اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير سورة النور بأسلوب بسيط جدًّا

المشاركات التي تم ترشيحها

سلسلة كيف نفهم القرآن؟(1)
 

تفسير الربع الأول من سورة النور

الآية 1: ﴿ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا يعني: هذه سورةٌ عظيمة - مِن سور القرآن - أنزلناها ﴿ وَفَرَضْنَاهَا أي أَوْجَبنا على المسلمين العمل بأحكامها ﴿ وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ أي حُجَجاً واضحة تهدي إلى الحق ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لتتعظوا أيها المؤمنون بهذه الآيات، وتعملوا بما في السورةِ من أحكامٍ وأوامر وآداب.
 
الآية 2: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي - اللذان لم يَسبق لهما الزواج - ﴿ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ (عقوبةُ لهما على فِعلِهما)، (وقد ثَبَتَ في السُنَّة - مع هذا الجلد - التغريب لمدة عام، وهو إخراج الزاني والزانية مِن بَلَدهما لمدة عام)، وأما عقوبة الزاني المتزوج: فقد ثبت في السُنّة أن يُرجَم بالحجارة حتى يموت، ﴿ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ أي لا تَحملكم الرحمة بهما على ترْك العقوبة أو تَخفيفها، حتى لا تُعَطِّلوا حَدَّ اللهِ تعالى وتَحرموهما من التطهير بهذا الحد ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وتعملون بأحكام الإسلام ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَيعني: ولْيَحضر العقوبةَ عددٌ من المؤمنين (ليَعتبروا بما حدث لهما)، (واعلم أنّ الذي يقوم بإقامة الحد هو حاكم البلد أو مَن يَنُوب عنه، واعلم أيضاً أنّ الزانية قُدِّمَت على الزاني في قوله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي لأنّ الزنى في حق النساء أقبح وأضَرّ بسبب الحمل، ولأن المرأة هي مفتاح الشر غالباً في جريمة الزنى، واللهُ أعلم).
 
الآية 3: ﴿ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً يعني: الزاني لا يَرضى إلا بنكاح زانيةٍ أو مُشركةٍ لا تُقِرُّ بحُرمة الزنى، ﴿ وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ﴾: أي وكذلك الزانية لا ترضى إلا بنكاح زانٍ أو مُشرك لا يُقِرُّ بحُرمة الزنى، (أما العفيفون والعفيفات فإنهم لا يَرضون بذلك)، ﴿ وَحُرِّمَ ذَلِكَ النكاح ﴿ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، (وهذا دليلٌ صريح على تحريم نكاح الزانية حتى تتوب، وكذلك تحريم إنكاح الزاني حتى يتوب).

الآية 4، والآية 5: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ أي يَتّهمون نفوساً عفيفة - من النساء والرجال - بالزنا أو مُقَدِّماته ﴿ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ - مشهودٌ لهم بالعدل والأمانة - ليَشهدوا معهم على أنهم رأوا هذه الفاحشة: ﴿ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴿ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، (وعلى هذا فليَحذر المسلم مِن أن يقول لأحدٍ:(يا ابن الزانية) أو ما شابَهَ ذلك)، لأنّ هذا من الكبائر، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أي الخارجون عن طاعة الله تعالى ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾) أي رجعوا عن اتّهامهم، ونَدموا على أفعالهم، ﴿ وَأَصْلَحُوا أعمالهم: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوبهم ﴿ رَحِيمٌ بهم، فلا يُعذبهم بعد التوبة، بل يُعيد إليهم اعتبارهم ويَقبل شهادتهم.
 
الآية 6، والآية 7، والآية 8، والآية 9: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ أي يَتّهمون زوجاتهم بالزنى ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ يَشهدون على صحة هذا الاتهام ﴿ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي: فعَلَى الواحد منهم أن يَشهد أمام القاضي أربع مرات بقوله: (أشهدُ باللهِ أني صادقٌ فيما رَمَيتُها به من الزنى)، ﴿ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَيعني: ويَزيد في الشهادة الخامسة: (الدعاء على نفسه باستحقاقه للعنة الله - أي طَرْدِهِ مِن رحمته - إن كان كاذبًا في قوله).

وبهذه الشهادة تَجِب عقوبة الزنا على الزوجة، ﴿ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ يعني: ولكنْ يَدفع عنها هذه العقوبة ﴿ أَنْ تَشْهَدَ - في مُقابل شهادته - ﴿ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ في اتِّهامه لها بالزنى، ﴿ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني: وتزيد في الشهادة الخامسة (الدعاء على نفسها باستحقاقها لغضب اللهِ إن كان زوجها صادقًا فى اتهامه لها)، فإذا شهد الزوج والزوجة بهذه الشهادة: فإنّ القاضي يُفَرِّق بينهما بالطلاق الذي لا رجعة فيه.

الآية 10: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ - أيها المؤمنون - ﴿ وَرَحْمَتُهُ بهذا التشريع للأزواج والزوجات ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ يعني: ولولا أنّ الله توابٌ لمن تاب مِن عباده، حكيمٌ في شرعه وتدبيره: لَفَضَحَ الكاذب مِنهما وعاجله بالعقوبة وأنزَلَ به ما دعاهُ على نفسه، ولكنه سبحانه سَتَرَ عليهم، ليتوب على مَن تاب منهم، وليَرحمهم بهذا التشريع العادل الرحيم.
 
الآية 11: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ يعني إنّ الذين جاؤوا بأقبح الكذب - وهو اتّهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالفاحشة - أولئك ﴿ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ﴾: أي جماعةٌ مُنتسبون إليكم أيها المسلمون، ﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ أي لا تحسبوا قولهم الكاذب شرًّا لكم - لِمَا أصابكم مِن الهَمّ والغم والكرب بسبب هذا الاتهام الكاذب - ﴿ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (لأنه تضمن براءة أم المؤمنين ونَزاهتها، وتكفير سيئاتكم ورفع درجاتكم بسبب صبركم على هذا البلاء العظيم)، ﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ يعني: كُلُّ فردٍ تكلم بالإفك، يأخذ عقابه على قدْر ما قال (هذا إن لم يَتُب، ويعفو اللهُ عنه)، ﴿ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ يعني: والذي تحمَّل مُعظم الإفك، وأشاعَ الفتنة وتوَرَّط فيها - وهو عبد الله بن أُبَيِّ بن سَلول كبير المنافقين - ﴿ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار).

