوت: 40] كحال قوم نوح وفرعون، ثم قال الله عزَّ وجل في نهاية الآية: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت: 40]، قال الله عزَّ وجل فيها: (وَلَكِنْ كَانُوا)[العنكبوت: 40]، لأن هذه الآية ضمَّت أحداثًا ووقائع لها وجودٌ في سير الزمان وعلى شريط الحياة، فقال الله عزَّ وجل في نهاية الفاصلة: (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت: 40]. هذا من التوجيه لهذا المتشابه ولهذه الآيات المتناظرة في كتاب الله عزَّ وجل، أسأل الله بمنّه وكرمه أن ينفعنا بما سمعنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد
 
اسلاميات

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

من روائع القرآن الكريم
- (يسألونك عن الأهلة قل ..) - (ويسألونك عن الجبال فقل ..) -
د. صالح بن عبد الله التركي

تفريغ الأخ الفاضل سليمان الغليقة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي خلق فسوى وقدَّر فهدى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد: يقول الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في تنزيله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)[البقرة: 189]، وقال الله-جَلَّ شأنه-: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)[البقرة: 217].

قال العُلَمَاء: "كل ما جاء من لفظ "يَسْأَلُونَكَ" في القُرْآن الكريم جاء الجواب بقوله: "قُلْ"؛ لأن هذه الأسئلة وقعت للرسول-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"؛ وسُئل عنها النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قِبل الصَّحَابَة أو من غيرهم، كما سألته اليهود عن الروح كما جاء في سورة الإسراء: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[الإسراء: 85]، إِذًا هذه الأسئلة وقعت للرسول-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأجاب عنها النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجاء الجواب بقوله تعالى: (قُلِ)[الإسراء: 85].

أما ما جاء في طه من قوله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)[طه: 105]، فجاء الجواب بقوله تعالى: (فَقُلْ)[طه: 105]، هذا السؤال لم يقع للرسول-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لذا جاء الجواب بقوله: (فَقُلْ)[طه: 105]، وهذه هي الآية الوحيدة في القُرْآن الكريم التي جاء جوابها بقوله: (فَقُلْ)[طه: 105]، لأن هذا السؤال لم يحدث للنبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يقع له، لذا كان التأويل: "إذا سُئلت يا محمد فَقُلْ"، كما جاء عند الكرماني في "أسرار التكرار" وعند غيره، هذا من التوجيه لهذه الآيات المتناظرة،
أسأل-الله تَعَالَى- أن يجعل القُرْآن ربيع قلوبنا وجلاء همومنا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,


من روائع القرآن الكريم - (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)- (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) -
د. صالح بن عبد الله التركي
تفريغ الأخ الفاضل سليمان الغليقة


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد سيد أهل البيان. يقول الله-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في سورة البقرة: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: 286]؛ وقال الله عزَّ وجل في سورة الطلاق: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)[الطلاق: 7].

فاختلف اللفظ بين الآيتين بحسب اختلاف السياق في السورتين، إذ أنَّ الله عزَّ وجل يقول في البقرة: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: 286]؛ وذلك جاء في سياق العمل فقد روى ابن جريرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في تفسيره: أنه لما نزل قول الله عزَّ وجل: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)[البقرة: 284] شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجاءوا إلى النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقَالُوا: "إنّا لمؤاخذون بما نُحدّث به أنفسنا؟"، فأنزل الله عزَّ وجل: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: 286]؛ أي: إلا ما استطاعت من العمل كالصلاة والصيام والصدقة والصوم وغيره، فلا يكلّف اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أي: إلا بما استطاعت واقتدرت عليه من العمل، وذلك رحمةٌ من الله عزَّ وجل ولطفٌ من الله عزَّ وجل بعباده المُؤْمِنِيْن.

وأما في سورة الطلاق: فَإِنَّ السياق يتحدث في السورة عن الإنفاق على الحامل والمرضع من المال، كما قال الله عزَّ وجل: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ)[الطلاق: 6].

إِذًا السياق يتحدث عن الإنفاق على الحامل والمرضع، والله عزَّ وجل لا يكلف الولي إلا بما استطاع من النفقة، لذلك قال الله عزَّ وجل في نهاية السياق: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)[الطلاق: 7]. فهذا توجيهٌ لهذه الآيات المتناظرة المتشابهة في كتاب الله عزَّ وجل ولما اختلفت به الآيتان من هذا اللفظ،

أسأل -الله تَعَالَى- أن يجعل القُرْآن ربيع قلوبنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد

اسلاميات

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

من روائع القرآن الكريم

- (وكلا منها رغدا حيث شئتما)

- (وكلوا منها حيث شئتم رغدا) -

د. صالح بن عبد الله التركي

 

بسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. يقول الله -جَلَّ شأنه- في التنزيل في قصة آدم في البقرة: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا)[البقرة: 35]، على حين أن الله-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يقول في قصة بَنِي إِسْرَائِيْل: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا) [البقرة: 58].

فقدَّم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الرَغَدَ في شأن قصة آدم وأخَّره في قصة بَنِي إِسْرَائِيْل، وما ذلك إلا لأمرٍ يقتضيه السياق القُرْآني، والرغدُ عند ابن عباسٍ -رَضِيَ اَللَّهُ تعالى عَنْهُمَا-: "هو سِعةٌ في المعيشة" وهكذا جاء تأويله عند غير واحدٍ من أهل التأويل على اختلاف عباراتهم.

فقدَّم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الرَغَد لما كان الحديث في الجنة كما قال الله عزَّ وجل: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة: 35]، إِذًا الحديث في الجنة فقدَّم الله عزَّ وجل الرغد فيها، ولما كان الحديث في الدنيا قال الله عزَّ وجل لبَنِي إِسْرَائِيْل: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) [البقرة: 58]،

والقرية: هي بيت المقدس، (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا) [البقرة: 58]، فقدَّم الرَغَد لما كان الحديث في الجنة وأخَّره لما كان الحديث في الدنيا، ومعلومٌ أن رغد الجنة مقدمٌ على رغد الدنيا، وهذا من توجيه هذا التقديم والتأخير في بلاغة كتاب الله عزَّ وجل.

