اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ

المشاركات التي تم ترشيحها

 

تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ 1-9

تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ 1-9

((وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً) ١ (فالْحَامِلاَتِ وِقْراً) ٢ (فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً )٣ (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً ٤ )-)الذاريات

الواو هنا واو القسم، فهذه أقسام يقسم بها الحق سبحانه، ونحن لا نقسم إلا بالله لأنه لا توجد عند المؤمن عظمة فوق عظمة الله، أما الحق سبحانه فيقسم بما يشاء من مخلوقاته لأنه سبحانه أعلم بأوجه العظمة فيها ومواطن الحكمة في كل قسم منها.
فمثلاً يقسم سبحانه فيقول { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [الضحى: 1-2] فلماذا أقسم سبحانه بالضحى والليل إذا سجى بالذات، ولم يقسم بشيء آخر؟
جاء هذا القسَم رداً على كُفار مكة عندما فتر الوحي عن رسول الله فرحوا وقالو: إن رب محمد قد قلاه.
فالقسم هنا له مغزى ومناسبة، فالضحى محلُّ الحركة والعمل، والليل محل الراحة والسكون، وكل منهما لا يستغني عن الآخر.


فهنا إشارة إلى الحكمة من فتور الوحي، كأنه يقول لهم: تأملوا في الزمن الذي يشملكم، وكيف أنه ليل للراحة ونهار للعمل، وكلٌّ منهما يكمل الآخر.
كذلك مسألة الوحي لما نزل على رسول الله بداية الأمر كان شاقاً عليه مُرهقاً له صلى الله عليه وسلم، وقد وصف رسول الله هذه المشقة فقال عن المَلك "ضمَّني حتى بلغ منِّي الجهد ولما عاد إلى بيته قال: زمِّلوني زمِّلوني دثروني دثروني" .
فكان فتور الوحي عن رسول الله فرصة يستريح فيها من العناء، ويشتاق فيها لمباشرة الملَك من جديد، فشبَّه نزول الوحي أولاًَ بالنهار وفتوره بالليل.


تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ 1-9

هنا الحق سبحانه يقسم بالذاريات، وهي الرياح، والرياح قوة وطاقة ضرورية للحياة في هذا الكون { ذَرْواً } [الذاريات: 1] أي: تذرو الأشياء وتحركها، والذاريات هي التي تحمل بخار الماء إلى مواطن تكوّن السحاب.

فقال بعدها { فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً } [الذاريات: 2] وهي السُّحب تحمل الماء وتتجمع حتى تصير ثقيلة، كما قال سبحانه: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ .. } [النور: 43].
والوقر: الحِمْل الثقيل، يقول سبحانه: { وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ } [الرعد: 12] ثم إن هذه السُّحب بعد أنْ تتكوَّن لا تقف في مكانها إنما تحركها الرياح.


{ فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } [الذاريات: 3] أي: السُّحب تجري جرياً خفيفاً، وتسبح في الفضاء في خفَّة ونعومة.

وقوله: { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } [الذاريات: 4] أي: التي تقسِّم هذه السحب، وتسُوقها إلى مواطن سقوطها، كما قال سبحانه: { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ .. } [النور: 43]
تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ 1-9

ثم يأتي جواب هذه الأقسام الأربعة:
(إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ) ٥ (وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٱقِعٌ)٦

أي: ما تُوعدون من البعث والحساب { لَصَادِقٌ .. } [الذاريات: 5] حق وواقع { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٰقِعٌ } [الذاريات: 6] الدين يعني يوم الدين، يوم الجزاء على الأعمال { لَوَٰقِعٌ } [الذاريات: 6] جَارٍ وحادث لا شكّ فيه.
لكن ما مناسبة القسَم بهذه الأشياء على صدق يوم الدين؟

قالوا: حين تنظر إلى الكون الذي نعيش فيه تجد أن الخالق سبحانه خلق فيه كل شيء وكل المقومات هذه كما هي في كون الله منذ خلقها الله، وهي باقية إلى يوم القيامة، بحيث لا يُعاد في الخَلْق إلا الإنسان.
خذ مثلاً الماء أو الهواء اللذين أقسم الله بهما تجد الماء هو هو منذ خلق اللهُ هذا الكون، لا يزيد ولا ينقص، لأنه يدور في دائرة تعود به إلى الماء الطبيعي الذي خلقه الله.

فأنت مثلاً تشرب في رحلة الحياة عدة أطنان من الماء مثلاً، هل تبقى فيك؟ أبداً إنما تخرج منك على هيئة بول وعرق وخلافه وتعود مرة أخرى إلى مصدرها، وهكذا حتى القدر القليل الذي يتبقى في جسم الإنسان تمتصه الأرض بعد موته ويعود إلى المياة الجوفية.
إذن: هنا إشارة إلى أنك تُولد وتموت وتعود ونأتي بك مرة أخرى، فخذ من الكون المادي حولك دليلاً على إمكانية إعادتك مرة أخرى، خذ المادي المشاهد دليلاً على صدق الغيب الذي أخبرك الله به، إذن: لا تستبعد أن الشيء الذي يفنى يعود مرة أخرى.

تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ 1-9

(وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ) ٧ (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ) ٨ (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) ٩ -الذاريات

هذا قَسَم آخر يقسم الحق سبحانه بالسماء { ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } [الذاريات: 7] من مادة (حَبَكَ) نقول مثلاً: هذا الشيء محبوك يعني: صُنع بدقة لا زيادةَ فيه ولا نقصان، وهكذا السماء نراها ملساء مستوية ليس فيها شقوق ولا فطور، لأنها خُلقتْ بدقة وإحكام، وقالوا: { ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } [الذاريات: 7] أي: الطرق التي تسلكها الكواكب في سَيْرها.
وجواب هذا القسم { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } [الذاريات: 8] والكلام عن كفار مكة المعاندين لرسول الله الذين اختلفت أقوالهم فيه كأنَّ الحق سبحانه يعطيهم إشارة إلى أن القول يجب أنْ يكون واحداً قصداً لا التواءَ فيه، كما في خَلْق السماء خَلْقاً محكماً لا اختلافَ فيه.
كما قال: { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } [الرحمن: 7-9] فالسماء استوت واستقامت لأنها خُلقت بميزان الحق، فإن أردتم أنْ تستقيم أموركم فأقيموها على وفق هذا الميزان، وإلا اختلفتم واختلفتْ أقوالكم.
ومعنى { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [الذاريات: 9] أي: يُصرف عنه أي عن رسول الله وعن الإيمان به { مَنْ أُفِكَ } [الذاريات: 9] صرفته الشياطين عن الإيمان، فمن مهمة الشيطان أنْ يصرف أهل الحق عن الحق، وأنْ يُزِّين لهم الباطل { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [الأنعام: 121].

 
التفاسير العظيمة
 
يتبع
تفسير الشعراوي سورة ٱلذَّارِيَاتِ 1-9



 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

(قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ )١٠(ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ )١١(يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ )١٢

(يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُون )١٣(ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ )١٤

معنى {ٱلْخَرَّاصُونَ } [الذاريات: 10] أي: الكذابون، كما قال في آية أخرى: { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [الزخرف: 20] لكن كيف يقول {قُتِلَ.. } [الذاريات: 10] وهم أحياء،؟ قالوا: المراد هنا لُعنوا مني وأبعدوا عن رحمتي، والقتْل يُخرجك من نعيم الدنيا، أما اللعن فيُخرجك من رحمة الله في الآخرة ويُدخلك في عذابه والعياذ بالله.
 

كأنه سبحانه يقول لهم مَنْ تقتلون ومَنْ تلعنون، بل أنتم الذين ستُقتلون وتُبعثون وتُحاسبون، وأنتم الذين ستُلعنون وتُطردون من رحمة الله.
ثم يصفهم سبحانه بقوله: {
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } [الذاريات: 11] يقولون: غمره الماء إذا شمله وأغرقه، فكأن هؤلاء غمرهم الجهل حتى غرقوا فيه فأعماهم، ومعنى { سَاهُونَ } [الذاريات: 11] غافلون لاهون منصرفون عما يُراد منهم.
 

ومثل هؤلاء لا نجاة لهم يوم القيامة، هذا اليوم الذي يُكذِّبون به ويسألون عنه سؤال الشك والاستهزاء { أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } [الذاريات: 12] متى هذا اليوم؟
 

فيُبيِّنه الله لهم {يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُون } [الذاريات: 13] يوم الدين الذي تكذبون به هو هذا اليوم الذي ستُلْقون فيه في جهنم وتذوقون فيه العذاب ألواناً، جزاء استهزائكم وسخريتكم.
 

{ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ. } [الذاريات: 14] ذوقوا آثار فتنتكم في الدنيا، والنار أيضاً تُسمّى فتنة حين تُصهر المعدن مثلاً لتنقيه وتُخرج شوائبه.
فيوم الدين الذي تسألون عنه سؤالَ استهزاء وإنكار له هو يوم تُفتنون على النار وتُحرقون بها كما يفتن الذهب والحديد، وإنْ كان الذهب والحديد يفتن ليخرج منه خبثه وشوائبه فيصير صلْباً فأنتم تفتنون على النار لتعذَّبوا بها وتُقاسموا الآلام التي لا تنتهي.


image.png.96de4cd0cf0614e644e64397a063cb1d.png

 

{ هَـٰذَا } [الذاريات: 14] أي: عذاب يوم القيامة { ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 14] واستعجالهم له نتيجة تكذيبهم به، فلو آمنوا بأنه حَقٌّ ما استعجلوه.
وقد حكى القرآن قولهم: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [الأحقاف: 22].