الآية 12: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا يعني: هَلّا ظَنّ المؤمنون والمؤمنات ببعضهم خيرًا عند سماعهم لهذا الاتّهام الكاذب ﴿ وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ أي هذا كَذِبٌ واضح على عائشة رضي الله عنها.
واعلم أنّ هذا الخطاب غرضه توبيخ العُصبة الذين تكلموا دونَ تثبت، وفيه تربيةٌ للمسلمين، وإرشادٌ لهم لِمَا ينبغي أن يكونوا عليه من الآداب.
 
الآية 13: ﴿ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ﴾: يعني هَلاّ جاءَ هؤلاء الكاذبون بأربعة شهود ثِقات ليَشهدوا على صحة قولهم واتهامهم! ﴿ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾.

الآية 14، والآية 15: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ إذ أمْهَلَكم للتوبة، ولم يُعَجِّل لكم العقوبة في الدنيا، وسيَرحمكم في الآخرة بقبول توبتكم: ﴿ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾: أي لأَصابكم عذابٌ عظيم بسبب ما تحدثتم فيه بتوسُّع وعدم تحفظ ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أي يَتلقى بعضكم الكذب من بعض، ﴿ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ (إذ ليس معكم دليل على صحة قولكم) ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا ﴾: أي تظنون ذلك شيئًا هيِّنًا من صغائر الذنوب ﴿ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي من كبائر الذنوب، لأنه عِرض مؤمنة (وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، (وفي هذا تحذير لكل مَن يتهاون في إشاعة الباطل، ولكل مَن يَستصغر المعصية)، وقد قال أحد السلف: (لا تنظر إلى صِغَر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة مَن عصيتَ).
 
الآية 16: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ يعني: وهَلاّ - عند سماعكم لهذا الكذب - ﴿ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا ﴾: أي لا يَحِلُّ لنا الكلام بهذا الكذب - لخَطَره وعِظَم شأنه - ﴿ سُبْحَانَكَ أي تنزيهًا لك يارب مِن قول ذلك على زوجة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ أي هذا كذب عظيم الذنب.

الآية 17، والآية 18: ﴿ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا أي يَنهاكم الله تعالى - مُخَوّفاً لكم - أن تعودوا أبدًا لمِثل هذا الاتهام الكاذب والقول بغير عِلمٍ ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ المشتملة على مَواعظه وأحكامه الشرعية، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأفعالكم، ﴿ حَكِيمٌ في شرعه وتدبيره.

الآية 19: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ أي يُحِبّون أن تنتشر الفاحشة ﴿ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا (ومِن ذلك اتهامهم كذباً بالزنى)، أولئك ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا بإقامة الحد عليهم وغير ذلك من المصائب، ﴿ وَالْآَخِرَةِ أي: ولهم في الآخرة عذابُ النار إن لم يتوبوا، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ كَذِبهم، ويَعلم ما يَترتب على إشاعة الفاحشة من العقوبة والآثار السيئة ﴿ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾.

الآية 20: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي على مَن وقع منكم في حديث الإفك ﴿ وَرَحْمَتُهُ بهم، ﴿ وَ لولا ﴿ أَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ بعباده المؤمنين، لَمَا بيَّن لهم هذه الأحكام، ولَعَجَّلَ العقوبة لمن وقع في ذلك الذنب العظيم.
 
تفسير الربع الثاني من سورة النور

الآية 21: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ أي لا تتَّبعوا طُرُق الشيطان ووساوسه، ﴿ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ - أي الشيطان - ﴿ يَأْمُرُ مَن يَتَّبعه ﴿ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) أي يأمره بقبيح الأفعال ومُنكَراتها، (ومِن ذلك تزيينه للفِتَن والمعاصي، والظنون السيئة بالمؤمنين وحب إشاعة الفاحشة بينهم)، لِذا فأغلِقوا عليه كُلَّ بابٍ يأتِيكُم منه، واعتصموا بالله تعالى ليَحفظكم مِن شَرِّه، ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أيها المؤمنون ﴿ وَرَحْمَتُهُ بكم ﴿ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا أي ما طَهُرَ أحدٌ منكم مِن ذنبه أبدًا، ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ - بفضله - ﴿ يُزَكِّي أي يُطَهِّر ﴿ مَنْ يَشَاءُ مِن عباده ويَعصمهم من الشيطان، ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم، ﴿ عَلِيمٌ بنيّاتكم وأفعالكم (فلذلك يُزَكِّي سبحانه مَن عَلِمَ أنه يستحق هذه التزكية).

الآية 22: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى يعني: لا يَحلف أصحاب الزيادة منكم فى قوة الدين والسَّعَة في المال أن يَمنعوا النفقة عن الفقراء من أقربائهم ﴿ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بسبب ذنبٍ فعلوه، ﴿ وَلْيَعْفُوا عن إساءتهم، ﴿ وَلْيَصْفَحُوا أي: ولْيَتجاوزوا عنهم ولا يُعاقبوهم (خاصةً أنهم قد تابوا وأُقِيمَ عليهم الحد)، ﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ؟ إذاً فتجاوزوا عنهم ليتجاوز الله عنكم ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، (وفي هذا حَثٌّ على العفو، والإعراض عن اللوم والتأنيب)، (واعلم أنّ الصفح أبلغ من العفو، لأن العفو هو عدم المؤاخذة على الخطأ ولكنْ مع بقاء أثره في النفس، أما الصفح فهو التجاوز عن الخطأ مع مَحْو أثره من النفس).
واعلم أنّ هذه الآية نزلتْ في أبي بكر الصِدّيق رضي الله عنه، فقد كان يُنفق على "مِسطَح بن أثاثة" وهو ابن خالته، وكان رجلاً فقيراً من المهاجرين، فلمّا وقع "مِسطَح" في الإفك، غضب عليه أبو بكر وقال: (واللهِ لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال في عائشة)، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى ﴾ إلى قوله: ﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ؟ فقال أبو بكر: (واللهِ إني أحب أن يَغفر اللهُ لي)، فعندئذٍ عفا عنه أبو بكر، وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن يمينه التي حلفها، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (كَفِّر عن يمينك ورُدّ الذي كنتَ تعطيه لمِسطَح).
 
