اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

آيات الذرية ومضامينها التربوية

المشاركات التي تم ترشيحها

 
الاستعفاف عن المسألة (خطبة) - قبس من نور النبوة - أخوات طريق الإسلام
 
 

آيات الذرية في سورة البقرة ومضامينها التربوية

 

الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124].

 

إن المتأمل في هذه الآية الكريمة، وهي أول آية جاءت فيها لفظة الذرية في القرآن الكريم، يلحظ أنها ركزت على قضيتين أساسيتين في حياة الإنسان، وهي: القيام بالواجبات الشرعية، واعتماد الأولاد على أنفسهم، وكأنها في رأيي مقدمـة لبقية الآيات المتناولة للفظة الذرية:

 

أولًا: القيام بالواجبات الشرعية على أكمل وجه:

إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتكاليف شرعية لا تقوم الحياة ولا تصلح إلا بها، وجعل لكل منهم إرادة الخير والشر، وكل ذلك يدور في فلك قضيَّة من أهم القضايا التي وُجد الإنسان من أجلها تلكم هي: قضية الابتلاء؛ قال الله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2].

 

وقضية الابتلاء هذه كان أشرف الخلق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عرضة لها، بل أشد الناس بلاءً؛ فعَنْ عَبْدِاللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ: "أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ: أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَـا فَوْقَهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"؛ (صحيح البخاري، حديث رقم: 5648، كتاب: المرضى، باب: أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل).

 

وفي الحديث الشريف سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي النـاس أشد بلاءً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ: َيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ"؛ (سنن الترمذي، حديث رقم 2398، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في الصبر على البلاء).

 

المهم في هذه القضية أن الإنسان يجب أن يستقر في ذهنه وقلبه وشعوره، ويربي أولاده ومَن حوله على أن كل شيء بقضاء الله تعالى وقدره، وأن يتفاعل مع الابتلاء تفاعلًا إيجابيًّا سواءً كان الابتلاء شرًّا، أم خيرًا بما ورد من نصوص الكتاب الكريم، والسنة المطهرة، فكلاهما خير له، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"؛ (صحيح مسلـم، حديث رقم 7500، كتاب: الزهد، باب: المؤمن أمره كله خير).

 

ثانيًا: اعتماد الأولاد على أنفسهم:

إن الرفعة والمنزلة التي حصلت للآباء والأجداد بما لاقوه في حياتهم من ابتلاء، وتفاعلوا معه تفاعلًا إيجابيًّا للغاية ربما لا تحصل هذه الرفعة والمنزلة للأولاد بالوراثة، فسنة الله تعالى الجارية أن يجتهد الأولاد لتأسيس مكانتهم الاجتماعية بطاعة الله تعالى، وطلب مرضاته، وبالصبر، وبالسهر، والتعب، والجد، والاجتهاد، والمثابرة، وبذلك تتحقق لهم بإذن الله تعالى المكانة المرموقة التي يتطلعون إليها، فمن جَدَّ وَجَدْ، ومن سار على الدرب وصل، أما من حاد وابتعد، وظلم نفسه بأي نوع من أنواع الظلم، فقد وضع لنفسه عقبات، وحواجز حسية، ومعنوية تقف حائلًا أمام تقدُّمه، وتفوُّقه، وحصوله على ما يتطلع إليه من آمال وطموحات.

 

ومن صور التربية الخاطئة اليوم لدى كثير من الآباء:

إهمال هذا التوجيه بمعنى أنهم لا يغرسون في أولادهم في سني حياتهم الأولى الاعتماد على النفس، وتكليفهم ببعض المهمات اليسيرة لأنفسهم خاصة، ولوالديهم عامة، من باب تدريبهم، وتعويدهم لِتَحَمُّلِ مسؤوليات أكبر في المستقبل، فتجد الوالدين فقط منهمكين في تلبية جميع احتياجات أولادهم؛ بحيث لا يشعرونهم البتة بمسؤوليتهم في هذه الحياة، فيشبون على ذلك، وهم لا يعرفون من أمور حياتهم العملية شيئًا، ولو صادف الولد أي عارض في حياته، فإنه لا يعرف كيف يتصرف! وأول ما يفكر فيه هو البحث عن والديه لحل المشكلة التي واجهتْه، وهذا للأسف واقع مشاهد ومحسوس!

 

لذلك أضع هذا التوجيه التربوي الإسلامي المهم أمام الوالدين للعمل على تطبيقه مع أولادهم، وربما لو نظروا بعين فاحصة لمن أخذ به وطبَّقه مع أولاده، لوجدوا حقيقته، وثمرته، وشاهدوا الفرق بين أولادهم، وبين أولاد غيرهم.

 

الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128].

 

أشارت هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة مضامين تربوية مهمة؛ هي: الدعاء المستمر للنفس وللأولاد، وطلب العلم الشرعي، والتبصر بأمور الدين، والتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وفيما يلي عرض لهذه المضامين:

 

أولًا: الدعاء المستمر للنفس وللأولاد:

إن الدعاء عبادة عظيمة يتجلى فيها الافتقار، والخضوع، والحاجة لله جلَّ وعلا، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "الدعاء هو: العبادة"؛ (سنن أبي داود، حديث رقم 1479، كتاب: الوتر، باب: الدعاء)، ثم إنه بحـول الله تعالى وقوته يصارع القدر، ويرد شره، ويستعجل خيره، وثبت في الحديث الشريف عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغني حذرٌ من قـدر، والدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل، فيتلقـاه الدعاء، فيعتلجـان إلى يوم القيامة "؛ (الحاكم في المستدرك، حديث رقم: 1813، كتاب: الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر).

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِخَطِيئَةٍ يَعْمَلُهَا"؛ (سنن ابن ماجه، حديث رقم: 90، كتاب: السنة، باب: في القدر).

 

وإن الله تعالى لا يرد مَن دعاه وتوجـه إليه، فهو الكريم الجوَاد اللطيف بعباده، وقد تأكَّد ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، فالأهم أن ندعو الله تعالى ونصدق معه، فالإجابة مضمونة؛ لأنه سبحانه وعد بهـا، ومن أصدق من الله تعالى وعدًا ووفاءً؟!

 

إن أفضل ما يدعو به الإنسان المسلم هو أن يكون من الموحدين لله تعالى قولًا وسلوكًا، وأن يتعدى هذا الدعاء إلى صلاح الذرية؛ لأن صلاحهم مطلب كل والدين ينشدان الخير، والاستقامة لأولادهم، وأولاد أولادهما إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.

 

ولقد سمعت أذناي أكثر من مرة آباءً يدعون لأولادهم بالهداية والصلاح بعد أن تلقَّفتهم الشهوات، وأصدقاء السوء، والعياذ بالله، فانحرفوا عن جادة الطريق، وبعد مناجاة وإلحاح، وقُربٍ من الله تعالى، رأيت هؤلاء الأولاد، وقد عادوا إلى الطريق المستقيم، فحافظوا على الصلوات، وبروا والديهم، ووصلوا أرحامهم، وأكملوا مشوارهم العلمي والعملي!

فاحرص أيها الأب، وأيتها الأم على هذا التوجيه المبارك، فله من الخير والبركة ما لا يخطر في بالكما.

 

ثانيًا: طلب العلم الشرعي والتبصر بأمور الدين:

من أوجب الواجبات على المسلم أن يتبصر بأمور دينه؛ لكي يستطيع أن يعبد الله تعالى وَفق ما شرع من غير زيادةٍ أو نقصان، فقد أكدت الشريعة الإسلامية طلبَ العلم في أكثر من توجيه؛ قـال صلى الله عليـه وسلم: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"؛ ( سنن ابن ماجه، حديث رقم: 224، كتاب: السنة، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم)، وقـال صلى الله عليه وسلم: "مَـنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"؛ (صحيح البخاري، حديث رقم:71، كتاب: العلم، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين).

 

ولا شك أن تَعَلُّمَ الوالدين العلوم الشرعية الأساسية ينعكس إيجابًا، وبشكل طبيعي على الأولاد، فيتعلمون من والديهم بالمحاكاة، والتقليد، والسؤال عما يعرض لهم في حياتهم من تساؤلات، واستفسارات تقتضيها مراحل عمرهم التي يمرون بها.

 

وفي الوقت ذاته يجب على الوالدين أن يحرِصا على اقتناء الكتب الشرعية الأساسية؛ مثل: تفسير القرآن الكريم، ومختصر صحيح البخاري ومسلم، وبعض كتب الفقه المختصرة، ومجموعة من كتب الفتاوى للعلماء المعتبرين، ومجموعة من كتب الأعلام والسير، والموسوعات العلمية، وما أشبه ذلك، ولعل أسطوانات "الكمبيوتر" الآن تقدم الكثير من العلوم الشرعية بسرعة فائقة، وبأسعار زهيدة، وربما مجانية.

 

وفي يقيني إذا نشأ الأولاد على هذا الجو العلمي العائلي، الأب من جهة، والأم من جهة ثانية، فلا شك ولا ريب سيؤثر ذلك إيجابًا على تبصير الأولاد بالكثير من العلوم الشرعية، وتكون في الوقت ذاته سياجًا وحصنًا منيعًا بحول الله وقوته من الانحراف، وارتكاب المحظورات الشرعية.

 

ثالثًا: التوبة والإنابة إلى الله تعالى:

لا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يخطئ عدا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد عصمهم الله من الخطأ والزلل، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقـال: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ " ( سنن الترمذي، حديث رقم: 2499، كتاب: صفة القيامة، باب: في استعظام المؤمن ذنوبه).

 

والمضامين الشرعية من القرآن الكريم، والسنة المطهرة في هذا الموضوع كثيرة جدًّا، وليس هذا مجال بسطها، ولكن هدفنا هنا التذكير بأهمية التوبة والاستغفار في حياة المسلم، فالله تعالى تواب رحيم يَقبل توبة عباده، ويفرح بها سبحانه وتعالى مهما بلغت درجة ذنوبهم وعصيانهم.

 

ولعل ذكر شيء من المضامين الشرعية الحاضة على التوبة، يذكرنا والقارئ الكريم بأهميتها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8]، وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ(صحيح مسلم، حديث رقم: 6960، كتاب: التوبـة، باب: في الحض على التوبة والفرح بها).

 

وإنني أؤكد هنا تأكيدًا جازمًا أن من كان بالله أعرف، فهو منه أخوف، فمن عرف الله حق المعرفة بأنه الخالق المدبر القادر، الغفور الرحيم، له الأسماء الحسنى والصفات العلى بيده ملكوت السماوات والأرض إذا أراد شيئًا قال له: كُنْ فَيَكُونَ: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، فلن يقدم إنسان كائن من كان على عصيانه، بل يكون شديد الحرص على كسب مرضاته وطاعته، وإن عَرَضَ له عارض مِن زلة ومعصية تذكر الله تعالى، فعاد إليه تائبًا نادمـًا؛ قـال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].

 

الآية الثالثة: قال الله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 266].

 

أشارت هذه الآية الكريمة إلى خمسة مضامين تربوية مهمة؛ هي: العمل بطاعة الله فيما أوتي الإنسان من مال، والتخطيط الجيد لاستثمار المال، وتعليم وتدريب الأولاد على المحافظة على الأموال، والحذر من إنفاق المال في غير ما شرع الله تعالى، والتفكر في آيات الله والاتعاظ بالغير، وفيما يلي عرض لهذه المضامين:-

 

أولًا: العمل بطاعة الله فيما أوتي الإنسان من مال:

المالُ نعمة عظيمة من الله تعالى، وهو زينة الحياة الدنيا بنص القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، وقـال تعـالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].

 

ولكنَّ الشارع الحكيم أمر رَبَّ المال بإقامة حق الله فيه بإنفاقه في الوجوه الشرعية من دفع الزكاة للمستحقين، وإطعام الطعام، ومواساة الفقراء، والمساكين، ورغب في أعمال البر من إنشاء المساجد، والدور الوقفية، وما أشبه ذلك، وَحَذَّرَ من الإسراف والتبذير اللذين هما صفة الشياطين؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء: 27]، وفي مقابلها صفة التوسط والاعتدال في الإنفاق، وهي صفة عباد الرحمن؛ كما أخبر عنهم الله تعالى بقولـه: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]؛ ويقـول ابن كثير رحمه الله: أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم، فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)؛ كَمَا قَالَ: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء: 29].

 

ثانيًا: التخطيط الجيد لاستثمار المال:

إن الإسلام لا يُحَرِّمُ حب المال، فهو فطرة بشرية، بل يدعو المسلم بالمحافظة على ماله بتنميته، والتخطيط لذلك، وَفق خطط، ودراسات علمية، وقد كان من خيار الصحابة الكرام من هم أصحاب مال، وثراء من أمثال: سيدنا عثمان بن عفان، وسيدنا عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وقدموا للإسلام تضحيات عظيمة كان لها الدور الفاعل في خدمة الدين، فنعم المال الصالح للمرء الصالح؛ كما جـاء في الحديث الشريف أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ، وَسِلَاحَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ، ثُمَّ طَأْطَأَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ، وَيُغْنِمَكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ مِنْ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ"؛ (مسند الإمام أحمد، حديث رقم: 17096، حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ).

 

ثالثًا: تعليم وتدريب الأولاد المحافظة على الأموال:

يجب على الوالدين تعليم أولادهم منذ نعومة أظفارهم المحافظة على ما اكتسبوه من مال، والتهيؤ لمواجهة متطلبات الحياة؛ لأن الحياة متجددة، ومتغيرة، ولا يتوقع الإنسان ما يحدث في المستقبل القريب فضلًا عن المستقبل البعيد.

 

ويحذر كل الحذر من الإسراف على نفسه وعلـى أولاده بتلبية كل رغباتهم، فالصغير لا يدرك الأمور، ولا يحسب للعواقب، فإذا تربى على سهولة وجود المال، ولم يُعَّلِمْه ويُرَبْيه الوالدان الكسب المشروع، والمحافظ على المال، وإنفاقه في جهاته المشروعة، فبدون شك سيشب على ذلك، ويضيـع نفسه وماله، فضلًا عن الأخطار الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على ذلك لمجتمعه وأمته.

 

رابعًا: الحذر من إنفاق المال في غير ما شرع الله تعالى:

ويجب على الإنسان المسلم أن يحذَر كل الحذَر من التبذير والعبث بماله، إما بإنفاقه في ما لا يرضى الله تعالى، بأي لون من ألوان العبث والمجون؛ من شرب خمر، أو لعب ميسر، أو ارتكاب فواحش؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 27].

 

ويقول ابن كثير رحمه الله: أي: في التبذير والسَّفـه، وترك طاعة الله، وارتكاب معصيته؛ ولهذا قال: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)؛ أي: جحودًا؛ لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل على معصيته، ومخالفته.

 

ويجب أن يحذر الإنسان المسلم إذا سلم من هذه المعاصي المحسوسة أن ينفق أمواله رياءً للناس، أو يُتْبِع ما أنفق منُّا أو أذى؛ لأن كل ذلك يمحق بركة المال، وقد يكون سببًا في انحراف أهله وذريته، وهذا ما لا يتمناه، أو يرومه عاقل حصيف.

 

خامسًا: التفكر في آيات الله والاتعاظ بالغير:

إن التفكر في آيات الله من العبادات المطلوبة من الإنسان المسلم، ويتفرد بها أصحاب العقـول السليمة والفطر المستقيمة التي عرَفت ربها، فعبَدته حق عبادته، ولذلك قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].

 

لذلك يجب على الإنسان المسلم أن يكون دائم التفكر في آيات الله تعالى؛ مثل: خلق السماوات والأرض، وما أودعه الله فيها من مخلوقات؛ كما أشارت إليه آية آل عمران المشار إليها آنفًا، ومثل: إفقار غني، أو إغناء فقير، أو زوال ملك، أو امتلاكه، أو زوال جاه، أو امتلاكه، وهو ما أشارت إليه الآية موضوع الدارسة (البقرة: 266)، وهذه الصور وغيرها، منها ما هو ثابت في القرآن الكريم، ومثاله: قصة قارون في سورة القصص؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76]، وما بعدها، وفي السنة النبوية الشريفة ومثاله: حديث الثلاثة من بني إسرائيل الأبرص والأعمى والأقرع في: (صحيح البخاري، رقم الحديث: 3464، كتاب: أحاديث الأنبياء)، ومنها ما نقلـه لنا المؤرخون عبر سنين خلـت، ومنها مـا نراه أمام أعيننا من حوادث الزمان، وتقلبات الأيام والليالي، وفيها من العبر والآيات الشيء الكثير، ولكن السعيد من اعتبر، وأخذ العبرة بهذه المشاهد، وأخذ العبرة لنفسه، ونقلها وعلَّمها لأولاده، ومن لهم حق عليه قبل فوات الأوان، ولات ساعة مندم.

