اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأعراف)

المشاركات التي تم ترشيحها

{{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}
 

وذرأ، بمعنى بث ونشر، وقد قال الحق سبحانه وتعالى في أول سورة النساء: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً}
كما يقول الحق أيضاً: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس...} [الأعراف: 179].
ونعرف أن في الكون أشياء عابدة بطبيعتها وهي كل ما عدا الإنس والجن؛ لأن كلا منهما في سلك الاختيار، وهم من يقول عنهم ربنا في سورة الرحمن: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان}

 

وذرأنا معناها بثثنا ونشرنا وكثّرنا، وكلمة كثير لا تعني أن المقابل قليل، فقد يكون الشيء كثيراً ومقابله أيضاً كثير، والحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب...} [الحج: 18].
إذن كل الكائنات من جمادات ونباتات وحيوانات تسجد لله سبحانه وتسبحه، ولكن الأمر انقسم عند الإنسان فقط، حيث يقول الحق في ذات الآية: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب...} [الحج: 18].
أي هناك كثير يسجدون ويخضعون لله. ومقابل ذلك كثير كفروا ولم يسجدوا وحق عليهم العذاب. وإذا كان المولى تبارك وتعالى يقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس}

 

فقد يثور في الأذهان سؤال هو: هل أنت خالقهم يا رب لجهنم، ماذا تستطيعون إذن؟ ولا شيء في قدرتهم مادمت قد خلقتهم لذلك؟
ونقول: لا. ولنلفت الأنظار إلى أن في اللغة ما يسمى (لام العاقبة)، وهو ما يؤول إليه الأمر بصورة تختلف عنا كنت تقصده وتريده؛ لأن القصد في الخلق هو العبادة مصداقاً لقوله الحق تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ومعنى العبادة طاعة الأمر، والكف عن المنهي عنه، والمأمور صالح أن يفعل وألا يفعل، فالعبادة- إذن- تستدعي وجود طائع ووجود عاصٍ، وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى ومنزه سبحانه وتعالى: يأتي لك من يروي لمحة من سيرة إنسان ويقول لك: لماذا يقف منك هذا الموقف العدائي، أليس هو الذي أخذته معك لتوظفه؟ فترد عليه: (زرعته ليقلعني). هل كان وقت مجيئك به كنت تريده أن يقلعك؟ لا. ولكن النتيجة والنهاية صارت هكذا.
والحق سبحانه لم يخلق البشر من أجل الجنة أو النار، لكنه عز وجل خلقهم ليعبدوه، فمنهم من آمن وأصلح فدخل الجنة، ومنهم من عصى فدخل النار وهذا اسمه (لام العاقبة)، أي ما صار إليه غير مرادك منه،

 

ومثال ذلك حينما قال الله سبحانه لأم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً...} [القصص: 7-8].
هل التقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً؟ لا، لأن زوجة فرعون قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا...} [القصص: 9].
فقد كانت علة الالتقاط- إذن- هي أن يكون قرة عين، لكنه صار عدواً في النهاية، وهذا اسمه- كما قلت- لام العاقبة.
وهكذا لا تكون علة الخلق أن يدخل كثير من الجن والإنس النار، في قوله الحق: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس}
لأن علة الخلق في الأصل هي العبادة، والعبادة تقتضي طائعاً وعاصياً، فالذي يطيع يدخل الجنة، والذي يعصي يدخل النار، ولله المثل الأعلى،

 

أذكركم بالمثل الذي ضربته من قبل حين يسأل وزير التعليم مدير إحدى المدارس أو عميد كلية ما عن حال الدراسة والطلبة فيقول العميد أو المدير: إننا نعلم جيداً من هم أهل للرسوب ومن هم أهل للنجاح وإن شئت أقول لك عليهم وأحددهم. لم يقل العميد أو المدير لأنه يتحكم في إجابات الطلبة، ولكنه علم من تصرفاتهم ما يؤولون إليه، والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير. وعلى ذلك فإن قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس}
يعني أننا نشرنا وبثثنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، وهم من يعرضون عن منهجنا، ثم يأتي بالحيثيات لذلك وهي
أولا: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا...} [الأعراف: 179].
و
ثانياً: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا...} [الأعراف: 179].
و
ثالثاً: {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ} [الأعراف: 179].
ولقائل أن يقول: إن كانت قلوبهم مخلوقة بحيث لا تفقه فما ذنبهم هم؟. ومادامت عيونهم مخلوقة بحيث لا ترى فما ذنبهم؟ وكذلك مادامت الآذان مخلوقة بحيث لا تسمع فلماذا يعاقبون؟. ونقول: لا، لم يخلقهم الله للعذاب، لكنهم انشغلوا بما استحوذ عليهم من شهواتهم، وصارت عقولهم لا تفكر في شيء غيره وتخطط للحصول على الشهوة، وكذلك العيون لا ترى إلا ما يستهويها، وكذلك الآذان. وكل منهم يرى غير مراد الرؤية، ويسمع غير مراد السمع.

 

والفرق بين فقه القلب ورؤية العين وسماع الأذان.. أن فقه القلب هو فهم القضايا التي تنتهي إليها الإدراكات. ونعلم أن الإدراكات تأتي بواسطة الحواس الخمس، فنحن نعرف أن الحرير ناعم باللمس، ونعرف أن المسك رائحته طيبة بالشم، ونعلم أن العسل حلو الطعم بالذوق.
إذن لكل وسيلة إدراك، وهي من المحسَات، وبعد أن تتكون المحسَات يمتلك الإنسان خميرة علمية في قلبه وتنضج لتصير قضية عقلية منتهية ومسلماً بها.
وكلنا يعرف أن النار محرقة؛ لأن الإنسان أول ما يلمس النار تلسعه، فيعرف أن النار محرقة، ويتحول الإدراك إلى إحساس ثم إلى معنى. إذن فالمعلومات وسائلها إلى النفس الإنسانية وملكاتها الحواس الظاهرة، وهناك حواس أخرى غير ظاهرة مثل قياس وزن الأشياء بالحمل. وقد انتبه العلماء لذلك واكتشفوا حاسة اسمها حاسة العضل؛ لأنك حين تحمل شيئاً قد تجهد العضلة أكثر إن كان الحمل ثقيلاً.
وحينما ترى واحداً من قريب وواحداً من بعيد، فهذه اسمها حاسة البعد، وكذلك حاسة البين وهي التي تميز بها سمُك القماش مثلاً.
كل الحواس- إذن- تربي المعاني عند الإنسان وحين تربي المعاني في النفس الإنسانية تتكون القضايا التي تستقر في القلب.
ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على خلقه بأنه علمهم فقال تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

 

ونعود إلى قول الحق تبارك وتعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا}
والفقه هو الفهم ويصير الفهم قضية مرجحة انتهى إليها الاقتناع من المرائي والمحسّات، لكنّ هؤلاء الكافرين لا يرون بأعينهم إلى هواهم، وكذلك لا تسمع آذانهم إلا ما يروق لهم، فلا يستمعون إلى الهدى، ولا يلتفتون إلى الآيات التي يستدلون بها على الخالق فتعيش قلوبهم بلا فقه، فهم إذن لهم قلوب وأعين وآذان بدليل أنهم فقهوا بها وسمعوا بها ورأوا بها الأشياء التي تروق لانحرافهم.

 

ويصف الحق تبارك وتعالى هؤلاء فيقول: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون}
وهنا وقفة لإثارة سؤال هو: ما ذنب الأنعام التي تُشبه بها الكفار؟

إن الأنعام غير مكلفة وليس لأي منها قلب يفقه أو عين تبصر آيات الله أو آذان تسمع بها آيات الله. هي فقط ترى المْرعَى فتذهب إليه، وترى الذئب فتفر منه، وتتعود على أصوات تتحرك بها، وكافة الحيوانات تحيا بآلية الغريزة، ويهتدي الحيوان إلى أموره النافعة له وإلى أموره الضارة به بغريزته التي أودعها الله فيه، لا بعقله.
والإنسان منا لا يبتعد عن الضرر إلا حين يجربه ويجد فيه ضرراً. لكن الحيوان يبتعد عن الضر من غير تجربة بل بالغريزة، لأن الحيوان ليس له عقل وكذلك ليس له قدرة اختيار بين البديلات، وفطره الله على غريزة تُسَيّرهُ إلى مقومات صالحة، ومثال ذلك: أنه قد يوجد الحيوان في بيئة ما، ويعطي الله له لوناً يماثل لون هذه البيئة ليحمي نفسه من حيوانات أقوى منه.
ومثال آخر: نحن نعلم أن الحيوان مخلوق لينفع الإنسان، ولابد أن يتناسل ليؤدي ما يحتاج إليه الإنسان من ذرية هذا الحيوان ويمارس الحيوان العملية الجنسية كوسيلة للتناسل وليست كما هي في الإنسان، حيث تصير في بعض الأحيان غاية في ذاتها، بجانب أنها وسيلة للنسل. ولذلك نجد كثيراً من ظواهر الحياة المتعلقة بالإنسان قد تعلمها من الحيوان مثلما قال الحق تبارك وتعالى: {فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ...} [المائدة: 31].
إذن فالغراب مَهْدِيّ بغريزته إلى كل متطلباته، ولذلك نجد من يقول: كيف نشبه الضال بالأنعام؟ نقول: إن الضال يختلف عن الأنعام في أنه يملك الاختيار وقد رفع فوق الأنعام، لكنه وضع نفسه موضع الأنعام حين لم يستخدم العقل كي يختار به بين البدائل.
وبذلك صار أضل من الأنعام، وكلمة (أضل) تبين لنا أن الأنعام ليست ضالة، لأنها محكومة بالغريزة لا اختيار لها في شيء. لكن الكفار الذين ذرأهم ربنا لجهنم من الجن والإنس، لا يعرفون ربهم، بينما الأنعام، والجمادات والنباتات تعرف ربها لأن الحق يقول: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ...} [الإسراء: 44].
إذن فالأنعام تعرف ربنا وتسبحه وتحمده. وفي آية أخرى يقول المولى تبارك وتعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ...} [النور: 41].
وعلى ذلك فكل الجماد- إذن- بعلم صلاته وتسبيحه.


ولذلك قصصنا قصة من قصص العارفين بالله حين يجلسون مع بعضهم البعض كوسيلة تنشيط إلى غايات وأهداف سامية. والعارف بالله من هؤلاء الصالحين يستقبل الأحسن منه في العبادة بالضحك، أما الأحسن منه في أمور الدنيا فيستقبله (بالتكشير)، وقال واحد منهم لآخر: أتشتاق إلى ربك؟ فرد عليه: لا.
تساءل الآخر: كيف تقول ذلك؟.
قال له: نعم. إنما يُشْتَاقٌ إلى غائب. {... أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} [الأعراف: 179].
ولا تظنن أن الضلال لعدم وجود منهج، أو لعدم مُذَكِّر، أو لعدم وجود مُنْذرٍ أو مُبَشِّر. بل هي غفلة منهم، فالأمور واضحة أمامهم، لكنهم يهملونها ويَغُفلون عنها.

 

نداء الايمان

 

image.png.434fc7e684383462133a44f766c41737.png

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}
وحين يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى} نقول: أنه لا يوجد لغير الله اسم يوصف بأنه من الحسنى، إن قلت عن إنسان إنه (كريم)، فهذا وصف، وكذلك إن قلت إنه (حليم)، وكلها صفات عارضة في حادث، ولا تصير أسماء حسنى إلا إذا وصف الله بها. فأنت- مثلا- لك قدرة تفعل أفعالاً متعددة، ولله قدرة، لكن قدرتك حادثة من الأغيار، بدليل أنها تسلب منك لتصير عاجزاً، أما قدرة الله تعالى فلها طلاقة لا يحدها شيء. فهي قدرة مطلقة. وأنت قد تكون غنياً، لك غنى، ولله غنى، لَكنّ ثراءك محدود، وأمَّا غنى الله فإنه غير محدود.

 

إذن الأسماء الحسنى على إطلاقها هي لله، وإن وجدت في غيره صارت صفات محدودةً مهما اتسعت. {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا}
والحسنى.. تأنيث لكلمة (الأحسن) اسم تفضيل، وهي الأسماء الحسنى في صلاحية الألوهية لها، وصلاحيتها للألوهية. وحين تقول عنه سبحانه: إنه (رحيم)، فهذا أمر أحسن عندي وعندك لأنني أنظر إلى رحمته لي، وأنت تنظر إلى رحمته لك. وحين تقول: (غفار) فأنت وأنا وكل من يسمعها تعود عليه.

وحين تقول: (قهّار) وأنت مذنب ستخاف، وهي صفة حسنى بالنسبة للإله؛ لأن الإله لابد أن تكون له صفات جمال وصفاتُ جلال، فصفات الجمال لمن أطاع، وصفات الجلال لمن عصى. ولذلك لا تأخذ النعم بمدلولها عندك، بل خذ النعم بمرادات الله تعالى فيها.
وساعة يتكلم الحق سبحانه وتعالى قائلا: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلانفبأي آلاء رَبِّكُمَا تكذبانيامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍفَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِيُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِفَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 31-36].
فهل إرسال الشواظ من النار والنحاس نعمة يقول بعدها: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟
نقول: نعم، هي نعمة كبيرة، لأنه سبحانه وتعالى ينبهنا قبل أن توجد النار، أن النار قوية، ويعطي لك نعمة العظة والاعتبار. وعظته وتنبيهه- إذن- قبل أن توجد النار نعمة كبرى، وأيضاً هي نعمة بالنسبة للمقابل، فحين يطيعه المؤمنون في الدنيا ويلزمون أنفسهم بمنهج الله، فلهم ثواب حق الالتزام، والمقابل لهم الذين لم يلتزموا وأخذوا الخروج عن المنهج غاية، يتوعدهم سبحانه بالعقاب، وهذه نعمة كبرى. {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا}

 

والحق سبحانه وتعالى عرفنا اسمه بالبلاغ منه، لأننا قد نعرف مسماه من القوى القادرة وهي التي تعرف بالعقل، لكن العقل لا يقدر أن يعرف الاسم. وسبق أن قلت: لنفترض أن أناساً يجلسون في حجرة ثم طرق الباب. هنا يجمع الكل على أن طارقاً بالباب، لكن حين دخلوا في التصور اختلفوا، فواحد يقول: إن الطارق رجل، فيرد الآخر: لا إنها امرأة لأن نقرتها خفيفة، ويقول ثالث: هذه النقرة على الباب تأتي من أعلاه وهي دليل على أن الطارق ضخم، وهو نذير لأنه يطرق بشدة، ويختلف تصور كل الحضور عن الطارق، ولا أحد يعرف اسمه.
إذن حين تريد أن تعرف من الطارق، فأنت تسأله من أنت؟ فيقول لك (اسمه).

 

إذن فإن الاسم لا يدرك بالعقل. ومن خلق الخلق كله قوي، قادر، حكيم، عليم، لأن عملية الخلق تقتضي كل هذا. أما اسم الله. فهذه مسألة لا يعرفها العقل وتحتاج إلى توقيف. إذن فأسماء الله تبارك وتعالى توقيفية، فحين يقول لنا: هذه أسمائي فإننا ندعوه بها، وما لم يقل لنا عليه لا دعوة لنا به، ولذلك يقول تعالى: {فادعوه بِهَا}
 

فإذا أنت نقلت هذا إلى غيره. فأنت تدعو بالأسماء الحسنى سواه، مثلاً كذاب اليمامة مسيلمة سمى نفسه الرحمن، وبذلك ألحد في اسم الله حيث نقل أحد أسماء ربنا إلى ذاته، ومثله فعل غيره، ألم يسموا (اللات) من الله؟. ألم يسموا (العزّى) من العزيز؟. ألم يسموا (مناة) من المنان؟. كل هؤلاء ألحدوا في أسماء الله التي لا ندعو غيره بها، ولذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله في دعآئه: (اللهم أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء همي وذهاب حزني وغمي).
 

