اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير سورة المؤمنون بأسلوب بسيط جدًّا

المشاركات التي تم ترشيحها

سلسلة كيف نفهم القرآن؟(1)

تفسير الربع الأول من سورة المؤمنون

من الآية 1 إلى الآية 11: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾: أي قد فاز المُصَدّقون بالله ورسوله، العاملونَ بشرعه، (واعلم أنّ الفلاح المقصود هنا هو الفوز بالجنة والنجاة من النار)، ومِن صفات هؤلاء المؤمنين أنهم: ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ أي تَحضُر فيها قلوبهم فلا تنشغل بغيرها، ويكونون في صلاتهم ذليلينَ لربهم (مِن كثرة نعمه عليهم وكثرة ذنوبهم)، (وقد كان السَلَف الصالح إذا قام أحدهم في صلاته يخافُ أن يَلتفت فيها أو أن يُحَدِّث نفسه بشيءٍ من الدنيا وهو بين يدي ربه تبارك وتعالى، بل كان يَنظر إلى الأرض في حياءٍ وخوف، حتى إنّ أحدهم كانَ يقول إذا خرج مِن صلاته: (إنّ مِثلي لا يقومُ بين يديك، ولولا أنك أمَرتني ما فَعَلتُ)).
 
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ أي يَتركون ما لا خيرَ فيه من الأقوال والأفعال، (ومعنى إعراضهم عن اللغو: أي انصرافهم عنه وعدم التفاتهم إليه)، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ أي مُؤَدُّونَ الزكاةَ لِمُستحِقّيها، ليُطَهِّروا بها نفوسهم وأموالهم، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ أي يَحفظون فروجهم مما حرَّم اللهُ تعالى ﴿ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ ﴿ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ - من الجواري المملوكات لهم شَرعاً - ﴿ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ أي: فلا لومَ عليهم في جماعهنّ؛ لأنّ اللهَ قد أحلَّهنّ لهم، ﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ يعني: فمَن طلب التمتع بغير زوجته أو جاريته، فهو من المُتَعَدِّينَ لحدود الله تعالى، المُجاوِزينَ الحلالَ إلى الحرام، المُعَرِّضينَ أنفسهم لغضب اللهِ وعقابه.
 
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ أي يُحافظونَ على ما كل اؤتمنوا عليه (مِن قولٍ أو عمل أو مال أو غير ذلك)، (ومِن ذلك مُحافظتهم على التكاليف الشرعية التي أمَرَهم اللهُ بها)، وهُم الذين يُوفُّون بكل عهودهم وعقودهم، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أي يُداوِمونَ على أداء صلاتهم في أوقاتها، وعلى هيئتها الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ أُولَئِكَ المتصفون بهذه الصفات ﴿ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴿ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ - وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها - ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (إذ لا يَنقطع نعيمهم ولا يزول).
 
واعلم أنّ العلماء قد اختلفوا في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الفردوس الأعلى: (فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة)، فقد قال بعضهم: إنّ مَعنى أوسط الجنة أي أفضلها، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أي خِياراً، وبقوله تعالى: ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ - أي أفضلهمأَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ، فعلى هذا يكونُ المعنى: (إنها أعلى الجنة وأفضل الجنة)، وقد ذَكَرَ بعضهم قولاً آخر: وهو أننا إذا تخيلنا أن الجنة عبارة عن صندوق ضخم، فبالتالي تكون الفردوس في منتصف هذا الصندوق ولكنْ في أعلى نقطةٍ فيه، فبذلك تكون أعلى الجنة وأوسط الجنة، واللهُ أعلم.
 
من الآية 12 إلى الآية 16: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ - وهو آدم عليه السلام - ﴿ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ أي مِن طينٍ مأخوذ من جميع الأرض، ثم نَفَخَ اللهُ فيه مِن روحه فصارَ بشراً سوياً، ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً أي: ثم تناسلتْ ذريته مِن نُطفة (وهي ماء الرَجُل)، حيث تَخرج النُطفة من ظهور الرجال، ثم تستقر ﴿ فِي قَرَارٍ مَكِينٍأي في مُستَقَرّ مُتمكِّن - مُهَيّأ لحِفظ النُطفة - وهو أرحام النساء، ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ﴾: أي: ثم يَتحول هذا المَنِيّ بقدرة اللهِ إلى عَلَقة (وهي قطعة من الدم الغليظ متعلقة بالرَحِم)، ثم تتحول هذه العَلَقة بقدرة اللهِ إلى مُضغة (وهي قطعة لحم صغيرة قَدْر التي تُمْضَغ في الطعام)، ﴿ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا أي: ثم تتحول هذه المُضغة اللينة بقدرة اللهِ إلى عظام، ثم يَكسو اللهُ هذه العظامَ لحمًا.
 
﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ أي: ثم يُنشئه اللهُ تعالى خَلقاً آخر غير الذي ابتدأه به (وذلك بعد نَفْخ الروح فيه)، إذ أصبح إنساناً يتحرك بعد أن كانَ جماداً لا حياةَ فيه، ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ أي:َ َعَظُمَتْ قدرة اللهِ تعالى الذي أحسن كل شيء خَلَقه، (واعلم أنّ معنى قوله تعالى: ﴿ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ أي أحسن الصانعين، لأنّ كلمة الخَلق تأتي في اللغة بمعنى الصناعة، فاللهُ تعالى يَصنع، والناسُ يَصنعون، واللهُ سبحانه أحسن الصانعين)، ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَأي ستموتون أيها البشر بعد انتهاء أعماركم، ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَأي يَبعثكم اللهُ من قبوركم أحياءً للحساب والجزاء.
 