 

ولعله من المناسب الإشارة إلى قصة شاهدتها رأي العين عن شخص كان متوسط الحال، ودخله بالكاد يكفيه مع أسرته، ثم أراد الله تعالى لهذا الرجل سعة في المال، فَرُزِقَ ملايين الريالات عن طريق إرث إحدى قريباته، وأخذ يبدد ماله يمينًا وشمالًا بالشراء تارة وبالسفر تارة أخرى، ولم يحسن تصرف المال ويعمل به وَفق طاعة الله وشرعه، فأخذ المال يتبدد منه شيئًا فشيئًا، وما هي إلا شهور أو سنوات قليلة، وعاد الرجل والعياذ بالله كما كان قبل الميراث!

 

إن من المطلوب بشكل ملح أن تنقل هذه الصور التي تمثل آيات الله تعالى في مخلوقاته إلى الناشئة والشباب في المدارس؛ ليعرفوا ويطلعوا على عظمة الله تعالى وقدرته في تصريف الأقدار بين الناس، وأن هذه الحياة ما هي إلا دار محدودة الأيام، والله تعالى يداولها بين الناس؛ ليكون الجميع على حذرٍ في التعامل مع هذه الدنيا، وألا تُعطى أكبرَ من حجمها، ولكن من الأهمية بمكان أن يخصص لكل مرحلة دراسية ما يناسبها من هذه الآيات والعبر حسب مستوى التلاميذ.

 
 

آيات الذرية في سورة آل عمران ومضامينها التربوية

لآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 33، 34].

 

 

 

إن هذه الآية العظيمة ركزت تركيزًا شديدًا على العناية التامة بتربية الأولاد وحسن رعايتهم؛ ليكونوا صالحين مصلحين على مرِّ الأزمان والدهور، وفيما يلي عرض لهذا التوجيه:

 

♦ العناية التامة بتربية الأولاد:

 

يقول الله تعالى: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58]، فالأسرة الصالحة المباركة التي تعتني بتنشئة أولادها عناية فائقة وَفْق منهج التربية الإسلامية الصحيحة، لا شك أن أولادها سيكونون على منهج الخير، والصلاح، والتقوى، وواقع الحال هو الدليل والبرهان، فالظل لا يستقيم إذا كان العود أعوج.

 

 

فلو نظرنا إلى ذرية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، والصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين رحمهم الله والسلف الصالح ومَنْ تبعهم بإحسان، لوجدنا صدق هذه القاعدة، إلا من شذَّ عنها، ولكل قاعدة شواذ؛ كقصة نوح عليه السلام مع ابنه، وسوف تأتي الإشارة إليها إن شاء الله.

 

ولذلك يكون من لازم القول، أن يتنبَّه المربُّون والوالدان تحديدًا لهذه القاعدة؛ لأن واقعنا المعاصر اليوم يموج بكثير من القضايا التي سببها عدم قيام الوالدين بتربية أولادهم التربية الإسلامية، فضيَّعوا هذه الأمانة الجسيمة، وفرطوا فيمن حمَّلهم الله تعالى مسؤوليتهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَـنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُ؛ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))[1]، ولا شك أن إثم التفريط في تربية الأولاد عظيم وكبير جدًّا عند الله تعالى، استنادًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُـوتُ))[2].

 

 

 

الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36].

 

 

 

أشارت هذه الآية الكريمة إلى أربعة توجيهات تربوية مهمة؛ هي: مناجاة الله تعالى والقُرْب منه، والشكوى إليه، وأهمية دور الأم في تربية الأولاد، والرضا بما قسم الله تعالى من الذرية، وتفويض الأمر إليه، وتحذير الأولاد من عداوة الشيطان لهم، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:

 

 

أولًا: مناجاة الله تعالى والقرب منه والشكوى إليه:

 

إن مناجاة الله تعالى والقرب منه، والشكوى واللجوء إليه، وكأنه قريب أشد القرب منا، ويسمع كلامنا، ويرى مكاننا؛ أمر في غاية الأهمية، وإذا تحقَّق هذا في حسِّ الإنسان المسلم، فجعل الله مراقبًا لأعماله، ورضي بما قسمه له، فإنه متى ما دعاه، فسوف يجد الله قريبًا منه مجيبًا دعوته؛ لأن رحمة الله تعالى قريب من المحسنين، المتبعين أوامره المجتنبين نواهيه، ويصدق هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقـَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَـنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))[3].

 

 

 

ولعلِّي أورد قصةً واقعيةً رواها لي صاحبُها ذات يوم، فقال: كنت تخرَّجْتُ من الجامعة، وكنت أرغب أنا وزملائي في الحصول على وظيفة كعادة المتخرِّجين من الجامعة، فتواعدنا مع مجموعة من الزملاء للذَّهاب إلى شخصية مرموقة في المجتمع، وكان له علاقة شخصية جيدة مع بعض الزملاء للتوسُّط لنا لدى الجهات المختصَّة للتعيين، فأخبرت والدي بذلك، وكان والده من الصالحين؛ حفظة كتاب الله تعالى، فقال له: يا ولدي، لو كان لك صديق حميم جدًّا، وبإمكانه وقدرته أن ينهي لك موضوعك، ثم عَلِمَ أنك ذهبت إلى شخص آخر لتطلب منه أن ينهي لك ذلك الموضوع، وربما يقدر على إنهائه وربما لا يقدر، فهل صديقك الحميم جدًّا يكون راضيًا لفعلك، أم يغضب عليك؟! فقال الابن: إنه من الطبيعي سيغضب عليَّ، فقال الوالد: ألا تعلم أن الله تعالى أحق بأن تطلب منه حاجتك؟

 

 

 

ثم قال لي صاحب القصة: ذهبت مع زملائي، وفي نيَّتي الاعتماد على الله تعالى في تعييني، ولكن تطييبًا ومسايرة لزملائي، وعدم الشذوذ عنهم ذهبت معهم، فمـا لبثت إلا زمنًا قصيرًا وأتاني تعييني، فأخذت من والدي درسًا عظيمًا، وفعلًا كان اعتمادي دائمًا على الله في كل أمرٍ أزمع في طلبه وبعونه وتوفيقه كان يأتي ذلك الأمر بكل يُسْرٍ وسهولةٍ، وقد لمست شخصيًّا صدق وتوجُّه صاحب القصة في بعض أموره التي رأيتها، مما جعلني أستفيد شخصيًّا من هذا الموقف التربوي العظيم.

 

ولذلك يجب أن نغرس في نفوس أولادنا، وناشئتنا الاعتمادَ على الله، والاستعانة به؛ لأننا نرى اليوم بُعْد الناس عن ذلك، فما تكون استعانتهم لله إلا بعد طلب الاستعانة من المخلوقين، ولنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيته لابن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما درس تربوي عظيم يؤكد أهمية الاعتماد والاستعانة بالله تعالى أولًا وأخيرًا؛ فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال: " كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: ((يَا غُلَامُ: إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ))[4].

 

 

 

 

ثانيًا: أهمية دور الأم في تربية الأولاد:

 

للأُمِّ دورٌ عظيم، ومهم جدًّا في تربية الأولاد، ربما يفوق دور الأب، وإن كان لكل منهما مجاله، واختصاصه، وأهميته؛ ولكن لطبيعة وضع الرجل وانشغاله الدائم خارج البيت بسبب كسب الرزق له، ولأولاده، فإن الأم تتحمل العبء والهم الأكبر في التربية، والتوجيه، والإصلاح، وهذا أمر يعرفه المتخصصون في التربية، ومن تأمل ونظر أحوال الناس قديمًا وحديثًا عرف تأثير الأم في أولادها تبيَّن له حقيقة ذلك بكل وضوح وجلاء.

 

 

 

ولعل قصة الإمامين محمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل الشيباني رحمهما الله تعالى وكفالة أم كل منهما لولدها بعد وفاة أبيه وهما طفلان صغيران، وقيامها بحسن تربيته ورعايته، وما بلغا من علم وفضل ومكانة يشار إليهما بالبنان في الماضي والحاضر والمستقبل ليؤكد الدور الكبير والمهم الذي يمكن للأُمِّ أن تؤديه في تربية أولادها.

 

 

ولذلك أكدت الشريعة الإسلامية على حُسْن اختيار الزوجة والتي ستضطلع بهذه الرسالة التربوية المهمـة؛ فقـال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ))[5].

 

 

 

فينبغي للزوج أن يُحْسِن اختيار أم أولاده، فهذا حق من حقوقهم، حتى لا يحدث من سوء الاختيار تعثُّر الحياة الزوجية والإساءة إلى تربية الأولاد وتوجيههما، فيكون ذلك سببًا في عقوق أولاده له ولها مستقبلًا، وفي الوقت ذاته، على المؤسسات التربوية والاجتماعية المختلفة أن تعتني بتأهيل الأمهات المقبلات على الزواج، ليعرفن ما لهن وما عليهن، فإن حُسْن إعدادهن وتأهيلهن له مـن الآثار الإيجابية على الأسرة، والمجتمع، والأمة الإسلامية الشيء الكثير، :

 
 

وكما أكدت الشريعة الإسلامية على حسن اختيار الأمِّ، فقد أكَّدت أيضًا على حُسْن اختيار الأب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ، فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ))، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ؟ قَالَ: ((إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ[6].

 

ثالثًا: الرضا بما قسم الله تعالى من الذرية وتفويض الأمر إليه:

يميل الإنسان ربما بفطرته إلى تفضيل الذرية الذكور على الإناث، إضافة إلى الموروثات، والعادات، والتقاليد التي تُمجِّد، وتتفاخر بإنجاب الذكور؛ ولكن ليس ذلك بيد الإنسان، فهو والحالة هذه مخلوق مُسَيَّرٌ، ليس له من الأمر شيء سوى أنه سبب جعله الله موصلًا إلى تكوين الجنين في بطن أمه، والخالق المدبِّر سبحانه وتعالى هو المقدر للذكورة والأنوثة؛ قال الله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 49، 50].

 

فسير هذه الآية: إن الله جعل الناس أربعة أقسام: منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم مـن يعطيه من النوعين، ذكورًا، وإناثًا، ومنهم من يمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيمًا لا نسل له، ولا ولد له؛ لأنه عليم بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام، وقدير على مـن يشاء من تفاوت الناس في ذلك.

 

 

وبعد هذا التوجيه الإلهي ما على الإنسان المسلم إلا الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره، فيما يُرزق من ذرية؛ بل يحمد الله، ويثني عليه، فما رُزق به هو الخير المستحق له دون أدنى شك؛ لأن عدم التسليم والاعتراض لا يجدي ولا يغيِّر من قضاء الله تعالى وقدره شيئًا؛ بل قد يكون وبالًا عليه، وقدحًا في عقيدته وإيمانه.

 

 

 

رابعًا: تحذير الأولاد من عداوة الشيطان لهم:

 

إن عداوة الشيطان للإنسان ليست وليدة اليوم، أو لها وقت محدد؛ بل هي قديمة منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام، فامتنع من السجود له عصيانًا وتمرُّدًا على الخالق جل وعلا، وتستمرُّ إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.

 

وقد حذَّرنا الشارع الحكيم في كثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية المطهرة منه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 11 - 17]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].

 

 وقال رسول الله صل الله عليه وسلم: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ))[7].

 

 

وقد حفظ الله تعالى عباده المخلصين من عداوة الشيطان، واستثناهم الله عز وجل في قوله: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 42]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 65].

 

 

 

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾؛ أي: تسلُّط وإغواء؛ بل الله يدفـع عنهم - بقيامهم بعبوديته - كلَّ شـرٍّ، ويحفظهم من الشيطان الرجيم، ويقـوم بكفايتهم، ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ لمن توكَّل عليه، وأدَّى ما أمر به؛ ولذلك يجب على الوالدين تنبيه الأولاد على عداوة إبليس المتأصِّلة لهم، فيكونوا على حذر من نزغاته ووسوسته بالاستعاذة منه، وبكثرة العبادة، والمحافظة على الصلوات، وقراءة القرآن الكريم، والأذكار الشرعية الصباحية والمسائية.

 

 

ولعل أهم التوجيهات الشرعية لكفِّ أذى الشيطان الرجيم الذي يجب على العبد المسلم الأخذ بها؛ هي: المداومة على قراءة آية الكرسي، وسورتي المعوِّذتين؛ لما ثبت في الحديث الشريف: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، ذَاكَ شَيْطَانٌ))[8].

 

وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَـالَ رَسُـولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؟ قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقل أَعُوذُ بِـرَبِّ النَّـاسِ))[9].

 

وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وَيَقُولُ: يَا عُقْبَةُ، تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَـا، قَـالَ: وَسَمِعْتُهُ يَؤُمُّنَـا بِهِمـَا فِي الصَّلَاةِ [10].

 

الآية الثالثة: قال الله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38].

 

 

أشارت هذه الآية الكريمة إلى توجيهين تربويَّين مهمَّين؛ همـا: الدعاء للذرية، وتحرِّي الأوقات المناسبة لقبول الدعاء، وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين:

 

أولًا: الدعاء بطلب الذرية الصالحة:

 

سبقت الإشارة إلى أهمية الدعاء للذرية (في التوجيه الأول من الآية الثانية في سورة البقرة).

 

 

ثانيًا: تحرِّي الأوقات المناسبة لقبول الدعاء:

 

إن الله كريم ذو فضل وجود وإحسان، ومن باب العقل السوي والمنطق السليم، فلو كان لك عند مخلوق وهو صاحب جاه، أو مكانة حاجة، فلا بد لك أن تختار الوقت المناسب وتتهيَّأ له باختيار الكلام البليغ، ولبس أفضل الملابس وتطييبها، وما شابـه ذلك، ولله تعالى المثل الأعلى فهو أحقُّ بأن يتهيَّأ له، وقد ذكر الإمام النووي في كتابه الأذكار آدابًا كثيرة للدعاء نقلًا عن الإِمام أبي حامد الغزالي في الإِحياء يرحمهما الله تعالى، ولأهميتها في موضوع دراستنا، وحاجة الناس إليها نذكرها:

 

الأول: أن يترصَّدَ الأزمان الشريفة، كيوم عَرَفَة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، ووقت الأسحار.

 

الثاني: أن يغتنمَ الأحوالَ الشريفة؛ كحالة السجود، والتقاء الجيوش، ونزول الغيث، وإقامة الصلاة وبعدَها، وحالة رقَّة القلب.

 

الثالث: استقبالُ القبلة، ورفعُ اليدين.

 

الرابع: خفضُ الصوت بين المخافتة والجهر.

 

الخامس: ألَّا يتكلَّف السجعَ.

 

السادس: التضرُّع، والخشوعُ، والرهبة.

 

 

 

السابع: أن يجزمَ بالطلب، ويُوقِن بالإِجابة، ويصدقَ رجاءه فيها، ودلائلُه كثيرةٌ مشهورة؛ قال سفيان بن عُيينة رحمه الله: لا يمنعنَّ أحدَكم من الدعاء ما يعلمُه من نفسه، فإن الله تعالى أجاب شرَّ المخلوقين إبليس؛ إذ قال: ﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴾ [الأعراف: 14، 15].

 

 

 

الثامن: أن يُلحَّ في الدعاء ويُكرِّره ثلاثًا، ولا يستبطئ الإِجابة.

 

 

التاسع: أن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى، وبالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحمد لله تعالى والثناء عليه، ويختمه بذلك كله أيضًا.

 

العاشر: أهمها والأصل في الإِجابة هو: التوبةُ وردُّ المظالم وأكل الحلال، والإِقبال علـى الله تعالى[11].

