اذهبي الى المحتوى
الى الله

أبصروا النور فلم تعد الدنيا بعدهم كما كانت رجال صدقوا الله ما عاهدوه

المشاركات التي تم ترشيحها

حبيباتي العزيزات كنت قد بدأت في سيرة الصحابة رضوان الله عليهم قبل 16 أبريل و لكن ضاع كل ما كتبت .

الحمد لله مازالت لدي همة عالية تمكنني من كتابته مرة أخرى.

إليكن أخواتي أول صحابي اخترته لكم

 

 

 

 

مصعب بن عمير - أول سفراء الاسلام

 

 

هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به الحديث.

 

غرّة فتيان قريش، وأوفاهم جمالا، وشبابا..

 

يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:" كان أعطر أهل مكة"..

 

ولد في النعمة، وغذيّ بها، وشبّ تحت خمائلها.

 

ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..

 

ذلك الفتر الريّان، المدلل المنعّم، حديث حسان مكة، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من أساطير الايمان والفداء..؟

 

بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير"، أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.

 

انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..

 

ولكن أي واحد كان..؟

 

ان قصة حياته لشرف لبني الانسان جميعا..

 

لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..

 

"محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.

 

 

 

وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها، ولا حديث يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.

 

ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..

 

 

 

ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...

 

هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.

 

 

 

ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه، ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!

 

ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.

 

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب، فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!

 

 

 

 

**

 

 

 

 

كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب الى حد الرهبة..

 

ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه.

 

فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هولا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب الى حين..

 

أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!

 

ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمرا.

 

وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بايمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر اسلامه خبرا..

 

 

 

ولكن مكة في تلك الأيام بالذات، لا يخفى فيها سر، فعيون قريش وآذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية..

 

ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو سصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها، شاخصا الى أم مصعب، حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...

 

 

 

ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته، القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقى.

 

وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم، ما لبثت أم استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الاقناع..

 

ولكن، اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فان في مقدرتها أ، تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..

 

وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه اغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه، ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..

 

 

 

ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين، ثم يعود معهم الى مكة، ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.

 

ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ من اعداة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار، واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم..

 

 

 

خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..

 

ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولى قبل اسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألقا وعطرا..

 

وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال:

 

" لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!

 

 

 

لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى ولو يكون هذا الانسان ابنها..!!

 

ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..

 

وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..

 

وكشفت لحظة الوداع عن اصرار عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجهمن بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:"يا أمّه اني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله الا الله، وأن محمدا عبده ورسوله"...

 

أجابته غاضبة مهتاجة:" قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف غقلي"..!!

 

وخرج مصعب من العنمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر، لا يرى الا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياماو ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة، والمتألقة بنور الله، كانت قد جعلت منه انسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة...

 

 

**

 

 

 

 

وآنئذ، اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..

 

كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان قريب..

 

وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه واخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا..

 

 

 

لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة، ولكنه ام يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!

 

وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة، كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم "مصعب ابن عمير".

 

لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..

 

فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها.ز عرف أنه داعية الى الله تعالى، ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى الهدى، والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه الا البلاغ..

 

 

 

هناك نهض في ضيافة "أسعد بم زرارة" يفشيان معا القبائل والبويت والمجالس، تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه، هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (انما الله اله واحد)..

 

ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه، لولا فطنة عقله، وعظمة روحه..

 

 

 

ذات يوم فاجأه وهو يعظ الانس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فاجأه شاهرا حربتهو يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم، ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل، ولم يألفوه من قبل..!

 

ان آلهتهم معهم رابضة في مجاثمهاو اذا حتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا اليها، فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..

 

 

 

أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم، فما أحد يعرف مكانه، ولا أحد يستطيع أن يراه..!!

 

وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي، وثورته المتحفزة، حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا، متهللا..

 

وقف اسيد أمامه مهتاجا، وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:

 

"ما جاء بكما الى حيّنا، تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا، اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!

 

وفي مثل هدوء البحر وقوته..

 

وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:

 

"أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".

 

الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!

 

 

 

كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره، فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع، تركه لاقتناعهو وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم، وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..

 

هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..

 

ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم، وتكتسي بجماله..!!

 

ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:

 

"ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟

 

وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا، ثم قال له مصعب:

 

"يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد أن لا اله الا الله".

 

فعاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه، ووقف يعلن أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله..

 

وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وتمت باسلامهم النعمة، وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أسيد بن حضير، وسعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة قد أسلموا، ففيم تخلفنا..؟ هيا الى مصعب، فلنؤمن معه، فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!

 

 

 

 

**

 

 

 

 

لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاه\حا هو له أهل، وبه جدير..

 

وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة، وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها، لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر، قيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون الى الثأر،و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل اللواء..

 

وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين، لكن عملهم هذا، سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وتعمل فيهم على حين غرّة، السيوف الظامئة المجنونة..

 

حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين، ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..

 

وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر، فرفع اللواء عاليا، وأطلق تكبيرة كالزئير، ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل، ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..

 

يد تحمل الراية في تقديس..

 

ويد تضرب بالسيف في عنفزان..

 

ولكن الأعداء يتكاثرون عليه، يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..

 

 

 

لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!

 

يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه قال:

 

[حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..

 

وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..

 

ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء].

 

وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!

 

وقع حلية الشهادة، وكوكب الشهداء..!!

 

وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والايمان..

 

كان يظن أنه اذا سقط، فسيصبح طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..

 

ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:

 

(وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل)

 

هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها، ويكملها، ويجعلها، قرآنا يتلى..

 

 

 

 

**

 

 

 

 

وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا، وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..

 

لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء، فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!

 

أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله، وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!

 

لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!

 

 

 

 

**

 

 

 

 

وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..

 

وعند جثمان مصعب، سالت دموع وفيّة غزيرة..

 

يقول خبّاب بن الأرت:

 

[هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر"..]..

 

وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة، وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام، وأوجع فؤاده..

 

وعلى الرغم م امتاتء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..

على الرغم من كل هذا، فقد وقف على جثمان أول سفرائه، يودعه وينعاه..

 

أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:

 

(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)

 

ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي مفن بها وقاللقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. "ثم هأنتذا شعث الرأس في بردة"..؟!

 

وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:

 

"ان رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".

 

ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:

 

"أيها الناس زوروهم،وأتوهم، وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة، الا ردوا عليه السلام"..

 

 

 

 

**

 

 

 

 

السلام عليك يا مصعب..

 

السلام عليكم يا معشر الشهداء..

