اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير سورة العنكبوت

المشاركات التي تم ترشيحها

العنكبوت, تفسير, سورة

 

الآية 1: ﴿ الم ﴾: سَبَقَ الكلام على الحروف المُقطَّعة في أولسورة البقرة، واعلم أنّ هذه الحروف تُقرأ هكذا: (ألِف لام ميم).

الآية 2: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾؟! يعني: هل ظنوا أن يَتركهم الله بلا ابتلاء ولا اختبار بعد أن قالوا: آمَنّا؟! كلا، لابد لهم من الاختبار حتى يَتميز المؤمن الصادق مِن غيره.

الآية 3: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ أي اختبرناهم بإرسال الرُسُل وأنواع الابتلاءات (كالقتال والشدائد وغير ذلك)،﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ ﴾ بهذه الابتلاءات - عِلمًا ظاهرًا للخَلق -: ﴿ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾ في إيمانهم، والصابرينَ على قضاء ربهم، ﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ في ادِّعائهم للإيمان، الساخطينَ على قضاء ربهم (حتى يَتميز كلُّ فريق عن الآخر في الجزاء).

الآية 4: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ﴾ - مِن شِركٍ وغيره - ﴿ أَنْ يَسْبِقُونَا ﴾؟! أي يَفوتوا مِنّا ويَهربوا؟! كلا، إنهم لن يُفلتوا من عذابنا أبداً، ﴿ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ أي: قَبُحَ هذا الحُكم الذي يَحكمون به على الأمور (وهو ظَنُّهم أنهم سيَهربون من عذاب ربهم).

الآية 5:﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو ﴾ أي يَنتظر ﴿ لِقَاءَ اللَّهِ ﴾ في الآخرة، ويَطمع في ثوابه: ﴿ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ ﴾ - الذي أجَّله لبَعث خلقه- ﴿ لَآَتٍ ﴾ أي سيأتي لا مَحالة، (ألاَ فليَستعد المؤمن للقاء ربه بالتوبة النصوح، وكثرة الندم والاستغفار، ومجاهدة النفس والشيطان، والإكثار من صالح الأعمال)، ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ السَّمِيعُ ﴾ لأقوال عباده، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بأفعالهم ونِيّاتهم.

الآية 6: ﴿ وَمَنْ جَاهَدَ ﴾ أي جاهَدَ في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وجاهَدَ نفسه (بإلزامها بالطاعة ومُخالفتها في المعصية):﴿ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ﴾ لأنّ ثواب تلك المجاهَدة سيعود عليه وحده، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ يعني إنه سبحانه غَنِيٌّ عنأعمال خَلقه، فلا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، ورغم ذلك فقد تفَضَّلَ الكريم الرحيم على عباده المؤمنين، بقوله - في آخر هذه السورة -: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

الآية 7: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ باللهِ ورسوله، وبكل ما أخبر به رسوله من الغيب، ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ - بإخلاصٍ للهِ تعالى، وعلى النحو الذي شَرَعه - ﴿ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ أي سنمحو عنهم خطيئاتهم،﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ﴾ على أعمالهم الصالحة ﴿ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ أي بمِثل جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه في الدنيا، (واعلم أنّ الجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه مِن كل نوع، ففي الصلاة يُعطَى جزاء أفضل صلاة صَلاَّها، وفي الصدقات بأفضل صدقة أعطاها وهكذا).

الآية 8: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ يعني وَصّيناه أن يُبِرّهما، وأن يُحسِن إليهما بالقول والعمل، ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ ﴾ أي بَذَلا جهدهما معك أيها الإنسان ﴿ لِتُشْرِكَ بِي ﴾ في عبادتي ﴿ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ أي ما ليس لك به دليل على استحقاقه للعبادة (وليس لأحدٍ علم أو دليل على صحة الشِرك، لأنّ الله تعالى هو الخالق الرازق المستحق وحده للعبادة)، ﴿ فَلَا تُطِعْهُمَا ﴾ في دَعْوتهما لك إلى الشِرك (وكذلك الحال في سائر المعاصي، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ﴿ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ أيها الآباء والأبناء ﴿ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾وأجازيكم على أعمالكم، (لِذا فأحسِنوا إلى والديكم، ولكنْ قدِّموا طاعتي على طاعتهما).

الآية 9: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴾ أي سوف نُدخلهم في مُدخَل الصالحين وهو الجنة.

الآية 10: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ ﴿ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ ﴾: يعني إذا آذاه المشركون مِن أجل دِينه: ﴿ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾: أي جعل تعذيب المشركين له كعذاب الله يوم القيامة (في الشدة والألم)، ولم يَصبر على أذاهم، فارتدَّ عن إيمانه، ووافَقَ المشركين على شِركهم، ﴿ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ﴾ لأهل الإيمان به: ﴿ لَيَقُولُنَّ ﴾ هؤلاء المُرتَدّونَ عنإيمانهم: ﴿ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ - أيها المؤمنون - نَنصركم على أعدائكم، فرَدّ اللهُ عليهم بقوله: ﴿ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾؟! بلى، إنه سبحانه يَعلم ما في صدور خلقه من الإيمان والنفاق، (إذاً فما يَخدع هؤلاء المنافقون إلا أنفسهم وما يشعرون).