إذن فهذه الأسماء وضعها ربنا لنفسه، لأنها لا تعرف بالعقل. أما إذا نظرت إلى الأوصاف المبدعة للخلق فأنت تتعرف على هذه الأوصاف؛ لأنه تعالى خلق الكون بحكمة وتدبير وقدرة. وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- نحن نؤسس مصانع كثيرة وكبيرة لتصنع المصابيح، فنصنع زجاجاً ونفرغه من الهواء، ونضع داخله أسلاكاً تتحمل ذبذبة الكهرباء، وبعد استخدام هذه المصابيح لفترة تفسد، بينما الشمس تضيء الكون كل هذا العمر، من بدء الخلق، ولا تحتاج منا إلى قطعة غيار.
وحين نقول هو: (حكيم)، نقولها ونرى أثر ذلك في حركة الكواكب التي تسير منسجمة، وكل كوكب يدور في فلكه ولا يصطدم بآخر، وهذا دليل على أن الكواكب قد خلقت بحكمة.
وينبهنا الحق سبحانه وتعالى أن ندعوه بالأسماء الحسنى في قوله: {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا} لأنه يريد من خلقه دائماً أن يذكروه؛ لأنه هو الرب الذي خلق من عَدَم، وأمد من عُدْم.
وصان الخلق بقيوميتة، وحين تأتي لك حاجة وجب عليك أن تذكر أسماء الله الحسنى وتنادي الله بها، وحين تريد أن تتقرب إلى الله لا تناديه إلا بالاسم الذي وضعه لنفسه وهو (الله)، لأن هذا هو اسم علم على واجب الوجود، وأسماء الله الحسنى كلها صفات وصلت إلى مرتبة الأسماء، وهناك أسماء تدل على مجموع الصفات.

 

ولله المثل الأعلى: أنت تقول: (زيد) فيعرف السامع أن هذا اسم علم على شخص اسمه زيد، ثم له صفات أخرى، كأن يكون تاجراً، أو عالماً متفقها في العلم، أو مهندساً. لكن الاسم العلم هو زيد وهو الذي لا يشترك معه أحد من معارفك فيه وهو زيد، لكن الصفات الأخرى قد يشترك معه فيها غيره.
 

والأسماء لله نوعان، اسم يدل على ذات الله، الذات المجردة عن أي شيء وهو الله، ولكن هناك صفات لله مثل الرحمن والرحيم والملك والقدوس والسلام والمؤمن والمهيمن، وهذه صفات ارتقت في السمو والعلو لأنه لا أعلى منها، حتى أصبحت إذا أطلقت إطلاق الكمال الأعلى لا تنصرف إلا لله. فصارت أسماء.
 

قد نقول فلان غني، وفلان كريم، وفلان حكيم، لكن الغنى على إطلاقه هو لله تعالى.
والأسماء الحسنى ناشئة من صفات مبالغة في العلو فيها، لأنه سبحانه الأكمل فيها وهي في الأصل صفات لها متعلقات فعلية، وهذه نوعان اثنان: نوع يطلق على الله منها اسم ومقابله، ونوع يطلق عليه الاسم ولا يطلق عليه المقابل، ونأتي بصفة شبيهة بالاشتقاق، فنقول: (غني)، ونقول: (مغني) فهو غني في صفة ذاته قبل أن يوجد من يُغنيه، ومغني وجدت بعد وجود من يُغنيه من عباده، وسبحانه حي في ذاته، ومحيي لغيره، والإحياء صفة فعل في الغير. ولابد لها من مقابل، فنقول: محيي ومميت. ولم نقل حي ومقابله، الغير. إذن فالاسم الذي ترى له مقابلاً هو صفات الفعل، أما صفات الذات فهي التي لا يوجد لها المقابل. ويلحدون في أسماء الله أي يُميلونها إلى غير الله وينقلها الواحد منهم لغير الله أو يأتي باسِم للغير ويطلقه على الله، أو يطلق اسماً ليس له معنى أو لا يُفهَم منه أي معنى على الله. إذن (الإلحاد) يأتي في ثلاثة أشياء: إما أن ينقل أحد أسماء الله إلى غير الله، أو يأتي باسم للغير ويطلقه على الله، أو يطلق اسماً لله من غير أن يكون قد أنزله الله توقيفياً. {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
ونعلم أن (العمل) هو اسم للحدث من أي جارحة؛ فنطق اللسان عمل، وشم الأنف عمل، ونعلم أن هناك ما يسمى ب[قول وفعل]، والفعل عمل الجوارح ما عدا اللسان؛ والقول عمل اللسان، والاثنان يطلق عليهما عمل، ولذلك يقول الحق: تبارك وتعالى في سورة الصف: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الآية: 2].
إذن فالقول مقابله الفعل، والجزاء هنا على الفعل والقول لأن كليهما عمل.
وإذا كان لله أسماءُ كثيرةٌ، فهل يجوز هنا لنا أن نأخذ من فعل الله في شيء اسماً له؟ وخصوصاً انه القائل: {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا...} [البقرة: 31].
وهو القائل أيضاً: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ...} [النساء: 113].
هل يمكن أن نقول: إن الله معلم؟ وهل يصح أن نأخذ من قوله: {وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 16].
اسماً هو كائد؟
لا يجوز ذلك لأن أسماء الله توقيفية، وإن رأيت فعلاً منسوباً لله فقف عند الفعل فقط ولا تأخذ منه اسماً لله تعالى.

 

نداء الايمان

image.png.56d9ab2045e44c740df2ec1514d83d0d.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)}
 

وبعد أن قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} أراد أن يطمئن أهل منهج الله، فلم يقل: (كل الناس)، بل كثير من الجن والإنس ، وعرفنا المقابل يكون كثيراً أيضاً بدليل قوله تعالى في سورة الحج: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} أي كثير من الناس يسجدون لله وكثير حق عليهم العذاب.
ويعني قول الحق تبارك وتعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181].
أن كون الله لا يخلو من هداة مهديين، لتستمر الأسوة السلوكية في المجتمع. والأسوة السلوكية في المجتمع هي التي تربي عقائد المواجيد عند الصغار، فالصغير لا يعرف كيف يصلي، ولا كيف يصوم، ولا يميز بين الكذب والصدق ولكنَّه يتعلم بالتقليد لوالديه، فالطفل حين يرى والده وأمه ساعة يَؤَذَّنُ للصلاة يقوم كل منهما إلى الوضوء وأداء الصلاة، هنا يتعلم الطفل كيفية الصلاة، وحين يتكلم إنسان في سيرة آخر، يقول الأب أو الأم: لا داعي للخوض في سيرة الآخرين حتى لا نحبط حسناتنا؛ بذلك يتعلم الطفل كيف يصون لسانه عن الخوض في سيرة الغير، لأن الأسوة السلوكية تنضح عليه، بدليل أن الصغير الذي لم يبلغ مبلغ الفهم إذا سمع المؤذن بعد ذلك يقوم من نفسه ليُحضر سجادة الصلاة ويقلد والده ووالدته.
ونفهم من قوله تعالى: {وَبِهِ يَعْدِلُونَ}
إنهم في حكمهم على الأشياء يقيمون العدل بالحق، أو أن يكون العدل هو نفي الشرك، وقد يكون العدل في مسألة الكبائر، أو يقيمون العدل في مسألة الحقوق بين الناس. {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ}

 

وقوله في الآية الكريمة: {أمة} يعني أن صفات الكمال المنهجية أكثر من أن يحيط بها واحد لينفذها كلها، فكل واحد له جزء يقوم به، فهناك من يتميز بالصدق، وآخر في الشجاعة، وثالث في الكرم، وهكذا تبقى الأسوة في مجموع الصفات الحسنة، وقد ميز الله سيدنا إبراهيم- على نبينا وعليه السلام- فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120].
أي أنه جامع لخصال الخير التي لا توجد إلا في مجتمع واسع، {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ}
وأي أمة من أمم الأرض- إذن- هي التي تهدي بالحق؟ لقد سبحانه في قوم موسى! {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق...} [الأعراف: 159].
ثم جاءت أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا رسول بعده، لذلك تظل هذه الأمة المسلمة مأمونة على صيانة منهج الله إلى قيام الساعة.
فإذا رأيت إلحاداً انتشر فاعلم أن لله مدداً، وكلما زاد الناس في الإلحاد، زاد الله في المدد، وحتى إن صارت بلد مسلمة غارقة في الفسق فقد يكون فيها واحد يجمع كل هذه الصفات الكريمة الهادية إلى الحق لتبقى شريعة الله مصونة بالسلوكيين التابعين لمنهج الله.

 

إذن فالحق سبحانه وتعالى ترك للفساد أن يصنع الشر، ولسائل أن يسأل: ما لزوم هذا الشر في كون خلقه الله على هيئة محكمة؟ نقول! لولا أن الناس يضارون بالشر؛ لما تنبهوا إلى حلاوة الخير، ولو أن الإنسان لم يصب من أصحاب الباطل بسوء؛ ما تحمس للحق أحدٌ، ولا عرف الناسُ ضرورة أن يتأصل الحق في الوجود، فللشر- إذن- رسالته في الوجود. وهو أن يهيج إلى الخير، فكما ذرأ الله لجهنم كثيراً من الجن والإنس؛ أوضح سبحانه وتعالى في قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} في الحكم، عدلاً في القمة؛ وهو ألا يشركوا بالله شيئاً، لأن أول مخالفة لقضية العدل هي مخالفة الشرك وهو ظلم عظيم، فالشرك والعياذ بالله ينقل الأمر من مستحقه إلى غير مستحقه، وكذلك تحريم ما أحل الله، أو حل ما حرم الله، وكل ذلك ظلم، وكذلك عدم حفظ التوازن في الحقوق بين الناس، فإن لم يحصن العدل بحفظ الحقوق بين الناس من حاكم وولي ومسلط؛ سنجد كل إنسان وهو يضن بجهده في الحياة يكتفي بأن يصنع على قدر حاجته بحيث لا يترك للظالم أن يأخذ منه شيئاً، فلا يتحرك في الحياة إلا حركة محدودة، ولا يعمل إلا بقدر ما يكفيه فقط، فإذا ما حدث ذلك؛ فلن يجد الضعاف الذين لا يقدرون على الحركة الإنتاجية أي فائض ليعيشوا به.
 

إذن أراد الله أن يضمن بالعدل عَرَق وتعب كل واحد. فأوضح له أن ما تكسبه من حل هو ملك لك. لَكِنْ لله حق فيه، وأنت لك الباقي، حتى يجد الضعيف الذي لا يقدر على حركة الحياة من يقيته، ولذلك يحذرك المنهج الإيماني بقوله: إياك أن تستكثر أن تدفع للضعيف، لأن قُوَّتَك التي استعملتها في تحصيل هذا المال إنما هي عرض لا يدوم لك، فإن أخذنا منك وأنت قويُّ قادر على الحركة، سنأخذ لك حينما تكون عاجزاً لا تقدر على الحركة، وذلك هو التأمين والعدالة.
 

وبالنسبة للأمة في تلك الآية {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ}
فقد جاء في الآثار أن المراد بالأمة في هذه الآية الأمة المحمدية، قال قتادة: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: (هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}).
ويخاطب النبي صلى الله عليه وسلم صحابته بقوله: هذه لكم، أي في أمتكم ويؤكد ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر...} [آل عمران: 110].
وكلمة {للناس} هنا تفيد أن الله لم يجعل خيرية الأمة المحمدية وهي أمة الإجابة للمؤمنين فقط، بل جعل خيريتها للناس جميعاً؛ مؤمنهم وكافرهم. {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ}
وذكر {أمة} لأن خصال الخير لا يمكن أن تجتمع في إنسان واحد، بل كل واحد يأخذ لمسة من خير، هذا فيه ذكاء، وذاك فيه شجاعة، وذاك عنده مال، وذلك له خلق. فكأن الأمة المحمدية قد وجد في أفرادها ما يجمع المواهب الصالحة للخلافة في الأرض.
ويأتي الحق بعد ذلك بمقابلهم، لأن مجيء الشيء بمقابله أدعى إلى أن يتمكن من النفس فيقول سبحانه: {والذين كَذَّبُواْ...}.

 

image.png.cd2c4b5e33a7514bc4d8dbd81b548599.png

 

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)}
 

وهؤلاء هم المقابلون للذين خلقهم الله أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، والآيات جمع آية، وقلنا: إن الآيات التي في الكون ثلاث؛ آيات تنظرها تهتدي بها إلى من صنع ذلك الكون المترامي الأطراف بتلك الدقة العظيمة، وذلك الإحْكام المتقن، آيات تلفتك مثل الليل والنهار والشمس والقمر، وكذلك آيات تخرق ناموس الكون لتثبت صدق الرسول بالبلاغ عن الله، وآيات قرآنية تحمل منهج الله. والذين كذبوا بآيات الله الكونية ولم يعتبروا بها، ولم يستنبطوا منها وجود إله قوي قادر حكيم، وكذبوا الآيات المعجزات لصدق النبوة، وكذلك كذبوا آيات القرآن فلم يعملوا بها، ولم يتمسكوا بها؛ هؤلاء يلقون الحكم من الله فلن يدخلهم الحق النار فقط، بل لهم عذاب أقرب من ذلك في الدنيا، لأن المسألة لو أجلت كلها للآخرة لاستشرى بغي الظالم الذي لا يؤمن بالحياة الآخرة، لكن من يؤمن بالآخرة هو من سيحيا بأدب الإيمان في الكون، وتكون حركته جميلة متوافقة مع المنهج. عكس من يعربد في الكون؛ لذلك لابد أن يأتي العقاب لمن يعربد في الكون أثناء الحياة الدنيا، وسبحانه وتعالى القائل: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ...} [الطور: 47].
أي أن لهم عذاباً قبل الآخرة.

ويقول الحق بعد ذلك عن العذاب في الدنيا: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}

 

وحين تقول: أنا استدرجت فلانا، فأنت تعني أنك أخذت تحتال عليه حتى يقر بما فعل، مثل وكيل النيابة حين يحقق مع المجرم، ويحاصره بالأسئلة من هنا، ومن هناك، إلى أن يقر ويعترف، وهذا هو الاستدراج. و(الاستدراج) من الدرج ونسميه في لغتنا اليومية (السلَّم) وهو وسيلة للانتقال من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل فمن المستحيل على الإنسان أن يقفز بخطوة واحدة إلى الدور الخامس مثلا في عمارة ما، ولذلك صمموا الصعود على درجات إلى مستويات متعددة على وفق الحركة العادية للنفس، وهناك من يجعل علو الدرجة مثلاً اثنى عشر سنتيمتراً بحيث يستطيع كل إنسان أن يرفع قدمه ويضعها على الدرج دون إرهاق النفس، وهذا يعني أننا نستدرج العلو لنصل إليه أو ننزل منه.
وقد خصوا في الآخرة الجنة بالدرجات العليا، والنار بالدرجات السفلى.
وهنا يقول الحق: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182].
أي نأخذهم درجة درجة، ونعطي لهم نعمة ثم نرهقهم بما وصلوا إليه، كما قال سبحانه من قبل: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً...} [الأنعام: 44].
لأن الله حين يريد أن يعاقب واحداًَ على قدر جرمه في حق أخيه الإنسان في الدنيا يأخذه من أول جرم؛ لأن الأخذة في هذه الحالة ستكون لينة، لكنه يملي له ويعليه ثم يلقيه من عَلِ. {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً...} [الأنعام: 44].
وهكذا يكونُ الآخذ أخذ عزيز مقتدر.
وحينَ يستدرج البشرُ، فإن الطرف المستدرج له أيضاً ذكاء، ويعرف أن هذا نوع من الكيد وفخ منصوب له، لَكنْ حين يكون ربنا القوي العزيز هو الذي يستدرج فلن يعرف أحد كيف يفلت. والعلة في قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} هي قوله: {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}؛ لأن البشر يعلمون طرق استدراج بعضهم لبعض.

image.png.c720aae2533cb4ff3c062f00fd0e8c9b.png


{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}
 

والإملاء هو الإمهال وهو التأخير، أي أنه لا يأخذهم مرة واحدة، فساعة يقوم الفاسد بالكثير من الشر في المجتمع، نجد أهل الخير وهم يزيدون من فعل الخيرات، ونسمع دائماً من يقول: لو لم يكن هناك إيمان لأكل الناسُ بعضهم بعضاً، فالإيمان يُعطي الأسوة واليقين. والإملاء للظالم الكافر ليس إهمالاً له من المولى تعالى، بلَ هو إمهال فقط، ثم يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وهنا يوضح الحق: إذا كنت سأستدرج وسأملي فاعلم أن كيدي متين. والكيد هو المكر، والمكر أخذهم من حيث لا يشعرون وهو عملية خفية تسوء الممكور به.
 

وهو تدبير خفي حتى لا يملك الممكور به ملكات الدفع. وإذا كان البشر يمكرون ويدبرون تدبيراً يخفى على بعضهم، فماذا حين يدبر الله للكافرين مكيدة أو مكراً؛ أيستطيع واحد أن يكشف من ذلك شيئاً؟. طبعاً لن يستطيع أحد ذلك. هذا هو معنى {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}؛ ومتين أي قوي، والمتانة مأخوذة من المتن وهو الظهر، ونعرف أن الظهر مُكوَّنٌ من عمود فقري وفقرات عظيمة، تحيط بها عضلات. فلو كان العمود الفقري من عظم فقط لكان أي حمل عليه يكسره. فشاءت تجلياتُ رَبنا عز وجل واقتضت رحمتُه وقدرتُه أن يحاط هذا العظام بعضلتين كبيرتين، وهما ما نسميه في عرف الجزارين (الفلتو) لحماية الظهر وتقويته ووقايته.
 