 

إذن: سؤالهم عن يوم الدين {أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } [الذاريات: 12] استهزاء به وإنكار له، لأنهم يؤمنون بشيء غيبي أخبر الله عنه، مع أنهم أخذوا النعم المادية التي أنعم الله بها عليهم، وخلق بها النفع لهم، لكنهم أخذوا النعمة ولم يلتفتوا إلى المنعم، بل اغتروا بالنعمة فقالوا ما قالوا من إنكار واستهزاء.
 

لذلك نجد آيات كثيرة تجادلهم بالحجة وبالبرهان، وتثبت لهم أن القيامة حق، فلما قالوا: { أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [الإسراء: 49] رد عليهم: { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ .. } [الإسراء: 50-51].
فلأنهم استبعدوا إحياء العظام نقلهم نقلة أعلى من العظام، فالعظام لها أصل في الحياة، فيقول لهم: حتى لو كنتم جماداً حجارة أو حديداً مما يتصف بالصلابة ولا صلةَ له بالحياة، فنحن قادرون على إحيائكم.

 

بعد أنْ تكلَّم الحق سبحانه عن المعاندين لرسول الله المكذبين بالقيامة يذكر سبحانه المقابل، وقلنا في ذكر المقابل توضيح للصورة، والضد يظهر حُسْنه الضد، فيقول سبحانه:
{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ }.

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

(إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ )١٥(آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ )١٦

(كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ )١٧(وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )١٨(وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ )١٩

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ .. } [الذاريات: 15] (إن) تفيد توكيد الكلام، و(المتقين) جمع المتقي، والتقوى كما قلنا أنْ تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، لذلك نجد القرآن يقول مرة: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ .. } [الحشر: 18] ومرة يقول { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ .. } [آل عمران: 131].
والمراد: الزموا طاعة الله، وتجنّبوا معصيته وأسباب عذابه، لأن لله تعالى صفات جمال وصفات جلال، والتقوى أنْ تجعل بينك وبين صفات الجلال وقاية من صفات الجلال التي تزجر المخالف وترده عن الشر.
فمن صفات الجمال أن خلق لنا ما ننتفع به في الدنيا، ومن ذلك النار { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } [الواقعة: 71-72].
لكن هذه النار التي تنتفعون بها في الدنيا وتُعد نعمة من نعم الله عليكم احذروها في الآخرة، لأنها ستكون أداة تعذيب، ستكون جنداً من جند الله لقهر المخالفين، فاتقوها. إذن: المعنى واحد: اتقوا الله، واتقوا النار.

 

وتلاحظ هنا أن { ٱلْمُتَّقِينَ .. } [الذاريات: 15] في زمان التكليف وهي جمع و{ جَنَّاتٍ .. } [الذاريات: 15] في زمن الجزاء وهي جمع، وكذلك { وَعُيُونٍ } [الذرايات: 15] فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إن لكل مُتّق جنة وعيناً تجري خلالها، نعم جنة خاصة به، لأن القاعدة إذا قُوبل الجمع بالجَمع اقتضى القسمةَ آحاداً.
كما يقول المدرس مثلاً للتلاميذ: أخرجوا كتبكم، والمراد أنْ يُخرجَ كلّ منهم كتابه، لكن نجد في سورة (الرحمن) يقول سبحانه: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46].

فكيف نجمع ونُوفِّق بين الآيتين؟

قالوا: لأن سورة الرحمن جاء الخطاب فيها للثقلين الجن والإنس، فالمعنى: ولمَنْ خاف مقام ربه من الإنس أو الجن جنة، جنة للإنس وجنة للجن.

أو أن المعنى: له جنتان بالفعل، وسبق أنْ أوضحنا أن الحق سبحانه خلق الجنة على فرض أنْ يؤمن جميعُ البشر، وخلق النار كذلك تكفي للبشر جميعاً إنْ لم يؤمنوا.

وقلنا: هناك لا توجد أزمة مساكن، فإذا دخل أهلُ النار النارَ فرغتْ أماكنهم في الجنة فورثها المتقون، فكأنه أخذ جنته وجنة الكافر الذي تركها، وذهب إلى النار.
 

والجنة هي البستان المليء بالأشجار متشابكة الأغصان بحيث تستر مَنْ يسير فيها وتُجنّه، أو أن فيها كلَّ مقومات الحياة بحيث لا يحتاج إلى الخروج منها، كما نقول في كلمة قصر يعني: قصرك في مكانه عن الأمكنة الأخرى، فلا تخرج منه إلى مكان آخر لتلتمس أسباب الحياة ..
وقال:
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [الذاريات: 15] أي: عيون الماء، لأن الجنات الأصل فيها الخضرة والنماء والثمار، وهكذا الأشياء وليدة وجود الماء، فالعيون في الجنات لاستبقائها ودوامها كجنة.

لذلك لما تحدَّث القرآن الكريم عن أنهار الجنة وتوفير الماء اللازم لها قال مرة { تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ .. } [التوبة: 100] وقال مرة { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ .. } [الصف: 12].
فمن هنا تفيد أن الماء ذاتي فيها، حتى لا نظن أن الماء الجاري الذي يمرُّ بها قد ينقطع فيقول لك: اطمئن فماء الجنة مضمون لأنه نابع منها.

image.png.8fc973f93ab4c32175b13d3b279d9cfc.png

وقوله سبحانه: { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ .. } [الذاريات: 16] يعود السياق هنا إلى الماضي ويُحدِّثنا عن الحيثية، فهؤلاء المتقون نالوا هذا الجزاء، لأنهم أخذوا منهج الله برضا وقبول.
 

{ آخِذِينَ .. } [الذاريات: 16] جمع آخذ اسم فاعل، وهو الذي يتناول الشيء بعشق ولهفة، ويأخذه برضى وقبول، والإنسان لا يمدُّ يده ليأخذ إلا لشيء فيه نفع له على خلاف شيء يُرْمى عليك فتأخذه وأنت كاره.
فكأن هؤلاء سمعوا منهج الله، وعلموا أن فيه قوامَ حياتهم وصيانة حركتهم ونجاة آخرتهم فأخذوه، أخذوه بلهفة وحب وعشق، أخذوه بقوة كما قال تعالى: { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ .. } [البقرة: 63].
فالقوة في الأخذ تدل على أن الآخذ يقدر المنفعة الجميلة التي ينالها، ثم إنك أخذتَ وغيرك ترك، فأحسنتَ وأساءوا، مع أنك مختار ولك مطلق الحرية تأخذ أو تترك.

لقد أحسنتَ وأنت قادر على الخير وعلى قبول الشر. فكوْنُكَ تسمع وحي الله وتطيع وتتحمل التكاليف عن رضا وقبول، فأنت أهلٌ لهذا الجزاء.
ثم تبين الآيات أن الأخذ هنا أخذٌ مقيد، لا نأخذ كل شيء وكل ما يأتينا بل نأخذ ما جاءنا من ربنا وخالقنا { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ .. } [الذاريات: 16] واختار هنا صفة الربوبية لأنها عطاء، فالرب هو الذي خلق من عَدمَ وأمدَّ من عُدْم، وأبقى لك مُقوِّمات الحياة بقيوميته، نقول: فلان قائم على الأمر يعني: مهتم به لا يتركه لغيره.
فالله بحكمته وقدرته خلق، وبقيوميته استدام الخير، لذلك ساعة يأتيك الخير تذكر الربوبية التي منحتك. والربوبية أسبق في حياة الإنسان من الألوهية، لأن الله تعالى أعطاك وأمدَّك قبل انْ تُخَلق وما كلّفك إلا بعد سنِّ البلوغ.

وما دُمت قد أخذتَ عطاء الربوبية وتمتعتَ به فقد وجب عليك أنْ تأخذ عطاء الألوهية، وكما أخذتَ العطاء الأول بحب ورغبة وعشق، فعليك أنْ تأخذ العطاء الآخر أيضاً بحب ورغبة وعشق، لا يليق بك أن تأخذ الأول وتترك الثاني وتتنكر له لأنك لو تأملت عطاء الألوهية لوجدته أنفع لك من عطاء الربوبية وأدوم.

فعطاء الربوبية الأول أعطاك مقومات الحياة الدنيا وهي موقوتة فانية، أعطاك مقومات القالب الزائل، أما عطاء الألوهية فعطاء يضمن لك الآخرة الباقية ويحيي فيك الروح الباقية التي لا تفنى. إذن: فأيّهما أحقُّ بالأخذ؟

لذلك الحق سبحانه وتعالى حينما حدثنا عن هذه المسألة قال سبحانه: { يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ .. } [الأعراف: 26].

