اذهبي الى المحتوى
ام خديجه وبلال

:: شرح حديث " وجهت وجهى للذى فطر السماوات والاض حنيفامسلما " ::

المشاركات التي تم ترشيحها

كتبه دكتور ياسر برهامي

 

 

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد

،

 

قول النبي صلى الله عليه وسلم: )وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفرك وأتوب إليك).

 

 

في قول النبي صلى الله عليه وسلم (لبيك وسعديك)، هذه التلبية من غير محرم ولا تختص بحال، فيمكن أن يقولوها الحلال، ولا تختص بزمن فكل يوم يمكن أن تقول هذه التلبية ليس فقط في زمن الحج أو أشهر الحج، ولا تختص بمكان كقرب الميقات أو عندما تكون في المواقيت، ولذلك كان الصحيح أن التلبية ذكر مشروع يمكن أن يقال من الحلال - بمعنى غير المحرم قال الإمام أحمد لا بأس بأن يلبي غير المحرم.

 

وهذه التلبية كنز عظيم يفجر في القلب ينابيع الحب والشوق إلى الله سبحانه، ويوقظ حاجة الإنسان إلى الشعور بأن الله سبحانه وتعالى يناديه ويريده هو، فإن الإنسان الصغير الضعيف الفقير المحتاج الذي لا يشغل من الزمان ولا من المكان شيئا يذكر بل وجوده كالهباء المنثور، فعمره يمتد 60أو 70 سنة وما قبل ذلك ملايين السنين وما بعد ذلك من الخلود مالا نهاية له، ولو أراد أن يعرف حجمه في المكان فليخرج إلي البحر ليعرف حجم الإنسان في الأرض، وإذا اتسع نظره أكثر فليعرف حجم الأرض نفسها بالنسبة لما حولها من الأجرام السماوية الأخرى في المجموعة الشمسية، كم تبلغ الأرض؟، كم تبلغ المجموعة الشمسية في المجرة؟، وكم تبلغ المجرة بالنسبة لملايين المجرات؟، هذه المجرات كلها هي السماء الدنيا فما بالك بالسماوات الأعلى، فما بالك بالكرسي الذي وسع السماوات والأرض (وسع كرسيه السماوات والأرض)، فما بالك بالعرش الذي الكرسي بالنسبة له كحلقة في فلاة.

 

فإذا استشعر الإنسان أن الله سبحانه الخالق العلي الكبير العظيم الغني الأول الآخر الظاهر الباطن القوي العزيز يريده ويناديه على ألسنة رسله وفي كتبه المنزلة، فأنت تقول لبيك أي أنا أجيبك يا رب، فالله عز وجل يريد الإنسان لعبادته ومحبته، واصطفاه من بين خلقه لنوع خاص من العبودية، وأوجده في وسط المخالفات ليعرفه ويعبده، حينما نتدبر في ما حولنا من أنواع كثيرة من العبودية كعبودية السماوات والأرض مثلا فهي تعبد الله طائعة منقادة ولم تكلف (قالتا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) قال عز وجل (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ)الأحزاب72، فهذه الكائنات مسخرة تعبد الله عز وجل (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) فالكون هائل وواسع في السماوات والأرض، كلها تسبح الله وتعبده بدون أن تعترض ولو ذرة منها، ثم عبودية الملائكة عبودية بإرادة منها لا تتوجه إلا إلى الخير، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

 

لكن الإنسان وكذا المؤمن من الجن طـُلبت منهم عبودية خاصة، عبودية في وسط مخالفات، فهو موجود في بيئة بها شهوات ورغبات محرمة ونوازع داخلية تنازعه، فمخالفات شياطين الإنس والجن بأعمالهم ومكرهم وكيدهم تريد أن تصد الإنسان عن طاعة الله، وهو سبحانه اجتبى الإنسان وخصه بأعلى أنواع التكريم، وأمره ونهاه ودعاه إليه في دار السلام وهداه الصراط المستقيم، فأنت أيها المؤمن كنت مرادا حتى تكون مريدا مـُخلـَصـَا، كنت مـُرادا من الله، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) طه41 كما قال لموسى عليه السلام، وكل المؤمنين اصطنعهم الله عز وجل لنفسه بدرجات مختلفة.