 

فواصل لتزيين المواضيع

 

آية الذرية في سورة النساء ومضامينها التربوية

 

 

قال الله تعالى: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9].

 

أشارت هذه الآية الكريمة إلى توجيهين تربويين مهمين؛ همـا: الحذر والوقاية سبيل للنجاة من الزلل، وأحبَّ لأخيك المسلم ما تُحبه لنفسك، وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين:

 

أولًا: الحذر والوقاية سبيل للنجاة من الزلل:

 

إن الإسلام دين الوسط والاعتدال، وشرائعه متوافقة مع فطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها، والإنسان بضَعفه، وقصوره البشري يَميل في بعض الأحيان إلى الاعتداء على الآخرين بأية وسيلة من وسائل الاعتـداء المضرة بالآخر، ولكون شرائع الإسلام جاءت لحفظ المقاصد الشرعية، وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وقد ركزت الكثير من التشريعات على تنظيم العلاقات البشرية؛ حتى يتمَّ حفظ الحقوق: حق الله تعالى أولًا، ثم حق العباد الذي أمر الإسلام برعايته وحفظه ثانيًا.

 

ومن توجيهات الشارع الحكيم، هناك عدة خطابات في موضوعات متعددة تؤكد الجانب الوقائي، بمعنى تحذير الإنسان من مغبة الوقوع في أمر محذور، وهو ما يعرف تربويًّا بأسلوب الترهيب، وقد ألَّف الإمام المنذري رحمه الله تعالى كتابه المشهور الترغيب والترهيب، وذكر في جانب الترهيب الكثير من التوجيهات الشرعية التي تجعل المسلم على حذرٍ من إتيانها.

 

والعقل السليم والفطرة السليمة تتفاعل بشكل إيجابي مع التوجيهات، فتكون على حذر من الوقوع في المحظور؛ خوفًا من عقاب الله تعالى في الدنيا والآخرة، ولذلك نجد أن القرآن الكريم كثيرًا ما يكرِّر الأمر بتقوى الله تعالى في تصرُّفاتنا وسلوكيَّاتنا الظاهرة والباطنة لأجل الابتعاد عن إيذاء أنفسنا وإيذاء الآخرين.

 

ومما يجب أن يعتني به الإنسان هو: ضبط أقواله، وأفعاله، فتكون وَفق منهج الله تعالى، فلا يغتاب أو ينم، أو يشتم أحدًا، فإما أن يقول خيرًا، أو يصمت، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)[1].

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ"[2].

 

ولذلك يجب على الوالدين العناية بتقوى الله تعالى في السر والعلن، وغرسها في نفوس أولادهم، فهي سبيل النجاة لهم أولًا، ولأولادهم ثانيًا.

 

ثانيًا: أحبَّ لأخيك المسلم ما تحبه لنفسك:

 

أورد الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسير الآية المشـار إليها قولًا لابن عباس رضي الله عنهما، فقال: هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعـه أن يتقي الله، ويوفقه، ويسدده للصواب، فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشِي عليهم الضيعة.

 

وهذا القول لحبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما يؤكِّد مبدأ معاملة الناس بما تحب أن يعاملوك به، أو أن تحب للناس ما تحبه لنفسك، وهذا ما أسَّسه نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في الحديث الشريف: "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَـنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَـالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ، أَوْ قَالَ: لِجَارِهِ مَـا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"[3].

 

 

وأيضًا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ، تَكُنْ مُسْلِمًا، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِـكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ"[4].

 

وفي الواقع أننا بحاجة ماسَّة جدًّا اليوم إلى تطبيق هذا التوجيه التربوي الكريم؛ لأننا في زمان طغَت على تصرُّفاتنا الأنانية والأثرة، فأصبَحت الغالبية العظمى لا تفكِّر إلا في نفسها وخاصتها وفصيلتها فقط، وبنظرة غير فاحصة تجد صدق ذلك، والله المستعان!

 

فواصل لتزيين المواضيع

 

آيات الذرية في سورة الأنعام ومضامينها التربوية

الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ [الأنعام: 133].

أشارت هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة توجيهات تربوية مهمة، هي: غرس معاني أسماء الله الحسنى وصفاته في الناشئة، والاهتمام بمُراعاة سُنَن الله في خَلْقِه، وطاعة الله تعالى باتِّباع ما شرع أمرًا ونهيًا، وفيمـا يلي عرض لهـذه التوجيهات:

 

أولًا: غرس معاني أسماء الله الحسنى وصفاته في الناشئة:

 

إن الله سبحانه وتعالى غنيٌّ رحيمٌ، له الأسماء الحسنى، والصفـات العلى، وكثيرٌ منَّا يقرأ أسماء الله الحسنى، وصفاته العُلى؛ ولكن دون تدبُّرٍ وتأمُّلٍ، ووَعْي وإدراك لما تتضمَّنه من معانٍ سامية جليلة، تغـرس في النفس البشرية الثقة واليقين بقدرة الله تعالى وعظمته.

 

وهذا التوجيه مبحث تربوي عظيم، يحتاج من المربين بعامة والباحثين التربويين بخاصة مزيدَ عنايةٍ واهتمامٍ، لبيان مدلولات ومضامين أسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ لغرسها في نفوس الناشئة، لتكون دافعًا قويًّا لزيادة الإيمان، وسياجًا ومنعة من التفريط في جنب الله تعالى.

 

ثانيًا: الاهتمام بمراعاة سُنَن الله في الأرض:

 

إن الحياة منذ أن خلق الله تعالى الأرض، وهي تسير إلى أجل مُسمًّى عِلْمُه عند الله سبحانه، والناس فيها في ابتلاء وكرٍّ وفرٍّ يتكون من خلال ذلك كله الثقافات والحضارات، وكم من أُمَمٍ عاشت سنين طويلة، ثم أصبحت في ذاكرة التاريخ تُروى أخبارُهم، وما كانوا عليه من صلاح أو فجور.

 

والله تعالى خلق الخلق لعبادته واتِّباع ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، والكون كله بما فيه تحت مشيئته وقدرته سبحانه وتعالى، وقد وضع له قوانين وسُنَن عامة يسير عليها، ومَنْ عرفَها والتزم بها التزامًا كاملًا نهج نهجًا موفَّقًا، فاستحقَّ رضا الله تعالى في الدنيا والآخرة، ومَنْ سارَ على غير هُدًى، ولم يتعرَّف على سُنَن الله تعالى، فسيكون مآلُه الخيبة والخُسْران، والعياذ بالله.

 

 

ويجب على الإنسان المسلم أن يأخذ العبرة، والعظة من أحوال الناس والأُمَم السابقة، وأن الله قادر على إهلاك أُممٍ، والإتيان بغيرها، وأن يتعرف على السُّنَن الكونية التي تسير عليها حياة الأُمَم، وقد تأكَّد هذا في كثير من توجيهات الشارع الحكيم؛ فقال تعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 137]، وقال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [النساء: 26]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [الأنعام: 11]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [النمل: 69]، وقـال تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ﴾ [الروم: 42].

 

وتأكيدًا على أهمية أخذ العبرة والعظة من أحوال الناس والأُمَم، فقد أكَّد الله سبحانه وتعالى على أهمية ذلك؛ فقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].

 

ويؤكِّد الشيخ السعـدي رحمـه الله في تفسيـره عنـد قول الله تعالى: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2]؛ أي: البصائر النافذة، والعقول الكاملة، فإن في هـذا معتبرًا يُعرَف به صُنْعُ الله تعالى في المعاندين للحق، المتَّبعين لأهوائهم، الذين لم تنفعهم عِزَّتُهم، ولا منعَتْهم قوَّتُهم، ولا حصَّنَتْهم حصونُهم، حين جاءهم أمر الله، ووصل إليهم النكال بذنوبهـم، والعبرة بعموم اللفـظ، لا بخصوص السبب.

 

ويقول رحمه الله تعالى: إن هذه الآية تدل على الأمر بالاعتبار، وهو اعتبار النظير بنظيره، وقياس الشيء على مثله، والتفكُّر فيما تضمنته الأحكام من المعاني والحكم، التي هي محـل العقل، وتتنـوَّر البصـيرة، ويزداد الإيمان، ويحصل الفهم الحقيقي.

 

كمـا بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلـم أهمية الاتـِّعاظ بالغير، فقـال: ((الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ))[1].

 

والمسلم العاقل ينبغي له أن يأخذ بهذا التوجيه القرآني، فينظر في حال الناس من زاوية، وحال هذه الأُمَم من زاوية أخرى، فيأخذ من قصصهم وأحوالهم العبرة، والعظة، بمعنى إذا كانوا على خير، وهداية، وصلاح، فيقتدي بهم، ويُتابعهم في ذلك وَفْق ما قرَّرَتْه الشريعة، أما إذا كانـوا على غواية وضلال وفجور، فيحذر كل الحذر مما آلوا إليه من سوء خاتمة، والعياذ بالله تعالى.

 

 

ثالثًا: طاعة الله تعالى باتِّباع ما شرع أمرًا ونهيًا:

 

تشير الآية الكريمة إلى قضية مهمة للغاية؛ وهي: أهمية طاعة الله تعالى، والعمل بها في كل ما أمر به الشارع الحكيم، واجتناب كل ما نهى عنه؛ لأن المخلوق يريد كل ما هو في سلطانه يسير وَفْق مراده، وما خطَّط ورسم له خاليًا من المنغِّصات، ولله المثل الأعلى، فهو الخالق المدبِّر سبحانه وتعالى، يريد ملكه بكل ما فيه خاليًا من أنواع الظُّلْم، والموبقات، والمعاصي، والذنوب، ومَنْ تغافَلَ عن أوامره ونواهيه، فعاقبته الزوال، وسوء المصير، والعياذ بالله من ذلك، وهي سُنَّة ماضية لكل من كان هذا دَأْبَه.

 

وهذا ما عبَّرَ عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه حيث قال: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ، وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: ((إِنَّ الْحَـلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَـرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمـَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ))[2].

 

فالمسلم البصير الموفَّق بتوفيق الله تعالى يلتزم طاعة ربِّه سبحانه في كل أوامره، ونواهيه، وإن مسَّه طائفٌ من الشيطان تذكَّر خالقَه، وما أعدَّه من عقابٍ للعاصي، وثوابٍ للمُطيع، فما يلبث أن يعود إلى صوابه، ورُشْدِه، ويستقيم على طاعة الله جل وعز؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].

 

 

الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام: 84].

 

تضمَّنت هذه الآية الكريمة توجيهًا تربويًّا مُهمًّا؛ هو: الاقتداء بعباد الله الصالحين، وفيما يلي عرض لهذا التوجيه:

الاقتداء بعباد الله الصالحين.

لقد وجَّه الله تعالى رسوله الكريم محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمَنْ سبَقَه من الأنبياء عليهم السلام؛ فقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 90].

 

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره: فقد امتثل الرسول صلى الله عليه وسلم، فاهتدى بهدي الرُّسُل قبله، وجمع كل كمال فيهم، فاجتمعت لديه فضائل وخصائص، فاق بها جميع العالمين، وكان سيد المرسلين، وإمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

 

فكما وجَّه الله نبيَّه سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمَنْ قبله من الأنبياء عليهم السلام، وجَّه أُمَّتَه إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم؛ فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

 

ولأهمية الاقتداء بالصالحين، فقد أمرنا الله تعالى بطلب ذلك في آية عظيمة من سورة الفاتحة، وهي تتكرَّر معنا في اليوم ما لا يقلُّ عن سبع عشرة مرة من غير الرواتب والنوافل، وهذه الآية هي قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6، 7].

 

ويُوضِّح ابن كثير رحمه الله بأن قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ هم المذكورون في سورة النساء عند قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 69، 70]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك، من ملائكتك، وأنبيائك، والصدِّيقين، والشُّهَداء، والصالحين.

 

 

ويضيف الشيخ الجزائري حفظَه الله في تفسيره: بأن صراط المنعم عليهم يشمل كل من أنعم الله عليهم بالإيمان به تعالى ومعرفته، ومعرفة محابه، ومساخطه، والتوفيق لفعل المحاب، وترك المكاره.

 

قد أدرك أهمية القدوة الحسنة والتشبُّه بالصالحين، وحتى ولو لم يصل إلى مثل حالهم تمامًا، فيكفي التشبُّه بأحوالهم، لعل الله تعالى يجعله مثلهم بنيته، ورغبته في اللِّحاق بهم.

 

 

وبقول الشاعر المشار إليه يحضرني حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المتفق على صحَّتِه، وهو كما رواه مسلـم في صحيحـه "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَـاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: ((وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟))، قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا، بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، قـَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِـمْ"[3].

 

 

وإنني أطالب الوالدين بشدَّة بأهمية التأسِّي بأحوال الصالحين في تربية أولادهم، وفي مقدمتهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأن الآية الكريمة المشار إليها قرَّرَتْ مبدأً قُرْآنيًّا تربويًّا عظيمًا، وهو: ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي: من يتأسَّى بحال هؤلاء الكوكبة النيِّرة من الأنبياء في حسن تربيتهم لأولادهم، وفي صبرهم على طاعة الله تعالى، سيجعل الله له ذريةً صالحةً مباركةً تقرُّ بهم عينُه، ويثلج بهم صدْرُه.

 

الآية الثالثة: قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 87].

 

 

أشارت هذه الآية الكريمة إلى توجيهين تربويين مهمَّينِ، همـا: الأخذ بأسباب الهداية، وآثار هداية المهتدي على الأسرة، وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين:

 

أولًا: الأخذ بأسباب الهداية:

 

إن الهداية دون أدنى شكٍّ من الله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56]؛ ولكنَّ هناك أسبابًا موصِّلة لها، وهي من السُّنَن الكونية التي نُظِّمَت بها الحياة، فمن رام طريق الهداية يجب عليه أن يسلك السُّبُل الموصِّلة إليها، ومنها:

 

1- توفيق الله تعالى لنعمة الهداية؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88].

 

2- الإيمان بالله تعالى، وهو محور أساس في الدين؛ لأنه يعني التصديق والاستسلام لكل ما جاء به الشرع من المغيبات، ومن وُفِّق لذلك، وُفِّق بعناية الله إلى هداية القرآن الكريم: ﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 203].

 

3- تقوى الله تعالى، فهي الطريق الأوحد لكسب الهداية، ويُؤكِّد ذلك الكثير مـن النصوص؛ قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 282]، وقـال تعـالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17].

 

4- اتِّباع القرآن الكريم والتمسُّك بما جاء به مـن أوامر ونواهٍ؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101].

 

5- البُعْد عن اتِّباع الهوى؛ لأنه سَبَبٌ للزيغ والهلاك؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 56].

 

6- عدم اتِّباع الشيطان وخطواته؛ لأنه العدوُّ الأول للإنسان المتربِّص به؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 71].

 

7- إخلاص العبادة لله وتوحيده، وعدم الشرك به؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].

 

8- المجاهدة في اتِّباع أوامر الله، واجتناب نواهـيه سبَبٌ رئيسٌ لحصول الهداية من الله؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

 

 

ثانيًا: آثار هداية المهتدي على الأسرة:

 

إن الرجل المهتدي الذي وفَّقَه الله تعالى للهداية وحُسْن الالتزام، سيكون بشيرَ خيرٍ على أهله، وعشيرته، فيبدأ بنصحهم، وإرشادهم، وتبيين ما يهمُّهم من أمور دينهم ودُنْياهم، ولا شكَّ أن دعوته ستلقى الكثير من القبول، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [إبراهيم: 4]، وكم رأينا من رجل صالح مُصلِح أثَّر إيجابًا في أهله، وذويه، فأصبحوا في أجواء الهداية مُنعَّمين وتحت ظلالها الوارفة متفيِّئين.

 

 

فواصل لتزيين المواضيع

 

آيات الذرية في سورة الأعراف ومضامينها التربوية

 

الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172]

 

أشارت هذه الآية الكريمة إلى توجيهين تربويين مهمين؛ هما: عدم التمايز إلا بالتقوى، والمحافظة على سلامة الفطرة البشرية، وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين:

 

 

أولًا: عدم التمايز إلا بالتقوى:

 

تُقرر الآية الكريمة بوضوح أن جميع البشر من نسل آدم عليه السلام، وفي الآية التالية يتضح لنا أنه لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود إلا بالتقوى؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].

