اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ

المشاركات التي تم ترشيحها

 

تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ 1-9

تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ 1-9

((وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً) ١ (فالْحَامِلاَتِ وِقْراً) ٢ (فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً )٣ (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً ٤ )-)الذاريات

الواو هنا واو القسم، فهذه أقسام يقسم بها الحق سبحانه، ونحن لا نقسم إلا بالله لأنه لا توجد عند المؤمن عظمة فوق عظمة الله، أما الحق سبحانه فيقسم بما يشاء من مخلوقاته لأنه سبحانه أعلم بأوجه العظمة فيها ومواطن الحكمة في كل قسم منها.
فمثلاً يقسم سبحانه فيقول { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [الضحى: 1-2] فلماذا أقسم سبحانه بالضحى والليل إذا سجى بالذات، ولم يقسم بشيء آخر؟
جاء هذا القسَم رداً على كُفار مكة عندما فتر الوحي عن رسول الله فرحوا وقالو: إن رب محمد قد قلاه.
فالقسم هنا له مغزى ومناسبة، فالضحى محلُّ الحركة والعمل، والليل محل الراحة والسكون، وكل منهما لا يستغني عن الآخر.


فهنا إشارة إلى الحكمة من فتور الوحي، كأنه يقول لهم: تأملوا في الزمن الذي يشملكم، وكيف أنه ليل للراحة ونهار للعمل، وكلٌّ منهما يكمل الآخر.
كذلك مسألة الوحي لما نزل على رسول الله بداية الأمر كان شاقاً عليه مُرهقاً له صلى الله عليه وسلم، وقد وصف رسول الله هذه المشقة فقال عن المَلك "ضمَّني حتى بلغ منِّي الجهد ولما عاد إلى بيته قال: زمِّلوني زمِّلوني دثروني دثروني" .
فكان فتور الوحي عن رسول الله فرصة يستريح فيها من العناء، ويشتاق فيها لمباشرة الملَك من جديد، فشبَّه نزول الوحي أولاًَ بالنهار وفتوره بالليل.


تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ 1-9

هنا الحق سبحانه يقسم بالذاريات، وهي الرياح، والرياح قوة وطاقة ضرورية للحياة في هذا الكون { ذَرْواً } [الذاريات: 1] أي: تذرو الأشياء وتحركها، والذاريات هي التي تحمل بخار الماء إلى مواطن تكوّن السحاب.

فقال بعدها { فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً } [الذاريات: 2] وهي السُّحب تحمل الماء وتتجمع حتى تصير ثقيلة، كما قال سبحانه: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ .. } [النور: 43].
والوقر: الحِمْل الثقيل، يقول سبحانه: { وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ } [الرعد: 12] ثم إن هذه السُّحب بعد أنْ تتكوَّن لا تقف في مكانها إنما تحركها الرياح.


{ فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } [الذاريات: 3] أي: السُّحب تجري جرياً خفيفاً، وتسبح في الفضاء في خفَّة ونعومة.

وقوله: { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } [الذاريات: 4] أي: التي تقسِّم هذه السحب، وتسُوقها إلى مواطن سقوطها، كما قال سبحانه: { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ .. } [النور: 43]
تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ 1-9

ثم يأتي جواب هذه الأقسام الأربعة:
(إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ) ٥ (وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٱقِعٌ)٦

أي: ما تُوعدون من البعث والحساب { لَصَادِقٌ .. } [الذاريات: 5] حق وواقع { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٰقِعٌ } [الذاريات: 6] الدين يعني يوم الدين، يوم الجزاء على الأعمال { لَوَٰقِعٌ } [الذاريات: 6] جَارٍ وحادث لا شكّ فيه.
لكن ما مناسبة القسَم بهذه الأشياء على صدق يوم الدين؟

قالوا: حين تنظر إلى الكون الذي نعيش فيه تجد أن الخالق سبحانه خلق فيه كل شيء وكل المقومات هذه كما هي في كون الله منذ خلقها الله، وهي باقية إلى يوم القيامة، بحيث لا يُعاد في الخَلْق إلا الإنسان.
خذ مثلاً الماء أو الهواء اللذين أقسم الله بهما تجد الماء هو هو منذ خلق اللهُ هذا الكون، لا يزيد ولا ينقص، لأنه يدور في دائرة تعود به إلى الماء الطبيعي الذي خلقه الله.

