اذهبي الى المحتوى
سوزان بخيت

1. هل نتزود لرمضان أم نتزود من رمضان؟

المشاركات التي تم ترشيحها

هل نتزود لرمضان أم نتزود من رمضان؟

سؤال يتوقف عنده القلب، وتهفو إليه النفس، لتتأمل من جديد:

ما الغاية من هذا الشهر؟

هل هو هدف نبذل له كل طاقتنا، أم محطة نتزوّد منها لما بعدها؟

أين يقع رمضان في خارطة الإيمان الممتدة على مدار العام؟

وكيف تتكامل مع غيره من المحطات لتستقيم بها خطى السائرين إلى الله؟

تأملات نطرق بها باب هذا الفصل... لنستكشف معًا البُعد العميق لهذا الموسم المبارك.

[كتاب وخفق قلبي شوقا إلى رمضان]

 

 

 

نظرة جديدة على أيامنا وليالينا

في ظلمة الليل، جلست مسك على سجادتها، ترفع يديها بتضرع إلى الله...

انتهت من صلاة القيام، وأخذت تناجي ربها بخشوع. حتى دوى صوت الأذان ليُعلن دخول الفجر: "الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر"، بدأت تردد الأذان، وحين قال المؤذن: "الصلاة خير من النوم"، قامت لتجدد وضوءها، وتُلهج بالدعاء، مستثمرة لحظات الإجابة بين الأذان والإقامة.

أدّت صلاة الفجر بقلب مشتاق، وأعقبتها بأذكار الصباح، ثم انطلقت إلى يومها، تؤدي مهامها، حريصةَ على ألا يغفل قلبها عن ذكر الله.

بدأت مسك أعمالها المنزلية المتنوعة، وبين كل عمل وآخر، كانت تقتنص دقائق معدودة تُغذي فيها روحها؛ تارةً بتلاوة آيات من القرآن، وتارةً بالتسبيح، وتارةً بالتصدق بالكلمات الطيبة على من حولها. وحينما أرهقتها المسئوليات، هرعت إلى ركعتين في الضحى...

كانت صلاتها تلك نسمة تُنقي بها روحها من غبار الحياة، وتجدّد بها يقينها.

وحين أذن الظهر، سارعت إلى الصلاة، تغسل بها خطاياها، وتروي بها عطش قلبها.

هكذا مضى يومها، ما بين عملٍ وذكر، وسعيٍ وعبادة، حتى إذا ما شعرت بثقلٍ في قلبها، كان الاستغفار هو البلسم الذي يُعيد ترتيب مشاعرها، فتعود إلى الله بروحٍ أنقى، ونفسٍ أخشع.

لقد أدركت مسك سرًّا عظيمًا... أن الله قد وهبنا محطات يومية نتزوّد منها، نغتسل بها من أدران الدنيا، ونتقوى بها على مواصلة الطريق إليه سبحانه.

لكن...

هل وعينا نحن هذه الحقيقة؟

هل التفتنا يومًا إلى تلك المحطات الإيمانية التي وهبنا الله إياها، والتي تتوزّع برحمة في تفاصيل حياتنا لتروي عطش أرواحنا؟

محطات التزود الإيمانية

المحطات الإيمانية لا تقتصر على لحظاتنا اليومية، بل تمتد لتغمرنا على مدار الأسبوع، والشهر، والعام، لتصنع خارطة متكاملة تعيننا على الثبات في الطريق إلى الله.

ففي أيام الأسبوع، نجد محطات خاصة اختصنا الله بها: صيام الإثنين والخميس، وساعة استجابة يوم الجمعة... جرعات روحية تُنعش القلب، وتُجدد العهد..

وعلى مدار الشهر، نجد الأيام البيض، حيث يكون الصيام فيها زادًا جديدًا، يجلو القلب، ويُعيد إليه صفاءه.

أما على مستوى العام، فقد جعل الله لنا مواسم أوسع، محطات أعمق، وأثرها أبقى... تدفعنا لمزيد من القرب، وتُنعش أرواحنا قبل أن تذبل، حتى نبلغ غايتنا الكبرى: رضاه وجنّته.

تلك المحطات تشبه محطات الوقود التي يتوقف عندها المسافر في طريقه، يتزوّد منها ليستطيع أن يُكمل السير بثبات. وقد رُتِّبت هذه المحطات بتناغم عجيب، ليكون لكل منها دور، ويكمل بعضها بعضًا.

