اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير عبد الرحمن السعدى(من كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان )

المشاركات التي تم ترشيحها

 

84820_06305538950867938357.gif


تفسير سورة الفاتحة

  • هي مكية
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 1 ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 2 ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 3 ) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( 4 ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( 5 ) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 6 ) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( 7 ) .

    ( بِسْمِ اللَّهِ ) أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى, لأن لفظ ( اسم ) مفرد مضاف, فيعم جميع الأسماء [ الحسنى ] . ( اللَّهِ ) هو المألوه المعبود, المستحق لإفراده بالعبادة, لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال. ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء, وعمت كل حي, وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة, ومن عداهم فلهم نصيب منها.
    واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها, الإيمان بأسماء الله وصفاته, وأحكام الصفات.
    فيؤمنون مثلا بأنه رحمن رحيم, ذو الرحمة التي اتصف بها, المتعلقة بالمرحوم. فالنعم كلها, أثر من آثار رحمته, وهكذا في سائر الأسماء. يقال في العليم: إنه عليم ذو علم, يعلم [ به ] كل شيء, قدير, ذو قدرة يقدر على كل شيء.

    ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) [ هو ] الثناء على الله بصفات الكمال, وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل, فله الحمد الكامل, بجميع الوجوه. ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الرب, هو المربي جميع العالمين - وهم من سوى الله- بخلقه إياهم, وإعداده لهم الآلات, وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة, التي لو فقدوها, لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة, فمنه تعالى.

    وتربيته تعالى لخلقه نوعان:
    عامة وخاصة.
    فالعامة: هي خلقه للمخلوقين, ورزقهم, وهدايتهم لما فيه مصالحهم, التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
    والخاصة: تربيته لأوليائه, فيربيهم بالإيمان, ويوفقهم له, ويكمله لهم, ويدفع عنهم الصوارف, والعوائق الحائلة بينهم وبينه, وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير, والعصمة عن كل شر. ولعل هذا [ المعنى ] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.
    فدل قوله ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) على انفراده بالخلق والتدبير, والنعم, وكمال غناه, وتمام فقر العالمين إليه, بكل وجه واعتبار.

    ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) المالك: هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى, ويثيب ويعاقب, ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات, وأضاف الملك ليوم الدين, وهو يوم القيامة, يوم يدان الناس فيه بأعمالهم, خيرها وشرها, لأن في ذلك اليوم, يظهر للخلق تمام الظهور, كمال ملكه وعدله وحكمته, وانقطاع أملاك الخلائق. حتى [ إنه ] يستوي في ذلك اليوم, الملوك والرعايا والعبيد والأحرار.
    كلهم مذعنون لعظمته, خاضعون لعزته, منتظرون لمجازاته, راجون ثوابه, خائفون من عقابه, فلذلك خصه بالذكر, وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.

    وقوله ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) أي: نخصك وحدك بالعبادة
    والاستعانة, لأن تقديم المعمول يفيد الحصر, وهو إثبات الحكم للمذكور, ونفيه عما عداه. فكأنه يقول: نعبدك, ولا نعبد غيرك, ونستعين بك, ولا نستعين بغيرك.
    وقدم العبادة على الاستعانة, من باب تقديم العام على الخاص, واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده.
    و ( العبادة ) اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال, والأقوال الظاهرة والباطنة. و ( الاستعانة ) هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع, ودفع المضار, مع الثقة به في تحصيل ذلك.


    والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية, والنجاة من جميع الشرور, فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما. وإنما تكون العبادة عبادة, إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله. فبهذين الأمرين تكون عبادة, وذكر ( الاستعانة ) بعد ( العبادة ) مع دخولها فيها, لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه الله, لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر, واجتناب النواهي.

    ثم قال تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) أي: دلنا وأرشدنا, ووفقنا للصراط المستقيم, وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله, وإلى جنته, وهو معرفة الحق والعمل به, فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام, وترك ما سواه من الأديان, والهداية في الصراط, تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته, لضرورته إلى ذلك.

    وهذا الصراط المستقيم هو: ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ( غَيْرِ ) صراط ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. وغير صراط ( الضَّالِّينَ ) الذين تركوا الحق على جهل وضلال, كالنصارى ونحوهم.

    فهذه السورة على إيجازها, قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن, فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
    وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة, يؤخذ من لفظ: ( اللَّهِ ) ومن قوله: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) وتوحيد الأسماء والصفات, وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى, التي أثبتها لنفسه, وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه, وقد دل على ذلك لفظ ( الْحَمْدُ ) كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.

    وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) وأن الجزاء يكون بالعدل, لأن الدين معناه الجزاء بالعدل.
    وتضمنت إثبات القدر, وأن العبد فاعل حقيقة, خلافا للقدرية والجبرية. بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [ والضلال ] في قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع [ وضال ] فهو مخالف لذلك.
    وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى, عبادة واستعانة في قوله: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) فالحمد لله رب العالمين.

    من كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان
  • يتبع

    طريق الاسلام
    image.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

سورة البقرة - تفسير السعدي

" الم "

تقدم الكلام على البسملة.
وأما الحروف المقطعة في أوائل السور, فالأسلم فيها, السكوت عن التعرض لمعناها من غير مستند شرعي, مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين "

وقوله " ذَلِكَ الْكِتَابُ " أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة, المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين, من العلم العظيم, والحق المبين.
فهو " لَا رَيْبَ فِيهِ " ولا شك بوجه من الوجوه.
ونفي الريب عنه, يستلزم ضده, إذ ضد الريب والشك, اليقين.
فهذا الكتاب مشتمل على على اليقين المزيل للشك والريب.
وهذه قاعدة مفيدة, أن النفي المقصود به المدح, لا بد أن يكون متضمنا لضدة, وهو الكمال, لأن النفي عدم, والعدم المحض, لا مدح فيه.
فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال: " هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " والهدى: ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه: وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة.
وقال " هُدًى " وحذف المعمول, فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية, ولا للشيء الفلاني, لإرادة العموم, وأنه هدى لجميع مصالح الدارين.
فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية, ومبين للحق من الباطل, والصحيح من الضعيف, ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم, في دنياهم وأخراهم.
وقال في موضع آخر " هُدًى لِلنَّاسِ " فعمم.
وفي هذا الموضع وغيره " هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " لأنه في نفسه هدى لجميع الناس.
فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا.
ولم يقبلوا هدى الله, فقامت عليهم به الحجة, ولم ينتفعوا به لشقائهم.
وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر, لحصول الهداية, وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه, بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, فاهتدوا به, وانتفعوا.
غاية الانتفاع.
قال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا " .
فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية, والآيات الكونية.
ولأن الهداية نوعان: هداية البيان, هداية التوفيق.
فالمتقون حصلت لهم الهدايتان, وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق.
وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها, ليست هداية حقيقية تامة.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون "

ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة, والأعمال الظاهرة, لتضمن التقوى لذلك فقال: " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " .
حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل, المتضمن لانقياد الجوارح.
وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس, فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر.
إنما الشأن في الإيمان بالغيب, الذي لم نره ولم نشاهده, وإنما نؤمن به, لخبر الله وخبر رسوله.
فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر, لأنه تصديق مجرد لله ورسله.
فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به, أو أخبر به رسوله, سواء شاهده, أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله, أو لم يهتد إليه عقله وفهمه.
بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية, لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم, ومرجت أحلامهم.
وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله.
ويدخل في الإيمان بالغيب, الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة, وأحوال الآخرة, وحقائق أوصاف الله وكيفيتها, وما أخبرت به الرسل من ذلك.
فيؤمنون بصفات الله ووجودها, ويتيقنونها, وإن لم يفهموا كيفيتها.
ثم قال " وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ " لم يقل: يفعلون الصلاة, أو يأتون بالصلاة, لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة.
فإقامة الصلاة, إقامتها ظاهرا, بإتمام أركانها, وواجباتها, وشروطها.
وإقامتها باطنا, بإقامة روحها, وهو حضور القلب فيها, وتدبر ما يقوله ويفعله منها.
فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها " إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ " وهي التي يترتب عليها الثواب.
فلا ثواب للعبد من صلاته, إلا ما عقل منها.
ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها.
ثم قال " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة, والنفقه على الزوجات والأقارب, والمماليك ونحو ذلك.
والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير.
ولم يذكر المنفق عليهم, لكثرة أسبابه وتنوع أهله, ولأن النفقة من حيث هي, قربة إلى الله.
وأتى بـ " من " الدالة على التبعيض, لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم, غير ضار لهم ولا مثقل, بل ينتفعون هم بإنفاقه, وينتفع به إخوانهم.
وفي قوله " رَزَقْنَاهُمْ " إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم, ليست حاصلة بقوتكم وملككم, وإنما هي رزق الله, الذي خولكم, وأنعم به عليكم.
فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده, فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم, وواسوا إخوانكم المعدمين.
وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن, لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود, والزكاة والنفقة, متضمنة الإحسان على عبيده.
فعنوان سعادة العبد, إخلاصه للمعبود, وسعيه في نفع الخلق.
كما أن عنوان شقاوة العبد, عدم هذين الأمرين منه, فلا إخلاص ولا إحسان.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون "

ثم قال " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ " وهو القرآن والسنة.
قال تعالى " وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ " .
فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول, ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه, فيؤمنون ببعضه, ولا يؤمنون ببعضه, إما بجحده أو تأويله, على غير مراد الله ورسوله, كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة, الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم, بما حاصله عدم التصديق بمعناها, وإن صدقوا بلفظها, فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا.
وقوله " وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ " يشمل الإيمان بجميع الكتب السابقة.
ويتضمن الإيمان بالكتب, الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه, خصوصا التوراة والإنجيل والزبور.
وهذه خاصية المؤمنين, يؤمنون بالكتب السماوية كلها, وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم.
ثم قال " وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ " .
و " الآخرة " اسم لما يكون بعد الموت.
وخصه بالذكر بعد العموم, لأن الإيمان باليوم الآخر, أحد أركان الإيمان.
ولأنه أعظم باعث الرغبة والرهبة والعمل.
و " اليقين " هو العلم التام, الذي ليس فيه أدنى شك, والموجب للعمل.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون "

" أُولَئِكَ " أي الموصوفون بتلك الصفات الحميدة " عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ " أي: على هدى عظيم, لأن التنكير للتعظيم.
وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة؟!!.
وهل الهداية في الحقيقة, إلا هدايتهم وما سواها مما خالفها, فهي ضلالة.
وأتى بـ " على " في هذا الموضع, الدالة على الاستعلاء, وفي الضلالة يأتي بـ " في " كما في قوله " وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " لأن صاحب الهدى مستعمل بالهدى, مرتفع به, وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر.
ثم قال " وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
حصر الفلاح فيهم, لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم, وما عدا تلك السبيل, فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار, التي تفضي بسالكها إلى الهلاك.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون "

فلهذا, لما ذكر صفات المؤمنين حقا, ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم المعاندين للرسول فقال.
" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " .
يخبر تعالى: أن الذين كفروا, أي: اتصفوا بالكفر, وانصبغوا به, وصار وصفا لهم لازما, لا يردعهم عنه رادع, ولا ينجع فيهم وعظ.
إنهم مستمرون على كفرهم, فسواء عليهم أأنذرتهم, أم لم تنذرهم لا يؤمنون.
وحقيقة الكفر, هو: الجحود لما جاء به الرسول, أو جحد بعضه.
فهؤلاء الكفار, لا تفيدهم الدعوة, إلا إقامة الحجة, وكأن في هذا قطعا, لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم, وأنك لا تأس عليهم, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم "

ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال: " خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ " أي: طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان, ولا ينفذ فيها فلا يعون ما ينفعهم, ولا يسمعون ما يفيدهم.
" وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ " أي: غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم, وهذه طرق العلم والخير, قد سدت عليهم, فلا مطمع فيهم, ولا خير يرجى عندهم.
وإنما منعوا ذلك, وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق, كما قال تعالى: " وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ " وهذا عقاب عاجل.
ثم ذكر العقاب الآجل فقال: " وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " وهو عذاب النار, وسخط الجبار المستمر الدائم.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين "

ثم قال تعالى: في وصف المنافقين, الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ " .
واعلم أن النفاق هو: إظهار الخير.
وإبطان الشر.
ويدخل في هذا التعريف, النفاق الاعتقادي, والنفاق العملي.
كالذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " آية المنافق ثلات: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا ائتمن خان " .
وفي رواية " وإذا خاصم فجر " .
وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام, فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها.
ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة, ولا بعد الهجرة, حتى كانت وقعة " بدر " وأظهر الله المؤمنين, وأعزهم.
فذل من في المدينة ممن لم يسلم, فأظهر الإسلام بعضهم خوفا ومخادعة, ولتحقن دماؤهم, وتسلم أموالهم, فكانوا بين أظهر المسلمين, في الظاهر أنهم منهم, وفي الحقيقة, ليسوا منهم.
فمن لطف الله بالمؤمنين, أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها, لئلا يغتر بهم المؤمنون, ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم.
وقال تعالى " يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ " .
فوصفهم الله بأصل النفاق فقال: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ " فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
فأكذبهم الله بقوله " وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ " لأن الإيمان الحقيقي, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون "

والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا, ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع.
فهؤلاء المنافقون, سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك, فعاد خداعهم على أنفسهم.
وهذا من العجائب, لأن المخادع, إما أن ينتج خداعه ويحصل له مقصوده, أو يسلم, لا له ولا عليه.
وهؤلاء عاد خداعهم على أنفسهم, وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها.
لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم شيئا, وعباده المؤمنون, لا يضرهم كيدهم شيئا.
فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان, فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم, وصار كيدهم في نحورهم, وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا, والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة.
ثم في الآخرة, لهم العذاب الأليم الموجع المفجع, بسبب كذبهم, وكفرهم, وفجورهم, والحال أنهم - من جهلهم وحماقتهم - لا يشعرون بذلك.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون "

وقوله " فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ " المراد بالمرض هنا: مرض الشك, والشبهات, والنفاق.
وذلك أن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة, ومرض الشهوات المردية.
فالكفر والنفاق, والشكوك والبدع, كلها من مرض الشبهات.
والزنا, ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها, من مرض الشهوات.
كما قال تعالى " فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ " وهو شهوة الزنا.
والمعافي, من عوفي من هذين المرضين, فحصل له اليقين والإيمان, والصبر عن كل معصية, فرفل في أثواب العافية.
وفي قوله عن المنافقين " فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا " بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين, وأنه بسب ذنوبهم السابقة, يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوبتها كما قال تعالى.
" وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ " .
وقال تعالى " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ " .
وقال تعالى " وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ " .
فعقوبة المعصية, المعصية بعدها, كما أن من ثواب الحسنة, الحسنة بعدها.
قال تعالى " وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى " .


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون "

أي: إذا نهى هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض, وهو العمل بالكفر.
والمعاصي, ومنه إظهار سرائر المؤمنون لعدوهم وموالاتهم للكافرين " قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ " .
فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض, وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح, قلبا للحقائق, وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقا.
وهؤلاء أعظم جناية ممن يعمل بالمعاصي, مع اعتقاد تحريمها, فهذا أقرب للسلامة, وأرجى لرجوعه.
ولما كان في قولهم " إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ " حصر للإصلاح في جانبهم - وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح - قلب الله عليهم دعواهم بقوله:



3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون "

" أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ " فإنه لا أعظم إفسادا ممن كفر بآيات الله, وصد عن سبيل الله وخادع الله وأولياءه, ووالى المحاربين لله ورسوله, وزعم - مع هذا - أن هذا إصلاح, فهل بعد هذا الفساد فساد؟!! ولكن لا يعلمون علما ينفعهم, وإن كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم حجة الله.
وإنما كان العمل في الأرض إفسادا, لأنه سبب لفساد ما على وجه الأرض من الحبوب والثمار والأشجار, والنبات, لما يحصل فيها من الآفات التي سببها المعاصي.
ولأن الإصلاح في الأرض, أن تعمر بطاعة الله والإيمان به, لهذا خلق الله الخلق, وأسكنهم الأرض, وأدر علهيم الأرزاق, ليستعينوا بها على طاعته وعبادته.
فإذا عمل فيها بضده, كان سعيا فيها بالفساد, وإخرابا لها عما خلقت له.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون "

أي: إذا قيل للمنافقين: آمنوا كما آمن الناس, أي: كإيمان الصحابة " 4 وهو الإيمان بالقلب واللسان, قالوا - بزعمهم الباطل -: أنؤمن كما آمن السفهاء؟.
يعنون - قبحهم الله - الصحابة " 4, لزعمهم أن سفههم, أوجب لهم الإيمان, وترك الأوطان, ومعاداة الكفار.
والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك, فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمن ذلك, أنهم هم العقلاء أرباب الحجى والنهي.
فرد الله ذلك عليهم, وأخبر أنهم, هم السفهاء على الحقيقة, لأن حقيقة السفه, جهل الإنسان بمصالح نفسه, وسعيه فيما يضرها, وهذه الصفة منطبقة عليهم.
كما أن العقل والحجا, معرفة الإنسان بمصالح نفسه, والسعي فيما ينفعه, وفي دفع ما يضره.
وهذه الصفة, منطبقة على الصحابة والمؤمنين.
فالعبرة بالأوصاف والبرهان, لا بالدعاوى المجردة, والأقوال الفارغة.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون "

هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
وذلك أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين, أظهروا أنهم على طريقتهم, وأنهم معهم, فإذا خلو إلى شياطينهم - أي كبرائهم ورؤسائهم بالشر - قالوا: إنا معكم في الحقيقة, وإنما نحن مستهزئون بالمؤمنين بإظهارنا لهم, أنا على طريقتهم.
فهذه حالهم الباطنة والظاهرة, ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون "

قال تعالى " اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ " .
وهذا جزاء لهم, على استهزائهم بعباده.
فمن استهزائه بهم, أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والأحوال الخبيثة, حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين, لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم.
ومن استهزائه بهم يوم القيامة, أن يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا, فإذا مشي المؤمنون بنورهم, طفئ نور المنافقين, وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين, فما أعظم اليأس بعد الطمع.
" يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ " الآية.
قوله " وَيَمُدُّهُمْ " أي يزيدهم " فِي طُغْيَانِهِمْ " أي: فجورهم وكفرهم " يَعْمَهُونَ " أي حائرون مترددون, وهذا من استهزائه تعالى بهم

 

" أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين "

ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم " أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ " .
أولئك, أي: المنافقون الموصوفون بتلك الصفات " الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى " أي: رغبوا في الضلالة, رغبة المشتري في السلعة, التي - من رغبته فيها - يبذل فيها الأموال النفيسة.
وهذا من أحسن الأمثلة, فإنه جعل الضلالة, التي هي غاية الشر, كالسلعة.
وجعل الهدى, الذي هو غاية الصلاح, بمنزلة الثمن.
فبذلوا الهدى, رغبة عنه في الضلالة رغبة فيها.
فهذه تجارتهم, فبئس التجارة, وهذه صفقتهم, فبئست الصفقة.
وإذا كان من يبذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا, فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟!! فكيف من بذل الهدى.

في مقابلة الضلالة, واختار الشقاء على السعادة, ورغب في سافل الأمور وترك عاليها؟!! فما ربحت تجارته, بل خسر فيها أعظم خسارة.
" قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " .
وقوله " وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ " تحقيق لضلالهم, وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء, فهذه أوصافهم القبيحة.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون "

ثم ذكر مثلهم فقال: " مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .
أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه, كمثل الذي استوقد نارا.
أي: كان في ظلمة عظيمة, وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره, ولم تكن عنده معدة, بل هي خارجة عنه.
فلما أضاءت النار ما حوله, ونظر المحل الذي هو فيه, وما فيه من المخاوف وأمنها, وانتفع بتلك النار, وقرت بها عينه, وظن أنه قادر عليها, فبينما هو كذلك, إذ ذهب الله بنوره, فزال عنه النور, وذهب معه السرور, وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة, فذهب ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق.
فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة بعد النور, فكيف يكون حال هذا الموصوف؟.
فكذلك هؤلاء المنافقون, استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين, ولم تكن صفة لهم, فاستضاءوا بها مؤقتا وانتفعوا, فحقنت بذلك دماؤهم, وسلمت أموالهم, وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا.
فبينما هم كذلك, إذ هجم عليهم الموت, فسلبهم الانتفاع بذلك النور, وحصل لهم كل هم وغم وعذاب, وحصل لهم ظلمة القبر, وظلمة الكفر, وظلمة النفاق, وظلمة المعاصي على اختلاف أنواعها, وبعد ذلك ظلمة النار, وبئس القرار.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" صم بكم عمي فهم لا يرجعون "

فلهذا قال تعالى عنهم " صُمٌّ " أي: عن سماع الخير " بُكْمٌ " أي: عن النطق به " عُمْيٌ " أي: عن رؤية الحق " فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ " لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه, فلا يرجعون إليه.
بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال, فإنه لا يعقل, وهو أقرب رجوعا منهم.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين "

ثم قال تعالى " أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ " أي: كصاحب صيب وهو المطر الذي يصوب, أي: ينزل بكثرة.
" فِيهِ ظُلُمَاتٌ " ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمات المطر.
" وَرَعْدٌ " وهو: الصوت الذي بسمع من السحاب.
" وَبَرْقٌ " وهو الضوء اللامع المشاهد من السحاب.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير "

" كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ " البرق في تلك الظلمات " مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا " أي: وقفوا.
فهكذا حالة المنافقين, إذا سمعوا القرآن وأوامره, ونواهيه, ووعده, ووعيده, جعلوا أصابعهم في آذانهم, وأعرضوا عن أمره ونهيه, ووعده ووعيده, فيروعهم وعيده, وتزعجهم وعوده.
فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم, ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي تسمع الرعد, فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت, فهذا ربما حصلت له السلامة.
وأما المنافقون, فأنى لهم السلامة, وهو تعالى محيط بهم, قدرة, وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه, بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها أتم الجزاء.
ولما كانوا مبتلين بالصمم, والبكم, والعمى المعنوي, ومسدودة عليهم طرق الإيمان.
قال تعالى: " وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ " أي: الحسية, ففيه تخويف لهم وتحذير من العقوبة الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم.
" إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " فلا يعجزه شيء.
ومن قدرته, أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض.
وفي هذه الآية وما أشبهها, رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى, لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله " إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون "

هذا أمر عام لجميع الناس, بأمر عام, وهو العبادة الجامعة, لامتثال أوامر الله, واجتناب نواهيه, وتصديق خبره, فأمرهم تعالى بما خلقهم له.
قال تعالى " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " .

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون "

ثم استدل على وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم, الذي رباكم بأصناف النعم, فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين من قبلكم, وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك من وجوه الانتفاع بها.
وجعل السماء بناء لمسكنكم, وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم, كالشمس, والقمر, والنجوم.
" وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً " والسماء هو كل ما علا فوقك فهو سماء, ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء ههنا, السحاب.
فأنزل منه تعالى ماء " فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ " كالحبوب, والثمار, من نخيل, وفواكه, وزروع وغيرها " رِزْقًا لَكُمْ " به ترتزقون, وتتقوتون وتعيشون وتفكهون.
" فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا " أي: أشباها ونظراء من المخلوقين, فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبونه, وهم مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون, لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء, ولا ينفعونكم ولا يضرون.
" وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " أن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في الألوهية والكمال.
فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب, وأسفه السفه.
وهذه الآية, جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه, وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته, وبطلان عبادة ما سواه, وهو ذكر توحيد الربوبية, المتضمن انفراده بالخلق والرزق والتدبير.
فإذا كان أحد, مقرا بأنه ليس له شريك بذلك, فكذلك فليكن الإقرار بأن الله ليس له شريك في عبادته, وهذا أوضح دليل عقلي, على وحدانية الباري تعالى, وبطلان الشرك.
وقوله " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " يحتمل أن المعنى أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك.
ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى, وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان.
فمن أتى بالعبادة كاملة, كان من المتقين.
ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين "

وهذا دليل عقلي, على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به فقال: وإن كنتم - يا معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه - في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره, فههنا أمر نصف فيه الفيصلة بينكم وبينه.
وهو أنه بشر مثلكم, ليس من جنس آخر, وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ.
فأتاكم بكتاب, أخبركم أنه من عند الله, وقلتم أنتم, إنه تقوله وافتراه.
فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم, خصوصا, وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول.
فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, فهذا آية كبيرة, ودليل واضح جلي على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة والشدة, أن كان وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا, التي تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة, معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله.
فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.
وهذه الآية ونحوها يسمونها آية التحدي, وهو تعجيز الخلق عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ويعارضوه بوجه.
قال تعالى " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا " .
وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟.
أم كيف يقدر الفقير الناقص من جميع الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من جميع الوجوه؟.
هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان.
وكل من له أدنى ذوق ومعرفة بأنواع الكلام, إذا وزن هذا القرآن بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم.
وفي قوله " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ " إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة, هو الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلالة.
فهذا الذي إذا بين له الحق حرى باتباعه, وإن كان صادقا في طلب الحق.
وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين, ولم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه.
وكذلك الشاك الذي ليس بصادق في طلب الحق, بل هو معرض, غير مجتهد بطلبه, فهذا - في الغالب - لا يوفق.
وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.
كا وصفه بالعبودية في مقام الإسراء فقال " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا " .
وفي مقام تنزيل القرآن عليه فقال " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا " .

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين "

وفي قوله " أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان, خلافا للمعتزلة.
وفيها أيضا, أن الموحدين - وإن ارتكبوا بعض الكبائر - لا يخلدون في النار, لأنه قال " أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " .
فلو كان عصاة الموحدين يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم خلافا للخوارج والمعتزلة.
وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون "

ولما ذكر جزاء الكافرين, ذكر جزاء المؤمنين, أهل الأعمال الصالحات, كما هي طريقته تعالى في كتابه, يجمع بين الترغيب والترهيب, ليكون العبد راغبا راهبا, خائفا راجيا فقال: " وَبَشِّرِ " أي: أيها الرسول, ومن قام مقامك.
" الَّذِينَ آمَنُوا " بقلوبهم " وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " بجوارحهم, فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة.
ووصفت أعمال الخير بالصالحات, لأن بها تصلح أحوال العبد, وأمور دينه ودنياه, وحياته الدنيوية والأخروية, ويزول بها عنه فساد الأحوال, فيكون بذلك من الصالحين, الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.
فبشرهم " أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ " أي: بساتين جامعة للأشجار العجيبة, والثمار الأنيقة, والظل المديد, والأغصان والأفنان, وبذلك صارت جنة, يجتن.
بها داخلها, وينعم فيها ساكنها.
" تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " أي: أنهار الماء, واللبن, والعسل, والخمر يفجرونها كيف شاءوا, ويصرفونها أين أرادوا, وتسقى منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار.
" كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ " أي: هذا من جنسه, وعلى وصفه, كلها متشابهة في الحسن واللذة.
ليس فيها ثمرة خاسة, وليس لهم وقت خال من اللذة, فهم دائما متلذذون بأكلها.
وقوله " وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا " قيل: متشابها في الاسم, مختلفا في الطعم.
وقيل: متشابها في اللون, مختلفا في الاسم.
وقيل: يشبه بعضه بعضا, في الحسن, واللذة, والفكاهة, ولعل هذا أحسن.
ثم لما ذكر مسكنهم, وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم, ذكر أزواجهم, فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه, وأوضحه فقال.
" وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ " فلم يقل " مطهرة من العيب الفلاني " ليشمل جميع أنواع التطهير.
فهن مطهرات الأخلاق, مطهرات الخلق, مطهرات اللسان, مطهرات الأبصار.
فأخلاقهن, أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن, وحسن التبعل, والأدب القولي والفعلي, ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني, والبول والغائط, والمخاط والبصاق, والرائحة الكريهة.
ومطهرات الخلق أيضا, بكمال الجمال, فليس فيهن عيب, ولا دمامة خلق, بل هن خيرات حسان, مطهرات اللسان والطرف.
قاصرات طرفهن على أزواجهن, وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح.
ففي هذه الآية الكريمة, ذكر المبشر والمبشر, والمبشر به, والسبب الموصل لهذه البشارة.
فالمبشر, هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته.
والمبشر, هم المؤمنون العاملون الصالحات.
والمبشر به, هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات.
والسبب الموصل لذلك, هو الإيمان والعمل الصالح.
فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة, إلا بهما.
وهذا أعظم بشارة حاصلة, على يد أفضل الخلق, بأفضل الأسباب.
وفيه استحباب بشارة المؤمنين, وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها وثمراتها, فإنها بذلك, تخف وتسهل.
وأعظم بشرى حاصلة للإنسان, توفيقه للإيمان والعمل الصالح.
فذلك أول البشارة وأصلها.
ومن بعده, البشرى عند الموت.
ومن بعده, الوصول إلى هذا النعيم المقيم.
نسأل الله من فضله.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين "

يقول تعالى " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا " أي أي مثل كان " بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا " لاشتمال الأمثال على الحكمة, وإيضاح الحق, والله لا يستحي من الحق.
وكأن في هذا, جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة.
واعترض على الله في ذلك.
فليس في ذلك اعتراض.
بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم.
فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر.
ولهذا قال: " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ " فيفهمونها.
ويتفكرون فيها.
فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل.
ازداد بذلك علمهم وإيمانهم.
وإلا علموا أنها حق.
وما اشتملت عليه حق.
وإن خفي عليهم وجه الحق فيها.
لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا.
بل لحكمة بالغة.
ونعمة سابغة.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا " فيعترضون ويتحيرون.
فيزدادون كفرا إلى كفرهم.
كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.
ولهذا قال: " يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا " .
فهذه حال المؤمنين والكافرين.
عند نزوله الآيات القرآنية.
قال تعالى " وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ " .
فلا أعظم نعمة على العباد.
من نزول الآيات القرآنية.
ومع هذا.
تكون لقوم محنة.
وحيرة.
وضلالة.
وزيادة شر إلى شرهم.
ولقوم منحة; ورحمة; وزيادة خير إلى خيرهم.
فسبحان من فاوت بين عباده; وانفرد بالهداية والإضلال.
ثم ذكر حكمته وعدله في إضلاله من يضل فقال: " وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ " أي: الخارجين عن طاعة الله; المعاندين لرسل الله; الذين صار الفسق وصفهم; فلا يبغون به بدلا.
فاقتضت حكمته تعالى; إضلالهم; لعدم صلاحيتهم للهدى.
كما اقتضى فضله وحكمته; هداية من اتصف بالإيمان; وتحلى بالأعمال الصالحة.
والفسق نوعان: نوع مخرج من الدين; وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان; كالمذكور في هذه الآية ونحوها.
ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا " الآية.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون "

ثم وصف الفاسقين فقال " الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ " .
وهذا يعم العهد الذي بينهم وبين ربهم; والذي بينهم وبين الخلق; الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات.
فلا يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها; ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق.
" وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ " وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة.
فإن الله أمرنا; أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به; والقيام بعبوديته.
وما بيننا وبين رسوله; بالإيمان به; ومحبته; وتعزيره; والقيام بحقوقه.
وما بيننا وبين الوالدين والأقارب; والأصحاب; وسائر الخلق بالقيام بحقوقهم التي أمر الله أن نصلها.
فأما المؤمنون; فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق; وقاموا بها أتم القيام.
وأما الفاسقون; فقطعوها; ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين عنها بالفسق والقطيعة; والعمل بالمعاصي; وهو: الإفساد في الأرض.
" فَأُولَئِكَ " أي: من هذه صفته " هُمُ الْخَاسِرُونَ " في الدنيا والآخرة.
فحصر الخسارة فيهم; لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع من الربح; لأن كل عمل صالح; شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له; لا عمل له; وهذا الخسار; هو خسار الكفر.
وأما الخسار الذي قد يكون كفرا; وقد يكون معصية; وقد يكون تفريطا في ترك مستحب المذكور في قوله تعالى " إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ " فهذا عام لكل مخلوق; إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح; والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير; الذي كان العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "

ثم قال تعالى " كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " .
هذا استفهام التعجب والتوبيخ والإنكار.
أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله; الذي خلقكم من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم; ثم يميتكم عند استكمال آجالكم; ويجازيكم في القبور; ثم يحييكم بعد البعث والنشور; ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الأوفى.
فإذا كنتم في تصرفه; وتدبيره; وبره; وتحت أوامره الدينية; وبعد ذلك تحت دينه الجزائي; أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه كبير.
؟ بل الذي يليق بكم; أن تتقوه; وتشكروه; وتؤمنوا به; وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابه.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم "

" هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا " أي: خلق لكم, برا بكم ورحمة, جميع ما على الأرض, للانتفاع والاستمتاع, والاعتبار.
وفي هذه الآية الكريمة, دليل على أن الأصل في الأشياء, الإباحة والطهارة, لأنها سيقت في معرض الامتنان.
يخرج بذلك, الخبائث, فإن تحريمها أيضا, يؤخذ من فحوى الآية, وبيان المقصود منها, وأنه خلقها لنفعنا, فما فيه ضرر, فهو خارج من ذلك.
ومن تمام نعمته, منعنا من الخبائث, تنزيها لنا.
وقوله: " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " .
معاني كلمة " استوى " " اسْتَوَى " ترد في القرآن على ثلاثة معاني: فتارة لا تعدي بالحرف.
فيكون معناها, الكمال والتمام, كما في قوله عن موسى " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى " .
وتارة تكون بمعنى " علا " و " ارتفع " , وذلك إذا عديت بـ " على " كقوله تعالى: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " , " لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ " .
وتارة تكون بمعنى " قصد " كما إذا عديت بـ " إلى " كما في هذه الآية.
أي: لما خلق تعالى الأرض, قصد إلى خلق السماوات, فسواهن سبع سماوات, فخلقها وأحكمها, وأتقنها, وهو بكل شيء عليم.
فيعلم ما يلج في الأرض, وما يخرج منها, وما ينزل من السماء, وما يعرج فيها, و " يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ " يعلم السر وأخفى.
وكثيرا ما يقرن بين خلقه, وإثبات علمه كما في هذه الآية, وكما في قوله تعالى: " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " لأن خلقه للمخلوقات, أدل دليل على علمه, وحكمته, وقدرته.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون "

" وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً " .
هذا شروع في ابتداء خلق آدم عليه السلام أبي البشر, وفضله, وأن الله تعالى - حين أراد خلقه - أخبر الملائكة بذلك, وأن الله مستخلفه في الأرض.
فقالت الملائكة عليهم السلام: " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا " بالمعاصي " وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ " , وهذا تخصيص بعد تعميم, لبيان شدة مفسدة القتل.
وهذا بحسب ظنهم أن المجهول في الأرض, سيحدث منه ذلك, فنزهوا الباري عن ذلك, وعظموه, وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة فقالوا.
" وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ " أي: ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك.
" وَنُقَدِّسُ لَكَ " يحتمل أن معناها: ونقدسك, فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص.
ويحتمل أن يكون, ونقدس لك أنفسنا.
أي: نطهرها بالأخلاق الجميلة, كمحبة الله وخشيته وتعظيمه, ونطهرها من الأخلاق الرذيلة.
قال الله للملائكة: " إِنِّي أَعْلَمُ " من هذا الخليفة " مَا لَا تَعْلَمُونَ " .
لأن كلامكم بحسب ما ظننتم, وأنا عالم بالظواهر والسرائر, وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة, أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك, من الشر فلو لم يكن في ذلك, إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين, والشهداء والصالحين, ولتظهر آياته للخلق, ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة, كالجهاد وغيره, وليظهر ما كمن في غرائز المكلفين من الخير والشر بالامتحان, وليتبين عدوه من وليه, وحزبه من حربه, وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه, واتصف به, فهذه حكم عظيمة, يكفي بعضها في ذلك.