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

 

أخواتي العزيزات رغم عدم تجاوبكن معي فانني احب ان اقدم لكن هذا الصحابي الجليل، و اتمنى ان اجد بعضا من تجاوبكن.

و لن اطيل عليكن فهيا بنا لنتعرف غلى هذه الشخصية الفريدة من نوعها

 

 

 

 

007.gif

 

خالد بن الوليد - لا ينام ولا يترك أحدا ينام

 

 

إن أمره لعجيب..!!

 

هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء الاسلام بقية الأيام..!!

 

ألا فلنأت على قصته من البداية..

 

ولكن أية بداية..؟؟

 

انه هو نفسه، لا يكاد يعرف لحياته بدءا إلا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..

ولو استطاع لنحّى عمره وحياته، كل ماسبق ذلك اليوم من سنين، وأيام..

 

فلنبدأ معه اذامن حيث يحب.. من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله، وتلقت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، فانفجرت شوقا إلى دينه، والى رسوله، والى استشهاد عظيم في سبيل الحق، ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..

 

 

 

لقد خلا يوما إلى نفسه، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا، وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ إليه من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين، فقال:

 

" والله لقد استقام المنسم....

 

وان الرجل لرسول..

 

فحتى متى..؟؟

 

أذهب والله، فأسلم"..

 

ولنصغ إليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعن رحلته من مكة إلى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:

 

".. وددت لو أجد من أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد فأسرع الإجابة، وخرجنا جميعا فأد لجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل إذا عمرو بن العاص، فقال مرحبا يا قوم،

 

قلنا: وبك..

 

قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه، وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.

 

فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق..

 

فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير..

 

وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..

 

فقال: إن الإسلام يجبّ ما كان قبله..

 

قلت: يا رسول الله على ذلك..

 

فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..

 

وتقدّم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله"...

 

أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟؟

 

إن الذي يضع هذه العبارة بصره، وبصيرته، سيهتدي إلى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الإسلام..

 

وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..

 

أما الآن، فمع خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها، لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرّ والفرّ، يعطي لآلهة أبائه وأمجاد قومه ظهره، ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالما جديدا، كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..

 

مع خالد إذن وقد أسلم، لنرى من أمره عجبا..!!!!

 

 

 

أتذكرون أنباء الثلاثة شهداء أبطال معركة مؤتة..؟؟

 

لقد كانوا زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدا لله بن رواحه..

 

لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل، والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير..

 

وتذكرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال:

 

" أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.

 

ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا..

 

ثم أخذها عبدا لله بن رواحه فقاتل بها حتى قتل شهيدا".

 

كان لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة، ادخرنا ها لمكانها على هذه الصفحات..

 

هذه البقيّة هي:

 

" ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله علي يديه".

 

فمن كان هذا البطل..؟

 

 

 

لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع إلى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد، وجعفر وعبدا لله ابن رواحه، والذين استشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية..

 

وبعد سقوط آخر القواد شهيدا، سارع إلى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم حتى لا بعثر الفوضى صفوفه..

 

ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا إلى خالد بن الوليد، قائلا له:

 

" خذ اللواء يا أبا سليمان"...

 

ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث العهد بالإسلام أن يقود قوما فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالإسلام..

 

أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو لها أهل ربها جدير!!

 

هنالك قال مجيبا ثابت بن أقرم:

 

" لا آخذ اللواء، أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدرا"..

 

وأجابه ثابت:" خذه، فأنت أدرى بالقتال مني، والله ما أخذته إلا لك".

 

ثم نادى في المسلمين: أترضون إمرة خالد..؟

 

قالوا: نعم..

 

واعتلى العبقري جواده. ودفع الراية بيمينه إلى الأمام كأنما يقرع أبوابها مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل لاحب سيقطعه البطل وثبا..

 

في حياة الرسول وبعد مماته، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...

 

ولّي خالد إمارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون، وجناهم مهيض.. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر مدمدم..

 

ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغير من المصير شيئا، فتجعل المغلوب غالبا، والغالب مغلوبا..

 

وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه، هو وقف الخسائر في جيش الإسلام، والخروج ببقيته سالما، أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة.

 

بيد أن انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان..

 

ولكن، إذا كان صحيحا أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد، ومن أروع عبقرية وأنفذ بصيرة..؟؟!

 

 

 

هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر، ويدير الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه، والقتال دائر، إلى مجموعات، ثم يكل إلى كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة، خرج منها جيش المسلمين كله سليما معافى. بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الإسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال...!!

 

وفي هذه المعركة أنعم الرسول على خالد بهذا اللقب العظيم..

 

 

 

وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..

 

وعلى الجناح الأيمن من الجيش، يجعل الرسول خالدا أميرا..

 

ويدخل خالد مكة، واحدا من قادة الجيش المسلم، والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها. قائدا من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا..

 

وتخطر له ذكريات الطفولة، حيث مراتعها الحلوة.. وذكريات الشباب، حيث ملاهيه الصاخبة..

 

ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا لأصنام عاجزة كاسدة..

 

 

 

وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت تحت روعة المشهد وجلاله..

 

مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول، يعودون إلى البلد الذي أخرجوا منه بغيا وعدوا، يعودون إليه على صهوات أجسادهم الصاهلة، وتحت رايات الإسلام الخافقة.. وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس، إلى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّا، وتهليلات باهرة ظافرة، يبدو الكون معها، وكأنه كله في عيد...!!

 

كيف تمّت المعجزة..؟

 

أي تفسير لهذا الذي حدث؟

 

 

 

لا شيء إلا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم إلى بعض فرحين قائلين:

 

(وعد الله.. لا يخلف الله وعده)..!!

 

 

 

ويرفع خالد رأسه إلى أعلى. ويرمق في إجلال وغبطة وحبور رايات الإسلام تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:

 

أجل انه وعد الله ولا يخلف الله وعده..!!

 

ثم يحني رأسه شاكرا نعمة ربه الذي هداه للإسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا، واحدا من الذين يحملون راية الإسلام إلى مكة.. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الإسلام..

 

 

 

ويظل خالد إلى جانب رسول الله، واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه، ونذر له كل حياته.

 

 

 

وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى، ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة، وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة، مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة.. ألي سليمان، سيف الله، خالد بن الوليد..!!

 

وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين إلا بجيش قاده هو بنفسه، ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا ليوم الفصل، وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا، كان رجلها الفذ وبطلها الملهم..

 

 

 

عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لانجاز مؤامرتها الضخمة، صمم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه، ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم. ولكنه ازداد تصميما.. ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة، لا يؤكدها في رأيه إلا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الإيمان، وبين جيوش الضلال والردة، وإلا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..