فاللباس الذي يواري السوأة يمثل الضروريات والريش للزينة والكماليات، وهذا قصارى ما نأخذه في الدنيا. ثم يلفت الأنظار إلى ما هو أهم { لِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ .. } [الأعراف: 26] خير من نعيم الدنيا وزينتها وزخرفها، لأن هذا زائل وهذا باقٍ دائم، لباس الدنيا يسترك في الدنيا، ولباس التقوى يسترك في الدنيا وفي الآخرة.
ولما كان لعطاء الألوهية هذه الأهمية لم يُعطه الله إلا لمن آمن به مختاراً، فلم يكلف إلا المؤمن، لذلك نقرأ دائماً في مجال التكاليف { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ .. } [البقرة: 153].

image.png.ecd0500ddc0def9759a99badbfec2078.png

ثم تذكر الآيات صفة أخرى من صفات المتقين { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 16] أي: ما استحقوا هذه المنزلة إلا لأنهم { كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 16] والإحسان درجة عالية من درجات الإيمان عرَّفها العلماء فقالوا: الإحسان هو ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك" .

والإحسان هو الزيادة في الطاعات فوق ما أمرك الله به، لذلك نزلت هذه الآية في مكة قبل أنْ تُفرض الزكاة في مكة، قال تعالى: { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذرايات: 19] ولم يقل حق معلوم، فالحق المعلوم هو الزكاة وقد فرضت بالمدينة، أما الصدقة فكانت في المرحلة المكية.

إذن: معنى الإحسان أنهم ذهبوا إلى مراتب الإحسان قبل أنْ يُكلِّفوا بها، وهذا يعني أن مراتب الإحسان فطرية وطبيعية، وفي إمكانك ولا تكلفك، وهكذا كل أمور الطاعة والاستقامة تأتي طبيعية لا تكلُّف فيها على خلاف المعصية.
 

لذلك نقول: إن المستقيم مثلاً يوفر ثمن الجلوس على القهاوي وشرب الدخان والقهوة والمخدرات والمسكرات، فالاستقامة من الناحية الاقتصادية أوفر لصاحبها.
 

حتى في عمل الجوارح تأتي الاستقامة طبيعية، أما المعصية فتحتاج إلى تكلُّف وتلصُّص واحتيال، لذلك في الاشتقاق اللغوي عبَّر القرآن عن الطاعة بـ (كسب) وعن المعصية بـ (اكتسب).

فالكسب أمر طبيعي، و (كسب) على وزن فعل، أما (اكتسب) ففيها افتعال وهي على وزن افتعل، وهذا الافتعال تراه مثلاً فيمن يحتال لينظر إلى ما حرَّم الله عليه، كيف يتلصص ويُسارق الناسَ النظرات، كذلك تراه فيمن يذهب إلى المسجد ومَنْ يذهب إلى الخمارة وهكذا.
وقد عرَّف العلماء درجة الإحسان في العبادة، فقالوا: الإحسان أنْ تؤدي ما فرضه الله عليك من العبادة، وتزيد عليها من جنس ما فرض الله، فالمؤمن يؤدي الصلوات الخمس والمحسن يؤديها ويزيد عليها ما استطاع من النوافل.
المؤمن يؤدب الزكاة بمقدار نصف العشر أو ربع العشر، والمحسن يؤدي فوق ذلك وهكذا.

 

إذن: المحسن هنا له معنيان:

أنه أحسن قبل التكليف وبادر بعمل الخيرات قبل أنْ تُفرض عليه، أو أدَّى ما فُرِض عليه ثم زاد على ما فرض من جنس ما فرض الله عليه.
ثم يصف الحق سبحانه وتعالى المحسنين بقوله:
{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [الذاريات: 17] والهجوع هو: الثبات عن الحركة في الخير وعدم عمل الشر، ونقول للولد المشاغب الذي تزيد حركته: اهجع. يعني: كُفّ عن الحركة المزعجة.

والإحسان نتيجة لحب العبد لربِّه، فالله أحسن إليك حين كلَّفك وحيَّاك بهذا التكليف، فعليك أنْ ترد التحية بأحسن منها، فإنْ كلَّفك بخمس صلوات تجعلها عشراً، وإنْ كلَّفك بنصف العشر أو بُربْع العشر في الزكاة تجعلها أضعاف ذلك، وهكذا في سائر العبادات وأوجه الخيرات.
ولما سُئل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: "هو أنْ تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك" والذي تراه يكون حاضراً ليس غيباً، وتصوَّر أنك أجير عند رجل يجلس خلفك يراقبك ويرصد كل تحركاتك، هل تستطيع عندَه إذن أنْ تتهاون في عملك أو تقصر فيه؟

كذلك حال المحسن في عبادته، وقد ورد في الحديث القدسى: "يا عبادي إنْ كنتم تعتقدون أنِّي لا أراكم، فالخلل في إيمانكم، وإنْ كنتم تعتقدون أني أراكم، فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟" .
image.png.4a8cfcef14231b25449843749e0e6a89.png

وقوله تعالى: { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات: 18] الأسحار جمع السَّحَر، وهو آخر الليل وقبل طلوع الفجر، حيث يظهر ضوء بسيط يخيَّل للإنسان أنه ضوء الشمس وهي لم تطلع بعد، ولذلك يُسمَّى ضوءاً تخيلياً.
ومنه كلمة السِّحر، فالسحر قلْبٌ للحقائق بطريق التخيُّل ولا حقيقة له، ومنه قوله تعالى: { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ .. } [الأعراف: 116].
ووقت السَّحَر من أفضل الأوقات للاستغفار، لكن ممّ يستغفر هؤلاء الذين وصفهم ربهم بالتقوى، وأنهم أخذوا ما آتاهم ربهم، وأنهم نالوا درجة الإحسان، وكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون؟
إذن: ليس لهم ذنوب يستغفرون الله منها، قالوا: إن لهؤلاء استغفاراً يليق بدرجة الإحسان، فهم لا يستغفرون الله من ذنوبهم، بل يستغفرونه للتقصير الذي يظنونه في عباداتهم وأعمالهم وكأنهم استقلُّوا ما فعلوه ورأوه دون ما يستحق الله تعالى من التقدير والعبادة، وهذا من باب "حسنات الأبرار سيئات المقربين".

image.png.46bab265d50047bd514d5e92731c1b50.png

وقوله تعالى: { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 19] نسب إليهم المال، فقال { أَمْوَالِهِمْ .. } [الذاريات: 19] لأنه يتملكه الآن وإنْ كان في الحقيقة مال الله، والإنسان مستخلف فيه إلى حين.
لذلك قال سبحانه: { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ .. } [الحديد: 7].
والإنسان خليفة لله في الأرض، وعليه بمقتضى هذه الخلافة أنْ يطيع أمر مَن استخلفه بأنْ يعطي السائل والمحروم من مال الله المستودع عنده، يعطي العاجز غير القادر على العمل والكسب، حتى لو يعطيه شكراً لله الذي منحه القوة ليعمل، في حين أن غيره عاجز محروم من هذه القوة.

والحق سبحانه وتعالى حينما يأمرنا بذلك إنما يُؤمِّن حياة ومستقبل القادر وغير القادر على العمل، لأن الدهر يتقلب بالناس، وأحداث الحياة دائمة التغيير، وربما أصبح القادر اليوم غير قادر غداً، وعندها يجد مَنْ يمد إليه يد المساعدة.

لذلك قلنا: إن الشارع الحكيم علمنا أنْ نعمل على قدر الطاقة لا على قدر الحاجة، فحينما تعمل على قدر الطاقة التي وضعها الله فيك فإنك ستأخذ حاجتك وتتصدَّق على غير القادر أنْ يعمل، ولو توفر لنا هذا التضامن وهذا التأمين لَعاش الإنسانُ لا يهاب أحداث الحياة ولا يخشى الفقر عليه وعلى ذريته من بعده.
image.png.9c8b5a1603e4318d7744909cbb1ef645.png

وقوله تعالى: { لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 19] السائل هو المحتاج وتضطره الحاجة لأنْ يسأل الناس، ومثله المحروم هو أيضاً محتاج لكنه يتعفف عن المسألة فيحرم وربما يجوع أو يهلك، وهو في هذه الحالة يكون آثماً في حقِّ نفسه، لأن الله تعالى شرع له أنْ يسأل، فهو محروم من التملك أولاً، وحرم نفسه ثانياً من السؤال الذي شرع له.
ومن هنا حثَّ الإسلام على التعارف وعلى حضور الجماعات التي يتعارف فيها الناس، ويسأل بعضهم عن بعض، ومن خلال هذا التعارف نعرف المحتاج فنساعده ونعرف المريض فنزوره، وهكذا.
وأحد الصالحين جاءه سائل فأعطاه حاجته، ثم دخلتْ عليه زوجته فوجدته باكياً، فقالت له: ما يُبكيك وقد أعطيته حاجته؟ فقال: أبكي لأنِّي تركته حتى يسألني.
إذن: الواجب أنْ يصل الحق إلى أصحابه دون سؤال؛ واجب على الغني أنْ يكفي الفقير مذلة السؤال.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

(وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ) ٢٠ (وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ) ٢١

الأرض هي الأرض التي نعيش عليها وهي مفردة، وفي الحقيقة هى أراضي متعددة، كما قال تعالى: { خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ .. } [الطلاق: 12] فهي إذن سبع أرْضين.
قالوا: لأن الأرض بيئات متعددة من حيث الطقس حرارة وبرودة، ومن حيث التربة وما تحويه من عناصر وما تُخرجه من خيرات. ومن هنا تعددت الأراضي، لذلك العلماء يقولون: هذا حزام القمح مثلاً، وهذا حزام الموز، وهذا حزام كذا.