الآية 23، والآية 24، والآية 25: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ : يعني إنّ الذين يَتّهمون بالزنى المؤمنات العفيفات الغافلات عن ذلك الأمر (أي اللاتي لم يَخطر بقلوبهنّ فِعل الفاحشة)، ولا عِلمَ لهنّ بما اتُّهِمنَ به، أولئك الكاذبون في اتّهامهم ﴿ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ أي مَطرودون من رحمة اللهِ في الدنيا والآخرة ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ في نار جهنم يوم القيامة ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ بما نَطَقَتْ، ﴿ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ تَنطق أيضاً لتَشهد ﴿ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أي يُعطيهم اللهُ جزاءهم كاملاً على أعمالهم بالعدل، ﴿ وَيَعْلَمُونَ في ذلك الموقف العظيم ﴿ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ أي هو سبحانه الحق الواضح (يعني الإله الحق الذي تجب العبادة له وحده).
واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فيه دليلٌ على كُفر مَن سَبَّ زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أو اتّهمها بسوء، لأنّ اللهَ تعالى قد توَعّده بالطرد من رحمته.
 
الآية 26: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ يعني: كل خبيث من الرجال والنساء والأقوال والأفعال مُناسب للخبيث ومُستحقٌ له، ﴿ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ يعني: وكل طيِّب من الرجال والنساء والأقوال والأفعال مُناسب للطيب ومُستحقٌ له، (فالأنبياء لا يُناسبهم إلا كل طيب من النساء - وخصوصاً سيِّدهم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي هو أفضل الطيبين - فالذَمُّ في عائشة رضي الله عنها بهذا الأمر هو ذَمٌّ في النبي صلى الله عليه وسلم، إذ مُجَرد كَوْنها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم، فإنها لا تكونُ إلا طيبة طاهرة من هذا الأمر القبيح)، ﴿ أُولَئِكَ الطيبون والطيبات ﴿ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾: أي مُبَرّؤون مما يَتّهمهم به الخبيثون، و﴿ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم، ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو الجنة، (واعلم أنّ الإمام مالك رحمه الله قد قال: (مَن سَبّ عائشة بالفاحشة فقد كَفَر، لأنّ عائشة بَرّأها اللهُ تعالى)).
 
الآية 27: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي حتى تستأذنوا في الدخول ﴿ وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا (وصيغة ذلك السلام من السُنّة: السلامُ عليكم أأدخل؟)، فإذا قيل له: (مَن؟)، فعليه أن يَذكر اسمه، ولا يقل: (أنا)، (واعلم أنّ من آداب الاستئذان أن يَطرق الباب طرقاً خفيفاً، وألاَّ يَقف أمام الباب وإنما يقف بجانبه).
﴿ ذَلِكُمْ أي الاستئذان ﴿ خَيْرٌ لَكُمْ - لأنّ فيه الوقاية من الوقوع في الإثم - ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لتتذكروا باستئذانكم أنكم مؤمنون، وأنّ الله تعالى هو الذي أمَركم بهذا الاستئذان، حتى لا يحصل لكم ما يَضُرّكم، وبذلك يزداد إيمانكم.

الآية 28: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا ﴾: يعني فإن لم تجدوا أحدًا في بيوت الآخرين ﴿ فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أي حتى يُوجَد مَن يَأذن لكم، ﴿ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا - لأمرٍ اقتضى ذلك - ﴿ فَارْجِعُوا وأنتم راضونَ غير ساخطين، لأنّ الرجوع في هذه الحالة ﴿ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ يعني أطهَر لنفوسكم (لأن الإنسان له أحوالٌ يَكره أن يَطَّلع عليها أحد)، ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وسيُجازي كل عاملٍ بعمله (إذاً فأطيعوه في تشريعه لكم بالاستئذان، حتى تَكملوا وتَسعدوا في الدنيا والآخرة).
 
الآية 29: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أي لا حرجَ عليكم ولا إثم في ﴿ أَنْ تَدْخُلُوا - بدون استئذان - ﴿ بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ أي ليست مُخَصّصة للسكن، وإنما ﴿ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ أي جُعِلَت ليَنتفع بها مَن يَحتاج إليها (كالبيوت المُعَدَّة لابن السبيل في طُرُق المسافرين وغير ذلك من المرافق العامة، فهذه الأماكن فيها منافع وحاجة لمن يدخلها)، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ أي يَعلم سبحانه أحوالكم الظاهرة والخفية، فلذلك شَرَّعَ لكم ما تحتاجونه، وكذلك يَعلم سبحانه ما في أنفسكم فاحذروه، (وفي هذا تحذير لمن يدخل البيوت ولا يُراعي حُرمتها، كالتطلع إلى العورات وغير ذلك)، بل على الإنسان أن يَجلس في مكانٍ لا يَكشف فيه عورة البيت.
 
الآية 30: ﴿ قُلْ - أيها النبي - ﴿ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عمَّا لا يَحِلُّ لهم من النساء والعورات، ﴿ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عمَّا حَرَّم الله من الزنى واللواط وكَشْف العورات وغير ذلك، ﴿ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ يعني أطهر لهم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (إذاً فلْيُراقبوه سبحانه فيما أمَرهم به ونَهاهم عنه، لأنهم سيَرجعون إليه بعد موتهم، وسيُجازيهم على أعمالهم).
واعلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُتبِع النظرةَ النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الثانية) (انظر حديث رقم: 7953 في صحيح الجامع)، والمقصود بالنظرة الأولى هي نظرة الفجأة، لأنه ثَبَتَ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن نظرة الفجأة فقال: (اصرف بصرك) (انظر صحيح سنن أبي داوود ج:2/ 246).
 
