اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

خمس وقفات حول قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}

المشاركات التي تم ترشيحها

إذا كان لابدّ لأيّ متحدّث عن أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلَّم إلاّ أن يذكر هذه الآية الكريمة:، ويتناولها بشيء من البيان، فهي في الحقيقة لا تقتصر على أن تكون دليلاً قويّاً على عظمة أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلَّم، ولكنّها قبل كلّ شيء شهادة من الله تعالى، الذي يعلم السرّ وأخفى، وكفى بالله شهيداً..

وهي على وجازة كلماتها تحمل معاني جمّة، ودلالات عميقة، وإشارات لطيفة، يحسن الوقوف عندها، واستجلاء ما فيها.


الوقفة الأولى: لقد أكّد الله تعالى وصف أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلَّم بالعظمة بثلاثة مؤكّدات: ( إنّ، والجملة الاسميّة، ولام التوكيد ) ليدلّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلَّم كان مجبولاً على الأخلاق الزكيّة الكريمة، بأصل فطرته الطاهرة النقيّة، لم ينل ذلك بتكلّف أو مجاهدة نفس، بل بجودٍ إلهيّ واصطفاء، وتكريم وعطاء، والله أعلم حيث يجعل رسالته..


والوقفة الثانية: لماذا قال الله تعالى: " لَعَلى خُلُقٍ.. ولم يقل: ذو خُلُقٍ.. فمن المعلوم عند علماء اللغة أنّ ( على ) تدلّ على التمكّن من الشيء تمكّن قوّةٍ وإحاطة، وهذا أبلغ من مجرّد الوصف، فالنبيّ صلى الله عليه وسلَّم كان متمكّناً من مكارم الأخلاق، بتوفيق الله تعالى وعطائه، وعونه ومدده، كتمكّن المعدن النفيس من حقيقته الذاتيّة الثمينة، التي بها كان سيّداً على ما سواه من المعادن، ومعنى الآية الكريمة " أي: وإنّك لمفطور على خلقٍ عظيم، فأنتَ متمكّن منه تمكّن القادر على الشيء باستعلاء، فحرف " على " يدلّ على هذا التمكّن باستعلاء. [ كتاب: " معارج التفكّر ودقائق التدبّر "1 /214 للشيخ عبد الرحمن حسن حبنّكة].


والوقفة الثالثة: لماذا وصف الله تعالى أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلَّم بالعظمة، ولم يصفها بالحسن مثلاً أو الكرم.؟ ومعلوم أنّ من الشائع كثيراً قول الناس: أخلاق كريمة، ومن غير الشائع القول: أخلاق عظيمة، والجواب عن ذلك: أنّ وصف الأخلاق بالعظمة أبلغ كثيراً عن وصفها بالحسن أو الكرم، وذلك أنّ عظمة الأخلاق تدلّ على معان كثيرة، واسعة شاملة، ما يحيط بها وصف الأخلاق بالحسن أو الكرم، فوصف الأخلاق بالحسن أو الكرم قد يقترن بنظر كثير من الناس بضعف الشخصيّة، ووهن العزيمة، وإيثار الراحة والسلامة، والعجز عن نيل الحقّ..

أمّا وصف الأخلاق بالعظمة فهو بمنأى عن ذلك كلّه.. إنّها عَظمة قوّة الشخصيّة، وسموِّ النفس، وعلوّ الهمّة، وقوّة الاتّصال بالله تعالى، والتحقّق بعبوديّته، الذي لأجله سبحانه، وفي سبيله يُتحلّى بهذه الأخلاق، ويستمسك بها..


والوقفة الرابعة: أنّ هذه الآية الكريمة جاءت في مساق الردّ على اتّهام المشركين للنبيّ صلى الله عليه وسلَّم بالجنون، وعجباً لا يكاد ينقضي! إنّه صلى الله عليه وسلَّم أعظم العقلاء عقلاً يتّهم بالجنون.! وأصدق الناس قولاً يتّهم بالكذب.! ويحاصر بهذه الأقاويل من أقرب الناس إليه، إنّها حرب نفسيّة ضروس، تمتحن صدق الإنسان في دعوته، وتختبر ثبات شخصيّته وقوّة إرادته، فماذا كان موقفه.؟ لقد قال الكلمة التي ما عرف التاريخ لها مثيلاً: " والله يا عمّ! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتّى يظهره الله أو أهلك دونه " [كتاب: السيرة النبويّة لابن هشام 1/266].


لقد اقتضت الحكمة التربويّة أن يرشد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلَّم في موقف التكذيب، والاتّهام الكاذب الأثيم، إلى الصبر والحلم والصفح وسعة الصدر، ومتابعة قيامه بوظائف رسالات ربّه بأسلوب الثناء عليه بأنّه لعلى خلقٍ عظيم، أي فتعامل معهم يا محمّد صلى الله عليه وسلَّم بهذا الخلق العظيم، الذي فطرت عليه، إذ تدعوهم إلى سبيل ربّك، وإذ تنال منهم ما تنال من الأذى.

وهنا نلاحظ أنّ الله عزّ وجلّ لم يأمر رسوله صلى الله عليه وسلَّم صراحةً بالصبر والحلم والصفح وسعة الصدر، وتحمّل الأذى من قومه، ومتابعة قيامه بوظائف رسالته، وإنّما ألمح له إلى ذلك إلماحاً، بالثناء عليه بما هو عليه من الخلقٍ العظيم، الذي هو عنوان شخصيّته، وحقيقة معدنه، وقاعدة حياته..


والوقفة الخامسة: وإذا كان لابدّ لنا من استجلاء أهمّ جوانب عظمة الأخلاق النبويّة، فإنّ أهمّها في اجتهادي أربعة جوانب، وكلّ جانب منها يحتاج أن يفرد بالبحث والدراسة، وأقتصر في الحديث عنها هنا على الإشارة العابرة الموجزة:

الجانب الأوّل: شمول أخلاقه لما جاء في القرآن الكريم، وما اشتمل عليه التشريع الحكيم.

والجانب الثاني: شمول أخلاقه لكمالات من سبقه من الأنبياء والمرسلين.

والجانب الثالث: كمالات أخلاقه لا تتناهى.

والجانب الرابع: شمول أخلاقه العظيمة لجميع الظروف والأحوال التي مرّ بها، وقد قدّمت سيرته العطرة مئات البراهين على ذلك، وهي في الوقت نفسه تقدّم للمؤمنين به المثل الإنسانيّ الأعلى للتأسيّ والاقتداء..

ويترتّب على هذه الجوانب أنّ هذه الآية الكريمة تتحدّى الثقلين أن يأتي أحد بمثل أخلاقه صلى الله عليه وسلَّم، فهل عرفوا أحداً كمثله.؟!


فلا عجب بعد ذلك أن جعله الله تعالى أُسْوَةً حَسَنَةً للمؤمنين، وحثّهم على التأسّي به، فقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]، فانظر كيف تتماهى الرحمة الكبرى للعالمين في شخص صاحب الخلق العظيم، وكيف تدعو عظمة الأخلاق إلى التوجّه إلى صاحبها، ليكون الأسوة الحسنة: {... لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21].

عبد المجيد البيانوني

رابطة العلماء ال
سوريين
 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×