 

أسأل-الله تَعَالَى- أن يجعل القُرْآن ربيع قلوبنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

<<<<<<<<<<<


من روائع القرآن الكريم -

(قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا)

(قل آمنا بالله وما أنزل علينا) -

د. صالح بن عبد الله التركي
 

من جملة الآيات المتناظرة المتشابهة في كتاب الله-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ما جاء في قوله تعالى في البقرة: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) [البقرة: 136]، ونظيرةٌ لهذه الآية يقول الله عزَّ وجل في آل عمران: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) [آل عمران: 84] فما سبب سِرِّ هذه الاختلاف بين هاتين الآيتين؟!

لما أمر الله-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عباده بقوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) [البقرة: 136]، ناسب أن يأتي بعده بقوله تعالى: (إِلَيْنَا) [البقرة: 136]، و"إلى" هنا تفيد انتهاء الغاية كما تقول: ذهبت إلى البيت، فانتهت هذه الكتب المنزلة إلى الناس. وقال الله عزَّ وجل: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) [البقرة: 136]، أي: أن القُرْآن الكريم انتهى عند الناس واستقرَّ بأيدي الناس، فناسب قوله تعالى: (إِلَيْنَا) [البقرة: 136] بعد أن قال وخاطب عباده المُؤْمِنِيْن بقوله تعالى: (قُولُوا) [البقرة: 136].

أما ما جاء في سورة آل عمران فَإِن الخطاب موجَّهٌ إلى النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما جاء عن الكرماني في "أسرار التكرار"، ولما خاطب الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نبيه بقوله تعالى: (قُلْ) [آل عمران: 84] ناسب أن يأتي بعده بقوله تعالى: (عَلَيْنَا) [آل عمران: 84]، و"على" تفيد الفوقية كما عند النُحاة وعند أهل العربية. والكتب أُنزلت على الأنبياء، والقرآن الكريم أُنزل على محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فتناسبت الألفاظ فكل لفظةٍ جاءت مناسبة لسياقها ولمعانيها، هذا من توجيه هذه الآيات المتناظرة.

أسأل-الله تَعَالَى- بمنه وكرمه أن ينفعنا بما سمعنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

 

تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

من روائع القرآن الكريم

- (قسط) و(أقسط) في التعبير القرآني -

د. صالح بن عبد الله التركي

 

 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. يقول الله-جَلَّ شأنه- في التنزيل: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)[الجن: 14، 15]. وقال الله عزَّ وجل في آيةٍ أخرى: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الحجرات: 9]. فقال في الآية الأولى: (الْقَاسِطُونَ)[الجن: 15]، وقال في الآية الثانية: (الْمُقْسِطِينَ)[الحجرات: 9]،

فهل تتساوى هذه الكلمات في التعبير القُرْآني؟

 

لاشك أن بينهما بَونًا شاسعًا في المعنى. فـ(القاسِط): من قَسَطَ إذا ظلم وجار وبخس الناس حقوقهم وظلم نفسه في جنب الله عزَّ وجل؛ تقول الجن: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ)[الجن: 14]، أي: الذين أسلموا لله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- والذين انقادوا لله عزَّ وجل ، (وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)[الجن: 14]، الذين ظلموا وجاروا في جنب الله عزَّ وجل.

وأما (المُقْسِط): من أقسط، والفعل أقسط فيه همزة تسمى عند أهل العربية "همزة الإزاحة" أي: إزاحة هذا الظلم، فـ(أقسط) يَعْنِي: أزاح هذا الظلم ونفى هذا الظلم، والله عزَّ وجل يثني على عباده ويقول: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الحجرات: 9]، والمقسطين: هم العادلون، هم الذين أقاموا العدل ونَفَوا الجور.

ونظيرٌ لهذا المعنى يقول الله عزَّ وجل في سورة إِبْرَاهِيمَ على لسان الشيطان: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ)[إبراهيم: 22]، فمن جرَّاء هذا العذاب في النار للشيطان ولأتباعه وهم يصطرخون فيها في النار يقول الشيطان: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ)[إبراهيم: 22]، و(مُصْرِخ) :من أصرخ أي لا أستطيع إزاحة هذا الصراخ عنكم ولا أنتم أَيْضًا تستطيعون إزاحة هذا الصراخ عني، فأصرخ مثل أقسط في المعنى.

إِذًا كما ترون أيها الأحبة هذه الكلمات لها تعبيرٌ خاصٌ في نظم كتاب الله عزَّ وجل ، فتختلف هذه الكلمات باختلاف السياق القُرْآني، لكل كلمة شخصيتها في البيان القُرْآني، وهذا من بديع وروائع هذا الكتاب العظيم

 

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,


من روائع القرآن الكريم

-(ولن يتمنوه أبدا)-(ولا يتمنونه أبدا) -

د. صالح بن عبد الله التركي

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. من جملة مزاعم اليهود في القُرْآن الكريم، ومن جملة افتراءاتهم: ما جاء قوله تعالى في البقرة: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة: 94]، ثم قال الله عزَّ وجل: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[البقرة: 95].

وهنالك زعمٌ آخر لليهود في سورة الجمعة بقول الله عزَّ وجل: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الجمعة: 6]؛ ثم قال الله عزَّ وجل: (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[الجمعة: 7]، تلك من مزاعم اليهود فردَّ الله عليه وطلب منهم أن يتمنوا الموت.

قال ابن عباسٍ-رَضِيَ اَللَّهُ تعالى عَنْهُمَا- كما جاء عند أهل التأويل: "لو تمنى أحدهم الموت لمات"، فاختلف ردُّ القُرْآن وتباين أسلوب القُرْآن باختلاف مزاعم اليهود، ففي الزعم الأول في سورة البقرة قَالُوا: "إنَّ الدارَ الآخرة لنا" كما قال الله عزَّ وجل: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ)[البقرة: 94]، فزعموا أنَّ الدار الآخرة خاصةٌ بهم من دون الناس وأنها لهم، والدار الآخرة أمرٌ مستقبلي لم يأتي بعد فنفى الله عزَّ وجل المستقبل، وجاء بأداة النفي التي تفيد نفي المستقبل فقال الله-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فيه: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[البقرة: 95].