 

فالله أخلصك لعبادته حتى تخلـًُص له عبادتك، فأُخلصت من عند الله فأَخلصت لله، كنت قبل وجودك من أهل قبضة اليمين وعرفك الشيطان فاستثناك من الإغواء حين قال (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)ص83، أنت من المُخلَصين حتى تكون من المُخلِصين.

 

ربك يناديك فما أجمل وما أعظم وما أحلى أن تقول لبيك ربي أنا ذاهب إليك، مجيب لأمرك بقلبي وبدني، وقد قال إبراهيم عليه السلام (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)الصافات99.

 

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هاجر ما نهى الله عنه) فهي هجرة بالقلب وسفر إلى الله عزوجل فهي إذن ليست فقط هجرة بالبدن بل بالقلب أولا، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم (عبادة في الهرج -أي الفتن- كهجرة إليَّ) توضيح لهذا المعنى، فلماذا كانت العبادة في الفتن تماثل ثواب الهجرة إليه صلى الله عليه وسلم؟، لأنها هجرة بالقلب إلى سنته وطريقته في عبادة الله، فهل نلج وندخل باب هذا الفضل العظيم؟

 

فاتتنا الهجرة بالبدن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن يمكن أن نلحق بركب المهاجرين، تخيل أن تكون ضمن المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأخذ ثواب المهاجرين الذين سبقوا الأنصار، نحن نضيق بالفتن مع أن الفرصة فيها عظيمة، فهل نغتنمها؟.

 

(لبيك وسعديك) ليست الإجابة لله سبحانه وتعالى مرة واحدة فحسب ثم تنقطع، بل هي إجابة بعد إجابة وإقامة بعد إقامة، وهناك تفسيران في معنى التلبية "لبيك" فالأول بمعنى إجابة مرة بعد مرة، وهذا هو المشهور، والمعنى الثاني من لبى بالمكان يعني أقام، وكلا المعنيين صحيح، فهي إجابة بعد إجابة فهي مستمرة وإقامة بعد إقامة على طاعته، ومساعدة بعد مساعدة لأمره والمقصود بالمساعدة في سعديك أي أنا مساعد في أمرك أي أكون في أمرك، والكون كله في أمر الله وخدمته، وهي ليست بمعنى المعاونة لله تعالى الله أو أنه يحتاج إلى معين -حاشا لله-، لكن سعديك تعني أنا في إسعاد أمرك، والإسعاد معناه أن يكون في الخدمة والطاعة وإن كان لفظ الخدمة -أن يـُخدم الله لم يرد في الكتاب والسنة فنختار عنه لفظ العبادة والطاعة والانقياد لأمره سبحانه مرة بعد مرة، أي أن المؤمن قد أعلن الإجابة وواظب عليها وأقر بالطاعة وامتثال الأمر وواظب على ذلك، قال آمنت بالله ثم استقام كما أخبر سبحانه عن عباده المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) فصلت30، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم (قل آمنت بالله ثم استقم).

 

إن القضية قضية الالتزام المستمر وليست إعلان مبدأ ثم يظل الإنسان بعيدا عنه، بل لابد أن يظل مواظبا، والاستمرار في الطاعة أشق على أكثر النفوس من البداية، فالسير على طريق الله طول الحياة هو صفة أهل الإيمان، وهذه التلبية يحتاج إليها المؤمن دائما، ولذا شرعت في هذا الدعاء كما شرعت في الحج والعمرة، وهذا الحديث دليل على مشروعية ذلك وهي من الأذكار العظيمة التي تعرف العبد حقيقة السلعة التي معه.