 

ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة، على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..

 

 

 

لقد وجد فيها جميع الموتورين من الإسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة، سواء بين قبائل العرب، أم على الحدود، حيث يجثم سلطان الروم والفرس، هذا السلطان الذي بدأ يحسّ خطر الإسلام الأكبر عليه، فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار..!!

 

ونشبت نيران الفتنة في قبائل: أسد، وغطفان، وعبس، وطيء، وذبيان..

 

ثم في قبائل: بني غامر، وهوزان، وسليم، وبني تميم..

 

ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت إلى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..

 

واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين، وعمان، والمهرة، وواجه الإسلام أخطر محنة، واشتعلت الأرض من حول المسلمين نارا.. ولكن، كان هناك أبو بكر..!!

 

 

 

عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم إلى حيث كانت قبائل بني عبس، وبني مرّة، وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..

 

ودار القتال، وتطاول، ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..

 

ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..

 

 

 

وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني، ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم، ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة، ويعترض الإمام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض أمام جيشه الزاحف فيقول له:

 

" إلى أين يا خليفة رسول الله..؟؟

 

إني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد:

 

لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك..."

 

وأمام إجماع مصمم من المسلمين، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش إلى إحدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها..

 

وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..

 

ولما عقد الخليفة لكل أمير لواءه، اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:

 

" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبد الله. وأخو العشيرة، خالد ابن الوليد، سيف من سيوف الله. سلّه الله على الكفار والمنافقين"..

 

 

 

ومضى خالد إلى سبيله ينتقل بجيشه من معركة إلى معركة، ومن نصر إلى مصر حتى كانت المعركة الفاصلة..

 

 

 

فهناك باليمامة كان بنو حنيفة، ومن انحاز إليهم من القبائل، قد جيّشوا أخطر جيوش الردة قاطبة، يقوده مسيلمة الكذاب.

 

وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة، فلم تبلغ منه منالا..

 

وجاء أمر الخليفة إلى قائده المظفر أن سر إلى بني حنيفة.. وسار خالد..

 

ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق إليه حتى أعاد تنظيم جيشه، وجعل منه خطرا حقيقيا، وخصما رهيبا..

 

 

 

والتقى الجيشان:

 

وحين تطالع في كتب السيرة والتاريخ، سير تلك المعركة الهائلة، تأخذك رهبة مضنية، إذ تجد نفسك أمام معركة تشبه في ضراوتها وجبروتها معارك حروبنا الحديثة، وان تلّفت في نوع السلاح وظروف القتال..

 

ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة، وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه، صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء..!!

 

 

 

وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه، والتحم الجيشان ودار القتال الرهيب، وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عتيدة..!!

 

وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء، فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة، ذكية وعميقة..

 

ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها..

 

رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة، فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعا إلى أقصاه.. فمضى ينادي إليه فيالق جيشه وأجنحته، وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة، ثم صاح بصوته المنتصر:

 

" امتازوا، لنرى اليوم بلاء كل حيّ".

 

وامتازوا جميعا..

 

مضى المهاجرون تحت راياتهم، والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".

 

وهكذا صار واضحا تماما، من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة، اتّقدت مضاء، وامتلأت عزما وروعة..

 

وخالد بين الحين والحين، يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها أمرا، فتتحوّل سيوف جيشه إلى مقادير لا رادّ لأمرها، ولا معوّق لغاياتها..

 

وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات، فالمئات فالألوف، كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد..!!

 

 

 

لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء إلى جنوده، وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت إحدى خصال عبقريّته الباهرة..

 

وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها، وقتل مسيلمة..

 

وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال، وطويت تحت التراب إلى الأبد راية الدّعيّ الكذاب..

 

 

 

وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر، إذ منحهم هذا النصر، وهذا البطل..

 

وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الاسلام وأهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام..

 

امبرطوريتان خرعتان، تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب، بل وتسخرهم، وأكثرهم عرب، لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديدة، يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله، ويجتثون عفنه وفساده..!

 

هنالك أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته إلى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..

 

ويمضي البطل إلى العراق، وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره، إذن لرأينا من أمرها عجبا.

 

لقد استهلّ عمله في العراق بكتب أرسلها إلى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه..

 

" بسم الله الرحمن الرحيم

 

من خالد بن الوليد.. إلى مرازبة فارس..

 

يلام على من اتبع الهدى

 

أما بعد، فالحمد لله الذي فضّ خدمكم، وسلب ملككم، ووهّن كيدكم

 

من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، واكل ذبيحتنا فذلكم المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا

 

إذا جاءكم كتابي فابعثوا إلي بالرهن واعتقدوا مني الذمّة

 

وإلا، فوالذي لا اله غيره لأبعثن إليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة"..!!

 

 

 

وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزّخوف الكثيرة التي يعدها له قوّاد الفرس في العراق، فلم يضيّع وقته، وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه.. وطويت له الأرض طيّا عجيبا.

 

في الأبلّة، إلى السّدير، فالنّجف، إلى الحيرة، فالأنبار، فالكاظمية. مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان تهلّ به رياحه البشريات ترتفع للإسلام راية يأوي إلى فيئها الضعفاء والمستعبدون.

 

أجل، الضعفاء والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم، ويسومونهم سوء العذاب..

 

وكم كان رائعا من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره إلى جميع قوّاته:

 

" لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء، دعوهم في شغلهم آمنين، إلا أن يخرج بعضهم لقتالكم، فآنئذ قاتلوا المقاتلين".

 

وسار بجيشه الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..

 

وهناك دوّت أصوات المؤذنين، وتكبيرات الفاتحين.

 

ترى هل سمع الروم في الشام..؟

 

وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم، وعالمهم..؟

 

أجل لقد سمعوا.. وفزّعوا.. وقرّروا أن يخوضوا في حنون معركة اليأس والضياع..!

 

 

 

كان النصر الذي أحرزه الاسلام على الفرس في العراق بشيرا بنصر مثله على الروم في الشام..

 

فجنّد الصدّيق أبو بكر جيوشا عديدة، واختار لإمارتها نفرا من القادة المهرة، أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، ثم معاوية بن أبي سفيان..

 

وعندما نمت أخبار هذه الجيوش إلى إمبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين، وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة..

 

بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا:

 

" والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله إلى أرضنا"..

 

وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل، وأربعين ألفا.

 

وأرسل قادة المسلمين إلى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:

 

" والله لأشفينّ وساوسهم بخالد"..!!!

 

وتلقى ترياق الوساوس.. وساوس التمرّد والعدوان والشرك، تلقى أمر الخليفة بالزحف إلى الشام، ليكون أميرا على جيوش الاسلام التي سبقته إليها..