 

" وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام, فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض, أراد الله تعالى, أن يبين لهم من فضل آدم, ما يعرفون به فضله, وكمال حكمة الله وعلمه فقال: " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " أي: أسماء الأشياء, وما هو مسمى لها.

فعلمه الاسم والمسمى, أي: الألفاظ والمعاني, حتى المصغر من الأسماء والمكبر, كالقصعة والقصيعة.
" ثُمَّ عَرَضَهُمْ " أي: عرض المسميات " عَلَى الْمَلَائِكَةِ " امتحانا لهم, هل يعرفونها أم لا؟.
" فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " في قولكم وظنكم, أنكم أفضل من هذا الخليفة.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم "

" قَالُوا سُبْحَانَكَ " أي: ننزهك من الاعتراض منا عليك, ومخالفة أمرك.
" لَا عِلْمَ لَنَا " بوجه من الوجوه " إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا " إياه, فضلا منك وجودا.
" إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ " العليم الذي أحاط علما بكل شيء, فلا يغيب عنه, ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض, ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
الحكيم, من له الحكمة التامة, التي لا يخرج عنها مخلوق, ولا يشذ عنها مأمور.
فما خلق شيئا إلا لحكمة, ولا أمر بشيء إلا لحكمة.
والحكمة: وضع الشيء في موضعه اللائق به.
فأقروا, واعترفوا بعلم الله وحكمته, وقصورهم عن معرفة أدنى شيء.
واعترافهم بفضل الله عليهم; وتعليمه إياهم ما لا يعلمون.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "

فحينئذ قال الله: " يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ " أي: أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة; فعجزوا عنها.
" فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ " تبين للملائكة فضل آدم عليهم; وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة.
" قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " وهو ما غاب.
عنا; فلم نشاهده.
فإذا كان عالما بالغيب; فالشهادة من باب أولى.
" وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ " أي: تظهرون " وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ " .

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين "

ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم; إكراما له وتعظيما; وعبودية لله تعالى.
فامتثلوا أمر الله; وبادروا كلهم بالسجود.
" إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى " امتنع عن السجود; واستكبر عن أمر الله وعلى آدم.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

قال " أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا " .
وهذا الإباء منه والاستكبار; نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه; فتبينت حينئذ عداوته لله; ولآدم; وكفره واستكباره.
وفي هذه الآيات من العبر والآيات; إثبات الكلام لله تعالى; وأنه لم يزل متكلما; يقول ما شاء; ويتكلم بما شاء; وأنه عليم حكيم.
وفيه أن العبد إذا حفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالوجب عليه; التسليم; واتهام عقله; والإقرار لله بالحكمة.
وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة; وإحسانه بهم; بتعليمهم ما جهلوا; وتنبيههم على ما لم يعلموه.
وفيه فضيلة العلم من وجوه: منها: أن الله تعرف لملائكته; بعلمه وحكمته.
ومنها: أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم; وأنه أفضل صفة تكون في العبد.
ومنها: أن الله أمرهم بالسجود لآدم; إكراما له; لما بان فضل علمه.
ومنها: أن الامتحان للغير; إذا عجزوا عما امتحنوا به; ثم عرفه صاحب الفضيلة; فهو أكمل مما عرفه ابتداء.
ومنها الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن; وبيان فضل آدم; وأفضال الله عليه; وعداوة إبليس له; إلى غير ذلك من العبر.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين "

لما خلق الله آدم وفضله; أتم نعمته عليه; بأن خلق منه زوجه; ليسكن إليها; ويستأنس بها; وأمرهما بسكنى الجنة; والأكل منها رغدا; أي: واسعا هنيئا.
" حَيْثُ شِئْتُمَا " أي: من أصناف الثمار والفواكه; وقال الله له: " إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى " .
" وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ " نوع من أنواع شجر الجنة; الله أعلم بها.
وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء; أو لحكمة غير معلومة لنا.
" فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ " دل على أن النهي للتحريم; لأنه رتب الظلم عليه.
فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه; حتى أزلهما أي: حملهما على الزلل بتزيينه.
" وَقَاسَمَهُمَا " بالله " إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ " فاغترا به وأطاعاه; فأخرجهما مما كانا فيه; من النعم والرغد; وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين "

" بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ " أي: آدم وذريته; أعداء لإبليس وذريته.
ومن المعلوم أن العدو; يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق; وحرمانه الخير بكل طريق.
ففي ضمن هذا, تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ " " أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا " .
ثم ذكر منتهى الإهباط فقال " وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ " أي: مسكن وقرار.
" وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ " انقضاء آجالكم, ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها, وخلقت لكم.
ففيها أن مدة هذه الحياة, مؤقتة عارضة, ليست مسكنا حقيقيا, وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار, ولا تعمر للاستقرار.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم "

" فَتَلَقَّى آدَمُ " أي: تلقف وتلقن, وألهمه الله " مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ " وهي قوله " رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا " الآية.
فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته " فَتَابَ " الله " عَلَيْهِ " ورحمه " إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ " لمن تاب إليه وأناب.
وتوبته نوعان: وتوفيقه أولا, ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا.
" الرَّحِيمِ " بعباده, ومن رحمته بهم, أن وفقهم للتوبة, وعفا عنهم وصفح.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون "

كرر الإهباط, ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله " فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى " أي: أي وقت وزمان جاءكم مني, يا معشر الثقلين, هدى, أي: رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني, ويدنيكم مني; ويدنيكم من رضائي.
فمن تبع هداي منكم, بأن آمن برسلي وكتبي, واهتدى بهم, وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب, والامتثال للأمر والاجتناب للنهي.
" فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " .
وفي الآية الأخرى " فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى " .
فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء: نفي الخوف, والحزن, والفرق بينهما, أن المكروه إن كان قد مضى, أحدث الحزن, وإن كان منتظرا, أحدث الخوف.
فنفاهما عمن اتبع الهدى وإذا انتفيا, ثبت ضدهما, وهو الهدى والسعادة.
فمن اتبع هداه, حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى.
وانتفى عنه كل مكروه, من الخوف, والحزن, والضلال, والشقاء.
فحصل له المرغوب, واندفع عند المرهوب.
وهذا عكس من لم يتبع هداه, فكفر به, وكذب آياته

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "

" أولئك أصحاب النار " , أي: الملازمون لها, ملازمة الصاحب لصاحبه, والغريم لغريمه.
" هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " لا يخرجون منها ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
وفي هذه الآيات وما أشبهها, انقسام الخلق من الجن والإنس, إلى أهل السعادة, وأهل الشقاوة, وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك.
وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب, كما أنهم مثلهم, في الأمر والنهي

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون "

ثم شرع تعالى يذكر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال: " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ " المراد بإسرائيل, يعقوب عليه السلام.
والخطاب مع فرق بني إسرائيل, الذين بالمدينة وما حولها, ويدخل فيهم من أتى بعدهم, فأمرهم بأمر عام فقال " اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ " , وهو يشمل سائر النعم, التي سيذكر في هذه السورة بعضها.
والمراد ذكرها بالقلب, اعترافا, وباللسان, ثناء, وبالجوارح, باستعمالها فيما يحبه ويرضيه.
" وَأَوْفُوا بِعَهْدِي " وهو ما عهده إليهم من الإيمان به, وبرسله, وإقامة شرعه.
" أُوفِ بِعَهْدِكُمْ " وهو المجازاة على ذلك.
والمراد بذلك: ما ذكره الله في قوله " وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي " إلى قوله " فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ "

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون "

ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده, وهو الرهبة منه تعالى, وخشيته وحده, فإن من خشيه, أوجبت له خشيته, امتثال أمره, واجتناب نهيه.
ثم أمرهم بالأمر الخاص, الذي لا يتم إيمانهم, ولا يصح إلا به فقال: " وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ " وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فأمرهم بالإيمان به, واتباعه, ويستلزم ذلك, الإيمان بمن أنزل عليه.
وذكر الداعي لإيمانهم فقال " مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ " أي: موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا.
فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب, غير مخالف لها; فلا مانع لكم من الإيمان به, لأنه جاء بما جاء به المرسلون, فأنتم أولى من آمن به وصدق به, لكونكم أهل الكتب والعلم.
وأيضا فإن في قوله " مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ " إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به, عاد ذلك عليكم, بتكذيب ما معكم, لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء.
فتكذيبكم له تكذيب لما معكم.
وأيضا, فإن في الكتب التي بأيدكم, صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به.
فإن لم تؤمنوا به, كذبتم ببعض ما أنزل إليكم, ومن كذب ببعض ما أنزل إليه, فقد كذب بجميعه.
كما أن من كفر برسوله, فقد كذب الرسل جميعهم.
فلما أمرهم بالإيمان به, نهاهم وحذرهم عن ضده وهو الكفر به فقال: " وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ " أي: بالرسول والقرآن.
وقوله " أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ " أبلغ من قوله ولا تكفروا به لأنهم إذا كانوا أول كافر به, كان فيه مبادرتهم إلى الكفر, عكس ما ينبغي منهم, وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم.
ثم ذكر المانع لهم من الإيمان, وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية فقال " وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا " وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل, التي يتوهمون انقطاعها, إن آمنوا بالله ورسوله, فاشتروها بآيات الله واستحبوها, وآثروها.
" وَإِيَّايَ " أي: لا غيري " فَاتَّقُونِ " فإنكم إذا اتقيتم الله وحده, أوجبت لكم تقواه, تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل.
كما أنكم, إذا اخترتم الثمن القليل, فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون "
ثم قال " وَلَا تَلْبِسُوا " أي: تخلطوا " الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ " فنهاهم عن شيئين, عن خلط الحق بالباطل, وكتمان الحق.
لأن المقصود من أهل الكتب والعلم, تمييز الحق, وإظهار الحق, ليهتدي بذلك المهتدون, ويرجع الضالون, وتقوم الحجة على المعاندين.
لأن الله فصل آياته, وأوضح بيناته, ليميز الحق من الباطل, ولتستبين سبيل المجرمين.
فمن عمل بهذا من أهل العلم, فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم.
ومن لبس الحق بالباطل, فلم يميز هذا من هذا, مع علمه بذلك, وكتم الحق الذي يعلمه, وأمر بإظهاره, فهو من دعاة جهنم, لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم, فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين "

ثم قال " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ " أي: ظاهرا وباطنا " وَآتُوا الزَّكَاةَ " مستحقيها.
" وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ " أي: صلوا مع المصلين.
فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله, فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة, وبين الإخلاص للمعبود, والإحسان إلى عبيده وبين العبادات القلبية البدنية والمالية,.
وقوله " وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ " أي: صلوا مع المصلين, ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها.
وفيه أن الركوع, ركن من أركان الصلاة لأنه عبر عن الصلاة بالركوع.
والتعبير عن العبادة بجزئها, يدل على فرضيته فيها.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون "

" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ " أي: بالإيمان والخير " وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ " أي تتركونها عن أمرها بذلك, والحال " وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " .
وسمي العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير, وينعقل به عما يضره.
وذلك أن العقل يحث صاحبه, أن يكون أول فاعل لما يأمر به, وأول تارك لما ينهى عنه.
فمن أمر غيره بالخير, ولم يفعله, أو نهاه عن الشر فلم يتركه, دل على عدم عقله وجهله, خصوصا إذا كان عالما بذلك, قد قامت عليه الحجة.
وهذه الآية, وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل, فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ " .
وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به, أنه يترك الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين.
وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه, وأمر نفسه ونهيها.
فترك أحدهما, لا يكون رخصة في ترك الآخر.
فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين, والنقص الكامل أن يتركهما.
وأما قيامه بأحدهما دون الآخر, فليس في رتبة الأول, وهو دون الأخير.
وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله.
فاقتداؤهم بالأفعال, أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين "

أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه.
وهو الصبر عن معصية الله حتى يتركها, والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها.
فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه, معونة عظيمة على كل أمر من الأمور, ومن يتصبر يصبره الله.
وكذلك الصلاة, التي هي ميزان الإيمان, وتنهى عن الفحشاء والمنكر, يستعان بها على كل أمر من الأمور " وَإِنَّهَا " أي: الصلاة " لَكَبِيرَةٌ " أي: شاقة " إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ " .
فإنها سهلة عليهم خفيفة, لأن الخشوع, وخشية الله, ورجاء ما عنده, يوجب له فعلها, منشرحا صدره, لترقبه للثواب, وخشيته من العقاب.
بخلاف من لم يكن كذلك, فإنه لا داعي له يدعوه إليها, وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه.
والخشوع هو: خضوع القلب وطمأنينته, وسكونه لله تعالى, وانكساره بين يديه, ذلا وافتقارا, وإيمانا به وبلقائه.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون "

ولهذا قال " الَّذِينَ يَظُنُّونَ " أي: يستيقنون " أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ " فيجازيهم بأعمالهم " وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات, ونفس عنهم الكربات, وزجرهم عن فعل السيئات.
فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات.
ومن لم يؤمن بلقاء ربه, كانت الصلاة وغيرها من العبادات, من أشق شيء عليه.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين "

ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته, وعظا لهم, وتحذيرا وحثا.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون "

وخوفهم بيوم القيامة الذي " لَا تَجْزِي " فيه أي: لا تغني " نَفْسٌ " ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين " عَنْ نَفْسٍ " ولو كانت من العشيرة الأقربين " شَيْئًا " لا كبيرا ولا صغيرا وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه.
" وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا " أي: النفس, شفاعة لأحد بدون إذن الله ورضاه عن المشفوع له, ولا يرضى منه العمل إلا ما أريد به وجهه وكان على السبيل والسنة.
" وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ " أي: فداء " ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب " ولا يقبل منهم ذلك " وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ " أي: يدفع عنهم المكروه.
فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه.
فقوله " لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا " هذا في تحصيل المنافع.
" وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ " هذا في دفع المضار, فهذا النفي للأمر المستقبل به النافع.
ولا تقبل منها شفاعة, ولا يؤخذ منها عدل, هذا نفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض, كالعدل, أو بغيره, كالشفاعة.
فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين, لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع, وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع, ويدفع المضار, فيعبده وحده لا شريك له ويستعين على عبادته.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم "

هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل فقال: " وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ " أي: من فرعون وملأه وجنوده وكانوا قبل ذلك " يَسُومُونَكُمْ " أي: يولونهم ويستعملونهم والمعنى يذيقونكم.
" سُوءَ الْعَذَابِ " أي أشده بأن كانوا " يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ " خشية نموكم.
" وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ " أي: فلا يقتلونهن فأنتم بين قتيل ومذلل بالأعمال الشاقة مستحيي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا غاية الإهانة فمن الله عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقر أعينهم.
" وَفِي ذَلِكَ " أي: الإنجاء " بَلَاءٌ " أي: إحسان " مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ " .
فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون "

ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة لينزل عليهم التوراة المتضمنة للنعم العظيمة والمصالح العميمة.
ثم إنهم لم يصبروا قبل استكمال الميعاد حتى عبدوا العجل من بعده, أي ذهابه.
" وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ " تعلمون بظلمكم, قد قامت عليكم الحجة, فهو أعظم جرما وأكبر إثما

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون "

ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا فعفا الله عنكم بسبب ذلك " لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " الله.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون "

" وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً " وهذا غاية الجرأة على الله وعلى رسوله.
" فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ " إما الموت أو الغشية العظيمة.
" وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ " وقوع ذلك, كل ينظر إلى صاحبه.
" ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " .

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "

ثم ذكر نعمته عليكم في التيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق فقال " وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ " وهو اسم جامع لكل رزق يحصل بلا تعب ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك.
" وَالسَّلْوَى " طائر صغير يقال له السماني طيب اللحم فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم " كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " أي: رزفا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين, فلم يشكروا هذه النعمة, واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب.
" وَمَا ظَلَمُونَا " يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين, كما لا تنفعه طاعات الطائعين.
" وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " فيعود ضرره عليهم.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين "

وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه, فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا, ويحصل لهم فيها الرزق الرغد وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل, وهو دخول الباب سجدا, أي: خاضعين ذليلين.
وبالقول, وهو أن يقولوا " حِطَّةٌ " أي أن يحط عنم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته.
" نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ " بسؤالكم المغفرة.
" وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ " بأعمالهم, أي جزاء عاجل وآجلا.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون "

" فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا " منهم, ولم يقل فبدلوا لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا " قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ " فقالوا بدل حطة حبة في حنطة استهانة بأمر الله, واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى.
ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم, ولما كان هذا الطغيان أكبر سبب لوقوع عقوبة الله بهم قال " فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا " " منهم " " رِجْزًا " .
أي: عذابا " مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ " بسبب فسقهم وبغيهم.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين "

استسقى, أي: طلب لهم ماء يشربون منه.
" فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ " إما حجر مخصوص معلوم عنده, وإما اسم جنس.
" فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا " وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة.
" قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ " أي: محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين, فلا يزاحم بعضهم بعضا, بل يشربونه متهنئين لا متكدرين, ولهذا قال " كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ " أي: الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب.
" وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ " أي: تخربوا على وجه الإفساد.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون "
أي: واذكروا, إذ قلتم لموسى, على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها.
" لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ " أي: جنس من الطعام, وإن كان كما تقدم أنواعا, لكنها لا تتغير.
" فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا " أي: نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه.
" وَقِثَّائِهَا " وهو الخيار " وَفُومِهَا " أي ثومها, " وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا " والعدس والبصل معروف.
قال لهم موسي " أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى " وهو الأطعمة المذكورة.
" بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ " وهو المن والسلوى, فهذا غير لائق بكم.
فإن هذه الأطعمة التي طلبتموها, أي مصر هبطتموه وجدتموها.
وأما طعامكم الذي من الله به عليكم, فهو خير الأطعمة وأشرفها, فكيف تطلبون به بدلا؟ ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه, جازاهم من جنس عملهم فقال " وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ " التي تشاهد على ظاهر أبدانهم " وَالْمَسْكَنَةُ " بقلوبهم.
فلم تكن أنفسهم عزيزة, ولا لهم همم عالية, بل أنفسهم أنفس مهينة, وهممهم أردأ الهمم.
" وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ " أي: لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا, إلا أن رجعوا بسخطه عليهم, فبئست الغنيمة غنيمتهم, وبئست الحالة حالتهم.
" ذَلِكَ " الذي استحقوا به غضبه " بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ " الدالات على الحق الموضحة, فلما كفروا بها, عاقبهم بغضبه عليهم, وبما كانوا " وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ " .
وقوله " بِغَيْرِ حَقٍّ " زيادة شناعة, وإلا فمن المعلوم أن قتل النبيين, لا يكون بحق, لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم.
" ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا " بأن ارتكبوا معاصي الله " وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " على عباد الله, فإن المعاصي يجر بعضها بعضا.
فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير, ثم ينشأ عنه الذنب الكبير, ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك, فنسأل الله العافية من كل بلاء.
واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزون القرآن, وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم, ونسبت لهم لفوائد عديدة.
منها أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم, ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به.
فبين الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم, ما يبين به لكل واحد منهم, أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق, ومعالي الأعمال.
فإذا كانت هذه حالة سلفهم - مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة, ممن بعدهم - فكيف الظن بالمخاطبين؟!!.
ومنها أن نعمة الله على المتقدمين منهم, نعمة واصلة إلى المتأخرين, والنعمة على الآباء, نعمة على الأبناء.
فخوطبوا بها, لأنها نعم تشملهم وتعمهم.
ومنها أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم, مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها, حتى كان متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد, وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع.
لأن ما يعمله بعضهم من الخير, يعود بمصلحة الجميع, وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع.
ومنها: أن أفعالهم أكثرها لم ينكرها, والراضي بالمعصية شريك للعاصي.
إلى غير ذلك من الحكم, التي لا يعلمها إلا الله.

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

" إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "
ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " .
وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة, لأن الصابئين, الصحيح, أنهم من جملة فرق النصارى.
فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة, واليهود والنصارى, والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر, وصدقوا رسلهم, فإن لهم الأجر العظيم, والأمن, ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر, فهو بضد هذه الحال, فعليه الخوف والحزن.
والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف, من حيث هم, لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد, فإن هذا, إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم.
وهذه طريقة القرآن, إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام, فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم, لأنه تنزيل ممن يعلم الأشياء قبل وجودها, ومن رحمته وسعت كل شيء.
وذلك - والله أعلم - أنه ذكر بني إسرائيل وذمهم, وذكر معاصيهم وقبائحهم, ربما وقع في بعض النفوس, أنهم كلهم يشملهم الذم.
فأراد الباري تعالى أن يبين من لا يلحقه الذم منهم بوصفه.
ولما كان أيضا, ذكر بني إسرائيل خاصة, يوهم الاختصاص بهم, ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها, ليتضح الحق, ويزول التوهم والإشكال.
فسبحان من أودع في كتابه, ما يبهر عقول العالمين.


3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون "
ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم فقال: " وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ " الآية.
أي: واذكروا " وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ " وهو العهد الثقيل المؤكد بالتخويف لهم, برفع الطور فوقهم وقيل لهم " خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ " من التوراة " بِقُوَّةٍ " أي: بجد واجتهاد, وصبر على أوامر الله.
" وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ " أي: ما في كتابكم, بأن تتلوه وتتعلموه.
" لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " عذاب الله وسخطه, أو لتكونوا من أهل التقوى.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين "
فبعد هذا التأكيد البليغ " تَوَلَّيْتُمْ " وأعرضتم, وكان ذلك موجبا لأن يحل بكم أعظم العقوبات.
ولكن " فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ " .

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين "
" وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ " أي: ولقد تقرر عندكم حالة " الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ " وهم الذين ذكر الله قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله " وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ " الآيات.
فأوجب لهم هذا الذنب العظيم, أن غضب الله عليهم, وجعلهم " قِرَدَةً خَاسِئِينَ " حقيرين ذليلين.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين "
وجعل الله هذه العقوبة " نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا " أي: لمن حضرها من الأمم, وبلغه خبرها, ممن هو في وقتهم.
" وَمَا خَلْفَهَا " أي: من بعدها, فتقوم على العباد حجة الله, وليرتدعوا عن معاصيه, ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين.
وأما من عداهم, فلا ينتفعون بالآيات

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين "
أي: واذكروا ما جرى لكم مع موسى, حين قتلتم قتيلا, فأدارئتم فيه, أي: تدافعتم واختلفتم في قاتله, حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد - لولا تبيين الله لكم - يحدث بينكم شر كبير.
فقال لكم موسى في تبين القائل: اذبحوا بقرة.
وكان من الواجب, المبادرة إلى امتثال أمره, وعدم الاعتراض عليه.
ولكنهم أبوا إلا الاعتراض, فقالوا: " أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا " فقال نبي الله " أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ " .
فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه, وهو الذي يستهزئ بالناس.
وأما العاقل, فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل, استهزاءه بمن هو آدمي مثله.
وإن كان قد فضل عليه, فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه, والرحمة لعباده.
فلما قال لهم موسى ذلك, علموا أن ذلك صدق فقالوا

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون "
" ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ " أي: ما سنها " قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ " أي: كبيرة " وَلَا بِكْرٌ " أي: صغيرة " عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ " أي: متوسطة بين.
السنين, المذكورين سابقا.
وهما الصغر والكبر.
" فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ " واتركوا التشديد والتعنت.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين "
" قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا " أي: شديد " تَسُرُّ النَّاظِرِينَ " من حسنها.
3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون "
" قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا " فلم نهتد إلى ما تريد " وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون "
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ " أي مذللة بالعمل.
" تُثِيرُ الْأَرْضَ " بالحراثة " وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ " أي: ليست بسانية " مُسَلَّمَةٌ " من العيوب أو من العمل " لَا شِيَةَ فِيهَا " أي: لا لون فيها غير لونها الموصوف المتقدم.
" قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ " أي: بالبيان الواضح.
وهذا من جهلهم, وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة.
فلو أنهم اعترضوا أي بقرة, لحصل المقصود, ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم, ولو لم يقولوا " إن شاء الله " لم يهتدوا أيضا إليها.
" فَذَبَحُوهَا " أي: البقرة التي وصفت بتلك الصفات.
" وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ " بسب التعنت الذي جرى منهم