الآية 11: ﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ ﴾ بهذه الشدائد - عِلمًا ظاهرًا للخَلق - ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ أي صَدَقوا في إيمانهم وعملوا بشرع ربهم،﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴾ الذين يُظهرونَ للناس الإيمان، ويُخفون الكفر وعداوتهم للمسلمين، ثم يُجازي كل فريق منهم بما يَستحق.

الآية 12، والآية 13: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ مِن قريش ﴿ لِلَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ منهم: ﴿ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا ﴾ أي اتركوا دين محمد، واتّبعوا ديننا، ﴿ وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ﴾ يعني: وإنْ كان هناك بَعْث وجزاء كما يقول محمد، فنحن مستعدون أن نتحمل عنكم خطاياكم ونُجازَى بها، فأكذبهم اللهُ تعالى بقوله: ﴿ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ أي لن يستطيعوا أن يُنقِصوهم شيئاً من آثامهم يوم القيامة، ﴿ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ فيما قالوا، ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾: أي سوف يَحملَون ذنوبهم، وذنوب الذين كَذَبوا عليهم وأضَلُّوهم عن الإسلام (دونَ أن يَنقص شيئٌ من ذنوب تابعِيهم) ﴿ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾: أي سوف يسألهم الله عما كانوا يختلقونه من الأكاذيب.

الآية 14، والآية 15: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ﴾ ليَدعوهم إلى التوحيد وترْك الشرك ﴿ فَلَبِثَ فِيهِمْ ﴾ أي مَكَثَ فيهم ﴿ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾ يعني تسعمائة وخمسون سنةً يدعوهم إلى الله تعالى، فلم يَستجب له أكثر قومه ﴿ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ ﴾ أي أغرقهم الله بالطوفان ﴿ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ لأنفسهم بكُفرهم وطغيانهم، ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ ﴾: أي أنجينا نوحًا والذين اتَّبعوه (وهُم الذين كانوا معه على السفينة) ﴿ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً ﴾ أي جعلنا حادثة الطوفان عبرة وعِظة - وكذلك تَرَكنا السفينة على جبل الجُودي - لتكون آيةً ﴿ لِلْعَالَمِينَ ﴾ في إنجاء المؤمنين وإهلاك المُكَذّبين.

الآية 16، والآية 17: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ ﴾ أي اذكر أيها الرسول لقومك خبر إبراهيم عليه السلام وهو يدعو قومه إلى التوحيد وترْك الشرك ﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ﴾: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ وحده، فلا يوجد مَن يستحق العبادة غيره، ﴿ وَاتَّقُوهُ ﴾ أي اجعلوا توحيدكم وقايةً لكم من عذاب ربكم، ﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا ﴾ أي أصنامًا من الحجارة لا تنفع ولا تضر، ﴿ وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ﴾ أي تَفترونَ كَذِبًا بتسميتكم إياها آلهة، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا ﴾ ﴿ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ ﴾ أي اطلبوا الرزق مِن عند الله، لا مِن عند أصنامكم، ﴿ وَاعْبُدُوهُ ﴾ أي أخلِصوا له العبادة ﴿ وَاشْكُرُوا لَهُ ﴾ نعمته عليكم، ﴿ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ بعد موتكم، فيجازيكم على أعمالكم.

الآية 18: ﴿ وَإِنْ تُكَذِّبُوا ﴾ - أيها الناس- رسولنا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما دعاكم إليه: ﴿ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ أي كَذَّبوا رسلهم، فنَزَلَ بهم عذاب ربهم، ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ أي البلاغ الواضح لرسالةربه، وقد فَعَل.

الآية 19: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا ﴾: يعني ألم يعلم هؤلاء المشركون ﴿ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ أي يُنشئ المخلوقاتمنالعدم، ثم يُميتهم، ثم يُعيدهم كهيئتهم قبل أن يُميتهم؟ (فإذا كانوا يعترفون بأنّ الله هو الذي خلقهم من العدم، إذاً فليعلموا أنّ الذي ابتدأ خَلْقهم بهذه الصورة قادرٌ على إعادتهم بعد الموت) ﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ (لأنّ إعادة الشيء كما كان، أسهل من إيجاده أول مرة).

الآية 20: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول للذين يُنكِرون البعث: ﴿ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ بأجسادكم وقلوبكم، ﴿ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾ أي انظروا كيف أنشأالله الخلق، ولم يَصعُب عليه إنشاؤه؟ ﴿ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ ﴾: أي فكذلك لا يَصعُب عليه إعادةإنشائه النشأة الآخرة يوم القيامة ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.


الآية 21: ﴿ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ - مِمّن أصَرّ على المعاصي ولم يَتُب منها، ﴿ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ - مِمّن تاب وآمن وعمل صالحًا ﴿ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴾ يعني: وإليه ترجعون بعد موتكم، فيُجازي كُلاً بعمله.

الآية 22: ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ يعني: ولنتُعجِزوا ربكم أيها العُصاة، إذا ظننتم أنكم ستهربون من عذابه ﴿ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ (فأينما تكونوا يأتِ بكم سبحانه) ﴿ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ﴾ يَنفعكم ويَتولى أموركم، ﴿ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ يَنصركم من عذاب ربكم.

