اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير سورة طه بأسلوب بسيط جدًّا

المشاركات التي تم ترشيحها

سلسلة كيف نفهم القرآن؟ (1)

تفسير الربع الأول من سورة طه

 

من الآية 1 إلى الآية 4: ﴿طه : سَبَقَ الكلام على الحروف المُقطَّعة في أول سورة البقرة.

﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ - أيها الرسول - ﴿لِتَشْقَى ﴾ أي ما أنزلناه عليك لتُرهِق نفسك بما لا طاقة لك به من العمل، (وقد كان هذا رداً على النَضر بن الحارث الذي قال: إن محمداً شَقِيَ بهذا القرآن، لِمَا فيه من التكاليف).

 

﴿إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى: يعني لكننا أنزلناه موعظة يَتذكر بها مَن يخاف عقاب اللهِ تعالى، فيؤدي فرائضه ويَجتنب معاصيه، (واعلم أنّ القرآن قد نزل تذكِرةً، لأن التوحيد مستقر في الفِطرة البشرية، وأما الإشراك فهو دَخيلٌ عليها، لِذا فالقرآن يُثير التوحيد الكامن في فِطرة الإنسان).

 

وقد نُزِّل هذا القرآنُ ﴿تَنْزِيلًا - يعني آية بعد آية، بحسب الأحوال والأحداث - ﴿مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا وهو اللهُ تبارك وتعالى، خالقُ كل شيئٍ ومالكه ومُدَبِّر أمْره.

 

الآية 5، والآية 6: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى أي عَلا وارتفع على العرش (استواءً يليقُ بجلاله وعظمته)، ﴿لَهُ ﴾ سبحانه ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ خَلْقًا ومُلْكًاوتدبيرًا وإحاطة، ﴿وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴾ أي: وكذلك له سبحانه ما تحت التراب (كالمعادن، وغير ذلك مِمّا في باطن الأرض).

 

الآية 7: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ يعني: وإن تُعلِن قولك - أيها الرسول - للناس أو تُخفِهِ عنهم: ﴿فَإِنَّهُ ﴾ سبحانه لا يَخفى عليه شيء، إذ ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ أي يَعلم سبحانه السر وما هو أخفى من السر (مِمّا تُحَدِّث به نفسك).

 

الآية 8: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أي الذي لا معبودَ بحقٍ إلا هو، ﴿لَهُ ﴾ وحده ﴿الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ الدالَّة على كماله وجلالِه، لا يُشاركه فيها أحدٌ مِن خَلقِه.

 

من الآية 9 إلى الآية 17: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى يعني: وهل جاءك - أيها الرسول - خبر موسى عليه السلام؟ ﴿إِذْ رَأَى نَارًا ﴾ مُوقدة في الليل - وذلك عندما كان راجعاً بأهله مِن أرض "مَدْيَن" إلى أرض "مصر" - ﴿فَقَالَ لِأَهْلِهِ ﴾ أي قال لزوجته - ومَن معها مِن خادم أو ولد -: ﴿امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا : أي انتظروني هنا، فقد أبصرتُ نارًا مُوقدة، وسأذهب لأراها ﴿لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ: أي لعلي أجيئكم منها بشُعلةٍ تَستدفئون بها وتوقدون بها نارًا أخرى ﴿أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ﴾ يعني أو أجد عندها هاديًا يَدُلّنا على الطريق (وكانَ قد ضَلّ الطريق إلى مصر بسبب ظُلمة الليل)، ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ ﴾ أي فلمّا وَصَلَ موسى إلى تلك النار، ناداه اللهُ تعالى: ﴿يَا مُوسَى ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ أي خالقك ورازقك ومُدَبِّر أمْرك ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ﴾ أي اخلع حذائك، فـ ﴿إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى يعني إنكالآن بوادي "طُوَى" المُبارك المُطَهَّر، (وقد أمَرَه سبحانه بخلع حذائه استعدادًا لمُناجاته).

 

وقال اللهُ له: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ - لتُبَلِّغ رسالتي إلى فرعون وبني إسرائيل - ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إليك مِنِّي: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا أي لا معبودَ بحقٍ إلا أنا ﴿فَاعْبُدْنِي ﴾ وحدي، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي أي لتَذكرني فيها، ﴿إِنَّ السَّاعَةَ التي يُبعًثُ فيها الناس مِن قبورهم ﴿آَتِيَةٌ ﴾ لابد مِن وقوعها، ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا ﴾ أي أُبالغ في إخفائها حتى أكاد أُخفيها عن نفسي،حتى لا يَعلم أحدٌ وقت مجيئها، وذلك ﴿لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى أي بما عَمِلتْ في الدنيا مِن خيرٍأو شر، (فالحكمة من إخفاء الساعة: أن يَعمل الناس وهم لا يدرون متى يموتون ولا متى يُبعَثون، فتكون أعمالهم بإراداتهم، لا إكراهَ عليهم فيها، فيكون الجزاء على أعمالهم عادلاً).

﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ: أي فلا يَصرفنَّك يا موسى عن الإيمان بالآخرة والاستعداد لها مَن لا يُصَدِّق بوقوعهاواتَّبع ما يوافق أهوائه وشهواته ﴿فَتَرْدَى ﴾ أي فتَهلك يا موسى إن أطعتَه.

 

وقد سأله سبحانه - وهو أعلم -: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى يعني: وما هذه التي تحملها في يمينك يا موسى؟، (واعلم أنّ اللهَ سبحانه قد سأله عن العصا ليُقرِّره بأنّ ما بيده عصاً مِن خشب، فإذا تحولت أمامه إلى حيةٍ تسعى: أيقنَ أنها آية أعطاها له ربه ذو القدرة الباهرة، ليُرسله بها إلى فرعون وملئه).

 

من الآية 18 إلى الآية 24: ﴿قَالَ موسى: ﴿هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا ﴾ أي أعتمد عليها في المشي، ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي: يعني أخبط بها ورق الشجر ليَتساقط فتأكله غنمي، ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ ﴾ أي منافع ﴿أُخْرَى ﴾ (فقد يُعَلِّق بها الزاد والماء، وقد يَقتل بها الأشياء الضارة كالعقارب والحيّات)، (وقد أطال موسى عليه السلام في هذا الجواب طلباً لمَزيد الأُنس بمُناجاة ربّه تبارك وتعالى)، و﴿قَالَ ﴾ اللهُ له: ﴿أَلْقِهَا يَا مُوسَى ﴾ ﴿فَأَلْقَاهَا ﴾ موسى على الأرض ﴿فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى: أي فانقلبت العصا - بإذن اللهِ تعالى - وأصبحت ثعباناً عظيماً يمشي على بطنه بسرعة، فخاف موسى وَوَلَّى هاربًا، فـ ﴿قَالَ ﴾ اللهُ له: ﴿خُذْهَا وَلَا تَخَفْ: أي خذ الحية، ولا تَخَفْ منها، فإننا ﴿سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى: أي سوف نُعيدها عصًا كما كانت في حالتها الأولى، ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ أي ضع يدك اليمنى تحت إبطك الأيسر واضمم عليها بعَضُدك: ﴿تَخْرُجْ بَيْضَاءَ - رغم اسمرار لون جسمك - ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ: أي من غيربَرَص، لتكون ﴿آَيَةً أُخْرَى ﴾ أي لتكون علامة أخرى مع العصا تدل على أنك رسول من عند الله.