 

أنت، ما سلعتك؟، سلعتك هي نفسك (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ)، عندما تستشعر أن الله أرادك ويناديك، وأنت تقول له أنا أجيبك يا رب، تعرف حقيقة السلعة التي معك، فلتضنَّ بها ولتبخل أن تبيعها لغير الله بالثمن البخس.

 

شعور العبد بأن الله أراده يجعله يكاد يذوب حبا وشوقا لله سبحانه وانقيادا وذلا، يجعله مجيبا على الفاقة، أي مجيبا لأمره سبحانه مستشعرا شدة فقره وفاقته إلى هذه الإجابة، وليس معنى ذلك أنه يجيب رغما عنه فيرغم نفسه على أن يجيب ونفسه لا تطاوعه، بل هو يشعر أن نفسه هي التي تطلب الذهاب، إنها -إجابة الله- كطعامه وشرابه ونفسه بل أشد من ذلك، كما أنك تأخذ نفس الهواء، لماذا تأخذه؟ لأنك محتاج للهواء، لأنك إن لم تتنفس تموت، لا تستطيع أن تتحمل، ولماذا نسرع مهرولين إلى الطعام وقت الإفطار، لأننا محتاجون للطعام ومحتاجون للشراب، كذلك الإنسان محتاج للقرب من الله، محتاج لأن يجيب أمر الله عز وجل، ولذلك أهل الجنة يتمتعون بالتسبيح، (يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس)، ونذكر كلمة بعض التابعين يقول: "اللهم إن كنت تأذن لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي أن أصلي في قبري فهو يدعو الله أن يصلي في قبره، والصحيح أن هناك صلاة في القبور فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه رأى موسى يصلي في قبره، والصحيح أنها نوع من النعيم الذي يكون في القبر من نعيم القبر، وهي ليست على سبيل التكليف وإنما على سبيل التنعم، وما يقوله البعض أنه خاص بموسى فالصحيح أنه ليس خاصا، فإن الحديث الصحيح عند ابن حبان في صفة سؤال القبر أن المؤمن تمثل له الشمس قد أوشكت على الغروب، فيأتيه الملكان فيقعدانه ويسألانه، فيقول دعاني حتى أصلي، فيقال إنك ستفعل، ولكن أخبرنا عن هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول: أمحمد؟، فيقولا: نعم، فيقول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءنا بالبينة والهدى، فالملائكة وعدته بأنه سيفعل، فهذا دليل على أن هناك من يصلي في قبره.

 

ففرق كبير بين إجابة تجر فيها نفسك خلفك، ولا تطاوعك نفسك للإجابة، وبين إجابة على الفاقة - على الحاجة إليها -.

 

ما معنى أن تستشعر أنك محتاج للإجابة؟، هو أن تستشعر أن ربنا يريدك أنت وأنت وحدك من وسط كل هذه الدنيا، وتستشعر أنك صغير جدا والخالق العلي الكبير يريدك أنت ويجعلك مخلـَصا له، فأي شرف للإنسان؟، هذا يجعله لابد وأن يسارع بهذه الإجابة محققا (إياك نعبد) بالإجابة (وإياك نستعين) بالفقر والفاقة إلى الله عز وجل، يستشعر إياك نعبد بأن يجيب أمر الله، وأنه في أثناء هذه الإجابة مستعين بالله محتاج إلى أن يعبد الله ويسأل الله أن يعيننه على ذلك.