 

فالحق سبحانه أعطى كل أرض ما يصلحها لنبات معين يناسب السكان عليها، والعيب أننا ننقل إنتاج أرض إلى أرض أخرى لا يصلح لها، ولو صلح للسكان هنا لكان موجوداً عندهم.
لذلك نجد النبات في غير أرضه تصيبه الآفات، فلو نظرنا مثلاً إلى حزام الموز تجده في أماكنه قوياً لا تصيبه آفة ولا عطب، فإذا نقلته إلى غير أرضه كثرتْ فيه الآفات وأصابه العطب.
كأن الخالق سبحانه يقول لنا: هذا ليس مخلوقاً لبيئتك، بل له بيئته التي يجود فيها، حيث تتوفر له مقومات نموه.

 

والآيات جمع آية، وهي العلامة الدالة على قدرة الخالق سبحانه، وأول الآيات في الأرض نلحظها في توزيع رقعة الأرض بين الماء واليابسة، الماء منه عَذْب فراتٌ، ومنه ملح أُجَاج.
العذب نشرب منه، ونسقي الزرع والدواب، والمالح نأخذ منه الأسماك { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا .. } [فاطر: 12].
والأرض فيها الخصب السهل الصالح للزراعة، ومنه الصحاري والجبال، وفي كل منها الخيرات التي تناسبه. ومن الآيات في الأرض أن الماء ثلاثة أرباع اليابسة، والحكمة من ذلك أنْ تتسع رقعة الماء، وتتسع رقعة البخر التي تعطينا بعد ذلك المطر الذي يكفي للشرب وللزراعة.
إذن: الماء المالح هو مخزن الماء في الأرض، وجعله الله مالحاً ليحفظه من العطب ويصونه من التغيُّر، يقول تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 57].

 

ومن الآيات في الأرض أن مجاري المياة العذبة أعلى مستوى من مجاري المياه المالحة، ولو أن المالح كان أعلى لأفسد المياة العذبة ولمَا انتفعنا بها، يقول تعالى: { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [الرحمن: 20].
ومن عجائب القدرة في خَلْق النبات أنْ تجد أجود أنواع النخيل والتين مثلاً على الشواطىء المالحة كما في العريش وغيرها، وهذه من طلاقة القدرة التي لا تخضع للأسباب، إنما تفعل ما تريد، فمن الماء المالح نأكل أشهى وأحلى الثمار.

 

ومن الآيات في الأرض الجبال: { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [فاطر: 27] والجبال كما قلنا هي مخازن الخصب، ومخازن القوت، ومخازن للخيرات الكثيرة من المعادن والأحجار الكريمة.
وسبق أن أوضحنا أن الحق سبحانه نثر الخيرات ووزّعها على الأرض كلها، بحيث إذا أخذنا من الأرض قطاعاً من محيط الأرض إلى مركزها لوجدنا فيه من الخيرات ما يساوي القطاع الآخر، فهذا به معادن، وهذا بترول، وهذا مزروعات، وهكذا.

 

ومن الآيات في الأرض أنْ تجد التربة واحدة وتُسقى بالماء الواحد، ومع ذلك تعطي مختلف الثمار ومختلف الطعوم { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد: 4].
نعم يعقلون قدرة الله في الخلق، وأن هذه الآيات مخلوقة لقادر حكيم قيوم.

 

وهنا قال { آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [الذاريات: 20] أي: الذين يوقنون بذلك ويؤمنون به، فأعظم درجات العلم هي العلوم الكونية التي تبحث في الكون، وتستدل بآياته على قدرة الله.
اقرأ مثلاً: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ .. } [فاطر: 27-28].
لاحظ أنه تعالى لم يذكر هنا حكماً شرعياً يتعلق بصوم ولا صلاة ولا زكاة، إذن: المراد بالعلماء هنا علماء الطبيعة والكونيات الذين يبحثون فب النبات والحيوان والإنسان والجماد، ويستدلون بالقدرة على القادر سبحانه، ويأخذون بأيدي الخلق إلى ساحة الإيمان بالخالق، وهذه حقيقة تنفعهم في الدنيا وفي الآخرة.

 

والمتأمل لقوله تعالى: { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [الذاريات: 20] يفهم منه أن الإنسان إذا نظر في الكون من حوله ويستدل منه على وجود الخالق سبحانه، لذلك أوقع الكافرين في الفخ عندما سألهم: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ .. } [الزخرف: 87] { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ .. } [الزمر: 38].

نعم لم يقولوا غير ذلك لأنها مسألة واضحة وضوحَ الشمس ولم يدعها أحد لنفسه، وكيف يدعيها وقد خُلق رضيعاً لا يقدر على شيء فكيف يقول: خلقتُ نفسي، وقد طرأ على الكون كما هو فكيف يدعي أنه خلقه؟

فواصل و اكسسوارات متحركة للمواضيع 3dlat.com_09_19_7166_de710e57c6981

وقوله تعالى: { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21] أي: كما أن في الأرض آيات كونية دالة على قدرة الله، كذلك في أنفسكم آيات، فإذا لم تصل إلى آيات الكون من حولك فانظر في نفسك التي بين جنبيك.
 

وقال تعالى: {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21] لأن آيات الكون من حولك إنْ بعُدَتْ عليك فإن آيات نفسك قريبة منك، وأوْلَى بالنظر والتأمل.
والآيات في النفس كثيرة, خُذْ مثلاً درجة حرارة الجسم تجدها واحدة هي 37 ْ لمن يعيش عند القطب المتجمد، ولمَنْ يعيش عند خط الاستواء، ولا تستقيم حركة الأعضاء والجوارح إلا عند هذه الدرجة، ولو زادت لاختلَّ نظام الجسم كله واضطربت حركته.

 

أما في داخل الجسم فكل جهاز من أجهزته له درجة حرارة تناسبه دون أنْ يحدث استطراق حراري في الجسم الواحد كما نعلم، فإذا كانت الحرارة العامة في الجسم 37 ْ فإن حرارة العين مثلاً تقف عند تسع درجات لا تزيد عنها، ولو زادت عن ذلك لانفقأت العين.
 

أما الكبد فلا يؤدي دروه في الجسم إلا عند أربعين درجة، والعجيب أن هذا التفاوت داخل جلد واحد وجسم واحد، فتبارك الله أحسن الخالقين.
كذلك لو تأملتَ الدم الذي يجري في العروق، التنفس، القلب، المخ، العظام كل شيء في جسمك فيه آية، بل آيات حين تتأملها تقول: سبحان الخالق المبدع، سبحانه مَنْ له طلاقة القدرة.
إذن: لا حجة لمَنْ لم يؤمن بعد ما رآه من الآيات في نفسه وفي الكون من حوله.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

(وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) ٢٢ -الذاريات

هذا الأسلوب يُسمَّى في البلاغة أسلوبَ قصر، بتقديم الجار والمجرور على المبتدأ، فالرزق في السماء فقط لا في غيرها، الرزق يأتيك من أعلى من الله، والرزق كل ما يُنتفع به، فالمال رزق، والصحة والعافية رزق، والعقل رزق، والأمن رزق.
 

ومعنى أن الرزق في السماء. أي: أنه أمر وتقدير أزليّ مكتوب في اللوح المحفوظ، فإنْ أردتَ الحياة المادية التي نعيشها، فهي أيضاً مصدرها الماء النازل من السماء، لأنه قوام الحياة ومصدر القوت.
 

{وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22] أي في السماء أيضاً، فكل شيء مقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ، كل صغير وكبيرة، وشاردة وواردة، يقول تعالى: { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 59].
 

إذن: ما دامت الأرزاق مُقسَّمة عند الله، وما دام كل شيء مكتوباً أزلاً، فأجملوا في الطلب، ولا تنشغلوا بمسألة الرزق، إلا أنْ تذهب إليه وأنْ تسعى في طلبه، فأنت لا تخلقه ولكن تذهب إليه كما قال سبحانه: { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ .. } [الملك: 15].
 

فالمشي والسعي سببٌ للرزق المقسوم لك أزلاً، وهذا الدرس تعلمناه من السيدة هاجر أم إسماعيل لما تركها سيدنا إبراهيم هي وولدها عند الكعبة وانصرف فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لن يُضيِّعنا.
 

فهي واثقة أن الرزق عند الله، وما كان سعيها سبعة أشواط بين الصفا والمروة إلا نموذجاً للسعي، فكأن الحق سبحانه أراد أنْ يجعلها شاهداً على صدق هذه الآية، فلما استنفدت السيدة هاجر أسبابها في السعي عادتْ إلى وليدها مطمئنة بقولها: إن الله لن يضيعنا.
وعندها ضرب الوليدُ الأرضَ برجله فتفجَّرت من تحتها زمزم، وبعد ذلك جعلها الله لنا مشعراً من مشاعر الحج والعمرة ليُذكِّرنا دائماً بهذه الحقيقة، وهي أن الرزق عند الله، لكن السعي إليه مطلوب، والحركة في اتجاهه سببٌ من أسبابه.