 

وقد فعلنا ذلك ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى أي لكي نُرِيك مِن أدلتنا الكبرى ما يدلُّ على قدرتناوصِدق رسالتك، فـ ﴿اذْهَبْ ﴾ يا موسى - بهاتين الآيتين - ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى أي تجاوَزَ الحد في الكفر، وتجاوَزَ قدْره كبَشَر حتى ادَّعى الألوهية، فادعُهُ إلى توحيد اللهِ وعبادته، واطلب منه أن يُرسل معك بني إسرائيل لتَخرج بهم إلى أرض القدس.

 

من الآية 25 إلى الآية 35: ﴿قَالَ موسى: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أي وسِّع لي صدري لتحَمُّل أعباء الرسالة ﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أي سَهِّل مُهمتي عليَّ، وأعِنِّي على أدائها كما تحب وتَرضى، ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي: يعني وأطلِق لساني بفصيح الكلام حتى ﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ أي ليفهموا كلامي، (وقد قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: كانَ في لسانه عُقدة - يعني صعوبة في النطق - تمنعه من كثير من الكلام)، ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا أي مُعيناً ﴿مِنْ أَهْلِي ﴾ وهو ﴿هَارُونَ أَخِي ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي: أي شُدَّ به ظهري (والمعنى: قَوِّني به) ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي : يعني أشرِكه معي في النُبُوَّة وتبليغ الرسالة (والمعنى: اجعل هارون رسولاً كما جعلتني)، واجعله عَوناً لي على طاعتك والدعوةِ إليك ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ﴾ أي لنُنَزِّهك ونَنفي عنك كل ما لا يليقُ بك ﴿وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴾ (وذلك في سِرِّنا، وأثناء دعوة الناس إلى توحيدك، وتعريفهم بصفاتك، وإبلاغهم بأمرك ونهيك، وتذكيرهم بنعمك)، (وفي هذا دليل على فضل التسبيح والذكر، إذ لولا عِلْم موسى بحب اللهِ لهما، لَمَا توَسَّلَ بهما لقضاء حاجته)، ﴿إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ﴾ لا يَخفى عليك شيءٌ مِن حالنا، (وهذا توسُّل من موسى إلى اللهِ تعالى بعلمه ليَقبل دعائه).

 

من الآية 36 إلى الآية 44: ﴿قَالَ اللهُ تعالى: ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى : أي قد أعطيناك كل ما طلبتَ يا موسى، ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴾ أي: ولقد أنعمنا عليك نعمةً أخرى حين كنتَ رضيعًا - وكان فرعون يَذبح أبناء بني إسرائيل الذكور - ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴾ أي حين ألهَمْنا أمَّك هذا الإلهام: ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ: أي ضعي ابنك موسى بعد ولادته في صندوق ﴿فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ: أي ثم ضعيه في النيل، ﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ﴾ أي: فأمَرَ اللهُ النيل أن يُلقي الصندوق على شاطئ قصر فرعون.

 

ثم وَضَّحَ سبحانه الحكمة من هذا الأمر فقال: ﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ﴾ وهو فرعون، حيث تربيتَ يا موسى في بيته، فنجَّيتُك بذلك من القتل، ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾ ليُحبك الناس - وخاصةً امرأة فرعون التي مَنَعتْ فرعون وجنوده مِن قتلك - ﴿وَلِتُصْنَعَ ﴾ يعني: ولِتُرَبَّى في بيت فرعون ﴿عَلَى عَيْنِي ﴾ أي تحت بَصَرِي وتحت رعايتي، (وفي الآية إثبات صفة العين لله تعالى كما يليق بجلاله وكماله).

 

وأنعمنا عليك مرةً أخرى ﴿إِذْ تَمْشِي أي حينَ كانت تمشي ﴿أُخْتُكَ ﴾ تتبعك وأنت في الصندوق ﴿فَتَقُولُ ﴾ لمن أخذوك: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ﴾ أي يُرضِعه لكم ويَرعاه؟ ﴿فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ ﴾ بعد ما صِرتَ في أيدي فرعون ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا : أي حتى تفرح بنجاتك من الغرق والقتل ﴿وَلَا تَحْزَنَ ﴾ على فراقك.

 

﴿وَقَتَلْتَ نَفْسًا: أي واذكر حين قتلتَ الرجل المصري خطأً ﴿فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ﴾ وهو غَمِّ فِعْلك (حينَ استغفرتَنا فغفرنا لك)، وغَمّ خوفك مِن أن تُقتَل (حين تآمَروا ضدك ليقتلوك فنَجَّيناك منهم)، ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا: أي وبذلك ابتليناك ابتلاءً شديداً، فخرجتَ خائفًا إلى أهل"مَدْيَن" ﴿فَلَبِثْتَ أي فمَكَثتَ ﴿سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ﴾ تَرعى غنم الرجل الصالح عشر سنين، ﴿ثُمَّ جِئْتَ ﴾ - مِن "مَدْيَن" إلى جبل الطور بسيناء - ﴿عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ﴾ أي في الموعد الذي قدَّرناه لإرسالك إلى فرعون، ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي : يعني وقد أنعمتُ عليك هذه النعم، وابتليتك هذه الابتلاءات اختيارًا مِنِّي لك، لتكون قادراً على تحَمُّل تبليغ رسالتي، والقيام بأمري ونهيي.

 

وقال اللهُ له: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ هارون ﴿بِآَيَاتِي ﴾ الدالة على توحيدي وكمال قدرتي وصِدق رسالتك (وهي العصا واليد)، ﴿وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴾ أي: ولا تَضْعُفا عن مُداومة ذكري (فإنّ فيه عَونكما على أداء رسالتكما)، ﴿اذْهَبَا ﴾ معًا ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ ﴾ فـ ﴿إِنَّهُ طَغَى ﴾ أي تجاوَزَ الحد في الكفر والظلم، ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ﴾ أي قولا لطيفًا خالياً من الغِلظة والعنف ﴿لَعَلَّهُ ﴾ بسبب القول اللين ﴿يَتَذَكَّرُ ﴾ ما يَنفعه فيفعله ﴿أَوْ يَخْشَى ﴾ ما يَضُرُّه فيتركه، وبالتالي يَتوب ويُسلِم للهِ تعالى، ويُرسِل معكما بني إسرائيل، (فسبحانَ اللهِ العظيم، إذا كانَ اللهُ تعالى قد أمَرَهما أن يَدعُوا فرعون الكافر بالرفق واللين، فما بالنا بدعوة المسلمين إلى التوبة والاستقامة كيف ينبغي أن تكون؟).

 

الآية 45: ﴿قَالَا أي قال موسى وهارون - بعدما تقابلا -: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا ﴾ أي نخاف أن يُعاجلنا فرعون بالعقوبة قبل أن نَدعوه ونُبَيِّن له، ﴿أَوْ أَنْ يَطْغَى: يعني أو أن يَتمرد على الحق فلا يَقبله، ويزداد طغيانا وظلماً.

 

الآية 46، والآية 47، والآية 48: ﴿قَالَ اللهُ لموسى وهارون: ﴿لَا تَخَافَا ﴾ من فرعون، فـ ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا ﴾ بحِفظي ونصري ﴿أَسْمَعُ ﴾ ما تقولانه لفرعون وما يقوله لكما ﴿وَأَرَى ﴾ ما تفعلانه معه وما يفعله معكما، فلذلك سأحفظكما (بمَنع حدوث أيّ فِعل تخافان منه)، ﴿فَأْتِيَاهُ أي فاذهبا إليه إذاً ولا تخافا، ﴿فَقُولَا ﴾ له: ﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ : يعني إننا رسولان إليك من ربك، وقد أرسَلَنا إليك لتؤمن به وتُوحِّده، وتُرسِل معنا بني إسرائيل لنَذهب بهم إلى حيث أمَرَنا اللهُ تعالى (إلى أرض أبيهم إبراهيم)، ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ أي أطلِق سَراحهم ﴿وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ﴾ أي: ولا تُكلِّفهم ما لا يَطيقون من الأعمال، فإننا ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ ﴾ أي معجزة ﴿مِنْ رَبِّكَ ﴾ تدل على صِدقنا في دَعْوتنا، ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ أي: واعلم أنّ السلامةَ من عذاب الله لمن آمَنَ به واتَّبع هداه.