فأنت مثلاً تشرب في رحلة الحياة عدة أطنان من الماء مثلاً، هل تبقى فيك؟ أبداً إنما تخرج منك على هيئة بول وعرق وخلافه وتعود مرة أخرى إلى مصدرها، وهكذا حتى القدر القليل الذي يتبقى في جسم الإنسان تمتصه الأرض بعد موته ويعود إلى المياة الجوفية.
إذن: هنا إشارة إلى أنك تُولد وتموت وتعود ونأتي بك مرة أخرى، فخذ من الكون المادي حولك دليلاً على إمكانية إعادتك مرة أخرى، خذ المادي المشاهد دليلاً على صدق الغيب الذي أخبرك الله به، إذن: لا تستبعد أن الشيء الذي يفنى يعود مرة أخرى.

تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ 1-9

(وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ) ٧ (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ) ٨ (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) ٩ -الذاريات

هذا قَسَم آخر يقسم الحق سبحانه بالسماء { ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } [الذاريات: 7] من مادة (حَبَكَ) نقول مثلاً: هذا الشيء محبوك يعني: صُنع بدقة لا زيادةَ فيه ولا نقصان، وهكذا السماء نراها ملساء مستوية ليس فيها شقوق ولا فطور، لأنها خُلقتْ بدقة وإحكام، وقالوا: { ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } [الذاريات: 7] أي: الطرق التي تسلكها الكواكب في سَيْرها.
وجواب هذا القسم { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } [الذاريات: 8] والكلام عن كفار مكة المعاندين لرسول الله الذين اختلفت أقوالهم فيه كأنَّ الحق سبحانه يعطيهم إشارة إلى أن القول يجب أنْ يكون واحداً قصداً لا التواءَ فيه، كما في خَلْق السماء خَلْقاً محكماً لا اختلافَ فيه.
كما قال: { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } [الرحمن: 7-9] فالسماء استوت واستقامت لأنها خُلقت بميزان الحق، فإن أردتم أنْ تستقيم أموركم فأقيموها على وفق هذا الميزان، وإلا اختلفتم واختلفتْ أقوالكم.
ومعنى { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [الذاريات: 9] أي: يُصرف عنه أي عن رسول الله وعن الإيمان به { مَنْ أُفِكَ } [الذاريات: 9] صرفته الشياطين عن الإيمان، فمن مهمة الشيطان أنْ يصرف أهل الحق عن الحق، وأنْ يُزِّين لهم الباطل { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [الأنعام: 121].

 
التفاسير العظيمة
 
يتبع
تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ 1-9



 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

(قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ )١٠(ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ )١١(يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ )١٢

(يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُون )١٣(ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ )١٤

معنى {ٱلْخَرَّاصُونَ } [الذاريات: 10] أي: الكذابون، كما قال في آية أخرى: { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [الزخرف: 20] لكن كيف يقول {قُتِلَ.. } [الذاريات: 10] وهم أحياء،؟ قالوا: المراد هنا لُعنوا مني وأبعدوا عن رحمتي، والقتْل يُخرجك من نعيم الدنيا، أما اللعن فيُخرجك من رحمة الله في الآخرة ويُدخلك في عذابه والعياذ بالله.
 

كأنه سبحانه يقول لهم مَنْ تقتلون ومَنْ تلعنون، بل أنتم الذين ستُقتلون وتُبعثون وتُحاسبون، وأنتم الذين ستُلعنون وتُطردون من رحمة الله.
ثم يصفهم سبحانه بقوله: {
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } [الذاريات: 11] يقولون: غمره الماء إذا شمله وأغرقه، فكأن هؤلاء غمرهم الجهل حتى غرقوا فيه فأعماهم، ومعنى { سَاهُونَ } [الذاريات: 11] غافلون لاهون منصرفون عما يُراد منهم.
 