 

وما أسرع ما امتثل خالد وأطلع، فترك على العراق المثنّى بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام، وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز، وبين يدي المعركة واللقاء، وقف في المقاتلين خطيبا فقال بعد أن حمد ربه وأثنى عليه:

 

" إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..

 

أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وتعالوا نتعاور الإمارة، فيكون أحدنا اليوم أميرا، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتآمر كلكم"...

 

هذا يوم من أيام الله..

 

ما أروعها من بداية..!!

 

لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..

 

وهذه أكثر روعة وأوفى ورعا!!

 

 

 

ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالإيثار، فعلى الرغم من أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه، فانه لم يشأ أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه، فتنازل لهم عن حقه الدائم في الإمارة وجعلها دولة بينهم..

 

اليوم أمير، وغدا أميرثان.. وبعد غد أمير آخر..وهكذا..

 

كان جيش الروم بأعداده وبعتاده، شيئا بالغ الرهبة..

 

لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن في صالح المسلمين، وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائما، من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث لا يبقى لهم بعدها وجود، وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..

 

ولكن إيمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات، فإذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!

 

 

 

ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم، فقد قال أبو بكر، وهو بالرجال جدّ خبير:

 

" خالد لها".!!

 

وقال:" والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد".

 

فليأت الروم بكل هولهم، فمع المسلمين الترياق..!!

 

عبأ ابن الوليد جيشه، وقسمه إلى فيالق، ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل إخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..

 

ومن عجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقع، خطوة خطوة، وحركة حركة، حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة، لما أخطأ التقدير والحساب..!!

 

كل مناورة توقعها من الروم صنعوها..

 

كانسحاب تنبأ به فعلوه..

 

وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله قليلا، احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار، خاصة أولئك الذين هم حديثو العهد بالإسلام، بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..

 

وكان خالد يتمثل عبقرية النصر في شيء واحد، هو الثبات..

 

وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة، يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره...

 

من أجل هذا، كان صارما، تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..

 

وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك، وبعد أن أخذ جيشه مواقعه، دعا نساء المسلمين، ولأول مرّة سلّمهن السيوف، وأمرهن، بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:

 

" من يولّي هاربا فاقتلنه"..

 

وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه..!!

 

وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز إليه خالد ليقول له بضع كلمات ..

 

وبرز إليه خالد، حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..

 

وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا"

 

" قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم إلا الجوع والجهد..

 

فان شئتم، أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير، وكسوة، وطعاما، وترجعون إلى بلادكم، وفي العام القادم أبعث إليكم بمثلها".!!

 

وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه، وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..

 

وقرر أن يرد عليه بجواب مناسب، فقال له:

 

" انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت، ولكننا قوم نشرب الدماء، وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم، فجئنا لذلك"..!!

 

ولوى البطل زمام جواده عائدا إلى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..

 

" الله أكبر"

 

" هبّي رياح الجنة"..

 

كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.

 

ودار قتال ليس لضراوته نظير..

 

وأقبل الروم في فيالق كالجبال..

 

وبجا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..

 

ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..

 

فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:

 

" إني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟

 

فيجيب أبو عبيدة:

 

" نعم قل له: يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".

 

ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا إلى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه، ويضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!

 

وهذا عكرمة بن أبي جهل..

 

أجل ابن أبي جهل..

 

ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:

 

" لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الاسلام فأفر من أعداء الله اليوم"؟؟

 

ثم يصيح:" من يبايع على الموت"..

 

فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين، ثم ينطلقون معا إلى قلب المعركة لا باحثين عن النصر، بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم،

 

فيستشهدون..!!

 

وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة، وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم، فلما قدم الماء إلى أولهم، أشار إلى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر، وظمؤه أشد.. فلما قدّم إليه الماء، أشار بدوره لجاره. فلما انتقل إليه أشار بدوره لجاره..

 

وهكذا، حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وإيثارا..!!

 

أجل..

 

لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.

 

ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة، تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده، ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد يصيح في المائة الذين معه:

 

" والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد إلا ما رأيتم.

 

واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم".

 

مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!

 

ولكن أي عجب؟؟

 

أليس ملء قلوبهم إيمان بالله العلي الكبير..؟؟

 

وإيمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟

 

وإيمانا بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا، وهدى ونبلا؟

 

 

 

وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه، هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا، بينما هو في المدينة’ العاصمة الجديدة للعالم الجديد، يحلب بيده شياه الأيامى، ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟

 

وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر، والصفلف، والبغي، والعدوان، وسيف الله المسلول على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟

 

أليس ذلك، كذلك..؟

 

إذن، هبي رياح النصر...

 

هبّي قويّة عزيزة، ظافرة، قاهرة...

 

 

 

لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم، مما حمل أحدهم، واسمه جرجح على أن يدعو خالدا للبروز إليه في إحدى فترات الراحة بين القتال.

 

وحين يلتقيان، يوجه القائد الرومي حديثه إلى خالد قائلا:

 

" يا خالد، أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..

 

هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك إياه، فلا تسلّه على أحد إلا هزمته"؟؟

 

قال خالد: لا..

 

قال الرجل:

 

فبم سميّت يبسيف الله"؟

 

قال خالد: إن الله بعث فينا نبيه، فمنا من صدّقه ومنا من كذّب.ز وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا إلى الاسلام، وهدانا برسوله فبايعناه..

 

فدعا لي الرسول، وقال لي: أنت سيف من سيوف الله، فهكذا سميّت.. سيف الله".

 

قال القائد الرومي: وإلام تدعون..؟

 

قال خالد:

 

إلى توحيد الله، والى الاسلام.

 

قال:

 

هل لمن يدخل في الاسلام اليوم مثل ما لكممن المثوبة والأجر؟

 

قال خالد: نعم وأفضل..

 

قال الرجل: كيف وقد سبقتموه..؟

 

قال خالد:

 

لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر..

 

أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه، ثم آمنتم بالغيب، فان أجركم أجزل وأكبر إن صدقتم الله سرائركم ونواياكم.

 

وصاح القائد الرومي، وقد دفع جواده إلى ناحية خالد، ووقف بجواره:

 

علمني الاسلام يا خالد"".!!!

 

وأسلم وصلى ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما، فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه الروماني في صفوف المسلمين مستميتا في طلب لبشهادة حتى نالها وظفر بها..!!

 

 

 

وبعد، فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في مشهد من أبهى مشاهدها.. إذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية، ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا، بقدر ما هو مضن ورهيب، وإذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة من الخليقة الجديد، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه تحيّة الفاروق للجيش المسلم، نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..