 

فاتَّبِع الهدى تَسلم، وإلاّ فأنت مُعرَّض للمَخاوف والهلاك والدمار، فـ ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى: يعني إنّ ربك قد أوحى إلينا أنّ عذابه على مَن كَذَّبَ برسالته، وأعرَضَ عن قبول دَعْوته.

 

الآية 49: ﴿قَالَ فرعون لهما: ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ﴾، (ولعل فرعون ذَكَرَ موسى فقط ليُذَكِّره بنعمة تربيته في بيته، واللهُ أعلم).

 

من الآية 50 إلى الآية 55: ﴿قَالَ له موسى: ﴿رَبُّنَا ﴾ هو ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ﴾ أي خَلْقه اللائق به على أحسن صُنعٍ ﴿ثُمَّ هَدَى ﴾ أي أرشَدَ كل مخلوق إلى الانتفاع بما خلقه اللهُ له (وهنا قد أفحَمَ موسى فرعون وقطع حُجَّته بما ألهَمَه اللهُ مِن عِلمٍ وبيان) فـ ﴿قَالَ ﴾ فرعون لموسى - ليَصرفه عن تلك الحُجَج خوفاً من الهزيمة أمام مَلَئه -: ﴿فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى: يعني فما شأن الأمم الماضية التي سبقتْنا إلى الإنكار (كقوم نوح وعاد وثمود)؟

 

فعرف موسى أنّ فرعون يريد أن يَصرفه عن الحقيقة، فـ ﴿قَالَ له ﴿عِلْمُهَا : أي عِلْمُ تلك الأمم - فيما فَعَلَت - ﴿عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ﴾ وهو اللوح المحفوظ، وسيَجزيهم سبحانه بأعمالهم، فإنه ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي ﴾ أي لا يُخطئ في أفعاله وأحكامه على عباده ﴿وَلَا يَنْسَى شيئًا من أفعالهم، إذ أفعاله سبحانه تدور بين العدل والفضل والحكمة.

 

ثم عادَ موسى يُذَكِّر فرعون بقضية الخَلق، ليَستدل بها على توحيد اللهِ تعالى، فقال: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ﴾ أي جَعَلها مُيَسَّرةً لكم للانتفاع بها - في الزراعة وغير ذلك - وللانتفاع بما عليها من المخلوقات ﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا : أي وجَعَلَ لكم فيها طُرُقًا كثيرة، لتهتدوا بها في الوصول إلى الأماكن التي تقصدونها، ﴿وَأَنْزَلَ سبحانه ﴿مِنَ السَّمَاءِ مَاءً واحداً ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى أي أنواعًا مختلفة من النباتات، (وقد كانت هذه الجملة: ﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى هي مِن قول اللهِ تعالى تتميماً لكلام موسى عليه السلام، وتذكيراً لأهل مكة باستحقاق اللهِ وحده للعبادة).

 

وفي الآية التفات من ضمير الغائب: ﴿ أنزل ﴾ إلى ضمير المتكلم الجمعي: ﴿ أخرجنا ﴾، لِيجعل الأذهان تنتبه إِلَى أَنّ هذَا النبات يُسقَى بماءٍ واحد ولكنه يَختلف في شكله ولونه وطعمه، وكذلك فإنه لَمَّا كان الماءُ واحداً، والنباتُ جَمعاً كثيراً، ناسَبَ ذلك إفراد الفِعل: ﴿أَنْزَلَ﴾، وجَمْع الفِعل: ﴿أَخْرَجْنَا﴾.

 

﴿كُلُوا - أيها الناس - من طيِّبات ما أنبتنا لكم، ﴿وَارْعَوْا ﴾ فيه ﴿أَنْعَامَكُمْ ﴾ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ المذكور - من إنزال المطر وإنبات النبات لِتغذية الإنسان والحيوان - ﴿لَآَيَاتٍ: يعني لَعلامات على قدرة اللهِ تعالى واستحقاقه وحده للعبادة، ﴿لِأُولِي النُّهَى أي يَنتفع بهذه الآيات أصحابا لعقول السليمة (إذ لا يُعقَلُ أبدًا أن يَخلُقَ سبحانه ويُعبَد غيرُه، وأن يَرزُقَ ويُشكَر غيرُه!).

 

﴿مِنْهَا أي مِن الأرض التي يَخرج منها النبات: ﴿خَلَقْنَاكُمْ أيها الناس (بخَلق أصلكم الأول - وهو أبيكم آدم - من تراب)، ﴿وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ بعد موتكم، ﴿وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى أي: ومنها نُخرجكم أحياءً مرة أخرى للحساب والجزاء.

 
 

الربع الثاني من سورة طه

 

• الآية 56، والآية 57، والآية 58: ﴿ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ يعني أرَيْنا فرعونَ ﴿ آَيَاتِنَا كُلَّهَا الدالة على قدرتنا ووجوب توحيدنا وصِدْقِ رسالة موسى ﴿ فَكَذَّبَ بها، ﴿ وَأَبَى أي امتنع عن قَبول الحق.

ولمَّا رأى فرعون الآيات وشَعَرَ بالهزيمة، أراد أن يَدفعها بالتمويه على الناس، حتى لا يَتَّبعوا موسى في دَعْوته ويَتأثروا بأدلته، فـ ﴿ قَالَ لموسى: ﴿ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى؟ أي أردتَ أن تُخرج المصريين من مصر، وتسكنها أنت وبنو إسرائيل لتستولوا على خيراتها، (وقد قصد بالسحر هنا: العصا واليد)، وقال فرعون: ﴿ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ﴿ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا مُحَدّدًا - ليُبارزك فيه السَحَرة - ﴿ لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، واجعل مكان المُناظَرة ﴿ مَكَانًا سُوًى أي مكاناً مستوياً صالحاً للمبارزة (كأن تكون ساحة كبرى مكشوفة لكل مَن يحضر المناظرة).

 

الآية 59: ﴿ قَالَ موسى لفرعون: ﴿ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ أي يوم العيد، حين يَتزيَّن الناس ويقعدون عن العمل (وقد كان ذلك اليوم يوم عيد للمصريين)، ﴿ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًىيعني: وأطلب منكم أن يَجتمع الناس من كل مكان - لحضور المناظرة - وقت الضحى، (وقد اختار موسى يوم العيد ووقت الضحى، لأنه عَلِمَ أنّ اللهَ تعالى سيَنصره على السَحَرة ويُظهِر الحق، فأحَبَّ أن يكون الوقت مناسباً لكثرة المتفرّجين في وَضَح النهار وقبل اشتداد الحر).

 

الآية 60: ﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ ﴾: أي فانصرف فرعون - مِن مجلس الحوار بينه وبين موسى وهارون - في كبرياءٍ وعناد ﴿ فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي جَمَعَ سحرته ﴿ ثُمَّ أَتَى في الموعد المحدد للمناظرة.