فواصل و اكسسوارات متحركة للمواضيع 3dlat.com_09_19_7166_de710e57c6981

(فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) ٢٣ -الذاريات 
حكى الأصمعي أنه قابل يوماً أعرابياً، فسأله الأعرابي: من أين؟ فقال: من أصمع، قال: من أين أتيتَ؟ قال: من المسجد، قال: وماذا تصنعون فيه؟ قال: نقرأ قرآن الله، قال: فاقرأ عليَّ.
فقرأتُ عليه سورة الذاريات حتى وصلتُ إلى قوله تعالى: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22] فأتى بأدوات الصيد التي كانت معه فكسرها، وقال: ما دام رزقي في السماء والله لا يكذب.
قال الأصمعي: فخرجتُ مع هارون الرشيد للحج، فلقيتُ هذا الأعرابي لكنه كان هذه المرة نحيفاً مُصفرَّ اللون فقلتُ له: ألستَ فلاناً؟ قال: ألستَ الأصمعي؟ قلت: نعم ما الذي صيَّرك إلى هذا؟
فقال: اقرأ عليَّ ما قرأته سابقاً فقرأتُ عليه إلى قوله تعالى: { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [الذاريات: 23] فتعجب وقال: ومَنْ أغضب الجليل حتى ألجأه أنْ يقسم. وظلَّ يرددها، فما انتهى من الثالثة حتى فاضتْ روحه معها.

 
وحكيت مرة أنني كنتُ أحج أنا والشيخ أحمد أبو شقرة، فعَنَّ لنا أنْ نصعد إلى غار حراء، فقال لي: نريد دليلاً يرشدنا فقلت له: نحن نعرف الطريق وسِرْنا، لكن وجدنا أنهم كسروا الطريق المؤدية إلى الغار فضللنا.
ثم تنحَّى صاحبي عني جانباً ليبول، وفجأة قال لي: انظر يا شيخ. فنظرتُ. فإذا بحشرة أتتْ وأخذت تشرب من بوله، فقلت: سبحان الله وكأننا ضللنا الطريق لنسقي هذه الحشرة، ثم مرَّ بنا رجل عرف أننا ضللنا الطريق فأرشدنا.

 
الحق سبحانه وتعالى هنا يقسم بذاته سبحانه، وربوبيته للسماء والأرض، لأن السماء ينزل منها المطر، والأرض تستقبل هذا المطر، وتنبت به النبات الذي به قوام المعيشة والحياة.
 
وقوله: { إِنَّهُ لَحَقٌّ .. } [الذاريات: 23] أي قوله تعالى: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22] هذا قول حقٌّ لا شك فيه، لأنه تقدير أزلي سُجِّل في اللوح المحفوظ.
 
ثم يعطينا مثالاً يُجسِّم لنا هذه المسألة، فيقول { مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [الذاريات: 23] فكما تدرك أنك تتكلم، وكما أنك متأكد من هذه الحقيقة ولا تشك فيها لأنك تباشرها بنفسك، فكذلك لا تشكّ في مسألة الرزق، وأنه من عند الله وثِقْ بهذا الخبر، لأن الذي أخبرك به صادق.
 
 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ) ٢٤ (إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ) ٢٥ -الذاريات

هذا إخبار من الله تعالى عن سيدنا إبراهيم عليه السلام، ولأنه خبر هام وعجيب بدأه الحق سبحانه بهذا الاستفهام { هَلْ أَتَاكَ .. } [الذاريات: 24] وهل تلازم دائماً الشيء العجيب الذي يستحق أنْ نلتفت إليه.
ويشوِّقنا الحق سبحانه إلى معرفته، كما في قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الصف: 10] يُشوِّقنا لنقول: نعم يا رب دلنا.
ولأن قصة ضيف سيدنا إبراهيم قصة عجيبة قال الله عنها { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ .. } [الذاريات: 24] أي نبأ { ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ } [الذاريات: 24].

وسيدنا إبراهيم أبو الأنبياء كرَّمه الله بقوله: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً .. } [النحل: 120] لأن فيه من الفضائل ومن خصال الخير ما يوجد في أمة بأكملها، لأن الله تعالى وزع الفضائل على الخَلْق جميعاً، فأنت لك فضيلة، وغيرك له فضيلة ثانية وثالثة وهكذا.

هذا ليتكاتف الخَلْق ويتعاون الناس، وإلا لاستغنى بعضنا عن بعض ولحدث التفكك في المجتمع، لذلك تجد العاقل لا يحتقر أحداً مهما رأى نفسه أفضل منه لأنه يعلم ميزان المساواة بين الخَلْق في هذه الفضائل، فيقول في نفسه: إنْ كنت أفضل منه في شيء فلا بدَّ أنه أفضل مني في شيء آخر.

وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أخفى ثلاثاً في ثلاث: أخفى رضاه في طاعته، فلا تحتقرن طاعة مهما قلَّتْ، فإن الله قد غفر لرجل لأنه سقى كلباً يأكل الثرى من العطش.
وأخفى غضبه في معصيته فلا تحقرن معصية مهما صَغُرَتْ، فإن الله تعالى أدخل امرأة النار في هِرَّة حبستها، فلا هي أطعمتها وسَقَتْها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وأخفى أسراره في خلقه فلا تحقرن عبداً ما" .
والإمام علي رضي الله عنه يقول: عندما ترى مَنْ هو أدنى منك في شيء فتحَسّر، لأنك لا تعرف الفضيلة التي فضَّل بها عليك، ولا بدَّ للخَلْق أنْ يعي هذه الحقيقة لأنهم أمام الله سواسية، والله تعالى لم يلد ولم يولد، وخَلْقه عنده سواء، لا يتفاضلون إلا بالتقوى والعمل الصالح.

كلمة { حَدِيثُ .. } [الذاريات: 24] يعني الخبر المتداول، وفيه حقيقة أو حكمة، لذلك يتداوله الناسُ ويهتمون به { ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ .. } [الذاريات: 24] جاءت كلمة (ضيف) مفردة مع أنهم كانوا جمعاً من الملائكة، فلم يقل ضيوف ولا أضياف، إنما اختار اللفظ المفرد، فقال: (ضيف).
قالوا: لأن (ضيف) تُطلق على المفرد والمثنى والجمع ممَّنْ استدعيته إلى بيتك أو جاءك فصار ضيفاً عليك، والمستضيف ينبغي أنْ يعامل الأضيافَ جميعاً معاملة واحدة ويستقبلهم بوجه واحد لا يُفضل أحداً على أحد، ولا يحتفي بأحد دون الآخر.
فكأنهم عنده شخص واحد لا يميز أحداً، لا في مجلسه ولا في نظره إليهم، لذلك عبَّر القرآن عنهم بصيغة المفرد، فهم في حكم الرجل الواحد.

وقد علمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدرس، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يُسوي بين جُلسائه حتى في نظره إليهم حتى ليظن كل منهم أنه لا يوجد في المجلس غيره.

وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تستخدم المفرد وتريد به الجماعة، ذلك حينما يكون توجههم واحداً وهدفهم واحداً، وحينما يجتمعون على أمر الله، وأمر الله دائماً واحد لا اختلافَ فيه، والجماعة حينئذ في حكم الواحد.
اقرأ هذا مثلاً في قوله تعالى في قصة سيدنا موسى وسيدنا هارون { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 16].
إذن: ضيف يعني أضياف، ومعنى { ٱلْمُكْرَمِينَ } [الذاريات: 24] جمع مكرم، وهو الذي يقع عليه الكرم من غيره، والفاعل مُكرِم والمفعول مُكرَم، فوصف الملائكة بأنهم مكرمون فمَنْ أكرمهم؟
قالوا: لها معنيان: أكرمهم الله تعالى كما قال سبحانه: { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 26-27].
أو مُكرمون أكرمهم سيدنا إبراهيم حينما أعدَّ لهم طعاماً وباشر خدمتهم بنفسه لا بعبيده، وجعل امرأته تشاركه في خدمتهم، مع أن المرأة مستورة وأكرمهم بأن بادرهم بالتحية.
ثم إنه لم يقدم لهم الطعام الحاضر، إنما أكرمهم وذبح لهم عجلاً مرة وصفه بأنه سمين، ومرة وصفه بأنه حنيذ وهذا كمال في الوصف، فهو سمين في ذاته. أي: ليس هزيلاً في تكوينه. وهو حنيذ، والحنيذ هو أفضل أنواع الشواء عندهم، فهو من حيث طريقة طهيه حنيذ مشوي، وهذا منتهى الإكرام.

وقوله: { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ .. } [الذاريات: 25] أي: الملائكة في صورة بشر { فَقَالُواْ سَلاَماً .. } [الذاريات: 25] فردّ عليهم { سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } [الذاريات: 25] أي: غير معروفين لنا، ويقال: إنه قالها في نفسه ولم يجهر بها.
ونلاحظ هنا فرقاً بين سلام الملائكة وردّ السلام من سيدنا إبراهيم، لأنهم حيَّوْه بقولهم { سَلاَماً .. } [الذاريات: 25] هكذا بالنصب فردَّ عليهم { سَلاَمٌ .. } [الذاريات: 25] بالرفع، هم بادروه بالسلام، لأن القادم قد يخشى المقدوم عليه منه، فبادروه بالسلام ليأمن جانبهم.

وكلمة { سَلاَماً .. } [الذاريات: 25] بالنصب دلَّتْ على أنها مفعول لفعل مقدّر أي: نسلم عليك سلاماً، والجملة الفعلية تدل دائماً على حدث سيحدث، وهو الأمر الذي جاءوا من أجله.
أما ردُّ السلام فكان بالرفع { سَلاَمٌ .. } [الذاريات: 25] أي: سلام عليكم، فهي جملة اسمية، والجملة الاسمية تدلُّ على الثبوت، وهو حال المستقبل سيدنا إبراهيم.