• الآية 17:  ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ أي سبع سماواتٍ بعضها فوق بعض، ﴿ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ -الذين تحت السماوات -﴿ غَافِلِينَ بل كنا حافظينَ لهم مِن أن تسقط عليهم فَتُهلِكهم، وكُنّا نُدَبّر أمورهم ونَعتني بمَصالحهم ومَنافعهم (وبذلك انتظم الكونُ والحياة، وإلاّ لَفَسَدَ كلُ شيء).
ولعل اللهَ تعالى وَصَفَ السماوات بالطرائق لأنها الطُرُق التي تسير فيها الملائكة أو التي تسير فيها الكواكب، ويُحتمَل أيضاً أن يكون معنى طرائق: (أنّ بعضها فوق بعض)، وهذا مِثل قول العرب: (طارَقَ بين ثوبين) أي جَعَلَ أحدهما فوق الثاني، واللهُ أعلم.
 
الآية 18: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ أي بمقدارٍ مُعَيّن (بحسب حاجة الخلائق) ﴿ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جَعَلنا الأرضَ مُستقَرًا لهذا الماء (كالأنهار والمياه الجوفية، وغير ذلك)، ﴿ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ أي قادرونَ على الذَهاب بهذا الماء، وحينئذٍ ستَهلك البشرية عطشاً (وفي هذا تهديدٌ للظالمين).
الآية 19، والآية 20: ﴿ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ - أي بهذا الماء - ﴿ جَنَّاتٍ أي حدائق ﴿ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴿ لَكُمْ فِيهَا أي في تلك الحدائق ﴿ فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ تَربَحونَ منها بالتجارة، وتصنعون منها العصائر ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، (واعلم أنّ اللهَ تعالى قد خَصَّ العنب والتمر من بين باقي الفواكه لمَكانتهما عند العرب وكثرة فوائدهما).
﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ أي: وأنشأنا لكم بهذا الماء شجرةَ الزيتون التي تخرج حول جبل الطُور بـ "سيناء"، والتي ﴿ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي يُعصَر منها الزيت فيُدَّهَن، ﴿ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ أي يَغمس الآكِلونَ اللقمةَ في هذا الزيت ويأكلونها، (وفي الآية إشارة إلى أنّ أول مَنبَت لشجر الزيتون كان بطُور سيناء، ثم تناقله الناس مِن إقليمٍ إلى آخر).
 
• الآية 21، والآية 22: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ - وهي الإبل والبقر والغنم - ﴿ لَعِبْرَةً أي لكم فيها عِبرةٌ عظيمة على قدرة اللهِ تعالى، فقد شاهدتم كيف ﴿ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا من اللبن (إذ يُخرِجُ اللهُ تعالى مِن بين الدم، ومِن بين القاذورات الموجودة في الكرْش: لَبَنًا خالصاً ليس فيه شيءٌ من الرَوَث أو الدم، لا في لونه ولا رائحته ولا طعمه)، ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ - كالصُوف والجلود - ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿ وَعَلَيْهَا أي: على الإبل في البر ﴿ وَعَلَى الْفُلْكِ أي: وعلى السفن في البحر: ﴿ تُحْمَلُونَ أي تَركبون عليها وتَحملون عليها أمتعتكم، (أفلا تشكرونَ اللهَ تعالى على هذه النعم فتعبدوه وحده ولا تُشركوا به؟!).
 
الآية 23: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِليَدعوهم إلى التوحيد وترْك الشِرك، ﴿ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده، فـ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ يَستحق العبادة ﴿ غَيْرُهُ، إذِ هو سبحانه الذي يَخلقُ ويَرزق، ويُحيي ويُميت، ويَضر ويَنفع، فأخلِصوا له العبادة، ﴿ أَفَلَا تَتَّقُونَ؟ يعني: أفلا تخافونَ عذابَ اللهِ وغضبه، إنْ بَقيتم على ما أنتم عليه؟!

الآية 24، والآية 25: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي قال الكُبَراء والسادة المُكَذِّبينَ لنوح - ليَصُدُّوا الناسَ عن الإيمان به -: ﴿ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾: يعني: ما نوحٌ إلا إنسانٌ مِثلكم لا يتميَّز عنكم بشيء، ولا يريد بدعوته إلا الرئاسة عليكم، ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً يعني: ولو شاء اللهُ أن يُرسل إلينا رسولاً لأَرسله من الملائكة، ﴿ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾: أي لم نَسمع قبل ذلك كلاماً مِثل الذي جاء به نوح، ولم يَقُل به أحدٌ من أجدادنا السابقين، ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ﴾: أي ما هو إلا رجلٌ به مَسٌّ من الجنون ﴿ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي انتظروا حتى يُفيق فيَترك دَعْوته، أو يموت فتستريحوا منه.
 