وأما في الزعم الآخر -وهو في سورة الجمعة- فَإِنهم ادَّعوا أنهم خيرُ عباد الله وأنهم أولياء الله من دون الناس، وأنهم كما يقولون اليوم: "شعب الله المختار" فزعموا هذا الزعم بقولهم، وردَّ عليهم القُرْآن بقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الجمعة: 6]. فاختلف الرد والنفي، فقال الله عزَّ وجل: (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)[الجمعة: 7]، لما زعموا أنهم أولياء لله على مدار التاريخ وأنهم أفضل شعبٍ على مدار الزمان في جميع الأزمنة ردَّ القُرْآن بأداة النفي "لا" التي تفيد التأبيد، وهي أقوى أدوات النفي عند أهل العربية بقوله تعالى: (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[الجمعة: 7]. فجاء الرد بالنفي بحسب اختلاف الزعم: - لما كان أمرًا مستقبليًا نفى الله عزَّ وجل المستقبل.

- ولما كان الزعم على مدار التاريخ نفى الله على جهة التأبيد، وجاء النفي على جميع الأزمنة بقوله تعالى: (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)[الجمعة: 7]، وهذه من جملة ادعاءات اليهود التي كثرت في القُرْآن الكريم

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
من روائع القرآن الكريم - د. صالح التركي
- (أولئك لم يكونوا معجزين ..)(وما أنتم بمعجزين..)

تفريغ الأخ الفاضل سليمان الغليقة جزاه الله خيرا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
يقول الله -جَلَّ شأنه- في التنزيل في سورة هود: (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ)[هود: 20].
وقال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في سورة العنكبوت: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)[العنكبوت: 22].
وقال الله عزَّ وجل في الشورى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ)[الشورى: 31].

تلك آياتٌ ثلاث -أيها الأحبة- يعلن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فيها التحدِّي لخلقه أجمعين بأنهم لم ولن يعجزوا الله كما قال الله عزَّ وجل: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا)[البقرة: 148].

ربما يتساءل القارئ لكتاب الله عزَّ وجل عن سبب سِرِّ هذا الاختلاف بين هذه الآيات الثلاث!
فأقول: أنَّ في سورة هود وفي آية هود إشارةٌ للأمم السابقة السحيقة الغابرة التي سبقت أمة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كما جاء في أول الآية؛ يقول الله عزَّ وجل فيها: (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ)[هود: 20]، فجاء باسم الإشارة لهذه الأمم السابقة التي سبقت أمة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ والتي عَرَّض بها القُرْآن الكريم قبل هذه الآية، كما قال الله عزَّ وجل: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ)[هود: 17]؛ فالإشارة تُشير إلى الأحزاب: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ)[هود: 17].

وأما ما جاء في سورة العنكبوت فهو حديثٌ دار بين إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَام- وبين ملكِ زمانه الذي ادَّعى الإلوهية، والذي أوهم لشعبه أنه سيصعد إلى السماء فتحدَّاه إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَام- بقوله تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)[العنكبوت: 22]، فزاد في لفظ "السماء" لأن هذا الطاغوت أوهم أنه سيصعد إلى السماء.
وأما ما جاء في سورة الشورى فهو خطابٌ وتحدٍّ لهذه الأمة المحمدية بقول الله عزَّ وجل: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)[الشورى: 31].

فلا تكرار في كتاب الله عزَّ وجل كما ترون أيها الأحبة، ولا تضارب كما يدَّعيه المبطلون والذين افتروا على كذبًا في كتابه، والذي ما فتئوا أن يطعنوا في كتاب الله عزَّ وجل.

أسأل -الله تَعَالَى- أن يُنوِّر قلوبنا بالقُرْآن الكريم في الدنيا والآخرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد

<<<<<<<<


من روائع القرآن الكريم - د. صالح التركي -
(لقد أبلغتكم رسالة ربي) (لقد أبلغتكم رسالات ربي)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي جعل القُرْآن هدىً وشفاءً للناس، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. يقول الله -جَلَّ شأنه- في التنزيل في قصة صالح في الأعراف: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)[الأعراف: 79].

وقال الله عزَّ وجل في قصة شعيب في الأعراف: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ)[الأعراف: 93]! فقال صالحٌ -عَلَيْهِ السَّلَام-: (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي)[الأعراف: 79]، وقال شعيبٌ -عَلَيْهِ السَّلَام-: (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي)[الأعراف: 93]، هذه من الآيات المتناظرة في كتاب الله عزَّ وجل فما هي رسالة صالح وما هي رسالات شعيب؟!

خير ما يُفسَّر به كلام الله هو القُرْآن العظيم فنفسر القُرْآنَ العظيم بالقُرْآنِ العظيم، وتفسير ابن كثيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- حافلٌ وماثلٌ بتطبيق هذه القاعدة التي هي من أهم قواعد أهل التأويل والتفسير.

فقال الله عزَّ وجل في شأن صالح في أول القصة: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الأعراف: 73]، هذه هي رسالة صالح التي هي الناقة فبلَّغها قومه.

أما شعيبٌ -عَلَيْهِ السَّلَام- فَإِنه الله عزَّ وجل قال عنه في أول القصة: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ)[الأعراف: 85]، فأخذ شعيبٌ -عَلَيْهِ السَّلَام- يُعدِّد ما أرسل به من لدن الله عزَّ وجل، فقال لقومه: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)[الأعراف: 85، 86] إلى آخر ما قال -عَلَيْهِ السَّلَام-.