الآية 23، والآية 24: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ ﴾ أي كفروا بالقرآن - رغم وضوحه وقوة حُجَّته - وكفروا كذلك بالبعث والجزاء ﴿ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ﴾ أي لن يَطمعوا في رحمتي عندما يَرون عذابي ﴿ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
♦ واعلم أنّ هذه الآيات السابقة كانت مُعترضة أثناء قصة إبراهيم مع قومه، وفي هذا دليل على جَواز الاعتراض أثناء الكلام إذا حَسُنَ مَوقعه (كإقامة حُجَّة، أو إبطال باطل، أو التنبيه على أمْرٍ مُهِمّ).
♦ ثم يُكمِل سبحانه قصة إبراهيم وقومه قائلاً: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ﴾ - بعد أن أنكَرَ عليهم شِركهم - ﴿ إِلَّا أَنْ قَالُوا ﴾ لبعضهم -: ﴿ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ﴾ - فألقوه في نارٍ عظيمة - ﴿ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ﴾ وجَعَلها بردًا وسلامًا عليه، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ أي في إنجاء إبراهيم من النار ﴿ لَآَيَاتٍ ﴾ تدل على قدرة الله تعالى وعنايته بأوليائه الموحدين، وخذلانه للكفرة المشركين، ثم خَصَّ سبحانه الذين يَنتفعون بهذه الآيات بقوله: ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي يؤمنون بآيات الله ويعملون بشرعه.

الآية 25: ﴿ وَقَالَ ﴾ إبراهيمُ لقومه: ﴿ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا ﴾ أي عبدتم من دون الله آلهة باطلة، تعلمون أنها أحجارٌ صنعتموها بأيديكم، فلم تعبدوها عن اقتناع، وإنما جعلتموها ﴿ مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي أحببتم بعضكم من أجل الاجتماع على عبادتها، وإقامة الأفراح حولها ﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ أي يتبرأ بعضكم من بعض ﴿ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ ﴿ وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ ﴾ أي مصيركم جميعًا إلى النار ﴿ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ يَمنعونكم من دخولها، ويُنقذونكم مِن حَرّها وعذابها.

 


 


الآية 26: ﴿ فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ ﴾ أي صَدَّق لوطٌ إبراهيمَ واتَّبع دِينه (وذلك قبل أن يُوحَى إلى لوط بالنُبُوّة)، ﴿ وَقَالَ ﴾ إبراهيم: ﴿ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي: يعني إني تاركٌ أرض قومي بالعراق، وذاهبٌ إلى الأرض المباركة - وهي "الشام" - حيث أعبد ربي فلا أُفتَن في ديني، ﴿ إِنَّهُ ﴾ سبحانه ﴿ هُوَ الْعَزِيزُ ﴾ أي الغالب الذي لا يمنعه شيئٌ مما يريد، ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ فيتدبيره وصُنعه، (ومَن كان عزيزاً (غالباً)، حكيماً (لا يأمر عباده إلا بما فيه الخير لهم): إذاً فهو لن يُضَيِّعني).

الآية 27: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ﴾ ولدًا، ﴿ وَيَعْقُوبَ ﴾ حفيدًا، ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ: أي جعلنا في ذريته الأنبياء والكتب (إذ كل الأنبياء الذين جاءوا من بعده كانوا من ذريته، وكل الكتب التي نزلتْ بعده نزلتْ على ذريته)، ﴿ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ ﴾ - على إيذائه في سبيل دَعْوتنا - ﴿ فِي الدُّنْيَا ﴾ (كالولدالصالح، والثناء عليه من أهل الشرائع السماوية واقتداءهم به، وغير ذلك من أمور الدين والدنيا)، ﴿ وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ الذين لهم أعلى الدرجات في الجنة.

الآية 28، والآية 29، والآية 30: ﴿ وَلُوطًا ﴾ أي اذكر أيها الرسول خبر لوط عليه السلام ﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ﴾: ﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ أي تفعلون هذه الفعلةالمُنكَرة التي بَلغتْ نهاية القُبح، والتي ﴿ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أي ما فعلها أحدٌ قبلكم من المخلوقين!﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ (تاركينَ ما أحَلَّه اللهُ لكم مِن نسائكم)،﴿ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ﴾ أي تقطعونطريق المسافرين (فتَعتدون عليهم بعمل الفاحشة معهم، وسَلْب أموالهم) ﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ﴾ أي تأتون الأفعال المُنكَرة في مَجلسكم (كالسخرية من الناس، وقذف المارّة بالحَصى، وإيذائهم بما لا يليق من الأقوال والأفعال)؟!
﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ﴾ - بعد أن أنكر عليهم أفعالهم - ﴿ إِلَّا أَنْ قَالُوا ﴾ له: ﴿ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ الذي تعِدنا به ﴿ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ فـ ﴿ قَالَ ﴾ لوطٌ - داعياً ربه -: ﴿ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ﴾ (بإنزال عذابك عليهم، لإصرارهم على الكفر والفواحش).

الآية 31: ﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى ﴾ أي جاءت له الملائكة على صورة بَشَر (ليُبَشِّروه بإنجاب ولده إسحاق، وبحفيده يعقوب من إسحاق)، فـ ﴿ قَالُوا ﴾ له: ﴿ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ﴾ وهيقرية قوم لوط، ﴿ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ أي ظلموا أنفسهم بكفرهم ومعصيتهم لله.