وإذا نظرنا إلى كلمة (متين)، نجد (المتن) هو الشيء العمودي في الأشياء، وفي العلم مثلاً ندرس الفقه وندرس النحو، ويقال: هذا هو المتن في الفقه، أي الكلام الموجز الذي يختزل العلم في كلمات محددة، والذكي هو من يستوعبه. وغالباً مع المتن الموجز شرحاً للمتن، ثم حاشية للمتن.
 

 

نداء الايمان

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
 
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)}

وهنا يُنَبّه الحقُّ سبحانه وتعالى كلَّ الخلق أن يتفكروا في أمر الرسول المبلغ الذي ينقلُ عن القوة العليا مرادَها من الخلق. وأول ما يستحق التفكير فيه أن نعرف هل هذا الإنسان الذي يقول عنه رسول صادق أو غير صادق؟ ولقد ثبت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل نزول الرسالة عليه، وجاءت الرسالة لتأخذ بيد الخلق إلى الإيمان بالله. لكنهم لا يريدون أن يسمعوا، ليوجدوا لأنفسهم مبررات بالنكوص عن المنهج، فقال بعضهم اتهاما للرسول: إنه مجنون، مثلما قال بعضهم من قبل: إنه ساحر، وكاهن، وقالوا: شاعر، ويرد ربنا على كل تلك الأقاويل.
ونتساءل: من هو المجنون؟.
نعلم أن المجنون هو من فقد التوازن الفكري في الاختيار بين البدائل، وحين يأخذ منه هذه القدرة على التوازن الفكري، يصبح غير أهل للتكليف؛ لأن التكليف فيه اختيار أن تفعل كذا ولا تفعل كذا، والمجنون لا يملك القدرة على هذا الترجيح.



والحق سبحانه وتعالى لم يكلف الإنسان إلا حين يبلغ ويعقل؛ لأنه حين يبلغ تصير له ذاتية مستقلة عن أهله وعن أبيه وأمه؛ لذلك نلاحظ الطفل وهو صغير يختار له والدهُ أو والدتُه الملابس والطعام، وبعد أن يكبر نجد الطفل قد صار مراهقاً يتمرد ويقرر أن يختار لنفسه ما يريده لأنه قد صارت له ذاتية، والذاتية- كما نعلم- توجد في النبات وفي الحيوان والإنسان وذلك بمجرد أن يصير الفرد منها قادراً على إنجاب مثله، سواء كان هذا الفرد من النبات أو الحيوان أو الإنسان. أما إن كان الإنسان قد صارت له ذاتية في الإنجاب والنسل، وليست له ذاتية ناجحة عاقلة في التفكير؛ فهنا يسقط عنه التكليف؛ لأنه مكره بفقدان العقل.
وهكذا نعرف أن التكليف يسقط عن الذي لم يَبْلغ، والمجنون والمكره بمن هو أقوى منه، وهذه عدالة الجزاء من الحق، وهكذا نجد أن التكليف لا يلزم إلا من بلغ جسمه ونضج عقله، وبهذا يحرس رَبُّنا الكون بِقَيُّومِيَّتِه.



وإذا كان المجنون هو فاقد الميزان العقلي الذي يختار بين البديلات، فكيف يقولون ذلك على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وهو قد عاش بينهم، ولم يكن قط فاقداً لميزان الاختيار بين البديلات، بل كانوا يعتبرونه الصادق الأمين، وكانوا يحفظون عنده كل غالٍ نفيس لهم حتى وهم كافرون به. وخلقه الفاضل ذاتي مستمر ودائم.
لقد قالوا ذلك على محمد ظلماً له، وبغَوْغَائِيَّة، وكل واحد يلقى اتهاماً ليس له من الواقع نصيب؛ لذلك قال الحقَ تبارَك وتعالى لأصحاب هذه الاتهامات: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ...} [سبأ: 46].
أي أن يجلس كل اثنين ويتدارسا: هل محمد عاقل أم مجنون؟ وسيجد كل منهما من واقع تجربته أنَّ محمدَّا هو أكثر الناس أمانة، وكان الجميع يسمونه الأمين، حتى قبل أن يتصل به الوحي، وليس من المعقول أن يضره الوحي، أو أن يفقد بالوحي توازنه الخلقي، لذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ ما أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1-4].
كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم خُلُقاً عظيماً؛ لأن الخُلق هو الصفات التي تؤهل الإنسان لأن يعيش في مجتمع سليم وهو مسالم. ومادام خُلُقه سليماً، فمعيار الحكم عنده سليم.



وبعد ذلك قالوا عنه: إنه (ساحر)، ونقول لهؤلاء: لماذا إذن لم يسحر كبار رجال قريش ليؤمنوا برسالته؟ إن كل ذلك جدل خائب، والمسألة ليس فيها سحر على الإطلاق. {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}
الجنَّة التي تقولون عليها وتفترون بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم- هي منتَهى العقل ومنتهى الخلق، فمحمد صلى الله عليه وسلم نذير واضح، جاءكم أولاً بالبشارة لكنكم في غيكم لا تستحقون البشارة، بل تستحقون الإنذار.


تفسيرالشعراوى(سورة الأعراف)184-186(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ..) image.png.f41906dd35

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)}

وبذلك ينتقل الجدل من الرسول المباشر لهم الذي يأخذ بيدهم إلى الإيمان الأعلى، ينتقل الجدل إلى التفكير ومسئوليته: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض}
والتفكير هو إعمال العقل حتى لا يقولَنَّ أحد: إن رسول الله مجنون، لأن مجرد النظر في الكون يجعل الإنسان رائيا للسماء مرفوعة بلا عمد، والأرض مبسوطة والهواء يتحرك في انتظام دقيق. {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض}
إذن فوقَنا سماء، وهناك ما فوق السماء، وتحتنا الأرض، وفيها ما تحت الأرض، وهناك بين السسموات والأرض. وما نراه في الظاهر هو ما يسمونه (مُلْك) أما الخفي عنك الذي لا تقدر أن تصل إليه بمعادلات تستخرج منها النتائج فاسمه (ملكوت).
ويقول سبحانه في سيدنا إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض...} [الأنعام: 75].
فكلمة (ملكوت) معناها مبالغة في الملك، مثل رهبوت أي الرهبة الشديدة، ورحموت أي الرحمة الشديدة، وكلها صيغة (فعلوت) وهي صيغة المبالغة. {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ}



ونحن نرى السماء والأرض بوضوح، ولكن العظمة والسر ليسا في السماء والأرض فقط، بل هناك أشياء دقيقة جداً، بلغت من اللطف أنها لا تدرك بالنظر، ومع ذلك فإن فيها الحكمة العليا للخلق. وأنت قد ترى ساعة (بيج بن) الشهيرة في لندن وتكاد أن تكون أضخم ساعة في العالم، لكن الصانع المحترف من البشر صنع ساعة يد صغيرة في حجم الخاتم، وننبهر ونعجب بدقة عمله وصنعته. فما بالنا بالخالق الأعظم الذي يعظم خلقه من السموات والأرض لأنها فوق إدراكات البشر، وخلق أيضاً مخلوقات دقيقة لطيفة لا تستطيع أن تدركها أنت بمجرد النظر، كالميكروب، أو تدركها بصعوبة كالذبابة والبعوضة وبكل هذه الكائنات كل مقومات حياتها، حتى الكائن الذي لا معدة له يجهزه خالقه بقدرة على امتصاص الدماء مباشرة بعقله أو غريزته ويسعى ليأكل ويملأ معدته وله أجهزة تحول غذائه ليكون دماً.


إذن فليست العظمة مقصورة على خلق السموات والأرض فقط، لذلك يقول الحق: {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}
أي من أول شيء يقال له شيء، صار محكوماً عليه وجودياً، بأنك إن نظرت إليه ستجد الأجهزة التي نعطي له الحياة، وتعينه، حتى وإن كانت حواس استشعارية في ذات هذا الكائن، ولا يقوى عليها صاحب العقل. مثال ذلك: نجد أن ما يفر قبل حدوث الزلازل هو الحمير التي نتهمها بالغباء.
وحين يتأمل العقل ما وصل إليه العلم في البحث في عالم الحيوان وعالم البحار، سنجد الإيمان بضرورة وجود خالق حكيم. وإن كان الكافرون مصروفين عن النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من كائنات قد لا تراها العين المجردة، كان عليهم أن يراعوا مصلحتهم فعسى أن يكون قد اقترب أجلهم.



إننا نعلم أن الإنسان جنس، وأن له نوعين: نوع ذكورة، ونوع أنوثة، وبينهما جنس مشتبه نسميه الخنثى، والأجناس لها أفراد متعددة. وكل واحد له خلق، وكل واحد له موهبة، وكل واحد له مهمة. وساعة يطلب منا الحق: إياك أن تستصغر شيئاً منك ضد فيرك، وإياك أن تستكثر شيئاً منك لغيرك، ويجب عليك أن تجعل كلمة (شيء) هذه هي المقياس، ولذلك يقول لك الشرع: إنك حين تقدم حسنة إياك أن تستكثرها، بل قل هي ليست بشيء ذي بال. وإن همّ واحد بعمل سيئة فلا يقل: وماذا ستفعل لي سيئة واحدة؟ مستصغراً شأن هذه السيئة. وهذا نقول له: لا، لأن كلمة (شيء) يجب أن تحكم الكون. إنك إن نظرت لهذه المسألة قد تجد واحداً مثلاً ضئيل التكوين، ولا بسطة له في جسمه، لكن من الجائز أن له موهبة كبيرة، وقد تجد إنساناً آخر متين التكوين وليست عنده أية موهبة؛ لأن الله قد يعطي الضئيل فكرا عميقاً، أو حيلة كبيرة، أو موهبة خاصة في أي شيء. فلا تنظر إلى شيء قليل في أي إنسان، بل انظر إلى الشيء الجميل الذي فيه وهو المخفي عنك في نفسك. {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}

ولماذا تأتي هنا حكاية اقتراب الأجل؟ وللإجابة عن التساؤل أقول: إنها هامة جداً؛ لأننا مادمنا أفراداً أي جنسين أو ثلاثة أجناس، وقال عنا ربنا إننا خلفاء في الأرض، فعلينا أن نعلم أن الخليفة في الأرض جاء ليخلف من سبقوه، وقد يُميت ربنا أي إنسان في سن شهر أو سنة، أو سنتين أو خمسين عاماً؛ لأن العمر بالنسبة لكل إنسان هو أمر قد اختص به الحق تبارك وتعالى نفسه ولا يعلمه أحد؛ لأن غاية المتساوي لابد أن تكون متساوية، وعلى سبيل المثال: إن سألنا طلبة كلية الحقوق عن غايتهم من دراسة الحقوق قالوا: لنيل إجازة الليسانس، وسنجد منهم الطويل، والقصير، والأبيض، والأسود، والذكي والغبي، والقوي والضعيف، وهم لا يتفقون إلا على دراسة الحقوق، وكذلك لا نتساوى جميعاً كبشر إلا أمام الموت، فهناك من يموت وهو في بطن أمه، ومن يموت وهو طفل، ومن يموت وهو فتى. وإن كنا نختلف فيما بقي بعد ذلك، والمؤمن أو الكافر يرى هذه الأحداث أمامه ولا يستطيع أن يقول: لا لن أموت.
ومادمت ستموت فانظر إلى مصلحتك أنت، لتثاب على ما فعلت في الدنيا بدلاً من أن تعاقب، فعسى أن يكون قد اقترب أجلك وأنت لا تعرف متى يجيء الأجل، وإبهام الأجل من الله لنا إشاعة للأجل، والإبهام هو أوضح أنواع البيان، فحين يريد ربنا أن يوضح أمراً توضيحياً كاملاً فهو يبهمه.



ومثال ذلك: لو جعل الله للموت سنّاً، لصار الأمر محدداً بلا أمل. لكنه سبحانه لم يجعل للموت سنّاً أو سبباً، وأشاعة في كل زمن، والإنسان عرضة لأن يستقبل الموت في أي لحظة، ونزل الموت لا يتوقف على سبب، فقد يأتي بسبب وقد يأتي بغير سبب، ومادام الإنسان يستقبل الموت في أي وقت، فعلى العاصي ألا يستقبل الموت وهو على عصيان لله.
وإياك أن تقول: كيف مات فلان وهو غير مريض؟؛ لأن هناك العديد من الأسباب للموت، واعلم أن الموت بدون أسباب هو السبب، فالإنسان الذي نفقده بالموت، مات لأن أجله قد انتهى، والحق هنا يوضح: أيها الكافرون ألا تعلمون أن منكم من مات وعمره سنة ومن مات وعمره سنتان، ومن مات وعمره ثلاث سنوات، ومن مات وهو ظالم، ومن مات وهو مظلوم، ولو لم تكن هناك حياة ثانية فماذا تساوي هذه الحياة؟. وما ذنب الذي لم يعش في الدنيا إلا شهرا؟ لابد أن تعرفوا أن هناك غاية تنتظركم، غايات فردية هي آجال الناس بذواتهم، وآجال إجماعية تتمثل في يوم القيامة.
وفي قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}
يوضح الحق تبارك وتعالى: إنه إذا كان هذا الحديث الذي أنزلته إليهم وفيه ما فيه من الإعجاز ومن الإبداع، ويجمع كل أنواع الكمالات، فماذا يريدون أكثر من ذلك؟
وهل في اتباعهم للأهواء ولتقنينات بعضهم لبعض سعادة لهم؟ بالعكس إنهم يشقوْن بذلك. وكان يجب عليهم أن يتأدبوا مع الله ومع الرسول.


تفسيرالشعراوى(سورة الأعراف)184-186(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ..) image.png.964c4cc216



{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}
وقد كرر الحق هذا كثيراً، لأن الأشياء التي قد يقف العقل فيها، أو تأخذه مذاهب الحياة منها، ويكررها الله، ليجعلها في بؤرة الاهتمام دائماً، لعل هذا التكرار يصادف وعياً من السامع. وانظر إلى الحق وهو يعدد نعمه في سورة الرحمن فيقول بعد كل نعمة: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
إنه يكرر ذكر النعم ليستقر الأمر في ذهن السامع. {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ}
وسبحانه لا يرغم واحداً على أن يهتدي، فإن اهتدى فلنفسه، وإن لم يهتد فليشرب مرارة الضلال.



وكلنا نعرف أن الطبيب يكتب أسلوب العلاج للمريض، ليتم الشفاء بإذن من الله، الدواء إذن وسيلة إلى العافية، فإن رفض المريض تناول الدواء فهل في ذلك إساءة للطبيب؟ لا. وكذلك منهج الله. {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ}
لكن هل يريد الله الضلال لأحد، لا، بل سبحانه دعا الناس جميعاً بهداية الدلالة، فمن اهتدى زاده بهداية المعونة، ومن ضل فليذهب إلى الكفر كما شاء. ولذلك يقول لنا الشرع: إياك أن تشرك بالله شيئاً في أي عمل؛ لأن ربنا يقول لنا في الحديث القدسي الذي يرويه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه فيقول: قال الله تبارك وتعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه).
ومعنى الشركة في عرف البشر، أن مجموعة من الناس عرفوا أن عمل كل منهم ومال كل منهم، وموهبة كل منهم، لا تكفي لإقامة مشروع ما، لذلك يكونون شركة لإنتاج معين، فهل هناك ما ينقص ربنا ليستكمله من آخر؟ حاشا لله. بل إن مجرد توهم العبد بأن هناك شريكاً يجعل الله رافضاً لعبادة العبد المشرك. لذلك يقول في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه). ومادام ربنا قد تنازل عن رعايته له فليتلق المتاعب من حيث لا يدري.
ومن قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ}
نتبين أنه حين يحكم الله بضلال إنسان أو بهداية آخر فلن يستطيع البشر أن يعدِّل على الله، ليجعل شيئاً من ضلال هو هدى، أو شيئاً من هدى هو ضلال.
كما يتضح من تلك الآية الكريمة أن من في قلوبهم مرض يزيدهم الله مرضاً ويتركهم في طغيانهم يعمهون، والعمه هو فقدان القلب للبصيرة، والعمى هو فقدان العين للبصر.



نداء الايمان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)}
 

والمسئول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسائل إما هم اليهود الذين سألوه عن الساعة، وعن الروح، وعن ذي القرنين، فكان الجواب منه مطابقاً لما عندهم في التوارة لأنهم ظنوا أن الكلام الذي يقوله محمد إنما يأتي منه جزافاً بدون ضابط وليس من رب يُنْزلُه. فلما أجاب بما عندهم في التوراة، علموا أنه لا يقول الكلام من عنده، ولذلك سألوه أيضاً عن أهل الكهف وما حدث لهم، وكانوا جماعة في الزمن الماضي، واتفقوا معه على كل شيء حدث لأهل الكهف إلا على الزمن فنزل القرآن يحدد هذا الزمن بقوله سبحانه: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} [الكهف: 25].
فقال اليهود: الثلاثمائة سنة نعرفها، أما التسعة فلا نعرفها، وما علموا أن الحق سبحانه وتعالى يؤرخ لتاريخ الكون بأدق حسابات الكون لأن ربنا هو القائل: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله...} [التوبة: 36].