 

وقد أكَّد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في حجة الوداع في خطبته المشهورة، فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَلا هل بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، قَالَ: وَلَا أَدْرِي، قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ، أَمْ لَا، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَـالَ: لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ"[1].

 

وإن ما يشاهد اليوم من تمييز مقيت في البلاد غير الإسلامية: في اللون والجنس والمعتقد، فلا يستغرب منهم ذلك؛ لجهلهم وبعدهم عن توجيهات الإسلام السامية، أما أن يكون التمييز داخل بلاد الإسلام، فهذا ما يأباه العقل السليم والفطرة السوية، وتؤكد رفضه توجيهات الشارع الحكيم، فعَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ رضي الله عنه بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"[2].

 

 

ومما يؤكد عظمة الإسلام، ونبذه للعنصرية والعصبية الجاهلية، قول الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما احتج المهاجرون والأنصار عام الخندق في انتساب سلمان الفارسي رضي الله عنه لكل منهم، فحسم الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر، فقال قولته الخالدة: "سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ"[3].

 

وأيضًا تقديمه لصهيب الرومي، ولبلال الحبشي رضي الله عنهما، واعتبرهما ضمن كبار شخصيات أصحابه رضي الله عنهم، وأمَّر الرسول صلى الله عليه وسلم على قيادة جيشه أسامة بن زيد رضي الله عنهما - وهو شاب في الثامنة عشرة، وأبوه كان عبدًا، فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم - وجعل تحت قيادته مجموعة من كبار أصحابه السابقين في الإسلام.

 

 

 

وفي المقابل نجد عم الرسول صلى الله عليه وسلم أبا لهب - وهو شريف وقرشي - نزلت في ذمه سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة، وهي سورة المسد؛ قال تعالى: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 1 - 5].

 

لذا يجب أن يُغرس هذا التوجيه التربوي في نفوس أولادنا وناشئتنا، وأن يبين لهم السلبيات الخطيرة القائمة على التمييز بين المسلمين في اللون والجنس في مجتمعات الأمة الإسلامية، وينبغي أن يؤكَّد تأكيدًا كبيرًا، عبر مراحل الدراسة المختلفة، وعبر وسائل الإعلام المختلفة، مع بيان سيرة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم في مواقفه العظيمة التي تؤكد أن الرابطة الحقيقية بين المسلمين هي رابطة الإسلام، وما سوى ذلك مرفوض جملةً وتفصيلًا.

 

ثانيًا: المحافظة على سلامة الفطرة البشرية:

 

غرس الله تعالى في فطرة البشر من حين خروجهم من أصلاب آبائهم - الإشهادَ على ربوبيته، بأنه هـو الخالق وحده، والمدبر لا شريك له جـل في علاه، ولكن ربما تحدث مؤثرات خارجية على فطرة الإنسان، فتتغير من الدين الصحيح دين التوحيد إلى أديان فاسدة، ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا يُصدقه حديث الرسول صلى الله عليه وسلـم المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ؟"[4].

 

وهنا يجب على الوالدين العناية التامة، للمحافظة على فِطَر أولادهم، بتربيتهم تربية إسلاميةً صحيحة، والاجتهاد قدر المستطاع بإبعادهم عن ملوثات الفطرة: من خلال ما يعرض في القنوات الفضائية الهابطة من مسلسلات، وأفلام، وأغان ساقطة، وعبر ما يبث في مواقع الإنترنت، وما ينشر في بعض الصحف والمجلات من صور وأفكار منحرفة، وغير ذلك من المؤثرات السلبية، وينبغي الحرص على إيجاد بيئات صالحة للأولاد، مقرونة بالتوجيه والنصح والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة.

 

 

 

الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [الأعراف: 173].

 

أشارت هذه الآية الكريمة إلى توجيهين تربويين مهمين؛ همـا:

طلب العلم الشرعي، والتبصر بأمور الدين.

والتحذير من الاقتداء بالوالدين إن كانا على ضلال.

 

وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين:

 

أولًا: طلب العلم الشرعي والتبصر بأمور الدين:

 

تقع على عاتق الإنسان - إذا بلغ درجة النضج والكمال العقلي - مسؤولية التبصر بأمر دينه؛ لمعرفة حقائق الأمور، وهذا ولله الحمد ميسر بأسهل الطرق في زماننا هذا، ومن أراد الله له الهداية والرشاد، وفَّقه الله لذلك.

 

 

ثانيًا: التحذير من الاقتداء بالوالدين إن كانا على ضلال:

 

إن المشكلة تكمُن في غفلة وقصور الكثير من البشر عن البحث والتحري لمعرفة الحقيقة في مجال العقيدة، فتراهم يلجؤون إلى أسهل الطرق، بالاعتماد على ما كان عليه الآباء والأجداد، حتى وإن كانوا على ضلال وغواية، وهذا العجز والقصور يَمقته الإسلام مقتًا شديدًا، جاء في تسع آيات من القرآن الكريم، ولأهمية هذا التوجيه وخطورة التنبه له، نذكر كل هذه الآيات، لكي يتنبه المربون المخلصون إلى هذه القضية؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104]، وقال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 28]، وقوله تعالى: ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 78]، وقولـه تعـالى: ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 53]، وقوله تعالى: ﴿ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 74]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [لقمان: 21]، وقـوله تعالى: ﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 22]، وقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23].

 

 

 

ولذلك ينبغي على المربين التحذير من الانجراف وراء تعاليم الآباء الخاطئة بانغلاق ودون وعي ولا تبصُّر، ولا بحث عن حقائق الأمور بميزان الشرع الحنيف ووسطيته، وخير وسيلة لذلك طلب العلم الشرعي من العلماء المعروفين بسلامة دينهم وتوجُّههم، وإخلاصهم لدينهم وأمتهم.

 

كما يجب التنبيه إلى عدم الانسياق وراء التوجهات العقدية الخاطئة للوالدين، والعمل على إصلاح ما يمكن إصلاحه بالحكمة والموعظة الحسنة، مع الحفاظ على مكانة الوالدين وبرهما والإخلاص لهما؛ امتثالًا لقول الله تعـالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 8].

 

يقول الإمام القرطبي رحمه الله: إن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيما، روى الترمذي عن مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ، فَذَكَرَ قِصَّةً: وَقَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَـرَ اللَّهُ بِالْبِرِّ، وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا، وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ، قَالَ: فَكَانُـوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُطْعِمُوهَا شَجَرُوا فَاهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي ﴾ [العنكبوت: 8].

 

د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي

 

 

شبكة الالوكة

 

يتبع

 

 

‫ألبوم فواصل وعبارات البسملة والسلام والختام لجمال المواضيع‬‎

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
 

آيات الذرية في سورة الرعد ومضامينها التربوية

الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23، 24].

 

 

أشارت هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة توجيهات تربوية مهمة؛ هي: العاقبة الحسنة لعباد الله الصالحين، والبشرى لعباد الله الصالحين بصحبة أولادهم في الجنة، والبشارة بمضاعفة الأجر للعاملين كأسلوب تربوي قرآني، وأهمية الصبر وعاقبته الحسنة، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:

 

أولًا: العاقبة الحسنة لعباد الله الصالحين:

إن الله تعالى وعد عباده الصالحين حسن الجزاء، وحسن العاقبة، وهي: جنات عدن خالدين ومنعمين فيها، ولا شك أن ذلك مطلب كل مؤمن، ورجاء كل مسلم، وأمل كل تقي؛ لأن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

 

وقد ربط الشارع الحكيم في كثير من الآيات الكريمات دخولَ الجنة ونعيمها بالتقوى والعمل الصالح، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 25]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ [النساء: 57]، وقال تعالى: ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ [إبراهيم: 23]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [الحج: 14].

 

 

وهذا الجزاء العظيم يناله المؤمن بفضل الله تعالى وعفوه وكرمه؛ كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يُدْخِلُهُ عَمَـلُهُ الْجَنَّةَ، فَقِيلَ: وَلَا أَنْتَ؟ يَا رَسُـولَ اللَّهِ، قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي رَبِّي بِرَحْمَةٍ"[1].

 

ولهذا ينبغي للمسلم أن يستفرغ وسعه، في الحرص على مرضاة ربه وطاعته، والعناية التامة بتقوى الله تعالى، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، لقاء ما أسبغ علينا من نعم ظاهرة وباطنه، لا تعد ولا تحصى.

 

 

ثانيًا: البشرى لعباد الله الصالحين بصحبة أولادهم في الجنة:

 

إن من رحمة الله جل وعلا بعباده، وقد علم قوة ولع الوالدين بأبنائهم، وشدة تعلق الأصول بالفروع، وحرصهم على القرب منهم، فقد وعد الله تعالى الصالحين من عباده المؤدين أوامره، المجتنبين نواهيه، إضافة إلى تكرُّمه تعالى بإدخالهم جنانه ذات النعيم المقيم، بأن تكون ذرياتهم معهم في الجنة، ولكن شريطة صلاحهم، وتأديتهم لما فرض عليهم من حقوق، وواجبات.

 

وأورد ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية، ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل لتقرَّ بهم عينُه.

 

وهذا التوجيه يؤكِّد أمرين مهمين؛ هما:

أولًا: تحفيز الوالدين بزيادة العمل الصالح والقرب من الله تعالى، فإن ذلك مردوده عليهم عظيم، وأي فضل أعظم من أن تكون مع الإنسان ذريته في الآخرة، حتى ولو لم تعمل ذريته نفس عمل الأب، ولكن بصلاح الأب ارتفعت الذرية في الجنة.

 

ثانيًا: بذل مزيد من الجهد والعناية في تربية الأولاد، والمحافظة عليهم، وحسن رعايتهم، رعاية تحفظ عليهم دينهم وأخلاقهم؛ لأن ذلك سيكون سببًا في سعادتهم بهم في الدنيا، كما سيكون سببًا في سعادتهم بهم أكثر في الآخرة، نسأل الله تعالى من فضله.

 

فيا أيها الآباء والأمهات، هلَّا بذلتم مزيدًا من العمل الصالح، ومزيدًا من العناية في تربية أولادكم تربية إسلامية صحيحة؛ لتحصلوا على هذه البشرى العظيمة والجائزة الثمينة من الله تعالى.

 

ثالثًا: البشارة بمضاعفة الأجر للعاملين:

 

النفس البشرية تحتاج إلى أساليب مناسبة لتربيتها، ولا شك أن القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، يزخر كل منهما بالعديد من الأساليب التربوية المناسبة لها، كيف لا والله تعالى هو خالقها، ويعلم ما يصلحها وما يفسدها؛ قال الله تعـالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].

 

 

وقد أشـارت الآية الكريمـة هـذه إلى أسلوب تربوي عظيم، وهو: (البشارة بمضاعفة الأجر للعاملين)، وهناك العديد من الآيات الكريمات التي أشارت أيضًا إلى هـذا الأسلوب في مواضـع مختلفة؛ منهـا: قول الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 25]، وقـال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 17، 18]، وقـــال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 47]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30].

 

وهذا الأسلوب القرآني تحتاجه النفس البشرية في مختلف المراحل العمـرية، وفي مختلف المجالات الحياتية، فعلى المعنيين في هذه المجالات الأخذ بهذا الأسلوب القرآني، وسيجدون بإذن الله تعالى فوائده العظيمة في مضاعفة الجهد من العاملين، وعلى التربويين المتخصصين في التربية وعلم النفس التربوي تحديدًا، بذل مزيد من الجهد لاستخراج هذه الأساليب التربوية.

 

رابعًا: أهمية الصبر وعاقبته الحسنة:

 

جاءت الآية: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 24] مباشرة بعد الآية ( الرعد: 23 ) التي وردت فيها لفظـة الذرية، وبينهما تلازم وارتباط، فهي بيان وتوضيح، وتأكيد بأن النعيم الأخروي، وما أعده الله تعالى لعباده الصالحين، والذي ذكر في الآية (الرعد: 23) لا يتأتى إلا بالصبر والمجاهدة، ولهذا شواهد أخرى؛ منها: قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142].

 

يقول الشيخ السعدي رحمه الله في هذه الآية استفهام إنكـاري؛ أي: لا تظنوا، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنـة مـن دون مشقـة، واحتمــال المكــاره في سبيل الله، وابتغاء مرضـاته؛ فإن الجنة أعلى المطالب، وأفضل مـا بـه يتنافـس المتنافسون، وكلمـا عظـم المطلـوب عظُمـت وسيلتـه، والعمل الموصـل إليه، فلا يوصل إلى الراحة إلا بتـرك الراحة، ولا يـدرك النعيـم إلا بترك النعيـم، ولكن مكاره الدنيا التي تُصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها ومعرفة ما تؤول إليـه، تنقلب عند أرباب البصائر منحًا يسرون بها، ولا يبالـون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ ا.هـ.

 

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الحيـاة ليست دائمًا مفروشة بالورود والرياحين، لذلك لا بد أن تواجه الإنسان بعض المصائب، وليس له سبيل في مواجهتها سوى الصبر، بعد الأخذ بالأسباب الشرعية لمواجهة ذلك، ومما يؤكـد ما نقول قول الله تعـالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]، ويقول الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره: وأصـل الكبد الشدة، ثم يصور حال الإنسان وما يعانيه من مشقة، من حين ولادته إلى حين يُأمر به إلى جنة، أو نار فيقول: وأول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا شد رباطًا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابـد نبت أسنانه، وتحـرك لسانه، ثم يكـابد الفطـام، ثم يكابـد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولتـه، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضَعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادهـا، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمـد العين، وغم الدين، ووجع السن، وألم الأذن.

 

ثم يضيف ويقول: ويكابد محنًا في المال والنفس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كلـه، ثم مسـألة الملَك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار.

 

لذلك يجب أن يستقر في ذهن المسلم وفي وِجدانه أهميةُ الصبر وعاقبته الحسنة؛ لأنه يكاد يكون العلاج الناجع للكثير من المشاكل التي يعاني منها الناس اليوم، والتي قضت مضاجعهم، ومزَّقت ترابطهم.

 

 

الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد: 38].

 

 

أشارت هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة توجيهات تربوية مهمة؛ هي: النظر والتأمل وأخذ العبرة من الأمم السابقة، ووجوب اتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام، واليقين الكامل بتقدير الآجال والأقدار، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:

 

أولًا: النظر والتأمل وأخذ العبرة من الأمم السابقة:

 

 

ثانيًا: وجوب اتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام.

 

إن الرسل عليهم الصلاة والسلام جاؤوا مبلغين عن الله تعالى شرائع الدين من أوامر ونواه، وأعدَّ الله تعالى للمتبعين أوامره، المجتنبين نواهيه، الثواب الحسن في الدنيا والآخرة، وأعد للمخالفين أوامره، المتبعين نواهيه سوءَ العقاب في الدنيا والآخرة.

 

قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64]، يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في ثنايا تفسير هذه الآية: إن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين، ينقاد لهم المرسل إليهم في جميع ما أُمروا به، ونهوا عنه، وأن يكونوا معظمين، تعظيم المطاع من المطيع.

 

وعلى الإنسان المسلم أن يُسلِّمَ بما جاء من عند الله تعالى من أمر ونهي، ويسعى لتطبيق ذلك بكل جد، وعناية، واهتمام، وإخلاص ابتغاء مرضاة الله تعالى، واجتناب سخطه، وإن حدث منه تقصير من غير قصد، فارتكب معصية بدون إصرار، فإن الله غفور رحيم، يحب ويفرح بتوبة التائبين المعترفين بذنوبهم.

 

ثالثًا: اليقين الكامل بتقدير الآجال والأقدار:

 

إن الله سبحانه وتعالى قَدَّرَ المقادير، وَكَتَبَ الآجال لكل واحد من مخلوقاته، فهو العليم القدير، المحيط بكل شيء، لا يسأل عما يفعـل وهم يسألون، والناس آجالهم محدودة، ومقاديرهم مقدرة، ولكن كل ميسر لما خُلق له، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف عَـنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قـَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا، وَفِـي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِه، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّار، ِ قَالُـوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ نَعْمَلُ؟ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 5 - 10] "[2].

