اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

الطغاة والطغيان في القرآن الكريم - خالد رمضان

المشاركات التي تم ترشيحها

تميزت معالجة القرآن الكريم لموضوعاته بشمولية التناول وتنوُّعِها؛ إذ قد تختلف الظروف المحيطة بموضوع ما بحيث يكون له أثر على سير الأحداث والنتائج من باب أَوْلَى. ومن هذه الموضوعات المهمة موضوع الطغاة والطغيان الذي كان محوراً هاماً في كتاب الله يوضح مفهوم الطغاة والتعريف بالطاغين وأنواعهم، وصفاتهم، وبواعث الطغيان لديهم، وأساليبهم، ومصائرهم.

المفهوم:
مفهوم الطغيان في العربية:

قال ابن فارس: "الطاء والغين والحرف المعتل أصل صحيح منقاس، وهو مجاوزة الحد في العصيان" [1]، وكلُّ شيء يجاوز الحد فقد طغى، مثلما طغى الماء على قوم نوح. قال سبحانه: {إنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [سورة الحاقة، الآية: 11].

الطغيان في الاستعمال القرآني:
وردت كلمة (طغى) ومشتقاتها في تسعة وثلاثين موضعاً من القرآن الكريم، وبصيَغ وتصريفات مختلفة: (طغى، يطغى، أطغى، تطغوا، طغوا، أطغيته، طغيان، طغوى، طاغية، طاغوت، طاغين، طاغون).

ويمكن القول بأن هذه المعاني يجمعها شيء واحد، وهو: المعنى اللغوي (مجاوزة الحد) لكلمة الطغيان، مع عدم إغفال السياق القرآني الذي يضفي معانٍ جديدةً على الكلمات أثناء البحث والتحقيق.



وأما استعمالات القرآن لها، فقد ذكر ابن سلاَّم وغيره أنَّ الطغيان في القرآن الكريم على أربعة أوجه [2]:

(1) الطغيان بمعنى الضَّلالة؛ وذلك كما في قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [سورة البقرة، الآية: 51].

(2) الطغيان بمعنى العصيان؛ وذلك كما في قوله تعالى: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} [سورة طه، الآية: 24].

(3) الطغيان بمعنى الارتفاع والتكثُّر؛ وذلك كما قوله تعالى: {إنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} [سورة الحاقة، الآية: 11].

(4) الطغيان بمعنى الظلم؛ وذلك كما في قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [سورة النجم، الآية: 17]، وقوله سبحانه: {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [سورة الرحمن، الآية: 8].


أما الطاغوت فقد أوردتْ له كُتُب الوجوه والنظائر المعاني الآتية:

(1) الطاغوت يراد به الشيطان؛ وذلك في قوله تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [سورة البقرة، الآية: 256].

(2) الطاغوت يراد به الأوثان التي تُعبَد من دون الله؛ وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل، الآية: 36].

(3) الطاغوت يعنى به كعب بن الأشرف اليهودي؛ وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء، الآية: 51].


أسباب الطغيان:

بالنظر إلى تناوُل القرآن لأحوال الطغاة وممارساتهم للطغيان (قديماً وحديثاً)، يجد المرء أن لهذا الداء العضال أسباباً متعددة كأي مرض آخر (حسي أو معنوي)، وهذا ما تشير إليه الدراسات والبحوث الحديثة التي أجريت عن نفسية الطغاة، والأسباب التي تجعل من الطاغية وحشاً ضارياً.

وقد أشار القرآن الكريم -في معرض تناوُله لأحوال الطغاة وإدانة أعمالهم- إلى تلك الأسباب التي دفعت بأصحابها إلى ممارسة هذه الظاهرة القديمة الحديثة، وبالتدقيق في هذه الأسباب يُستخلَص منها أنها تنقسم إلى قسمين: (داخلية وخارجية)، ونعني بالداخلية: تلك الإشكالات النفسية التي غزت باطن هذا الطاغية، وأخذت بمجامع قلبه حتى أسودَّ قلبه بدخانها؛ فدبَّ إلى قلبه من سمومها وآفاتها ما دفعه إلى الطغيان. وأما الخارجية فنعني بها: تلك الظروف والأجواء التي هيأت له المناخ المناسب لممارسة طغيانه وعتوِّه، وساعدت في طول أمده وبقائه وسيطرته.