إذن التوقيتات كلها حسب التوقيت العربي، ونعلم أن الذين يريدون أن يحكموا التاريخ حكماً دقيقاً فهم يؤرخون له بالهلال، والمثال أن كل عَالَم البحار تكون الحسابات المائية فيها كلها بالهلال، لأنه أدق، وأيضاً فالهلال آية تعلمنا متى يبدأ الشهر، ولا نعرف من الشمس متى يبدأ الشهر؛ لأن الشمس دلالة يومية تدل على النهار والليل، بينما القمر دلالة شهرية، ومجموع الاثنى عشر هو الدلالة السنوية. لكنهم لم يفطنوا إلى هذه، وأخذوا على الثلاثمائة سنة بالحساب الشمسي، وأضاف الحق: {وازدادوا تِسْعاً} لأنك إن حسبت الثلاثمائة سنة الشمسية بحساب السنة القمرية تزداد تسع سنين.


ومادة السؤال في القرآن ظاهرة صحية في الإيمان؛ لأن الإيمان إنما جاء ليحكم حركة الحياة ب (افعل) و(لا تفعل)، وساعة يقول الشرع: افعل، ففي ظاهر هذا الفعل مشقة، وساعة يقول: لا تفعل ففي ظاهر هذا الطلب أنه سهل ومرغوب، والمنع عنه يناقض شهوات النفس. وللتأكد من أن الأسئلة ظاهره صحية من المؤمنين نجد أسئلة كثيرة موجهة لرسول الله من أمته، حكاها القرآن بصور متعددة،

 

ورد السؤال مرة بفعل مضارع مثل قوله: {ويَسْأَلُونَكَ}؛ ومرة ورد بصورة فعل ماض (وإذا سألك). وكثيراً ما جاء السؤال بهيئة المضارع {يَسْأَلُونَكَ}، لأن المضارع يكون للحال وللاستقبال.

وجاءت الأسئلة بالقرآن في صيغة المضارع خمس عشرة مرة، وجاءت بصيغة الماضي مرة واحدة. وإن نظرت إلى الخمس عشرة مرة تجد كل مرة مِنْها جاءت لتبين حكماً.

وإذا نظرنا إلى مادة الفعل (يسأل) في القرآن وبترتيب المصحف، نجد القرآن يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ...} [البقرة: 189].
ويقول سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين...} [البقرة: 215].
ويقول الحق تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل...} [البقرة: 217].
ويقول سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ...} [البقرة: 219].
ومرة أخرى يقول في ذات الآية السابقة: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو...}
ويقول سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ...} [البقرة: 220].
ويقول عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض...} [البقرة: 222].

ويقول الحق تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات}
وبعد ذلك في سورة الأعراف يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي...} [الأعراف: 187].
وأيضاً يقول سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا...} [الأعراف: 187].
ثم يقول الحق: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول...} [الأنفال: 1].
ويقول الحق تبارك وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي...} [الإسراء: 85].
ويقول المولى سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً} [الكهف: 83].
ويقول الحق: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105].
ويختم هذه الأسئلة بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} [النازعات: 42-43].

تلك هي خمس عشرة آية جاء فيها الحق بقوله {يَسْأَلُونَكَ}، وآية واحدة يقول فيها الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ...} [البقرة: 186].
 

والآيات الخمس عشرة التي جاء فيها الحق بصيغة المضارع {يَسْأَلُونَكَ} نجد كل جواب فيها مُصدرا ب (قل) وهو أمر للرسول: قل كذا، قل كذا، ولكن في الآية الواحدة التي جاء فيها الفعل الماضي {وَإِذَا سَأَلَكَ}، لم يقل: فقل إني قريب، بل قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع}،

لأن الله يعلم حب محمد لأمته، وحرصه عليهم ولذلك يقول: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
ويقول سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6].
ولذلك حين علم الحق علم وقوع: أن رسول الله مهتم بأمر أمته ومشغول بها وحريص على أن يشملها الله بمغفرته ورحمته وألا يسؤوه فيها، أخبره المولى عز وجل بأنه سوف يرضيه في أمته. وقد ورد في الحديث ما يؤيد ذلك، فقد روى عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم صلى الله عليه وسلم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}

 

وقول عيسى صلى الله عليه وسلم: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فرفع يديه فقال: أمتي أمتي وبكى فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فَسَلْهُ ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك).
وتأكيداً لعلم الحق تبارك وتعالى من حرص رسوله على أمته، أراد أن يكرم هذه الأمة من نوع ما كرّم به الرسول، فجاء الخطاب في آية الدعاء بدون (قل). {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ...} [البقرة: 186].
وأراد الله أن يبين لمحمد ولأمته أن الله يعلم لا بما تسألونه فقط، بل يعلم ما سوف تسألونه عنه. لذلك نجد أربع عشرة آية تأتي فيها {يَسْأَلُونَكَ} وتكون الإجابة (قل)، والآية الخامسة عشرة جاء فيها {يَسْأَلُونَكَ} وكانت الإجابة (فقل) لتدل على (الفاء) على أن السؤال لم يقع بعد، فكأن الفاء دلت على شرط مقدر هو: إن سألوك فقل ينسفها ربي نسفاً، وهنا يقول الحق سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].

 

و(يجٌليها) أي يُظهرها، وهناك ما يسمى (الجلوة) وما يسمى (الخلوة)، و(الجلوة) أن يظهر الإنسان للناس، و(الخلوة) أن يختلي عن الناس، و(لا يجليها) أي لا يظهرها، و(لوقتها) ترى أنها مسبوقة باللام، ويسمونها في اللغة العربية (لام التوقيت)، مثلما يقول الحق سبحانه: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس...} [الإسراء: 78].
وهي بمعنى (عند)، ومعنى دلوك الشمس، أنها تتجاوز نصف السماء، وتميل إلى المغرب قليلاً. وقوله: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} أي لا يُبَيّنُها عند وقتها إلا هو سبحانه وتعالى. {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}
والثقل يعني أن تكون كتلة الشيء أكبر من الطاقة التي تحمله؛ لأن الكتلة إن تساوت مع الطاقة فهي لا تثقل على الحمل.
أو أن الطاقة التي تحمل لم تقدر على جاذبية الأرض؛ فيكون الشيء ثقيلاً، وقد يكون هذا الثقل أمْراً ماديا، كما يحمل الإنسان- مثلاً- على ظهره أردباً من القمح فيقدر على حمله، لكنه إن زاده إلى أردب ونصف، فالحمل يكون ثقيلاً على ظهره لأن طاقته لا تتحمل مثل هذا الوزن (فينخ) به. {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض}

 

والثقل لا يكون مادياً فقط، بل هو فكري وعقلي أيضاً، مثال ذلك حين يقوم الطالب بحل هندسي أو تمرين في مادة الجبر، فالطالب يشعر أحياناً أن مثل هذا التمرين ثقيل على فكره، وصعب الحل في بعض الأحيان.
وقد يكون الأمر ثقيلاً على النفس في ملكاتها، مثل الهم جاثم على الصدر وثقيل عليه، وهو أقسى أنواع الثقل، ولذلك فالشاعر القديم يقول:
ليس بحمل ما أطاق الظهر ** ما الحمل إلا ما وعاه الصدر

إذن هناك ثلاثة أثقال: ثقل مادي، وثقل فكري، وثقل نفسي.
و{ثَقُلَتْ فِي السماوات}، ونحن نعلم أن السموات فيها الملائكة. ونعلم أن الملائكة أيضاً لا تعرف ميعاد الساعة، ولا يحاول معرفتها إلا الإنسان بشهوة الفكر، أما الملائكة فهي ليست مكلفة لأنها لا اختيار لها، وبعضها يخدم البشر، وهم الملائكة الذين سجدوا لآدم وهم الموكلون بمصالحه، وبحياته، وقد رضخوا لأمر الحق بأن هناك سيداً جديداً للكون. فكونوا جميعاً مسخرين في خدمته، وهم الملائكة الحفظة الكرام الكاتبون، ولهم إلف بالخلق، إلف كاره للعاصي، وإلف محب للطائع. ومن يسير على منهج الله من البشر يفرحون به. وإن وقع من الطائع زلة، يأسون له ويتمنون ألا تقع منه زلة أخرى. ومن يسير ضد منهج الله يغضبون منه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: (ما من يوم يصبح العياد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفاً).
ونعلم أن المنفق سيأخذ ثواب إنفاقه، أما الممسك فإن تلف ماله وصبر عليه فهو أيضاً ينال ثواباً عليه. وهكذا تدعو لنا الملائكة.

 

و(ثقلت) هنا تعني أن ميعاد الساعة لا يعرفه إلا ربنا، فلا يعرف ذلك الميعاد من هم في السموات وكذلك من هم في الأرض، وكل من على الأرض خائف مما سوف يحدث لحظة قيام الساعة، وخصوصاً أن المصطفى صلى الله عليه وسلم، يعطي لها صورة توضح قوله الحق: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}
ويخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالحالة التي تأتي عليها فيقول: (إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق والرجل يخفض ميزانه ويرفعه).
ومثل هذه التوقعات تخيف.

 

وقوله الحق: {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}
أي أن الواقع في هذا اليوم يكون فوق احتمال البشر وهو يأتي بغتة، أي يجيء من غير استعداد نفسي لاستقباله. ويتابع سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}
وحفيَ من الحفاوة، والحفيّ هو المُلِحُّ في طلب الأشياء، مثل التلميذ الذي يتوقف عند درس لا يفهمه، فيسأل هذا، وذاك إلى أن يجد إجابة.
والحفى بالسؤال عن أمر يحاول أن يصل إليه، والحفى أيضاً عالم بما يسأل عنه، وسبب العلم أنه ألحّ في السؤال عليها.

 

والأمور التي يعالجها الإنسان إما أن يعالجها وهو مستقر في مكانه كالأمور الفكرية أو العضلية الموقوتهَ بمكان، وقد يكون أمراً بعيداً عن مكانه ويريد أن يعالجه، فيقطع المسافة إلى المكان الثاني لتحقيق هذه المهمة، إنما يمشي ويسعى على رجليه، و(يدوب) النعل الذي يضعه في قدميه من المشي فيقال عنه إنه: (حافي).
ولذلك يقال: حفي فلان إلى أن وصل للشيء الفلاني، أي سار مرات كثيرة وقطع عدة مسافات، مزقت نعله حتى جعلته يمشي حافياً. وهنا يقول الحق على ألسنة القوم: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي أنك مُعْنى بها، ودائب السؤال عنها، وعارف لها.
وتأتي الإجابة من الحق: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله}
وفي ذات الآية سبق أن قال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}

 

والربوبية متعلقها الخلق، والرعاية بالقيومية لمصالح البشر، والأوهية متعلقها العبادة وتطبيق المنهج، وجاء الحق في هذه الآية، مرة بالربوبية، ومرة بالألوهية. والأولى هي علة الثانية، فأنت أخذت الله معبوداً، وأطعته لأنه خلقك ووضع لك المنهج، ولا يذخر وسعاً بربوبيته أن يقدم للعبد الصالح كل شيء ويمنحه البركة، وكذلك يعطي الكافر إن أخذ بالأسباب ولكن دون بركة وبغير ثواب في الدنيا أو الآخرة، لذلك هو الإله الحق الذي نتبع منهجه. {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}
وأكثر الناس الذين يسألون عن موعد الساعة لا يعلمون أن ربنا قد أخفاها، وسبحانه هو القائل: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} [طه: 15].
هم إذن لا يعلمون أن علمها عند الله.

 

نداء الايمان

image.png.cf4e03d1855cb7e64fcee96afa6526df.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)}
 

يقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسوله: أنتم تسألونني عن الساعة، وأنا بشر، ومتلقّ فقط، والإرسال بالمنهج يأتي من الله وأنا أبلغه، ولا علم لي بموعد قيام الساعة، ولا أملك لنفسي لا ضراً ولا نفعاً، أي لا أملك أن أدفع الضر عني أو أجذب النفع لنفسي، ولكن حين يسوق الله النفع أو يمنع الضر، فالإنسان يملك ما يعطيه الله، والعاقل حين يملك، يقول: إن هذا ملك عَرَضي، لا آمن أن ينزع مني. لذلك قال لنا الحق تبارك وتعالى: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
 

وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله}
أيْ أنَّ أحداً لا يملك شيئاً إلا ما شاء الله أن يملكه، ورسول الله من البشر. ويضيف: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِيَ السواء...} [الأعراف: 188].
ومحمد صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير، فقد حارب، وانتصر، وحارب وانهزم، وتاجر فربح، ويسير عليه ما يسير على البشر، ومرة يدبر الأمر الذي لم يكن فيه منهج من السماء، فمرة يصيب ومرة يخطئ. فيصحح له الله؛ لذلك يأتي القول على لسانه بأمر من الله: لو كنت أعلم الغيب لما وقعت في كل هذه المسائل، وكان أهل رسول الله من قريش قد قالوا: إننا أقاربك، فقل لنا على موعد الساعة. حتى نستعد لملاقاتها.

 

ويتابع المولى سبحانه قوله: {وَمَا مَسَّنِيَ السواء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
وساعة ترى (إن) فهي مرة تكون شرطية مثل: (إن ذاكرت تنجح)، ومرة تكون للنفي وتجد بعدها اسما، والمعنى: ما أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون. والكلام موجه إلى المؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بالنذارة وبالبشارة، وما يُنذروا به لا يفعلوه، وما يبشروا به يفعلوه.

image.png.af379a207aa0c26ab559fcdc678b8b9f.png


{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)}
 

قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} المقصود بها آدم، وقول الحق: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} المقصود بها حواء، ونلحظ في الأداء في هذه الآية أن الضمير عائد إلى مؤنث. {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}
ثم جاء بالتذكير في قوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}
إذن فصل الذكورة عن الأنوثة جاء عند {لِيَسْكُنَ}. فكأن الكلام في النفس معنىٌّ به جنس بني آدم وهو الذي نسميه (الإنسان) ومنه ذكورة ومنه أنوثة، ولذلك فسبحانه حينما يتكلم عن الذكورة كذكورة، والأنوثة كأنوثة، يأتي بضمير المذكر، أو بضمير المؤنث، وقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.

 

لأنه يريد أن يوضح أن المرأة جُعلَت للرجل سكناً، لا يقال: إنها له سكن إلا إذا كان هو متحركاً، كأن الحركة والكدح في الحياة للرجل، ثم يستريح مع المرأة ويسكن إليها بالحنان، بالعطف، بالرقة. أما إن لم تكن سكناً فهو يخرج من البيت لأن ذلك أفضل له. وقول الحق تبارك وتعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.
يذكرنا بما عرفناه من قبل من أن الله خلق آدم من الطين ومن الصلصال ثم نفخ فيه ربّنا الروحَ، أما حواء فقد ذكرها في هذه المسألة، وأوضح: أنا جعلت منها زوجها، و(منها) أي أنها قطعة منه، وقيل: إنها خلقت من ضلع أعوج، ومن يرجع هذا الرأي يقول لك: لأن الله يريد أن يجعل السكن ارتباطاً عضويا، فالمرأة بعض من الرجل، ونعرف أن الواحد منا يحب ابنه لأنه بعض منه. وعلى ذلك فهذا القول جاء لتقديم الألفة. وهناك من يقول: إن حواء خلقت مثل آدم فلماذا جاء ذكر آدم ولم يأت بذكر حواء؟
ونقول: إن آدم أعطى الصورة في خلق الإنسان من طين، لأن آدم هو الرسول وهو المسجود له. ونعلم أن المرأة دائما مبنية على الستر. ومثال ذلك نجد الفلاح في مصر لا يقول: زوجتي، بل يقول: (الجماعة) أو (الأولاد) أو يقول: (أهلي) ولا يذكر اسم الزوجة أبداً.