فواصل و اكسسوارات متحركة للمواضيع 3dlat.com_09_19_7166_de710e57c6981

 

 

(فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) ٢٦ (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ) ٢٧ -الذاريات

معنى { فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ .. } [الذاريات: 26] أي: ذهب خُفْية من الضيوف إلى امرأته، لأن العادة ساعة يدخل الضيف يقوم المضيف ليعدَّ له ما يكرمه به، فيقول له الضيف: اجلس والله ما أنت قايم، لذلك تسلَّل سيدنا إبراهيم خُفْية من أضيافه ليُعدَّ لهم الطعام دون أنْ يشعروا به، ودون أنْ يقولوا له اجلس لا نريد شيئاً.
فلما جاءهم بالعجل السمين المشوي قرَّبه إليهم وقدَّمه أمامهم ليأكلوا، فرأى أنهم لا يُقبلون على الطعام كعادة الناس، قال لهم { أَلاَ تَأْكُلُونَ } [الذاريات: 27] يحثهم على الأكل، لكنهم لم يأكلوا ولم تمتدَّ أيديهم إلى الطعام فأحسَّ بالخوف منهم

فواصل و اكسسوارات متحركة للمواضيع 3dlat.com_09_19_7166_de710e57c6981

 

 

 (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ) ٢٨ (فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) ٢٩ (قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ) ٣٠ -الذاريات

لما بدت على إبراهيم علامات الخوف بادرته الملائكة تُطمئنه { لاَ تَخَفْ .. } [الذاريات: 28] ثم بشَّروه بغلام عليم هو سيدنا إسحاق، ووصفه بأنه عليم يعني يبلغ في العلم مبلغاً، لكن كيف ذلك وسيدنا إبراهيم رجلٌ عجوز وامرأته سارة عقيم لا تلد.

{ فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ .. } [الذاريات: 29] في ضجة وصيحة شديدة { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا .. } [الذاريات: 29] لطمتْه مُتعجبة من هذه البشرى { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [الذاريات: 29] يعني: كيف ألد وأنا عجوز عقيم.
إذن: قاستْ المسألة بمقياس الأسباب البشرية، فالأسباب البشرية تقول أنها مستحيل أنْ تلد، لكن لله تعالى مقياساً آخر، ولقدرة الله كلام آخر نطقتْ به ملائكة الله.

{ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } [الذاريات: 30] كلمة { كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ .. } [الذاريات: 30] يعني: ما دام قد قال سبحانه فهو أمر واقع لا شكَّ فيه، لأن قدرة الله فوق الأسباب.
وهذا التعجب من السيدة سارة لما بُشِّرتْ بإسحاق، رأيناه من السيدة مريم لما بُشِّرت بعيسى عليه السلام { قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ .. } [آل عمران: 47].

وقوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } [الذاريات: 30] الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه، والعليم هو الذي يحيط علمه بكل شيء، ويعلم أنه إذا أمر بشيء أطاعه ولم يمتنع عليه.

فواصل و اكسسوارات متحركة للمواضيع 3dlat.com_09_19_7166_de710e57c6981

 

 

(قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ) ٣١ (قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ) ٣٢ (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ) ٣٣ (مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) ٣٤ -الذاريات

{ قَالَ .. } [الذاريات: 31] أي: سيدنا إبراهيم عليه السلام للقوم الذين دخلوا عليه { فَمَا خَطْبُكُمْ .. } [الذاريات: 31] يعني: ما شأنكم؟ وما حكايتكم؟ وما الأمر الخطير الذي جئتم من أجله؟ كلمة الخطب تدل على الأمر الخطير وحدث هام أراد أنْ يعرف ما هو وهل هو متعلق به أم بغيره؟
وهذا الكلمة جاءت بهذا المعنى أيضاً في قوله تعالى في قصة سيدنا يوسف: { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ .. } [يوسف: 51] أي: الأمر العجيب الذي حملكن على هذا الفعل.
وقالها سيدنا موسى لما رأى ابنتيْ سيدنا شعيب قد خرجتا لسَقْي الغنم { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا .. } [القصص: 23] أي: ما الذي ألجأكنَّ للخروج، فكأنه أمر عجيب غير عادي. إذن: هذه الكلمة وُضِعت للأمر الخطير الذي يدعو إلى الدهشة والتعجب.
فردَّ الملائكة { قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [الذاريات: 32] وهنا اطمأن سيدنا إبراهيم، وعرف أن الأمر لا يتعلق به، والقوم المجرمون في هذا الوقت هم قوم لوط، ثم بيَّنوا مهمتهم { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [الذاريات: 33].

ومفهوم أن الحجارة تختلف عن الطين، الحجارة فيها صلابة وقساوة تختلف قوة وصلابة حسب نوع الحجر بداية من المرمر، ثم الجرانيت والرخام والجير.
فكيف تكون الحجارة من طين، وهما وصفان في الظاهر متناقضان؟ قالوا: هو طين أحْمِي عليه في النار حتى صار صَلْباً قاسياً، كما نفعل مثلاً في صناعة الفخار.

ومعنى { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } [الذاريات: 34] أي: مُعلَّمة، فكلُّ حجر منها يحمل اسم صاحبه وعنوانه، فهو مُخصص له لا لغيره ومُوجَّه إليه لا يخطئه.

وقوله { عِندَ رَبِّكَ .. } [الذاريات: 34] دلّ على أنها نزلتْ من السماء وليستْ من حجارة الأرض، وأنها مُعلَّمة من عند الله جاءت هكذا جاهزة، ونحن مهمتنا أنْ نرميهم بها بأسماء أصحابها، فلا يختلط حجر بحجر.
ومعنى { لِلْمُسْرِفِينَ } [الذاريات: 34] المسرف هو الذي تجاوز الحدَّ في المعصية فكأن هناك حدوداً للأمور، وحدوداً للحلال وحدوداً للحرام، وقد بيَّنها الحق سبحانه، وعلَّمنا كيف نقف عند هذه الحدود، فقال تعالى في الحلال { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا .. } [البقرة: 229].
وقال في الحرام { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا .. } [البقرة: 187] أي: قِفْ عند حدود الحلال لا تتجاوزه إلى غيره، أما الحرام فإياك أنْ تقربه. احذر مجرد الاقتراب منه، لأنك لو اقتربتَ منه تُوشك أنْ تقع فيه فهي حماية لك.
كما قال سبحانه لآدم { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ .. } [البقرة: 35] وقال { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ .. } [الإسراء: 32] ففي الحرام لا يمنعنا من الفعل، بل يمنعنا من الاقتراب من أسبابه.
ففي أيِّ شيء أسرف هؤلاء المجرمون المسرفون؟ أسرفوا في فعل مُحرَّم يناقض الطبيعة النقية التي خلقها الله؛ لأن الله تعالى لما أراد أنْ يجعل خليفة في الأرض خلق آدم وخلق معه زوجه ليتم التكاثر، وتأتي القبائل التي تعمر الأرض، لأن عمارتها لا تقوم بواحد أو اثنين إنما تحتاج إلى جمهرة من الناس.
ثم جعل التكاثر أيضاً في كل شيء يريد له النمو والاستمرار ليخدم هذا الخليفة { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ .. } [الذاريات: 49].
فإذا كان الإنسانُ سيتكاثر فلا بدَّ أنْ تكبر رقعة الأرض التي يعيش عليها ويتكاثر النبات الذي يعيش عليه، قال تعالى: { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً .. } [النساء: 1] إذن: نحتاج إلى زرع يتناسب وهذه الزيادة.
والمتأمل في مسألة التكاثر هذه في النبات وفي الإنسان يجدها بحسب أهمية الشيء ومدى الاستفادة منه والانتفاع به. قلنا مثلاً: حينما تزرع الفجل يمكن أنْ تأكل منه بعد عشرة أيام، والخيار بعد أربعين يوماً. والتمر بعد أربعة أعوام.
فكل شيء قبل أن يعطيك يأخذ منك على قدر أهميته، فإنْ أردتَ الإنسان فإنه ولا شكَّ يحتاج إلى كثير من الجهود والتبعات، لذلك ربطه الخالق سبحانه في مسألة التكاثر بلذة جامحة تفوق كلَّ لذة أخرى يشعر بها الإنسانُ في كُلِّ جوارحه تفوق لذة العين حين ترى، والأذن حين تسمع، واللسان حينما يتذوق، والأنف حينما يشم، واليد حينما تلمس، لأن الجوارح لكل منها مهمته ووجهته.
أما لذة الجنس فهي تستغرق الجوارح كلها، ولولا أن الخالق سبحانه ربط التكاثر بهذه اللذة ما أقبل أحدٌ عليه ولا تحمَّل تبعاته.

ولك أنْ تتصور الفرق بين تربية طفل وتربية حَمَل أو عجل مثلاً، الحَمَل يقوم ويمشي خلف أمه بعد عدة دقائق من ولادته، والطفل يمشي بعد عام ونصف العام.
ومَشْيه يأتي على مراحل، فبعد عدة شهور يستطيع أنْ يجلس، وبعد عدة شهور أخرى يحبو ثم يقف ثم يمشي.
لذلك نرى طفولة الإنسان أطول طفولة في المخلوقات كلها، ومن هنا ربط الخالق سبحانه عملية التكاثر في الإنسان بهذه اللذة الجارفة التي لا يستطيع الإنسانُ مقاومتها لتكون حافزاً له على التكاثر، وإلا ما أقبل على تحمُّل هذه المسئولية وهذه المعاناة.

