اذهبي الى المحتوى
فدوى المسلمي

....إتقان العمل....

المشاركات التي تم ترشيحها

post-125640-1315033443.png

 

قوله تعالى: (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل: من الآية19)

 

اختيار الآية

 

عكفت علي كتاب الله تعالي أبحث عن الآيات التي تناولت العمل وإتقانه, فوجدت الآيات كثيرة جداً ووقفت محتاراً كما هي عادتي عند اختياري الآيات التي نتكلم في ظلالها, ويستغرق الأمر أياماً, إلى أن خفق قلبي, واستنار عقلي, وقصرت بحثي على عدة آيات هي (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: من الآية2) وقوله (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: من الآية105)، وقوله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:8) وقوله (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل: من الآية97) وقوله (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ) (غافر: من الآية58) وقوله (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (لنجم: من الآية31) وقوله (وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون: من الآية51) وقوله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) (الأنبياء: من الآية94) وقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: من الآية10), وقوله (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف:7) وقوله (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد: من الآية33) والآيات كثيرة كلما انتهيت إلى آية جذبتني أخرى... فلكل آية حلاوة وتوجيه.. وكم تمنيت أن أتناول كل ما فتح الله به عليَّ في هذه الآيات, ولكن المقام لا يسع ذلك كله.. ثم بدأت في كتابة إحدى الآيات السابقة فوجدت هداية الله واطمئنان النفس إلى الاستقرار علي قوله تعالي في سورة النمل (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ) (النمل: من الآية19) فأقول والله المستعان.

post-125640-1315033449.gif

الآية في سورة النمل

 

تدبرت مرات ومرات في سورة النمل, وطال التأمل في البحث عن موضع الآية في السور, وعلاقتها بمقاصدها, وهل لها ارتباط باسمها, وفائدة مكيتها, وذلك كله لأعيش مع الآية في ظلال السور, ومما وفقني الله إليه

 

(1) مكية الآية: فالآية مكية شأن بقية آيات السورة، فقد قال ابن عطية والقرطبي والسيوطي: إن السورة مكية بالاتفاق، قلت: وفى هذا دلالة إلى أن الدعوى إلى العمل, وحسن أدائه هو أمر ملاصق لكل دعوى للإيمان, فلا يفصل القول عن العمل في أي مرحلة من مراحل الدعوة, ولذلك لا نجد آية في كتاب الله يذكر فيها "أهل الإيمان" إلا ويتبعها "وعملوا الصالحات" كقوله تعالي (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (البقرة: من الآية25) أو يذكر العمل الصالح كقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة: من الآية153) وقوله )الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) (البقرة: من الآية165) أو تحذيراً عن عمل سيئ كقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ) (آل عمران: من الآية118) وقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) (آل عمران: من الآية130)

 

ومن هنا نؤكد أن أي إيمان أو اعتقاد لا يتبعه عمل فهو ناقص يحتاج إلى برهان.

 

(2) اسم السورة: ذكر المفسرون للسورة ثلاثة أسماء, اشهرها "سورة النمل" وسورة الهدهد و "سورة سليمان" قال ابن عاشور: "ووجه الأسماء الثلاثة أن لفظ النمل ولفظ الهدهد لم يذكرا في سورة من القرآن غيرها فأما تسميتها "سورة سليمان" فلأن ما ذكر فيها من ملك سليمان مفصلا لم يذكر مثله في غيرها"

قلت: والذي أراه أن اسم السورة في الغالب يرتبط بمقصدها, وعلينا النظر في وجه اختصاص كل سورة بما سميت به.

 

وآيتنا هذه لها علاقة بالمسميات الثلاثة للسورة كما سيأتي بيانه أن شاء الله

post-125640-1315033449.gif

(3) محاور السورة: وبالتأمل في السورة نجد أن لها قمة محاور

 

المحور الأول: الاعتبار بأعظم ملك أوتيه نبي, وهو ملك داود وسليمان, وأشهر أمة أوتيت قوة وهى أمة ثمود, وعظم ملك سبأ، وفى ذلك كله إيماء إلى أن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة تقارنها سياسة الأمة ثم يعقبها ملك, وهو خلافة النبي صلى الله عليه وسلم

 

المحور الثاني: العلم وفضله.. وهو واضح في عدة مواضع منها قوله (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (النمل:6) وقوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً) (النمل: من الآية15) وقوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) (النمل: من الآية16) وقوله تعالي (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ) (النمل: من الآية22) وقوله (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (النمل: من الآية40) وقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل: من الآية75) وقوله (قلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) (النمل: من الآية65) وقوله (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (النمل: من الآية78) وقوله (وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً) (النمل: من الآية84)