فهذه آياتُ شعيب وهذه رسالات شعيبٍ -عَلَيْهِ السَّلَام- بلَّغها قومه وأنذر بها قومه، فكل رسولٍ أنذر قومه ما أُرسل به من لدن الله عزَّ وجل، هذا من توجيه هذه الآيات المتناظرة، جعلني الله وإياكم من أهل القُرْآن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد\

اسلاميات

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

الدلالة البيانية للفاصلة في القرآن الكريم

 

من أساليب كتاب الله عز وجلّ أسلوب الفاصلة في القرآن الكريم والفاصلة في القرآن الكريم هي الكلمة الأخيرة في الآية، هكذا جاء عند ابن منظور في (لسان العرب)، وجاء عند غيره كما عند الزركشي في (البرهان) أن الكلمة الأخيرة في الآية تسمى فاصلة. أُخذت هذه التسمية من قول الله عز وجل: ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) فصلت﴾، ومن قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [سورة هود:1]، وأخذت أيضًا من قول الله عز وجل: ﴿ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) الأنعام﴾.

إذن الكلمة الأخيرة في الآية تسمى (فاصلة)، هذه الفاصلة أسلوب عربي فصيح، وهذه الفاصلة من أساليب كتاب الله عز وجل، تعطي الآية رونقًا وجمالًا علاوة على هذا إتمامها لمعنى الآية.

فالفاصلة المهمة الأولى لها تخدم الآية، وتكمل معنى الآية، وهي الفصل الأخير من معاني الآية، ولا يجوز أن نقول العكس “أن الآية تخدم الفاصلة” هذا لا يكون في كتاب الله عز وجل.

بل هي متمكنة في بابها تمكنًا عجيبًا، وهذه الفاصلة لا يمكن أن تستبدل بها كلمة أخرى إطلاقًا. وكما ذكرت هذه الفاصلة تخدم الآية وتكمل وتتمم معنى الآية.

وأنكر الزمخشري في (الكشاف) أن تكون الفاصلة غايتها تحسين اللفظ، فقال: فإما أن تُهمل المعاني ويهتم بتحسين اللفظ وحده فليس من قبيل البلاغة.

إذن الفاصلة هي الكلمة الأخيرة في الآية، وخدمتها ومهمتها أن تكمل وتتمم معنى الآية، فهي تخضع لما في الآية من معنى، وكما قلت هي الجزء الأخير من معاني الآية.

وهذه الفاصلة لم تأتِ لتلوين الخطاب أو تحسين اللفظ فحسب، بل هي تعطي الآية توضيحًا أكثر، على خلاف ما نجد في أشعار العرب وفي نثر العرب.

والفاصلة تسمية قرآنية فريدة، خاصة بالقرآن الكريم. هذه الفاصلة خاصة بكتاب الله عز وجل، والسجع خاص بالشعر والنثر، والسجع والنثر والشعر في لغة العرب أحيانًا يتلون خطاب العرب بألفاظ تخرق معنى وتخرم القواعد النحوية لأجل القواعد العروضية أو لأجل تحسين اللفظ، أما هذا لا نجده في كتاب الله عز وجل، فلا نجد أن الفاصلة يُهتم بها على حساب المعنى أبدًا، على عكس ما نجد في القافية الشعرية أو في الأوزان الشعرية، أو بما يسمى الضرورة الشعرية في أشعار العرب.

فالضرورة الشعرية هي رُخَص تُعطى للشعراء لأجل تحسين الوزن واستقامة الوزن، فالشاعر يضطر لخرم القواعد النحوية من أجل القواعد العروضية، فيهتم باللفظ على حساب المعنى، كما في قول زهير:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ       وما هو عنها بالحديث المرجم

فقال: ذقتمُ والأصل ذقتمْ

أو كما في قول العباس بن مرداس السلمي أمام النبي صلى الله عليه وسلم:

وما كان حصن ولا حابس       يفوقان مرداس في مجمع

فقال: مرداس، والأصل مرداسًا

فخرم القواعد النحوية لأجل استقامة العروض، هذا الكلام لا نجده في الفاصلة في القرآن الكريم، والقرآن الكريم راعى الذوق العربي الفصيح والبيان العربي الفصيح.

فبالسبر للقرآن الكريم وللفواصل في كتاب الله عز وجل نجد أن أكثر الفواصل جاءت بأجمل الأصوات نهاية، فلما نتأمل ونتدبر في كتاب الله عز وجل نجد أن أكثر الفواصل ختمت بأجمل صوت وهو (النون) يعلمون- يعقلون- تذكرون- … هكذا، النون أجمل الأصوات للعرب فختمت أكثر الفواصل بحرف النون، أو حرف (الميم) وهو الحرف الثاني من الفواصل أو الحرف الثالث، وجاءت النون في أكثر من ثلاثة آلاف فاصلة. وهذا سبر وتبيين لمقام الفاصلة في القرآن الكريم، فكما ذكرت أن النون أكثر ترددًا في نهاية الفواصل، على حين أننا لا نجد أن حرف (الخاء) جاءت به فاصلة أو انتهت به فاصلة، لا تجد آية في القرآن الكريم انتهت بحرف الخاء، ولا بحرف (الغين) لسوء هذين اللفظين، لما تنتهي بكلمة فيها خاء سيء الصوت، والقرآن راعى جميل الصوت والذوق العربي الفصيح، فلا تجد فاصلة في القرآن انتهت بحرف الخاء، ولتوضيح الكلام نجد حرف الميم في: ﴿ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة النساء:26] هنا انتهت الفاصلة بالميم.

لا تجد فاصلة انتهت بالخاء، ولا فاصلة انتهت بالغين، هذان الحرفان الحلقيان لا تجد فاصلة انتهت بهما؛ لسوء هذين الصوتين.

فانظر حتى مثل هذه الأمور جاء بها كتاب الله عز وجل ﴿  كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [سورة هود:1].

ومن أمثلة الفاصلة في كتاب الله عز وجلّ لنرى جمال التعبير وسمو هذه البلاغة وهذا النظم وهذه التراكيب في كتاب الله تبارك وتعالى:

أولًا: الفاصلة تنقسم إلى قسمين في القرآن الكريم:

– فاصلة واضحة.

– وفاصلة تحتاج إلى تأمل وتدبر وتمعن وطول نظر.

* فاصلة واضحة مثل:

–  قول الله عز وجل: ﴿ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [سورة الحجرات:9].

– وقوله تعالى: ﴿ وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ [سورة آل عمران:8] فختم بالوهاب لأنه ذكر هذه الهبة في أول الآية.

– وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [سورة القصص:77].