 

قرأ خالد الكتاب، وهمهم بابتهالات الترحّم على أبي بكر والتوفيق لعمر..

 

ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره، وألا يتصل بأحد.

 

استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر، وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا..

 

ودقّت ساعة الظفر، واندحر الروم..

 

 

 

وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا إليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حقق نصرا لم يكن في السحبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا، فقبّل خالد بين عينيه، وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..

 

 

 

وتمّت رواية تاريخية أخرى، تقول: إن الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر إلى أبي عبيدة، وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة..

 

وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ الروعة والعظمة والجلال..

 

ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفا ينبئ بإخلاصه العميق وصدقه الوثيق، مثل هذا الموقف...

 

 

 

فسواء عليه أن يكون أميرا، أو جنديا..

 

إن الإمارة كالجندية، كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به، ونحو الرسول الذي بايعه، ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..

 

وجهده المبذول وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!

 

ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس، كما هيأه لغيره، طراز الخلفاء الذين كانوا على رأس الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..

 

أبو بكر وعمر..

 

إسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان، حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الإنسان، وعظمة الإنسان..

 

وعلى الرغم من الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد، فان نزاهة عمر وعدله،وورعه وعظمته الخارقة، لم تكن قط موضع تساؤل لدى خالد..

 

ومن ثم لم تكن قراراته موضع سك، لأن الضمير الذي يمليها، قد بلغ من الورع، ومن الاستقامة، ومن الإخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد..

 

 

 

لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سوء، ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع، والحدّة..

 

ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة، فقال:

 

" إن في سيف خالد رهقا"

 

أي خفة وحدّة وتسرّع..

 

فأجابه الصدّيق قائلا:

 

" ما كنت لأشين سيف سلّه الله على الكافرين".

 

لم يقل عمر إن في خالد رهقا.. بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه، وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب، بل وعن تقديره لخالد أيضا..

 

وخالد رجل حرب من المهد إلى اللحد..

 

فبيئته، ونشأته، وتربيته وحياه كلها، قبل الاسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس، مخاطر، داهية..

 

 

 

ثم إن إلحاح ماضيه قبل السلام، والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه، والضربات التي أسقط بها سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة، وجباها عابدة، كل هذا كان له على ضميره ثقل مبهظ، جعل سيفه توّاقا إلى أن يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الاسلام..

 

وإنكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال له:

 

" يا رسول الله..

 

استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله".

 

وعلى الرغم من أنباء الرسول صلى الله عليه وسلم إياه، بأن الاسلام يجبّ ما كان قبله، فانه يظل يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه..

 

والسيف حين يكون في يد فارس خارق كخالد بن الوليد، ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير متوهج بحرارة التطهر والتعويض، ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به المؤامرات والعداوات، فان من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة، وحدّته الخاطفة..

 

 

 

وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.

 

فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح إلى بعض قبائل العرب القريبة من مكة، وقال له:

 

" إني أبعثك داعيا لا مقاتلا".

 

غلبه سيفه على أمره ودفعه إلى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلفه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة، رافعا يديه، ومعتذرا إلى الله بقوله:

 

" اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد".

 

ثم أرسل عليّا فودى لهم دماءهم وأموالهم.

 

وقيل إن خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبد الله بن حذافة السهمي قال له:

 

إن رسول الله قد أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الاسلام..

 

كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم إلى هدم عالمه القديم كله..

 

ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه.

 

لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله على هذه البناية الحجرية، لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره، يطوّح رؤوس أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.

 

فهو يضرب بيمينه، وبشماله، وبقدمه، ويصيح في الشظايا المتناثرة، والتراب المتساقط:

 

" يا عزّى كفرانك، لا سبحانك

 

إني رأيت الله قد أهانك"..!!

 

ثم يحرقها ويشعل النيران في ترابها..!

 

كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه..

 

ولا يعرف خالد أداة لتصفيتها إلا سيفه..

 

وإلا.." كفرانك لا سبحانك..

 

إني رأيت الله قد أهانك"..!!

 

 

 

على أننا إذ نتمنى مع أمير المؤمنين عمر، لوخلا سيف خالد من هذا الرهق، فإننا سنظل نردد مع أمير المؤمنين قوله:

 

" عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..!!

 

لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا، وعلم الإنس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده وحسب، بل ويبكي فرصة أضاعها الموت عن عمر إذ كان يعتزم رد الإمارة إلى خالد بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب عزله، لولا أن تداركه الموت وسارع خالد إلى لقاء ربه.

 

نعم سارع البطل العظيم إلى مثواه في الجنة..

 

أما آن له أن يستريح..؟؟ هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟؟

 

أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟ هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:

 

" الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا ينام"..؟؟

 

أما هو، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة، ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والإسلام..

 

إن روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وأبدا، حيث تصهل الخيل، وتلتمع الأسنّة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة..

 

وأنه ليقول:

 

" ما ليلة يهدى إلي فيها عروس، أو أبشّر فيها بوليد، بأحبّ إلي من ليلة شديدة الجليد، في سريّة من المهاجرين، أصبح بهم المشركين"..

 

من أجل ذلك، كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه، وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده، وتحت بريق سيفه...

 

 

 

هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقهر أصحاب الردّة، وسوّى بالتراب عرش فارس والروم، وقطع الأرض وثبا، في العراق خطوة خطوة، حتى فتحها للإسلام، وفي بلاد الشام خطوة، خطوة حتى فتحها كلها للإسلام...

 

أميرا يحمل شظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..

 

كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه..!!

 

هنالك قال ودموعه تنهال من عينيه:

 

" لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أ، رمية سهم..

 

ثم هاأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"..!

 

كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن، إلا مثل هذا الرجل، وحين كان يستقبل لحظات الرحيل، شرع يملي وصيّته..

 

أتجرون إلى من أوصى..؟

 

إلى عمر بن الخطاب ذاته..!!

 

أتدرون ما تركته..؟

 

فرسه وسلاحه..!!

 

ثم ماذا؟؟

 

لا شيء قط ، مما يقتني الناس ويمتلكون..!!

 

ذلك أنه لم يكن يستحوذ عليه وهو حيّ، سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.

 

وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه..

 

شيء واحد، كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته"..

 

سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:

 

" إن فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتفاءل بها، وأستنصر".

 

 

 

وأخيرا، خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:

 

أنت خير من ألف،ألف من القوم إذا ما كبت وجوه الرجال

 

أشجاع..؟ فأنت أشجع من ليث غضنفر يذود عن أشبال

 

أجواد..؟ فأنت أجود من سيل غامر يسيل بين الجبال

 

 

 

وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا.. وقال:

 

" صدقت..