ومثل هؤلاء لا نجاة لهم يوم القيامة، هذا اليوم الذي يُكذِّبون به ويسألون عنه سؤال الشك والاستهزاء { أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } [الذاريات: 12] متى هذا اليوم؟
 

فيُبيِّنه الله لهم {يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُون } [الذاريات: 13] يوم الدين الذي تكذبون به هو هذا اليوم الذي ستُلْقون فيه في جهنم وتذوقون فيه العذاب ألواناً، جزاء استهزائكم وسخريتكم.
 

{ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ. } [الذاريات: 14] ذوقوا آثار فتنتكم في الدنيا، والنار أيضاً تُسمّى فتنة حين تُصهر المعدن مثلاً لتنقيه وتُخرج شوائبه.
فيوم الدين الذي تسألون عنه سؤالَ استهزاء وإنكار له هو يوم تُفتنون على النار وتُحرقون بها كما يفتن الذهب والحديد، وإنْ كان الذهب والحديد يفتن ليخرج منه خبثه وشوائبه فيصير صلْباً فأنتم تفتنون على النار لتعذَّبوا بها وتُقاسموا الآلام التي لا تنتهي.


image.png.96de4cd0cf0614e644e64397a063cb1d.png

 

{ هَـٰذَا } [الذاريات: 14] أي: عذاب يوم القيامة { ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 14] واستعجالهم له نتيجة تكذيبهم به، فلو آمنوا بأنه حَقٌّ ما استعجلوه.
وقد حكى القرآن قولهم: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [الأحقاف: 22].

 

إذن: سؤالهم عن يوم الدين {أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } [الذاريات: 12] استهزاء به وإنكار له، لأنهم يؤمنون بشيء غيبي أخبر الله عنه، مع أنهم أخذوا النعم المادية التي أنعم الله بها عليهم، وخلق بها النفع لهم، لكنهم أخذوا النعمة ولم يلتفتوا إلى المنعم، بل اغتروا بالنعمة فقالوا ما قالوا من إنكار واستهزاء.
 

لذلك نجد آيات كثيرة تجادلهم بالحجة وبالبرهان، وتثبت لهم أن القيامة حق، فلما قالوا: { أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [الإسراء: 49] رد عليهم: { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ .. } [الإسراء: 50-51].
فلأنهم استبعدوا إحياء العظام نقلهم نقلة أعلى من العظام، فالعظام لها أصل في الحياة، فيقول لهم: حتى لو كنتم جماداً حجارة أو حديداً مما يتصف بالصلابة ولا صلةَ له بالحياة، فنحن قادرون على إحيائكم.

 

بعد أنْ تكلَّم الحق سبحانه عن المعاندين لرسول الله المكذبين بالقيامة يذكر سبحانه المقابل، وقلنا في ذكر المقابل توضيح للصورة، والضد يظهر حُسْنه الضد، فيقول سبحانه:
{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ }.

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

(إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ )١٥(آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ )١٦

(كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ )١٧(وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )١٨(وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ )١٩

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ .. } [الذاريات: 15] (إن) تفيد توكيد الكلام، و(المتقين) جمع المتقي، والتقوى كما قلنا أنْ تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، لذلك نجد القرآن يقول مرة: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ .. } [الحشر: 18] ومرة يقول { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ .. } [آل عمران: 131].
والمراد: الزموا طاعة الله، وتجنّبوا معصيته وأسباب عذابه، لأن لله تعالى صفات جمال وصفات جلال، والتقوى أنْ تجعل بينك وبين صفات الجلال وقاية من صفات الجلال التي تزجر المخالف وترده عن الشر.
فمن صفات الجمال أن خلق لنا ما ننتفع به في الدنيا، ومن ذلك النار { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } [الواقعة: 71-72].
لكن هذه النار التي تنتفعون بها في الدنيا وتُعد نعمة من نعم الله عليكم احذروها في الآخرة، لأنها ستكون أداة تعذيب، ستكون جنداً من جند الله لقهر المخالفين، فاتقوها. إذن: المعنى واحد: اتقوا الله، واتقوا النار.