 

(وإياك نستعين) بالفاقة والفقر إلى الله إلها معبودا في المقام الأول، أي لا تستعين به على قضاء حوائجك، وعلى دفع عدوك وعلى إزالة الضرر وعلى جلب المنافع وفقط، فالخلق كلهم مفتقرون إلى الله ربا خالقا رازقا، فهم يريدون أن يأكلوا ويشربوا ويكون عندهم أولاد وأموال، هم يريدون كل هذه الأشياء، والمؤمن معهم في هذا، والله الذي بيده الأمر كله، لكن المؤمن يستعين به في المقام الأول على عبادته، يستعين به ليكون إلهه ومعبوده، يحتاج لأن يركع له، يحتاج لأن يسجد له، يحتاج لأن يحبه ويرجوه ويخافه ويتوكل عليه، فأي منة أجل من هذا، وهل نستحق كل هذا العطاء أنما هو محض الجود والكرم.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

www.salafvoice.com

موقع صوت السلف

تم تعديل بواسطة ام خديجه وبلال

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

السلام عليكــم ورحمـة الله وبركاتــة ،،

بارك الله فيك أختي الغالية على النقل القيّم الموفق

جعلها الله في ميزان حسناتك

 

((وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفرك وأتوب إليك)).

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته

 

اللهمّ صلّ على محمّدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم

 

(... لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ... )

 

موضوع قيّم ومفيد اختي الغالية

باركَ الله فيكِ وجزاكِ خيرًا

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

أنا بك وإليك

 

كتبه ياسر برهامي

الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد

 

قول النبي صلى الله عليه وسلموجهتوجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إنصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأناأول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك،ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلاأنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك،أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفركوأتوب إليك

في قوله صلى الله عليه وسلم (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) فيه تحقيق الامتثال لأمر الله تعالى بالفرار إليه، قال عز وجل (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) الذاريات 50، وهو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم أنى أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، كذلك فإن العبد إنما يفر من قدر الله إلى قدر الله، ويدافع قدر الله المكروه بقدر الله المحبوب وذلك بالاستعانة بالله وبتوفيق الله عز وجل

 

فينبغي أن يستحضر الإنسان أنه في خطر، وهذا الخطر بقدر الله عز وجل ولن ينجو منه إلا بالفرار من الله عز وجل إليه، وهو عز وجل الذي يقدر له الخير وينجيه من القدر المكروه، كما قال عمر:"نفر من قدر الله إلى قدر الله", أي نفر من قدر الله المكروه إلى قدر الله المحبوب

 

وإن من دخل النار دخلها بقدر وبالحق الذي كتبه الله عليه والشقاء الذي كتب عليه, ومن دخل الجنة دخلها بقدر، بقدر التوفيق من الله عز وجل وقدر الهداية حتى يدخل الجنة

 

فأنت تفر من النار إلى الجنة، تفر من غضب الله عز وجل وعقابه إلى مرضاته وطاعته ولن يكون ذلك إلا بالله، فلا ملجأ يتحصن العبد به مما يقدره الله عليه من المكروه والسوء إلا إلى الله سبحانه، ولا نجاة للعبد مما يخافه ويحذره مما أصابه ووقع به إلا بالله، فالعبد يفر من الله - أي مما يخافه من عقوبته وسخطه ومعاصيه التي هي أسباب العقوبة - إلى الله أي بالاستقامة على أمره والعمل بطاعته والإخلاص له فإنه بذلك ينجو من سخط الله تعالى وعذابه

 

وهو يعوذ بالله منه، يعوذ بالله عز وجل من أن يُقَِدر الله عليه مكروها، إذ كل شيء ملك يده وكل شيء بقضائه وقدره فلا يملك العباد لأنفسهم ضراً ولا نفعا ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً, فكيف يملكون ذلك لغيرهم ؟

 

وهذا الدعاء يتضمن عدم رجاء الناس ولا خوفهم، فالخلق لا يملكون له ضراً ولا يجلبون له نفعاً, فعلام يرجوهم أو يخافهم؟

فإن ما أصابك بقدر الله ما كان ليخطأك، وما أخطأك مما لم يقدره الله لك لم يكن ليصيبك، ولو اجتمع الخلق على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله، عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف

 