 

والله إن كان لكذلك".

 

وثوى البطل في مرقده..

 

ووقف أصحابه في خشوع، والدنيا من حولهم هاجعة، خاشعة، صامتة..

 

لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها، وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها، يقودها عبيره وأريجه..

 

 

 

وإذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية، وصهيلها يصدح.. تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها، يهدّ عروش فارس والروم، ويشفي وساوس الوثنية والبغي، ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر والشرك...

 

وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط، ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..!!

 

ثم وقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها عالية.. ولكن من مآقيها تسيل دموع غزار وكبار..!!

 

لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله..

 

ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد..؟؟

 

وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه..؟؟

 

ايه يا بطل كل نصر..

 

ويا فجر كل ليلة..

 

لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك:

 

" عند الصباح يحمد القوم السرى"..

 

 

 

حتى ذهبت عنك مثلا..

 

وهاأنتذا، قد أتممت مسراك..

 

فلصباحك الحمد أبا سليمان..!!

 

ولذكراك المجد، والعطر، والخلد، يا خالد..!!

 

ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:

 

" رحم الله أبا سليمان

 

ما عند الله خير مما كان فيه

 

ولقد عاش حميدا

 

ومات سعيدا

 

007.gif

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

 

 

035.gif

 

 

أبو عبيدة بن الجرّاح - أمين هذه الأمة

 

 

 

من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه:

 

" إن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح"..؟

 

من هذا الذي أرسله النبي في غزوة ذات السلاسل مددا لعمرو بن العاص، وجعله أميرا على جيش فيه أبو بكر وعمر..؟؟

 

من هذا الصحابي الذي كان أول من لقب بأمير الأمراء..؟؟

 

من هذا الطويل القامة النحيف الجسم، المعروق الوجه، الخفيف اللحية، الأثرم، ساقط الثنيتين..؟؟

 

أجل من هذا القوي الأمين الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه:

 

" لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيا لاستخلفته فان سألني ربي عنه قلت: استخلفت أمين الله، وأمين رسوله"..؟؟

 

انه أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجرّاح..

أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى للإسلام، قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الرقم، وهاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عاد منها ليقف إلى جوار رسوله في بدر، وأحد، وبقيّة المشاهد جميعها، ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر، ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر، نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد، وتقوى، وصمود وأمانة.

 

 

**

 

 

 

 

عندما بايع أبو عبيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن ينفق حياته في سبيل الله، كان مدركا تمام الإدراك ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث، في سبيل الله وكان على أتم استعداد لأن يعطي هذا السبيل كل ما يتطلبه من بذل وتضحية..

 

 

 

ومنذ بسط يمينه مبايعا رسوله، وهو لا يرى في نفسه، وفي أيامه وفي حياته كلها سوى أمانة استودعها الله إياها لينفقها في سبيله وفي مرضاته، فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه.. ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا رهبة..

 

ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد الذي وفى به بقية الأصحاب، رأى الرسول في مسلك ضميره، ومسلك حياته ما جعله أهلا لهذا اللقب الكريم الذي أفائه عليه،وأهداه إليه، فقال عليه الصلاة والسلام:

 

" أمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجرّاح".

 

 

**

 

 

 

 

أن أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته، لهي أبرز خصاله.. ففي غزوة أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين، لا على إحراز النصر في الحرب، بل قبل ذلك ودون ذلك، على اغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتفق مع نفسه على أن يظل مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول..

 

ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله، في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور الله..

 

 

 

وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة بعيدا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته.. بل هما متجهتان دوما إلى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل، ترقبانه في حرص وقلق..

 

وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم، انخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثبا حيث يدحض أعداء الله ويردّهم على أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالا..!!

 

وفي إحدى جولاته تلك، وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي عبيدة طائفة من المشركين، وكانت عيناه كعادتهما تحدّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله، وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه إذ رأى سهما ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي، وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف، حتى فرّقهم عنه، وطار صواب رسول الله فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه، ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه وهو يقول:

 

" كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعهم إلى ربهم"..؟

 

ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخانا في وجنتي النبي، فلم يطق صبرا.. واقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول، فسقطت ثنيّة، ثم نزع الحلقة الأخرى، فسقطت ثنيّة الثانية..

 

وما أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصديق يصف لنا هذا المشهد بكلماته:

 

" لما كان يوم أحد، ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر، أقبلت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا، فقلت: اللهم اجعله طاعة، حتى إذا توافينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا هو أبو عبيدة بن الجرّاح قد سبقني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم..

 

فتركته، فأخذ أبو عبيدة بثنيّة إحدى حلقتي المغفر، فنزعها، وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه..

 

ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية أخرى فسقطت.. فكان أبو عبيدة في الناس أثرم."!!

 

 

 

وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت، كان أبو عبيدة في مستواها دوما بصدقه وبأمانته..

 

فإذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخبط أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المقاتلين وليس معهم زاد سوى جراب تمر.. والمهمة صعبة، والسفر بعيد، استقبل أبو عبيدة واجبه في تفان وغبطة، وراح هو وجنوده يقطعون الأرض، وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تملا، حتى إذا أوشك التمر أن ينتهي، يهبط نصيب كل واحد إلى تمرة في اليوم.. حتى إذا فرغ التمر جميعا راحوا يتصيّدون الخبط، أي ورق الشجر بقسيّهم، فيسحقونه ويشربون عليه الماء.. ومن اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط..

 

لقد مضوا لا يبالون بجوع ولا حرمان، ولا يعنيهم إلا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي اختارهم رسول الله لها..!!

 

 

**

 

 

 

 

لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة أبا عبيدة كثيرا.. وآثره كثيرا...

 

ويوم جاء وفد نجلان من اليمن مسلمين، وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والإسلام، قال لهم رسول الله:

 

" لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين، حق أمين.. حق أمين"..!!

 

وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه، فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه..

 

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

 

" ما أحببت الإمارة قط، حبّي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجّرا، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلم، ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني..

 

فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح، فدعاه، فقال: أخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبا عبيدة؟..!!

 

إن هذه الواقعة لا تعني طبعا أن أبا عبيدة كان وحده دون بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره..

 

إنما تعني أنه كان واحدا من الذين ظفروا بهذه الثقة الغالية، وهذا التقدير الكريم..

 

ثم كان الواحد أو الوحيد الذي تسمح ظروف العمل والدعوة يومئذ بغيابه عن المدينة، وخروجه في تلك المهمة التي تهيئه مزاياه لانجازها..