– و ﴿ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [سورة القصص:76].

– و ﴿ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) الفتح﴾ لاحظ “لم تقدروا عليها” فأنتم لم تقدروا، والله هو القدير.

هذه فاصلة واضحة، بالتأمل والتدريب نستطيع أن ندرّب أنفسنا على مثل هذه الفواصل وغيرها من أساليب كتاب الله عز وجل.

* وفاصلة تحتاج إلى تأمل وتدبر ووقوف وطول نظر، منها:

– قول الله عز وجل في الآية 18 من سورة البقرة: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾، على حين أن الله عز وجل يقول: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [سورة البقرة:171]، فختم الله عز وجل بقوله:﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ وختم الله عز وجل بقوله: ﴿ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ فلماذا اختلفت الفاصلة مع أن الآيات ربما تكون متحدة في المعنى؟ – ربما للرائي أن تكون متحدة لأول وهلة -.

قوله تعالى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ هذه في صدر سورة البقرة والحديث عن المنافقين وخطر المنافقين في المجتمعات ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ (سورة البقرة)، قال الله عز وجل: ﴿وَتَرَكَهُمْ﴾ وقال تعالى:﴿ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ﴾ ﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾، لا يستطيعون إرجاع هذا النور الذي ذُهب به، هم لا يستطيعون إرجاعه، ولا الرجوع إليه، والمقصود بالنور هو كتاب الله عز وجل وآيات الله تبارك وتعالى وهدى الله عز وجل، فقال الله عز وجل: ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17)﴾ ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ جموع كثرة ﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ لا يستطيعون الرجوع إلى هذا النور، هذا أمر، من ناحية أخرى أنهم هم لا يستطيعون إرجاعه، لا هم يستطيعون الرجوع ولا يستطيعون إرجاع النور، فقال الله عز وجل: ﴿ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ﴾ الترك في اللغة كما عند ابن منظور في (لسان العرب) هو: تخلية الشيء وعدم الرجوع له، أنت لما تترك شيئًا بمعنى أنك لن ترجع إليه، ﴿ وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) الدخان﴾ لن يرجع إليه، ﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾ [سورة يوسف:37].

الترك في اللغة يقتضي عدم الرجوع للشيء، لاحظ ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ و ﴿ وَتَرَكَهُمْ﴾ الله عز وجل تركهم وهذا عذاب لأولئك المنافقين، فإذن الترك في اللغة هو عدم الرجوع للشيء ﴿ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ [سورة البقرة:180] انتهى ومات فلن يرجع إليه، وقال الله عز وجلّ (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) [البقرة: 180] ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ﴾ [سورة النساء:7] انتهوا من الحياة، إذن الترك هو عدم الرجوع للشيء، يقول عنترة في المعلّقة يهدد أقرانه والأبطال:

ولقد خشيت بأن أموت ولم تدُر      للحرب دائرة على ابني ضمضم

الشاتمي عرضي ولم أشتمهما      والناذرين إذا لم ألقهما دمي

إن يفعلا فلقد تركت أباهما         جَزَر السباع وكل نسرٍ قشعم

إن يفعلا: أي لو قتلوني، فلقد تركت أباهما: تركته مائدة مفتوحة للسباع والنسور الجارحة.

إذن الترك عدم الرجوع للشيء، فانظر لمّا ختم الله تبارك وتعالى بقوله: ﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ وذلك لأمرين:

أولًا: ﴿ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ﴾ و ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ﴾ ثم لاحظ حالهم في قوله تعالى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ كيف سيرجع للحال الأولى مَن كان هذا وضعه؟! فهذه حال المنافقين، والقرآن يبين حجم خطورة المنافقين في كل زمان ومكان.

على حين أن الله عز وجل قال في آية أخرى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ وهذا ذمٌّ أشد مما في الآية الأولى، فقال تعالى: ﴿ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ من هم الذين لا يعقلون؟ هم الكفار قطعًا، ولكن قوله تعالى في الآية الثانية: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171) البقرة﴾ جاء عند البغوي في (معالم التنزيل) وعند غيره أن أولئك كحال البهائم التي يدعوها الراعي وتسمع أصواتًا ولا تفقه ما يقول ذاك الراعي، فقال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171)﴾ وهذا ذم أشد مما في الآية الأولى، والدليل على أنه أشدّ قول الله عز وجلّ: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾ (ألفى) إذا جاءت في اللغة تأتي في مقام وفي سياق الذم، وقد جاءت في كتاب الله عز وجل ثلاث مرات، في قوله عز وجلّ في هذه الآية، وفي قوله عز وجل في سورة يوسف: ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾ (الآية 25) وهذا أسلوب ذم، وفي قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ (69)﴾ (سورة الصافات) وهذا أسلوب ذم، فألفى لا تأتي إلا في سياق الذم في اللغة.

فذمهم الله بقوله: ﴿ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾.

أبو ذؤيب الهذلي يقول في مرثية أبنائه:

ولقد حرصت بأن أدافع عنهم   فإذا المنية أقبلت لا تُدفَع

وإذا المنية أنشبت أظفارها      ألفيتُ كل تميمةٍ لا تنفع

ألفيت: أي علمت وتيقنت أن هذه أمور لا قيمة لها ولا تنفع، فقال ألفيت، إذن ألفى تأتي في مقام الذم.

ثم قال الله عز وجل: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾، إذن لا يعقلون لهذه الأوامر والنواهي ولهدى الله عز وجل، فهم كحال البهائم التي يناديها الراعي ولا تفقه شيئًا مما يقول وينادي به.

إذن الفاصلة جاءت في كتاب الله عز وجل لغرض دقيق، فالفاصلة تخدم المعنى وتكمل معنى الآية، وليست الفاصلة من قبيل تحسين اللفظ كما ذكر العلماء.