الآية 32: ﴿ قَالَ ﴾ إبراهيم للملائكة: ﴿ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ﴾ (وهو ليس مِن الظالمين مِثلهم)، فـ ﴿ قَالُوا ﴾ له:﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا ﴾﴿ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾ - المُستجيبين لدَعْوته - من العذاب الذي سيقع بقومه ﴿ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ أي حَكَمَ اللهُ عليها أن تكون من الباقين في العذاب; لأنها كانت عونًا لقومها على أفعالهم القبيحة.

الآية 33، والآية 34، والآية 35: ﴿ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا ﴾ لإخباره بإهلاك قومه: إذا بِهِ قد ﴿ سِيءَ بِهِمْ ﴾ أي أصابه الغَمّ لمَجيئهم ﴿ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ﴾ أي عَجَزَ عن تدبير خَلاصهم (لأنهم جاءوا له في صورة شباب في غاية الجمال، فخاف عليهم مِن قومه أن يُريدوا بهم الفاحشة، ولم يكن يعلمأنهم ملائكة)، ﴿ وَقَالُوا ﴾ له: ﴿ لَا تَخَفْ ﴾ علينا، فإنّ قومك لن يصلوا إلينا،﴿ وَلَا تَحْزَنْ ﴾ على مَن سيَهلك مِن أهلك مع القوم الظالمين، فـ ﴿ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ﴾ المستجيبين لدَعْوتك ﴿ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ أي حَكَمَ اللهُ عليها أن تكون منالباقين في العذاب، ﴿ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا ﴾ أي عذابًا ﴿ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ أي بسبب معصيتهم لله وارتكابهمللفواحش، ثم قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً ﴾ يعني أبقينا مِن ديار قوم لوط آثارًا واضحة تدل على قدرتنا على إهلاك الفاسقين، وقد كانت هذه العبرة والعظة ﴿ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ أي يَعقلون العِبَر، فيَنتفعوا بها، فيُوَحِّدوا اللهَ ويطيعوه.

الآية 36، والآية 37: ﴿ وَإِلَى مَدْيَن أَخَاهُمْ شُعَيْبًا يعني: ولقد أرسلنا إلىقبيلة"مَدْيَن" أخاهم شُعيباً، ﴿ فَقَالَ لهم: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَوحده، فلا يوجد مَن يَستحق العبادة غيره، ﴿ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ ﴾ أي آمِنوا بيوم القيامة، وتوقعوا مجيئه، وخافوا مما فيه مِن أهوالٍ وأحوال، فإنّ ذلك يساعدكم على التقوى، ﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ أي لا تَسعوا في الأرض بأنواع الفساد (كالشرك والمعاصيوأكْلُكُم أموال الناس بالباطل)،﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ فيما جاءهم به ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾ أي الزلزلةالشديدة، (وقد كانت هذه الزلازل مصحوبة بصيحة شديدة خلعتْ قلوبهم، لأن الله تعالى قال في سورة هود: (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ))، ﴿ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ أي باركينَ على رُكَبهم، مَيّتينَ لا حِراكَ لهم.


الآية 38: ﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ ﴾ أهلكناهم لمّا كَذّبوا رُسُلهم، ﴿ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ ﴾ خَلاؤها منهم، وحلول عذابنا بهم، ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي: وقد حَسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة التي كانوا يعملونها ﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ أي صَرَفهم بذلك عن طريق توحيد الله تعالى والإيمان برُسُله، ﴿ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾ أي كان عندهم بصائر بمعرفة الحق من والباطل والخير من الشر - لأنّ رُسُلهم قد عَلَّمَتهم - ولكنهم فَضّلوا أهواءهم على عقولهم فهَلَكوا.
واعلم أنّ كلمة "مُستبصِرين" أصْلها "مُبصِرين"، والسِين والتاء هنا للتأكيد، مِثل كلمة "استكبر" بمعنى تَكَبَّر، و"استَحَبّ" بمعنى أَحَبّ، و"استجاب" بمعنى أجاب، (على العكس من السين والتاء التي تدل على الطلب)، مِثل كلمة "استغفر" بمعنى طَلَبَ المغفرة، و"استطعَمَه" بمعنى منه طلب الطعام.

الآية 39: ﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ﴾ أهلكناهم لمَّا كَذَّبوا موسى، ﴿ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ أي بالأدلة الواضحة على صِدق رسالته، (فأمَّا ما جاءَ به موسى من الآيات إلى فرعون وهامان: فهي المعجزات التسع التي تحداهم بها، وأمّا ما جاء به موسى لقارون فهو نَهْيه عن الظلم والتكبر على الناس)، (واعلم أنّ قَارون مِن بني إسرائيل، ولكنه كَذَّبَ موسى)، ﴿ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي تعاظَم قارون وفرعون وهامان في أرض مصر، وتكَبَّروا عن تصديق موسى واتِّباعه، ﴿ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴾ أي: ما كانوا ليفوتوا مِنّا ويَهربوا، بل كنا قادرينَ عليهم فأهلكناهم.