وهذا المعنى تحديدًا... هو ما أنعش روحي، وصحّح بوصلتي تجاه رمضان. ففي الماضي، كنت أراه هو الغاية الكبرى، أستعد له بشوق، وأُحيي أيامه بحماس... ثم ما إن ينقضي، ينقضي معه كل شيء، كأنه فصل من كتابٍ أُغلق وانتهى.

لم أكن أعلم أن رمضان ليس وجهتنا الأخيرة، بل هو محطة كبرى من محطات الرحلة... نغترف منها ما يُعيننا على مواصلة السير عامًا بعد عام، في منظومة متكاملة من المواسم والعبادات، أعدّها الله بحكمة وإتقان، لتُبقينا في حالة سَير دائم نحوه.

فهل تأملنا هذا الترتيب الإلهي؟

هل لاحظنا كيف رتب الله هذه المحطات برحمة تتماشى مع ضعفنا واحتياجنا؟

وهل انتبهنا إلى أن أغلبها يدور حول الصيام، وكأن فيه سرًا خفيا لحفظ حرارة الإيمان، ووهج الصلة بالله؟

مهما كانت إجاباتنا... فإن بين أيدينا الآن فرصة جديدة، لنتعرّف على هذه المنظومة، ونستكشف كيف رتّبها الله لنا برحمته وحكمته، لنستمر في السير، لا لنتوقف... ولنرتقي من محطة إلى أخرى، حتى نلقاه.

 

image.png.5fdd487356e25ab0b37ecb1fc4c8c92d.png

 

 

~ خارطة العام ~

عند تأملنا لخارطة العام، نكتشف ترتيبا محكما لشهور السنة تتوزع فيه محطات الإيمان على ثلاثة أقسام، تؤدي كل منها دور فريدا في تهيئة القلب وسقيه بماء الطاعة.

القسم الأول: رمضان والانطلاقة الكبرى

تبدأ الرحلة من رمضان، حيث تنطلق أرواحنا كأنما وُلدت من جديد، متزودةً من معين الطاعات، مرتوية من نهر القربات. ومع كل ليلة، يتنامى الشعور بالسكينة، حتى تأتي العشر الأخيرة كنفحة خاصة، توقظ القلب وتُشعل جذوته، وكأنها تُعيد شحن الروح من جديد، ويزداد معها الشوق إلى الله، خاصة مع ترقب ليلة القدر.

وفي ختام الشهر، نشعر وكأننا نحمل بين أضلعنا كنزًا ثمينًا ورصيدًا عظيمًا من الإيمان، نود لو استطعنا أن نحافظ عليه في قلوبنا، وهنا تبدأ الحيرة:

كيف يمكننا أن نحافظ على ما تزودنا به من إيمان؟ وكيف نبقي جذوتها مشتعلة في أرواحنا؟

فتأتينا الستة أيام من شوال، وتهمس إلينا: "ألم تستشعر حلاوة الإيمان؟ ألم تكن تلك العبادات رفيقة رحلتك، ومصدر سكينتك، وزادك في الطريق؟ فانتبه... ولا تُفرِّط في زادك."

ومع تلك الهمسات القلبية، يأتينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشرًا ومحفزًا، حيث قال: (مَن صامَ رَمَضانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِن شَوّالٍ، كانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ)[1] ليخبرنا أن من تابع صيامه بهذه الأيام، فكأنما صام العام كله... وكأنها رسالة خفية بأن الرحلة لم تنتهِ بعد، بل بدأت لتوها.

القسم الثاني: نفحات ذي الحجة والتثبيت

ثم تمضي بنا الأسابيع، ويبدأ وهج الحماسة يخفت شيئا فشيئا... فتأتينا العشر الأوائل من ذي الحجة كأنها نداء من السماء، توقظ في القلب شوقًا، وفي الروح عزيمة. تطرق أبوابنا وكأنها تقول: "ما زال في الطريق مددٌ ونفحات، فلا تضيّع الزاد".

فنسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه ينادي الساعين: (ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنّ أحبُّ إلى اللهِ من هذهِ الأيامِ العشرِ)[2]

وحين تساءل الصحابة رضوان الله عليهم، متعجبين: "ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟"

أجابهم صلى الله عليه وسلم: (ولا الجِهادُ في سبيلِ اللهِ، إلا رجلٌ خرجَ بنفسه ومالِهِ، فلم يرجعْ من ذلكَ بشيء)[3].

وكما خُتم رمضان بالعشر الأواخر ونفحات ليلة القدر، تختم العشر الأوائل من ذي الحجة بيوم عرفة، ذلك اليوم الذي يُرقق القلب، ويُصفي النفس، ويغسل أدران السنين، ففيه قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (صومُ يومِ عرَفةَ كفّارةُ السنةِ الماضِيَةِ والسنةِ الْمُستقبَلةِ)[4].

وكما هبت نسائم شوال بعد رمضان، تهب نسائم تتابع الطاعات، فتأتينا بعد أسابيع قليلة نسمات يوم عاشوراء، تهمس للقلب: "إن كنت قد ذقت لذة الصيام، فلا تحرم روحك من المزيد." فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صِيامُ يومِ عاشُوراءَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التِي قَبْلَهُ)[5].

القسم الثالث: الاختبار الحقيقي

وبعد انتهاء القسمين الأول والثاني من العام، حيث تزودنا من مواسم الرحمة والإيمان على مدار ستة أشهر، يبدأ القسم الثالث، ويبدأ معه الاختبار الحقيقي: فالمواسم قد مضت، والقلوب امتلأت، والصفحات تبيّضت، فهل نحافظ على زادنا؟ أم نستهلكه شيئًا فشيئًا حتى نصل لرمضان القادم فارغين من جديد؟

هنا يكون الجهاد الحقيقي: جهاد النفس، جهاد الاستمرار. ويأتينا قول الله تعالى ليوقظنا من الغفلة، ويكشف لنا حقيقة الطريق: {أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن یُترَكُوا أَن یَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُم لَا یُفتَنُونَ}[6]

إن الذين ينجحون في الحفاظ على شعلة الإيمان متقدة في قلوبهم، ولو بأعمال يسيرة، هم الفائزون بالقرب الثمين، هم أهل الثبات في زمن الفتور، وهم الذين يصدق فيهم قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱستَقَـٰمُوا}[7]

كيف نستقبل رمضان؟

لهذا، لم يكن عجيبًا أن نرى السلف الصالح يتهيؤون لقدوم رمضان قبل وصوله بأشهر... يتهيؤون له كما يتأهب المحب للقاء محبوبه، وكما يستعد المسافر لسفره الطويل المجهول. وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمة هذا الاستعداد، فكان يُكثر من الصيام في شعبان. فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (إنَّ رسولَ اللهِ صل الله عليه وسلم كان يصومُ شعبانَ كلَّه، ويتَحرّى صيامَ الاثنينِ والخميسِ)[8]

وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أنه قال: "يا رسول الله! لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شعبان؟!" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)[9].

 

 

إلى أين تسير قلوبنا؟

وهكذا تدور العجلة عامًا بعد عام، رمضان يمضي... ثم يأتي، وحين يأتي، يمنحنا الله من رحمته فرصة جديدة للتحليق، فرصة للارتقاء، فرصة لغرس بذور الإيمان في قلوبنا من جديد.

فكل عام هو هدية إلهية، ونافذة قرب.

فهل سنُحسن استقبال هدايا الرحمن؟

وهل سنُحسن وداع رمضان، لنُبقى أثره حيًا فينا طوال العام؟

بل... هل سنجعل من رمضان محطة انطلاق، لا محطة توقف؟

وهل سنحفظ وهج الإيمان، فلا نطفئ نور قلوبنا بانقضاء الشهر؟

هذا هو التحدي الحقيقي.

 

[1] رواه مسلم

[2] رواه الترمذي

[3] رواه الترمذي

[4] صحيح الجامع

[5] صحيح الجامع

[6] العنكبوت 2

[7] فصلت 30

[8] رواه النسائي

[9] رواه النسائي

تم تعديل بواسطة سوزان بنت مصطفى بخيت

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ الحب الحقيقي للنبي ﷺ ليس في إقامة مولدٍ لم يشرعه، وإنما في اتباع سنته، وإحياء ما أحياه، واجتناب ما نهى عنه، قال ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [رواه مسلم]

×