ومن هنا أيضاً اهتم الإسلام بتكوين الأسرة، ووضع لها من الضوابط ما يكفل لها النجاح، فهذه الغريزة لا تأتي هكذا كما في الحيوانات، إنما جعل لها قواعد لاختيار الزوجة الصالحة، وحَثَّ على اختيار ذات الدِّين، وجعل فترة للخطوبة ليتعرَّف كلُّ طرف على الآخر.
وأباح لكل منهما أنْ ينظر إلى الآخر ليختار كلٌّ من الزوجين ما يناسبه ويُرضى ذوقه ورغبته في الجنس الآخر، ثم شرع المهر وعقد القرآن، كل ذلك لتكون نواة الأسرة قوية متينة، مُعدَّة لاستقبال الحياة بكلِّ ما فيها من تبعات ومسئوليات.

والجريمة التي ارتكبها هؤلاء القوم واستحقوا بها ما حاق بهم من ألوان العذاب أنهم صرفوا هذه الغريزة التي جعلها الله في الإنسان عن وجهها الحلال إلى وجه آخر محرم لا فائدة منه ولا ثمرةَ له.
وجه ينافي الفطرة السليمة والأذواق المستقيمة، فكانوا يأتون الذكران بدل أنْ يأتوا النساء كما أحل الله، ومعلوم أن الإتيان مقصور على مكان الحرث والاستنبات. { { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ .. } [البقرة: 223].
إذن: فعلتهم هذه كانت إسرافاً منهم على أنفسهم، ومجاوزة للحد الذي شرعه الله، والإتيان في غير المحلِّ يستوي فيه إتيان الرجل وإتيان المرأة فكله محرم.
ولما كان هذا الفعل زنا يستحق الرجم رجمهم الله لا بحجارة من الأرض، إنما بحجارة من السماء تنزل على كلِّ واحد منهم باسمه تخصُّه دون غيره، بحيث لم تُبْقِ منهم أحداً وأبادتهم عن بَكْرة أبيهم.

فواصل و اكسسوارات متحركة للمواضيع 3dlat.com_09_19_7166_de710e57c6981

 

 

(فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ) ٣٥ (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ) ٣٦ (وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ) ٣٧ -الذاريات

أي: قبل أنْ ينزل بهم العذاب أخرجنا مَنْ كان في القرية من المؤمنين، والمعنى: ما قلنا لهم اخرجوا، إنما هيأنا لهم سبيل الخروج بخواطر قذفناها في نفوسهم، فخرجوا ولم يُصبْهم العذاب.
{ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا .. } [الذاريات: 36] أي: في القرية { غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الذاريات: 36] إذن: تكلم أولاً عن المؤمنين ثم عن المسلمين، ومعلوم أن الإيمان أعم من الإسلام، فالإيمان أمر عقديّ، والإسلام أمر سلوكي، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً.

والإيمان والإسلام يلتقيان في أنك لا تُسلم زمامك في التكليف إلا لمَنْ آمنتَ بحكمته في التكليف، أما إنْ نافق المؤمنُ أو راءى فموضوع آخر، لذلك قال تعالى: { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا .. } [الحجرات: 14] فردَّ عليهم { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا .. } [الحجرات: 14] أي: الإسلام الظاهري { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ .. } [الحجرات: 14].
إذن: هنا قال في الناجين المؤمنين والمسلمين، وفي موضع آخر قال: { إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرينَ } [العنكبوت: 33] لأن الأهلية على حقيقتها ليستْ أهلية الدم والنسب، إنما أهلية الدعوة، أهلية اتباع بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سلمانُ منَّا أهل البيت" .
وسيدنا نوح لما قال لربه عز وجل: { رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي .. } [هود: 45] قال له: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ .. } [هود: 46].

وقوله سبحانه: { وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [الذاريات: 37] أي: في القرية والمكان الذي حدثت فيه هذه العملية، قالوا: الآية الباقية بعد هلاكهم هي الحجارة التي أهلكهم الله بها ما تزال موجودة، ومَنْ يراها يقول: هذه ليست من حجارة الأرض، بل هي نوع آخر هي الحجارة التي نزلتْ على هؤلاء المجرمين فأهلكهم الله بها. وهكذا تظل هذه الآية باقية لردْع كلّ مَنْ تُسوِّل له نفسه أنْ يفعل فعلهم.
وقالوا: بل الآية التي تركها الله شاهداً عليهم هي عَيْنٌ مُنتنة، لا يطيق الإنسانُ أنْ يشمَّها.

 

 
 
 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

(وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) ٣٨ (فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) ٣٩ (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) ٤٠ -الذاريات
 

بعد أنْ حدَّثتنا الآيات عن طرف من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام تُحدثنا الآن عن سيدنا موسى عليه السلام، لماذا؟ لأن القرآن كثيراً ما يأتي بإبراهيم وموسى في قرن واحد لما بينهما من تشابه في مسيرة الدعوة إلى الله.
اقرأ: { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [الأعلى: 18-19] وقال: { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } [النجم: 36-37].
فالقرآن يربط بينهما لأن سيدنا إبراهيم أول ما تعرَّض في أمر الدعوة تعرَّض للرجل الذي حاجَّه في ربه، ويبدو من سياق القصة أنه ادَّعى الألوهية بدليل قوله { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ .. } [البقرة: 258].
وبعد ذلك كان لإبراهيم مواقف في إظهار آيات الله للناس، فهو أول مَنْ علَّمهم أنْ ينظروا في الآيات الكونية، ثم كانت له مواقف مع عبدة الأصنام، خاصة مع أبيه آزر، ثم جاءت أحداث إلقائه في النار، ثم رُزِقَ الولد، وابتُلِي بالأمر بذبحه، ثم جاءت قصة بناء البيت، إلى آخر أحداث قصته.

لذلك قال الله في شأنه: { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة: 124] أي: أدّاها كاملة لا بالمنطق العادي في الأشياء، إنما بمنطق الإجادة والإحسان، لذلك مدحه ربُّه فقال: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [النحل: 120] أي: يجمع من خصال الخير ما لا يتوفر إلا في أمة كاملة.

كذلك مَرَّ سيدنا موسى عليه السلام بمواقف وابتلاءات مشابهة في رحلة دعوته لفرعون الذي ادَّعى الألوهية، فقال لقومه: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي .. } [قصص: 38].
الواو في { وَفِي مُوسَىٰ .. } [الذاريات: 38] عاطفة، فالمعنى في موسى آية من آيات الله معطوفة على قوله تعالى: { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [الذاريات: 20] كذلك في موسى آيات { إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } الذاريات: 38] أي: بحجة واضحة بيِّنة.
وسبق أنْ أوضحنا أن السلطان قد يكون سلطانَ قوة وقهر تخضع المقابل، أو سلطانَ برهان وحجة يقنعه.

سلطان القهر يقهر القالب، وسلطان الحجة يقنع العقل ويستميل القلب، وموسى عليه السلام لم يكُنْ يملك إلا حجةَ الإقناع، ولا قوة له على فرعون يقهره بها، فأعطاه الله سلطاناً مبيناً يقنع به فرعون، وهو الآيات والمعجزات التي صاحبتْ دعوته.
والمعجزة لا تؤتي ثمارها في القوم إلا إذا كانت من جنس ما نبغوا فيه وأتقنوه، ولو تحداهم بشيء لا يعرفونه ما كان للتحدي معنى، لذلك كانت معجزة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، لأن العرب نبغوا في البلاغة والفصاحة، فتحدَّاهم بما نبغوا فيه.
أما قوم فرعون فقد نبغوا في السحر فكانوا سحرة، لكن مُكرهين على السحر بدليل أن فرعون لما استدعاهم من الآفاق لمقابلة موسى بسحرهم قالوا { أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ } [الشعراء: 41] لأن الأعمال التي كانوا يعملونها كانت سُخْرة بدون أجر، كما رأينا مثلاً في بناء الأهرامات.

والأصل في دعوة سيدنا موسى أنه ما جاء ليدعو فرعون إنما ليأخذ منه بني إسرائيل، ولينقذهم من بطشه، هذا هو الأصل لكن جاءتْ دعوته لفرعون على هامش هذا الأصل وتابعة له، بدليل قوله تعالى: { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ .. } [طه: 47].

فقبل أنْ يدعو موسى بني إسرائيل كان عليه أنْ يخلصهم من فرعون واستبداده بهم، ومعلم أن فرعون اضطهد بني إسرائيل لأنهم ساعدوا الهكسوس لما أغاروا على مصر وتعاونوا معهم ضد فرعون، حتى انتصر الهكسوس وألغوا الفرعونية وجعلوها ملكية.
لذلك عرفنا أن الهكسوس دخلوا مصر في عهد سيدنا يوسف عليه السلام، لأن القرآن لما تكلَّم عن حكام مصر تكلم عن فرعون، لكن لما ذكر يوسف ذكر لفظ الملك { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ .. } [يوسف: 50] ولم يأتِ بلفظ الفرعون.