الآية 40: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ﴾يعني أخذنا كل واحد من المذكورين بعذابنا (بسبب شِركهم وذنوبهم)، ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ﴾ أي حجارة صَلبة شديدة الحرارة (وهم قوم لوط)، (ويُحتمَل أن يكون المقصود بالحاصب هنا: الريح الشديدة التي تحمل الحَصباء - وهي الحَصا الصغار - وعلى هذا يكون المقصود هنا قوم عاد وليس قوم لوط، باعتبار أن قوم لوط قد ذُكِرَ عذابها تفصيلاً في الآيات السابقة، واللهُ أعلم)، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ﴾ كثمود وقومشعيب، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ ﴾ كقارون، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ﴾ كقوم نوحوقوم فرعون، ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾ ويُهلكهم بغير ذنب، ﴿ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ بكفرهم ومَعاصيهم، وتَنَعُّمهم بنِعَم ربهم وعبادتهم غيره (فبذلك استحقوا العذاب).

الآية 41: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ ﴾ يعني: مَثَلُ الذين اتّخذوا آلهةً باطلة، يَرجونَ نَصرها مِن دون الله تعالى ﴿ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ﴾ يعني كمثل أنثى العنكبوت التيصنعتْ لنفسها بيتًا ليَحفظها، فلم يَنفعها عند حاجتها إليه، (فكذلكالمشركون، يَعبدون أصنامهم، راجينَ نفعها وشفاعتها لهم عند ربهم، فلم تنفعهم حين نزل بهم العذاب)، ﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ ﴾ يعني أضعف البيوت وأحقرها شأناً ﴿ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ أي: لو كانوا يعلمون أنّ آلهتهم الباطلة لا تنفعهم بشيء - كما لم ينفع العنكبوت بيتها بشيء - ما اتّخذوهم أولياء من دون الله، الذي بيده كل شيء.
ومِن لطيف ما يُذكَر أنّ العِلم قد اكتشف حديثاً أنّ التي تَبني بيت العنكبوت هي أنثى العنكبوت وليس الذَكَر، وهذا ما صَرَّحَ به القرآن في لفظ: (اتَّخَذَتْ بَيْتًا)، إذ التاء المذكورة هي تاء التأنيث.

الآية 42: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ يعني إنّ الله سبحانه يَعلم ما يُشركون به من الآلهة المزعومة، التي ليست بشيءٍ في الحقيقة، بل هيمجرد أسماء سَمَّوها آلهة، لا تنفعهم ولا تضرهم، ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الْعَزِيزُ ﴾ في انتقامه مِمّن أشرك به، ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ في تدبيره وصُنعه.

الآية 43: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ ﴾ - كمَثَل الآلهة الباطلة وبيت العنكبوت - ﴿ نَضْرِبُهَا ﴾ أي نجعلها ﴿ لِلنَّاسِ ﴾ ليَنتفعوا بها ويتعلموا منها، ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ يعني: وما يَعقل الحكمة من هذه الأمثال إلاالعالِمونَ بآيات الله وشَرْعه.

الآية 44: ﴿ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ أي خَلَقهم سبحانه ليُذكَرَ فيهما ويُشكَر، وليَستدِل بهم العباد على عَظَمة خالقهم، وعلى قدرته على إحياء الموتى(لأنّ ذلك أهْوَنُ عليه مِن خَلْق السماوات والأرض)، وبأنه الخالق القادر المستحق وحده للعبادة،﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ.


الآية 45: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ: أي اقرأ أيها الرسول ما أوحاه اللهُ إليك من القرآن (تَعَبُّداً به، وتعليماً للمؤمنين، ودعوةً للناس إلى ربهم)، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ يعني أَدِّها بشروطها وأركانها، في خشوعٍ واطمئنان ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ يعني: إنّالصلاة الخاشعة تَنهى صاحبها عن الوقوع في المعاصي; لأنّالمُحافِظ الصلاة الخاشعة يَستنير قلبه، ويزداد إيمانه، وتَقوىرغبته في الخير، وتنعدم رغبته في الشر، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ: يعني إنّ ذِكر الله تعالى - في الصلاة وغيرها -أعظم وأفضل من كل شيء، ((ويُحتمَل أيضاً أن يكون المعنى: أنّ ذِكر الله تعالى، بالقلب واللسان في كل الأحيان، أكبر (في النهي عن الفحشاء والمنكر) من الصلاة، واللهُ أعلم)، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ وسيُجازيكم على أعمالكم.
فإذا قال قائل: (إنّ صلاتي لا تَنهاني عن الفحشاء والمُنكَر، فما السبب؟).
السبب أنك لم تُصَلِّ الصلاة التي يُحبها ربُنا ويَرضاها حتى تنهاك عن الفحشاء والمنكر.
هذا، وقد ذكَرَ العلماء بعض المعاني الإيمانية التي تعينك على أداء صلاة خاشعة بإذن الله تعالى، فمِن هذه المعاني: حضور القلب (وذلك بأن تجعل هَيْبَةَ اللهِ ومَحبته تقهر جميع المَحَابّ والمَهَامّ التي في قلبك)، ومِنها: الحَيَاء (وذلك بأن تستشعر أنك مملوءٌ بالنعم، وفي نفس الوقت مملوءٌ بالذنوب)، ونَضرب على ذلك مثالاً: (فقد اكتشف الطب حديثاً - بالمِجهَر الإلكتروني - أنَّ العين تحتوي على (500 مليون خلية) حتى تستطيع الإبصار، ثم تأخذُ أنت هذه الـ (500 مليون خلية)، وتنظر بها إلى ما حَرَّمَهُ اللهُ) (يعني تعصَاه بنعمته).
ومِنها: الحب (وذلك بأن تستشعر نِعَم الله تعالى عليك، وإمهاله لك، وتوفيقك لطاعته، رغم كثرة ذنوبك)، ومِنها: الافتقار إلى الله تعالى (بمعنى أن تتبرأ من حَولِك وقوتك إلى حَول الله وقوته)، ومنها: التعظيم (وذلك بأن تستشعر قول الله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ﴿وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ﴿وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾، وكذلك تستشعر قوله تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) أي نقتلعها مِن أماكنها، ثم نجعلها هباءً منثوراً، (فحينئذٍ تستشعر أنّ جنايتك عظيمة، لأنك عصيتَ عظيماً، وهو عليك قادر).
فعليك أخي الحبيب - حتى تنهاك صلاتك عن المعاصي - أن تصلي لربك بحُبٍّ ورجاء، وذُلٍّ وتعظيم، وخوفٍ وحياء.