وقفة أخرى مع قول الله عز وجل: ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) آل عمران ﴾ فقال الله عز وجل في فاصلة الآية: ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ في حين أن الله عز وجل قال: ﴿ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) النحل ﴾ فختم الله عز وجل بقوله: ﴿ الْمُتَكَبِّرِينَ﴾، وأيضًا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) الزمر﴾، وهنالك رابعة في سورة غافر: ﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)﴾ فجاءت ﴿ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ آية وحيدة في القرآن، ذلك أن الآية تتحدث عن المشركين، ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ إذن الآية تتحدث عن المشركين، وأعظم الشرك هو الشرك بالله، ولكن الشرك جاء تفسيره وجاءت تعبيراته في القرآن الكريم في غير ما آية بـ(الظلم) كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)﴾ (سورة الأنعام)، ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة لقمان:13].

الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فهم وضعوا آلهة في غير موضعها، ولذلك لما نسبر كتاب الله عز وجل ونجري عليه مسحة سريعة وننظر إليه لوجدنا أن جُلّ الآيات بل كل الآيات التي خُتمت بالظلم تتحدث عن الشرك، أو عن وضع شيء في غير موضعه، كما قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ (79) يوسف ﴾ هذا ظلم، ويقول الله عز وجل في الأنبياء: ﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) الأنبياء﴾، إذن عندما نتأمل في كتاب الله وفي الفاصلة التي ختمت بـ (الظالمين) أو (الظالمون) نجد أنها إما تتحدث عن مشركين، أو عن وضع شيء في غير موضعه، هذا في جميع القرآن، هذا سبر لكتاب الله عز وجل. هنا قال الله تبارك وتعالى: ﴿بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ إذن هذه الفاصلة خدمت المعنى، وليس العكس كما يقول بعض المفسرين أنها جاءت لموافقة أواخر الآي في السورة، هكذا يردد بعض المفسرين أن هذه الآية وافقت أواخر الآي في السورة فحسب عندهم.

ويقول الله عز وجل: ﴿ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) النحل﴾ هؤلاء تكبروا عن آيات الله عز وجل، وأعرضوا عنها، وأحجموا عنها.

فهذه الفاصلة جاء ثلاث آيات في القرآن بقوله: ﴿مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ كل هذه الثلاث جاءت في الإعراض عن آيات الله عز وجل، يقول الله عز وجلّ: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ …﴾ إلى آخر السياق ثم قال الله عز وجل: ﴿ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) النحل ﴾.

كذلك في سورة الزمر: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ [الآية 71] فأولئك أعرضوا عن آيات الله عز وجل فاستحقوا وصف (المتكبرين) فقال الله عز وجل في نهاية السياق: ﴿ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)﴾.

وفي سورة غافر يقول الله عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ …﴾ إلى آخر السياق، ثم قال الله عز وجل: ﴿ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)﴾.

إذن ختم الله تعالى بـ (المتكبرين) في جميع الآيات الثلاث لأنها تتكلم عن الذين تكبروا عن آيات الله عز وجل.

يبقى لماذا تفضلت آية سورة النحل بقوله: ﴿ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ باللام؟، لماذا جاءت هذه الزيادة في آية سورة النحل؟ زيدت عليهم اللام تنكيلًا بهم وعذابًا لهم، أولئك الذين ذكرهم الله عز وجل في سورة النحل، ضلّوا أناسًا وضلوا أنفسهم، فجمعوا ضلالتين، في سياق الآيات: ﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ …﴾ إذن ضلوا أنفسهم وضلوا آخرين فجمع الله عليهم التنكيل والعذاب يوم القيامة ﴿ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)﴾ فجاءت اللام زيادة عليهم وتوكيدًا لهم.

موطن آخر يقول الله تبارك وتعالى فيه: ﴿ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [سورة الحديد:20] فقال الله عز وجل في الفاصلة: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ بضم الغين، وقال الله عز وجل أيضًا: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) فاطر﴾ فهل الغُرور هو الغَرور؟ هل الضمّ يتساوى مع الفتح؟ عندنا قاعدة في اللغة العربية تقول أن الضم أقوى الحركات، أقوى الحركات صوتيًا الضم، وأما أقواها إملائيًا فالكسر، هذه قاعدة مطّردة في اللغة. صوتيًا الضم أقوى؛ لأن الضم يحتاج إلى جهد عضلي كبير لإخراج الضم إخراجًا صحيحًا، فكل عضلات الفم تتحرك مع نطق الضم، على حين أن مع الكسر هناك بعض الأشياء لا تتحرك، إذن الضم أقوى، هذه القوة لها تأثير في المعنى، ليست قوة في الصوت فقط، إنما لها تأثير في المعنى، أما الفتح فهو أضعف بكثير من الضم، بخلاف ما يفهم بعض طلبة العلم أن الكسر أقوى من الضم، هذا إملائيًا، نحن لا علاقة لنا هنا في الإملاء نحن نتكلم عن الصوت، الصوت الضمّ أقوى.

فالغُرور أكثر معنى من الغَرور، إذ الغُرور جاء في تفسيرها الدنيا برمتها بملذاتها بما فيها، ﴿ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ بالضمّ، ﴿ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ بالفتح والغَرور بالفتح هو الشيطان فحسب، لاحظ لما جاء بالضم جاء بأكثر معنى، فالزيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى في اللغة، ولما جاء بالفتح جاء بما يناسب الفتح، لاحظ جمال كتاب الله عز وجل والفاصلة التي خدمت هذه الآيات، وخدمت المعنى والسياق، وهو أسلوب قرآني فريد أعطى هذه الفاصلة زيادة في المعنى على ما جاء فيها من معنى. وقال الله عز وجل في آية أخرى: ﴿ وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [سورة الحديد:14] الذي هو الشيطان، وهذا تفسيره عن ابن عباس عند ابن جرير رحمه الله تعالى في (جامع البيان).

إذن نقول أن الضمّ أقوى من الفتح نطقًا ومعنى وصوتًا، هذا في جميع اللغة، وكذلك لما قال الله عز وجل “كُرهًا” اختلف المعنى عنه بقوله “كَرهًا” ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ [سوة البقرة:214] كُره بالضم، وقال الله عز وجل أيضًا: ﴿ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا﴾ [سورة النساء:14]، إذن عندنا كُرهًا وعندنا كَرهًا، بالضم والفتح واختلف المعنى عليه بالضم والفتح، فالكُره بالضم هو المعاناة النفسية والبدنية، ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾ القتال يحتاج إلى جهد بدني وجهد نفسي، ولكن قول الله عز وجل في المنافقين: ﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) التوبة﴾ كَرهًا جهد نفسي فقط، فاختلف الفتح عن الضم صوتيًا ومعنويًا.