 

والحق يقول هنا: {وَجَعَلَ مِنْهَا}، فإن كانت مخلوقة من الضلع ف (مِنْ) تبعيضية، وإن كانت مخلوقة مثل آدم تكون (مِنْ) بيانية، أي من جنسها، مثلها مثلما يقول ربنا: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ...} [الجمعة: 2].
أي الرسول من جنسنا البشري ليكون إلف المبلغ عن الله، والمبلغ عن الله واحدا منا ونكون مستأنسين به، ولذلك قلنا: إن اختيار الله للرسول صلى الله عليه وسلم من البشر فيه رد على من أرادوا أن يكون الرسول من جنس آخر غير البشر، فقال الحق على ألسنتهم: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94].
ويأتي الرد عليهم: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95].
ثم لو كان الرسول من جنس الملائكة فكيف كانوا يرونه على حقيقته؟ كان لابد أن يخلقه الله على هيئة الإنسان.
ويتابع سبحانه: {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً}

 

و{تَغَشَّاهَا} تعبير مهذب عن عملية الجماع في الوظيفة الجنسية بين الزوج والزوجة، والغشاء هو الغطاء، وجعل الله الجماع من أجل التناسل ليبث منهما رجالاً كثيراً ونساء.
والمعنى هنا أنها حملت الجنين لفترة وهي لا تدري أنها حامل، لأن نموّ الجنين بطيء بطيء لا تشعر الأم به. {فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [الأعراف: 189].
ومرت به، مقصود بها أنها تتحرك حركة حياتها قياماً وقعوداً إلى أن تثقل وتشعر بالحمل في شهوره الأخيرة.
وهنا عرف الزوج أن هناك حملا ورفع الاثنان أيديهما بالدعاء لله عز وجل أن يكون الولد صالحاً بالتكوين البدني وصالحاً للقيام بقيم المنهج. {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].
أي أن الذكورة قد انفصلت عن الأنوثة، وصار الذكر يسكن عند الأنثى.
وهكذا كان الأمر الخاص بآدم، ثم جاء الكلام للذرية، وخصوصاً أن حواء كانت تحمل بذكر وأنثى، وآدم وحواء وأولادهما هم أصل التواجد البشري وأصل التوالد.

 

والقرآن قد يتكلم في موضوعات تبدو متباعدة. لكنها تضم قيماً ذات نسق فريد، فنجد الحق يتكلم في أمر ثم يتكلم في آخر، مثل قوله: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ...} [يونس: 22].
ولم يأت بسيرة البر هنا، بل تكلم بالبر والبحر ثم انتقل إلى الحديث عن مجيء الموت، وأيضاً انظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً...} [الأحقاف: 15].
هنا يوصي الحق الإنسان بوالديه، بالأب وبالأم، ثم يتابع: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً...} [الأحقاف: 15].
ولم تأت سيرة الرجل بل كل الحيثيات للأم.

image.png.929c17eb3612e7c27ac4a95592ddc452.png

 

ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك:
{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)}
ويروى أن هذه الآية قد نزلت في (قٌصَيّ) وهو جد من أجداده صلى الله عليه وسلم، فقد طلب (قُصَيّ) من الله أن يعطي له الذرية الصالحة، فلما أعطاه ربنا الذرية الصالحة سماها بأسماء العبيد، فلم يقل: عبدالله أو عبدالرحمن، بل قال: عبدمناف، عبدالدار، عبدالعزى. وجعل لله شركاء في التسمية، ولهذا جاء قول الحق: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا}؛ ليدلنا على أن الإنسان في أضعف أحواله، أي حينما يكون ضعيفاً عن استقبال الأحداث، يخطر بباله ربنا؛ لأنه يحب أن يسلم نفسه لمن يعطي له ما يريده، وبعد أن ينال مطلبه ينسى، ولذلك يقول الحق: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ...} [يونس: 12].

إذن فائدة الضر أنه يجعلنا نلجأ إلى ربنا، ولذلك نجد الإنسان أحسن ما يكون ذكراً لله وتسبيحا لله حينما يكون في الشدة وفي المرض، ولذلك لو قدر المريض نعمة الله عليه في مرضه وشدته، لا أقول: إنه قد يحب أن يستطيل مدة المرض والشدة. لا، بل عليه فقط ألا يضجر وأن يلجأ إلى ربه ويدعوه. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حينما قال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدوّ مّلكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قول إلا بك).
 

والإنسان ساعة يوجد في المرض عليه أن يعرف النعمة فيه، فهو في كل حركة من حركاته يذكر الله، وكما تخمد فيه طاقات الاندفاعات الشهوانية، يمتلئ بإيجابيات علوية، ولذلك نجد الحديث القدسي يقول فيه ربنا سبحانه وتعالى: (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب. كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب. كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي).
إذن ماذا عن حال مريض يستشعر أن ربه عنده، ويكون في المرض مع المنعم، وفي الصحة مع النعمة. {فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190].
ومعنى هذا أن ربنا تبارك وتعالى ينزه نفسه عما يقول فيه المبطلون ويشركون معه ما يزعمون من آلهة. ولذلك يقول سبحانه وتعالى:

{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)}


أيشركون في عبادة الله من لا يخلقون شيئاً، وهم أنفسهم مخلوقون لله، إن من أشركوا بالله الأصنام فعلوا ذلك بالوهم وتنازلوا عن العقل، وكان الواجب أن يكونوا عقلاء فلا يتخذون من الأصنام آلهة. {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}
ولذلك فإن هناك آية أخرى تفضح زعمهم يقول فيها الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ...} [الحج: 73].
ونعلم أن البشر في المعامل قد عرفوا العجز عن خلق خلية واحدة وهي التي لا ترى بالعين المجردة، ولذلك أوضح الحق أن المسألة ليست أمر خلق، بل إن الذباب لو وقع على طعام إنسان وأخذ على جناحه أو في خرطومه شيئاً، لن يستطيع أحد أن يسترد المأخوذ منه، فقد ضعف الطالب والمطلوب.
والخلق- كما نعلم- أول مرتبة من مراتب القدرة، فإذا كانت الأصنام التي اتخذها هؤلاء شركاء لا تخلق شيئاً بإقرارهم هم، فكيف يعبدونها؟ إنها لا تخلق شيئاً بدليل أنها لا تتناسل. بل إذا أراد العابدون أن يزيدوا صنماً صنعه العابدون بأنفسهم. ونلحظ أن الحق جاء هنا بالقول: {أَيُشْرِكُونَ} بصيغة تعجب، والتعجب ينشأ عن إنكار ما به الاستفهام، أي تعجب منكراً على وفق الطباع العادية، مثلما يقول لنا: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله...} [البقرة: 28].
أي قولوا لنا ما الطريقة التي بها تكفرون بالله وتسترون وجوده، مع هذه الآيات البينات الواضحات؟ فكأن ذلك أمْر عجب يدعو أهل الحق للدهشة والاستغراب والإنكار الشديد، وحينما يتكلم الحق بإنكار شيء لأنه أمر عجيب، يوجه الكلام مرة إليهم، ومرة أخرى يوجهه إلى غيرهم، مثل قوله هنا: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}
والكلام للمؤمنين لأنه يريد أن يعطي لقطتين في الآية، اللقطة الأولى: أن ينكر ما فعله هؤلاء، وأن يزيد القوم الذين لم يفعلوا ثقة في نفوسهم، وفرحة بمواقفهم الإيمانية، حيث لم يكونوا مثل هؤلاء {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.
وفي الآية الكريمة وقفة لفظية في الأسلوب العربي نفسه قد تثير عند البعض إشكالا، في قوله تعالى: {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً}. و(ما) تعني الذي لم يخلق شيئاً، و(يخلق) هنا للمفرد، وسبحانه وتعالى جعل للمفرد هنا عمل الجمع فقال: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً}.
وأقول: إن الذي يقف هذه الوقفة، ويلاحظ هذا الملحظ إنسان سطحي الثقافة بالعربية، لأنه لا يعلم أن (ما) و(من) و(ال) تطلق على المفرد والمفردة، وعلى المثنى والمثناة، وعلى جمع الذكور وجمع الإناث، فتقول: جاءني من أكرمته، وجاءتني من أكرمتها، وجاءني من أكرمتهما، وجاءت من أكرمتهما، وجاء من أكرمتهم وجاء من أكرمتهن.
وكذلك (ما). إذن فقول الحق: {مَا لاَ يَخْلُقُ} في ظاهرها مفرد، ولكن اللفظ يطلق على المفرد والجماعة؛ لذلك جاء في الأمر الثاني وراعى الجماعة، إذن (يخلق) للمفرد، و(هم يخلقون) للجمع لأن قوله: (ما) صالح للجميع أي للمفرد وللمثنى وللجمع وللمذكر وللمؤنث.
ومثال ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ...} [محمد: 16].
وسبحانه قال هنا: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}، ولم يقل: (حتى إذا خرج من عندك) بل قال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ} أي أنه جاء بالجماعة، فإذا رأيت ذلك في (ما) و(من) و(ال) فاعلم أن هذه الألفاظ يستوي فيها المفرد والمفردة والمثنى والمثناة وجمع الذكور وجمع الإناث. {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.
وهنا في هذه الآية وقفة لغوية أخرى في قوله: (هم) وهي لا تطلق إلا على جماعة العقلاء، فكيف يطلق على الأصنام (هم) وليست من العقلاء؟ وأقول: إن الحق سبحانه وتعالى لما علم أنهم يعتقدون أنها تضر، وأنها تنفع، فقد تكلم معهم على وفق ما يعتقدون، لكي يرتقي معهم في رد الإنكار لكل ما يستحق الإنكار. فأول مرحلة عرفهم أن الأصنام لا تخلق، وثاني مرحلة عرفهم أنهم هم أنفسهم مخلوقون والأصنام لا تقدر على نصرهم، إذن فهم معطلون من كل ناحية؛ لأنهم لا يخلقون. وهذا أول عجز، ومن ناحية أخرى أنهم يُخْلَون وهذا عجز آخر، لكن بعد هذا العجز الأول والعجز الثاني فهل هم قادرون على نصر غيرهم؟ ها هو ذا سبحانه يترقى في الحوار معهم ترقية أخرى فيقول:

image.png.3f1afac9e79b86d044a5156a0c94b752.png

وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)}
إذن فلا أحد من الأصنام قادر على أن ينصر نفسه أو يضمن نصر غيره.
وهكذا نجد الترقي في الحوار على أربع مراحل، أولاَ: لا يخلقون، ثانياً: هم يُخلَقون، ثالثاً: لا ينصرونكم، ورابعاً: ولا ينصرون أنفسهم. ثم تأتي المرحلة الخامسة في قوله الحق: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ...}.

image.png.f3247f3cc7b208df7f724388f761b846.png
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)}
وعلى ذلك فهي خمس مراحل- إذن-، أكررها لتستقر في الذهن، أولها أنه من الجائز أنه لا يَخلُق، ومن الجائز أن يكون مخلوقاً، ومن الجائز أنه لا يقدر أن ينتصر لغيره لأنه ضعيف، ولا ينتصر لنفسه لأنه أضعف، ومع ذلك إن أردت أن تهديه إلى شيء من ذلك أو إلى شيء من العلم فلا يقبل منك.
وكانوا في الجاهلية حين يفزعهم أمر جسيم ينادونهم ويقولون: يا هبل، يا لات، يا عزى. وإن لم يصبهم أمر سكتوا عن نداء الأصنام؛ لذلك يقول لهم الله من خلال الوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون} [الأعراف: 193].
أي إن دعوتكم لهم لا تفيد في أي أمر تماماً كصمتكم.
ونلحظ أن الأسلوب هنا مختلف {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} فلم يقل: (أدعوتموهم أم صَمَتّم)؛ لأن الفعل يقتضي الحدوث، ولنا أن نعرف أنهم كانوا لا يفزعون إلى آلهتهم إلا عند الأحداث الجسام. أما بقية الوقت فقد كانوا لا يكلمونهم أبداً؛ لذلك جاءت (صامتون) لازمة، لأنها اسم، والاسم يقتضي الثبوت والاستمرار، أما الفعل فيقتضي الحدوث والتجدد.
والحق هنا يبلغ المشركين: سواء عليكم أدعوتموهم أم لم تدعوا، فعدم الاستجابة متحقق فيهم وواقع منهم، وعدم النصر لأنفسهم ولغيرهم متحقق منهم.

تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)}
و{تَدْعُونَ} لها معنيان، المعنى الأول يعني أنكم قد تتخذونهم آلهة وتعبدونهم، والمعنى الثاني هو أن يقال: (تدعونه) أي تطلب منه شيئاً. والمعنيان يجيئان في هذه الآية: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم}.
وعنْدَما يسمع الإنسان كلمة (عباد) يفهم أنها من الجنس المتعقل الحي، فكيف تكون الأصنام عباداً؟ وأقول: نحن هنا نأخذها على شهرة اللفظ، أما إذا أردنا تحقيق اللفظ وتعقيده، فالبناء مأخوذ من التذلل والخضوع، ألم يقل موسى لفرعون:؟ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22].
أي أذللتهم. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تكون الأصنام عباداً أمثالهم في أنهم يُذلون؛ لأن السيل إذا نزل أو هبت الريح نجد هذه الأصنام قد وقعت وتكسرت رقابها، فيهرع المشركون ليأتوا بمن يعيد ترميم هذه الآلهة!! إذن فأنتم أيها المشركون؛ لأنكم مخلوقون بالله قد تملكون قدرة، وقوة تستطيعون بها إن جاء لكم ضر أن تدفعوا الضر عنكم، أما الأصنام فليست لها أدنى قدرة إن جاءها من يحطمها، أو يكسرها، أو يقبلها، فهي أضعف منكم. وبذلك تكون كلمة {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} لوناً من الترقي.



وعلى فرض أنهم عباد أمثالكم، فالعبد من الأحياء حينما يأتي شيء يستذله، قد يستطيع أن يدفع عن نفسه بعض الشيء إلا إن كان الشيء قويا فوق طاقته. فالمراد والمقصود أنهم عباد أمثالكم أي مذللون ومسخرون ولا يستطيعون دفع شيء عن أنفسهم. وأنت إذا ما نظرت إلى هذه المسألة وأخذت معنى عباد على معناها الإطلاقي، فأنت تعلم أن العبد هو كل مسخر مذلل من العباد.


لكن هناك مذلل ومسخر فيما لا اختيار له فيه، وآخر مذلل ومسخر فيما له فيه اختيار أيضاً، والفرق بين الاثنين أن الكافر فيما له اختيار؛ إما أن يؤمن وإما أن لا يؤمن ويختار الكفر، بل إن الإنسان المؤمن له الاختيار في أن يطيع أو يعصي. ولكن هناك أشياء أخرى تجري على الإنسان لا اختيار له فيها، كأن يمرض ولا يقدر أن يقول: لا لن أمرض، أو قد يأتيه الموت فلا يقدر أن يقول: لن أموت. وقد يهلك ماله أو تحترق داره فلا يستطيع دفع القدر، وكل هذه أمور قهرية يكون الإنسان فيها مذللاً مسخراً، والكافر والمؤمن في هذه الأمور سواء.


والمؤمن يتميز بأنه يتبع منهج الله فيما له فيه اختيار، وهذه فائدة الإيمان، وبذلك يخرج المؤمن عن الاختيار المخلوق لله، إلى مراد الله منه في الحكم، ويستوي بكل شيء مسخر لله، ولذلك نقول للذين يكفرون: كفرتم وتأبيتم بما خلق فيكم من الاختيار عن الإيمان بالله.
وقد جعلها الله لكم بقوله: {... فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
وما دام الواحد منكم أيها الكافرون يتأبى ويستكبر على حكم الله، إذن فللواحد منكم أيها الكافرون رياضة على التمرد، فلماذا لا تقول للمرض لن أستسلم لك. ولن يستطيع أحد الكافرين ذلك، لأنه إنما يكفر بما له حق ممنوح من الله في منطقة الاختيار، أما في غير ذلك فالكل عباد مذللون. {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} [الأعراف: 194].



وقول الحق تبارك وتعالى: {فادعوهم} أي اطلبوا منهم أن يلبوا لكم أي طلب، وهم لن يستجيبوا لكم؛ لأنهم لا يقدرون أبداً. وفي هذا القول لون من التحدي {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} لكنهم لن يستجيبوا، فليست لهم قدرة لأن يخرجوا على أمر ربنا ويقولوا سنعطيكم ما تطلبون، لأن طاقتهم وطبيعتهم لا تقدر أن تستجيب.


{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)}
وينبه الحق تبارك وتعالى كل مشرك، وكأنه يقول له: أنت لك رجل تمشي بها، ولك يد قد تبطش بها، ولك أذن تسمع، ولك عين تبصر، فهل للأصنام حواس مثل هذه؟. لا، ليست لهم، إذن، فالأصنام أقل منك، فكيف تجعل الأقل إلهاً للأكبر؟ إن هذا هو جوهر الخيبة.



وقوله: {يَمْشُونَ بِهَآ}، و{يَسْمَعُونَ} و{يُبْصِرُونَ} جاءت لأن المشركين صوروا التمثال وله رجلان وله اذنان وله عينان ويضعون في مكان كل عين خرزة لتكون مثل حدقة العين، وحين ينظر إنسان منهم إلى التمثال يخيل إليه أن التمثال ينظر إليه. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {... يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198].
وفي قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا...} [الأعراف: 195].