 

 

الآية 46: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ - وهُم اليهود والنصارى - فلا تجادلوهم في الدين ﴿ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني إلا بأحسن طُرُق المُجادَلة (مِن الرِفق واللِين والقولالجميل، والدعوة إلى الحق بأيسر الطرق الموصلة لذلك، وتَجنُّب الغضب أثناء الجدال) ﴿ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ: يعني إلا الذين أعلَنوا الحرب عليكم، فهؤلاء قاتِلوهم حتى يؤمنوا أو يَدفعوا لكم الجِزْيَةَ التي تفرضونها عليهم، (واعلم أنّ الجِزْيَة هي قَدْر مالي مُحَدَّد يَدفعه أهل الكتاب لِوُلاة أمور المسلمين في كل سنة مقابل حمايتهم)، ﴿ وَقُولُوا لأهل الكتاب: ﴿ آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا (وهو القرآن) ﴿ وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ (وهي التَوراة والإنجيل)، ﴿ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ (وهو اللهُ الواحد الأحد الصمد، الذي لا شريكَ له ولا ولد) ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي خاضعونَ له بالطاعة والانقياد.

الآية 47، والآية 48: ﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ يعني: وكما أنزلنا الكتب على الرُسُل التي قبلك أيها الرسول، فكذلك أنزلنا إليك هذاالكتاب الموافق للكتب السابقة (فهو مُصدقٌ لما فيها مِن صِحَّة، ومُبيِّنٌ لِما فيها من تحريف)، ﴿ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن بني إسرائيل (كعبد الله بن سَلام وأصحابه) ﴿ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي يؤمنون بالقرآن (لأنهم عرفوهحق معرفته)، ﴿ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يعني: ومِن هؤلاء العرب - من قريش وغيرهم - مَن يؤمن بالقرآن، (ويُحتمَل أن يكون المقصود: ومِن هؤلاء المشركين مَن سيُؤمن بالقرآن مُستقبَلاً، وبالفِعل، فقد آمَنَ كثيرٌ منهم)، ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ أي: لايُنكر القرآن وبراهينه الواضحة إلا الجاحدونَ المُعانِدون.

♦ ومِن مُعجزاتك أيها الرسول أنك: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ يعني إنك لم تقرأ كتابًا قبل نزول القرآن عليك، ولم تكن تكتب حروفًا بيمينك(لأنك لا تعرف القراءة ولا الكتابة)، ولو كنتَ قارئًا أو كاتبًا مِن قبل أن يُوحَى إليك ﴿ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ: أي لَشَكَّ هؤلاء المُعانِدونَ (الذين يريدون إبطال نُبُوّتك)، ولَقالوا: تَعَلَّمه مِن الكتب السابقة (ولكنهم يَعلمون أنك نشأتَ بينهم أُمِّيّاً، وكذلك أهل الكتاب يَجدون في كُتُبهم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لا يَكتب ولا يَقرأ)، فلذلك لم يَبقَ لهم ما يَحتجّون به، فللهِ الحمدُ والمِنّة.

الآية 49: ﴿ بَلْ هُوَ أي القرآن ﴿ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ - أي واضحات الدِلالة - ﴿ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: أي يَحفظه العلماء في صدورهم، ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (وهم الذين يَعلمون الحق ثم يميلون عنه، لأنه لا يوافق أهوائهم الفاسدة).

♦ ويُحتمَل أن يكون المقصود مِن قوله تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ يعني: بل الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته مذكورة في بعض آيات التوراة والإنجيل، محفوظة في صدور علماء أهل الكتاب، ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا ﴾ التي في التوراة والإنجيل والقرآن ﴿ إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ وهم المادِّيون من اليهود والنصارى، الذين يأكلون ويَترأّسون على حساب الحق والعياذ بالله.

الآية 50: ﴿ وَقَالُوا أي قال المُشركون: ﴿ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ: يعني: هَلاَّ جاءته مُعجزات مَحسوسة مِن عند ربه (كَعَصا موسى وناقة صالح)، ﴿ قُلْ لهم أيها الرسول: ﴿ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ: يعني إنما هذه المُعجزات مِن عِند الله تعالى،فهو القادر على المَجيء بها إذا شاء، أما أنا فلا أملك ذلك، ﴿ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ: أي أخوّفكم مِن عذاب اللهِ تعالى إن لم تؤمنوا، ﴿ مُبِينٌ يعني أوضِّح لكم طريق الحق من الباطل.