– الوقفة الرابعة: يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [سورة المائدة:110] فختم الله عز وجل بقوله: ﴿ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾، هذه الفاصلة جاءت في كتاب الله عز وجل تسع مرات، السحر هو خلاف الواقع كما نعلم، الساحر يعمل أعمالًا وأفعالًا خلاف الواقع، هي ليس لها حقيقة، ولا رصيد من الواقع ﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [سورة طه:66] هذا هو السحر، السحر في اللغة هو الصرف، الساحر يصرف سواء ذهنيًا أو بصريًا المشاهد عن الشيء إلى لا شيء، هذا هو الواقع في السحر على اختلاف في التعبير، إذن قول الله تبارك وتعالىِ: ﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي هذا ليس له واقع، فقال الذين كفروا هذا سحر، إذن متى يختم القرآن بهذه الفاصلة؟ إذا كانت الآية تتحدث عن وقائع وحقائق، فهنا تختم الآية بقوله تعالى: ﴿ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾، فإذا جاءت الآية بحقائق ووقائع جاءت هذه الفاصلة لتخدم هذا المعنى وتكمل هذا المعنى، فقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الواضحات، أشياء مرئية مشاهَدة وهي: آيات عيسى عليه السلام ﴿وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي ..﴾ [سورة المائدة:110] إلى آخر الآيات ﴿ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ﴾ لهذه الحقائق والوقائع والبينات الواضحات ﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ هذا ليس حقيقة.

وقول الله عز وجل: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) الأنعام﴾ لمسوا هذا الكتاب، إلى هذه الدرجة من الحقيقة والواقع، ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ﴾ مشاهَد، مُبصَر، مرئي، وحتى إلى درجة أنهم لمسوه بأيديهم ﴿ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أرأيت قلب الحقائق؟ فالآية جاءت بحقائق ووقائع وأشياء محسوسة ومشاهدة ومبصَرة.

وقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [سورة هود:7] أي قالوا هذا ليس حقيقة، فالكفار ردوا البعث وأنكروا البعث وجعلوه سحرًا، ﴿سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ سحر واضح.

وأيضًا يقول الله عز وجل: ﴿ قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) الأعراف﴾ وهذا سحر السحرة الذي ليس له واقع، ﴿ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ وصفه الله عز وجل بهذه العظمة.

ويقول الله عز وجل: ﴿ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) القمر﴾.

إذن هذه الآيات تحمل وقائع وحقائق فتختم هذه الآيات بقوله تعالى: ﴿ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أو ﴿ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ أو ﴿ سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ [سورة المدثر:24].

وأيضًا يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [سورة سبأ:43].

فكل هذه الآيات وغيرها تحمل حقائق ووقائع فجاءت الفاصلة مكملة لها بقوله تعالى: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ فاتّهم الكفار حقائق الله وقائعه ووآياته وكل ما جاءت به الرسل اتهموها ونفوها وقلبوها إلى سحر ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.

موطن آخر يقول الله تعالى فيه: ﴿ حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ [سورة الأنعام:25] فختم الله تعالى بقوله: ﴿ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ هذه الفاصلة جاءت في القرآن الكريم (8) مرات، الأساطير جمع أسطورة، والأسطورة كما نعلم هي الأكذوبة، الأكاذيب، فالكفار ردوا آيات الله عز وجل وردوا تنزيل الله تبارك وتعالى بقولهم ﴿ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾، ﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) الفرقان ﴾، فإذا كان المتحدَّث عنه تنزيل الله تبارك وتعالى تأتي هذه الفاصلة، ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) الأنعام﴾ أي قالوا هذا ليس حقيقة وليست آيات من لدن الله عز وجل إنما هو أساطير جاء بها – كما تزعم الكفار- النبي صلى الله عليه وسلم، فالآيات التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وصفها الكفار بالأساطير، وهذا عين الجحود والكفر، هذا إفلاس الكفار، إفلسوا من كل شيء، فردّوا الحقائق والوقائع والآيات إلى أساطير، فهم لا يرون أن الله عز وجل أنزل شيئًا. ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (24) النحل﴾ هم لا يرون أن الله عز وجل أنزل شيئًا والآية هنا في هذا المعنى، ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ﴾ أَسَاطِيرُ بالضم هي هنا خبر لمبتدأ محذوف، ليست فاعل كما يعربها بعض المفسرين إنما هي خبر، لو أعربناها فاعل لاختل المعنى اختلالًا كبيرًا.

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (24)﴾ يعني هي أساطير لم ينزل الله شيئًا، ويزعمون أنها أساطير جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أعربناها فاعل (وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِير) يعني أنزل أساطير، هنا لا يأتي المعنى، فهم أصلًا ينفون كل النفي أن الله تعالى أنزل شيئًا.

﴿ … كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ  …﴾ (سورة الملك) أصلًا.

في آية سورة النحل تعرب “أساطير” خبرًا، لاستقامة المعنى: هي أساطير.

أما في حال المؤمنين: ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ﴾ [سورة النحل:30]  ﴿ خَيْرًا﴾ هنا مفعول به، أنزل خيرًا، فيختلف المعنى.

وكما ذكرت الأساطير جمع أسطورة، وهذه الفاصلة جاءت في غير ما آية من كتابه في حال الحديث عما أنزل الله تبارك وتعالى وأن الكفار وصفوه بالأساطير وأنه ليس حقيقة.

﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) الأحقاف ﴾.

إذن نحن نرى أن هذه الفاصلة أكملت المعنى وأتمته أيما إتمام، وليس من قبيل تحسين اللفظ، ولا تجميل السياق، بل هي مكملة للآية ومتممة لها.

موطن آخر من مواطن الفاصلة في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)﴾ (سورة الأنعام) هذه الفاصلة جاءت (4) مرات في القرآن الكريم، على حين أن الله عز وجل يقول: ﴿ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) يونس ﴾.