حين يعرض الحق مثل هذه الأمور بأسلوب الاستفهام. فإنما يريد أن يحقق المسائل عن أقوى طريق، لأن الاستفهام لابد له من إجابة. والكلام من الله عند الكافر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب. وإجابة الكافر ستكون قطعاً بعدم استطاعة الأصنام المشي أو اللمس أو الرؤية أو السماع؛ لذلك أراد الحق ألا يكون الحكم من جهته. بل الحكم من جهة المشركين، وفي هذا إقرار منهم. ولذلك يقول الحق مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم. {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح: 1].

 

 

 


أما كان يستطيع سبحانه وتعالى أن يقول: شرحنا لك صدرك؟ كان يستطيع ذلك. ولكنه يأتي بالاستفهام الذي يكون جوابه: بلى لقد شرحت لي صدري. وينبه قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا...}
إلى مقارنة الأصنام بالبشر. فالبشر لهم أرجل وأيْدٍ وأعين وآذان، وكل من هذه الجوارح لها عمل تؤديه، وهكذا يتأكد للمشركين أنهم أعلى مرتبة من أصنامهم. فكيف يجوز في عرف العقل أن يكون الأعلى مرتبة مربوباً للأدنى مرتبة؟ إن ذلك لون من الحمق. {... قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ}

ورسول الله جاء بهذا القول ليدحض إيمانهم بهذه الأصنام التي اتخذوها آلهة وليسفه أحلامهم فيها، وبذلك أعلن العداوة ضدهم- العابدين، والمعبودين- وصارت خصومة واقعة، وسألهم أن يدعوا الشركاء ليكيدوا لرسول الله بالأذى أو التعب أو منع النصر الذي جاء للإسلام، إن كانت عندكم أو عندهم قدرة على ضر أو نفع {قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ}.
ويتحداهم صلى الله عليه وسلم أن يكيدوا هم وآلهتهم، والكيد هو التدبير الخفي المحكم. وانظروا ما سوف يحدث، ولن يصيب رسول الله بإذن ربه أدنى ضر.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى قد أجرى على رسول الله أشياء، ليثبت بها أشياء، وقد قالوا: إن واحداً قد سحر النبي، ولنفرض أن مثل ذلك السحر قد حصل، فكيف ينسحر النبي؟ ونقول: ومن الذي قال: إنه سحر؟.
إن ربنا أعلمه بالساحر وبنوع السحر، وأين وضع الشيء الذي عليه السحر، ليبين لهم أن كيدهم حتى بواسطة شياطينهم مفضوح عند الله. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ...} [الأنفال: 30].
وهم كانوا قد بيتوا المكر لرسول الله وأرادوا أن يضربوه ضربة واحدة ليتفرق دمه في القبائل، فأوضح ربنا: أنتم بيتم، ولكن مكركم يبور أمام أعينكم. وليثبت لهم أنهم بالمواجهة لن يستطيعوا مصادمته في دعوته. ولا بالتبييت البشري يستطيعون أن يصدموا دعوته، ولا بتبييت الجن- وهم أكثر قدرة على التصرف- يستطيعون مواجهة دعوته. وما داموا قد عرفوا أنهم لن يظهروا على الرسول، ولن يفيد مكرهم أو سحرهم أو كيدهم مع شياطينهم، إذن فلابد أن ييأسوا، ولذلك تحداهم وقال: {... قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 195].
وأنظره يعني أخره، والقول هنا: لا تؤخروا كيدكم مع شركائكم، بل نفذوا الكيد بسرعة، وقد أمر الحق رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما آوى إلى ركن شديد؛ لذلك يقول رسول الله بأمر الحق: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب...}.






نداء الايمان
 

 

 

تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)}
 

وما دام الوليّ هو الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يبالي بهم، و(الولي) هو الذي يليك، وأنت لا تجعل أحداً يليك إلا أقربهم إلى نفسك، وإلى قلبك، ولا يكون أقربهم إلى نفسك وإلى قلبك، إلا إذا آنست منه نفعاً فوق نفعك، وقوة فوق قوتك، وعلماً فوق علمك، وقول الرسول بأمره سبحانه وتعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله...}
أي أنه ناصري على أي كيد يحاول معسكر الشرك أن يصنعه أو يبيته لي. فالله هو ولي الرسول أي ناصره، والقريب منه بصفات الكمال والجلال التي تخصه سبحانه وتعالى، وعندما يكون لمؤمن خصلة ضعف فهو يذهب لمن عنده خصلة قوة، ولذلك قلنا في قصة موسى عليه السلام حين التفت قومه ووجدوا قوم فرعون فقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}
أي أن جيش فرعون سيدركهم، لأن البحر أمامهم والعدو وراءهم. وليس أمامهم فسحة أمامية للهرب ولا منفذ لهم إلا أن يصمدوا أمام جيش فرعون وهم بلا قوة ولم يكذبهم موسى عليه السلام في قولهم. بل قال لهم يطمئنهم: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].

وهنا خرجت المسألة عن أسباب البشر وانتهت إلى الركن الشديد الذي يأوي إليه الرسل. ولا يقول هذا القول إلا وهو واثق تمام الثقة من نصرة الله، وسبق أن رويت لكم حكاية المرأة الأوروبية التي أسلمت لأنها كانت تقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كبطل من أبطال العالم، صنع أكبر انقلاب في تاريخ البشرية، ولما مرت في تاريخه صلى الله عليه وسلم، قرأت أن صحابته كانوا يحرسونه من خصومه وأعدائه، إلى أن فوجئوا في يوم ما بأن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا عني. فإن الله أنزل عليّ: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس...}» [المائدة: 67].
واستوقفت هذه الواقعة هذه المرأة فقالت: إن هذا الرجل إن أراد أن يكذب على الناس جميعاً ما كذب على نفسه، ولا يمكن أن يُسلم نفسه لأعدائه بدون حراسة إلا إذا كان واثقاً من أن الله أنزل عليه هذا، وأنه قادر أن يعصمه، وإلا دخلَ بنفسه في تجربة. والباحثة من هذه الواقعة قد أخذت لفتة العبرة. وفي مثل هذا يقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: {... قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 195].

 

وكأنه صلى الله عليه وسلم يستدعيهم إلى التحدي بالمعركة بالمكر والتبييت، وألا يتأخروا عن ذلك وهو واثق من أن الله عز وجل ينصره. {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} [الأعراف: 196].
وأنزل الحق تبارك وتعالى على رسوله الكتاب المبين ليبلغه للخلق، ولا يمكن أن يسلمه إلى عدو يمنعه من تمام البلاغ عن الله.
لقد أنزل الحق الكتاب على رسوله ليبلغه إلى الكافة ولا يمكن أن يتخلى عنه. {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين}

 

وقوله: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} أي أنه لا يجعل الولاية خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم، بل يقول لكل واحد من أتباعه: كن صالحاً في أي وقت، أمام أي عدو، ستجد الله وهو يتولاك بالنصر، وساعة يعمم الله الحكم؛ فهو ينشر الطمأنينة الإيمانية في قلوب أتباعه صلى الله عليه وسلم. وكل من يحمل من أمر دعوته صلى الله عليه وسلم شيئاً ما سوف يكون له هذا التأييد، وسبحانه الذي جعل رسوله مُبلغاً عنه المنهج، وهو سبحانه يتولى الصالحين لعمارة الكون؛ لأن الله قد جعل الإنسان خليفة ليصلح في الكون، وأول مراتب الإصلاح أن يبقى الصالح على صلاحه، أو أن يزيده صلاحاً إن أمكن.


image.png.400ec007c43d42cfc29e4a6ddf71ab8e.png

 

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)}
لأن الذي لا يستطيع نصرك. يجوز أن يكون ضنيناً بنصرتك؛ لأن حبه لك حب رياء، أو لأنه يرغب في أن يحتفظ بما ينصرك به لنفسه، أما حين يكون غير قادر على نصرتك؛ لأنه لا يملك أدوات النصر، فهذا يبين عجز وقصور من اتخذته وليا، وهكذا كان حال المشركين. وفي يوم الفتح جاء المسلمون بالمعاول وكُسرت الأصنام، ولم يقاوم صنم واحد. بل تكسرت كلها جميعاً.

 

image.png.8253e788fda79463474f5d51910289ad.png


{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)}
وبطبيعة الحال لو أن أحداً دعا هذه الأصنام إلى الهداية فلن تهتدي الأصنام لأنها من الجماد الذي لا تصلح معه دعوة أو فهم. رغم أن الصنم منها له عيون كالتي تراها حاليا في معابد الهندوس أو البوذيين، حين يضعون للتماثيل في مكان حدقة العين خرزاً ملوناً يشبه العين، وتوجه الحدقة بميلها وكأنه ينظر إليك وهو لا يرى شيئاً.

 

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}
وهذه آية جمع فيها المولى سبحانه وتعالى مكارم الأخلاق.
وبعد أن أبلغ الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يدعو المشركين لأن يكيدوا له مع شياطينهم وأصنامهم ولن يستطيعوا. وبعد ذلك يوضح له: أنا أحب أن تأخذ بالعفو، وفي هذا تعليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن يتبعه

 

وكلمة (العفو) ترد على ألسنتنا، ونحن لا ندري أن لها معنى أصيلاً في اللغة.

وقد يسألك سائل: من أي أتيت بهذا الشيء؟ فتقول له: جاءني عفواً، أي بدون جهد، وبدون مشقة، وبدون سعي إليه ولا احتيال لاقتنائه.
ويقال أيضاً: إن هذا الشيء جاء لفلان عفو الخاطر، أي لم يفكر فيه، بل جاء ميسراً. هذا هو معنى العفو. والحق هنا يأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يأخذ العفو، أي أن يأخذ الأمر الميسر السهل، الذي لا تكلف فيه ولا اجتهاد؛ لأنك بذلك تُسهل على الناس أمورهم ولا تعقدها، أما حين تتكلف الأشياء، فذلك يرهق الناس، ولذلك يأمر الحق رسوله أن يقول: {قُلْ ما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} [ص: 86].
وقوله: {وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} أي أنه صلى الله عليه وسلم لا يتكلف الأمور حتى تصير الحياة سهلة ولا يوجد لدد بين الناس؛ لأن الذي يوجد اللدد هو التكلف وقهر الناس، ويجب أن تقوم المعاملة فيما بينهم بدون لدد أو تكلف. ولذلك يقال: إن المؤمن هو السمح إذا باع، والسمح إذا اشترى، والسمح إذا اقتضى، والسمح إذا اْقتُضِي منه: أي أنه في كل أموره سمح.

 

وللأمر بأخذ (العفو) معنى آخر وهو أن تعفو عمن ظلمك؛ لأن ذلك ييسر الأمور.
والعفو أيضاً له معنى ثالث، هو الأمر الزائد، مثل قوله الحق تبارك وتعالى من قبل أن تفرض الزكاة: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو...} [البقرة: 219].
ثم حدد الحق بعد ذلك الزكاة وأوجه إنفاقها، ونلاحظ أن الأمر بالإنفاق من قبل أن تفرض الزكاة، والإنفاق بعد أن نزل الأمر بالزكاة يلتقيان في السهولة؛ لأن المؤمن لا ينفق مما يحتاجه. بل من الزائد عن حاجته.
وقول الله سبحانه وتعالى في الآية (خذ العفو) فيه أمر (خذ) ومقابله (أعْطِ) وقد تعطي إنساناً فلا يأخذ منك إن رأى أن ما تعطيه له ليس في مصلحته، لكن إذا قال الحق تبارك وتعالى: (خذ) فهذا أمر يعود نفعه عليك، فإن كان العفو عمن ظلمك في ظاهر الأمر ينقصك شيئاً، فاعلم أنك أخذت العفو لنفسك.
واعلم أن الحق سبحانه وتعالى يحب من عبده المؤمن أن يكون هينا ليناً مع إخوانه من المؤمنين.
فإن عز عليه أخوه المؤمن فَلْيَهنْ له، فإن تعالى أو تعالم أخ مسلم عليك، فلا تتعال عليه أو تتعالم حتى لا تقوم معركة بينكما، بل تواضع أنت، ليزيدك الله رفعة وعزة.
وكأن الله سبحانه وتعالى يؤكد لك: أنك حين تعطي العفو تأخذ الخير من خلاله. ودائماً أضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- أنت حين تدخل إلى منزلك وتجد ابناً لك قد أساء إلى أخيه فيتجه قلبك وحنانك إلى المظلوم. ونحن عيال ربنا، فإن ظلم واحدٌ آخرَ، فالظالم بظلمه يجعل الله في جانب المظلوم، ولذلك يحتاج الظالم إلى أن نحسن إليه حيث كان سببا في رعاية الله لنا فنفعل معه مثلما فعل سيدنا حسن البصري عندما قيل له: إن فلاناً اغتابك بالأمس. ونادى سيدنا حسن البصري الخادم وقال له: جاءنا طبق من باكورة الرطب. اذهب به إلى فلان- وحدد للخادم اسم من اغتابه- وتعجب الخادم: كيف تبعث بالرطب إليه وهو قد اغتابك؟ فقال: أفلا أحسن إلى من جعل الله بجانبي، قل له: (يقول لك سيدي بلغه أنك قد اغتبته فأهديت إليه حسناتك، وهو أهداك رطبه).

 

{خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}
 

وتتناول الآية الكريمة الأمر بالعرف: والعرف هو السلوك الذي تعرف العقول صوابه، وتطمئن إليه النفوس، ويوافق شرع الله، ونسميه العرف؛ لأن الكل يتعارف عليه، ولا أحد يستحيي منه، لذلك نسمع في شتى المجتمعات عن بعض ألوان السلوك: هذا ما جرى به العرف. وما يجري به العرف عند المجتمعات المؤمنة يعتبر مصدراً من مصادر الأحكام الشرعية.
وخير مثال على ذلك: أننا نجد الشاب لا يخجل من أن يطرق باب أسرة ليطلب يد ابنتها، لأن هذا أمر متعارف عليه ولا حياء منه، بينما نجد المجتمع المسلم يستحي أن يوجد بين أفراده إنسان يزني، والغاية من الزنا الاستمتاع، والغاية من طلب يد الفتاة هو الاستمتاع، لكْن هناك فارق كبير بين متعة يحرمها الله عز وجل، ومتعة يٌحلّها الله تعالى.

 

وفي نهاية الآية يقول الله تعالى: {... وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}
وكيف يكون الإعراض عن الجاهلين؟. يخطئ من يظن أن الجاهل هو الذي لا يعلم، لأن من لا يعلم هو الأمي، أما الجاهل فهو من يعلم قضية تخالف الواقع. ونلاحظ أن المشكلات لا تأتي من الأميين الذي لا يعلمون، فالأمي من هؤلاء يصدق أي قضية تحدثه عنها وتكون مقبولة بالفطرة؛ لأنه لا يملك بديلاً لها، أما الجاهل فهو من يعلم قضية مخالفة للواقع ويحتاج إلى تغيير علمه بتلك القضية، والخطوة الثانية أن تقنعه بالقضية الصحيحة.
والحق هنا يوضح: أعرضْ عن الجاهل الذي يعتقد قضية مخالفة للواقع ويتعصب لها، و
أنت حين تعرض عن الجاهل، يجب ألا تماريه، أي لا تجادله؛ لأن الجدل معه لن يؤدي إلى نتيجة مفيدة؛ لذلك أقول لكل من يواجه قضية التدين ولم يقرأ عن الدين كتاباً واحداً، وقرأ في كتب الانحراف عن الدين المئات، أقول له: كما قرأت فيما يناهض الدين مئات الكتب فمن الحكمة يجب عليك أن تكون عادلاً ومنصفاً فتقرأ في مجال التدين بعض الكتب الخاصة به مثلما قرأت في غيرها.
وإن أردت أن تبحث قضية الدين بحثاً منطقياً يصحح لك عقيدتك، فعليك أن تخْرِج كل الاقتناعات المسبقة من قلبك ووجدانك. وتدرس الأمرين بعيداً عن قلبك، ثم أدخل إلى قلبك الأمر الذي ترتاح إليه، لكن لا تحتفظ في قلبك بقضية وتناهض منطوقها بظاهر لسانك. والحق سبحانه وتعالى يقول: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ...} [الأحزاب: 4].
فأنت لك قلب واحد، إما أن يمتلئ بالإيمان واليقين وإما بغير ذلك. والقلب حيز واحد فلا تشغله أنت بباطل، حين تبحث قضية الحق، بل أخرج الباطل من قلبك أولاً، واجعل الباطل والحق خارجه، وابحث بعقلك، والذي ييسرُ إليك أن تدخله إلى قلبك فأدخله.
وفي بيان معنى هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها روى لنا أبيّ قال: لما أنزل الله عز وجلّ على نبيه صلى الله عليه وسلم: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك».
وسبحانه- إذن- يريد أن يعلمنا قضية إيمانية إنسانية؛ لأنك كمسلم تساعد المصاب في بدنه، فما بالك بالمصاب في قيمه، ألا يحتاج إلى معونتك؟.