الآية 26: ﴿ قَالَ نوحٌ - داعياً ربه -: ﴿ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ أي انصرني على كفار قومي; بسبب تكذيبهم لي.
الآية 27: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا أي اصنع السفينة تحت بَصَرِنا وتحت رعايتنا، ﴿ وَوَحْيِنَا يعني: وبتوجيهنا وتعليمنا (إذ لم يكن يَعرف السُفُن ولا كيفية صُنعها)، ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا بإهلاكهم ﴿ وَفَارَ التَّنُّورُ أي نَبَعَ الماء بقوة من الفرن الذي يُخبز فيه (وكانَ هذا علامة على مَجيء العذاب، لأنّ اللهَ تعالى قد فجَّرَ الأرض عُيوناً من الماء، حتى نَبَعَ الماء من الفرن) ﴿ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ أي: فحينئذٍ أدخِلْ في السفينة مِن كل نَوعٍ من أنواع الحيوانات (ذكر وأنثى) ليَبقى النَسل، وأدخل فيها أهلَ بيتك ﴿ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ يعني إلا مَنِ استحق العذاب لكُفره (كزوجتك وابنك)، ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تطلب مِنِّي صَرْفَ العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، ولا تَشفع لهم في تخفيفه عنهم، فـ ﴿ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ بالطوفان لا مَحالة.
 
الآية 28، والآية 29: ﴿ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ يعني: فإذا عَلَوْتَ السفينةَ واستقرَرْتَ عليها - أنت ومَن معك (آمِنينَ من الغرق): ﴿ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا أي: يَسِّر لي النزول المبارك الآمن، ﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي خيرُ مَن يُنزِلُ الناسَ في المكان الطيب المبارك.
ويُلاحَظ أنّ الله تعالى قال: ﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ، ولم يقل: (وأنت وحدك المُنزِل)، لأنه قد يوجد مَن يُنزِلُ شخصاً في مكانٍ مُريح (كأنْ يُسكِنه في بيتٍ مُريح، أو يَستقبله ضيفاً عليه أو غير ذلك)، إذاً فالعبد يُنزل، واللهُ تعالى يُنزِل، واللهُ خيرُ المُنزِلين.
 
الآية 30: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ ﴾: يعني إنّ في إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين لَدلالاتٍ واضحاتٍ على صِدق الرُسُل فيما جاؤوا به، ﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ يعني: ولقد كنا مُختبرينَ الأمم بإرسال الرُسُل إليهم قبل نزول العقوبة بهم.
 
الآية 31، والآية 32: ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ أي أنشأنا جيلاً آخر بعد قوم نوح (وهُم هنا قوم عاد، على الراجح من أقوال العلماء)، ﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ - وهو هود عليه السلام - فأمَرَهم ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده، فـ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍيَستحق العبادة ﴿ غَيْرُهُ ﴿ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾: يعني أفلا تخافونَ عقاب اللهِ إذا عبدتم معه غيره؟
 
واعلم أنّ اللهَ تعالى قال: ﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ ولم يقل: (فَأَرْسَلْنَا إليهِمْ)، لأنّ هوداً عليه السلام كان مِن أهل قريتهم، أما عندما أخبر تعالى عن موسى وفرعون فإنه قال: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ، لأنّ موسى عليه السلام لم يكن منهم.
 
من الآية 33 إلى الآية 38: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ وهم السادةُ والأشرافُ ﴿ مِنْ قَوْمِهِ ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا بوحدانية اللهِ تعالى ﴿ وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ ﴿ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي طَغَوا بما أُنعم اللهُ عليهم في الدنيا من تَرَف العيش، فهؤلاء قالوا لقومهم ليَصُدّوهم عن الإيمان بهُود: ﴿ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (أي لا فرقَ بينكم وبينه، فكيف تَرضون أن يكون سَيّداً عليكم يأمركم وينهاكم؟!)، ﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (أي ستَخسرون مَكانتكم بسبب اتِّباعكم له وترْكِكم لآلهتكم)، ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مِن قبوركم أحياء؟ كيف تُصَدِّقون هذا؟! ﴿ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ أي بعيدٌ حقًا ما يَعِدكم به، ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ﴾: أي ما حياتنا إلا في هذه الدنيا، ﴿ نَمُوتُ وَنَحْيَا أي جيلٌ يموت وجيلٌ يَحيا، فيموت الآباءُ مِنّا ويَحيا الأبناء ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد الموت، ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ أي: ما هذا إلا رجلٌ قد اختلق على اللهِ كذبًا، ولَسنا بمُصَدِّقينَ ما قاله لنا.
 
الآية 39: ﴿ قَالَ هودٌ - داعياً ربه -: ﴿ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ أي انصرني عليهم بسبب تكذيبهم لي.
الآية 40: (﴿ قَالَ ﴾) اللهُ - مُجيبًا لدعوته -: ﴿ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ أي: بعد زمنٍ قصير سيُصبحون نادمينَ على تكذيبهم.
 
الآية 41: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي جاءتهم صيحة شديدة مع ريحٍ شديدة ﴿ بِالْحَقِّ أي بالعدل (بسبب كُفرهم وذنوبهم) فماتوا جميعًا ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً أي أصبحوا كغُثاء السَيل (وهي الرَغوة التي تطفو على سطح الماء ثم تتلاشى أو تُرْمَى) (والمعنى أنهم أصبحوا لا حياةَ فيهم ولا فائدةَ منهم)، ﴿ فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي هلاكًا لهؤلاء الظالمين وبُعْدًا لهم من رحمة الله.
 