الآية 31: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ عمَّا لا يَحِلُّ لهنّ من العورات، ﴿ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ عمَّا حَرَّم الله، ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ﴾: أي لا يُظهِرنَ زينتهنّ للرجال، ويَتجَنّبنَ التبرج (كوَضْع العِطر والكُحل وغير ذلك)، ويَجتهدنَ في إخفاء مواضع الزينة ﴿ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا يعني إلا الزينة التي لابد من ظهورها للضرورة (كالعَينين للنظر بهما، والكَفّين لتناول شيئ، والثياب الظاهرة التي لابد من ارتدائها (ما لم يكن فيها شيءٌ يؤدي إلى الفتنة بها))، ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ يعني: ولْيُلقِينَ بغطاء رؤوسهنّ على صدورهنّ (حتى يَستُرنَ العُنُق والصدر سِتراً كاملاً).
 
﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾: أي لا يُظْهِرْنَ الزينة الخَفية إلا لأزواجهنّ (إذ يَرَونَ منهنّ ما لا يَرى غيرهم)، ﴿ أَوْ آَبَائِهِنَّ يعني: ويُباح لآبائهنّ رؤية بعض الزينة (كالوجه والعُنُق واليدين والساعدين)، واعلم أنّ الأجداد أيضاً يدخلون في لفظ: (آَبَائِهِنَّ﴿ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ ﴾: يعني وكذلك آباء أزواجهنّ (وكذلك أجدادهم)، ﴿ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ (ويَدخل في ذلك أحفادهنّ)، ﴿ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أي أبناء أزواجهنّ (وكذلك أحفادهم)، ﴿ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ ﴿ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ ﴿ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ (وسواء كان الأخوة والأخوات الأشِقّاء، أو الذين من جهة الأب، أو الذين من جهة الأم)، ﴿ أَوْ نِسَائِهِنَّ أي نساء أُمَّتِهن (والمقصود: النساء المُسلمات، أما النساء الكافرات فلا يَرَونَ منهنّ إلا الوجه والكفين، وأما غير ذلك فيكون إظهاره لهنّ للضرورة)، ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ يعني أو العبيد المَملوكون لها مِلكاً تاماً - دونَ أن يكون لها شريكٌ فيه - فلِلمُسلمة أن تكشف وجهها لخادمها المملوك، ﴿ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ يعني: وكذلك الرجال الذين لا شهوةَ لهم في النساء (مِثل البُلْه - وهم فاقِدي العقل - الذين يَتبعون غيرهم للطعام والشراب فقط)، ﴿ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ يعني: وكذلك الأطفال الصغار الذين ليس لهم عِلم بأمور عورات النساء، ولم توجد فيهم الشهوة بعد.
 
﴿ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ أي لا يَضرب النساء عند سَيْرهنّ بأرجلهنّ ﴿ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ﴾: أي ليُسْمِعْن الرجال صوت ما خَفِيَ من زينتهنّ كالخُلخال ونحوه (ومِن ذلك ما يُعرَف في عصرنا بـ (الكعب العالي)، ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة ربكم فيما أمَرَكم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات القبيحة ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتفوزوا بخيرَي الدنيا والآخرة.
واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فيه رَدٌّ على مَن يُكَفّر المسلمين بسبب ارتكابهم للذنوب، فإنّ اللهَ تعالى قد أمَرَ المؤمنين بالتوبة من الذنوب، ولم يَنزع عنهم لفظ الإيمان.
 
الآية 32: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾: أي زَوِّجوا مَن لا زوجَ له - من رجالكم ونسائكم - الأحرار، وأعِينوهم بالمال ليَعِفُّوا أنفسهم عن الحرام، ولا تُعَطِّلوا الزواجَ بطلب المهور الباهظة التي لا قدرةَ للرجال على تَحَمُّلها، فإنّ هذا لا يُرضي اللهَ تعالى، ﴿ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ﴾: أي وكذلك زَوِّجوا الصالحين مِن عبيدكم وجَواريكم، ﴿ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يعني إن يَكُن الراغبون في الزواج للعِفّة فقراء، فلا تَرفضوهم بسبب فقرهم، فقد تَكَفّلَ اللهُ بغِناهم بعد تزويجهم بقوله: ﴿ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عَونهم - وذَكَرَ منهم - الناكح الذي يريد العفاف) (انظر حديث رقم: 3050 في صحيح الجامع)، ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ أي كثيرُ الخير، عظيمُ الفضل، ﴿ عَلِيمٌ بحاجة المحتاجين.

الآية 33: ﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا يعني: والذين لا يَستطيعون الزواج - لعدم وجود مَن يَقبلهم بسبب فقرهم، أو لعدم وجود الزوجة المناسبة، أو غير ذلك مما يَمنعهم من الزواج - فعليهم أن يَعِفّوا أنفسهم عمَّا حَرَّمَ الله (وذلك بالصبر والصيام، وغض البصر، وبصرف الأفكار الرديئة التي تخطر بقلوبهم وغير ذلك) ﴿ حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بالمال اللازم للزواج، ﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يعني: والذين يريدون أن يَتحرروا - من العبيد والجَواري - عن طريق مُكاتَبة أسيادهم (أي التعاقد معهم والاتّفاق على بعض المال)، بحيث يؤدونه إليهم مُقابل حريتهم: ﴿ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا أي: فعَلَى أسيادهم أن يُكاتبوهم على ذلك إنْ عَلِموا فيهم خيرًا (مِن رُشدٍ وقدرةٍ على الكسب والسداد، وصلاحٍ في الدين)، ﴿ وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ يعني: وعلى الأغنياء أن يُعينوهم بشيئٍ من الزكاةِ وغيرها لسداد هذا المال لأسيادهم، وكذلك على أسيادهم أن يَضَعوا عنهم شيئاً من شروط هذه المكاتبة، (واعلم أنه سبحانه قد رَغَّبَهم في إعطائهم بقوله: ﴿ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ ﴾ أي: فكما أنّ المال مالُ الله، إذاً فأحسِنوا لعباد الله، كما أحسن اللهُ إليكم).
 
﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾: أي لا يَجوز لكم إكراه جَواريكم على الزنى طلبًا للمال (وكيف تفعلونَ ذلك وهُنّ يُرِدْن العفة عن الحرام؟)، (واعلم أنه تعالى قال: ﴿ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ﴾ لأنه لا يُتصَوَّر إكراهها إلا بهذه الحال، وأما إذا لم تُرِدْ تَحَصُّناً فإنها تكون زانية، ويَجب على سيّدها مَنعها مِن ذلك)، ﴿ وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ على الزنى ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ لهنّ ﴿ رَحِيمٌ بهنّ (والإثم على مَن أكْرههنّ).
 