 

نداء الايمان

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}
و(نزغ) تساوي كلمة (نخس) أي أمسك بشيء ووضع طَرَفَه في جسد من بجانبه أو من أمامَه. ويتضح من معنى (نخس) أن هناك مسافة بين الناخس والمنخوس ووسيلة أو أداة للنخس.
وعملية النخس لا يدرك بها الناخس أو المنخوس حرارة بعضهما البعض، أما كلمة (مس) فقد يشعر الماس والممسوس كل واحد بحرارة الآخر منهما بسرعة، لكن أحدهما لا يدرك نعومة الآخر، أما اللمس ففيه إدراك لنعومة وحرارة اللامس والملموس. ومعارك الحرب كلها تدور في هذا النطاق، فحين يكون العدو بعيداً يحتاج خصمه إلى أن يبتعد عنه كيلا يصيبه بالنبال أو السهام، ويحاول هو أن يصيب خصمه بالنبال أو السهام. وكما تفعل الجيوش الحديثة حين ترسل طائراتها لترمي القنابل على قوات الخصم. وتقاس قوة الدول بقدرتها على ضرب القوات المعادية دون قدرة تلك القوات على الرد، لأنها تصيبه من بعد في عصر الصواريخ بعيدة المدى. ونجد الإشارة في قول الحق تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ...} [الأنفال: 60].
وأوضح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى القوة فيما رواهُ عنه عقبة ابن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: (إلا أن القوة الرمي). لأن الرمي يُمَكّن قذيفتك من عدوك، وأنت بعيد عنه فلا يقدر أن يصيبك بما يرميه.

 

وقديماً كانت الجيوش تزحف، فيُلقى الخصوم عليها النبال والسهام، وإذا ما اقتربت الجيوش أكثر من خصومها فكل فريق يوجه الرماح إلى ما يقرب من أجساد الفريق الآخر. وإذا حمى وطيس المعركة تتلاقى السيوف. إذن كلها من النخس، والمس، واللمس.
وحينما خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم ربه قائلاً: (يا رب كيف بالغضب؟) أي كيف يكون علاج الغضب؟ نزل قول الحق: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].
وقد يستفهم قائل فيقول: أينزغ الشيطان الرسول؟. وأقول: إنّ الحق تبارك وتعالى لم يقل: (وإذ نزغك الشيطان)، ولكنه قال: (وإما ينزغنك) أي إن حدث ذلك، وهو قول يفيد الشك- ثم لماذا يحرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من لذة مجابهة الشيطان؟. ونعم عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير».
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله...}.
والاستعاذة تعني طلب العون والملجأ والحفظ وأنت لا تطلب العون ولا تلجأ ولا تستجير إلا بمن هو أقوى ممن يريد أن ينالك بشر.

 

ومعلوم أن الشيطان له من خفة الحركة، وقدرة التغلغل، ووسائل التسلل الكثير؛ لذلك فينبغي ألا تستعيذ بمثله أو بمن هو دونه، ولكنك تستعيذ بخالق الإنس والجن وجميع المخلوقات، وهو القادر على أن يعطل فاعلية الشيطان. وسبحانه سميع عليم، والسمع له متعلق، والعلم له متعلق، فحين تستحضر معنى الاستعاذة وأنت مشحون بالإيمان وتلجأ إلى من خلقك. وخلق ذلك الشيطان؛ عندئذ لابد أن يهرب الشيطان من طريقك لأنه يعلم أنك تلجأ إلى الخالق القوي القادر وهو ليست له قوة على خالقه، وسبحانه سميع لقولك: (أعوذ بالله)، عليم بما في نفسك من معنى هذه الكلمة.
وإذا كان الحق تبارك وتعالى هنا قد تكلم عن حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ}
أي أن الشيطان بعيد، وهو يحاول مجرد النزغ، فماذا عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاء هذا؟. هنا يقول الحق تبارك وتعالى:- {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف...}.

 


{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)}
ومن رحمة الله تعالى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مسّهم» ولم يقل: (لمسَهم). لأنهم من الذين اتقوا، أي وضعوا بينهم بين صفات جلال الله وقاية تجعلهم يقفون عند حدوده ولذلك يقول: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ}.
والطائف هو الخيال الذي يطوف بالإنسان ليلاً، وبما أن الشيطان لا يرى، لذلك نصوره على أنه خيال، فإذا ما طاف الشيطان بالمس للذين اتقوا وتذكروا خالق الشيطان وخالقهم، وتذكروا منهج الله الذي يصادم شهواتهم، وتذكروا أن عين الله تراهم ولا تغفل عنهم، وأن محارم الله واضحة وبينة، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في الحديث الذي يرويه عنه النعمان بن بشير: (الحلال بيّن والحرامُ بيّن وبينهما مشَبهات لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
وإذا ما تذكر المؤمنون العقوبة المترتبة على أي فعل شائن يزينه الشيطان لهم، هنا تزول عنهم أي غشاوة ويبصرون الطريق القويم.

 

 

{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)}
ونحن حين نتتبّع كلمة (يمدونهم) في القرآن، نجدها مرة (يمدونهم) ومرة يمددكم كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ...} [نوح: 12].
ونعلم أن الشياطين لن تترك المؤمنين في حالهم، بل تظل في محاولة الغواية، وتحاول الشياطين غواية المؤمنين الطائعين أكثر من محاولتهم غواية العاصين؛ لأن العاصي إنما يعاون الشيطان باتباعه شهوات نفسه، ولا يقصر العاصي أو الشيطان في ذلك، بل يحاول العاصي أو الشيطان غواية المؤمنين و(أقصر) من مادة (قصر)، أي أنه قادر أن يطول المسافة لكنه يقصرها. وهكذا إلحاح الشياطين لغواية المؤمنين.
فالشيطان- كما جاء في القرآن- يعترف بموقفه من ملاحقة المؤمنين بالوسوسة وتزيين المعاصي. {... لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16].
والشيطان يعلم أن من لا يتقي الله لا يحتاج إلى تزيين أو غواية؛ لأنه يرغب ويميل للمعاصي والعياذ بالله؛ لذلك لا يبذل الشيطان لغوايته جهدا كبيراً.

 


{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}
وقد جاء الحق تبارك وتعالى من قبل بكلمة (آيات)، والآيات- كما أوضحنا- إما آيات كونية وإما آيات المعجزات الدالة على صدق الرسل، وإما آيات الأحكام.
والله سبحانه وتعالى جاء هنا بكلمة: (آية) لا (آيات)، والكون أمامهم ملئ بآياته، والمنهج المنزل على الرسول عليه الصلاة والسلام واضح، ولا ينقص إلا أن تأتي الآية المعجزة- من وجهة نظرهم- وينبه الحق هؤلاء بقوله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 89- 93].

إذن فالآياتُ المعجزاتُ التي طلبوها، لا يأتي بها الرسول من عنده، والآيات التي ينزل بها المنهج أيضاً ليست من عنده، بل هي تنزيل من لدن عزيز حكيم. وكانوا يتهمونه صلى الله عليه وسلم أنه يفتري القرآن. لذلك طلبوا منه صلى الله عليه وسلم المعجزة الحسية متناسين ما جاءت به آيات القرآن الكريم من معجزة لم يستطيعوا هم أن يأتوا بآية واحدة من مثل آياتها؛ وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: {قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي}
يأمره هنا ربه أن يقول: {قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي}
أي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مكلف أن يبلغهم بما يأتي به الوحي يحمله الروح الأمين جبريل عليه السلام من آيات القرآن الحاملة للمنهج الإلهي، وهذا المنهج في حد ذاته معجزة متجددة العطاء، لذلك يضيف: {... هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].

ففي القرآن الكريم بصائرُ وهدىً رحمةُ، والبصائر جمع بصيرة، من الإبصار، إذا امتلأ القلب بنور اليقين الإيماني فإن صاحبه يعيش في شفافية وإشراق، ويسمى صاحب هذه الرؤية المعنوية صاحب بصيرة، أما البصر فهو مهمة العين في الأمور الحسية، لكنْ هناك أمور معنوية لا تكشفها إلا البصيرة، والبصيرة تضيء القلب بالنور حتى يستكشف تلك الأمور المعنوية، ولا يمتلك القلب البصيرة إلا حين يكونُ مشحوناً باليقين الإيماني.
 

والقرآن الكريم بصائر؛ لأنه يعطي ويمنح من يؤمن به ويتأمله بصائر ليجدد الأمور المعنوية وقد صارت مُبصَرَةً، وكأنه قادر على رؤيتها ومشاهدتها وكأنها عينُ اليقين.
وهذا القرآن المجيد بصائرُ وهدى، أي يدل الإنسان ويهديه إلى المنهج الحق وإلى طريق الله المستقيم، وهو رحمةٌ أيضاً لمن لا يملك إشراقات القلب التي تهدي للإيمان ولا يملك قوة أخذ الدليل الذي يوصله إلى الهداية، إذن فهو رحمة لكل الناس، وهدى لمن يسأل عن الدليل، وبصائر لمن تيقين أصول الإيمان مشهدياً.
وكما قلنا من قبل: إنَّ الله قد أخبر المؤمنين بأمور غيبية، ومن هذه الأمور الغيبية أن له جنةً وأن له ناراً، وصدق المؤمنون بكل ما جاءهم من البلاغ عن ربهم، وعلموا أن ذلك من الله، وصار هذا العلم علم يقين كقدر مشترك فيما بينهم، فإذا جاءَ يوم القيامة ورأوا الصراط مضروباً عن متن جهنم مطابقاً لما صدقوه وصار عين يقين، وإذا ما دخل بعضهم النار- والعياذ بالله- تكفيراً لذنوب ارتكبوها، فهذا حق يقين. وضربت المثل من قبل- ولله المثل الأعلى- كان الجغرافيون يحدثوننا ونحن طلاب عن خريطة الولايات المتحدة، ويقولون: إن عاصمتها (واشنطن)، والميناء الكبير فيها اسمه (نيويورك)، وفي (نيويورك) توجد ناطحات السحاب وهي مبان ضخمة يزيد ارتفاع المبنى الواحد من هذه المباني على مائة طابق أي أكثر من مائتي متر، وصدقنا نحن أستاذ الجغرافيا، وعندما أتيحت للبعض منا فرصة السفر ورأوا واشنطن ونيويورك من الطائرة، صارت الرؤية عين يقين بعد أن كانت علم يقين. وعند هبوط الطائرة في مطار واشنطن صارت الرؤية حق يقين.

 

وقد عرض الحق سبحانه وتعالى لنا الإيمان ببعض من الغيب في قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 1- 7].
أورد سبحانه هناك (علم اليقين) (وعين اليقين)، وأما (حق اليقين) فقد جاء في قوله: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 88- 95].
والمؤمنون المصدقون بأخبار الغيب على درجات مختلفة.. فهناك من صدق الله في الخبر عن الغيب كعين يقين، وهناك من صدق قول الله حق اليقين، ولذلك فإننا نجد الإمام عليا- كرم الله وجهه- يقول: (لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا).
وفي الحوار الآتي الذي دار بين حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي الجليل الحارث بن مالك ما يكشف لنا جوهر هذا اللون من الإيمان:
فقد روى الحارث بن مالك الأنصاري: (أنه مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمناً حقّا، قال: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظلمت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضارغون فيها. فقال يا حارث عرفت فالزم ثلاثاً).
هذا الصحابي الجليل وصل إلى أن كل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قد صار حق يقين، وامتلك البصيرة التي رأى بها كلَّ ذلك.
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].
وهكذا نجد القرآن الكريم بصائر لأصحاب المنزلة والدرجات العالية، وهدى لأصحاب الاستدلال ورحمةً للجميع.

 

ندار الايمان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}
وما دام قد أوضح لك المولى سبحانه وتعالى من قبل أن هذا القرآن بصائر من ربنا وهدى ورحمة، ألا يستحق أن تحتفي به أيها المؤمن؟.. ألا تجذبك هذه الحيثيات الثلاث لأن تعطي له أذنك وألا تنصرف عنه؟.

 

إذن لابد أن تنصت للقرآن الكريم لتتلقى الفوائد الثلاث؛

البصائر، والهدى، والرحمة،

وهو حقيق وجدير أن يُحْرَص على سماعه إن قُرئ.
 

ولنلحظ أن الله تعالى قال: {فاستمعوا لَهُ} ولم يقل (اسمعوا)، لأن الاستماع فيه تعمد أن تسمع، أما السمع فأنت تسمع كل ما يقال حولك، وقد تنتبه إلى ما تسمع وقد لا تنتبه، ومن الرحمة المحمدية يقول حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ناهياً عن التسمع لأسرار الغير تجسساً عليهم بالبحث عن عوراتهم فيما يرويه عنه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تجسَّسُوا ولا تحسّسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا».
وفي هذا تحذير من هذه الأمور الخمسة التي منها التلصص والتصنت إلى أسرار الناس.

 

{وَإِذَا قُرِئَ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].
والإنسان قد يصمت ويستمع ولكن بغير نية التعبد فيحرم من ثواب الاستماع، فاستمع وأنصت بنية العبادة، لأن الله هو الذي يتكلم، وليس من المعقول والتأدب مع الله أن يتكلم ربك ثم تنصرف أنت عن كلامه،

 

وقد لفت أنظارنا سيدنا جعفر الصادق: ونبهنا إلى ما فيه الخير حيث يقول:

عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}، فإني سمعت الله عقبها يقول: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء}.
وعجبت لمن اغتم، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} فإني سمعت الله عقبها يقول: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين}.
وعجبت لمن مُكر به، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد}. فإني سمعت الله عقبها يقول:- {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ}.
وعجبت لمن طلب الدنيا ولم يَفْزَع إلى قوله تبارك وتعالى: {مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله}. فإني سمعت الله عقبها يقول:- {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ}.

ونحن حين نستمع لقراءة القرآن الكريم بنية التعبد فذلك هو حُسْن الأدب الذي يجب أن نستقبل به العبر التي تعود بالفائدة علينا.
 

ووقف العلماء حول الإنصات سماعاً للقرآن؛ أيكون الإنصات إذا قرئ القرآن مطلقاً في أي حال من الأحوال، أو حين يُقرأ في الصلاة، أو حين يُقرأ في خطبة الجمعة؟
وقد اختلفوا في ذلك، فبعضهم قال: إن المقصود هو الإنصات للقرآن حين يُقرأ في الصلاة، والسبب في ذلك أن الأوائل من المسلمين كانوا حينما يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، يعيدون بعده كل جملة قرآها فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم؛ قالوا: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا قال: {الحمد لله رب العالمين} ، قالوا: {الحمد لله رب العالمين} فينبههم الله عز وجل إلى أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وهم يستمعون إليه دون ترديد للقراءة.
وقال آخرون من العلماء: الإنصات للقرآن الكريم يكون في الصلاة، وفي خطبة الجمعة أو العيدين، لأنها تشتمل على آيات من القرآن، ولكن اشتمالها على الآيات أقل مما يقوله الخطيب، ونبه البعض إلى أن الإنصات للخطبة ثبت بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت).
إذن الإنصات للخطبة جاء بدليل من السنة.
وهناك قول بأن الاستماع مطلوب للقرآن في أي وضع من الأوضاع حين يُقرأ؛ ففي هذا احترامٌ ومهابةٌ لكلام الله عز وجل، وينسب هذا القول إلى إمامنا وسيدنا ومولانا سيدي (أبي عبدالله الحسين)، فيقول: إذا قُرئ القرآن سواءٌ إن كنت في صلاة أو كنت في خطبة، أو كنت حرّاً فأنصت؛ لأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يميز القرآن على مطلق الكلام، فميزه بأشياءَ، إذا قُرئ ننصت له، وإذا مسّ المصحف لابد أن يكون على (وضوء) حتى لا يجترئ الناس ويمسّوا المصحف كأي كتاب من الكتب، وهذا يربي المهابة فلا تمسك المصحف إلا وأنت متوضئ، فإذا علمنا أولادنا، نقول للواحد منهم: لا تقرب المصحف إلا وأنت متوضئ؛ فتنشأ المهابة في نفس الولد.
وأيضاً في (الكتابة) شاء الحق تبارك وتعالى لبعض ألفاظه كتابة خاصة غير كتابة التقعيد الإملائي؛ حتى يكون للقرآن قداسة خاصة، فهو كتاب فريد وليس ككل كتاب وكلامه ليس ككل كلام. {وَإِذَا قُرِئَ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].