الآية 42، والآية 43، والآية 44: ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ أي أنشأنا أُمَمًا آخرين بعد قوم هود (كقوم صالح وقوم شعيب)، ﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَاأي لا تتجاوزُ أُمَّةٌ أجَلَها فتزيد عليه ﴿ وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾: أي ولا يَتأخرون عن ذلك الوقت لحظة، ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا إلى تلك الأمم ﴿ تَتْرَى أي يَتبَع بعضهم بعضًا، ﴿ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ - رغم وضوح المُعجِزات التي يأتي بها الرُسُل -، ﴿ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا بالهلاك والدمار، فلم يَبْقَ إلا أخبار هَلاكهم ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ أي قصصاً يَحكيها مَن بعدهم لتكون عبرةً لهم، ﴿ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ أي هَلاكًا لقومٍ لا يُصَدِّقونَ الرُسًل ولا يُطيعونهم.
 
تفسير الربع الثاني من سورة المؤمنون
 
من الآية 45 إلى الآية 48: ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا الدالَّة على أنهما رسولان من عند اللهِ تعالى، وهي الآيات التسع: (العصا واليد والطوفان، والجَراد والقُمَّل والضفادع، والدم ونقصٍ من الثمرات والأنفس)، ﴿ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ أي أرسلناه بحُجَّةٍ قوية واضحة تَقهر القلوب، فتنقاد لها قلوب المؤمنين، وتقوم بها الحُجّة على المُعانِدين.
ويُحتمَل أن يكون المقصود بالسُلطان المُبِين هنا: (العَصا)، وإنما أُعاد سبحانه ذِكرها بعد أن ذَكَرَ الآيات عموماً، لأنّ العصا كانت أشهر الآيات وأقواها، وبها هُزِمَ السَحَرة، واللهُ أعلم.
فأرسلناه بهذه الآيات ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وهم أكابر أتْباعه وأشراف قومه، ﴿ فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بموسى وأخيه، ﴿ وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ أي كانوا قومًا متطاولين على الناس، قاهرينَ لهم بالظلم، ﴿ فَقَالُوا: ﴿ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ﴿ وَقَوْمُهُمَا - مِن بني إسرائيل - ﴿ لَنَا عَابِدُونَ أي مُطيعونَ لأمْرنا، ذليلونَ لنا، نستخدمهم فيما نشاء؟!، ﴿ فَكَذَّبُوهُمَا فيما جاءا به، ﴿ فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق في البحر.

الآية 49: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾: يعني أعطينا موسى التَوراة ليَهتدي بها قومه إلى الحق، (وذلك بعد إهلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل).

الآية 50، والآية 51، والآية 52، والآية 53: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً أي علامة دالَّة على قدرتنا؛ إذ خَلَقنا عيسى مِن غير أب، ﴿ وَآَوَيْنَاهُمَا أي أنزلناهما - بعد اضطهاد اليهود لهما - ﴿ إِلَى رَبْوَةٍ أي مكانٍ مرتفع من الأرض - آمِنٌ مِن الأذى - ﴿ ذَاتِ قَرَارٍ أي صالح للاستقرار عليه (لِمَا فيه من الزروع والثمار)، ﴿ وَمَعِينٍ أي: وفيه ماءٌ عذب جارٍ ظاهر للعيون(فسبحان المُنعِم على عباده، المُكرِم لأوليائه).
ثم أخبر تعالى أنه قد أمَرَ جميع الرُسُل بأكل الحلال الطيب فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ أي كلوا من الرزق الحلال، ﴿ وَاعْمَلُوا صَالِحًا أي اعملوا الأعمال الصالحة (بأداء الفرائض والإكثار من النوافل) شُكراً لي على نِعَمي.
وقوله تعالى: ﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيه وعدٌ مِن الله تعالى بأنه سوف يُثِيبهم على أعمالهم الصالحة، (وفي الآية دليل على أنّ أكْل الحلال عَونٌ للعبد على العمل الصالح، وأنّ عاقبة الحرام شديدة الضرر، ومنها رَدّ الدعاء).
﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً يعني إنَّ دينكم - يا مَعشر الأنبياء - هو دينٌ واحد، وهو الإسلام (الذي هو الاستسلام والانقياد والخضوع لأوامر الله تعالى، وعبادته وحده بما شَرَع)، فاجتمِعوا عليه ولا تختلفوا، ﴿ وَأَنَا رَبُّكُمْ أي خالقكم ورازقكم ومُدَبّر أمْركم ﴿ فَاتَّقُونِ أي فاتقوني - بفِعل ما أمَرتكم به وترْك ما نَهَيتكم عنه - لتنجوا من عذابي وتدخلوا جنتي.
﴿ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا أي: ولكنّ الناس اختلفوا بعد هؤلاء الأنبياء، وجعلوا دينهم مَذاهب تُعادي بعضها بعضاً، وأصبحوا فِرقاً وأحزاباً، بعدما أُمِروا بالاجتماع على دينٍ واحد، وأصبحَ ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي كل حزبٍ منهم مُعجب برأيه، زاعمٌ أنه على الحق وغيره على الباطل، (وفي هذا تحذير من التحزب والتفرق في الدين).
واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿ زُبُرًا ﴾ أي قِطَعاً، كما قال تعالى وهو يَحكي عن ذي القرنين: ﴿ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أي قِطَعَهُ الضخمة.
 
الآية 54: ﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أي فاتركهم أيها الرسول في ضَلالهم حتى يأذنَ اللهُ بعذابهم.
الآية 55، والآية 56: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ يعني أيظن هؤلاء الكفار أن الأموال والأولاد التي نُعطيها لهم في الدنيا، أيَحسبون أننا بذلك ﴿ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ لِرِضانا عنهم وأنهم يَستحقون هذا الخير؟! كَلاّ ﴿ بَل لَا يَشْعُرُونَ أي لا يَشعرون أننا نُعَجِّل لهم ذلك الخيرَ فتنةً لهم واستدراجًا، ليموتوا على هذا الضَلال.
 