الآية 51: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ: يعني ألم يَكْفِ هؤلاء المشركين - ليَعلموا صِدقك أيها الرسول - ﴿ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ (ليتفكروا في حُجَجه وأدلته وقوة بيانه وبلاغته؟!) ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ أي في هذا القرآن ﴿ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي رحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة،وذِكرى يتذكرون بما فيه من عِبَر ومَواعظ.

الآية 52: ﴿ قُلْ لهم: ﴿ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا أي شاهداً على صِدق رسالتي، فشهادته تعالى لي بالنُبُوّة هي ماأعطاهُ لي من المُعجِزات الباهرات (كانشقاق القمر وغير ذلك)، وكذلك وَحْيُهُ إليَّ بهذا القرآن الذي أُنذِرُكُم به، والذي لا يستطيعُ أن يقوله بَشَر، وأنتم تعلمون ذلك لأنكم أبْلغ البَشَر.

وهو سبحانه ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (ومِن ذلك عِلْمه سبحانه بتكذيبكم بهذا الحق الواضح الذي أرسَلني به إليكم)، ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ - رغم هذه الأدلة الواضحة على استحقاق الله وحده للعبادة- ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الذين استبدلوا النعيم المُقيم بالعذاب الأليم.

الآية 53: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ أي يَستعجلك كفار قريش بالعذاب الذي أنذرتَهم به (استهزاءً وتكذيباً)، ﴿ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ يعني: ولولا أنّاللهَ جعل لعذابهم وقتًا معلوماً لا يتقدم ولا يتأخر، لَجاءهم العذاب حينطلبوه ﴿ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً أي فجأة ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ - سواء في الدنيا أو فيالآخرة - فقد جاءهم عذاب بدر فجأة، كما قال تعالى:﴿ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ﴾،وكذلك سيأتيهم عذاب النار فجأة، كما قال تعالى: ﴿ بَلْ تَأْتِيهِمْ ﴾ أي النار ﴿ بَغْتَةً ﴾ أي فجأة ﴿ فَتَبْهَتُهُمْ ﴾ أي يَتحيَّرون عند ذلك ويَخافون ﴿ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ﴾ ﴿ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ أي لا يُمْهَلون للتوبة والاعتذار.

الآية 54، والآية 55: ﴿ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ - وهو آتيهم لا مَحالة - ﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ إذ تَضِيقُ عليهم ضِيقاً شديداً، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ﴾ (أي: دَعَوا على أنفسهم بالهلاك)، ويُغَطِّيهم عذابها مِن فوق رؤوسهم ومِن تحت أقدامهم، كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وتُفَصَّل لهم ثيابٌ من نار تغطي أجسادهم، كما قال تعالى: ﴿ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَار ﴾، ﴿ وَيَقُولُ اللهُ لهم وهم يُعَذَّبون: ﴿ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: أي ذوقوا جزاءَ ما كنتم تعملونه من الشِرك والمعاصي، (أَعَاذَنا اللهُ وإخواننا المؤمنينَ من جهنم).

الآية 56، والآية 57: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (والمَعنى: إن كنتم أيها المؤمنون في ضِيقٍ من إظهار الإيمان وعبادة الله وحده،فهاجِروا إلى أرض الله الواسعة، ولا ترضوا بالبقاء مع الكفار حتى لا يُجبروكم على عبادة غيري).

♦ ولا يَمنعكم الخوف من الموت ألاَّ تهاجروا في سبيلي، فـ ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ أي ستذوق مَرارة مُفارقة الروح للجسد (سواء المهاجر أو غيره) ﴿ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ فنُثِيبكم على هِجرتكم وصَبركم، بمختلف أنواع النعيم في الجنة.

الآية 58، والآية 59: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ - بإخلاصٍ للهِ تعالى، وعلى النحو الذي شَرَعه - ﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا يعني: لَنُسكِننَّهم من الجنة غُرَفًا عالية ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أي تجري أنهار الماء واللبن والعسل والخمر من تحتها ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا (فحياتهم فيها أبديةٌ، وفرْحَتهم فيها لا توصَف)، ﴿ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ يعني نِعْمَ جزاءُ العاملينَ بطاعة الله: هذه الغرف في جنات النعيم.

♦ ومِن صفات هؤلاء المؤمنين أنهم هم ﴿ الَّذِينَ صَبَرُوا على أوامر اللهِ تعالى لهم - وإن كانت مُخالِفةً لِهَواهم -﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي يَعتمدون على ربهم وحده، فبذلك استحقوا هذه المَنزلة العظيمة.

الآية 60: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ يعني: وكثير من الكائنات ﴿ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي لا تدَّخر غِذاءها للغد كما يفعل ابن آدم، ومع ذلك فـ ﴿ اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ أي يرزقها سبحانه كما يرزقكم، فيُسَخِّر لها الأسباب، ويُهيئ لها الفرص فتأكل وتشرب كما يأكل الأقوياء القادرين، (إذاً فلا عذر لمن تَرَكَ الهجرة خوفاً من الجوع والفقر)، ﴿ وَهُوَ سبحانه ﴿ السَّمِيعُ لأقوالكم (ودعائكم له بتوسعة رزقكم)، ﴿ الْعَلِيمُ بأحوالكم وأفعالكم وخواطر قلوبكم فاحذروه.