 

الآية 61: ﴿ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أي قال موسى للسَحَرة - واعظاً لهم -: ﴿ وَيْلَكُمْ أي احذروا الهلاك، و ﴿ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا بسِحركم المُخادِع (وذلك بأن تقفوا في وجهى، وتزعموا أنّ معجزاتي هي نوع من السحر، وتنصروا ما أنتم عليه من الباطل) ﴿ فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ﴾: أي حتى لا يُهلككم سبحانه بعذابِ إبادةٍ واستئصال، ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى أي: وقد خَسِرَ مَن كَذَبَ على اللهِ أو كَذَبَ على الناس.

 

الآية 62، والآية 63، والآية 64: ﴿ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي فاختلف السَحَرة فيما بينهم في شأن موسى عندما سمعوا كلامه: (هل صاحب هذا الكلام ساحر أو هو رسولٌ من عند اللهِ حقاً؟)، ﴿ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ﴾: أي تحدّثوا سرًا فيما بينهم ليتفقوا على قولٍ واحد، فـ ﴿ قَالُوا: ﴿ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ﴾: يعني إنّ موسى وهارون ساحران ﴿ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ﴾: أي يريدان أن يَنفردا بصناعة السحر العظيمة (المثالية) التي أنتم عليها، فبذلك تَخرجوا من أرضكم بإهمال الناس لكم وإقبالهم على سِحرهما، (وقد أرادوا بهذا الكلام إثارة الغيرة والتعصُّب لعاداتهم ومَذهبهم ومَصدر عَيشهم)، إذاً ﴿ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ﴾: يعني أحكِموا كيدكم مِن غير اختلافٍ بينكم، ﴿ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا يعني ألقوا ما في أيديكم مرة واحدة، لتَبْهَروا الأبصار، وتغلبوا سِحر موسى وأخيه، ﴿ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىأي قد فاز اليوم بحاجته مَن عَلا على خَصمه فغَلَبَه وقَهَرَه.

 

ويُحتمَل أن تكون هذه الجملة: ﴿ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى هي مِن قول فرعون وملئه، وقد أرادوا بها تشجيع السَحَرة، عندما رأوا اختلافهم وتأثُّرهم بكلام موسى، واللهُ أعلم.

الآية 65: ﴿ قَالُوا أي قال السَحَرة: ﴿ يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاكَ أولاً ﴿ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ﴾.

 

من الآية 66 إلى الآية 70: ﴿ قَالَ لهم موسى: ﴿ بَلْ أَلْقُوا ما معكم أولاً، فألقَوا ما في أيديهم ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾: أي فتخيَّل موسى - مِن قوة سِحرهم - أنّ حبالهم وعِصيَّهم أصبحتْ حياتٍ تمشي، ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى أي فشعر موسى في نفسه بالخوف (مِن أن يُفتَن الناس بالسَحَرة قبل أن يُلقِي العصا)، فـ ﴿ قُلْنَا أي قال اللهُ لموسى: ﴿ لَا تَخَفْ مِن سِحرهم ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَىيعني أنت الغالب المنتصر عليهم وعلى فرعون وجنوده، ﴿ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ يعني: وألقِ العصا التي في يمينك: ﴿ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا أي تبتلع حبالهم وعِصيَّهم، فـ ﴿ إِنَّمَا صَنَعُوا يعني إنّ ما صنعوه أمامك هو ﴿ كَيْدُ سَاحِرٍ أي مَكْر وتخييل ساحر، لا بقاءَ له ولا ثبات، ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى أي: ولا يفوز الساحر بمطلوبه حيثُ كان.

فألقى موسى عصاه فبلعتْ ما صنعوا، فلمّا شاهد السَحَرة ابتلاع العَصا لكل حبالهم وعِصِيِّهم: عرفوا أنّ ما جاءَ به موسى ليس سِحراً وإنما هو معجزة سماوية، ﴿ فَأُلْقِيَ السَحَرة على الأرض ﴿ سُجَّدًا للهِ رب العالمين، نتيجةً لانبهارهم مِن عَظَمة المعجزة، و ﴿ قَالُوا: ﴿ آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (إذ لو كانَ هذا سِحرًا ما غُلِبْنا).

 

الآية 71: ﴿ قَالَ فرعون مُهَدِّداً السَحَرة - ليَدفع عن نفسه شر الهزيمة -: ﴿ آَمَنْتُمْ لَهُ يعني هل صدَّقتم موسى وأقررتم له برسالته ﴿ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ بذلك؟ ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ﴾: يعني إنّ موسى لَعَظيمُكم ﴿ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فلذلك اتَّبعتموه، واتفقتم معه على الهزيمة قبل الخروج إلى ساحة المُناظرة، (وقد أراد فرعون بهذا الكلام: التمويه على الناس حتى لا يتَّبعوا السَحَرة ويؤمنوا كإيمانهم).

وقال فرعون للسَحَرة: ﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ أي بِقَطْع اليد اليُمنَى مع الرجل اليُسرى، أو اليد اليُسرى مع الرجل اليُمنى، ﴿ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ - بربط أجسادكم - ﴿ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي على جذوع النخل، وأترككم مُعَلَّقينَ لتكونوا عِبرةً لغيركم، ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ أيها السَحَرة ﴿ أَيُّنَا :أنا أو رب موسى ﴿ أَشَدُّ عَذَابًا من الآخر ﴿ وَأَبْقَى أي: وأدوَمُ عقاباً.

 

من الآية 72 إلى الآية 76: ﴿ قَالُوا أي قال السَحَرة لفرعون: ﴿ لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ﴾: يعني لن نُفَضِّلك ونختارك على ما جاءنا به موسى من الآيات الدالة على صِدقه، ﴿ وَالَّذِي فَطَرَنَا ﴾: يعني ولن نُفَضِّل ألوهيتك المزعومة على ألوهية اللهِ الذي خلقنا، ﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ﴾: أي فافعل ما أنت فاعل بنا، فـ ﴿ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾: يعني إنما سلطانك فقط في هذه الحياة الدنيا، وعذابك لنا سيَنتهي بانتهائها، وأما الآخرة: فسوف يَحكم اللهُ عليك فيها بالخلود في العذاب الأليم.

وأكَّدوا إيمانهم في غير خوفٍ فقالوا: ﴿ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا أي ذنوبنا الماضية ﴿ وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ في مُعارضة موسى، ﴿ وَاللَّهُ خَيْرٌ لنا منك - في جزاءه لمن أطاعه - ﴿ وَأَبْقَى عذابًا لمن عَصاه، ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا أي كافرًا به: ﴿ فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ يُعَذَّب بها، ﴿ لَا يَمُوتُ فِيهَا فيستريح، ﴿ وَلَا يَحْيَا حياةً يَهنأ بها، ﴿ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا أي لهم المنازل العالية، وهي ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ أي جنات الخلود التي ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أي تجري الأنهار من تحت أشجارها وقصورها ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴿ وَذَلِكَ النعيم المقيم هو ﴿ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾: أي هو ثواب مَن طَهَّرَ نفسه من الشِرك والمعاصي (وذلك بالإيمان والتوبة والعمل الصالح)، (ولعل هذا الكلام الذي قاله السَحَرة قد تعلَّموه عن طريق الاستماع إلى دعوة موسى وهارون، لأن موسى وهارون أقاما بين المصريين زمناً طويلاً يدعوانهم إلى توحيد اللهِ تعالى والإيمان باليوم الآخر، فلمَّا أيْقَنَ السَحَرة أنّ موسى رسولٌ من عند الله، قالوا هذا الكلام بيقينٍ تام).

 

الآية 77، والآية 78: ﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي أي اخرُج ليلاً ببني إسرائيل من "مصر"، ﴿ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا ﴾: أي فاتِّخِذْ لهم في البحر طريقًا يابسًا، (وذلك بعد أن أمَرَه سبحانه بضرب البحر بعصاه، فانفلق البحر فرقتين، وأصبح هناك طريقاً يابساً في وسط البحر)، وقال اللهُ له: ﴿ لَا تَخَافُ دَرَكًا - هذا وعدٌ لموسى بأنه لن يكون خائفاً من فرعون وجنوده أن يلحقوا بهم، ﴿ وَلَا تَخْشَى غرقًا في البحر.