 

وبعض العلماء قال: ليس المطلوب مجرد الاستماع بالآذان، بل المقصود بالاستماع هنا هو أن نستجيب لمطالبه، ألا تقولون لبعضكم حين يدعو بعضكم لبعض: (الله يسمع دعاك)؟ إنك تقولها وأنت تعلم أن الله سامعك، ولكنك تقصد بها أن يستجيب سبحانه وتعالى لهذا الدعاء، إذن فالاستماع للقرآن يقتضي الاستجابة لمطلوبات القرآن. لماذا؟ لننال الرحمة من الحق فهو الرحمن الرحيم. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
ونعلم أن (لعل) (وعسى) حين تقال يقصد بها الرجاء، و(ليت) تعني التمني وهو مستحيل ولا يُتَوَقّع، ونحن نتمنى لنظهر أن هذا أمر محبوب لنا، لكننا نعلم أنه مستحيل، مثلما قال الشاعر العجوز:
ألا ليت الشباب يعود يوما ** فأخبره بما فعل المشيب

إنه يعلم يقيناً أن الشباب لن يعود ولكن قوله يدل على أن الشباب فترة محبوبة. ومثل قول الشاعر:
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ** عقود مدح فما أرضى لكم كَلِم

ولن تدنو الكواكب.
 

إذن ساعة تسمع (عسى) أو (لعل) يتبادر إلى ذهنك أن هذا رجاء لأن يحدث، وإذا كان رجاء من الله، فهو رجاء من كريم لابد له من واقع.
ويقول الحق بعد ذلك: والذكر مرور الشيء، إن كان بالبال، فهو ذكر في النفس، وإن كان باللسان ولا يُسْمِع الغير ويُسْمِعك أنت فهذا ذكر السر، وإن كان جهرا فهو قسمان؛ جهر مقبول، وجهر غير مقبول، والجهر غير المقبول هو أن يتحول الذِّكرُ إلى إزعاج والعياذ بالله، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {... وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [الإسراء: 110].
ولعل إخواننا القراء يتنبهون إلى هذه الآية؛ تنبهاً يجعلهم يلتفتون إلى أداء أمر الله في هذا المجال فلا يجهرون ولا يرفعون أصواتهم به لدرجة الإزعاج، لأني أقول لكل واحد منهم: إن ربك لم يطلب منك حتى الجهر، إنما طلب دون الجهر، وأقول ذلك خاصة لهؤلاء الذين يفسدون نعمة الله على خلقه؛ فيصيحون ليلا ويمنعونهم من رحمة الله ليلا التي قال عنها: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73].
فلا تفسدوا على الناس رحمة ربنا؛ لأن الدعوة إلى الله ليست صياحاً على المنابر، إلا إذا كنتم تصنعون لأنفسكم دعاية إعلامية على مساجد الله وعلى منابر الله. وهذا أمر مرفوض وغير مقبول شرعاً. {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً}

 

والحق تبارك وتعالى يقول مرة: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب: 41].
ومرة يقول: {واذكر رَّبَّكَ}

وقوله: (اذكر الله) يستشعر سماعها التكاليف؛ لأن الله هو المعبود، والمعبود هو المطاع في الأوامر والنواهي.
أما قوله:
(اذكر ربك) فهو تذكير لك بما حباك به من أفضال؛ خلقك ورباك وأعطاك من فيض نعمه ما لا يعد ولا يحصى. فاذكر ربك؛ لأنك إن لم تعشقه تكليفاً، فأنت قد عشقته لأنه ممدك بالنعم، وسبحانه يتفضل علينا ويوالينا جميعاً بالنعم.
 

وأضرب لك هذا المثل- ولله المثل الأعلى وهو منزه عن التشبيه- وأنت لك أولاد، وتعطي لهم مصروفاً، وحين تعطي لهم المصروف كل شهر، تجدهم لا يحرصون على أن يروك إلا كل شهر، لكن إن كنت تعطي مصروفهم يوميا فأنت تلتفت لتجدهم حولك، فإن كنت نائماً يدخل ابنك لغرفة نومك يسير بجانبك ويتنحنح ليقول إنه يحتاج لشيء موجود بالغرفة، فما بالك وأنت بكل وجودك عبد لإحسان ربك؟ وما دمت عبد الإحسان فاذكر من يحسن إليك، اذكر ربك دائماً.
 

واذكره على حالين: الأول تضرعاً. أي بذلة، لأنك قد تذكر واحداً بكبرياء، إنما الله الخالق المحسن يجب عليك أن تذكره بذلة عبودية لمقام الربوبية، واذكر ربك (خيفة) أي خائفاً متضرعاً؛ لأنك كلما ذللت له يعزك، ولذلك نجد العبودية مكروهة في البشر وهي استعباد، والناس ينفرون ممن يستعبدهم؛ لأن عبودية الإنسان لمساويه طغيان كبير وظلم عظيم فهي تعطي خير العبد للسيد، ولكن عبوديتك لله تعطي خير الله لك. ولذلك نجد الحق يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1].
وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة كبرى بحادث الإسراء، وكان الحديث عنها بامتنان من الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والشاعر المؤمن يقول:
حسب نفسي عزَاً بأني عبد ** يحتفي بي بلا مواعيد رب

هو في قدسه الأعز ولكن ** أنا ألقي متى وأين أحب

 

وأنت أيها العبد المؤمن تلقى الله متى أردت، وإذا أسلمت زمامك للإيمان؛ فالزمام في يدك. يكفي أن تنوي الصلاة وتقول: الله أكبر فتكون في حضرته سبحانه سواء كنت في البيت أو في الشارع أو في أي مكان. وفي منتهى العزة لك. {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول...} [الأعراف: 205].
ولم يقل هنا رب العالمين: بل ربك أنت يا محمد، وهذه قمة العطاءات التي جاءت للناس، فهذا العطاء الذي جاء بمحمد رسولاً، نعمةٌ ومنةٌ من الله على المؤمنين برسالته، وبعد ذلك ينسب لكل مسلم العطاء الذي جاء لمحمد. وقوله تعالى لرسوله: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أي أنه سبحانه لم يجعل دليل عنايته بك مقصوراً على ما يشاهد في الخارج والبعيد عنك فقط؛ لأنك قد لا ترى شيئاً في الكون أو لا تسمع شيئاً في الكون؛ لأن الكون منفصل عنك، إنما انظر إلى نفسك أنت وستجد الآيات كلها تذكرك بخالقك، {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].
فقبل أن يجعل ربنا الدليل في الكون الذي حولك، جعل لك الدليل أيضا في نفسك؛ لأن نفسك لا تفارقك وأنت أعلم بملكاتها وبجوارحها، وبنوازعها، ولهذا كان التضرع إلى الله والخيفة منه لهما مجال هنا؛ لأنك تستطيع أن ترى سر صنعته فيك، وستجد الكثير من الآيات، وهي آيات أكبر منك، لذلك أنت تتضاءل أمام من وهب لك كل هذا، وتخاف ألا تؤدي حقه لديك.

 

ونعود إلى قول الله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول بالغدو والآصال} والذكر حَدَثٌ، والحدَثُ يحتاج إلى زمان وإلى مكان. والغدو والآصال زمنان يستوعبان النهار؛ فالغدو هو أول النهار، والآصال هو من العصر للمغرب، مثلما نقول (شمس الأصيل).
وهذه الآية الكونية تتكرر في القرآن الكريم كثيرا، فالحق تبارك وتعالى يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 41- 42].
وكما يقول عز وجل: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 8- 9].
و(الأصيل) هنا مشترك، ومقابل الأصيل يطلق الحق عليه مرة بكرة، وأخرى يطلق عليه: الغدو، وسبحانه القائل: {الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 35- 36].

 

إنك ساعة أن تقرأ (في بيوت) تعرف أن هنا حدثاً؛ لأن قوله: (في بيوت) شبه جملة في معنى الظرف، وإذا استقرأت ما قبلها، لم تجد لها مُتَعَلَّقاً. والحظ إذن أن ما قبلها هو {نُّورٌ على نُورٍ} {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} فأنت حين تذهب إلى المسجد لتلقى الله، فذلك نور، وتصلى له فذلك نور، وتخرج من هذا النور بنور يهبط عليك في بيته، وكل هذا نور على نور، فمن أراد أن يتعرض لنفحات نور الله عز وجل؛ فليكثر من الذهاب إلى بيوت الله، وللمساجد مهابة النور لأنها مكان الصلاة، ونعلم أن الصلاة هي الخلوة التي بين العبد وربه، وكان رسول الله إذا حز به أمر قام إلى الصلاة. وأنت إذا ما اتبعت حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وتصلي ركعتين لله فلن حز بك أمر وعزت عليك مسألة وكانت فوق أسبابك ثم ذهبت بها إلى الله فلن يخرجك الله إلا راضياً. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال}.
والغدو والآصال أو البكرة والأصيل كما عرفنا هي أزمنة أول النهار وأزمنة أول الليل.

ولماذا أزمنة أول النهار وأزمنة أول الليل؟
 

لأن هذه الأزمنة هي التي يطلب فيها الذكر. فقبل أن تخرج للعمل في أول النهار أنت تحتاج لشحنة من العزيمة تقابل بها العمل من أجل مطالب الحياة، وفي نهاية النهار أنت تحتاج أن تركن إلى ربك ليزيح عنك متاعب هذا اليوم، لذلك إياك أن تشغلك الحياة عن واهب الحياة، ولك أن تذكر ربنا وأنت تعيش مع كل عمل تؤديه وتقوم به وأن تقابل كل نتيجة للعمل بكلمة:(الحمد لله) وعندما ترى أي جميل من الوهاب سبحانه وتعالى يجب عليك أن تقول:(ما شاء الله). وعندما ترى أي شيء يعجبك تقول:(سبحان الله).
ولذلك حينما دعا الله خلقه المؤمنين به إلى الصلاة قال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
وهذا التكليف في صلاة الجمعة المفروضة كصلاة للجماعة، والجماعة مطلوبة فيها، ومن الضروري أن نتواجد فيها كجمع؛ لأن الجماعة مشروطة فيها فلا تصح بدون الجماعة.

 

ونعرف أن الصلاة إنما هي ذكر لربنا، فماذا بعدها؟ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
أي إياك أن يشغلك انتشارك في الأرض وابتغاؤك من فضل الله، والأخذ بأسباب الدنيا عن واجبك نحو الله، بل عليك أن تذكره سبحانه وتعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً...}.

image.png.be9b40d52b3d21db2f92e325c8fd135b.png

 
  •  
  •  

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)}
 

أي لا تكن من الغافلين عن مطلوبات الله بالحدود التي بينها الله عز وجل؛ لأن الغفلة معناها انشغال البال بغير خالقك، وأنت إن جعلت خالقك في بالك دائما فإنك لا تغفل عن مطلوباته في الغدو والآصال وفي كل وقت، سواء كنت في الصلوات الخمس، أو كنت تضرب الأرض في أي معنى من المعاني، وتأس أيها المؤمن بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان الملائكة والذين لم يرتكبوا أية معصية وليس لهم موجبات المعصية، ولا يأكلون ولا يتناسلون، وليس لهم شهوة بطن ولا شهوة فرج، وكل المعاصي جميعها تأتي من هذه الناحية، مع ذلك يجب عليك أن تتأسى بهم؛ لأنهم هم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لا يستكبرون عن عبادته، ويسبحونه؛ وله يسجدون،

image.thumb.png.55a774cd4e144242fc0f2ca9eb44d20b.png


{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}
 

وإذا كنا عند ربنا وفي حضرة ما منحه لما من خَلْق وما أمدنا به من إيجاد من عُدم سواء، فلماذا خص هؤلاء بالعندية؟.
إياك أن تفهم من العندية أنها عندية المكان؛ لأن المكان مُحَيَّز، وربنا عز وجل لا يتحيز في مكان، والعندية هنا عندية الفضل، وعندية الرحمة، وعندية الملك، وعندية العناية. أو إن كل خلق لله جعل لهم أسباباً ومسبَّبات، ولكن خلقاً من خلقه يسبحونه بذاته، وليس لهم عمل آخر، ويعرفون بالملائكة العالين، لا الملائكة المدبرات أمراً أو الحفظة. ولذلك قلنا سابقاً: إن الحق سبحانه وتعالى حينما أمر الملائكة بالسجود لآدم، وامتنع إبليس، قال له: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75].

 

و{العالين} هم الذين لم يشملهم أمر السجود، فهم ملائكة موجودون ولا عمل لهم إلا تسبيح الذات العلية ولا يدرون عن الخلق أو الدنيا شيئاً. وهم غير الملائكة المسخرين لخدمتنا؛ فالذين عند ربنا هم الملائكة المُهيَّمون الذين لا يعرفون شيئاً إلا الذات الإلهية وتسبيح الذات وعملهم يحدده الله هنا: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}
واختلف العلماء في كيفية سجود الملائكة، أهو الخضوع؟ أهو الصلاة؟ أهو السجود الذي نعرفه نحن؟ والسجود عندنا هو منتهى ما يمكن من الخضوع لله عز وجل وقت الصلاة. لأنه نزول بأشرف شيء في الإنسان وهو الوجه الذي يضعه المؤمن على الأرض خضوعاً لله عز وجل. ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا إذا مررنا على آية سجدة من آيات كتاب الله فيها مثل ذلك فعلينا أن نستجيب لها استجابة حقيقية ونسجد لها سجدة تسمى التلاوة، ويكون ذلك عند تلاوتها أو سماعها من القارئ، وحصرها العلماء فيما تجدونه في المصحف عند كل سجدة وجعلوا عندها علامة ووضعوا تحت الكلمة التي نسجد عندها خطاً. وحين قام العلماء ببيان المواضع التي تطلب فيها هذه السجدات وجدوها قد ابتدأت بسجدة آخر سورة (الأعراف) التي نتناولها بخواطرنا الآن، وانتهت بسجدة (العلق): {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} [العلق: 1].
وبينهما سجدات، وبعض العلماء عدّ في سورة الحج سجدتين وبعضهم أهمل السجدة الثانية في هذه السورة. فمن حسبها خمس عشرة سجدة، عدّ سجدة الحج الثانية المختلف عليها مع سجدة الحج الأولى- المتفق عليها- وبعض العلماء قال: إنها أربع عشرة سجدة؛ لأنه لم يحسب سجدة الحج الثانية.

 

وهب أنك أردت أن تسجد لله شكراً في أي وقت، وعند أي آية فاسجد لله سجدة الشكر، وهي سجدة واحدة كسجدة التلاوة وتستحب عند تجدد نعمة أو انقشاع غمّه، أو زوال نقمة ولا تكون إلا خارج الصلاة.
والسجود بطبيعة الحال تبدأه بالتكبير، ورفع اليدين كأنك تبدأ الصلاة، والمفترض أن تقول: (سبحان ربي الأعلى)، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا ما نقوله في السجود للتلاوة، وروي عن ابن عباس قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فقال: إنِّي رأيتُ البارحَة- فيما يرى النائم كأنِّي أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدةَ فسجدت الشجرةُ لسجودي فسمعتها تقول: اللهم احطُطْ عني بها وِزْراً، واكتُب لي بهاَ أَجْراً، واجْعْلها لي عندكَ ذُخْراَ. قال ابنُ عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجلُ عن قولِ الشجرة».

 

وبذلك تختم سورة الأعراف، والتسمية للسورة في ذاتها متناسبة؛ لأن (الأعراف) هو المكان العالي البارز الذي يجلس عليه القوم ممن تساوت حسناتهم وسيئاتهم لينظروا إلى أهل الجنة وينظروا إلى أهل النار، وهكذا تكون الأعراف مكاناً يزيد في الارتفاع، وهي مأخوذة من (عرف الفرس)، وعرف الفرس أعلى شيء فيه، والأنفال أيضاً هي الزيادة؛ ولذلك فإن التسمية متناسبة سواء بالنسبة لسورة الأعراف أو الأنفال، وأيضاً يوجد التناسب في المعنويات، وهذا التناسب نلحظه عندما نقرأ قول الحق تبارك وتعالى في أواخر سورة الأعراف: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
 

ثم يأتي قوله سبحانه وتعالى في أول سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ...} [الأنفال: 1].
لأن من مهام الشيطان أن يفرق بين المؤمنين بوسوسته لهم، فإذا ما تذكروا الله وما أعده لأهل الإيمان؛ فهم يبصرون الحقيقة الأولى التي ترتفع على كل شيء وهي الإيمان بالله، وهذا الإيمان إنما يتطلب تصفية القلوب من كل ما يكدرها حتى تكون خالصة نقية.

 

نداء الايمان

 

image.png.3c48bb0f44ca7f18c74c22e7e285e02b.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×