 

المحور الثالث: شكر النعمة.. قال تعالي (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) (النمل: من الآية19) وقوله (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (النمل: من الآية40) وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (النمل:73)

 

المحور الرابع: العمل.. وهو واضح في عدة مواضع, في قوله تعالي (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) (النمل:4) وقوله (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النمل: من الآية90) وقوله (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة: من الآية74) أما قصص السورة وأحداثها فمليئة بالعمل .. نحو هجرة موسي مع أهله وإرساله إلى فرعون, عمل جند سليمان من الجن والإنس والطير, وعمل النمل, وعمل الهدهد, والعمل في تشييد عرض بلقيس, ثم العمل في إحضاره إلى سليمان, ثم تنكير عرشها, .. إلى غير ذلك

 

المحور الخامس: النصيحة.. دعوة ونصيحة موسي لقومه, ثم قول النملة للنمل, ثم نصيحة الهدهد, ثم نصيحة صالح لثمود ولوط إلى قومه.. ونبينا صلى الله عليه وسلم لأمته..

 

المحور السادس: الشورى.. وذلك واضح في شوري بلقيس لقومها في أمر سليمان قالت: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) (النمل:32) وشوري سليمان لإحضار عرش بلقيس.

 

المحور السابع: النظام ودقته.

 

الآية تجمع هذه المحاور

 

وجمعت الآية كل هذه المعاني علي النحو التالي:

 

المحور الأول والثاني والثالث في قوله" (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) (النمل: من الآية19)

 

المحور الرابع والخامس: في قوله (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ) (النمل: من الآية19) والمحور السادس: (عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل: من الآية19) وهم أهل الشورى المحور السابع: سبب الآية: أن الآية من تعجب سليمان من قول النملة.

post-125640-1315033449.gif

العمل في حياة داود وسليمان

 

فملكها كان عظيماً، فداود قال الله في شأنه (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) (البقرة: من الآية251) وقال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ* أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (سـبأ:11) وقوله (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ*وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (الأنبياء:80) وقوله (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صّ: من الآية17) (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإشراق) (ص:18)

 

(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (صّ:19) (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (صّ:20) ومع هذا الملك.. كان يعمل ويأكل من عمل يده, فكما في الآيات أعانة الله علي عمل الدروع من الحديد ليحض المقاتلة من الأعداء وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها وإتقانها فقال (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) (سـبأ: من الآية11) أي لا تدق المسمار فيغلق ولا تغلظه إلى نار ولا مطرقة وورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله صيام داود" كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه, وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لقي فمع هذا الملك العظيم كان يعمل ويتقن عمله, ويأكل من كسب يده... وفى هذا عبرة لأولي الألباب وورث سليمان داود في النبوة والملك، وتربي علي يديه علي العمل وإتقانه،وقد وصف الله تعالى ملكه فقال (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل:16) وقوله تعالي (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (النمل:17) وقوله تعالي (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ* وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) (الأنبياء:82) وقال تعالى (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ*وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ*وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ*هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (صّ:39) وقال تعالي (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (سـبأ: من الآية12) وقد كان لسليمان عليه السلام من أمور الملك واتساع الدولة وكثرة الجنود وتنوعها ما لم يكن لأمر قبله, ولا يعطيه الله أحداً بعده

post-125640-1315033449.gif

الآية بين آيتين أو ناصحين

 

وقعت هذه الآية بين آيتين تحكى كل منهما عملاً ما أروعه:

 

أولهما: النملة ونصيحتها لأمتها:

 

قال تعالي (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل:18)

 

فهذا سليمان عليه السلام يخرج يوماً في جيشه من الجن والإنس والطير في نظام عجيب لا يتقدم أحد عن موضعه, فهم يوزعون حتى إذا مر علي وادي النمل, سمع نملة أمرت وحذرت واعتذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور فتبسم ضاحكاً من قولها, معجبا مسروراً بحرصها علي نصيحة أمتها, بالرأي السديد والأمر الحميد وذكر النمل في الآية فيه عدة إشارة تتعلق بإتقان العمل وهى: النظام والتعاون وبناء القرى، وشق الإنفاق.. إلى أخره وقال ابن القيم في قوله (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) (النمل: من الآية18) تكلمت بعشرة أنواع من الخطاب في هذه النصيحة: النداء, والتنبيه, والتسمية, والأمر، والنص، والتحذير, والتخصيص, والتفهيم والتعميم والاعتذار" فاشتملت نصيحتها مع الاختصار علي هذه الأنواع العشرة, ولذلك أعجب سلميان بقولها وتبسم ضاحكاً منه, وسأل الله أن يوزعه شكر نعمته لما سمع كلامها, ولا تستبعد هذه الفطنة من أمة من الأمم تسبح بحمد ربها, كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج, ثم أحرق قرية النمل فأوحى الله إليه من أجل أن لدغتك نملة أحرقت امة من الأمم تسبح، فهلا نملة واحدة" انظر تأملات ابن القيم ص220