ويرجع إلى هذين النوعين معظم ممارسات الطغاة التي صنعت الطواغيت وأوجدتهم وهي في الوقت ذاته القاسم المشترك والجامع لكل طاغية على وجه الأرض.


أسباب الطغيان الداخلية أو (الباطنية):

الكبر والعلو: ويكاد يكون هذا السبب هو الجامع الرئيسيُّ بين الطغاة، ويصنف على رأس أوَّليات أسباب الطغيان، وأبرز الشخصيات التي تمثل هذا السبب على الإطلاق شخصية الطاغية فرعون؛ الذي اجتمعت فيه كلُّ أسباب الطغيان الداخلية والخارجية، ومارس كل صنوف الطغيان بحق قومه. قال الله سبحانه عن فرعون: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [سورة القصص، الآية: 4]، وقال تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [سورة القصص، الآية: 39].

العجب والغرور: وهذه آفة الطغاة في عتوهم وتجبُّرهم وعدم قَبُولهم الحق والانصياع له؛ ولذلك قال الله عز وجل ذاكراً حال قوم عاد لما طغوا وتكبروا على ربهم، ثم على نبيهم: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [سورة فصلت، الآية: 15]. ومن صور مباهاة الطاغية فرعون ومفاخراته أنه جعل يستحقر الآخرين ويعيبهم عجباً وغروراً فقال عن موسى عليه السلام: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [سورة الزخرف، الآية: 52].

الحقد والحسد: وهو الداء الذي يحرق قلب صاحبه إذا ما رأى لله على غيره منَّة أو أسبغ عليه نعمة، فيدفعه ذلك إلى ممارسة الطغيان، وهذا كان سبب طغيان اليهود ورفضهم قبول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه مكتوب عندهم في التوراة؛ فقد أنكر الله عليهم حسدهم لرسوله صلى الله عليه وسلم على الرسالة وحسدهم لأصحابه على الإيمان. قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه} [سورة النساء، الآية: 45]، ولا شك أن ذلك ناتج عن الحقد والحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سبحانه: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [سورة المائدة، الآية: 64].

أسباب الطغيان الخارجية:

الملك والسلطة: وهي من أعظم الأسباب الباعثة على الطغيان، وبالأخص منهم طغاة الحكم والسياسة؛ ولذلك ذكر الله في القرآن الملك النمرود الذي طغى وتجبَّر حتى وصل به الأمر إلى أن ادَّعى الربوبية، وكان الباعث له على ذلك الملك والسلطة. قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [سورة البقرة، الآية: 258]. وهذا فرعون يبرر فجورَه وعلوَّه في الأرض كما أخبر القرآن عنه. يقول : {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [سورة الزخرف، الآية: 51].

المال والولد: وذلك إذا ضعف من قلب صاحبه الإيمان والتقوى وشعوره بفقره وحاجته إلى الله. يقول تعالى: {كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [سورة العلق، الآيات: 6-7] . والولد كذلك قد يؤدي بوالديه إلى الطغيان إن كان كافراً؛ وذلك بدافع حبهما له. يقول تعالى: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [سورة الكهف، الآية: 80]. ولما كان المال مفضياً لما ذكرتُ من الطغيان فإن من دعاء موسى عليه السلام قوله: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [سورة يونس، الآية: 88].