وهذه الكلمة والتي قبلها(أنا بك وإليك)و(لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك)تجمعان بين الإيمان بالقدر الامتثال للشرع بأيسر عبارة وأوضح معنى مفهوم، وتحل المشكلة التي حيرت البشرية البعيدة عن الوحي منذ أزمنة متطاولة في كيفية الجمع بين الأمرين، بين الشرع وبين القدر، بين شهود أفعال يخلقها رب قادر وبين أن العباد لهم قدرة وإرادة وأفعال، فهذه المسألة لم تزل تحير البشر،

 

منهم من قال بالجبر ولم يرى قدرة الإنسان ولا إرادته،

ومنهم من قال بنفي القدر وقال لا توجد قدرة لله على أفعال العباد الاختيارية،

ومنهم من أنكر وجود الله بالكلية - كالماركسيين مثلا-، فسبب الإلحاد عند ماركس هو هذه القضية فقد أنكر وجود الله بالكلية لأنه لم يفهم هذه المسألة، بل مدار نفيه لوجود الله - عندما يبرره في فلسفته- هو أنه كيف نقول بوجود رب لابد أن يتصرف في أفعال عباده؟، ولو تصرف في أفعال العباد يبقى أنه لا معنى لأمرهم ونهيهم ولا لوجود تشريع أو دين وبالتالي نفى الدين ونفى وجود الله، والعياذ بالله

لذا فهذه الجملة (لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك) والتي قبلها (أنا بك وإليك) تحل هذه المشكلة، فنحن نؤمن بالقدر ونستعين بالله شاهدين قوته وقدرته وحكمته وحكمه وعدله وفضله، ونشهد كذلك حكم الله الكوني فله الحكمة في كل ما يقدر، وهو العدل في كل ما يفعل، والأمر بيده عز وجل ومن ثم نعمل بالشرع نخضع له ونستسلم لأوامر الله الشرعية ونحن مستعينين بالله في ذلك راغبين في فضله راهبين من عقابه محبين له ولما يحبه ويرضاه

 

ترى ذلك الأمر في الفاتحة حيث التأكيد على هذه القضية في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الفاتحة 5، ذلك أن هذه القضية عظيمة الأهمية فهي متكررة كثيرا جدا في مواطن مختلفة وكذلك هي موجودة في معظم أدعية النبي صلى الله عليه وسلم فقد تكرر كثيرا الجمع بين الإيمان بالقدر والإيمان بالشرع، تجد ذلك أيضا في سورة الحديد قال عز وجل (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا) الحديد 22 ثم قال بعدها (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد 25، فنحن نعمل بالشرع ونؤمن به، نؤمن أن المصائب كلها مقدرة قبل خلق العالم ونؤمن كذلك بأن الشرع نزل ليقوم الناس بالقسط -الكتاب والميزان -الذي توزن به الأعمال والأقوال القياس الصحيح.

]وقوله صلى الله عليه وسلم (تباركت وتعاليت

البركة الخير الكثير، فتبارك الله أي كَثُر خيره وعَظُمت صفاته وحَسُنت أسمائه سبحانه وبحمده.

 

إن هذا من أعظم رجاء يرجو به العبد الخير من ربه وهو أن يشهد الخير الكثير منه عز وجل وفي صفاته وفي أفعاله عز وجل، فمن هنا يرجو العبد أعظم الرجاء والله عز وجل لا يُعدم منه الخير أبدا، وفي الحديث (لن نعدم من ربِ يضحك خيراً)، فكذلك لن نعدم من ربِ تبارك خيراً، يقول الله عز وجل (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) الملك 1، (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ)bالفرقان 1، فلا نزال نرجو الخير من الله تبارك وتعالى.