 

ثانيهما: الهدهد ونصيحته

 

فهذا الهدهد الذي غاب عن بصر سليمان قد تغيب, ولم يكن في محل خدمته, وفى هذه دلالة علي قوة ونظام ملك سليمان وانتظام جنوده من الجن والإنس والطير, وإدارة سلميان لتلك المملكة الواسعة, وقد أتى الهدهد بخبر بلقيس ملكة سبأ وقال: (امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) (النمل: من الآية23) ثم يذكر من قصته (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) (النمل:24) ثم تقدم النصحية والغيرة (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (النمل:26)

 

ثم ذكره القصة إسلام بلقيس, وذلك كله من نصيحة وعمل الهدهد

 

إذن آيتنا كانت بين آيتين فيهما:

 

1- الأولي من نملة تعيش في الأرض, والثانية من طائر يسبح في السماء

 

2- الأولي فيها نصيحة لإنقاذ الأمة, والثانية نصيحة وغيرة في الدعوة إلى الله

 

3- الأولي: علم بها سليمان, والثانية علم بها أحد جند سليمان

 

4- أثمرت النصيحتان, فأنقذ النمل, وأسلمت بلقيس وقومها

 

5- النمل في عمل دائم وكذلك الهدهد فهو جندي مع سليمان يقطع المسافة من الشام إلى اليمن مؤدياً عمله علي أكمل وجه

 

ووقوع الآية بين هاتين الآيتين وفيها دعوة سليمان (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ) (النمل: من الآية19) فهو يسأل التوفيق في العمل بوجه عام, وان يكون صالحاً "أي متقنا" ويزاد علي ذلك لمناسبة الآية للآيتين:

 

1- أن العمل الدعوى يحتاج إلى إتقان

 

2- انه العمل الذي أساسه النظام والإتقان

 

3- انه العمل المبنى علي العلم

 

4- انه العمل

post-125640-1315033449.gif

إتقان العمل في الآيات

 

1- في وادي النمل: فهم في عمل لأنهم كانوا خارج مساكنهم كما في قول النملة (ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) (النمل: من الآية18) وعن دقة وإتقان وتعاون النمل يقول ابن القيم: ثم تأمل هذه النملة الضعيفة.. ص 22

 

2- جنود سليمان: ففيهم العمل الجاد, حيث يعرف كل منهم وظيفته,ويؤديها على أكمل وجه, وتحكى الآيات صورة جمعهم مع كثرتهم لم يصطدم جندي بآخر كما قال تعالي (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (النمل:17) أي يمتثلون للأمر والنهى, فلا يتقدم أحد عن موضعه ولا يتأخر عنه.

 

3- عمل سليمان: في إدارته لهذه المملكة وجمع جنوده ثم متابعة أحوالهم حتى إنه عليه السلام مع كثرتهم يتفقد الطير, ثم يلاحظ غياب الهدهد.. وهكذا الحاكم يتابع رعيته ويتفقد أحوالهم لأنه مسئول عنهم أمام الله واذكر قول عمر "لو عثرت بغلة بالعراق, لسئل عنها عمر لماذا لم تمهد لها الطريق" ثم يظهر سليمان إدارة جنوده بالحزم والعدل وذلك في قوله (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (النمل:21) فهي العسكرية الحازمة العادلة يقول ابن منشور 1901/1240 وفى الآية إشارة إلى أن جمع الجنود وتدريبها من واجبات الملوك ليكون الجنود متعهدين لأحوالهم وحاجاتهم ليشعروا بما ينقصهم ويتذكروا ما قد ينسون عند تشوش الأذهان عند القتال وعند النفير"

 