غفلة الناس عن حقوقهم وقبولهم الظلم: إن الشعوب إذا استمرأت الظلم ورضيت بالهوان وغلب عليها الخوف؛ أعطت الطاغية فرصة وشجعته على الاستمرار والزيادة في البغي. لنلاحظ كيف بلغ الخوف بقوم موسى عليه السلام حيث أعطاهم الله الملْك، ونجاهم من فرعون، وكتب الله لهم الأرض المقدسة أنها لهم، وطلب منهم مواجهة الجبارين فرفضوا؛ فكيف سينتصرون إذن: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإنَّا دَاخِلُونَ} [سورة المائدة، الآيات: 21-22] ولا شك أن غفلتهم وسكوتهم عن أعمال فرعون وقبولَهم استبداده هو ما جرَّأه عليهم من قبل ولكنهم لم يتعظوا {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [سورة الزخرف، الآية: 54]، وفي الوقت الذي كان موسى عليه السلام يحثهم على الصبر والاستعانة بالله على فرعون وجنوده، كانوا يواجهونه بالاستكانة والاحباط والذل والهوان: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [سورة الأعراف، الآيات: 127-129].

صور الطغيان:

إنَّ للطغيان نماذج وصوراً متعددة، تتعدد وتتنوع بحسب الزمان والمكان، ونفسية الطاغية وعناده وتكبُّره، وهيمنته الاقتصادية وقوَّته العسكرية، وكذلك بحسب تقدُّم الزمن وتطور أساليب الطغيان... لذا فإن صور الطغيان تختلف من طاغية لآخر؛ لكن يجمعهم: انتكاسة الفكر، وانحراف الأخلاق، وانعدام الرحمة، وفَقْد الإحساس، والإمعان في الظلم والتعذيب. مع ملاحظة اختلافهم في دقة تطبيق هذه الصور ومدى تنفيذها، وشمول وعموم من تُمارَس عليهم، فمن هذه الصور:

الظلم والتجبُّر والاستبداد: يُعَد ظلم الناس وتهميشهم وهضم حقوقهم وسلب مقدراتهم وإراداتهم من أبرز صور الطغيان قديماً وحديثاً، وكم عانت الشعوب المستضعفة المقهورة من ظلم الطغاة وجَوْرِهم وتجبُّرهم: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [سورة الفجر، الآيات: 10-14]، وقال سبحانه: {وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [سورة الشعراء، الآية: 130] وقال: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [سورة هود، الآية: 59].

القتل والتعذيب والتنكيل: وهذا من أشنع صور الطغيان وأقبحه، وقد أخبر الله عن فرعون قولَه: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [سورة الأعراف، الآية: 127]، وقال عنه أيضاً: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [سورة القصص، الآية: 4]. وفرعون الذي كان يذبح الأولاد خوفاً من رؤيا رآها يكرس نموذجاً للظالم الباغي الحريص على ملكه، والمشكلة أن الطغاة في كل عصر يمارسون صور الظلم نفسها، وهذا يفسِّر تشابُه قلوب الظالمين الأوائل والمعاصرين؛ ففي سبيل الحكم يمكن أن يقتل شعبه ويجوِّعهم ويسلط عليهم المرتزقة من شرار الخلق. وقصَّ الله علينا سبحانه ما تعرَّض له أصحاب الأخدود من صور القتل والإجرام، فقال: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سورة البروج، الآيات: 4-8].

فرض الرأي ومصادرة الحقوق والحريات: فالطغاة على مرِّ التاريخ يفرضون آراءهم وأهواءهم على أقوامهم، ويجعلونها عليهم قوانين إلزامية، ويقسرونهم على قبولها والانقياد لها قسراً، ويصادرون حرِّياتهم وحقوقَهم المشْروعة في الاختيار والقبول والرَّفض؛ فعليهم ألا يعتقدوا ويعتنقوا إلا ما يعتقد الطاغية ويعتنق، ومن سوَّلت له نفسه أن يخالف أو يرفض يستخدمون معه أبشع أساليب القمع والتنكيل. والعجيب أنهم يصورون أنفسهم على أنهم أصحاب الحق وأن غيرهم مفسد في الأرض! ولاحظ مقالة الملأ من أعوان فرعون {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [سورة الأعراف، الآية: 127]. ومنطق الطاغية واحد كما قال فرعون لقومه {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [سورة غافر، الآية: 29]، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [سورة القصص، الآية: 38]. وقال لموسى عليه السلام: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [سورة الشعراء، الآية: 29]. وقال قوم شعيب له ولأتباعه: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [سورة الأعراف، الآية: 88].