 

وتلاحظ هنا أن { ٱلْمُتَّقِينَ .. } [الذاريات: 15] في زمان التكليف وهي جمع و{ جَنَّاتٍ .. } [الذاريات: 15] في زمن الجزاء وهي جمع، وكذلك { وَعُيُونٍ } [الذرايات: 15] فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إن لكل مُتّق جنة وعيناً تجري خلالها، نعم جنة خاصة به، لأن القاعدة إذا قُوبل الجمع بالجَمع اقتضى القسمةَ آحاداً.
كما يقول المدرس مثلاً للتلاميذ: أخرجوا كتبكم، والمراد أنْ يُخرجَ كلّ منهم كتابه، لكن نجد في سورة (الرحمن) يقول سبحانه: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46].

فكيف نجمع ونُوفِّق بين الآيتين؟

قالوا: لأن سورة الرحمن جاء الخطاب فيها للثقلين الجن والإنس، فالمعنى: ولمَنْ خاف مقام ربه من الإنس أو الجن جنة، جنة للإنس وجنة للجن.

أو أن المعنى: له جنتان بالفعل، وسبق أنْ أوضحنا أن الحق سبحانه خلق الجنة على فرض أنْ يؤمن جميعُ البشر، وخلق النار كذلك تكفي للبشر جميعاً إنْ لم يؤمنوا.

وقلنا: هناك لا توجد أزمة مساكن، فإذا دخل أهلُ النار النارَ فرغتْ أماكنهم في الجنة فورثها المتقون، فكأنه أخذ جنته وجنة الكافر الذي تركها، وذهب إلى النار.
 

والجنة هي البستان المليء بالأشجار متشابكة الأغصان بحيث تستر مَنْ يسير فيها وتُجنّه، أو أن فيها كلَّ مقومات الحياة بحيث لا يحتاج إلى الخروج منها، كما نقول في كلمة قصر يعني: قصرك في مكانه عن الأمكنة الأخرى، فلا تخرج منه إلى مكان آخر لتلتمس أسباب الحياة ..
وقال:
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [الذاريات: 15] أي: عيون الماء، لأن الجنات الأصل فيها الخضرة والنماء والثمار، وهكذا الأشياء وليدة وجود الماء، فالعيون في الجنات لاستبقائها ودوامها كجنة.

لذلك لما تحدَّث القرآن الكريم عن أنهار الجنة وتوفير الماء اللازم لها قال مرة { تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ .. } [التوبة: 100] وقال مرة { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ .. } [الصف: 12].
فمن هنا تفيد أن الماء ذاتي فيها، حتى لا نظن أن الماء الجاري الذي يمرُّ بها قد ينقطع فيقول لك: اطمئن فماء الجنة مضمون لأنه نابع منها.

image.png.8fc973f93ab4c32175b13d3b279d9cfc.png

وقوله سبحانه: { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ .. } [الذاريات: 16] يعود السياق هنا إلى الماضي ويُحدِّثنا عن الحيثية، فهؤلاء المتقون نالوا هذا الجزاء، لأنهم أخذوا منهج الله برضا وقبول.
 

{ آخِذِينَ .. } [الذاريات: 16] جمع آخذ اسم فاعل، وهو الذي يتناول الشيء بعشق ولهفة، ويأخذه برضى وقبول، والإنسان لا يمدُّ يده ليأخذ إلا لشيء فيه نفع له على خلاف شيء يُرْمى عليك فتأخذه وأنت كاره.
فكأن هؤلاء سمعوا منهج الله، وعلموا أن فيه قوامَ حياتهم وصيانة حركتهم ونجاة آخرتهم فأخذوه، أخذوه بلهفة وحب وعشق، أخذوه بقوة كما قال تعالى: { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ .. } [البقرة: 63].
فالقوة في الأخذ تدل على أن الآخذ يقدر المنفعة الجميلة التي ينالها، ثم إنك أخذتَ وغيرك ترك، فأحسنتَ وأساءوا، مع أنك مختار ولك مطلق الحرية تأخذ أو تترك.