 

ويحضرني في ختام هذا التوجيه موقفٌ دار بين الصحابيين الجليلين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، عندما خرج عمر رضي الله عنه إلى الشام، وأُخْبِر بأن الطاعون بأرضها، ثم رجع عمر ولم يواصل مسيره إلى الشام، فقال له أبو عبيدة رضي الله عنه: " أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟! نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ: إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَـدَرِ اللَّـهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَـةَ رَعَيْتَهَـا بِقَدَرِ اللَّهِ...الحـديث "[3].

 

 

وما على الإنسان المسلم والحالة هذه إلا التسليم الكامل بأقدار الله تعالى، وآجاله المكتوبة على بني آدم من خير، ورزق، وسعادة، وشقاء، وصحة، وعافية، ولكن بعد أن يعمل ويجتهد ويسعى ويصبر ويحتسب، فما يأتي بعد ذلك هو قدر الله تعالى وأجله الذي كُتب له.

 

[1] (صحيح مسلم، حديث رقم: 7113، كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى).

[2] (صحيح مسلم، حديث رقم: 6731، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وعمله وشقاوته وسعادته).

[3] ( صحيح البخاري، حديث رقم: 5729، كتاب: الطب، باب: ما يذكر في الطاعون ).

 

 

فواصل لتزيين المواضيع
 

آيات الذرية في سورة إبراهيم ومضامينها التربوية

 

الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم:37].

 

يمكن أن نستخلص من هذه الآية الكريمة ستة توجيهات تربوية مهمة؛ هي: أهمية الدعاء للذرية، والعناية بالمحافظة على الصلاة جماعة، وتقديم التربية العقدية على التربية الجسدية، ومَن يُطِع الله ويَستجب له يحقِّق آماله، والعناية بشكر الله تعالى على نعمه، والاهتمام بزيارة بيت الله الحرام، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:

أولًا: أهمية الدعاء للذرية:

وهذا من التوجيهات التربوية المهمة التي تكرر ذكرُها في آيات الذرية، وعلى الوالدين تحديدًا العناية بالدعاء للذرية في كل وقتٍ وحين، وتحيُّن الأوقات المناسبة لذلك.

 

ثانيًا: العناية بالمحافظة على الصلاة جماعة:

من أهم ما يجب أن يعتني به الوالدان في تربية أولادهم، المحافظة على جناب التوحيد الخالص، ومن أهم الوسائل الموصلة لذلك الصلاة، فهي عماد الدين، وهي التطبيق العلمي له، وهي أول ما يحاسب عليه العبد، وهي صلة بين الله تعالى وعبده، وهي الفرق بين المسلم، والكافر؛ فمـن أدَّاها وقام بحقها، كان عهدًا على الله أن يدخله الجنة؛ كما ورد في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قـال: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُـنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَـهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَـهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ"[1].

 

إن العناية بالمحافظة على الصلاة مما هو معروف لدى المسلمين بداهة، لمن وفَّقه الله، ونشأ وترعرع على أهميتها، ووجوب القيام بها، وهناك عددٌ من التوجيهات الشرعية التي تؤكد هذا المعنى، ونكتفي بإيراد بعضها للاختصار، والحر تكفيه الإشارة؛ قال الله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238]، وقال تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]؛ يقول الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قولـه تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ﴾ أَمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلـم بأن يأمر أهله بالصـلاة، ويَمتثلهـا معهـم، ويصطبر عليها، ويلازمها، وهذا خطاب للنبي، ويدخل في عمـومه جميـع أُمته، وأهل بيته على التخصيص. وكان عليه الصلاة والسلام بعد نزول هذه الآية، يذهب كـل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما، فيقول: الصلاة.

 

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله في هذه الآية الكريمة: حثٌّ لأهلك على الصلاة من فرض ونفلٍ، وتعليمهم ما يصلح الصلاة ويفسدها ويُكملها، والاصطبار على إقامتها بحدودها وأركانها وخشوعها، وذلك شاقٌّ على النفس، ولكن ينبغي إكراهُها وجهادها على ذلك، وقد ضمن الله الرزق لمن قام بأمر الله، واشتغل بذكره.

 

ومن الشواهد الحديثية المهمة والمشهورة لدى عامة المسلمين سلفهم وخلفهم - قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ"[2].

 

وقد أوصى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بأهميتها والمحافظة عليها وهو في الرمق الأخير مودعًا الدنيا، فعـن علي رضي الله عنه قال: كان آخـر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم"[3].

 

ولا شك أن محافظة الوالدين على الصلاة محافظة تامة، فيها تربية بالقدوة للأولاد، فلا يجدون مشقة، ولا عناء في التزام أولادهم بها، على عكس الوالدين المفرطين في أداء الصلاة؛ فاحرص أيها الأب، واحرصي أيتها الأم على أداء الصلوات، وما يتبعها من رواتب ونوافل، وستجدان الخير كل الخير في ذلك لكما ولذريتكما.

 

وقد تحتاجان أيها الوالدان في أداء هذه الرسالة العظيمـة إلى صبر ومجاهدة ومثابرة، ومتابعة مستمرة للأولاد، حتى وإن كبروا وتزوجوا وخرجوا من دائرة بيت الوالدين، وقد رأينا قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح، فيوقظ ابنته السيدة الجليلة فاطمة وزوجها المبارك علي رضي الله عنهما، كما أشار إليه الإمـام القرطبي رحمه الله آنفًا. وحاشا فاطمة وعليًّا رضي الله عنهما أن يتأخرا، أو يتكاسلا عن الصلاة، ولكن هو من باب تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وهو القدوة الحسنة.

 

وأختم هذا التوجيه التربوي العظيم بملحوظتين مهمتين شائعتين بين كثير من الناس؛ هما:

الأولى: بعض الآباء قد يحرِص على أداء جميع الفروض جماعةً في المسجد مع أولاده، ولكن لا يهتم بحضور صلاة الفجر، وإن حضرها لا تجده يحرص على إحضار أولاده معه من باب الرفق والشفقة بهم، أو لأسباب دنيوية تافهة، وهـذا بدون شك خطأ عظيم، وتقصير وإفراط من الأب، قد يؤدي إلى عدم المبالاة من الأولاد ببقية الفروض مستقبلًا، ولو علم الأب عظيم الخير من وراء إيقاظ أولاده معه والصبر على ذلك، لَمَا تأخَّر في إيقاظهم، بل إن الإشفاق الحقيقي هو حضورهم لجميع الصلوات جماعة في المسجد، والتوجيهات الشرعية التي تؤكِّد ذلك كثيرة، ولكن أُذَكِّر فقط بحديثين لرسول صلى الله عليـه وسلم: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا"[4]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"[5]، وهذا فضل ركعتي سنة الفجر، فما بالك بفضل صلاة الفجر.

 

الثانية: يميل بعض الناس إلى تأخير تأدية الصلاة إلى ما بعد الفراغ من أعمالهم واجتماعاتهم وبشكل مستمر، فلا تؤدَّى الصلاة إلا بعد أن ينتهي ذلك العمل، أو ذلك الاجتماع، على الرغم من أنه لا توجد له أهمية تستوجب تأخير الصلاة، وهذا أيضًا خطأ جسيم، واستخفاف بركن عظيم من أركان الإسلام، وتفريط في حق من حقوق الله تعالى.

 

فالأصل أن تكون الصلاة هي المُقَدَّمَة على كل عمل، ثم يُنسق ويرتب وينظم الناس أعمالهم واجتماعاتهم بحسبها، إما قبلها أو بعدها.

 

وأرى من المناسب هنا أن أستشهد بقول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]، ويقول ابن كثير رحمه الله: شعـائر الله؛ أي: أوامره، ولا شك أن الصلاة من أعظم أوامر الله تعالى، ويضيف الشيخ الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أن هذه الآية الكريمة عامـة في جميع شعائر الله، والصلاة بدون شك من أعظم شعائر الله، ولذلك فإن التهيؤ للصلاة فور سماع النداء، دليل على تقوى القلوب، وتعظيمها لأوامر الله تعالى.

 

ثالثًا: تقديم التربية العقدية على التربية الجسدية:

في الآية الكريمة ملحظ مهم للغاية، ربما يغفل عنه كثير من الآباء، وهو أهمية العناية الفائقة بتربية الأولاد عقديًّا، بتحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، وإقامتها وَفْق ما شرع، وتقديمها على التربية الجسدية المتمثلة في تلبية حاجاتهم من مأكل ومشربٍ وملبس، ومما يؤسف له أننا نرى اليوم من صور التربية الخاطئة أن يهتم الوالدان فقط بتلبية احتياجات الأولاد أيًّا كانت، فهي عندهما مطلب أساس في التربية، أو هـي كل التربية، فعلى سبيل المثال إذا أراد الأبناء السفر إلى الخارج لبَّى طلبهم، وإذا أرادوا السهر خارج البيت مع رفقة غير معروفة لبَّى طلبهم, وإذا أرادوا شراء سيارة معينة لبَّى طلبهم، وإذا أرادوا تناول طعام معين لبَّى طلبهم، وهكذا. فكل مطلب لأولاده محقَّق على الفور دون ما عناء أو أخذ أو عطاء.

 

أما إذا نظرت إلى الجانب العقدي، والشرعي في تربيتهم لأولادهم، فلا تكاد تجد له أدنى اهتمام إلا في أضيق الحدود، ولذلك فإنه يجب على الوالدين تقوى الله تعالى، والقيام بأداء أمانة تربية أولادهم تربية إسلامية صحيحة متوازنة، تجمع بين التربية العقدية، والتربية العقلية، والتربية الجسدية.

 

رابعًا: من يطع الله ويستجب له يحقق آماله:

وعد الله تعالى عباده الصالحين الطائعين القائمين على أداء أوامره، واجتناب نواهيه - أن يستجيب دعاءهم، ويحقِّق ما يؤملونه من خيري الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحًا، وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، من ذكـر، أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله، ورسوله، وأن هذا العمل المأمور به مكفول من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يَجزيه بأحسن ما عملـه في الـدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت، ثم ذكر عدة أقوال حولها، فمنهم من قال: إنها الرزق الحلال الطيب، ومنهم قال: إنها القناعة، ومنهم من قـال: إنها السعادة، ومنهم من قـال: إنها الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا، والعمل بالطاعة، والانشراح، ثم قال: والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله.

 

ولذلك ينبغي على الإنسان المسلم أن يهتمَّ ويعتني بكون الإيمان مقرونًا بالعمل الصالح؛ لأنه هو مصداق إيمان العبد، وكثير من الآيات القرآنية الكريمة قرنت بينهما؛ مما يبين أهمية التلازم بينهما.

 

فيا أيها العبد المسلم، اعتنِ بهذا التوجيه أيَّما اعتناء، مطبقًا إياه على نفسك أولًا، معلمـًا به أولادك، موضحًا لهم أهميته، ومبينًا مكانته، وثوابه في الدنيا والآخرة.

 

خامسًا: العناية بشكر الله تعالى على نعمه:

أسبغ الله تعالى علينا نعمه ظاهرة وباطنة؛ قال عز وجل: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 53]، ومن تمام العبادة وحق الله تعالى علينا أن نشكره شكرًا قوليًّا وعمليـًّا؛ فبالشكر تدوم النعــم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].

 

ومن الأحاديث الشريفـة المؤكدة وجوب عناية المسلم بشكر الله تعالى: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْـرَبَ الشَّرْبَـةَ، فَيَحْمَـدَهُ عَلَيْهَا[6].

 

سادسًا: الاهتمام بزيارة بيت الله الحرام:

يجب على المسلم أن يحرص كل الحـرص على زيارة بيت الله الحرام للحج أو العمرة، أو الزيارة؛ ليدخل في الدعوة المباركة لسيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وأزكى تسليم: ﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ [إبراهيم: 37].

 

وللشيخ السعدي رحمه الله في اختتام تفسير هذه الآية كلام جميلٌ يُكتَب بمداد من ذهب وهو: "وجعل فيه - يعني البيت الحرام - سرًّا عجيبًا جذابًا للقلوب، فهي تحجه ولا تقضي منه وطرًا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه، ازداد شوقه، وعظُم ولعُه وتوقُه، وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة".

 

وهذا واقع مشاهد وملموس لكل من تردَّد على البيت الحرام، فإذا دخله لا يريد الخروج منه، وكم أناس من أهل هذه البلاد المباركة، أو من المقيمين فيها، لا يغيب عن الحرم إطلاقًا، وقد يؤدي كل الصلوات فيه، على الرغم من مشاغله وتعدُّد أعماله. وربما بعدت المسافة بين مقر إقامته والحرم، لكنه الشوق والحنين والجاذبية العجيبة لبيت الله الحرام.

 

ويجب على الوالدين أن يحرصا كل الحرص على متابعة زيارة بيت الله الحرام، ويتأكد ذلك في حق مَن وفَّقه الله للسكن مجاورًا للحرم أو قريبًا منه، وأن يصطحبا أولادهما معهما للطواف، وأداء بعض الصلـوات المفروضة، والدعاء لأنفسهما، ولذريتهما، ففي ذلك خير عظيم لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى.

 

الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40].

وتتضمن الآية الكريمة توجيهين تربويين مهمين؛ هما: أهمية الدعاء للنفس أولًا وللذرية ثانيًا، والعناية بإقامة الصلاة والمحافظة عليها، وفيما يلي إشارة إليهما:

أولًا: أهمية الدعاء للنفس أولًا وللذرية ثانية:

من يستغني عن خالقه ورازقه ومدبر أمره؟! كلَّا، لا أحد البتةَ، فما أحوج الإنسان إلى الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة، فإذا حزبه أمر قام، فتوضَّأ، وصلى لله ركعتين، ودعا الله، وألَحَّ عليه، فإن الله لا يخيب رجاء من دعاه، فهو الكريم مجيب دعوة المضطرين إذا دعوه.

 

فيجب على الإنسان عند شروعه في الدعاء أن يحرص على الدعاء لنفسه أولًا بأن تكون نفسه صالحة مصلحة، مقيمة لحدود الله تعالى وفرائضه، ومن أهم فرائض الدين على الإنسان الصلاة.

 

والدعاء للنفس أولًا تكرر مرارًا في كثير من توجيهات القرآن الكريم، ومن ذلك قول الله تعالى على لسان أبينا إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41]، وقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ﴾ [نوح: 28].

 

وجاء في الحديث الشريف أهمية أن يبدأ الداعي بنفسه؛ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ[7].

 

ثانيًا: العناية بإقامة الصلاة والمحافظة عليها:

وسبق شرحُه في التوجيه الثاني من الآية الأولى في نفس السورة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

[1] (سنن أبي داود، حديث رقم: 1420، كتاب: الوتر، باب: فيمن لم يوتر).

[2] (سنن أبي داود، حديث رقم: 495، كتـاب: الصلاة، باب: متى يؤمر الغلام بالصلاة).

[3] (سنـن أبي داود، حديث رقم: 5156، كتاب: الأدب، بـاب: في حق المملوك ).

[4] (صحيح البخاري، حـديث رقم: 615، كتاب: الأذان، باب: الاستهام في الأذان).

[5] (صحيح مسلم، حديث رقم: 1688، كتـاب: صلاة المسافرين، بـاب: استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما).

[6] (صحيـح مسلــم، حديث رقم: 6932، كتاب: الذكر والدعاء، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب).

[7] (سنن الترمذي، حديث رقم: 3307، كتاب: الدعوات، باب: ما جاء أن الداعي يبدأ بنفسه).

 
 
فواصل لتزيين المواضيع
 

آيات الذرية في سورة الإسراء ومضامينها التربوية

 

 

 

 

الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3].

 

نستفيد من هذه الآية الكريمة توجيهين تربويين مهمين، هما: محبة الله تعالى لعباده الصالحين، واقتداء الأولاد بآبائهم في الخير، وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين:

أولًا: محبة الله تعالى لعباده الصالحين:

يحب ربنا جل وعلا عباده الصالحين، وفي مقدمتهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد مدح الله تعالى نبيه نوحًا عليه السلام بأنه ﴿ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3]؛ وعلى هذا فدوام العبودية الحقَّة لله تعالى، وشكر الله جل وعلا على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى، موصل للفوز بمحبَّته سبحانه وتعالى، وقد ورد في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَـا جِبْرِيلَ، فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا، فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَـاءِ، إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا، فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ))[1].