فسار موسى ببني إسرائيل وعَبَرَ بهم في البحر، ﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ، فلمَّا دخلوا البحر ورائهم: أطبَقَ اللهُ تعالى عليهم البحر ﴿ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾: أي فغمرهم من الماء ما لا يعلمه إلا الله، فغرقوا جميعًا (وذلك بعد أن نجَّى اللهُ موسى وبني إسرائيل).

 

من الآية 79 إلى الآية 82: ﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ بما زيَّنه لهم من الكفر والتكذيب، ﴿ وَمَا هَدَى أي: ولم يَهدهم إلى سبيل النجاة، إذ كان يَعِدُهم بقوله: ﴿ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾.

واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿ وَمَا هَدَى هو تأكيد لقوله تعالى: ﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ ﴾، إذ الشيء يؤكَّد بنفي ضِدّه، وهذا كقوله تعالى عن الأصنام: ﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ.

وقال اللهُ لبني إسرائيل بعد أن نجّاهم: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون، ﴿ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ﴾: أي وحددنا لكم موعداً - عند الناحية اليُمنَى لجبل الطور بـ "سيناء" - لإنزال التوراة على موسى هِدايةً لكم،

(ولعل المقصود من وَصْف جانب الجبل بـ"الأيمن" أي الناحية اليُمنَى لموسى، لأنّ الجبل ليس له يمين وشمال، واللهُ أعلم).

 

﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وهو شيءٌ يُشبهُ الصَّمغ وطَعْمُه كالعسل، ﴿ وَالسَّلْوَى وهو طائرٌ يُشبه السّمانى، وقلنا لكم: ﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾: أي كلوا مِن رِزقنا الطيب، أو: (كلوا من حلال الطعام والشراب)، ﴿ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ أي لا يتعدى أحدٌ منكم على حق أخيه في الطعام والشراب، (أو لعل المقصود: لا تكفروا بنعمة اللهِ عليكم، ولا تتركوا شُكره وتَعصوه، ولا تُسرِفوا في تناول الطعام والشراب) ﴿ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أي حتى لا يَنزل عليكم غضبي، ﴿ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ﴾: يعني ومَن يَنزل عليه غضبي فقد هَلَكَ وخسر، ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ مِن ذنبه وشِركه ﴿ وَآَمَنَ باللهِ ورُسُله، وبجميع ما أخبر به الرُسُل من الغيب ﴿ وَعَمِلَ صَالِحًا تصديقًا لتَوبته ﴿ ثُمَّ اهْتَدَىأي استقام على ذلك حتى الموت.

 

 

 

تفسير الربع الثالث من سورة طه

 

 

الآية 83، والآية 84: ﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ﴾ (يُخبر تعالى أنه سأل موسى عليه السلام - وهو أعلم -: (ما الذي جعلك تترك قومك يا موسى وتأتي قبلهم؟)، (وقد كان هذا بعد أن نَجّى اللهُ بني إسرائيل من فرعون وجنوده، فأمَرَ اللهَ موسى أن يأتي مع بني إسرائيل إلى جبل الطور - وهم في طريقهم إلى أرض القدس - لإنزال التوراة، ولكنّ موسى استعجل في المسير إلى الموعد، فاستخلف أخاه هارون على بني إسرائيل، ليسير بهم ببطء حتى يلحقوا بموسى عند جبل الطور).

 

واعلم أنّ اللهَ سبحانه قد سأل موسى عن سبب استعجاله ليُخبره بما جرى لقومه مِن بعده، فـ ﴿ قَالَ موسى - مُجِيباً ربه سبحانه وتعالى -: ﴿ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي : يعني إنهم ليسوا ببعيدينَ مِنِّي، وسوف يَلحقونَ بي، ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى أي: واستعجلتُ المجىء إليك ربي، طلباً لرضاك عني.

(وفي هذا دليل على مشروعية طلب رضا اللهِ تعالى، ولكنْ بما شَرَعه الله، لأنّ اللهَ تعالى لم يأمر موسى بهذا الاستعجال، ولم يأمره بترك قومه وراءه، ولذلك تَرَتَّبَ على استعجال موسى شَرٌ كبير، كما سيأتي).

 

الآية 85، والآية 86: ﴿ قَالَ اللهُ لموسى: ﴿ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ أي اختبرنا قومك بعد فِراقك لهم، ﴿ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ بصُنع العجل ودَعْوتهم إلى عبادته وترْك المسير ورائك.

وانتهت المُناجاة، وأعطى اللهُ الألواح التي فيها التوراة لموسى، ﴿ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ عليهم، ﴿ أَسِفًا أي شديد الحزن على فِعلهم، فـ ﴿ قَالَ لهم:  ﴿ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ﴾ بإنزال التوراة (التي فيها نظام حياتكم وشريعة ربكم، لتَسعدوا بها في الدنيا والآخرة)؟ ﴿ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ يعني هل استبطأتم وَعْدَ ربكم، فلم تُتِمّوا ميعاده الذي حَدَّدَهُ لكم، وبدَّلتم دينه وعبدتم العجل؟!، ﴿ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ - بسبب هذا الفعل القبيح - ﴿ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي بترْككم المجيء بعدي وعبادة العجل؟!

 

من الآية 87 إلى الآية 91: ﴿ قَالُوا ﴿ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا أي لم يكن ذلك بإرادتنا واختيارنا، وما تجرّأنا على فِعل ذلك ﴿ وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أي حَمَلنا معنا - مِن مصر -  ﴿ أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ أي أثقالا مِن ذهب وحُليِّ قوم فرعون (وهو الذهب الذي استعاره نساء بني إسرائيل من جاراتهنّ المِصريات، بقصد الفرار به)، فشَعَرنا بالذنب مِمّا فعلناه وأردنا التخلص منه ﴿فَقَذَفْنَاهَا في حفرة فيها نار بأمر السامري، (لأن السامري قال لنساء بني إسرائيل: (هذا الذهب الذي عندكنّ لا يَحِلّ لَكُنَّ أخْذه)، ثم حَفَرَ لهنّ حفرة، وأوقد فيها النار، وأمَرَهنّ أن يُلقوا فيها الذهب للتخلص منه، وهو في نيّته أن يَصُوغ الذهب ليَصنع منه العِجل)، ﴿ فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ يعني: فكما ألقينا الذهب في الحفرة، فكذلك ألقى السامري التراب الذي أخَذَه من تحت حافر فرس جبريل عليه السلام، فألقاهُ على الذهب ﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ﴾: أي فصنع لبني إسرائيل عجلاً له جسم من الذهب، وله صوت كخُوار البقر (فتنةً واختباراً من الله تعالى لهم)، ﴿ فَقَالُوا أي فقال المفتونون به منهم للآخرين: ﴿ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أي قد نَسِيَهُ موسى وأخطأ الطريق إليه، فاعبدوه حتى يأتي موسى، (واعلم أنّ السامري قال لهم: (هذا إلهكم وإله موسى)، ولم يقل لهم: (وإله هارون)، لأن هارون كانَ معهم، فخاف السامري أن يُكَذِّبه هارون، فلم يَنسب العجل إليه).

قال تعالى - مُنكِراً عليهم -: ﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا ﴾: يعني أفلا يرى الذين عبدوا العجل أنه لا يُكلمهم ابتداءً، ولا يَرُدُّ عليهم إذا كَلَّموه، ﴿ وَ أنه ﴿ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ؟ (إذاً فكيف عبدوه وهو لا يُجيبهم إذا سألوه، ولا يُعطيهم إذا طلبوا منه؟!) (ولكنه الجهل والضَلال واتّباع الهوى).