من الآية 57 إلى الآية 61: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ - أي مِن أجل خوفهم مِن الله تعالى - ﴿ مُشْفِقُونَ أي خائفونَ مما خَوَّفهم اللهُ به، يَحذرون أن يُخالفوا أمْره ونَهْيه، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ أي يُخلصونَ عبادتهم للهِ وحده، ولا يُشركونَ معه غيره، ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا ﴾: أي يَجتهدونَ في فِعل الطاعات وأعمال الخير ﴿ وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾: أي قلوبهم خائفةٌ ألا تُقبَل أعمالهم، وألا تُنَجِّيهم مِن عذاب ربهم إذا رجعوا إليه للحساب، ﴿ أُولَئِكَ المجتهدون في الطاعة ﴿ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾: أي يُسارعون في الطاعات، كَي ينالوا بها أعلى الدرجات، ﴿ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ أي يُسابقون غيرهم فى فِعل ما يُرضي ربهم.
 
الآية 62: ﴿ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أي لا يُكَلِّف اللهُ نفسًا إلا ما تطيق من الأعمال، ﴿ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ أي عندنا كتابٌ تكتب فيه الملائكة أعمال العباد ﴿ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أي يَشهد عليهم هذا الكتاب يوم القيامة بالصدق والعدل ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (وفي هذا وعدّ لأولئك المُسارعين في الخيرات بأنّ أعمالهم مكتوبةٌ لهم في كتابٍ لا يُخفي حسنةً من حسناتهم، وفي هذا أيضاً وعيدٌ لأهل الشِرك والمعاصي بأنّ أعمالهم مكتوبةٌ عليهم في كتابٍ صادق، وسوف يُجزَونَ بها إن لم يتوبوا).
 
من الآية 63 إلى الآية 67: ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا يعني: لكنّ قلوب الكفار في ضلالٍ غامر، وفي غفلةٍ عن هذا القرآن وما فيه من الهدى، ﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ أي لهم مع شِركهم أعمالٌ سيئة من كبائر الذنوب - هي أقلّ من الشِرك - ﴿ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ أي يُمْهلهم اللهُ ليَعملوها، فيَزداد بذلك عذابهم (وذلك غضباً مِن اللهِ عليهم بسبب عِنادهم)، ويَظلون على هذه الغفلة والأعمال السيئة ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ - والمُترَفون هم المُنَعَّمونَ المتكبرون -، فإذا أذاقهم اللهُ عذابه ﴿ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ أي يَرفعون أصواتهم، مُستغيثينَ من العذاب الذي أصابهم، فيُقالُ لهم: ﴿ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ أي لا تَصرخوا اليوم ولا تستغيثوا، فـ ﴿ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ أي لن يَنصركم أحدٌ من عذاب الله، ولا أمل لكم في النجاة.
وقال اللهُ لهم: ﴿ قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ لتؤمنوا بها ﴿ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي كنتم تَرجعون إلى الوراء هَرَباً من سماع القرآن، وكنتم ﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِأي تتكبرون على الناس ببيت اللهِ الحرام، وتقولون لهم: (نحن أهل الحَرَم، فنحن أفضل من غيرنا وأعلى)، وكنتم ﴿ سَامِرًا أي تَتَسامرون بالحديث ليلاً حول البيت، ﴿ تَهْجُرُونَ أي تقولون الكلام الهجر - يعني الكلام القبيح - في الرسول والقرآن.
 
الآية 68: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾: يعني أفلم يتفكروا في القرآن ليَعرفوا صِدقه؟!، ﴿ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾: يعني أم مَنَعَهم من الإيمان أنه جاءهم رسولٌ لم يأت آباءهم الأولين مِثله؟! (وهذا الاستفهام غرضه الإنكار عليهم)، وجواب هذا السؤال: كلا، لقد جاءهم الرسول بالتوحيد الذي جاء به إبراهيم وإسماعيل لآبائهم الاولين، فلماذا الإعراضُ إذاً؟!
 
الآية 69، والآية 70: ﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ يعني أم مَنَعَهم من اتِّباع الحق أنّ رسولهم محمدًا صلى الله عليه وسلم غير معروف عندهم ﴿ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟! ﴿ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ﴾: يعني أم حَسِبوهُ مجنونًا؟! ﴿ بَلْ أي لقد كَذَبوا في هذه الادّعاءات الباطلة؛ فقد كانوا يَشهدونَ له بالصدق والأمانة، ورَضوا بحُكمه عندما أرادوا إعادة بناء الكعبة - وذلك قبل بعْثَتِهِ صلى الله عليه وسلم -، فكيف إذاً يَقبلونَ حُكمَه ثم يَتهمونه - كَذِباً - بالجُنون؟!، فعُلِمَ أنهم يقولون ذلك على سبيل العِناد، وحتى يَصُدّوا الناسَ عن دِينه، وإنما ﴿ جَاءَهُمْ صلى الله عليه وسلم ﴿ بِالْحَقِّ ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أي يَكرهون الحق (حَسَدًا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وتكبُّراً عن الانقياد لِما جاءَ به، وحُبّاً للباطل الذي عاشوا عليه).
ولعل اللهَ تعالى قال: ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ، ولم يقل: (وكُلُّهم لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)، لأنّ القليل من هؤلاء المشركين كانوا يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءهم بالحق، وكانوا يُحبون الدخول فى الاسلام، ولكنْ مَنَعهم مِن ذلك: (الخوف من تَعْيير قومهم لهم بأنهم قد تَرَكوا دين آبائهم)، كما حَدَثَ مع أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، (واعلم أنّ هذا من باب الاحتراس، وهو أسلوبٌ معروف في القرآن، حتى لا يُنقَض الخبر ببعض الأفراد، وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾، وهو مِن إعجاز القرآن وبلاغته، حتى لا يستطيع أحد أن يُعارضه).
 