الآية 34: ﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ - أيها الناس - ﴿ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ أي آيات مُوَضِّحات للشرائع والأحكام والآداب ﴿ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ يعني: وَوَضَّحنا لكم قصصاً من أخبار الأمم السابقة، مِمّا فيه عبرة لكم (كقصة يوسف وقصة مريم، وهما شَبيهتان بحادثة الإفك)، ﴿ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ الذين يخافونَ عذاب الله تعالى، فيؤدوا أوامره ويَجتنبوا نواهيه، (واعلم أنّ الموعظة هي ما يَتَّعِظ به العبد فيَسلك به طريق النجاة).

الربع الثالث من سورة النور

الآية 35، والآية 36، والآية 37، والآية 38: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (يُخبِرُ تعالى أنه لولا نوره وهدايته لَمَا كان في الكون نورٌ ولا هداية، فهو سبحانه نور، وحجابه نور، وكتابه نور، وهدايته نور)، ﴿ مَثَلُ نُورِهِ - وهو الإيمان والقرآن في قلب المؤمن - ﴿ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ وهي العمود (أو القنديل) الذي يوضع فيه فتيلة المصباح (حتى يَجمع نور المصباح فلا يتفرق)، وهذا ﴿ الْمِصْبَاحُ موضوعٌ ﴿ فِي زُجَاجَةٍ(لأنها جسمٌ شفاف فتُظهِر الضوء)، وهذه ﴿ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا - لصفائها - ﴿ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي كوكب مُضيء مُشرِق كالدُّر، ﴿ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ يعني: والزيت الذي توقد به فتيلة المصباح قد أُحضِرَ من شجرةٍ مباركة (وهي شجرة الزيتون)، وموقع هذه الشجرة من البستان أنها: ﴿ لَا شَرْقِيَّةٍ فقط (بحيث لا ترى الشمس إلا في الصباح)، ﴿ وَلَا غَرْبِيَّةٍ فقط (بحيث لا ترى الشمس إلا في المساء)، بل هي في وسط البستان، حتى تصيبها الشمس في كامل النهار، فلذلك كان زيتها في غاية الجودة، ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا من شدة صفائه ﴿ يُضِيءُ أي يَشتعل من نفسه ﴿ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ (فإذا مَسَّتْه النار - لإشعال الفتيلة - أضاءَ إضاءةً بليغة).
 
فهذا النور المجتمع في المصباح هو ﴿ نُورٌ عَلَى نُورٍ أي نورٌ من إشراق الزيت على نور من إشعال النار، وقد اختلطت هذه الأنوار في الزجاجة التي في القنديل فصارت كأنوَر ما تكون، (فذلك مَثَل الهدى الذي يُضيء في قلب المؤمن، يكاد يَعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم: زاده هدىً على هدىً ونوراً على نور، وبرهاناً بعد برهان)، ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾: أي يُوَفق اللهُ مَن يشاء لاتّباع كتابه (مِمّن عَلِمَ صِدقَ نيّته ورغبته في الإيمان)، ﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ليَفهموا ما يدعوهم إليه، ﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (ومِن ذلك عِلمه بعباده وأحوال قلوبهم، ومَن يستحق الهداية منهم ومَن لا يَستحقها) (اللهم اهدنا ولا تُضِلّنا، وثبِّتنا على الحق حتى نَلقاك).
 
وهذا النور الذي يَهدي اللهُ به عباده موجودٌ ﴿ فِي بُيُوتٍ أي في مساجد ﴿ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ﴾: يعني أَمَرَ اللهُ أن يُرْفع شأنها وبناؤها، ﴿ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (بالأذان والإقامة والصلاة والتسبيح والدعاء وقراءة القرآن)، ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ﴾: أي يُصلِّي للهِ في هذه البيوت - في الصباح وفي المساء - ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ أي لا تُشغِلهم ﴿ تِجَارَةٌ أي شراء ﴿ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (فألسنتهم وقلوبهم ذاكرةٌ غير غافلة) ﴿ وَ لا تُشغِلهم دُنياهم عن ﴿ إِقَامِ الصَّلَاةِ - في أوقاتها - بخشوعٍ وسكونٍ واطمئنان ﴿ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لمُستحقيها، ﴿ يَخَافُونَ يَوْمًا وهو يوم القيامة، الذي ﴿ تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ بين الرجاء في النجاة والخوف من العذاب، ﴿ وَ تتقلب فيه ﴿ الْأَبْصَارُ فتنظر إلى أيّ مصيرٍ تكون؟
 
وقد فعل هؤلاء الصالحون ما فعلوه مِن الذِكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة - مُعْرِضين عن كل ما يُشغلهم عن عبادة ربهم - فتأهَّلوا بذلك للثواب العظيم ﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ﴾: أي ليَجزيهم اللهُ على جميع أعمالهم بمِثل جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه في الدنيا، ﴿ وَيَزِيدَهُمْ سبحانه ﴿ مِنْ فَضْلِهِ بمضاعفة حسناتهم، ﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (أي بغير عدد ولا حَدّ)، بل يُعطيه مِنَ الأجر ما لا يَبلغه عمله، وذلك لِوَاسِع فضلِهِ سبحانه.

الآية 39: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا - بتوحيد ربهم - ﴿ أَعْمَالُهُمْ التي ظنوها نافعة لهم (كصِلة الأرحام وفِداء الأسرى وغيرها) ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ وهو ما يُشاهَد كالماء على قاع الأرض المستوية في الظهيرة، ﴿ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ أي يَظنُّه العطشانُ ﴿ مَاءً ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا (فكذلك الكافر: يظن أن أعماله تنفعه، فإذا كان يوم القيامة لم يجد لها ثوابًا) ﴿ وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ أي حاسبه على كل أعماله، وأعطاه جزاءه عليها كاملاً في جهنم، ﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ فلا يَشغله سبحانه شيءٌ عن آخر، ولا يُتعِبُهُ إحصاءٌ ولا عدد (فما هي إلا لحظات ويكون الكافر في نار جهنم).
 