 

 

ثانيًا: اقتداء الأولاد بآبائهم في الخير:

من الطبيعي أن ينشأ الأولاد على ما يرون عليه آباءهم؛ لأن الوالدين هما أعظم قدوة في نظر الأبناء؛ لما للوالدين من محبة واحترام في نفوس الأولاد، فإذا كان الأبوان صالحين، فإن ذلك سيؤثِّر إيجابًا في سلوك أولادهم؛ فلذلك يجب على الآباء الحرص على ألَّا يرى أولادهم منهم، إلا كل تصرُّف رشيد، وألَّا يسمعوا إلا كل قول سديد، ولا يكون القول سديدًا، ولا التصرُّف رشيدًا ما لم يوافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وُفِّق الآباء لذلك، وجدوا ردود أفعال أولادهم بما يثلج صدورهم، وتقرُّ به أعينُهم بحول الله تعالى وقوَّته، ويحضرني قول أبي العلاء المعري:

وينشأ ناشئُ الفتيان منا space.gif
على ما كان عوَّده أبوهُ space.gif
وما دانَ الفتى بحجًى ولكن space.gif
يُعلِّمُهُ التديُّنَ أقربوهُ space.gif

 

 

الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 62].

 

أشارت هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة توجيهات تربوية مهمة؛ هي: الحوار أسلوب تربوي شرعي، وتحذير الأولاد من عداوة الشيطان المتأصلة لهم، وتحذير الأولاد من عداوة شياطين الإنس.

 

وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:

أولًا: الحوار أسلوب تربوي شرعي:

لا يخفى على ذي لُبٍّ أهميةُ التحاوُر بين الوالدين والأولاد، وخاصة في القضايا الساخنة والمهمة التي تحتاج إلى توضيح، وإقناع؛ لأنه قد يكون من الأولاد من يميل بطبعه إلى هذا الأسلوب، ولا يقبل التوجيه التقليدي، ولا يرضى التسليم بما يلقى على مسامعه، دون أن يكون هناك حوار، وأدلة مقنعة له في القضية المطروحة.

 

وقد يكون من الأولاد من يحيد عن الصراط المستقيم، ويكون في اتجاه معاكس لفكر الوالدين؛ إما بسبب سوء في تربية الوالدين له، أو بسبب مؤثِّرات خارجية في المجتمع: كالإعلام، والرفقة السيئة، أو قد يكون ابتلاء من الله تعالى للوالدين؛ لمحبته لهما؛ ولزيادة رفعتهما في الدنيا والآخرة؛ ولكن يجب على الوالدين والحالة هذه أن يستعينا أولًا وأخيرًا بالله تعالى، ويبذلا قصارى جهدهما في التحاور معه باللين، والرفق، والكلمة الطيبة، حتى لو اضطرهما الأمر إلى الاستعانة بالمتخصصين في مجال التوجيه والإرشاد الشرعي والنفسي؛ فإن لديهم من الأساليب المقنعة ما يكون سببًا لإصلاحه، إن شاء الله جل وعلا.

 

وهذا لا يعني عدم استخدام الحوار مع الأولاد المنضبطين في أقوالهم وأفعالهم؛ لأن الحوار وسيلة للإقناع، والتأثير في الآخر، وفي الوقت ذاته هو وسيلة للنقاش، وإثراء للمواضيع المراد التحاوُر حولها.

 

ثانيًا: تحذير الأولاد من عداوة الشيطان المتأصِّلة لهم:

إن عداوة الشيطان للإنسان ليست وليدةَ اليوم، وليس لها وقت محدد؛ وإنما هي قديمة قدم الحياة البشرية، بدأت منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام، وأمر الملائكة بالسجود له، فامتنع إبليس من ذلك؛ عصيانًا، واستكبارًا، وتمرُّدًا على الخالق جل وعلا، وهي مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 

وقد حذرنا الشارع الحكيم في كثير من الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية المطهرة من عداوة إبليس وخطورتها؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 11 - 17]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].

 

ومن الأحاديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ)) [2].

 

وقد حفظ الله تعالى عباده المخلصين من شرور الشيطان، واستثناهم الله عز وجل في قوله: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 42]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 65].

 

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ؛ أي: تسلط وإغواء؛ بل الله يدفـع عنهم - بقيامهم بعبوديته - كل شـر، ويحفظهم من الشيطان الرجيم، ويقـوم بكفايتهم، ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ لمن توكَّل عليه، وأدَّى ما أمر به.

 

ولذلك يجب على الوالدين تنبيه الأولاد على عداوة إبليس المتأصِّلة لهم؛ ليكونوا على حذر من نزغاته ووساوسه، بالاستعاذة منه، وبكثرة العبادة، والمحافظة على الصلوات، وقراءة القرآن الكريم، والأذكار الشرعية الصباحية والمسائية.

 

 

ولعل من أهم التوجيهات الشرعية لكفِّ أذى الشيطان الرجيم، التي يجب على العبد المسلم الأخذ بها: المداومة على قراءة آية الكرسي، وسورتي المعوذتين؛ لما ثبت في الحديث الشريف: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ))"[3].

 

وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَـالَ رَسُـولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ، لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقل أَعُوذُ بِـرَبِّ النَّـاسِ))؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 1891، كتاب: فضائل القرآن وما يتعلق به، باب: فضل قراءة المعوذتين).

 

وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: "بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ: إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ، وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وَيَقُولُ: ((يَا عُقْبَةُ، تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَـا))، قَـالَ: وَسَمِعْتُهُ يَؤُمُّنَـا بِهِمـَا فِي الصَّلَاةِ"[4].

 

 

ثالثًا: تحذير الأولاد من عداوة شياطين الإنس:

إن شياطين الإنس أشدُّ فتكًا، وأعظم خطرًا من شياطين الجن؛ لأن عداوتهم قد لا تكون ظاهرةً في الغالب، وهم كُثُر في هذه الأيام، ومنتشرون في كل مناحي الحياة؛ ولديهم من الأساليب، والـوسائل الخبيثة المتجددة، ما يستطيعون به الفتك بالناشئة والشباب، وإغوائهم، وإدخالهم في براثن الرذيلة والفجور، وربما أغووهم بما هو أخطر من ذلك؛ بإفساد أفكارهم، وانحراف توجُّهاتهم العقدية، ممَّا قد يُعرِّضهم إلى تدمير أنفسهم، وأسرهم، ومجتمعهم، وأُمَّتهم.

 

ولعل سائلًا يسأل: هل يوجد في الإنس شياطين؟ قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112].

 

 

يقول الإمام البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: إن هذه الآية فيها تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني: كما ابتليناك بهؤلاء القوم، فكذلك جعلنا لكـل نبي قبلك أعداء، ثم فسَّرهم فقال: ﴿ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ﴾، وإبليس جعل جنده فريقين: فبعث فريقًا منهم إلى الإنس، وفريقًا منهم إلى الجن، وكلا الفريقين أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولأوليائه، وهم الذين يلتقون في كـل حين، فيقول شيطان الإنس لشيطان الجـن: أضللت صاحبي بكـذا فأضـل صاحبك بمثله، وتقول شياطين الجن لشياطين الإنس كذلك، فذلك وحي بعضهم إلى بعض.

 

 

ويجب على الوالدين أخذ الحيطة والحذر من شياطين الإنس، وتحذير الأولاد من خطرهم وشدة عداوتهم، وبيان أساليبهم، ووسائلهم الخبيثة.

 

وختامًا:

لقد أمرنا ربنا تعالى بالتعوُّذ به سبحانه من الوسواس الخنَّاس، الذي يوسوس في صدور الناس، وأيضًا من الجنة ومن الناس، وذلك في آخر سورة من كتاب الله تعالى؛ وهي سورة الناس.

 

[1] صحيح مسلم، حديث رقم: 6705، كتاب: البر والصلـة، باب: إذا أحب الله عبدًا أمر جبريل فأحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض.

[2] صحيـح البخاري، حديث رقم: 2038، كتـاب: الاعتكاف، باب: زيارة المرأة زوجها في اعتكافه.

[3] صحيح البخاري، حديث رقم: 3275، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده.

[4] سنن أبي داود، حديث رقم: 1462، كتاب: الصلاة، بـاب: في المعوذتين.

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

آية الذرية في سورة الكهف ومضامينها التربوية

 

 

قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ [الكهف: 50].

 

 

أشارت هذه الآية الكريمة إلى توجيهين تربويين مهمين هما: تكريم الإنسان على غيره من المخلوقات، وتأصل عداوة الشيطان للإنسان، وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين:

 

أولًا: تكريم الإنسان على غيره من المخلوقات:

 

 

إن الإنسان المؤمن المطيع لربه مخلوق مُكَّرَم، بل هو أفضل المخلوقات؛ لسجود الملائكة له تعظيمًا وإكرامًا، وقد جاء هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].

 

 

 

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: "إن الله تعالى كرَّم بني آدم بجميع وجوه الإكرام، فكرَّمهم بالعلم والعقل، وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام، وإنـزال الكتب، وجعل منهم الأولياء والأصفياء، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة.

 

 

 

فيجب على الوالدين فَهْم هذه الحقيقة فهمًا واضحًا لا لبس فيه، وغرسها في نفوس أولادهم، وبالتالي التأكيد عليهم ببذل كامل الجهد في عبادة الله تعالى، وابتغاء مرضاته، واجتناب سخطه سبحانه وتعالى.

 

 

 

 

ثانيًا: تأصُّل عداوة الشيطان للإنسان:

 

 

إن تكرار هذا التوجيه مرارًا دلالةً على أهميته ومكانته في التحذير من عداوة الشيطان، وبيان خطره العظيم، وعداوة الشيطان للإنسان ليست وليدة اليوم، وليس لها وقت محدد، بل هي قديمة منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام، فامتنع إبليس من السجود له عصيانًا وتمردًا على الخالق جل وعلا، وهذه العداوة ستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 

 

 

وقد حذرنا الشارع الحكيم في كثير من الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية المطهرة منه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَـكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾، [الأعراف: 11، 17] وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].

 

ومن الأحاديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ"[1].

 

وقد حفظ الله تعالى عباده المخلصين من شر الشيطان، واستثناهم الله عز وجل في قوله: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 42]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 65].

 

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ؛ أي: تسلط وإغواء، بل الله يدفـع عنهم - بقيامهم بعبوديته - كلَّ شـر، ويحفظهم من الشيطان الرجيم، ويقـوم بكفايتهم، ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ لمن توكَّل عليه، وأدَّى ما أمر به.

 

 

 

ولذلك يجب على الوالدين تنبيه الأولاد على عداوة إبليس المتأصلة لهم، فيكونوا على حذَّر من نزغاته ووسوسته بالاستعاذة منه، وبكثرة العبادة والمحافظة على الصلوات، وقراءة القرآن الكريم، والأذكار الشرعية الصباحية والمسائية.

 

 

 

ولعل أهم التوجيهات الشرعية لكف أذى الشيطان الرجيم التي يجب على العبد المسلم الأخذ بها هي: المداومة على قراءة آية الكرسي، وسورتي المعوذتين، لما ثبت في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ[2].

 

وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَـالَ رَسُـولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقل أَعُوذُ بِـرَبِّ النَّـاسِ).[3]

 

 

 

وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وَيَقُولُ يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَـا، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَؤُمُّنَـا بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ[4].

 

 

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 


[1] صحيـح البخاري، حديث رقم: 2038، كتـاب: الاعتكاف، باب: زيارة المرأة زوجها في اعتكافه.

[2] صحيح البخاري، حديث رقم: 3275، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده.

[3] صحيح مسلم، حديث رقم: 1891، كتاب: فضائل القرآن وما يتعلق به، باب: فضل قراءة المعوذتين.

[4] سنن أبي داود، حديث رقم: 1462، كتاب: الصلاة، بـاب: في المعوذتين.

 

fu6qt0pomif.png&key=1c890ec74a597eb20091

 

آيات الذرية في سورتي مريم ويس ومضامينها التربوية

 

سورة مريم:

 

قال الله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58].

 

نستفيد من هذه الآية الكريمة توجيهًا تربويًّا مهمًّا، وهو إنعام الله للطائعين من عباده، فإن من نعم الله تعالى على عباده الطائعين له أن يُخَلِّدَ ذكرهم الحسن بين الناس، فكل من يَذْكُرْهُم في الحاضر والمستقبل يترضى عليهم، ويدعو لهم بالرحمة، والعفو، والمغفرة، ولا شك أن ذلك لا يتأتى إلا للمخلصين من عباده الذين ساروا على نهجه وتبعوا صراطه المستقيم.

 

وهذا التوجيه تراه ماثلًا أمامك اليوم في سيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بسيرته وذكره تنشرح الصدور، بل الصلاة والسلام عليه من أجل وأعظم القربات لله تعالى وبها تغفر الذنوب، وتفرج الهموم؛ كما جـاء في الترمذي وغيره عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَـالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقـَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي، فَقَالَ: مَا شِئْتَ، قَـالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ، قَالَ: مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ، قَالَ: مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: أَجْعَـلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا، قَـالَ: إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ "[1].

 

وإذا نظرت إلى سيرة عباد الله الصالحين العاملين سواء من السلف، أو الخلف - تجد ذكرهم قد ملأ الأرض والسماء أريجًا فواحًا يحمد لهم الناس ما فعلوه من جهود علمية أو عملية خدمة دينهم وأمتهم.

 

وإنني أُثَنِّي على قول الشاعر:

فارفع لنفسك بعد موتك ذِكرها *** فالذكر للإنسان عمر ثانِ

 

سورة يس:

قال الله تعالى: ﴿ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾ [يس: 41].

يستفاد من الآية الكريمة توجيه تربوي مهم، وهو حفظ الذرية بصلاح آبائهم.

 

إن صلاح الوالدين له بركاته في الدنيا والآخرة على نفس الإنسان بالدرجة الأولى، في الدنيا يرزقه الله تعالى زوجة صالحة ورزقًا واسعًا، وذرية مباركة، ومنزلًا واسعًا رحبًا، وثناءً حسنًا وذكرًا جميلًا.

 

وهذا يؤكده ما جاء في قصة الخضر مع نبي الله موسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام عند قتل الخضر للغلام، واعتراض موسى عليه السـلام على فعله؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 80، 81].

 

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: وكان ذلك الغلام قد قُدِّر عليه أنه لو بَلَغَ لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا؛ أي: لحملهمـا على الطغيان والكفـر، إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه يحملهما على ذلك؛ أي: فقتلتُه، لاطلاعي على ذلك؛ سلامةً لدين أبويـه المؤمنين، وأي فائـدة أعظم مـن هـذه الفائـدة الجليلـة؟ وهـو وإن كـان فيـه إساءة إليهمـا، وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سـيعطيهما مـن الذرية ما هو خـير منـه، ولهـذا قال: ﴿ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمـًا ﴾؛ أي: ولدًا صالحًا زكيًّا، واصلًا لرحمه، فإن الغلام الذي قُتل لو بلغ لعقهما أشدَّ العقوق بحملهما على الكفر والطغيان.

 

وإن الإنسان المسلم كلما ترقى في صلاحه وتقواه وورعه، نال من الله الدرجات العلا في الدنيا، وما أعده الله تعالى للصالحين من عباده في الآخرة أشد وأعظم، فحينئذ يجب على المسلم الحرص الشديد على طاعة ربِّه، والتزام أوامره واجتناب نواهيه.

 


[1] ( سنن الترمذي، حديث رقم: 2457، كتاب: صفة القيامة، باب: في الترغيب في ذكر الله وذكر الموت آخر الليل وفضل إكثار الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ).

 

 
fu6qt0pomif.png&key=1c890ec74a597eb20091
 

آية الذرية في سورة الفرقان ومضامينها التربوية

 

قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].