فواصل و اكسسوارات متحركة للمواضيع 3dlat.com_09_19_7166_de710e57c6981

فلما أراد الحق سبحانه أنْ يُخلِّص بني إسرائيل من قبضة فرعون أرسل موسى لهذه المهمة.
وقوله تعالى:
{ فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [الذاريات: 39] أي: فرعون أعرض عن موسى ودعوته { بِرُكْنِهِ .. } [الذاريات: 39] أي: أعرض بسبب ركنه. أي: قوته وسلطانه وجبروته واستعلائه في الأرض. أو برُكْنه يعني بجانبه.

وحين تُعرض عن إنسان تعطيه جانبك، ثم تدير له ظهرك بعد أنْ كنتَ في مواجهته، وهذا المسألة صوَّرها القرآن الكريم بقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ .. } [التوبة: 34-35].

وبهذا الترتيب يكون الإعراض عن طالب الحاجة، حيث يُعرض أولاً بوجهه، ثم بجنبه، ثم بظهره، وهكذا يكون الكَيُّ يوم القيامة جزاءً وفاقاً، وعلى قَدْر حركات الامتناع عن الخير.
وقوله:
{ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [الذاريات: 39] تأمل التناقض حتى في الاتهام، فالساحر له قدرة على ترتيب الأشياء، وعنده ذكاء بحيث يُخيِّل للناس رؤية الأشياء على خلاف ما هي، أما المجنون فعلى خلاف ذلك، لأنه لا يُرتِّب الأشياء، ولا قدرةَ له على السيطرة على مراداته ونزوعه، لكنه تخبُّط الباطل وإفلاسه.

فواصل و اكسسوارات متحركة للمواضيع 3dlat.com_09_19_7166_de710e57c6981

ثم ينتقم الحق سبحانه من فرعون { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } [الذاريات: 40] أخذهم الله بأنْ ألقى في نفوسهم حبّ اللحاق بموسى وأغراهم بذلك حتى تبعوهم وخاضوا البحر خلفهم.
فأطبق الله عليهم الماء فأغرقهم بعد أنْ نجَّى موسى وبني إسرائيل { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ .. } [الذاريات: 40] ألقيناهم في البحر (وهو) أي فرعون { وَهُوَ مُلِيمٌ } [الذاريات: 40] أي: فعل ما يُلام عليه من عُتوه وجبروته وادعائه للألوهية.
والمعنى: أن الله تعالى لم يُهلكه وجنودَه بظلم أو جبروت، إنما أهلكهم بما يستحقون من العذاب.

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ ٤١ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ ٤٢ -الذاريات
 
أيضاً هنا الواو عاطفة تعطف { وَفِي عَادٍ .. } [الذاريات: 41] على { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [الذاريات: 20] وعلى قوله: { وَفِي مُوسَىٰ .. } الذاريات: 38] والمعنى: وفي عاد آية لكم، فكأن القرآن يُسلِّي سيدنا رسول الله يقول له: لا تحزن من عناد قومك لك، ووقوفهم في وجه دعوتك.
فالعاقبة لك، ومصيرهم سيكون مثل مصير أمثالهم من المكذِّبين للرسل السابقين، فلك فيهم عبرة.
{ وَفِي عَادٍ .. } [الذاريات: 41] أتى باسم القبيلة ولم يذكر النبي. وفي موضع آخر قال: { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً .. } [الأعراف: 65] فذكر القبيلة لأنه يتحدث عن سوء عاقبتها وما نزل بها لما كذّبتْ نبيها، وعاد عند الأحقاف.
وقد قال الله فيهم: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } [الفجر: 6-8] ثم ذكر بعدها { وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ } [ص: 12].
فكأن حضارة عاد كانت أقوى وأعظم من حضارة الفراعنة، لكنها مطمورة تحت التراب، لأن الله أهلكهم بالريح فدفنتهم تحت الرمال، ولا عجب في ذلك فهذه منطقة رملية إذا هبَّتْ فيها عاصفة فيمكن أنْ تطمر قافلة كاملة تبتلعها الرمال.
لذلك نجد آثار هذه الأمم حفائر تحت الأرض.
ومعنى { ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } [الذاريات: 41] أي: الريح المدمرة المهلكة، لأن الريح قد تهبُّ ليِّنة سلسة رقيقة، وتسمى النسيم، وقد تشتد فتكون إعصاراً مدمراً، فهي آية من آيات الله تكون نعمة ونقمة.
الريح هي الهواء الذي نتنفسه، وهو أهم عنصر في عناصر استبقاء الحياة، ولو مُنع عن الإنسان يموت ولو نَفَس واحد، والهواء عنصر أساسي في تكوين الماء وبه تسير السُّحب وينزل المطر، وبه يحيا الحيوان والنبات وهو الذي يُلقِّح الثمار والمزروعات.
وسبق أنْ قلنا إن الريح تأتي في الشر وفي الهلاك، أما الرياح بالجمع فتأتي في وجوه الخير، فقال هنا { ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } [الذاريات: 41] أي المدمِّرة، وقال: { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ .. } [الحجر: 22].
ووصف الريح هنا بأنها عقيم، لأنها لا فائدةَ منها ولا تأتي بخير، لا مطر ولا لقاح، إنما تأتي بالشر والخراب.
وقوله تعالى: { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ } [الذاريات: 42] معنى: (تذر) أي: تترك ومثله الفعل تدع، وكل منهما مضارع ليس له ماض في اللغة إلا في قراءة: { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [الضحى: 1-3] في قراءة (مَا ودَعَكَ) بفتح الدال من غير تشديد.
أما الفعل (يذر) فليس له ماضٍ، فهذه الريح لا تأتي على شيء ولا تمر على شيء إلا أهلكته وتركته { كَٱلرَّمِيمِ } [الذرايات: 42] وهو الشيء الجاف الذي تفتت وصار هباءً تذروه الرياح.
 

 

تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ ٤٣ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ٤٤ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ ٤٥ )-الذاريات

معنى { وَفِي ثَمُودَ .. } [الذاريات: 43] أي: وآية أيضاً في ثمود، وهم قوم سيدنا صالح عليه السلام { إِذْ قِيلَ لَهُمْ .. } [الذاريات: 43] أي: اذكر إذ قيل لهم { تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ } [الذاريات: 43] وهذا تهديد لهم ووعيد بعد ما فعلوه مع نبي الله صالح، يقول لهم تمتعوا إلى حين، فسوف يعاجلكم العذاب، وسيأخذكم الله أخْذَ عزيز مقتدر.
ومع هذا التهديد والتوعُّد ظلوا على عنادهم { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ .. } [الذاريات: 44] فلم يُجد معهم التهديد، والعتو يعني: مالوا عن أمر بهم وتركوه وهجروه.
وهذا الفعل (عتى) عُتواً يتعدى بـ (على) كما في قوله تعالى: { أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً } [مريم: 69] وهنا تعدَّى بعن { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ .. } [الذاريات: 44] فقد عتوا عن الأمر لا على الآمر { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ } [الذاريات: 44] الصاعقة صوت مزعج يأتي من أعلى تصاحبه إما نار حارقة، أو ريح مدمرة.
{ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ .. } [الذاريات: 45] أي لِهول ما نزل بهم فزعوا فزعاً أقعدهم، فلم يستطيعوا القيام ولا الهرب من باب أوْلَى، فالصاعقة صعقتهم وأفقدتهم القوى { وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } [الذاريات: 45] يعني: لم يستطيعوا نصر أنفسهم، ولم ينصرهم أحد، ولم يدافع عنهم أحد
فواصل و اكسسوارات متحركة للمواضيع 3dlat.com_09_19_7166_de710e57c6981
(وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ) ٤٦ -الذاريات
قوم نوح أيضاً آية وعبرة { مِّن قَبْلُ .. } [الذاريات: 46] قبل فرعون وقبل عاد وثمود { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [الذاريات: 46] خارجين عن طاعة الله مُكذِّبين لنبيه نوح عليه السلام.
وقد بسط القرآن قصتهم في مواضع أخرى بالتفصيل، وأن نوحاً لبث في دعوتهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل، وأنهم صَمُّوا آذانهم عن دعوته واستغشوا ثيابهم، وأصرُّوا واستكبروا استكباراً إلى أنْ يئس منهم نوح فدعا عليهم. { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [نوح: 26-27].
وهنا أجمل القول فيهم { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [الذاريات: 46] أي: خارجين عن طاعة الله من قولنا: فسقت الرطبة عن قشرتها. أي: انسلختْ منها.
والرطب هو البلح اللين الذي توفر له الماء ففيه مائية، لذلك جعله الله تعالى طعاماً للسيدة مريم، فقال سبحانه: { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً .. } [مريم: 25-26] أي: كانت الرطب بالنسبة لها طعاماً وشراباً في آنٍ واحد.
فهذه صورة بيانية تُصوِّر شرع الله بالغشاء الذي يحمي الثمرة، فالشرع يحمي المؤمن كما تحمي القشرة الثمرة، فاحذر أنْ تخرج عن هذا الغشاء الذي يسترك ويحميك ويُزينك.

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ الحب الحقيقي للنبي ﷺ ليس في إقامة مولدٍ لم يشرعه، وإنما في اتباع سنته، وإحياء ما أحياه، واجتناب ما نهى عنه، قال ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [رواه مسلم]

×