وقال الذين لم يعبدوا العجل لموسى: ﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ - أي مِن قبل رجوع موسى إليهم -: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ يعني إنما اختبركم اللهُ بهذا العجل؛ ليَظهر المؤمن منكم من الكافر، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكُمُ هو ﴿ الرَّحْمَنُ الذي شاهدتم آثار رحمته عندما نجَّاكم من فرعون وجنوده، ﴿ فَاتَّبِعُونِي فيما أدعوكم إليه من عبادة اللهِ وحده، ﴿ وَأَطِيعُوا أَمْرِي ولا تطيعوا أمْر السامري، فإني خليفة موسى فيكم، فـ﴿ قَالُوا أي قال عُبَّاد العجل لهارون: ﴿ لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ يعني: لن نزال مُقيمين على عبادة العجل ﴿ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى.

 

الآية 92، والآية 93، والآية 94، والآية 95: ﴿ قَالَ موسى لأخيه هارون: ﴿ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ يعني أيُّ شيء مَنَعَك - حينَ رأيتهم ضلُّوا - مِن أن تلحق بي أنت ومَن معك مِن المُوَحِّدين وتترك هؤلاء المشركين؟ ﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي حينَ قلتُ لك: ﴿ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ؟

ثم أمسَكَ موسى بلحية هارون ورأسه يَجرُّه إليه، فـ﴿ قَالَ له هارون: ﴿ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي يعني: يا ابن أمي لا تمسك بلحيتي ولا بشعر رأسي، فـ ﴿ إِنِّي خَشِيتُ أي خِفتُ إنْ أنا جئتُك ببعض القوم - وهم المُوَحِّدين - وتركتُ الآخرين - وهم عُبَّاد العجل - ﴿ أَنْ تَقُولَ لي: ﴿ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فجئتَني ببعضهم وتركتَ الآخرين، ﴿ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي أي وخفتُ أن تقول لي: (لم تحفظ وصيتي بحُسن رعايتهم مِن بعدي).

وبعد أن عاتَبَ موسى أخاه: التفت إلى السامري المنافق - الذي كان مِن عُبَّاد البقر، وأظهر الإسلام في بني إسرائيل، ولمَّا أُتِيحت له الفرصة، عادَ إلى عبادة البقر فصَنَعَ العجل وعَبَده ودعا إلى عبادته - فـ ﴿ قَالَ له موسى في غضب: ﴿ فَمَا خَطْبُكَ يعني: فما شأنك ﴿ يَا سَامِرِيُّ ؟ وما الذي دعاك إلى ما فَعَلته؟

 

• الآية 96: ﴿ قَالَ السامري: ﴿ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ : أي رأيتُ ما لم يروه (وهو جبريل عليه السلام راكباً على فرس)، وذلك وقت نَجاتهم من البحر، ﴿ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ﴾: أي فأخذتُ بكَفي ترابا مِن أثر حافر فرس جبريل ﴿ فَنَبَذْتُهَا ﴾: أي فألقيتُ حفنة التراب على العجل الذي صنعتُه من الذهب، فأصبح له صوت كخُوار البقر، ﴿ وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي يعني: وكذلك زيَّنت لي نفسي هذا الصنيع.

 

الآية 97، والآية 98: ﴿ قَالَ موسى للسامري: ﴿ فَاذْهَبْ تائهاً في الأرض طوال حياتك، ﴿ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ : يعني فإنّ لك في حياتك أن تعيش ذليلاً حقيراً مهجوراً، تقول لمن أراد أن يَقربك: (لا يَمَسَّني أحد ولا أَمَسُّ أحداً)، فحينئذٍ تَفرّ من الناس ويَفرّ الناس منك عقوبةً لك على جريمتك، فهذا هو بعض عذاب الدنيا، ﴿ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ يعني: وإنّ لك عذاباً آخر يوم القيامة، لن يُخْلفك اللهُ إياه، فهو آتٍ وواقع لا مَحالة، ﴿ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ المزعوم ﴿ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ﴾: أي الذي ظللتَ مقيماً على عبادته: ﴿ لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنار، ﴿ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا أي ثم لَنُلقِيَنّ به في البحر -بعد أن نحرقه - حتى لا يُعثَر له على أثر، (وذلك لأنّ قلوب بني إسرائيل كانت متعلقة بعبادة العجل، فأراد موسى عليه السلام إتلافه وحَرْقه وهم يَنظرون إليه، ليزول ما في قلوبهم مِن حُبِّه كما زالَ شَخْصه، ولأنّ في إبقائه فتنة).

ثم قال موسى للذين عبدوا العجل:  ﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ الحق - الذي تجب له العبادة والطاعة - هو ﴿ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أي الذي لا معبودَ بحقٍ إلا هو، ﴿ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾: أي وَسِعَ عِلمه كل شيء، (وفي هذا ردٌّ على السامري الذي عَبَدَ جماداً لا يَعلَم شيئاً ولا يَقدر على شيئ).

 

من الآية 99 إلى الآية 104: ﴿ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ﴾: يعني كما قصصنا عليك - أيها الرسول - خبر موسى وفرعون وقومهما، فكذلك نُخبرك بأخبار السابقينَ لك، ﴿ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا يعني: وقد أعطيناك مِن عندنا ذِكرى وموعظةً للناس، وهو هذا القرآن العظيم، الذي ﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فلم يُصَدِّق به، ولم يَعمل بما فيه: ﴿ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ﴾: يعني فإنه يأتي ربه يوم القيامة يَحمل إثمًا عظيمًا ﴿ خَالِدِينَ فِيهِ أي خالدين في ذلك الوزر في النار، حيثُ تُلقَى معهم ذنوبهم في النار، ﴿ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ﴾: يعني وقَبُحَ ذلك الحِمل الثقيل من الذنوب، حيثُ أدخلهم النار يوم القيامة، ﴿ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ : أي يوم يَنفُخ الملَكُ في "القرن" لصيحة البعث، ﴿ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ﴾: أي ونَسُوقُ الكافرين في ذلك اليوم وهم زُرق العيون، سُود الوجوه (وذلك من شدة الأحداث والأهوال)، وهم ﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي يَتهامسون فيما بينهم من شدة الخوف، فيقولون: ﴿ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ﴾: أي ما مكثتم في الحياة الدنيا إلا عشرة أيام، ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ سراً فيما بينهم ﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي يقول أعلمهم وأرجحهم عقلاً في الدنيا: ﴿ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا أي ما مكثتم في الحياة الدنيا إلا يومًا واحدًا (وذلك لقِصَر مدة الدنيا في نفوسهم يوم القيامة).

واعلم أنه لا تعارُض بين قول اللهِ تعالى - حكايةً عن المجرمين -: ﴿ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ﴾، وبين قوله تعالى: ﴿ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ﴾، وبين قوله تعالى: ﴿ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ، وذلك لأنّ فترة بقاء المجرمين في الدنيا لم تكن ساعة ولا يوماً ولا عشراً، ولكنهم عَبَّروا عن ذلك مُقارنةً بطول الوقوف يوم القيامة، ولقِصَر فترة تمتُّعهم في الدنيا، وإنما اضطربت أقوالهم لهَول الصدمة، فكُل واحدٍ منهم وَصَفَ الحالة التي يشعر بها.