الآية 40: ﴿ أَوْ مَثَلُ أعمالهم ﴿ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ أي في بحرٍ عميق ﴿ يَغْشَاهُ مَوْجٌ ﴾: أي يَعلوه موج، و﴿ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ آخر، و﴿ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ كثيف، ﴿ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴿ إِذَا أَخْرَجَ الناظر ﴿ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا من شدة الظلام (فكذلك الكافر: تراكمتْ عليه ظلمات الشرك والضلال وفساد الأعمال)، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا - مِن كتابه وسُنّة نَبيِّه - ليَهتدي به ﴿ فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ أي فما له مِن هادٍ يهديه من الضلال.

الآية 41: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾: يعني ألم تعلم - أيها النبي - ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ(حتى الكافر فإنه - وإنْ لم يُسَبّح اللهَ بلسانه - فإنه يُسَبّحه بحاله، إذ يَشهد بفِطرته أنّ اللهَ سبحانه هو الخالق القادر)، ﴿ وَالطَّيْرُ - بصفةٍ خاصة - تراها ﴿ صَافَّاتٍ أي تَبسط أجنحتها في السماء لتُسَبِّح ربها (وهذه هي صفة تسبيح الطير)، ﴿ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي: كل مخلوق قد أرشده اللهُ كيف يُصَلّي له ويُسَبِّحه ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ، (فإذا امتنع المشركون عن توحيد الله وطاعته، فإنّ اللهَ تعالى غَنِيٌّ عن عبادتهم، إذ يُسَبِّح له الملكوت العُلوي والسُفلي).
 
الآية 42: ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾: يعني وإليه سبحانه المَرجع يوم القيامة للحساب والجزاء.

الآية 43، والآية 44، والآية 45: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا أي يَسوقُ السحابَ إلى حيث يشاء ﴿ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ﴾: أي يَجمع أجزاء السحاب بعد تفرقه ﴿ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا أي يَجعله متراكمًا فوق بعض ﴿ فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر ﴿ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ أي مِن بين السحاب ليَحصل به الانتفاع، ﴿ وَيُنَزِّلُ سبحانه ﴿ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ﴾: أي يُنَزِّل من السحاب - الذي يشبه الجبال في عظمته - بَرَدًا (وهو حجارة بيضاء كالثلج) ﴿ فَيُصِيبُ بِهِ أي بذلك البَرَد ﴿ مَنْ يَشَاءُ مِن عباده، ليُهلِك به زرعه (بسبب ذنوبه) ﴿ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ (بفضله ورحمته)، ﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴾: أي يكاد ضوء البرق في السحاب يَخطف أبصار الناظرينَ إليه مِن شدته.

ثم وَضَّحَ سبحانه بعض دلائل قدرته، ليُبَيِّن لعباده أنه المُنفرد بالخلق والتدبير، وبأنه وحده المستحق للعبادة، فقال: ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (وذلك بمَجيء أحدهما بعد الآخر، واختلافهما طُولا وقِصَرًا)، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾: يعني إنّ في ذلك لَدلالةً يَعتبر بها أصحاب البصائر على قدرة الله تعالى ووجوب توحيده، ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ أي مِن نُطفة (وهو ماء الذكَر) ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي زحفًا ﴿ عَلَى بَطْنِهِ (كالثعابين)، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ (كالإنسان)، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ (كالبهائم)، ﴿ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (إذْ بعض الحيوانات لها أكثر من أربع)، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي قادرٌ على فِعل وإيجاد ما يريد، (ألاَ فاعبدوه وحده ولا تشركوا به).
 
الآية 46: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا في هذا القرآن ﴿ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ أي علامات واضحات مُرشِدات إلى الحق، ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي يُوَفق من يشاء - مِمّن رَغِبَ في الهداية وطَلَبَها وسَلَكَ طُرُقها - إلى طريقٍ مستقيم، وهو الإسلام (اللهم اجعلنا مِن أهله فإنك قدير).

الآية 47: ﴿ وَيَقُولُونَ أي يقول المنافقون - كَذِباً -: ﴿ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّى أي يُعرِض ﴿ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بقلوبهم عن الإيمان بالله وآياته ورسوله ﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أي مِن بعد تصريحهم بالإيمان والطاعة ﴿ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾.

الآية 48، والآية 49، والآية 50: ﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني: وإذا دُعوا - في خُصوماتهم - إلى ما في كتاب الله وإلى رسوله ﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي يُعرضوا عن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يعني: وإن يكن الحق في جانبهم: ﴿ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴾: أي يأتوا إلى النبي طائعينَ مُنقادينَ لحُكمه (لعِلمهم أنه يقضي بالحق)، ﴿ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾: يعني هل سَبَبُ ذلك الإعراض ما في قلوبهم من مرض النفاق؟، ﴿ أَمِ ارْتَابُوا ﴾: يعني أم شَكُّوا في نُبُوّة محمد صلى الله عليه وسلم؟، ﴿ أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ﴾: يعني أم يخافونَ أن يكون حُكم اللهِ ورسوله غير عادل؟!، والجواب: (كلا إنهم لا يخافون ذلك) ﴿ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ ﴾: يعني بل السبب أنهم هم الظالمون، لأنهم يَعلمون أنّ حُكم الرسول سيكون عادلاً، فلذلك يخافون أن يأخذ منهم ما ليس لهم فيه حقٌ، ويعطيه لخصومهم.
 
الآية 51: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ يعني إلى كتاب الله ﴿ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ في خُصوماتهم ﴿ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا ما قيل لنا ﴿ وَأَطَعْنَا مَن دَعانا إلى التحاكم، وقَبِلنا حُكم رسولنا ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزونَ بجنات النعيم.

الآية 52: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأمر والنهي، ﴿ وَيَخْشَ اللَّهَ أي يَخَافُ أن يُعاقبه اللهُ على ما مَضَى مِن عُمره في المعصية، ﴿ وَيَتَّقْهِ ﴾: أي يَحذر الوقوع في مَعصيته في المُستقبل: ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بالنجاة من النار ودخول الجنة.