الآية 71: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ يعني: ولو شَرَعَ اللهُ لهم ما يوافق أهواءهم الفاسدة: ﴿ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ أي جئناهم بما فيه عِزّهم وشَرَفهم، وهو القرآن ﴿ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (لا يَلتفتون إليه، ولا يتفكرون فيه).
 
الآية 72: ﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا ﴾: يعني: أم مَنَعَهم من الإيمان أنك أيها الرسول تسألهم مالاً على دَعْوتك لهم فبَخِلوا به؟! والجواب: لا، لأنك لم تفعل ذلك، ﴿ فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ يعني: لأنك تعلم أنّ ثوابَ اللهِ وعطاءه خيرٌ لك من المال، فلذلك لم تطلب منهم شيئاً مقابل دَعْوتك لهم، ﴿ وَهُوَ سبحانه ﴿ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي هو خيرُ مَن أعطى.
 
الآية 73: ﴿ وَإِنَّكَ أيها الرسول ﴿ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي تدعو قومك وغيرهم إلى دينٍ قويم، وهو الإسلام.
 
الآية 74: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وما فيها من البعث والحساب، أولئك ﴿ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ أي مائلونَ عن طريق الدين الصحيح إلى غيره من الباطل.
 
الآية 75: ﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ كالقحط والجوع وغير ذلك: ﴿ (لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾): أي لاَستمَرُّوا في كُفرهم وعنادهم ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾: أي يَتحيَّرون ويَتخبطون في ذلك الضلال.
 
الآية 76، والآية 77: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ أي ابتليناهم بأنواع المصائب ﴿ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ أي: فما خضعوا لربهم، وما دَعَوه مُتضرّعينَ عند نزول البلاء.
 
ويَظلون على ذلك العِناد ﴿ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا من أبواب جهنم ﴿ ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴿ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي يائسونَ من الخَلاص من ذلك العذاب الذي أصابهم.
 
 
تفسير الربع الأخير من سورة المؤمنون

من الآية 78 إلى الآية 83: ﴿ وَهُوَ سبحانه ﴿ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي جَعَلَ لكم وسائل الإدراك من الأسماع والأبصار والقلوب، ومع ذلك فـ ﴿ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾.
﴿ وَهُوَ سبحانه ﴿ الَّذِي ذَرَأَكُمْ أي خَلَقكم ﴿ فِي الْأَرْضِ ونَشَرَكم في أنحائها، ﴿ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ بعد موتكم، ليُجازيكم على أعمالكم، (إذ القادرُ على خَلقكم في هذه الأرض: قادرٌ على خَلقكم في أرضٍ أخرى بعد موتكم)، ﴿ وَهُوَ وحده ﴿ الَّذِي يُحْيِي من العدم، ﴿ وَيُمِيتُ بعد الحياة، (أليس هذا قادراً على إحيائكم بعد موتكم؟!)، ﴿ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي اختَصَّ سبحانه بتعاقب الليل والنهار (وذلك بمجيء أحدهما بعد الآخر، واختلافهما طُولاً وقِصَرًا)، فلا قدرة لأحدٍ أن يُوجِدَ ظُلمة الليل وضوء النهار غير الله تعالى، ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ يعني: أفلا تتفكرون بعقولكم لتعرفوا قدرة اللهِ تعالى على البعث واستحقاقه وحده للعبادة، بعدما شاهدتم هذه الآيات؟!
 
لكنّ الكفار لم يُصَدّقوا بالبعث - رغم هذه الأدلة التي لا يُنكِرها عاقل - ﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ أي ردَّدوا مَقولة المُنكِرين السابقين، فـ ﴿ قَالُوا: ﴿ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي خَلْقاً جديداً بعد أن تَحَلَّلتْ عظامنا في تراب الأرض؟! ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ يعني: لقد قيل هذا الكلام لآبائنا مِن قبل، فلم نَرَهُ حقيقةً، ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: ما هذا الذي تتحدثون عنه من البعث والحياة الثانية إلا قصص السابقينَ التي لا حقيقةَ لها.
 
الآية 84، والآية 85: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المُنكِرين للبعث: ﴿ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا من المخلوقات ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ أي سيَعترفون حَتمًا بأنها لله، لأنهم يَعلمون أنه سبحانه الخالق المالك، إذاً ﴿ قُلْ لهم: ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾: يعني أفلا تتذكرونَ فتعلموا أنّ الذي خلق الأرض ومَن فيها قادرٌ على البعث بعد الموت وأنه لا يَستحق العبادةَ غيره؟!
 