 

• من الآية 105 إلى الآية 110: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ﴾: أي يسألك قومك - أيها الرسول - عن مصير الجبال يوم القيامة، ﴿ فَقُلْ لهم: ﴿ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ﴾: أي يَقتلعها ربِّي من أماكنها ويُفَتِّتها، ثم تُفَرِّقها الرياح، ﴿ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ﴾: أي فيَترك أماكن الجبال - بعد أن نُسِفَت - مستوية ملساء ﴿ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا أي انخفاضًا ﴿ وَلَا أَمْتًا : أي: ولا ارتفاعًا (وذلك بسبب استوائها).

﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ أي: في ذلك اليوم يتَّبع الناس صوت المَلَك الذي يدعوهم إلى الحساب، ﴿ لَا عِوَجَ لَهُ: أي لا يستطيعون الهروب من دعوة الداعي، ﴿ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ﴾: أي وسكنتْ الأصوات خضوعًا للرحمن ﴿ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا أي فلا تسمع منها إلا صوتًا خفيًا، ﴿ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ أحدًا من الخلق ﴿ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ﴾: يعني إلا إذا أَذِنَ الرحمنُ للشافع، ورَضِيَ عن قوله وشفاعته إكراماً له (ولا تكون الشفاعة إلا للمؤمن المُخلِص)، ففي الحديث أنّ اللهَ تعالى يقول يوم القيامة: (أخرِجوا من النار مَن قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يَزِن ذَرَّة) (انظر صحيح الترمذي ج 4/711)، ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾: أي يَعلم اللهُ تعالى ما بين أيدي الناس مِن أمْر القيامة، إذ يَعلم سبحانه ما سيَحكم به عليهم مِن جنةٍ أو نار، ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ أي: وكذلك يَعلم ما تركوه مِن أعمالٍ في الدنيا، ﴿ وَ هم ﴿ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا سبحانه وتعالى.

 

الآية 111، والآية 112: ﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ أي خضعتْ وجوه الخلائق، وذَلَّتْ ﴿ لِلْحَيِّ الذي لا يموت، ﴿ الْقَيُّومِ أي القائم على تدبير كلِّ شيء، والقائم على كل نفسٍ بما كسبتْ، والمُستغني عمَّن سواه، ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ﴾: أي خَسِرَ يوم القيامة مَن جاءَ يَحمل أوزار الشِرك (إذ الظلم المذكور في الآية هو الشِرك، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾، ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا بزيادة سيئاته، ﴿ وَلَا هَضْمًا بنقص حسناته.

 

الآية 113: ﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا يعني: وكما أنزلنا عليك تلك الآيات المُشتملة على الوعد والوعيد، فكذلك أنزلنا هذا القرآن بلُغة العرب ليَفهمه قومك ويَهتدوا به، فيَهتدي على أيديهم خَلقاً كثيراً، ﴿ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ ﴾: أي نوَّعنا في هذا القرآن أصنافاً من العذاب الدُنيوي والأُخروي ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: لعل قومك يتقونَ ما كان سببا في إهلاك الأمم السابقة (وهو الشرك والتكذيب والمعاصي) ﴿ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴾: يعني أو يُحدِث لهم هذا القرآن تذكرةً، فيَتعظوا ويَعتبروا بهلاك الأمم السابقة، فيتوبوا ويُسلموا، ليَسعدوا في الدنيا والآخرة.

 

الآية 114: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ ﴾: أي فتنزَّه اللهُ وتبرَّأ عن كل نقص، وتقدَّس عمَّا يقوله المُفترونَ وعمَّا يُشركه المشركون، فهو سبحانه ﴿الْمَلِكُ الْحَقُّ الذي قهر كل مَلِكٍ وجبار، وهو المالك لكل خلقه، المتصرف في كل شيء.

﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾: أي ولا تستعجل - أيها الرسول - بمسابقة جبريل في تَلَقِّي القرآن قبل أن يَفْرَغ هو مِن قراءته، ويُبَيِّن لك ما يَقصده اللهُ تعالى من الآيات المُنَزَّلة عليك، ﴿ وَقُلْ داعياً ربك: ﴿ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا .

 

 

 

تفسير الربع الأخير من سورة طه

 

الآية 115: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ يعني: ولقد وصينا آدم مِن قَبل ألا يأكل من الشجرة، ﴿ فَنَسِيَ الوصية ﴿ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾: يعني ولم نجد له عزيمة يُحافظ بها على ما أمرناه به، ولم يكن له صبرٌ عمَّا نهيناه عنه.

 

الآية 116: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ أي واذكر - أيها الرسول - حينَ قلنا للملائكة: ﴿ اسْجُدُوا لِآَدَمَ (سجود تحيةٍ وتكريم، وليس سجود عبادةٍ وخضوع)، ﴿ فَسَجَدُوا جميعًا ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ الذي كان يَعبد اللهَ معهم، فإنه ﴿ أَبَى أي امتنع عن السجود (حسداً لآدم على هذا التشريف العظيم).

 

الآية 117، والآية 118، والآية 119: ﴿ فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا - أي إبليس - هو ﴿ عَدُوٌّ لَكَ ﴿ وَلِزَوْجِكَ أي: وهو عدوٌ أيضاً لزوجتك حواء، ﴿ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ ﴾: أي فلا تُطيعاه حتى لا يَتسبب في إخراجكما من الجنة ﴿ فَتَشْقَى بالعمل في الأرض (إذ تزرع وتحصد وتطحن وتخبز حتى تتغذى)، (وَاعلم أنّ اللهَ تعالى وَجَّهَ الخطاب إلى آدم فقط في قوله: ﴿ فَتَشْقَى ﴾ لأنّ المقصود من الشقاء هنا: (العمل) كالزرع والحصاد وغيرهما، مما هو ضروري للعيش خارج الجنة، ومعلومٌ أنّ الزوج هو المسئول عن إعاشة زوجته).

 

وقال اللهُ له: ﴿ إِنَّ لَكَ في هذه الجنة ﴿ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا أي تأكل فيها فلا تجوع، ﴿ وَلَا تَعْرَى يعني: وأن تَلْبَس فيها فلا تَعْرَى، ﴿ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا أي لن تعطش في هذه الجنة ﴿ وَلَا تَضْحَى ﴾: يعني ولن يصيبك فيها حر الشمس، (والخطاب - وإن كان لآدم - فحواء تابعة له بحُكم قوامة الزوج على زوجته، ومن الأدب: خطاب الرجل دونَ امرأته إذ هي تابعةٌ له).

 

الآية 120: ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ فـ ﴿ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىيعني هل أدلك على شجرةٍ، إذا أكلت منها أصبحتَ خالداً فلم تَمُت، ومَلَكتَ مُلْكًا لا يَنقطع ولا يَنقص؟

 

الآية 121، والآية 122: ﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا ﴾: أي فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما اللهُ عنها ﴿ فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا ﴾: أي فانكشفت لهما عوراتهما (بعد أن كانت مستورةً عن أعينهما)، ﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾: يعني أخذا يَنزعان من ورق أشجار الجنة ويلصقانه عليهما، ليَسترا ما انكشف من عوراتهما، ﴿ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى أي: وهكذا خالَفَ آدم أمْر ربه، فضَلَّ بسبب الأكل من الشجرة ﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾: أي ثم اختاره اللهُ لنُبُوَّته، وقَبِلَ توبته، وهَداهُ للعمل بطاعته.

 

الآية 123، والآية 124، والآية 125: ﴿ قَالَ اللهُ تعالى لآدم وحواء: ﴿ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ﴾: أي اهبطا من السماء إلى الأرض جميعًا مع إبليس، ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾: يعني (آدم وحواء) يُعادون الشيطان، والشيطان يُعادِيهِما، ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ﴾: يعني وسيأتيكم أنتم وذرياتكم مِنِّي هدىً وبيان ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ - فآمَنَ به وعَمِلَ بما فيه -: ﴿ فَلَا يَضِلُّ في الدنيا، بل يكونُ مهتدياً راشداً، ﴿ وَلَا يَشْقَى بعذابي في الآخرة، (قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: ضَمَنَ اللهُ تعالى لمن قرأ القرآن وعَمِلَ بما فيه، ألاّ يَضِلّ في الدنيا ولا يَشقى في الآخرة).