لقد أحسنتَ وأنت قادر على الخير وعلى قبول الشر. فكوْنُكَ تسمع وحي الله وتطيع وتتحمل التكاليف عن رضا وقبول، فأنت أهلٌ لهذا الجزاء.
ثم تبين الآيات أن الأخذ هنا أخذٌ مقيد، لا نأخذ كل شيء وكل ما يأتينا بل نأخذ ما جاءنا من ربنا وخالقنا { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ .. } [الذاريات: 16] واختار هنا صفة الربوبية لأنها عطاء، فالرب هو الذي خلق من عَدمَ وأمدَّ من عُدْم، وأبقى لك مُقوِّمات الحياة بقيوميته، نقول: فلان قائم على الأمر يعني: مهتم به لا يتركه لغيره.
فالله بحكمته وقدرته خلق، وبقيوميته استدام الخير، لذلك ساعة يأتيك الخير تذكر الربوبية التي منحتك. والربوبية أسبق في حياة الإنسان من الألوهية، لأن الله تعالى أعطاك وأمدَّك قبل انْ تُخَلق وما كلّفك إلا بعد سنِّ البلوغ.

وما دُمت قد أخذتَ عطاء الربوبية وتمتعتَ به فقد وجب عليك أنْ تأخذ عطاء الألوهية، وكما أخذتَ العطاء الأول بحب ورغبة وعشق، فعليك أنْ تأخذ العطاء الآخر أيضاً بحب ورغبة وعشق، لا يليق بك أن تأخذ الأول وتترك الثاني وتتنكر له لأنك لو تأملت عطاء الألوهية لوجدته أنفع لك من عطاء الربوبية وأدوم.

فعطاء الربوبية الأول أعطاك مقومات الحياة الدنيا وهي موقوتة فانية، أعطاك مقومات القالب الزائل، أما عطاء الألوهية فعطاء يضمن لك الآخرة الباقية ويحيي فيك الروح الباقية التي لا تفنى. إذن: فأيّهما أحقُّ بالأخذ؟

لذلك الحق سبحانه وتعالى حينما حدثنا عن هذه المسألة قال سبحانه: { يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ .. } [الأعراف: 26].

فاللباس الذي يواري السوأة يمثل الضروريات والريش للزينة والكماليات، وهذا قصارى ما نأخذه في الدنيا. ثم يلفت الأنظار إلى ما هو أهم { لِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ .. } [الأعراف: 26] خير من نعيم الدنيا وزينتها وزخرفها، لأن هذا زائل وهذا باقٍ دائم، لباس الدنيا يسترك في الدنيا، ولباس التقوى يسترك في الدنيا وفي الآخرة.
ولما كان لعطاء الألوهية هذه الأهمية لم يُعطه الله إلا لمن آمن به مختاراً، فلم يكلف إلا المؤمن، لذلك نقرأ دائماً في مجال التكاليف { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ .. } [البقرة: 153].

image.png.ecd0500ddc0def9759a99badbfec2078.png

ثم تذكر الآيات صفة أخرى من صفات المتقين { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 16] أي: ما استحقوا هذه المنزلة إلا لأنهم { كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 16] والإحسان درجة عالية من درجات الإيمان عرَّفها العلماء فقالوا: الإحسان هو ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك" .

والإحسان هو الزيادة في الطاعات فوق ما أمرك الله به، لذلك نزلت هذه الآية في مكة قبل أنْ تُفرض الزكاة في مكة، قال تعالى: { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذرايات: 19] ولم يقل حق معلوم، فالحق المعلوم هو الزكاة وقد فرضت بالمدينة، أما الصدقة فكانت في المرحلة المكية.