 

نستفيد من هذه الآية الكريمة توجيهات تربوية مهمة؛ منها: أهمية الدعاء المستمر للذرية، والسعي لنيل الدرجات العالية، وعلو الهمة، وأهمية القدوة الحسنة في التربية، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:

 

 

أولًا: أهمية الدعاء المستمر للذرية:

إن الدعاء عبادة عظيمة يتجلى فيها الافتقار والخضوع، والحاجة لله جل وعلا، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلـم قولـه: "الدعاء هو العبادة"؛ (سنن أبي داود، حديث رقم 1479، كتاب: الوتر، باب: الدعاء)، وقـال رسول الله صلى الله عليـه وسلم: "لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِخَطِيئَةٍ يَعْمَلُهَا"؛ (سنن ابن ماجـه، حديث رقم: 90، كتاب: السنة، باب: في القدر).

 

وإن الله تعالى لا يرد من دعاه وتوجـُّه إليه، فهو الكريم الجواد اللطيف بعباده، وقد تأكد ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، فالأهم أن ندعو الله تعالى ونصدق معه، فالإجابة مضمونه؛ لأنه سبحانه وعد بهـا، ومن أصدق من الله تعالى وعدًا ووفاءً.

 

إن أفضل ما يدعو به الإنسان المسلم هو أن يكون من الموحدين لله تعالى قولًا، وسلوكًا، وأن يتعدى هذا الدعاء إلى صلاح الذرية؛ لأن صلاحهم مطلب كل والدين ينشدان الخير، والاستقامة لأولادهم، وأولاد أولادهما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 

ولقد سمعت أذناي أكثر من مرة آباءً يدعون لأولادهم بالهداية والصلاح بعد أن تلقفتهم الشهوات، وأصدقاء السوء، والعياذ بالله، فانحرفوا عن جادة الطريق، وبعد مناجاة وإلحاح وقُرب من الله تعالى، رأيت هؤلاء الأولاد وقد عادوا إلى الطريق المستقيم، فحافظوا على الصلوات، وبروا والديهم، ووصلوا أرحامهم، وأكملوا مشوارهم العلمي والعملي؛ فاحرص أيها الأب وأيتها الأم على هذا التوجيه المبارك، فله من الخير والبركة ما لا يخطر في بالكما.

 

 

ثانيًا: السعي لنيل الدرجات العالية:

إن الدعاء مهم جدًّا، ولكنه وحده لا يكفي لبلوغ المطالب والدرجات العليا؛ إذ لا بد من الصبر واليقين، وخصوصًا في المطالب العليا؛ كالإمامة في الدين التي ورد ذكرها في الآية الكريمة المشار إليها، ويقاس عليها كل أمر رفيع المستوى لا يتم الوصول إليه إلا بالسعي والصبر واليقين، وقد تأكد هذا المعني أيضًا في قول الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].

 

ويقول الشيخ السعـدي رحمه الله: وإنما نالوا هـذه الدرجة العالية - الإمامة في الدين - بالصبر على التعلم والتعليم، والدعوة إلى الله، والأذى في سبيله، وكفوا أنفسهم عن جماحها في المعاصي، واسترسالها في الشهوات، ووصلوا في الإيمان بآيات الله إلى درجة اليقين، وهو العلم التام الموجب للعمل، وإنما وصلوا إلى درجة اليقين؛ لأنهم تعلموا تعلـمًا صحيحًا، وأخـذوا المسائل عن أدلتها المفيدة لليقين، فما زالوا يتعلمون المسائل، ويستدلـون عليها بكثرة الدلائل، حتى وصلوا لذاك، فبالصبر واليقين تُنَالُ الإمامة في الدين.

 

وقريبًا من هذا المعنى صاغ أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله قوله:

وما نيلُ المطالب بالتمني space.gif
ولكن تؤخَذ الدنيا غِلابا space.gif
وما استعصى على قوم منالٌ space.gif
إذا الإقدام كان لهم رِكابا space.gif

 

ثالثًا: علو الهِمة:

إن هذا التوجيه التربوي العظيم يتأكد في الكثير من توجيهات الشارع الحكيم، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَـلَ الشَّيْطَانِ"[1].

 

وقـول رسول صلى الله عليـه وسلـم: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا"[2].

 

وهنا أورد موقفـًا عظيمًا لأحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبين علو الهمة عند الصحابة رضوان الله عليهم، فعن كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ رَضْي الله عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْـهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: سَلْ، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ[3].

 

 

وهذا الحديث الشريف يؤكد أمرين مهمين؛ هما:

الأول: علو الهمة، ويتضح من طلب الصحابي الجليل كعب الأسلمي رضي الله عنه مرافقة الرسول صلى عليه وسلم في الجنة، فلم يطلب عَرَضًا من الدنيا الفانية: أموال عينية، أو نقدية، بل طلب ما هو أفضل وأدوم، وأي طلب أعظم وأشرف من مرافقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة.

 

الثاني: هذا الطلب العظيم الشريف لا يتأتى بالأماني والأحلام، بل ثمنه هو طاعة الله تعالى وابتغاء مرضاته، ومن خلال أعظم وأشرف عبادة، وهي السجود لله تعالى والإكثار منه، ولذلك ينبغي أن تكون همة المسلم دائمًا عالية جدًّا، وأن يعمل بجد ومثابرة للوصول إلى مبتغاة، وإن ضعفت همتُه وقصَّر عن العمل والجد والتحفز لطلب معالي الأمور، فحاله يقف نقطة واحـدة لا تَغَيُّر ولا تَجْدِيد إن لم يكن تراجعًا وتخلفًا، وهنا يحضرني قول الشاعر:

ومن لا يحب صعودَ الجبالِ *** يعشْ أبد الدهرِ بين الحفرْ

 

وقول الآخر:

لا تحسبِ المجد تمرًا أنت آكله *** لن تبلغَ المجد حتى تلعقَ الصبرا

 

وهذه التوجيهات العظيمة يجب على الوالدين غرسها في نفوس أولادهم؛ لتَعلو هممُّهم، وينشدون الأعلى من القيم والمبادئ والأخلاق والسلوكيات، شريطة أن يكون ذلك منضبطًا بضوابط الشرع الحنيف، فلا ضرر ولا ضرار.

 

ولا يفوتني هنا أهمية التذكير بدور مؤسسات التربية الأخرى، فهي مكملة لدور الوالدين، فيجب أن تكون هناك توجيهات وإرشادات، وعرض نماذج لعلو الهمة من السلف والخلف لشَحْذ هِمم الناشئة والشباب لمواجهة الزحف الإعلامي الكبير، وما يعرضه من نماذج سيئة تكرِّس مفهومات تافهة أثَّرت على سلوكيات بعض شبابنا، وجعلتهم لا يفكرون إلا في أمور سطحية لا تنمي فكرًا ولا توجد إبداعًا، ولا تهيئ شبابًا يُعَوَّلَ عليه في بناء أمة لها تاريخها ومجدها وحضارتها.

 

 

رابعًا: أهمية القدوة الحسنة في التربية:

من الأساليب المهمة والمفيدة في التربية: القدوة الحسنة، ولقد بيَّن القرآن الكريم المثال والأسوة الحسنة للمسلمين، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، وقد أشارت الآية الكريمة (الفرقان:74) إلى أهمية القدوة الحسنة من خلال حـرص المسلم على العمل والجد والاجتهاد، وأن تكون أقواله وأفعاله متفقة وتوجيهات الشريعة أمرًا ونهيًا؛ ليكون قدوة للمتقين، فينال بذلك درجـة الإمامة وحسن الاقتداء والأجر العظيم والمثوبة مـن الله لمن اقتـدى به، فقـد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَـا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ"[4].

 


[1] (صحيـح مسلم، حديث رقم: 6774، كتاب: القدر، باب: الإيمان بالقدر والإذعان له).

[2] ( المعجـم الكبير للطبراني، حديث رقم: 2826 ).

[3] ( صحيح مسلم، حديث رقم: 1094، كتاب: الصلاة، باب: فضل السجود والحث عليه).

[4] ( صحيح مسلم، حديث رقم: 6800، كتاب: العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة).

 
 

د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي

 

شبكة الالوكة

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

آية الذرية في سورة العنكبوت ومضامينها التربوية

 

 

قال الله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]، ونستفيد من توجيهات هذه الآية:

 

ثواب صلاح الوالدين في الدنيا:

إن صلاح الوالدين له بركاته في الدنيا والآخرة على نفس الإنسان بالدرجة الأولى، فأما في الدنيا فإن الله جل وعلا يرزقه زوجة صالحة، ورزقًا واسعًا، وذرية مباركة، وثناءً حسنًا، وذكرًا جميلًا، وهذا يؤكده ما جاء في قصة الخضر مع نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، عند قتل الخضر الغلام، واعتراض موسى عليه السـلام على فعله؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 80، 81].

 

يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: وكان ذلك الغلام، قد قُدِّر عليه، أنه لو بَلَغَ لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا؛ أي: لحملهمـا على الطغيان والكفـر؛ إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه يحملهما على ذلك؛ أي: فقتلته، لاطلاعي على ذلك؛ سلامةً لدين أبويـه المؤمنين، وأي فائـدة أعظم مـن هـذه الفائـدة الجليلـة؟ وهـو وإن كـان فيـه إساءة إليهمـا، وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سـيعطيهما مـن الذرية ما هو خـير منـه، ولهـذا قال: ﴿ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾؛ أي: ولدًا صالحًا، زكيًّا، واصلًا لرحمه، فإن الغلام الذي قُتل لو بلغ لعقهما أشدَّ العقوق بحملهما على الكفر والطغيان.

 

وإن الإنسان المسلم كلما ترقى في صلاحه وتقواه وورعه، نال من الله الدرجات العلا في الدنيا، وما أعده الله تعالى للصالحين من عباده في الآخرة أعلى وأعظم، فحينئذ يجب على المسلم الحرص الشديد على طاعة ربه، والتزام أوامره واجتناب نواهيه.

 

ثواب صلاح الوالدين في الآخرة:

إن ثواب صلاح الإنسان في الآخرة، يكون بأن يرفع الله درجته؛ ليكون مع أفضل خلق الله تعالى؛ مصداقًا لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].

 

ولا شك أن هذه الكوكبة النيِّـرة من عباد الله تعالى الصالحين، يتقدمهم صفوة الخلق: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، في أفضل إنعام وأرقى درجات الجنان التي أعدها الله تعالى لهم، ولذلك يجب على الإنسان المسلم أن يحرص على صلاح نفسه أولًا باتباع هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والبعد كل البعد عن أسباب الغواية؛ من تحكيم شهواته، والحذر من الشبهات التي هي أسباب كل شر، والعياذ بالله، ثم إن هذا الصلاح للنفس - كما هو واضح من الشواهد الشرعية المشار إليها - سبيل صلاح الذرية بعون الله وتوفيقه.

 

fu6qt0pomif.png&key=1c890ec74a597eb20091

 

آية الذرية في سورة غافر ومضامينها التربوية

 

 

قال الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [غافر: 8].

 

تتضمن الآية الكريمة - وما سبقها وتلاها - توجيهين تربويين مهمين؛ هما: التوبة الصادقة نجاة للعبد في الدنيا والآخرة، والبشارة بزيادة الثواب العظيم للتائبين الصالحين، وفيما يلي عرض لهما:

 

أولًا: التوبة الصادقة نجاة للعبد في الدنيا والآخرة:

 

هذه الآية الكريمة جاءت في سياق التوبة لمن أسرف على نفسه في المعاصي والذنوب - وإن عظُمت - فإن الله يقبل التوبة من عباده إذا صدقوا فيها، ونهجوا طريق الصلاح والتقوى والعمل الصالح، وختم الله تعالى حياتهم وهم على ذلك، فيكون جزاؤهم عند الله عظيمًا، وهو إدخالهم جنات دائمة التي هي رجاء كل مسلم وأمله وطموحه؛ بل إن دعاءنا كله يتمحور حولها، وقد جاء في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ((كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: أَتَشَهَّدُ، وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَعُـوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، أَمَا إِنِّي لا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ، وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ))[1].

 

 

 

 

 

ثانيًا: البشارة بزيادة الثواب العظيم للتائبين الصالحين:

 

إن مَن أخلص في توبته ونهج طريق الاستقامة؛ فإن الله تعالى - بفضله ورحمته - يزيد في إكرامه، بأنه جل وعلا سيُلْحِق به من صلح في إيمانه وعمله من آبائه وأزواجه وأولاده.

 

 

 

ومما أورد القرطبي رحمه الله عند تفسير هذه الآية قوله: "قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: يدخل الرجل الجنة فيقول: يا رب، أين أبي وجَدِّي وأمي؟ وأين ولدي وولد ولدي؟ وأين زوجاتي؟ فيُقال: إنهم لم يعملوا كعملك، فيقول: يا رب، كنت أعمل لي ولهم، فيُقـال: أدخلهـم الجنـة، ثم تلا: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [غافر: 7، 8].

 

 

 

وقد أشارت الآية الكريمة هذه إلى أسلوب تربوي هو: البشارة بمضاعفة وزيادة الأجر للعاملين، وهو أسلوب تحتاجه النفس البشرية في مختلف المراحل العمرية، وفي مختلف المجالات الحياتية؛ فعلى المعنيِّين بهذه المجالات الأخذ بهذا الأسلوب القرآني، وسيجدون بإذن الله تعالى فوائده العظيمة في: مضاعفة الجهد، وزيادة الإنتاج من العامليـن.

 

 


[1] (سنن أبي داوود، حديث رقم: 792، كتاب الصـلاة، باب في تخفيف الصلاة).

 
fu6qt0pomif.png&key=1c890ec74a597eb20091
 

آية الذرية في سورة الأحقاف ومضامينها التربوية

قال الله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].

 

 

 

نستفيد من هذه الآية الكريمة مجموعة من التوجيهات التربوية المهمة وهي: الحرص على بر الوالدين، وأهمية التهيؤ والحذر لمن بلغ سن الأربعين، وأهمية صلاح الـوالدين، والتوبة والإنابة إلى الله من المعاصي والذنوب، والدعاء بصلاح الأولاد، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:

 

 

أولًا: الحرص على بر الوالدين:

 

الأخذ بوصية الله تعالى بالحرص الشديد على بر الوالدين بكل وسيلة من وسائل البر: بتأمين حوائجهم، والتلطف معهم في الحديث؛ نظير ما عانوه من مشقة في تربية الأولاد.

 

 

 

وهذا الموضوع مما اهتمت به الشريعة الإسلامية اهتمامًا كبيرًا في الكثير من التوجيهات: في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، قال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23].

 

 

 

يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: "أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بإخلاص العبادة له وحده، وقرن بذلك الأمـر بالإحسان إلى الوالدين، وجعل بر الوالدين مقرونًا بعبادته وحده جل وعــلا، والمذكور هنا ذَكَره في آيات أُخَرَ، وهي: قوله تعالى في: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [البقرة: 83]، وقوله تعـالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]، ويضيف الشيخ الشنقيطي القول: "إن الله تعالى بيَّن في موضع آخر أن برَّهما لازمٌ، ولو كانا مشركين داعيين إلى شركهما؛ كقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]، وقوله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ [العنكبوت: 8]، ثم يختم ذلك بقوله: "وذِكرُ الله تعالى في هذه الآيات بر الوالدين مقرونًا بتوحيده جل وعلا في عبادته - يدل على شدة تأكد وجوب بر الوالدين".

 

ومن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم بالوالدين ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحُسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك))[1].

 

 

وهذا الموضوع المهم للغاية لا يكاد يخلو منه كتاب من كتب الحديث، أو كتب الأدب والتربية قديمًا وحديثًا، بل إنهم يضعونه في أول الموضوعات؛ لمكانته وأهميته، ما يدل على أنه تجب العناية بهذا الموضوع من قِبل المؤسسات التربوية المختلفة، وغرسه في نفوس الناشئة والشباب، وبيان خطورة عقوق الوالدين، وأنها من كبائر الذنوب التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك باللـه، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فمـا زال يقولهـا حتـى قلت: لا يسكت))[2].