الربع الأخير من سورة النور

الآية 53: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أي أقسَمَ المنافقون لك - أيها الرسول - بأغلظ الأيمانٍ بأنك ﴿ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ بالخروج للجهاد معك ﴿ لَيَخْرُجُنَّ ﴿ قُلْ لهم: ﴿ لَا تُقْسِمُوا كَذِبًا، ﴿ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ﴾: أي فطاعتكم معروفة أنها باللسان فقط، ﴿ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وسيُجازيكم على أعمالكم.
 
الآية 54: ﴿ قُلْ - أيها الرسول - للناس: ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾: يعني فإن تتولوا (والمعنى: فإن تُعرِضوا عن الطاعة وتَرفضوها): ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ﴾: يعني فإنما على الرسول أن يَفعل ما أُمِرَ به مِن تبليغ الرسالة وبَيانها قولاً وعملاً، ﴿ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ أي: وعلى الجميع وجوب الانقياد والطاعة، والعمل بشرع اللهِ تعالى، ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ صلى الله عليه وسلم ﴿ تَهْتَدُوا إلى الحق، ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ أي البلاغ الواضح لرسالة ربه، وليس عليه هداية القلوب، لأنها بيد اللهِ وحده (إذاً فاطلبوها منه تعالى بصِدقٍ وتضرع).
 
الآية 55، والآية 56: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بأنه سبحانه ﴿ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي سيُوَرِّثهم أرض المشركين ويَجعلهم خلفاء فيها بعد أن يَنصرهم عليهم ﴿ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾: يعني كما فعل ذلك مع مَن سَبَقوهم من المؤمنين، ﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ يعني: وسيَجعل دينهم الذي ارتضاه لهم - وهو الإسلام - دينًا عزيزًا ذي مكانةٍ عالية (بأن يُظهِره على سائر الأديان، ويَحفظه من الزوال) ﴿ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾: أي سوف يُبَدِّل سبحانه حالهم من الخوف إلى الأمن.
♦ واعلم أنّ هذه الآية قد نزلت بالمدينةِ والمسلمون خائفون، لا يَقدر أحدهم أن يَنام وسَيْفُهُ بعيدٌ عنه، وذلك بسبب شدة الخوف من الكافرين والمنافقين، حتى أنجز اللهُ لهم وَعْده، فنَصَرهم على أعدائهم واستخلفهم في أرضهم، وبَدَّلَهم بعد خوفهم أمناً، ولقد صَدَقَ النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأصحابه - كما في صحيح البخاري -: (واللهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمر - أي الإسلام - حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حَضْرَمَوت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
♦ ثم وَضَّحَ سبحانه سبب نَصْره وتمكينه لهؤلاء المؤمنين فقال: ﴿ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴿ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أي بعد ذلك النصر والأمن والتمكين، وجَحَدَ نِعَم الله عليه ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أي الخارجون عن طاعة الله تعالى.
♦ واعلم أنّ العبادة قد عرَّفها ابن تَيْمِيَة رحمه الله بأنها: (هي اسمٌ جامع لكل ما يُحبه اللهُ ويَرضاهُ من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة)، وعَرَّفها ابن القَيِّم رحمه الله بأنها: (هي كمال الحب مع كمال الذل).
♦ ثم وَضَّحَ لهم سبحانه أهم أركان هذه العبادة فقال: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ أي في أوقاتها (بخشوعٍ واطمئنان) ﴿ وَآَتُوا الزَّكَاةَ لمُستحقيها ﴿ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي ليَرحمكم الله تعالى في دُنياكم وآخرتكم فلا يُعَذبكم فيهما، (وفي هذا إشارة إلى أهمية السُنّة ووجوب اتّباعها وعدم التفريط فيها).
 
الآية 57: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ أيها الرسول أنّ ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ يعني إنهم لن يُعجزو اللهَ تعالى إذا حاولوا الهرب في الأرض، وإنه سبحانه قادرٌ على إهلاكهم في الدنيا قبل الآخرة (كما حدث ذلك في بدر) ﴿ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ أي: ومَرجعهم في الآخرة إلى النار ﴿ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ، (واعلم أنّ الآية تَحمل تصبيراً للنبي صلى الله عليه وسلم).
 
الآية 58: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ أي مُرُوا عبيدكم وجَواريكم والأطفال الأحرار الذين لم يَبلغوا سن الاحتلام أن يستأذنوا عند الدخول عليكم ﴿ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وهي أوقات عوراتكم الثلاثة: ﴿ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ لأنه وقت الخروج مِن ثياب النوم ولِبْس ثياب اليقظة، ﴿ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وهو وقت خلع الثياب في الظهيرة للاستراحة أو النوم، ﴿ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لأنه وقت النوم، فهذه الأوقات هي ﴿ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ أي يَقِلّ فيها التَسَتُّر، و﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ﴾: يعني أمّا في غير هذه الأوقات فلا حرجَ عليهم ولا عليكم إذا دخلوا بغير إذن (لحاجتهم في الدخول عليكم)، لأنهم ﴿ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي يَدخلون ويَخرجون عليكم للخدمة، ﴿ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ أي: بعضكم لابد أن يدخل على بعض (فأنتم تدخلون عليهم لطلب حاجتكم، وهم يدخلون عليكم للخدمة)، فلذلك لا حرج عليكم في غير هذه الأوقات الثلاثة، ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ يعني: وكما بيَّن اللهُ لكم أحكام الاستئذان، فكذلك يُبَيِّن لكم الآيات المتضمنة للشرائع والأحكام والحُجَج والآداب، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما يُصلِح خَلْقه، ﴿ حَكِيمٌ في تدبير أمورهم.
 
الآية 59: ﴿ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ (وهو سن الاحتلام والتكليف بالأحكام الشرعية): ﴿ فَلْيَسْتَأْذِنُوا - إذا أرادوا الدخول عليكم - في كل الأوقات ﴿ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كما يَستأذن الكبار (لأنهم أصبحوا مُكَلَّفين مِثلهم)، ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ المتضمنة لأحكامه وشرائعه ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما يَحتاجه خَلْقه، ﴿ حَكِيمٌ في تشريعاته لهم، (لِذا فعَلَى عباده أن يُطيعوه فيما يأمرهم به ويَنهاهم عنه).
 