إذن: معنى الإحسان أنهم ذهبوا إلى مراتب الإحسان قبل أنْ يُكلِّفوا بها، وهذا يعني أن مراتب الإحسان فطرية وطبيعية، وفي إمكانك ولا تكلفك، وهكذا كل أمور الطاعة والاستقامة تأتي طبيعية لا تكلُّف فيها على خلاف المعصية.
 

لذلك نقول: إن المستقيم مثلاً يوفر ثمن الجلوس على القهاوي وشرب الدخان والقهوة والمخدرات والمسكرات، فالاستقامة من الناحية الاقتصادية أوفر لصاحبها.
 

حتى في عمل الجوارح تأتي الاستقامة طبيعية، أما المعصية فتحتاج إلى تكلُّف وتلصُّص واحتيال، لذلك في الاشتقاق اللغوي عبَّر القرآن عن الطاعة بـ (كسب) وعن المعصية بـ (اكتسب).

فالكسب أمر طبيعي، و (كسب) على وزن فعل، أما (اكتسب) ففيها افتعال وهي على وزن افتعل، وهذا الافتعال تراه مثلاً فيمن يحتال لينظر إلى ما حرَّم الله عليه، كيف يتلصص ويُسارق الناسَ النظرات، كذلك تراه فيمن يذهب إلى المسجد ومَنْ يذهب إلى الخمارة وهكذا.
وقد عرَّف العلماء درجة الإحسان في العبادة، فقالوا: الإحسان أنْ تؤدي ما فرضه الله عليك من العبادة، وتزيد عليها من جنس ما فرض الله، فالمؤمن يؤدي الصلوات الخمس والمحسن يؤديها ويزيد عليها ما استطاع من النوافل.
المؤمن يؤدب الزكاة بمقدار نصف العشر أو ربع العشر، والمحسن يؤدي فوق ذلك وهكذا.

 

إذن: المحسن هنا له معنيان:

أنه أحسن قبل التكليف وبادر بعمل الخيرات قبل أنْ تُفرض عليه، أو أدَّى ما فُرِض عليه ثم زاد على ما فرض من جنس ما فرض الله عليه.
ثم يصف الحق سبحانه وتعالى المحسنين بقوله:
{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [الذاريات: 17] والهجوع هو: الثبات عن الحركة في الخير وعدم عمل الشر، ونقول للولد المشاغب الذي تزيد حركته: اهجع. يعني: كُفّ عن الحركة المزعجة.

والإحسان نتيجة لحب العبد لربِّه، فالله أحسن إليك حين كلَّفك وحيَّاك بهذا التكليف، فعليك أنْ ترد التحية بأحسن منها، فإنْ كلَّفك بخمس صلوات تجعلها عشراً، وإنْ كلَّفك بنصف العشر أو بُربْع العشر في الزكاة تجعلها أضعاف ذلك، وهكذا في سائر العبادات وأوجه الخيرات.
ولما سُئل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: "هو أنْ تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك" والذي تراه يكون حاضراً ليس غيباً، وتصوَّر أنك أجير عند رجل يجلس خلفك يراقبك ويرصد كل تحركاتك، هل تستطيع عندَه إذن أنْ تتهاون في عملك أو تقصر فيه؟

كذلك حال المحسن في عبادته، وقد ورد في الحديث القدسى: "يا عبادي إنْ كنتم تعتقدون أنِّي لا أراكم، فالخلل في إيمانكم، وإنْ كنتم تعتقدون أني أراكم، فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟" .
image.png.4a8cfcef14231b25449843749e0e6a89.png