 

[والتعالي من صفاته سبحانه وتعالى وهو بمعنى العلو،]

 

[]علو الذات فهو فوق عرشه كيف شاء سبحانه وعرشه سقف لجميع مخلوقاته فهو عز وجل فوق خلقه جميعاً (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) النحل 50، (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) الأعلى1 ، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) البقرة 255, هذا علو الذات

 

وعلو الشأن فهو سبحانه وتعالى متعال في كل صفات كماله عما يضادها من النقص، فتعالى في وحدانيته وإلهيته عما يشركون، تعالى عن وجود الشريك وتعالى في كمال أسمائه وصفاته عما يصفه به المخالفون للرسل من صفات النقص كما يقولون (قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً) البقرة 116 تعالى عما يصفون، تعالى عما يشركون، تعالى في كمال ربوبيته وقيومته عن الظهير والمعين، (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ)سبأ 22، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، وتعالى في كمال حياته عن السنة والنوم والموت (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) الفرقان 58، وقال تعالى (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) البقرة 255، وتعالى في كمال عدله عن الظلم ولو مثقال ذرة (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) النساء 40، وتعالى في كمال حكمته عن العبث واللعب واللهو (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) الأنبياء 16, وقال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) المؤمنون 115, 116 وقال (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ) الأنبياء 17 أي ما كنا فعلين, إن هنا نافية

وتعالى في كمال قدرته عن العجز والإعياء والتعب واللغوب (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) فاطر 44 وقال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)الأحقاف 33، فهو لا يصيبه إعياء سبحانه وتعالى (بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الأحقاف 33، كذلك تعالى عن التعب واللغوب قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) ق 38، وتعالى عز وجل في كمال علمه عن الجهل والنسيان وغياب شيء عن علمه قال عز وجل عن موسى (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) طه 52، فهو لا يجهل ولا ينسى (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) سبأ 3، عالم الغيب والشهادة (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)الأنعام 59، وتعالى سبحانه في كل صفات الكمال عن أي صفات نقص سبحانه وبحمده (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )الشورى 11

 

والمعنى الثالث علو القهر (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) الأنعام 18, (وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) الرعد 16، قد قهر كل شيء وهو غالب على أمره لا يُنازع ولا يُغالب ولا يُمانع (وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ) الرعد 11، إذا أرد أمراً لا يمنعه منه أحد (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا) الأنبياء 43، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، إذا أمر أمراً لا يُرد وإذا حكم بحكم لا يوجد تعقيب عليه لا شرعاً ولا قدراً، وهنا المقصود قدراً (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس 82، فكل من سوى الله مقهور تحت أمره سبحانه.

]إذا استشعر العبد ذلك (تباركت وتعاليت)تصاغر الخلق في قلبه وفي عينيه وشعر بأن الأمر من فوق (تعاليت)، فيشعر بعلو الله والأوامر نازلة من عند الله لا من عند الناس ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) السجدة 5، يستشعر أن المَلك يُدبر، وأن المُلك يدبره مالكه الحق من فوق سبع سماوات وأن أعمال العباد -وهو منهم-معروضة عليه سبحانه، وهذا من أعظم أسباب الإخلاص والصدق مع الله سبحانه وتعالى، حين تعلم أن عملك معروض على الله صاعد إليه، وبالتالي فأنت تراقب الله عز وجل في عملك وتخلص له وتنسى الناس وتستصغرهم ولا تعمل من أجلهم، ولذلك هناك ارتباط عظيم بين قضية العلو وقضية الإخلاص والتوحيد والإلهية، فإذا قال العبد (تباركت وتعاليت) أثبت صفات الكمال لله وعلم علو الله عز وجل على خلقه فرجى الخير من الله وأخلص لله وحده لا شريك له

هذا كله يحصل به أعظم أنواع العلم والخير للعبد إذا استحضر هذا الدعاء العظيم، لم يبق إذن إلا إزالة العوائق, العوائق هي الذنوب لذا كان ختم الدعاء بالاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل

ونستكمل هذا في مقالة تالية إن شاء الله

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله أنت أستغفرك وأتوب إليك

 

 

www.salafvoice.com

موقع صوت السلف

تم تعديل بواسطة ام خديجه وبلال

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،،

 

 

بارك الله فيك ِ وجزاك ِ كل الخير : )

سوف أدمج هذا الموضوع مع تكملته

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×