فمتى يختم القرآن بقوله: ﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ وبقوله ﴿ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾؟ الإفك في اللغة هو الكذب، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ﴾ [سورة النور:11] فالإفك أصله الكذب، ﴿ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ [سورة الجاثية:7] أي كذاب. هذه الآية وغيرها كذب بها المشركون قوله تعالى ﴿ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ كيف تكذبون بألوهية الله عز وجل وبربوبيته وبقوله؟! ﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ كيف يكون لكم هذا التكذيب كما يقول الزجاج في (معاني القرآن) وغيره من المفسرين.

أيضًا قال الله عز وجل: ﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) يونس﴾ هذه حقائق ووقائع، فكيف تكذبون بألوهية الله عز وجل وبربوبيته وأحقيته بالعبادة؟! وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) فاطر ﴾ ما من معبود إلا الله ﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ أي كيف تكذبون بهذه العبودية لله عز وجل؟! على حين أن الله عز وجل يقول: ﴿ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) يونس﴾ جاءت هذه الفاصلة ﴿ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ مرتين في القرآن الكريم، الصرف في اللغة هو تحويل الشيء إلى آخر كما يقول الخليل بن أحمد إمام اللغة، إذن الصرف في اللغة أن تحول شيئًا إلى شيء آخر، وهو تحويل الأمر من جهة إلى جهة أخرى، هذا هو الصرف في اللغة، هو تحويل الشيء من جهة إلى جهة أخرى.

يقول الله تبارك وتعالى على لسان يوسف: ﴿ … وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ(33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ..﴾ [سورة يوسف] صرفًا كاملًا.

أنت لما تقول أنصرفنا من الصلاة يعني كنا بوجوهنا وقلوبنا وبكل ما نملك باتجاه الله عز وجل فأنصرفنا إلى الدنيا، فانصرف الناس من الصلاة، من جهة إلى جهة أخرى بكل ما تحمله هذه الجهة، لذلك يدعو المؤمنون ربهم بقولهم: ﴿ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾ [سورة الفرقان:65] أصرفه صرفًا كاملًا، ﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾ أي لصيق مغرم بالكفار، الغارم والغريم، الدائن والمديون، الدين يلحق مدينه، لاصقٌ به، تصور هذا الوصف الجميل في الآية ﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾ عاشق للكفار، مغرّم بالكفار.

﴿ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾ إذن الصرف في اللغة هو تحويل الشيء إلى جهة أخرى، وهذه الآيات تحتمل وتتضمن هذه المعاني، يقول الله عز وجل: ﴿ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾ أليس على طرفي نقيض؟ ﴿ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ كيف صرفتم عن هذا الحق إلى الضلال؟ فانظر إلى عظمة كتاب الله عز وجل لما ختم وجاء بهذه الفاصلة مناسبة لهذا المعنى في سياقها.

ويقول الله عز وجل في سورة الزمر: ﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾ هذه تحولات للإنسان في بطن أمه ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [الآية 6] لاحظ الآية تحدثت وبينت خلق الإنسان وتحولاته في بطن أمه، فبيّن الله عز وجل وخاطب الكفار: كيف تصرفون عن ألوهية الله عز وجل وعن ربوبيته وأحقيته في العبادة؟، فانظر إلى هذه الفاصلة أتمت المعنى أيما إتمام!.

– أيضًا من الفواصل قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) المدثر﴾ وهذه الفاصلة خالفت ما قبلها من الفواصل وما بعدها من الفواصل في السورة، وهذا رد على من يقول من المفسرين أن الفاصلة توافق أواخر الآي، فجعلوا هذا هو السبب الأول والرئيس في الفاصلة، فقال الله عز وجل في وصف أحد كفار قريش وأحد أئمة الكفر: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14)﴾ لاحظ الفاصلة ﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)﴾ فسكنت الفاصلة لأن الزيادة لن تحدث، ﴿ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)﴾ هذا رد على من يقول أن الفاصلة تخدم أواخر الآي، لو كانت تخدم أواخر الآي لقال: ثم يطمع أن أزيدا، ولكن هذا فعل مضارع لا يدخله ألف الإطلاق في اللغة.

يقول الله عز وجل في سورة الأحزاب: ﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الآية 4] لاحظ هذه الفاصلة خالفت الفواصل في سورة الأحزاب، على حين أنه في آخر السورة يقول الله عز وجل على لسان المعذبين: ﴿ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ [الآية 67] ونحن نعلم أن المعرف بـ (أل) لا تدخله الألف، لما تنصب معرفًا بـ (أل) تقول: أخذت الكتابَ لا تقول: أخذت الكتابا، هنا لا حاجة لمجيء ألف الإطلاق في الكلمة، لأن الكلمة أصلًا معرفة بـ (أل) فلا يدخلها ألف الإطلاق في اللغة، أما هنا فدخلت ألف الإطلاق لصراخ هؤلاء المعذبين في النار (نعوذ بالله)! ﴿ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ فجاءت ألف الإطلاق لتبين صراخهم وعويلهم في النار.

أما الآية الأولى سكنت ولم تزد، لأن الزيادة أصلًا لم تحدث لهذا الكافر الذي أمده الله في الدنيا بكل شيء، ﴿ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14)﴾ وهو الوليد بن المغيرة، فقد كان أحد أصحاب الملايين بمكة، كما يقال ملياردير بمكة، حتى يقول بعض المؤرخين أن الذهب كان يقسم عنده بالفؤوس، ويقول الله تبارك وتعالى فيه: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12)﴾ أي يزيد كل لحظة، لكن ما الفائدة من هذه الأموال؟ هو خالد مخلد في النار. فانظر إلى هذه الفاصلة خالفت أواخر الآي لأجل المعنى، فالمعنى لن يتم والفاصلة سكنت وهذا من جميل التعبير في كتاب الله عز وجل. هذه الفاصلة لها نظائر كثيرة في القرآن الكريم، يضيق المقام بذكرها.

أسأل الله العظيم بمنه وكرمه وجوده أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وجلاء همومنا وأحزاننا، وقائدنا إلى الجنة.

اللهم اختم بالصالحات آجالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد.

 

الشيخ صالح بن عبد الله التركي

مركز تفسير للدراسات القرآنية

التفريغ لموقع إسلاميات حصريًا

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×