الآية 86، والآية 87: ﴿ قُلْ لهم أيها الرسول: ﴿ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الذي هو أعظم المخلوقات وأعلاها؟ ﴿ سَيَقُولُونَ حَتمًا: ﴿ لِلَّهِ أي: هذه المخلوقات مِلكٌ لله تعالى (إذ هو خالقها ومالكها والمتصرف فيها)، إذاً ﴿ قُلْ لهم أيها الرسول: ﴿ أَفَلَا تَتَّقُونَ يعني أفلا تخافونَ عذابه إذا عبدتم معه غيره؟
 
الآية 88، والآية 89: ﴿ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ يعني: مَن بيده خزائن كل شيء ﴿ وَهُوَ يُجِيرُ أي يَحمي مَن طلب حمايته ﴿ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ يعني ولا يَقدر أحد أن يَحفظ مَن أراد الله إهلاكه، أو يَدفع عنه السُوء الذي قدَّره اللهُ له ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾: أي سيَعترفون حتمًا بأنّ ذلك كلَّه للهِ وحده، إذاً ﴿ قُلْ لهم أيها الرسول: ﴿ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي كيف تُخْدَعون فتعبدون غير الخالق الرازق؟! وكيف تذهب عقولكم فتُنكرون على الخالق إحياء الأموات، وهو الذي أحياهم ابتداءً ثم أماتهم؟!
 
الآية 90: ﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ يعني: بل جئناهم بالحق الذي أرسلنا به محمدًا صلى الله عليه وسلم - مِن أمْر التوحيد والنُبُوّة والبعث والجزاء - ﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فيما نَسَبوهُ للهِ تعالى من الشَريك والولد.
 
الآية 91، والآية 92: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ (لأنه سبحانه رَبُّ كل شيء ومَالكُه، وهو الغني القوي الذي لا يحتاجُ إلى ولدٍ كما يَحتاج البشر)، ﴿ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ لأنه لو كان هناك أكثر مِن معبود: ﴿ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ أي سيَنفرد كل معبودٍ بمخلوقاته ﴿ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أي سيُحارب بعضهم بعضاً كشأن ملوك الدنيا، فبذلك يختلُّ نظام الكون، ﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تَنَزَّهَ اللهُ تعالى وتبرَّأ عن وَصْفهم الكاذب بأنّ له شريكًا أو ولدًا، فهو وحده ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾: أي يَعلم كل ما غاب عن خلقه وما شاهدوه (فلو كان معه آلهة أخرى لَعَرَفهم وأخبر عنهم)، ولكنه سبحانه خالقُ كل شيء ومالكه ﴿ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تَقَدَّسَ سبحانه عن الشريك الذي يَزعمون.
 
الآية 93، والآية 94: ﴿ قُلْ أيها الرسول - داعياً ربك -: ﴿ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ يعني إنْ أريتَني في هؤلاء المشركين ما تَعِدُهم به مِن العذاب: ﴿ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي أخرِجني مِن بينهم وأبعِدني عنهم حتى لا أهلك معهم.
الآية 95: ﴿ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ﴾: يعني وإننا لَقادرون على أن نُنَزِّل عليهم العذاب الذي نَعِدُهم به.
 
من الآية 96 إلى الآية 100: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ يعني إذا أساءَ إليك أعداؤك أيها الرسول: فلا تقابلهم بالإساءة، ولكنْ قابِل إساءتهم بالإحسان (وذلك بالصفح والإعراض عنهم)، فـ ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾: أي نحن أعلم بما يَصِفُهُ هؤلاء المشركون من الشِرك والتكذيب وسنُجازيهم عليه، (وفي هذا تصبيرٌ للرسول صلى الله عليه وسلم).
ولَمّا أمَرَ اللهُ رسوله بالتحصُّن مِن أذى المشركين، أمَرَه أيضاً أن يَتحصن من أذى الشياطين فقال: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ﴾: يعني أحتمي بك من وساوس الشياطين التي تُفسِد القلب، وأحتمي بك أن يُضِلُّوني عن ديني ﴿ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ يعني: وأحتمي بك يا رب أن يَحضروا في شيءٍ من أموري، حتى لا يُفسدوها عليّ بالخواطر السيئة، (واعلم أنّ هذا التعوُّذ، وإن خُوطِبَ به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو أيضاً مُوَجَّه لأمّته، بل هي أحْوَج إليه منه).
ثم يُخبر تعالى عن حال المُحتضِر من الكافرين أو المُفَرِّطين في أمْره قائلاً: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي رأى مَلَك الموت وأعوانه وشاهَدَ ما أُعِدَّ له من العذاب: ﴿ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ أي رُدّني يا ربّ إلى الدنيا وأَخِّر موتي ﴿ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ يعني لَعَلِّي أتدارك ما ضيَّعْتُ من الإيمان والطاعة، فقال اللهُ تعالى: ﴿ كَلَّا أي لا رجوع أبداً، فـ ﴿ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا لا تنفعه، لأنه غير صادق فيها، إذ لو رَجَعَ إلى الدنيا لَعادَ إلى ما نَهاه اللهُ عنه، ﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي سيبقى المَوتى في حاجز يَمنعهم من العودة إلى الحياة حتى يأتي يوم القيامة.
ولعل هذا الكافر خاطَبَ اللهَ تعالى بضمير التعظيم: (ارجعون)، لشدة ما هو فيه من التذلل والخضوع، حتى يُعيده الله إلى الدنيا.
ويُحتمَل أن تكون كلمة (حتى) المذكورة في قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ هي المعروفة بـ (حتى الابتدائية) أي يكون ما بعدها ابتداء كلام جديد، ويُحتمَل أنها متعلقة بقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ - أي من العذاب - لَقَادِرُونَ ﴾، فيكونُ هذا انتقالاً مِن ذِكر قدرته تعالى على تعذيبهم في الدنيا إلى وَصْف ما يَلقونه من العذاب عند موتهم، واللهُ أعلم.
 