وقوله تعالى: { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات: 18] الأسحار جمع السَّحَر، وهو آخر الليل وقبل طلوع الفجر، حيث يظهر ضوء بسيط يخيَّل للإنسان أنه ضوء الشمس وهي لم تطلع بعد، ولذلك يُسمَّى ضوءاً تخيلياً.
ومنه كلمة السِّحر، فالسحر قلْبٌ للحقائق بطريق التخيُّل ولا حقيقة له، ومنه قوله تعالى: { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ .. } [الأعراف: 116].
ووقت السَّحَر من أفضل الأوقات للاستغفار، لكن ممّ يستغفر هؤلاء الذين وصفهم ربهم بالتقوى، وأنهم أخذوا ما آتاهم ربهم، وأنهم نالوا درجة الإحسان، وكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون؟
إذن: ليس لهم ذنوب يستغفرون الله منها، قالوا: إن لهؤلاء استغفاراً يليق بدرجة الإحسان، فهم لا يستغفرون الله من ذنوبهم، بل يستغفرونه للتقصير الذي يظنونه في عباداتهم وأعمالهم وكأنهم استقلُّوا ما فعلوه ورأوه دون ما يستحق الله تعالى من التقدير والعبادة، وهذا من باب "حسنات الأبرار سيئات المقربين".

image.png.46bab265d50047bd514d5e92731c1b50.png

وقوله تعالى: { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 19] نسب إليهم المال، فقال { أَمْوَالِهِمْ .. } [الذاريات: 19] لأنه يتملكه الآن وإنْ كان في الحقيقة مال الله، والإنسان مستخلف فيه إلى حين.
لذلك قال سبحانه: { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ .. } [الحديد: 7].
والإنسان خليفة لله في الأرض، وعليه بمقتضى هذه الخلافة أنْ يطيع أمر مَن استخلفه بأنْ يعطي السائل والمحروم من مال الله المستودع عنده، يعطي العاجز غير القادر على العمل والكسب، حتى لو يعطيه شكراً لله الذي منحه القوة ليعمل، في حين أن غيره عاجز محروم من هذه القوة.

والحق سبحانه وتعالى حينما يأمرنا بذلك إنما يُؤمِّن حياة ومستقبل القادر وغير القادر على العمل، لأن الدهر يتقلب بالناس، وأحداث الحياة دائمة التغيير، وربما أصبح القادر اليوم غير قادر غداً، وعندها يجد مَنْ يمد إليه يد المساعدة.

لذلك قلنا: إن الشارع الحكيم علمنا أنْ نعمل على قدر الطاقة لا على قدر الحاجة، فحينما تعمل على قدر الطاقة التي وضعها الله فيك فإنك ستأخذ حاجتك وتتصدَّق على غير القادر أنْ يعمل، ولو توفر لنا هذا التضامن وهذا التأمين لَعاش الإنسانُ لا يهاب أحداث الحياة ولا يخشى الفقر عليه وعلى ذريته من بعده.
image.png.9c8b5a1603e4318d7744909cbb1ef645.png

وقوله تعالى: { لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 19] السائل هو المحتاج وتضطره الحاجة لأنْ يسأل الناس، ومثله المحروم هو أيضاً محتاج لكنه يتعفف عن المسألة فيحرم وربما يجوع أو يهلك، وهو في هذه الحالة يكون آثماً في حقِّ نفسه، لأن الله تعالى شرع له أنْ يسأل، فهو محروم من التملك أولاً، وحرم نفسه ثانياً من السؤال الذي شرع له.
ومن هنا حثَّ الإسلام على التعارف وعلى حضور الجماعات التي يتعارف فيها الناس، ويسأل بعضهم عن بعض، ومن خلال هذا التعارف نعرف المحتاج فنساعده ونعرف المريض فنزوره، وهكذا.
وأحد الصالحين جاءه سائل فأعطاه حاجته، ثم دخلتْ عليه زوجته فوجدته باكياً، فقالت له: ما يُبكيك وقد أعطيته حاجته؟ فقال: أبكي لأنِّي تركته حتى يسألني.
إذن: الواجب أنْ يصل الحق إلى أصحابه دون سؤال؛ واجب على الغني أنْ يكفي الفقير مذلة السؤال.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ الحب الحقيقي للنبي ﷺ ليس في إقامة مولدٍ لم يشرعه، وإنما في اتباع سنته، وإحياء ما أحياه، واجتناب ما نهى عنه، قال ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [رواه مسلم]

×