 

وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أمينا، عاش بعد وفاة الرسول أمينا.. بحمل مسؤولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعا..

 

 

 

ولقد سار تحت راية الاسلام أندى سارت، جنديّا، كأنه بفضله وبإقدامه الأمير.. وأميرا، كأن بتواضعه وبإخلاصه واحدا من عامة المقاتلين..

 

وعندما كان خالد بن الوليد.. يقود جيوش الاسلام في إحدى المعارك الفاصلة الكبرى.. واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد..

 

 

 

لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد، حتى استكتمه الخبر، وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد، فطن، أمين.. حتى أتمّ القائد خالد فتحه العظيم..

 

وآنئذ، تقدّم إليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين!!

 

ويسأله خالد:

 

" يرحمك الله يا أبا عبيدة.و ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب".؟؟

 

فيجيبه أمين الأمة:

 

" إني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله إخوة".!!!

 

 

**

 

 

 

 

ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام، ويصير تحت إمرته أكثر جيوش الاسلام طولا وعرضا.. عتادا وعددا..

 

فما كنت تحسبه حين تراه إلا واحدا من المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين..

 

وحين ترامى إلى سمعه أحاديث أهل الشام عنه، وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا..

 

فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته، وعظمته، وأناته..

 

" يا أيها الناس..

 

إني مسلم من قريش..

 

وما منكم من أحد، أحمر، ولا أسود، يفضلني بتقوى إلا وددت أني في أهابه"..ّّ

 

حيّاك الله يا أبا عبيدة..

 

وحيّا الله دينا أنجبك ورسولا علمك..

 

مسلم من قريش، لا أقل ولا أكثر.

 

الدين: الاسلام..

 

والقبيلة: قريش.

 

هذه لا غير هويته..

 

أما هو كأمير الأمراء، وقائد لأكثر جيوش الاسلام عددا، وأشدّها بأسا، وأعظمها فوزا..

 

أما هو كحاكم لبلاد الشام،أمره مطاع ومشيئته نافذة..

 

كل ذلك ومثله معه، لا ينال من انتباهه لفتة، وليس له في تقديره حساب.. أي حساب..!!

 

 

**

 

 

 

 

ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام، ويسأل مستقبليه:

 

أين أخي..؟

 

فيقولون من..؟

 

فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح.

 

ويأتي أبو عبيدة، فيعانقه أمير المؤمنين عمر.. ثم يصحبه إلى داره، فلا يجد فيها من الأثاث شيئا.. لا يجد إلا سيفه، وترسه ورحله..

 

ويسأله عمر وهو يبتسم:

 

" ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس"..؟

 

فيجيبه أبو عبيدة:

 

" يا أمير المؤمنين، هذا يبلّغني المقيل"..!!

 

 

**

 

 

 

 

وذات يوم، وأمير المؤمنين عمر الفاروق يعالج في المدينة شؤون عالمه المسلم الواسع، جاءه الناعي، أن قد مات أبو عبيدة..

 

وأسبل الفاروق جفنيه على عينين غصّتا بالدموع..

 

وغاض الدمع، ففتح عينيه في استسلام..

 

ورحّم على صاحبه، واستعاد ذكرياته معه رضي الله عنه في حنان صابر..

 

وأعاد مقالته عنه:

 

" لو كنت متمنيّا، ما تمنيّت إلا بيتا مملوءا برجال من أمثال أبي عبيدة"..

 

 

**

 

 

ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس، واضطهاد الرومان..

 

وهناك اليوم تحت ثرى الأردن يثوي رفات نبيل، كان مستقرا لروح خير، ونفس مطمئنة..

 

وسواء عليه، وعليك، أن يكون قبره اليوم معروف أو غير معروف..

 

فانك إذا أردت أن تبلغه لن تكون بحاجة إلى من يقودك إليه..

 

ذلك أن عبير رفاته، سيدلك عليه..!!

 

035.gif

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،،

 

جزاكِ الله خيراً يا حبيبة ونفع بكِ وبما تُقدمين ،

 

نتابع معكِ بإذن الله : )

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

 

بارك الله فيكِ أخيتي الحبيبة..

نتابع معك بإذن الله سدد الله خطاكِ ووفقكِ إلى مايحبه ويرضاه.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،،

 

بارك الله فيكن اخواتي

 

وجزاكن الله كل الخير

 

على ردودكن الطيبه ومروركن الكريم

 

محبتكن في الله

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

 

 

 

013.GIF

 

 

عبدالله بن مسعود - أول صادح بالقرآن

 

 

قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، كان عبدالله بن مسعود قد آمن به، وأصبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول، عليه وعليهم الصلاة والسلام..

 

هو اذن من الأوائل المبكرين..

 

ولقد تحدث عن أول لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

 

" كنت غلاما يافعا، أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر فقالا: يا غلام،هل عندك من لبن تسقينا..؟؟

فقلت: اني مؤتمن، ولست ساقيكما..

 

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل، لم ينز عليها الفحل..؟

 

قلت: نعم..

 

فأتيتهما بها، فاعتلفها النبي ومسح الضرع.. ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع: اقلص، فقلص..

 

فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد لك، فقلت: علمني من هذا القول.

 

فقال: انك غلام معلم"...

 

 

 

 

**

 

 

 

 

لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه، ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد، فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!!

 

وما كان يدري يومها، أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا، وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا، وتلمؤها هدى ونور..

 

بل ما كان يدري يومها، أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط، سيكون احدى هذه المعجزات يوم يخلق الاسلام منه منه مؤمنا بايمانه كبرياء قريش، ويقهر جبروت ساداتها..

 

فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة الا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد اسلامه الى مجمع الأشراف عند الكعبة، وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله:

 

(بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن، علّم القرآن، خلق الانسان، علّمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان).

 

ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون، لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم، وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!!

 

ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير..

 

انه الزبير رضي الله عنه يقول:

 

" كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

 

والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه..؟؟

 

فقال عبدالله بن مسعود:أنا..

 

قالوا: ان نخشاهم عليك، انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه..

 

قال: دعوني، فان الله سيمنعني..

 

فغدا ابن مسعود حتى اتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن، ثم استقبلهم يقرؤها..

 

فتأملوه قائلين: ما يقول ابن ام عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..

 

فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ..

 

ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له:

 

هذا الذي خشينا عليك..

 

فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..

 

قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!!

 

 

 

 

 

أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء، سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله، ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!!

 

ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب..

 

ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة، وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!

 

 

 

 

**

 

 

 

 

لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة..

 

بل ولا بعيدا عن الزحام..!!

 

فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال، ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم، ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه..

 

فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل، ضامر.. وهو في الجاه مغمور..