الآية 60: ﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا يعني: والعجائز من النساء اللاتي قَعَدنَ - أي يَئِسنَ - من الزواج والحمل والحيض لكِبَر سِنِّهِنّ (فلا يَرغبنَ في الرجال للزواج، وكذلك لا يَرغب فيهنّ الرجال) ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ ﴾: أي فليس على هؤلاء النساء إثم في ﴿ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ أي يَتخَففنَ مِن بعض ثيابهنّ الظاهرة (كالعَباءة التي تكون فوق الثياب، والقناع الذي فوق الوجه، والخمار الذي فوق حجاب الرأس)، بشرط أن يَكُنّ ﴿ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾: يعني غير مُظهِراتٍ للزينة (كالثياب الضيقة أو الشفافة، أو وَضْع الكُحل والعِطر وما يُعرَف بـ "أحمر الشفتين"، وغير ذلك مما هو زينة يَجب سِتره)، ﴿ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ يعني: ولُبْسهن لهذه الثياب - سِترًا وتعففًا - أمام غير المحارم: أحسن لهنّ.
♦ وقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيه تحذيرٌ لهؤلاء القواعد من التوسع في الرخصة التي أباحها اللهُ لهنّ، أو جَعْلها وسيلة لما لا يحُمَد عُقباه، فلَفْظ (السميع) لتذكيرهنّ بأنه سبحانه يَسمع ترقيق أصواتهنّ أمام الرجال، وكذلك يَسمع ما تحدثهنّ به أنفسهنّ من المقاصد والنوايا، ولَفْظ (العليم) لتذكيرهنّ بأنه سبحانه يَعلم أحوال وضعهنّ للثياب وتبرجهنّ وغير ذلك.
 
الآية 61: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾: أي ليس على أصحاب هذه الأعذار إثم ولا حرج في الأكل مِن بيوت المسلمين (لأنهم غير قادرين على التَكَسُّب)، وكذلك لا حرج عليهم في الأكل مع الأصِحَّاء، (وذلك لأن أصحاب الأعذار شعروا بالحرج من الأكل مع الأصِحَّاء، خوفاً من أن يكون الأصِحَّاء يَتَأذّون منهم فآلَمَهُم ذلك، فأنزل اللهُ هذه الآية ليَرفع الحرج عنهم)، ﴿ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ - أيها المؤمنون - حرجٌ في ﴿ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ ﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ﴾: يعني أو أن تأكلوا من البيوت التي وُكِّلْتم بحِفظها في غياب أصحابها، ﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾: يعني أو أن تأكلوا من بيوت الأصدقاء، و﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ﴾: أي لا حرج عليكم أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين (يعني: كل واحد بمفرده)، إذ كان بعضهم يَتحرج من الأكل بمفرده.
♦ واعلم أنه لا ينبغي أن يُفهم مِن كلمة: (مجتمعِين) أن يأكل النساء مع رجالٍ غير أزواجهنّ ومَحارمهنّ، فإنّ هذا لا يَجُوز، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا - مسكونة أو غير مسكونة - ﴿ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أي: فليُسَلِّم بعضكم على بعضٍ بتحية الإسلام، وهي: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، (أو: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) (إذا لم يوجد فيها أحد).
♦ وقد كانت هذه التحية التي شرعها اللهُ لكم ﴿ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لأنه هو الذي شَرَعها وأمَرَ بها، ﴿ مُبَارَكَةً أي تعود بالنفع والخير على الجميع، ﴿ طَيِّبَةً أي محبوبة للسامع، ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ والأحكام ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لتعقلوا هذه الآيات وتعملوا بها.
♦ واعلم أنه قد ثَبَتَ في صحيح مُسلِم دعاء دخول المَنزل، وهو أن يقول المؤمن: "اللهم إني أسألك خير المَوْلَج - (أي: خير المَدخل) - وخير المَخرج، بسم الله وَلَجنا - (أي: دَخَلنا) - وبسم الله خَرَجنا وعلى الله ربنا توكلنا"، ثم يُسَلّم على أهله.
 
الآية 62: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ حقًا هم ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴿ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ ﴾: يعني إذا كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على أمرٍ جَمَعَهم له في مصلحة المسلمين: ﴿ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ﴾: أي لم يَنصرف أحدٌ منهم حتى يَستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ - أيها الرسول - ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ حقًا، ﴿ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أي لأجل بعض حاجتهم ﴿ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ أي ائذَن لمن طلب الانصراف لعذر، ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَلأنّ عُذرهم قد يكون غير مُبيحٍ للاستئذان، ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوب عباده التائبين، ﴿ رَحِيمٌ بهم.
 
الآية 63: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا يعني: لا تقولوا - أيها المؤمنون - عند ندائكم لرسول الله: يا محمد، كما تنادونَ بعضكم، ولكن شرِّفوه، وقولوا: (يا رسول الله)، ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المنافقين ﴿ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ ليَخرجوا من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم بغير إذنه ﴿ لِوَاذًا أي يَستر بعضهم بعضاً، ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم ﴿ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي تَنزل بهم مِحنة وشر أو أن يُضِلّ اللهُ قلوبهم فيَكفروا ﴿ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الآخرة، (وفي هذا دليل على أنّ المتجرىء على الاستهانة بسُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم يُخشَى عليه مِن سُوء الخاتمة).
 
الآية 64: ﴿ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - خَلقاً ومُلكاً وتصرُّفاً وتدبيراً - فهو سبحانه يتصرف كما يشاء، ويَحكم ما يريد (ومِن ذلك أمْرُهُ تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالفة أمْره)، ﴿ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ﴾: أي قد أحاط عِلْمه سبحانه بجميع ما أنتم عليه، ﴿ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ أي جميع الخلق يوم القيامة ﴿ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا ويُجازيهم على أعمالهم ﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.

♦ واعلم أنّ كلمة: (قد) المذكورة في قوله تعالى: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ، وفي قوله تعالى: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ ﴾ جاءت هنا للتأكيد والتقرير، إذ هي تأتي أحياناً للتقليل، وتأتي أحياناً للتكثير.
 
 
 
 
 
(1) وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
 
واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
 

رامي حنفى محمود

شبكة الالوكة

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×