4- عرش بلقيس: وصفه الهدهد بقوله ولها عرش عظيم إنه عرش بديع وعظمة العرش يدل علي إتقان صنعته في هذه المملكة ولا عجب في ذلك فقد قال الملأ منهم (قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) (النمل: من الآية33) وسبحان الله كان أساس نجاح حكمها لقومها وجدد الشورى بينهم (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) (النمل: من الآية32) ولذلك جاء الأمر لنبينا "وشاورهم في الآمر" أمرهم شوري بينهم" وبالشورى تنهض الأمة

 

5- نقل العرش إلى سليمان: وكله دلالة علي القوة والأمانة وإتقان النقل بحيث لم يتغير فيه شيء أو ينقص

 

6- تنكير العرش: دقة في الصنعة قال سليمان "نكروا لها عرشها" حتى أنها لم تعرفه قالت "كأنه هو" وهو بلاغة في التعبير, فالحقيقة انه هو, ولشدة التنكير فيه لم تعرفه فقالت "كأنه هو"

 

يقول سيد قطب: "غيروا معالمه المميزة له, لنعرف إن كانت فراستها وفطنتها تهتدي إليه بعد هذا التنكير, أم يلبس عليها الأمر فلا تنفذ إلى معرفته من وراء هذا التغيير ولعل هذا كان اختبار من سليمان لذكائها وتصرفها, في أثناء مفاجأتها بعرشها, ثم إذا مشهد الملكة ساعة الحضور "فلما جاءت قيل: أهكذا عرشها في مملكتها, عليها أقفالها وحراسها أين هو من بيت المقدس مقر ملك سليمان؟ وكيف جئ به؟ ومن ذا الذي جاء به؟ ولكن العرش عرشها من وراء هذا التغيير والتنكير، تري تنفي أنه هو بناء علي تلك الملابسات؟ أم تراها تقول: إنه هو بناء علي ما تراه فيه من أمارات؟ وقد انتهت إلى جواب ذكى أريب. "قالت كأنه هو" لا تنفي ولا تثبت, وتدل علي فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة" إظلال القرآن 4/2642)

 

7- صرح سليمان: والصرح: هو صحن الدار, والظاهر انه صرح القصر, وقد كان بديعا يقول ابن عاشور: "وحكاية أنها حسبته لجة عندما رأته تقتضى أن ذلك بدا لها في حين دخولها فدل علي أن الصرح هو أول ما بدا لها من المدخل فهو لا محالة ساحة معينة للنزهة فرشت بزجاج شفاف وأجري تحته الماء حتى يخاله الناظر لجة ماء وهذا من بديع الصناعة التي اختصت بها قصور سليمان في ذلك الزمان لم تكن معروفة في اليمن علي ما بلغته من حضارة وعظمة بناء" (التحرير, والتنوير 9/275).

 

post-125640-1315033449.gif

 

إتقان العمل في الآية

 

1- الشكر عمل: وليس مجرد كلمات باللسان, ويحتاج الشاكر إلى إتقانه, وهذا ما طلبه سليمان (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) (النمل: من الآية19) وقال تعالي (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سـبأ: من الآية13) وللشكر أثر في إتقان العمل.. فإذا شكر العامل صاحب العمل, وشكر صاحب العمل العامل بذل كل منهما حق الآخر عن رضا

 

2- التضرع إلى الله لإتقان عمله: "وأن أعمل صالحاً" أي عملاً نافعا مقبولاً متقناً, هذه كلها صفات العمل الصالح, ولذلك علي العامل أن يتعرف علي مقاييس جودة العمل ويسعى بكل جهده إلى تحسينه

 

إتقان العمل غايته رضا الله: "عملاً صالحاً ترضاه" هذا هو الأصل أن يتربى العامل علي مراقبة الله وابتغاء رضاه في إتقان عمله, ولا يتوقف إتقانه علي معاملة صاحب العمل, فإن أحسن أحسنوا وإن أساء قصروا, بل مراقبة الله والتماس الأجر منه يجعلهم يحسنون عملهم علي أي حال.

 

post-125640-1315033454.png

 

زاد الخطيب : إتقان العمل

2010-05-03

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

مقال أكثر من رائع وتحليل وافي لمفهوم العمل من منظور الآيات

بورك فيك مشرفتنا الحبيبة على الإفادة

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بارك الله فيكن أمونة وأم منونة الحبيبتان

 

059560e23cf29b5270da88c820e1dc72.gif

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،،

 

موضوع قيم و به فوائد رائعة

بارك الله فيكِ يا غالية

نسأل الله عز و جل أن يجعل أعمالنا على الوجه الذي يرضيه عنا

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×