 

ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..!

 

ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر الجبارين، وتسهم في تغيير مصير التاريخ..!

 

ويمنحه مكان انزوائه وضياعه، خلودا، وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!!

 

ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه، حتى صار فقيه الأمة، وعميد حفظة القرآن جميعا.

 

يقول على نفسه:

 

" أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه زسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد"..

 

ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته، والفهم السديد في ادراك معانيه..

 

 

 

ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول:

 

" تمسّكوا بعهد ابن أم عبد".

 

ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته،ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن.

 

يقول عليه السلام:

 

" من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"..

 

" من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!!

 

ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..

 

دعاه يوما الرسول، وقال له:

 

" اقرأ عليّ يا عبد الله"..

 

قال عبد الله:

 

" أقرأ عليك، وعليك أنزل يا رسول الله"؟!

 

فقال له الرسول:

 

"اني أحب أن أسمعه من غيري"..

 

فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل الى قوله تعالى:

 

(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا..

 

يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض..

 

ولا يكتمون الله حديثا)..

 

فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاضت عيناه بالدموع، وأشار بيده الى ابن مسعود:

 

أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود"..

 

 

 

وتحدث هو بنعمة الله فقال:

 

" والله ما نزل من القرآن شيء الا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تمتطى اليه الابل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!!

 

 

 

ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:

 

" لقد ملئ فقها"..

 

وقال أبو موسى الأشعري:

 

" لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم"

 

ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى.

 

يقول عنه حذيفة:

 

" ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه، ودلّه، وسمته من ابن مسعود...

 

ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم الى الله زلفى"..!!

 

واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له:

 

"يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من عبدالله بن مسعود..

 

قال علي:

 

نشدتكم الله، أهو صدق من قلوبكم..؟؟

 

قالوا:

 

نعم..

 

قال:

 

اللهم اني أشهدك.. اللهم اني أقول مثل ما قالواو أو أفضل..

 

لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه..فقيه في الدين، عالم بالسنة"..!

 

 

 

وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون:

 

" ان كان ليؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..

 

وهم يريدون بهذا، أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه، فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه، حتى كان يلقب بـ صاحب السواد أي صاحب السر..

 

 

 

يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه:

 

"لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، وما أرى الا ابن مسعود من أهله"..

 

ذلك أن النبيب صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما، وكان يحب فيه ورعه وفطنته، وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:

 

" لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين، لأمّرت ابن أم عبد"..

 

وقد مرّت بنا من قبل، وصية االرسول لأصحابه:

 

" تمسكوا بعهد ابن أم عبد"...

 

 

 

وهذا الحب، وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد لبقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" اذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..

 

فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...

 

وهكذا قال عنه أصحابه:

 

" كان يؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..

 

 

 

ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو، من شأنها أن ترفع الكلفة، فان ابن مسعود لم يزدد بها الا خشوعا، واجلالا، وأدبا..

 

ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده، مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته...

 

 

 

فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام، نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق، خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!!

 

 

 

ولنستمع لاخوانه يصفون هذه الظاهرة..

 

يقول عمرو بن ميمون:

 

" اختلفت الى عبدالله بن مسعود سنة، ما سمعه يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!!

 

ويقول علقمة بن قيس:

 

" كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت اليه وهو معتمد على عصا، فاذا عصاه ترتجف، وتتزعزع"..!!

 

ويحدثنا مسروق عن عبدالله:

 

" حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا"..!!

 

الى هذا المدى العظيم بلغ اجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ توقيره اياه، وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه..!!

 

فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرمن غيره، كان ادراكه لجلال هذا الرسول العظيم ادراكا سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ومع ذكراه في مماته، أدبا فريدا..!!

 

 

 

 

**

 

 

 

 

لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أب جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله اليهم:

 

" اني والله الذي لا اله الا هو، قد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتعلموا".

 

ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله، ولا أحد مثله..

 

واجماع أهل الكوفة على حب انسان، أمر يشبه المعجزات..

 

ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة، لا يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام..

 

 

 

ولقد بلغ من حبهم اياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفةعثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"..

 

ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه، اذ قال لهم:

 

" ان له عليّ الطاعة، وانها ستكون أمور وفتن، ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!!

 

ان هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخلبيفةعثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الامل،، ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة..

 

بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة..

 

وحين ترامى الى مسمعه محاولات اغتيال عثمان، قال كلمته المأثورة:

 

" لئن قتلوه، لا يستخلفون بعده مثله".

 

ويقولبعض أصحاب ابن مسعود:

 

" ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"..

 

 

 

 

**

 

 

 

 

ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى.

 

وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق، والتعبير عنها في أناقة وسداد..

 

لنستمع له مثلا وهو يلخصحياة عمر العظيمة في تركيزباهر فيقول:

 

" كان اسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا.. وكانت امارته رحمة..".

 

ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول:

 

" ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!!

 

ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه، فيقول:" اني لأمقت الرجل، اذ أراه فارغا.. ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة"..

 

ومن كلماته الجامعة:

 

" خير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشرّ المكاسب الربا، وشرّ المأكل مال اليتيم، ومن يعف الله عنه، ومن يغفر الله له"..

 

 

 

 

**

 

 

 

 

هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة، عاشها صاحبها في سبيل الله، ورسوله ودينه..

 

هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور..!!

 

نحيف، قصير، يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم..

 

له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام:

 

" تضحكون من ساقيْ ابن مسعود، لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!!

 

أجل هذا هو الفقير الأجير، الناحل الوهنان.. الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور..

 

ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته..

 

 

 

وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، مع خلفائه من بعده..

 

وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الاسلام ومشيئته..

 

 

 

ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين، والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم، فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته..

 

 

 

ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها، ويتغنى بها، ويتمنى لو أنه أدركها..

 

 

 

ولنصغع اليه يحدثنا بكلماته عنها:

 

" قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر اليها، فاذا رسول الله، وأبوبكر وعمر، واذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه اليه، والرسول يقول: ادنيا اليّ أخاكما.. فدلياه اليه، فلما هيأه للحده قال: اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"..!!

 

 

 

 

**

 

 

 

 

تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه.

 

وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء، ومنصب وجاه..

 

ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب، عظيم النفس، وثيق اليقين.. رجل هداه الله، وربّاه الرسول، وقاده القرآن..!!

 

013.GIF

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

 

بارك الله فيكِ أختى الحبيبة

 

وجزاكِ ربى خيراً على هذا النقل الطيب

 

عذراً ياحبيبة الموضوع مكرر

 

https://akhawat.islamway.net/forum/index.php?showtopic=25331

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×