 

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي - فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه -: ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾: يعني فإنّ له في الدنيا مَعيشةً شاقة - وإنْ كانَ غنياً - فإنه يَشعر بالضيق والهم، كما يُضيَّق عليه قبره ويُعَذَّب فيه، ﴿ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى عن سلوك طريق الجنة، ﴿ قَالَ أي فيقول هذا المُعرِض عن ذِكر الله: ﴿ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى يوم القيامة ﴿ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا في الدنيا؟

 

الآية 126، والآية 127: ﴿ قَالَ اللهُ له: ﴿ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا يعني لأنك قد جاءتك آياتنا الواضحة فأعرضتَ عنها، ولم تؤمن بها، ﴿ وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾: يعني وكما تركتَها في الدنيا، فكذلك تُترك اليوم في النار، ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ ﴾: يعني وهكذا نُعاقب مَن أسرف على نفسه بالمعاصي فلم يتب منها (﴿ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ (فنجعل له مَعيشةً ضنكاً في حياته الدنيا وفي قبره)، ﴿ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ ألمًا من عذاب الدنيا ﴿ وَأَبْقَى منه لأنه لا يَنتهي ولا يُخَفَّف.

 

الآية 128: ﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ﴾: يعني أفلم يُبَيَّنْ لقومك - أيها الرسول - كثرة مَن أهلكنا قبلهم من الأمم المُكَذِّبة، الذين ﴿ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ويرون آثار هلاكهم، فيَهتدوا بذلك إلى طريق الرشاد؟ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ ﴾: يعني إنّ في كثرة تلك الأمم وآثار عذابهم لَعِبَرًا وعظات ﴿ لِأُولِي النُّهَى أي: لأهل العقول السليمة الواعية، أما الذين عطَّلوا عقولهم ولم يُفَكِّروا بها: فلا يَهتدوا إلى تلك الآيات.

 

الآية 129، والآية 130: ﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾: يعني ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك بأنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها، ولولا أجلٌ معلوم في اللوح المحفوظ بتأخير العذاب عن أهل مكة: لأصبحَ الهلاك لازماً لهم لا يتأخر عنهم بسبب كفرهم، (واعلم أنّ في الآية تقديم وتأخير، أي: ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك وأجلٌ مُسَمًّى لكان لزاماً: أي لَكانَ العذابُ لازماً لهم)، إذاً ﴿ فَاصْبِرْ أيها الرسول ﴿ عَلَى مَا يَقُولُونَ في حقك (من التكذيب بدَعْوتك، ومِن مُطالبتك بالمعجزات التي يقترحونها، ومِن استعجالهم بالعذاب).

 

ثم أرشده سبحانه إلى ما يَشرح صدره ويُذهِب هَمَّه فقال: ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي استعن بالصلاة ذات الذِكر والتسبيح ﴿ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِأي في صلاة الفجر، ﴿ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا أي: وكذلك سَبِّح بحمد ربك في صلاة العصر (قبل غروب الشمس)، ﴿ وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ﴾: يعني وكذلك سَبِّح بحمد ربك في ساعات الليل (والمقصود بذلك صلاتَي المغرب والعشاء)، ﴿ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ﴾: يعني وكذلك سبِّح بحمد ربك في صلاة الظهر (التي تقع بين طَرَفَي النهار - أي بين نهاية نصفه الأول وبداية نصفه الثاني)، وقد أمَرَك اللهُ بهذا ﴿ لَعَلَّكَ تَرْضَى أي حتى يُثِيبك على هذه الأعمال بما تَرْضى به في الآخرة من النعيم.

 

الآية 131: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تنظر بعينيك مُتطلِّعاً ﴿ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ : يعني إلى ما مَتَّعْنا به أصنافًا من كفار قريش مِن مُتَع الدنيا، فقد جعلنا لهم ﴿ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (التي سرعان ما تَذبل وتنتهي)، وقد متَّعناهم بهذا المتاع ﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنَختبرهم فيه: (أيَشكرون ربهم بتوحيده وعبادته أم يَكفرون؟) ﴿ وَرِزْقُ رَبِّكَ أي: ما أعَدَّه اللهُ لك من الأجر والنعيم هو ﴿ خَيْرٌ لك مِمَّا متَّعناهم به في الدنيا ﴿ وَأَبْقَى منه، حيثُ لا انقطاعَ له ولا نفاد.

 

الآية 132: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ أي أزواجك وبناتك وأتْباعك المؤمنين ﴿ بِالصَّلَاةِ (ففيها السعادة وغِنى النفس) ﴿ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾: أي صَبِّر نفسك على أداء الصلاة بخشوع واطمئنان، واعلم أننا ﴿ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ﴾: أي لا نَطلب منك مالاً - لِغِنانا عن ذلك - ولكننا نُكَلِّفك بأداء الصلاة على أكمل وجوهها، و ﴿ نَحْنُ نَرْزُقُكَ - إذا أخذتَ بأسباب السعي في طلب الرزق -، ولكنْ لا يَشغلك طلب الرزق عن الصلاة، ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى أي: والعاقبة المحمودة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى (وهم الذين يخافون ربهم بأداء أوامره واجتناب نواهيه).

 

الآية 133، والآية 134: ﴿ وَقَالُوا أي وقال هؤلاء المُكَذِّبون: ﴿ لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعني: هَلاَّ يأتينا محمد بمُعجزة مَحسوسة مِن عند ربه (كَعَصا موسى وناقة صالح)، ﴿ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ﴾: يعني ألم يَكفهم أننا أعطيناهم هذا القرآن، المُوافق لِما في الكتب السابقة من الحق، والمُبَشَّر به فيها؟!، (واعلم أنّ البينة: هي الحجة، وهي هنا: محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم، كما قال تعالى: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ﴾ إذ محمد صلى الله عليه وسلم مَوعودٌ به في الكتب السابقة، وهو أيضاً أميّ، لا يقرأ ولا يكتب، وقد جاء بهذا القرآن الخالد، الذي حَوَى علوم الأولين وقصصهم، واشتمل على كل علمٍ نافع في الدنيا والآخرة، وأعْجَزَ أهل اللغة كلهم - رغم براعتهم في الفصاحة والبلاغة - فأيّ آيةٍ أعظم من هذه؟!).

﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ أي مِن قبل أن نُرسل إليهم رسولا ونُنَزِّل عليهم كتابًا ﴿ لَقَالُوا يوم القيامة: ﴿ رَبَّنَا لَوْلَا يعني: هَلاَّ ﴿ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا من عندك ﴿ فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وشَرْعك ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى أي مِن قبل أن يصيبنا الذل والإهانة بعذابك، ونُفتَضَح بين الأمم يوم القيامة.

 

الآية 135: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ أي: كلٌ مِنَّا ومنكم ينتظر: لمن يكون النصر والفلاح؟، ﴿ فَتَرَبَّصُوا ﴾: أي فانتظروا ﴿ فَسَتَعْلَمُونَ يوم القيامة: ﴿ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى يعني: مَن أهل الطريق المستقيم - وهو الإسلام - ومَن المهتدي مِنَّا ومنكم إلى الحق؟

 

(1) وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.

واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

 

 

رامى حنفى  محمود

 

شبكة الالوكة

 
 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×