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون "
فلما ذبحوها, قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها, أي: بعضو منها, إما بعضو معين, أو أي عضو منها, فليس في تعيينه فائدة, فضربوه ببعضها فأحياه الله, وأخرج ما كانوا يكتمون, فأخبر بقاتله.
وكان في إحيائه - وهم يشاهدون - ما يدل على إحياء الله الموتى.
لعلكم تعقلون, فتنزجرون عن ما يضركم.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون "
" ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ " أي: اشتدت وغلظت, فلم تؤثر فيها الموعظة.
" مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ " أي: من بعد ما أنعم الله عليكم بالنعم العظيمة, وأراكم الآيات.
ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم, لأن ما شاهدتم, مما يوجب رقة القلب وانقياده.
ثم وصف قسوتها بأنها " كَالْحِجَارَةِ " التي هي أشد قسوة من الحديد.
لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار, ذاب, بخلاف الأحجار.
وقوله " أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً " أي: إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار.
وليست " أو " بمعنى " بل " .
ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم فقال " وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ " فبهذه الأمور فضلت قلوبكم.
ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال " وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها, وسيجازيكم على ذلك, أتم الجزاء وأوفاه.
واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله, قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل, ونزلوا عليها الآيات القرآنية, وجعلوها تفسيرا لكتاب الله, محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " .
والذي أرى أنه, وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه, تكون مفردة غير مقرونة, ولا منزلة على كتاب الله, فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " .
فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها, وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه.
فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة, التي يغلب على الظن كذبها, أو كذب أكثرها, معاني لكتاب الله, مقطوعا بها, ولا يستريب بهذا أحد.
ولكن بسبب الغفلة عن هذا, حصل ما حصل.
والله الموفق.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون "
هذا قطع لأطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب, أي: فلا تطمعوا في إيمانهم.
وأخلاقهم لا تقتضي الطمع فيهم, فإنهم كانوا يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وعلموه, فيضعون له معاني, ما أرادها الله, ليوهموا الناس أنها من عند الله, وما هي من عند الله.
فإذا كانت حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله, فكيف يرجى منهم إيمان لكم؟!.
فهذا من أبعد الأشياء.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون "
ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب فقال " وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا " فأظهروا لهم الإيمان قولا بألسنتهم, ما ليس في قلوبهم.
" وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ " فلم يكن عندهم أحد من غير أهل دينهم قال بعضهم لبعض: " أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ " أي: أتظهرون لهم الإيمان وتخبروهم أنكم مثلهم, فيكون ذلك حجة لهم عليكم؟.
يقولون: إنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه حق, وما هم عليه باطل, فيحتجون عليكم بذلك عند ربهم.
" أَفَلَا تَعْقِلُونَ " أي: أفلا يكون لكم عقل, فتتركون ما هو حجة عليكم؟.
هذا يقوله بعضهم لبعض.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون "
" أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ " فهم وإن أسروا ما يعتقدونه فيما بينهم, وزعموا أنهم بإسرارهم, لا يتطرق عليهم حجة للمؤمنين, فإن هذا غلط منهم وجهل كبير, فإن الله يعلم سرهم وعلنهم, فيظهر لعباده ما هم عليه.
3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون "
" وَمِنْهُمْ " أي: من أهل الكتاب " أُمِّيُّونَ " أي: عوام, وليسوا من أهل العلم.
" لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ " أي: ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط, وليس عندهم خبر بما عند الأولين الذين يعلمون حق المعرفة حالهم, وهؤلاء, إنما معهم ظنون وتقاليد لأهل العلم منهم.
فذكر في هذه الآيات علماءهم, وعوامهم, ومنافقيهم, ومن لم ينافق منهم, فالعلماء منهم, متمسكون بما هم عليه من الضلال.
والعوام مقلدون لهم, لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم في الطائفتين.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون "
توعد تعالى المحرفين للكتاب, الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون " هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ " وهذا فيه إظهار الباطل وكتم الحق, وإنما فعلوا ذلك مع علمهم " لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا " .
والدنيا كلها - من أولها إلى آخرها ثمن - قليل.
فجعلوا باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس, فظلموهم من وجهين: من جهة تلبيس دينهم عليهم, ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق, بل بأبطل الباطل, وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما.
ولهذا توعدهم بهذين الأمرين فقال " فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ " أي: من التحريف والباطل " وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ " من الأموال.
والويل: شدة العذاب والحسرة, وفي ضمنها الوعيد الشديد.
قال شيخ الإسلام لما ذكر هذه الآيات من قوله " أَفَتَطْمَعُونَ " إلى " يَكْسِبُونَ " : فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه, وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة, على ما أصله من البدع الباطلة.
وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني, وهو متناول لمن ترك سر تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه.
ومتناول لمن كتب كتابا بيده, مخالفا لكتاب الله, لينال به دنيا وقال: إنه من عند الله, مثل أن يقول: هذا هو الشرع والدين, وهذا معنى الكتاب والسنة, وهذا معقول السلف والأئمة, وهذا هو أصول الدين, الذي يجب اعتقاده على الأعيان والكفاية.
ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة, لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله.
وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة, كالرافضة, وتفصيلا مثل كثير من المنتسبين إلى الفقهاء.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون "
ذكر أفعالهم القبيحة, ثم ذكر - مع هذا - أنهم يزكون أنفسهم, ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله, والفوز بثوابه, وأنهم لم تمسهم النار إلا أياما معدودة, أي: قليلة تعد بالأصابع, فجمعوا بين الإساءة والأمن.
ولما كان هذا مجرد دعوى, رد الله تعالى عليهم فقال: " قُلْ " لهم, يا أيها الرسول " أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا " أي بالإيمان به وبرسله وبطاعته, فهذا الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي لا يتغير ولا يتبدل.
" أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ " ؟ فأخبر تعالى أن صدق دعواهم ومتوقف على أحد هذين الأمرين اللذين لا ثالث لهما.
إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهدا, فتكون دعواهم صحيحة.
وإما أن يكونوا متقولين عليه, فتكون كاذبة, فيكون أبلغ لخزيهم عذابهم.
وقد علم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا, لتكذيبهم كثيرا من الأنبياء, حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم, ولنكولهم عن طاعة الله ونقضهم المواثيق.
فتعين بذلك, أنهم متقولون مختلقون, قائلون عليه ما لا يعلمون.
والقول عليه بلا علم, من أعظم المحرمات, وأشنع القبيحات.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"
ثم ذكر تعالى, حكما عاما لكل أحد, يدخل فيه بنو إسرائيل وغيرهم, وهو الحكم الذي لا حكم غيره, لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين فقال: " بَلَى " أي: ليس الأمر كما ذكرتم, فإنه قول لا حقيقة له.
ولكن " مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً " وهو نكرة في سياق الشرط, فيعم الشرك فما دونه.
والمراد به: - هنا - الشرك, بدليل قوله " وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ " أي: أحاطت بعاملها, فلم تدع له منفذا, وهذا لا يكون إلا الشرك, فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته.
" فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية, وهي حجة عليهم كما ترى, فإنها ظاهرة في الشرك, وهكذا كل مبطل يحتج بآية, أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون "
" وَالَّذِينَ آمَنُوا " بالله وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر.
" وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " ولا تكون الأعمال صالحة إلا بشرطين: أن تكون خالصة لوجه الله, متبعا بها سنة رسوله.
فحاصل هاتين الآيتين, أن أهل النجاة والفوز, هم أهل الإيمان والعمل الصالح.
والهالكون أهل النار هم المشركون بالله, الكافرون به.
فهذه الشرائع من أصول الدين, التي أمر الله بها في كل شريعة, لاشتمالها على المصالح العامة, في كل زمان ومكان, فلا يدخلها نسخ, كأصل الدين.
ولهذا أمرنا بها في قوله " وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " إلى آخر الآية.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون "
فقوله " وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ " هذا من قسوتهم أن كل أمر أمروا به, استعصوا فلا يقبلونه إلا بالأيمان الغليظة, والعهود الموثقة.
" لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ " هذا أمر بعبادة الله وحده, ونهى عن الشرك به.
وهذا أصل الدين, فلا تقبل الأعمال كلها, إن لم يكن هذا أساسها, فهذا حق الله تعالى على عباده, ثم قال: " وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " أي: أحسنوا بالوالدين إحسانا.
وهذا يعم كل إحسان, قولي, وفعلي, مما هو إحسان إليهم.
وفيه النهي عن الإساءة إلى الوالدين, أو عدم الإحسان والإساءة.
لأن الواجب, الإحسان, والأمر بالشيء, نهي عن ضده.
وللإحسان ضدان: الإساءة, وهي أعظم جرما.
وترك الإحسان بدون إساءة, وهذا محرم, لكن لا يجب أن يلحق بالأول.
وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى, والمساكين.
وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعد, بل تكون بالحد, كما تقدم.
ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما فقال: " وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا " ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف, ونهيهم عن المنكر, وتعليمهم العلم, وبذل السلام, والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب.
ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله, أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق, وهو الإحسان بالقول, فيكون في ضمن ذلك, النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار, ولهذا قال تعالى: " وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " .
ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده, أن يكون الإنسان نزيها فى أقواله وأفعاله, غير فاحش ولا بذيء, ولا شاتم, ولا مخاصم.
بل يكون حسن الخلق, واسع الحلم, مجاملا لكل أحد, صبورا على ما يناله من أذى الخلق, امتثالا لأمر الله, ورجاء لثوابه.
ثم أمرهم بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود, والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد.
ثم بعد هذا الأمر لكم, بهذه الأوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل, عرف أن من إحسان الله على عباده, أن أمرهم بها,, وتفضل بها عليهم, وأخذ المواثيق عليكم " ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ " على وجه الإعراض.
لأن المتولي قد يتولى, وله نية رجوع إلى ما تولى عنه.
وهؤلاء ليس لهم رغبة ولا رجوع في هذه الأوامر.
فنعوذ بالله من الخذلان.
وقوله " إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ " هذا استثناء, لئلا يوهم أنهم تولوا كلهم.
فأخبر أن قليلا منهم, عصمهم الله وثبتهم.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون "
وهذا الفعل المذكور في هذه الآية, فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة.
وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين, وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية.
فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود, بنو قريظة, وبنو النضير, وبنو قينقاع.
فكل فرقة منهم, حالفت فرقة من أهل المدينة.
فكانوا إذا اقتتلوا, أعان اليهودي حليفه على مقاتليه, الذين تعينهم الفرقة الأخرى من اليهود, فيقتل اليهودي اليهودي, ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب.
ثم إذا وضعت الحرب أوزارها, وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا.
والأمور الثلاثة كلها, قد فرضت عليهم.
ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض, ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم, وإذا وجدوا أسيرا منهم, وجب عليهم فداؤه.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون "
فعملوا بالأخير وتركوا الأولين, فأنكر الله عليهم ذلك فقال: " أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ " وهو فداء الأسير " وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ " وهو القتل والإخراج.
وفيها دليل على أن الإيمان, يقتضي فعل الأوامر, واجتناب النواهي وأن المأمورات من الإيمان قال تعالى: " فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " وقد وقع ذلك.
فأخزاهم الله, وسلط رسوله عليهم, فقتل من قتل, وسبى من سبى منهم, وأجلى من أجلى.
" وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ " أي: أعظمه " وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ "
3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون "
ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب, والإيمان ببعضه فقال: " أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ " توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار, فاختاروا النار على العار.
فلهذا قال: " فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ " بل: هو باق على شدته, ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات.
" وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ " أي: يدفع عنهم مكروه.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون "
يمتن تعالى على بني إسرائيل, أن أرسل لهم كليمه موسى, وآتاه التوراة, ثم تابع بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة, إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى عليه السلام.
وآتاه من الآيات البينات, ما يؤمن على مثله البشر.
" وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ " أي: قواه الله بروح القدس.
قال أكثر المفسرين: إنه جبريل عليه السلام, وقيل: إنه الإيمان الذي يؤيد الله به عباده.
ثم مع هذه النعم التي لا يقدر قدرها, لما أتوكم " بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ " عن الإيمان بهم.
" فَفَرِيقًا " منهم " كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ " فقدمتم الهوى على الهدى, وآثرتم الدنيا على الآخرة.
وفيها من التوبيخ والتشديد, ما لا يخفى.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون "
أي: اعتذروا عن الإيمان لما دعوتهم إليه, يا أيها الرسول, بأن قلوبهم غلف, أي: عليها غلاف وأغطية, فلا تفقه ما تقول.
يعني, فيكون لهم - بزعمهم - عذر لعدم العلم, وهذا كذب منهم.
فلهذا قال تعالى: " بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ " أي: أنهم مطرودون ملعونون, بسبب كفرهم.
فقليلا, المؤمن منهم, أو قليلا, إيمانهم.
وكفرهم هو الكثير.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين "
أي: ولما جاءهم من عند الله على يد أفضل الخلق, وخاتم الأنبياء, الكتاب المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة, وقد علموا به, وتيقنوه على أنهم إذا كان وقع بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب, استنصروا بهذا النبي, وتوعدوهم بخروجه, وأنهم يقاتلون المشركين معه.
فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا, كفروا به, بغيا وحسدا, أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
فلعنهم الله, وغضب عليهم غضبا بعد غضب, لكثرة كفرهم, وتوالى شكهم وشركهم.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين "
" وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ " أي: مؤلم موجع, وهو صلى الجحيم, وفوت النعيم المقيم.
فبئس الحال حالهم, وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله, الكفر به, وبكتبه, وبرسله, مع علمهم وتيقنهم, فيكون أعظم لعذابهم.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين "
أي: وإذا أمر اليهود بالإيمان بما أنزل الله على رسوله, وهو القرآن استكبروا وعتوا, و " قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ " أي: بما سواه من الكتب.
مع أن الواجب أن يؤمنوا بما أنزل الله مطلقا, سواء أنزل عليهم, أو على غيرهم, وهذا هو الإيمان النافع, الإيمان بما أنزل الله على جميع رسله.
وأما التفريق بين الرسل والكتب, وزعم الإيمان ببعضها دون بعض, فهذا ليس بإيمان, بل هو الكفر بعينه, ولهذا قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا " .
ولهذا رد عليهم تبارك وتعالى هنا, ردا شافيا, وألزمهم إلزاما لا محيد لهم عنه, فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال: " وَهُوَ الْحَقُّ " , فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات, والأوامر والنواهي, وهو من عند ربهم, فالكفر به - بعد ذلك - كفر بالله, وكفر بالحق الذي أنزله.
ثم قال " مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ " أي: موافقا له في كل ما دل عليه من الحق ومهيمنا عليه.
فلم تؤمنون بما أنزل عليكم, وتكفرون بنظيره؟.
هل هذا إلا تعصب, واتباع للهوى لا للهدى؟ وأيضا, فإن كون القرآن مصدقا لما معهم, يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب, قلا سبيل لهم إلى إثباتها إلا به.
فإذا كفروا به وجحدوه, صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة, ليس له غيرها, ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته, ثم يأتي هو لبينته وحجته, فيقدح فيها ويكذب بها; أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن, كفرا بما في أيديهم ونقضا له.
ثم نقض عليهم تعالى دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم بقوله: " قُلْ " لهم " فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون "
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ " أي: بالأدلة الواضحات المبينة للحق.
" ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ " أي: بعد مجيئه " وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ " في ذلك ليس لكم عذر.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين "
" وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا " أي: سماع قبول وطاعة واستجابة.
" قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا " أي: صارت هذه حالتهم " وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ " أي: صبغ حب العجل, وحب عبادته, في قلوبهم, وشربها بسبب كفرهم.
" قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " أي: أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق, وأنتم قتلتم أنبياء الله, واتخذتم العجل إلها من دون الله, لما غاب عنكم موسى, نبي الله, و لم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد ورفع الطور فوقكم, فالتزمتم بالقول, ونقضتم بالفعل.
فما هذا الإيمان الذي ادعيتم, وما هذا الدين؟ فإن كان هذا إيمانا على زعمكم, فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان, والكفر برسل الله, وكثرة العصيان.
وقد عهد أن الإيمان الصحيح, يأمر صاحبه بكل خير, وينهاه عن كل شر.
فوضح بهذا كذبهم, وتبين تناقضهم.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين "
أي: " قُلْ " لهم على وجه تصحيح دعواهم " إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ " يعني الجنة " خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ " كما زعمتم, أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى, وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة.
فإن كنتم صادقين في هذه الدعوى " فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ " وهذا نوع مباهلة بينهم, وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم, إلا أحد أمرين: إما أن يؤمنوا بالله ورسوله.
وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير عليهم, وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة لهم, فامتنعوا من ذلك.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين "
فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله, مع علمهم بذلك.
ولهذا قال تعالى " وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ " من الكفر والمعاصي, لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون "
فالموت أكره شيء إليهم, وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس, حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب.
ثم ذكر شدة محبتهم الدنيا فقال: " يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ " .
وهذا أبلغ ما يكون من الحرص, تمنوا حالة هي من المحالات.
والحال أنهم لو عمروا العمر المذكور, لم يغن عنهم شيئا ولا دفع عنهم من العذاب شيئا.
" وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ " تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين "
أي: قل لهؤلاء اليهود, الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان بك, أن وليك جبريل عليه السلام, ولو كان غيره من ملائكة الله, لآمنوا بك وصدقوا: إن هذا الزعم منكم, تناقض وتهافت, وتكبر على الله.
فإن جبريل عليه السلام هو الذي نزل القرآن من عند الله على قلبك, وهو الذي ينزل على الأنبياء قبلك, والله هو الذي أمره, وأرسله بذلك, فهو رسول محض.
مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل - مصدقا لما تقدمه من الكتب - غير مخالف لها ولا مناقض, وفيه الهداية التامة من أنواع الضلالات, والبشارة بالخير الدنيوي والأخروي, لمن آمن به.
فالعداوة لجبريل, الموصوف بذلك, كفر بالله وآياته, وعداوة لله ولرسله وملائكته.
فإن عداوتهم لجبريل, لا لذاته بل لما ينزل به من عند الله من الحق, على رسل الله.
فيتضمن الكفر والعداوة, للذي أنزله وأرسله, والذي أرسل به, والذي أرسل إليه, فهذا وجه ذلك.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون "
يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم " وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ " تحصل بها الهداية لمن استهدى, وإقامة الحجة على من عاند, وهي في الوضوح والدلالة على الحق, قد بلغت مبلغا عظيما ووصلت إلى حالة لا يمتنع من قبولها إلا من فسق عن أمر الله, وخرج عن طاعة الله, واستكبر غاية التكبر.
وهذا فيه التعجب من كثرة معاهداتهم, وعدم صبرهم على الولاء بها.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون "
فـ " كُلَّمَا " تفيد التكرار, فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض.
ما السبب في ذلك؟.
السبب أن أكثرهم لا يؤمنون.
فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود.
ولو صدق إيمانهم, لكانوا مثل من قال الله فيهم.
" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ " .

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون "
أي: ولما جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم بالحق الموافق لما معهم وكانوا يزعمون أنهم متمسكون بكتابهم, فلما كفروا بهذا الرسول وبما جاء به.
" نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ " الذي أنزل إليهم أي طرحوه رغبة عنه " وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ " وهذا أبلغ في الإعراض كأنهم في فعلهم هذا من الجاهلين وهم يعلمون صدقه وحقيقة ما جاء به, تبين بهذا أن هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق في أيديهم شيء حيث لم يؤمنوا بهذا الرسول, فصار كفرهم به كفرا بكتابهم من حيث لا يشعرون.
ولما كان من العوائد القدسية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه وأمكنه الانتفاع به ولم ينتفع, ابتلي بالاشتغال بما يضره, فمن ترك عبادة الرحمن, ابتلي بعبادة الأوثان, ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه, ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه, ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان, ومن ترك الذل لربه, ابتلي بالذل للعبيد.
ومن ترك الحق ابتلي بالباطل.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون "
كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم.
وهم كذبة في ذلك فلم يستعمله سليمان بل نزهه الصادق في قيله: " وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ " أي: بتعلم السحر, فلم يتعلمه.
" وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا " في ذلك.
" يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ " من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر.
" وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى " ينصحاه, و " يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ " أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر فينهيانه عن السحر ويخبرانه عن مرتبته, فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام.
وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة.
فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين, والسحر الذي يعلمه الملكان, فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين, وكل يصبو إلى ما يناسبه.
ثم ذكر مفاسد السحر فقال: " فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ " مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما, لأن الله قال في حقهما " وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً " وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة وأنه يضر بإذن الله أي بإرادة الله, والإذن نوعان: إذن قدري وهو المتعلق بمشيئة الله, كما في هذه الآية.
وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة.
" فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ " وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير, ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة, فأخرجوها عن قدرة الله.
فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين.
ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة, ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي.
كما قال تعالى في الخمر والميسر " قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا " .
فهذا السحر مضرة محضة, فليس له داع أصلا, فالمنهيات كلها إما مضرة محضة, أو شرها أكبر من خيرها.
كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها.
" وَلَقَدْ عَلِمُوا " أي اليهود " لَمَنِ اشْتَرَاهُ " أي: رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة.
" مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ " أي: نصيب, بل هو موجب للعقوبة, فلم يكن فعلهم إياه جهلا, ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.
" وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " علما يثمر العمل ما فعلوه.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم "
كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين " رَاعِنَا " أي: راع أحوالنا, فيقصدون بها معنى صحيحا.
وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا, فانتهزوا الفرصة, فصاروا يخاطبون الرسول بذلك, ويقصدون المعنى الفاسد.
فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة, سدا لهذا الباب.
ففيه النهي عن الجائز, إذا كان وسيلة إلى محرم.
وفيه الأدب, واستعمال الألفاظ, التي لا تحتمل إلا الحسن, وعدم الفحش, وترك الألفاظ القبيحة, أو التي فيها نوع تشويش واحتمال لأمر غير لائق.
فأمرهم بلفظة, لا تحتمل إلا الحسن فقال " وَقُولُوا انْظُرْنَا " .
فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور.
" وَاسْمَعُوا " لم يذكر المسموع, ليعم ما أمر باستماعه.
فيدخل فيه سماع القرآن, وسماع السنة التي هي الحكمة, لفظا ومعنى, واستجابة.
ففيه الأدب والطاعة.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم "
ثم توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع, وأخبر عن عداوة اليهود المشركين للمؤمنين, أنهم ما يودون " أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ " .
أي: لا قليلا, ولا كثيرا " مِنْ رَبِّكُمْ " حسدا منهم, وبغضا لكم أن يختصكم بفضله فإنه " ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " .
ومن فضله عليكم, أنزل الكتاب على رسولكم, ليزكيكم, ويعلمكم الكتاب والحكمة, ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون, فله الحمد والمنة.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير "
النسخ, هو النقل, فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع, إلى حكم آخر, أو إلى إسقاطه.
وكان اليهود ينكرون النسخ, ويزعمون أنه لا يجوز, وهو مذكور عندهم في التوراة, فإنكارهم له, كفر وهوى محض.
فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ فقال: " مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا " أي: ننسها العباد, فنزيلها من قلوبهم.
" نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا " وأنفع لكم " أَوْ مِثْلِهَا " .
فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول, لأن فضله تعالى يزداد, خصوصا على هذه الأمة, التي سهل عليها دينها, غايه التسهيل.
وأخبر أن من قدح في النسخ, قدح في ملكه وقدرته فقال: " أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير "
" أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " .
فإذا كان مالكا لكم, متصرفا فيكم, تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه, فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير, كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام.
فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية, فما له والاعتراض؟ وهو أيضا, ولي عباده, ونصيرهم.
فيتولاهم في تحصيل منافعهم, وينصرهم في دفع مضارهم.
فمن ولايته لهم, أن يشرع لهم من الأحكام, ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم.
ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ, عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده, وإيصالهم إلى مصالحهم, من حيث لا يشعرون بلطفه.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل "
ينهى الله المؤمنين, أو اليهود, بأن يسألوا رسولهم " كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ " .
والمراد بذلك, أسئلة التعنت والاعتراض, كما قال تعالى: " يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً " .
وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " .
فهذه ونحوها, هي المنهي عنها.
وأما سؤال الاسترشاد والتعليم, فهذا محمود قد أمر الله به كما قال تعالى " فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " .
ويقرهم عليه, كما في قوله " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ " " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى " ونحو ذلك.
ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة, قد تصل بصاحبها إلى الكفر قال: " وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ " .

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير "
ثم أخبر عن حسد كثير من أهل الكتاب, وأنهم بلغت بهم الحال, أنهم ودوا " لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا " وسعوا في ذلك, وعملوا المكايد, وكيدهم راجع عليهم كما قال تعالى: " وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم.
فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم بالعفو عنهم, والصفح, حتى يأتي الله بأمره.
ثم بعد ذلك, أتى الله بأمره إياهم بالجهاد, فشفى الله أنفس المؤمنين منهم, فقتلوا من قتلوا, واسترقوا من استرقوا, وأجلوا من أجلوا " إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير "
ثم أمرهم الله بالاشتغال بالوقت الحاضر, بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة وفعل كل القربات.
ووعدهم أنهم, مهما فعلوا من خير, فإنه لا يضيع عند الله, بل يجدونه عنده وافرا موفرا قد حفظه " إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " .

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين "
أي: قال اليهود, لن يدخل الجنة إلا من كان هودا.
وقالت النصارى, لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى.
فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم, وهذا مجرد أماني غير مقبولة, إلا بحجة وبرهان, فأتوا بها إن كنتم صادقين.
وهكذا كل من ادعى دعوى, لا بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه.
وإلا, فلو قلبت عليه دعواه, وادعى مدع عكس ما ادعى بلا برهان لكان لا فرق بينهما.
فالبرهان, هو الذي يصدق الدعوى أو يكذبها.
ولما لم يكن بأيديهم برهان, علم كذبهم بتلك الدعوى.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "
ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد, فقال: " بَلَى " أي: ليس بأمانيكم ودعاويكم, ولكن " مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ " أي: أخلص لله أعماله, متوجها إليه بقلبه.
" وَهُوَ " مع إخلاصه " مُحْسِنٌ " في عبادة ربه, بأن عبده بشرعه, فأولئك هم أهل الجنة وحدهم.
" فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ " وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم " وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " فحصل لهم المرغوب, ونجوا من المرهوب.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون "
ويفهم منها, أن من ليس كذلك, فهو من أهل النار الهالكين.
فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود, والمتابعة للرسول.
وذلك أنه بلغ بأهل الكتاب الهوى والحسد, إلى أن بعضهم ضلل بعضا, وكفر بعضهم بعضا, كما فعل الأميون من مشركي العرب وغيرهم.
فكل فرقة تضلل الأخرى, ويحكم الله في الآخرة بين المختلفين بحكمه العدل, الذي أخبر به عباده, فإنه لا فوز ولا نجاة إلا لمن صدق جميع الأنبياء والمرسلين, وامتثل أوامر ربه, واجتنب نواهيه, ومن عداهم, فهو هالك.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم "
أي: لا أحد أظلم, وأشد جرما, ممن منع مساجد الله, عن ذكر الله فيها, وإقامة الصلاة وغيرها من الطاعات.
" وَسَعَى " أي: اجتهد وبذل وسعه " فِي خَرَابِهَا " الحسي والمعنوي.
فالخراب الحسي: هدمها وتخريبها, وتقديرها.
والخراب المعنوي, منع الذاكرين لاسم الله فيها.
وهذا عام, لكل من اتصف بهذه الصفة, فيدخل في ذلك أصحاب الفيل, وقريش, حين صدوا رسول الله عنها عام الحديبية, والنصارى حين أخربوا بيت المقدس, وغيرهم من أنواع الظلمة, الساعين في خرابها, محادة لله, ومشاقة.
فجازاهم الله, بأن منعهم دخولها شرعا وقدرا, إلا خائفين ذليلين, فلما أخافوا عباد الله, أخافهم الله.
فالمشركون الذين صدوا رسوله, لم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا, حتى أذن الله له في فتح مكة.
ومنع المشركين من قربان بيته, فقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا " .
وأصحاب الفيل, قد ذكر الله ما جرى عليهم.
والنصارى, سلط الله عليهم المؤمنين, فأجلوهم.
وهكذا كل من اتصف بوصفهم, فلا بد أن يناله قسطه, وهذا من الآيات العظيمة, أخبر بها الباري قبل وقوعها, فوقعت كما أخبر.
واستدل العلماء بالآية الكريمة, على أنه لا يجوز تمكين الكفار من دخول المساجد.
" لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ " فضيحة كما تقدم " وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " .
وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه, فلا أعظم إيمانا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية, كما قال تعالى: " إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " .
بل قد أمر الله تعالى برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها, فقال تعالى: " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ " .
وللمساجد أحكام كثيرة, يرجع حاصلها إلى مضون هذه الآيات الكريمة.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم "
أي: " وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ " .
خصهما بالذكر, لأنهما محل الآيات العظيمة, في مطالع الأنوار ومغاربها.
فإذا كان مالكا لها, كان مالكا لكل الجهات.
" فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا " وجوهكم من الجهات, إذا كان توليكم إياها بأمره, إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس, أو تؤمرون بالصلاة في السفر على الراحلة ونحوها, فإن القبلة حيثما توجه العبد أو تشتبه القبلة, فيتحرى الصلاة إليها, ثم يتبين له الخطأ, أو يكون معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك.
فهذه الأمور, إما أن يكون العبد فيها معذورا أو مأمورا.
وبكل حال, فما استقبل جهة من الجهات, خارجة عن ملك ربه.
" فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " في إثبات الوجه لله تعالى, على الوجه اللائق به تعالى, وأن لله وجها لا تشبهه الوجوه, وهو - تعالى - واسع الفضل والصفات عظيمها, عليم بسرائركم ونياتكم.
فمن سعته وعلمه, وسع لكم الأمر, وقبل منكم المأمور, فله الحمد والشكر.

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif
" وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون "
" وَقَالُوا " أي: اليهود والنصارى والمشركون, وكل من قال ذلك.
" اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا " فنسبوه إلى ما لا يليق بجلاله, وأساءوا كل الإساءة, وظلموا أنفسهم.
وهو - تعالى - صابر على ذلك منهم, قد حلم عليهم, وعافاهم, ورزقهم مع تنقصهم إياه.
" سُبْحَانَهُ " أي: تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما لا يليق بجلاله.
فسبحان من له الكمال المطلق, من جميع الوجوه, الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه.
ومع رده لقولهم, أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال: " بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " أي: جميعهم ملكه وعبيده, يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك, وهم قانتون له مسخرون تحت تدبيره.
فإذا كانوا كلهم عبيده, مفتقرين إليه, وهو غني عنهم, فكيف يكون منهم أحد, يكون له ولدا, والولد لا بد أن يكون من جنس والده, لأنه جزء منه.
والله تعالى المالك القاهر, وأنتم المملوكون المقهورون, وهو الغني وأنتم الفقراء.
فكيف مع هذا, يكون له ولد؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه.
والقنوت نوعان: قنوت عام وهو قنوت الخلق كلهم, تحت تدبير الخالق.
وخاص, وهو قنوت العبادة.
فالنوع الأول كما في هذه الآية.
والنوع الثاني كما في قوله تعالى " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " .

3dlat.com_09_19_7166_de5d4e2ce9575.gif

" بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون "
ثم قال " بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " أي: خالقهما على وجه قد أتقنهما وأحسنهما على غير مثال سبق.
" وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " فلا يستعصى عليه, ولا يمتنع منه.


 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

< إنّ من أجمل ما تُهدى إليه القلوب في زمن الفتن أن تُذكَّر بالله، وأن تُعادَ إلى أصلها الطاهر الذي خُلِقت لأجله. فالروح لا تستقيم بالغفلة، ولا تسعد بالبعد، ولا تُشفى إلا بالقرب من الله؛ قريبٌ يُجيب، ويعلم، ويرى، ويرحم

×