 

 

ثانيًا: أهمية التهيؤ والحذر لمن بلغ سن الأربعين:

 

تمضي بالإنسان السنون، وهو لا يشعر بها في كثير من الأحيان، وهو يُسوِّف بالاستقامة والعمل الصـالح، وهذا التسويف لا يجدي ألبتة؛ لأن الإنسان لا يعلـم متى يحين أجله؛ فالأجـل يأتي بغتة، وقد يكون في العمر متسع للتوبة النصوح وقد لا يكون، أما إذا أكرمه الله وبقي حتى سن الأربعين - وهي أشد المراحل العمرية أهمية؛ لبلوغ الإنسان فيها مرحلة النضج العقلي، الذي به يستطيع التمييز بين مـا يصلح له وما لا يصلح - فمن أعظم المصائب أن يبلغ الإنسان هذه السن دون أن يصحو من سكرته، ويفيق من غفوته، ويتوب إلى ربه قبل نزول الموت به.

 

 

 

فإذا بلغ الإنسان الموفَّق الأربعين من عمره، طلب من الله أن يوفقه لشكر النعم عليه وعلى والديه، ونعم الإله جل وعلا على العباد كثيرة ووفيرة لا تعد ولا تحصى، فالمراد من الآية موضوع البحث الحث على شكر النعم، والإقرار للمنعم بها، والقيام بحق شكر الله سبحانه فيها، كما قال تعالى عن نبي الله سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19].

 

 

ثالثًا: أهمية صلاح الوالدين:

 

إن صلاح الوالدين له بركاته في الدنيا والآخرة على نفس الإنسان بالدرجة الأولى، فأما في الدنيا، فبالزوجة الصالحة، والرزق الواسع، والذرية المباركة، والمنزل الواسع، والثناء الحسن، والذكر الجميل.

 

 

وهذا يؤكده ما جاء في قصة الخضر مع نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 80، 81].

 

 

 

يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وكان ذلك الغلام قد قُدِّر عليه أنه لو بلغ لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا؛ أي: لحملهمـا على الطغيان والكفـر، إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه يحملهما على ذلك؛ أي: فقتلته؛ لاطلاعي على ذلك؛ سلامة لدين أبويـه المؤمنين، وأي فائـدة أعظم مـن هـذه الفائـدة الجليلـة؟ وهـو وإن كـان فيـه إساءة إليهمـا وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سـيعطيهما مـن الذرية ما هو خـير منـه؛ ولهـذا قال: ﴿ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 81]؛ أي: ولدًا صالحًـا، زكيًّا، واصلًا لرَحِمه، فإن الغلام الذي قُتل لو بلغ، لعقَّهما أشد العقوق؛ بحملهما على الكفر والطغيان".

 

 

 

وإن الإنسان المسلم كلما ترقى في صلاحه وتقواه وورعه، نال من الله الدرجات العلا في الدنيا، وما أعده الله تعالى للصالحين من عباده في الآخرة أعلى وأعظم؛ فحينئذ يجب على المسلم الحرص الشديد على طاعة ربه والتزام أوامره واجتناب نواهيه.

 

 

رابعًا: التوبة والإنابة إلى الله تعالى من المعاصي والذنوب:

 

لا يوجد إنسان لا يخطئ ويذنب - ما عدا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فقد عصمهم الله من الخطأ والزلل - وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقـال: ((كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون))؛ سنن الترمذي، حديث رقم: 2499، كتاب: صفة القيامة، باب: في استعظام المؤمن ذنوبه.

 

 

والمضامين الشرعية من القرآن الكريم والسنة المطهرة في هذا الموضوع كثيرة جدًّا، وليس هذا مجال بسطها، ولكن هدفنا هنا التذكير بأهمية التوبة والاستغفار في حياة المسلم، فالله تعالى تواب رحيم يقبل توبة عباده، ويفرح بها سبحانه وتعالى مهما بلغت درجة ذنوبهم وعصيانهم، ولعل ذكر شيء من المضامين الشرعية التي تحض على التوبة يذكرنا والقارئ الكريم بأهميتها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8]، وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأَيِسَ منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخِطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح))؛ صحيح مسلم، حديث رقم: 6960، كتاب: التوبـة، باب: في الحض على التوبة والفرح بها.

 

 

وإنني أؤكد هنا تأكيدًا جازمًا أن مَن كان بالله أعرف،كان منه أخوف؛ فمن عرف الله حق المعرفة بأنه الخالق، المدبر، القادر، الغفور الرحيم، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، بيده ملكوت السماوات والأرض، إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، فلن يجرؤ إنسان - كائنًا من كان - على عصيانه، بل يكون شديد الحرص على كسب مرضاته وطاعته، وإن عرض له عارض من زلة أو معصية، تذكَّر الله تعالى فعاد إليه فورًا تائبًا نادمًـا، قـال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].

 

 

خامسًا: الدعاء بصلاح الأولاد:

 

إن الدعاء عبادة عظيمة يتجلى فيها الافتقار والخضوع والحاجة لله جل وعلا، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلـم قولـه: ((الدعاء هو العبادة))؛ سنن أبي داود، حديث رقم 1479، كتاب: الوتر، باب: الدعاء - ثم إن الدعاء بحـول الله تعالى يرد الشر، ويستعجل الخير، قـال رسول الله صلى الله عليـه وسلم: ((لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليُحرم الرزق بخطيئة يعملها))؛ سنن ابن ماجـة، حديث رقم: 90، كتاب: السنة، باب: في القدر.

 

 

 

وإن الله تعالى لا يرد من دعاه وتوجـه إليه بصدق؛ فهو الكريم الجواد اللطيف بعباده، وقد تأكد ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

 

 

فالأهم أن ندعو الله تعالى، ونصدق في دعائه، فالإجابة مضمونة؛ لأنه سبحانه وعد بهـا، ومَن أصدق من الله تعالى وعدًا ووفاءً؟

 

وأفضل ما يسأله المسلم من ربه جل وعلا أن يجعله من الموحدين له تعالى قولًا وسلوكًا، وأن يسأل ربه جل وعلا صلاح ذريته؛ لأن صلاحهم مطلب كل والدين ينشدان الخير، والاستقامة لأولادهم وأولاد أولادهم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 

ولقد سمعت أذناي أكثر من مرة آباء يدعون لأولادهم بالهداية والصلاح بعد أن تلقفتهم الشهوات، وأصدقاء السوء والعياذ بالله؛ فانحرفوا عن جادة الطريق، وبعد مناجاة وإلحاح وقرب من الله تعالى، رأيت هؤلاء الأولاد قد عادوا إلى الطريق المستقيم؛ فحافظوا على الصلوات، وبروا والديهم، ووصلوا أرحامهم، وأكملوا مشوارهم العلمي والعملي.

 

 

فاحرص أيها الأب وأيتها الأم على هذا التوجيه المبارك؛ فله من الخير والبركة ما لا يخطر في بالكما.

 

ونضيف إلى ما سبق قصة أوردها الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره تُبيِّن أهمية الدعاء بعامة، والدعاء بهذه الآية بخـاصة، فقال: "قال مالك بن مغول[3]: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مُصرف[4]، فقال: استعنْ عليه بهذه الآية وتلا: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15]".

 


[1] صحيح مسلم، حديث رقم: 6500، كتاب: البر والصلة والأدب، باب: بر الوالدين وأيهما أحق.

[2] صحيح البخاري، حديث رقم: 5976، كتاب: الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر.

[3] محـدث، ثقة، ثبت، انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي.

[4] تابعي، يسمى: سيد القراء، انظر: طبقات القراء لابن الجزري.

 

 

 

fu6qt0pomif.png&key=1c890ec74a597eb20091

 

آية الذرية في سورة الطور ومضامينها التربوية

قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْبِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾ [الطور: 21].

 

نستفيد من هذه الآية الكريمة توجيهات تربوية؛ منها: أهمية الإيمان والعمل الصالح، وبشارة أهل الجنة بزيادة نعيمهم، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:

 

 

أولًا: أهمية الإيمان والعمل والصالح:

 

إن فضل الله تعالى واسع ليس له حدود، ومن سنن الله تعالى أن جعل رضوانه وجنته لمن آمن أولًا وعمل صالحًا ثانيًا، وعلى هذا الأساس يكون تفاضل الناس يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156]، ومما يشير إليه الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية أن رحمة الله تعالى في الآخرة قريبة للمتقين صغائر الذنوب وكبائرها، والذين يؤدون الزكاة الواجبة، والذين يؤمنون بآيات الله، ومن تمام الإيمان بآيات الله معرفة معناها والعمل بمقتضاها، ومن ذلك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا، في أصول الدين وفروعه، ولذلك يجب على المسلم أن يهتم بالعمل الصالح، وقد قرن الله تعالى بين الإيمان والعمل في أكثر من خمسين آية؛ منها: قول الله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 277]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، وقال تعـالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [هود: 23].

 

 

ثانيًا: بشارة أهل الجنة بزيادة نعيمهم:

 

إن من رحمة الله جل وعلا بعباده - وقد علم قوة ولع الوالدين بأبنائهم، وشدة تعلق الأصول بالفروع، وحرصهم على القرب منهم - أنه قد وعد الصالحين من عباده، المؤدين أوامره، المجتنبين نواهيه، إضافة إلى تكرُّمِه تعالى بإدخالهم جنانه ذات النعيم المقيم - وعدهم بأن تكون ذرياتهم معهم في الجنة، ولكن شريطة صلاحهم، وتأديتهم لما فُرض عليهم من حقوق وواجبات.

 

وأورد ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه"، وهذا التوجيه يؤكد لنا أمرين مهمين هما:

 

أولًا: تحفيز الوالدين بزيادة العمل الصالح والقرب من الله تعالى؛ فإن ذلك مردوده عليهم عظيم، وأي فضل أعظم من أن تكون مع الإنسان ذريته في الآخرة؟ حتى ولو لم تعمل ذريته نفس عمل الأب، ولكن بصلاح الأب ارتفعت الذرية في الجنة.

 

 

ثانيًا: بذل مزيد من الجهد والعناية في تربية الأولاد، والمحافظة عليهم، وحسن رعايتهم رعاية تحفظ عليهم دينهم وأخلاقهم؛ لأن ذلك سيكون سببًا في سعادتهم بهم في الدنيا، كما سيكون سببًا في سعادتهم بهم أكثر في الآخرة، نسأل الله تعالى من فضله.

 

 

فيا أيها الآباء والأمهات، هلا بذلتم مزيدًا من العمل الصالح، ومزيدًا من العناية في تربية أولادكم تربية إسلامية صحيحة؛ لتحصلوا على هذه البشرى العظيمة، والجائزة الثمينة من الله تعالى.

 

 

وقفة:

عدم تواكل الأولاد على الآباء:

 

إن تواكل الأولاد على الآباء له مخاطر جسيمة على الآباء من جهة، وعلى الأولاد أنفسهم من جهة ثانية، فأما مخاطره على الآباء، فيكون بعدم قيام الأولاد ببرهم في وقت حاجتهم لهم، وأما خطره على الأولاد، فقد يكون سببًا في عجزهم وقصورهم عن أداء أي عمل نافع لهم، وقد يكون سببًا لانحرافهم وإسرافهم على أنفسهم بالمعاصي والذنوب؛ ما قد يؤدي إلى هلاكهم في الدنيا والآخرة، ولذلك ينبغي على الآباء العناية التامة بغرس الإيمان في نفوس أولادهم، فهو الحصن الحصين للمسلم من الزيغ والانحراف، وذلك بتربيتهم التربية الإسلامية السليمة القائمة على مخافة الله تعالى، وعلى أداء فرائضه، واجتناب نواهيه.

 

د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي

شبكة الالوكة

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

آية الذرية في سورة الحديد ومضامينها التربوية

قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 26].

 

نستفيد من هذه الآية الكريمة توجيهات تربوية عديدة؛ منها: تفاضل متبعي الهدي بعضهم على بعض، وأن في صلاح الآباء بركة لأولادهم، واختلاف الناس في تقبلهم للهداية، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:

أولًا: تفاضل متبعي الهدي بعضهم على بعض:

كما أن الله تعالى فاضل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم خيرة خلقه؛ قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253] - فقد فاضل سبحانه وتعالى بين عباده المؤمنين ممن أورثهم الكتاب؛ فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهـم سابق بالخيرات؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32]، وكذلك فاضل الله تعالى بين الناس في أرزاقهم ومعيشتهـم؛ فقـال تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]؛ يقول الإمام البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: "﴿ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾: بالغنى والمال، ﴿ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ﴾: ليستخدم بعضهم بعضًا، فيُسخِّر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش، هذا بماله، وهذا بأعماله، فيلتئم قوام أمر العالم".

 

وقد ورد في الحديث عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن فقراء المهاجرين أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدُّثُورِ بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتقون ولا نُعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلِّمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم؟ ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسول الله قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُرَ كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشـاء))[1].

 

ولهذا؛ يجب على الإنسان المسلم بذل كل طاقته ووسعه في طاعة ربه سبحانه وتعالى، وليعلم أن لله سبحانه وتعالى حِكَمًا في خلقه، لا يعلمها إلا هو جل وعلا؛ ففي الحديث القدسي عن أبي هريرة: ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن؛ يكره الموت، وأنا أكره مساءته))[2].

 

ثانيًا: صلاح الآباء بركة لأولادهم:

إن صلاح الوالدين له بركاته في الدنيا والآخرة على نفس الإنسان بالدرجة الأولى، فأما في الدنيا، فربما يُرزق زوجة صالحة، ورزقًا واسعًا، وذرية مباركة، ومنزلًا واسعًا رحبًا، وثناءً حسنًا، وذكرًا جميلًا؛ وهذا يؤكده ما جاء في قصة الخضر مع نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، عند قتل الخضر الغلام، واعتراض موسى عليه السـلام على فعله؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 80، 81]؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وكان ذلك الغلام قد قُدِّر عليه أنه لو بلغ، لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا؛ أي: لحملهمـا على الطغيان والكفـر؛ إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه يحملهما على ذلك؛ أي: فقتلته؛ لاطلاعي على ذلك؛ سلامة لدين أبويـه المؤمنين، وأي فائـدة أعظم مـن هـذه الفائـدة الجليلـة؟ وهـو وإن كـان فيـه إساءة إليهمـا، وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سـيعطيهما مـن الذرية ما هو خـير منـه؛ ولهـذا قال: ﴿ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾؛ أي: ولدًا صالحـًا زكيًا، واصلًا لرحمه، فإن الغلام الذي قتل لو بلغ، لعقهما أشد العقوق؛ بحملهما على الكفر والطغيان".

 

وإن الإنسان المسلم كلما ترقى في صلاحه وتقواه وورعه، نال من الله الدرجات العلى في الدنيا، وما أعده الله تعالى للصالحين من عباده في الآخرة أعلى وأعظم، فحينئذ يجب على المسلم الحرص الشديد على طاعة ربه، والتزام أوامره، واجتناب نواهيه.

 

ثالثًا: اختلاف الناس في تقبلهم للهداية:

إن اختلاف الناس في تقبلهم للهداية أو عدم تقبلها سنة من سنن الله تعالى؛ وقد تأكد ذلك في العديد من آيات الله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 118، 119]، وإن لله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة في ذلك، فيعلم من يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 117]، وقد يكون أكثرهم على غير هدًى؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [هود: 17]، وقال تعالى: ﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الرعد: 1]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [غافر: 59]، وقـوله تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103].

 

ومع هذا كله يجب على الوالدين بذل كل الجهد في تربية أولادهم، ونصحهم وإرشادهم، حتى وإن كان بعضهم على غير هدًى، ولديه بعض التجاوزات، أو لديه انحراف كامل؛ فلا بد من المتابعة في التوجيه، والنصح والدعاء، واتخاذ كافة السبل الممكنة لإصلاحه، فلا يقول: إن هذا الولد غير نافع أو غير صالح، وقد بذلت معـه كذا وكذا ولم يهتدِ، نقول له: لا تيئس، واستمر في التوجيه، والمتابعة، والنصح والإرشاد، مقرونًا بالدعاء الخالص في الأوقات المباركة؛ لعل الله يكتب له الهداية والصلاح، إنه على كل شيء قدير، ولن يخيب من رجاه ووقف ببابه سبحانه وتعالى.

 


[1] صحيح مسلم، حديث رقم: 1347، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة.

[2] صححه الألباني بمجموع طرقه.

 
 
 

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×