الآية 101: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ يعني فإذا جاء يوم القيامة، ونَفَخَ المَلَك إسرافيل في القرن (وهو المعروف بالبُوق) نفخةَ القيام من القبور للحساب والجزاء: ﴿ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ﴾: أي فحينئذٍ لا تَفاخُرَ بينهم بالأنساب كما كانوا يَتفاخرون بها في الدنيا، ﴿ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾: أي لا يَسأل أحدٌ أحدًا أن يَحمل عنه ذنوبه.
 
الآية 102: ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ أي كَثُرَتْ حسناته وثَقُلَتْ بها مَوازين أعماله: ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالجنة.
 
الآية 103، والآية 104، والآية 105: ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ أي قَلَّتْ حسناته في الميزان، ورَجَحَتْ سيئاته، وأعظمها الشرك: ﴿ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي أهلَكوا أنفسهم، وأضاعوا حظها من نعيم الجنة، فهُم ﴿ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تَحْرقُ النار وجوههم، ﴿ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ يعني قد احترقت شفاههم، وظهرتْ أسنانهم)، ويقول اللهُ لهم - مُوَبّخاً -: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ؟ (واعلم أنّ هذا التوبيخ - أثناء العذاب - يكون أشد على النفس من عذاب الجسد).
 
الآية 106، والآية 107: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَاأي غَلَبَتْ علينا لَذّاتنا وأهواؤنا ﴿ وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ عن الحق والهدى، ﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا أي أخرِجنا من النار وأرجِعنا إلى الدنيا، ﴿ فَإِنْ عُدْنَا إلى الضلال ﴿ فَإِنَّا ظَالِمُونَ نَستحق العقوبة، (واعلم أنّ الظلم: هو وَضْع الشي في غير مَوضعه، والذي يَعبد غير الله تعالى يَضَع العبادة في غير مَوضعها فلذلك هو ظالم، كما قال تعالى:  ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾.
 
من الآية 108 إلى الآية 112: ﴿ قَالَ اللهُ عَزّ وجَلّ لهم: ﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ أي امكثوا في النار أذلاء ولا تخاطبوني، (فحينئذٍ يَنقطع دعاؤهم ورجاؤهم)، ويقول اللهُ لهم: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي - وهم المؤمنون - ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ يعني أنت أرحم بنا مِن آبائنا وأمّهاتنا، ومِن كل راحم، ﴿ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي انشغلتم بالاستهزاء بهم ﴿ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي حتى نسيتم التذكر والتأمل فيما جاء به القرآن من الذِكر، ﴿ وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ أي كنتم تضحكون مِن عبادتهم ودعائهم وتضرّعهم إلينا، ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على طاعتي - مع ما يُلاقونه من اضطهادٍ وسُخرية - ﴿ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ أي الناجونَ من النار المُنَعَّمونَ في الجنة، (وفي الآية دليل على حُرمة السُخرية من المسلم والاستهزاء به والضحك منه).
و﴿ قَالَ اللهُ لهؤلاء المكذبين - وهم في النار -: ﴿ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ﴾: أي كم بَقيتم في الدنيا من السنين؟ وكم ضيَّعتم فيها من طاعة الله؟
 
الآية 113: ﴿ قَالُوا لَبِثْنَا أي بَقينا فيها ﴿ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ - وهذا بسبب شدة العذاب الذي هُم فيه، حيثُ أنساهم كل ما مَرّ بهم في حياتهم وفي قبورهم - ﴿ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ﴾: أي اسأل مَن كان يَعدّ الشهور والأيام (من الملائكة أو من غيرهم).
 
الآية 114، والآية 115، والآية 116: ﴿ قَالَ اللهُ لهم: ﴿ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ﴾: أي ما مَكثتم إلا وقتًا قليلاً (لو صبرتم فيه على طاعة اللهِ لَفُزتم بالجنة) ﴿ لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّ هذا الزمن الذي عِشتموه - بالنظر إلى الدار الآخرة - لا يُعتبَر شيئاً يُذكَر، ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا - لا أمْرَ ولا نَهْيَ ولا ثواب ولا عقاب - ﴿ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ للحساب والجزاء؟! ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي تَنَزَّهَ اللهُ المَلك المتصرف في كل شيء، وتَقَدَّسَ عن أن يَخلق شيئًا لعباً، ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أي لا معبودَ بحقٍ إلا هو ﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي رَبُّ العرش النفيس (عَظيم القيمَة والمَكانة)، وهذا مِثل قولهم: (الأحجار الكريمة).
 
الآية 117: ﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ يعني: ومَن يَعبد مع اللهِ إلهًا آخر، لا حُجَّةَ له على استحقاقه للعبادة ﴿ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾: يعني فإنما جزاؤه عند ربه في الآخرة، ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾: يعني إنّ الكافرينَ لا فلاحَ لهم يوم القيامة.
الآية 118: ﴿ وَقُلْ - أيها النبي -: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ أي اغفر لي وارحمني، واغفر للمؤمنين والمؤمنات وارحمهم ﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ يعني أنت خير مَن رَحِمَ المذنبينَ التائبين، إذ تَقبل توبتهم ولا تعاقبهم على ذنوبهم.
 
 
 
 
(1) وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
 
واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
 

رامي حنفى محمود

شبكة الالوكة

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×