وسائل معالجة القرآن للطغيان:

لقد عالج القرآن الكريم جريمة الطغيان؛ وقدم جملةً من الحلول التي تمنع وقوعه أو تخفف أثره، واستقصاءُ هذه الحلول وتتبُّعها يفضي بنا إلى التطويل؛ لكن نشير إلى أهم الوسائل في ذلك:

أولاً: النهي الصريح عن الطغيان: بكل صوره وأشكاله، وتقبيحه وذمِّه وإدانته وأهلَه؛ سواء كان التعدي على الآخرين بالقتل أو ما دونه، أو أكل أموال الناس وسائر الظلم والبغي والطغيان. قال تعالى: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [سورة طه، الآية: 81]، وقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة هود، الآية: 112].

ثانياً: الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك: وتُعَد من أقوى موانع الطغيان. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل، الآية: 36]، فالملاحظ من هذه الآية أن جُلَّ اهتمام الأنبياء والمرسلين وجهدِهم، كان منصبّاً في الدرجة الأُولَى على بناء العقيدة، وغرس معانيها في النفوس؛ لأن الإيمان بالله وعبادته بالمعنى الشامل، يؤديان إلى اجتناب الطغيان.

ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الوسائل لمنع الطغيان؛ ولذلك صرَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن التفريط بهذا الواجب مؤدٍّ إلى ظهور الطغيان والتسلط في المجتمع. قال: «لتأمرُن بالمعروف ولتنهوُن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم، فلا يستجاب لهم» [3].

رابعاً: الحوار والجدال بالقول الليِّن الحسن: وهذه الوسيلة من أنفع الوسائل منعاً للطغيان (إن صادفت محلاً من قلب الطاغية وعقله)، وقد أمر الله رسله باتخاذها وسيلة لمعالجة الطغيان؛ وإلا كانت لمزيد إقامة الحجة على الطاغية وإبراء الذمة في الإنكار عليه. قال تعالى مخاطباً موسى وهارون: {اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه، الآيات: 43-44].

الشجاعة والمبادرة في مواجهة الطغاة:

قال تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [سورة المائدة، الآية: 23]. وهذه وصية عظيمة قالها رجلان صالحان لقومهم، وهذا يؤكد دَوْر أهل الدين والصلاح في قيادة الأمة للوقوف في وجه الطغاة واقتحام الأبواب المغلقة من قِبَلهم.

إنهما (رجلان من الذين يخافون الله، ينشئ لهما الخوف من الله سبحانه استهانة بالجبارين، ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم. وهذان هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس. فالله سبحانه لا يجمع في قلبٍ واحد بين مخافتين: مخافته جل جلاله ومخافة الناس. والذي يخاف الله لا يخاف أحداً بعده ولا يخاف شيئاً سواه {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإنَّكُمْ غَالِبُونَ} [سورة المائدة، الآية: 23]؛ إنها قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب؛ أقدِموا واقتحِموا؛ فمتى دخلتم على القوم في عُقْر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم، وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم). وتعتبر هذه الآية أصلاً في كسر جدار الذل والهوان والخوف الذي استسلم له كثير من الناس، وظنوا -إن لم يوقنوا- أنه لا سبيل للخلاص مما هم فيه من تسلط الطغاة والجبارين.

وهذا الشعور لا سبيل مع وجوده إلى نصر أو عزة وكرامة، ولا يمكن معه التفكير في المقاومة، فضلاً عن المهاجمة والمطالبة. فلا بد من كسر ذلك الحاجز النفسي والثورة على تلك النفس الراضية بالذل والهوان؛ وهو ما أرشدت إليه هذه الوصية الحكيمة؛ فهم لم يطلبوا من قومهم مواجهة الجبارين، بل اكتفوا بأمرهم بدخول الباب عليهم؛ وهذا الدخول يمثل كسر حالة الضعف والجبن والخور الذي وصلوا إليها، كما يدل على ذلك سياق الآيات الكريمة؛ فهم القائلون: {إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإنَّا دَاخِلُونَ



اسلاميات

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×