الآية 61: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعني: وإنْ سألتَ أيها الرسول هؤلاء المشركين: ﴿ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ على هذاالنظام البديع المُتقَن ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ذَلَّلَهما لمنافع العباد: ﴿ لَيَقُولُنَّ: ﴿ اللَّهُ هو الذي فعل ذلك وحده، ﴿ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يعني: فكيف يُصرَفون عن توحيد الله تعالى - خالق كل شيء ومُدَبِّره - ويعبدون معه غيره؟!

الآية 62: ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يُوَسِّع الرزق ﴿ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴿ وَيَقْدِرُ لَهُ أي: ويُضَيِّقه سبحانه على مَن يَشاءُ منهم (فالتصرّف كله بيديه سبحانه، وله الحِكمةُ البالغة في تضييق الرزق وتوسعته؛ لأنه سبحانه الأعلمُ بما يُصلِح عباده مِن الفقر والغنى) ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

♦ واعلم أنّ هذه الآية قد نزلتْ رَدّاً على المشركين الذين قالوا لفقراء المؤمنين: (لو كنتم على الحق لم تكونوا فقراء)، وهذا تمويه منهم، إذ في الكافرين فقراء أيضاً.

♦ واعلم أيضاً أن هذا التضييق يكون في مصلحة المؤمن (لأنه يكون تكفيراً لذنوبه أو رَفعاً لدرجاته)، ولعل هذا هو السبب في أن الله تعالى قال: (وَيَقْدِرُ لَهُ) أي يضيقه له (يعني لمصلحته)، ولم يقل: (وَيَقْدِرُ عليه)، واللهُ أعلم.

الآية 63: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ - أيها الرسول -: ﴿ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴿ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا أي: أخرج به النبات من الأرض (بعد أن كانت يابسة لا خيرَ فيها)؟، ﴿ لَيَقُولُنَّ مُعترفين: ﴿ اللَّهُ هو الذي فعل ذلك وحده، ﴿ قُلِ: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أظهر حُجَّته عليهم ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ أي لا يُمَيِّزون بين الحق والباطل، إذ لو عَقَلوا: ما أشركوا مع الله غيره.


الآية 64، والآية 65، والآية 66: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا في غالب أحوالها ﴿ إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي تلهو بها القلوب وتلعب بها الأبدان) لِما فيها من الزينة والشهوات)، ثم تزول سريعًا، ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ أي هي الحياة الحقيقية التي لا موتَ فيها ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ يعني: (لو كان الناس يعلمون ذلك، مافَضَّلوا دار الفَناء على دار البقاء).

♦ ثم أعطى سبحانه للمشركين دليلاً على توحيده (بشعورهم الفِطري) عند ركوبهم السفن في البحر قائلاً: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ: يعني إذا ركبوا السفن، وارتفعت الأمواج مِن حولهم وخافوا من الغرق: ﴿ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يعني أخلصوا له في الدعاء حتى يَكشف عنهم شدتهم، ونسوا حينئذٍ شركائهم، ﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ وزالت عنهم الشدة: ﴿ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ أي عادوا إلىشِركهم، فأشرَكوا بربهم المُنْعِم عليهم بالنجاة وعَبَدوا معه غيره (إنهم بذلك يُناقضون أنفسهم، إذ يُوَحّدون اللهَ ساعة الشدة، ويُشركون به ساعةالرخاء) ﴿ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ أي: لتكون عاقبتهم أن يَجحدوا بما آتاهم اللهُ مِن النعم (ومنها كَشْف البلاء عنهم) فيَستحقوا العذاب، ﴿ وَلِيَتَمَتَّعُوا أي: ليُكملوا تَمَتُّعهم في هذه الدنيا ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة شِركهم وعِصيانهم (وفي هذا تهديدٌ ووعيدٌ لهم).

الآية 67: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا: يعني ألم ير كفار مكة أنّ اللهَ جعل لهم مكة حَرَمًا آمنًا، يأمَن فيه أهلهاعلى أنفسهم وأموالهم ﴿ وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أي يُتَخَطَّفون خارج الحرم (غير آمنينَ على أنفسهم من القتل والأسر والسرقة)،﴿ أَفَبِالْبَاطِلِ - وهو الشِرك - ﴿ يُؤْمِنُونَ؟! ﴿ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ التي خَصَّهم بها - وهي الأمن في الحرم - ﴿ يَكْفُرُونَ فيعبدون غير المُنعم سبحانه؟!

الآية 68: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ يعني: ومَن أشدُّ ظلمًا ﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فزَعَمَ أنّ له شركاء فيالعبادة ﴿ أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم؟! ﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ: يعني أليس في النار مَسكنٌ لمن جحدوا توحيد الله تعالى، وكَذَّبوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم؟! (بلى، فإنّ جهنم هي بئس المُستقَرّ لهم).

الآية 69: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا أي جاهَدوا أعداء الله تعالى، وجاهَدوا النفس والهوى والشيطان، وصبروا على الفتنوالإيذاء في سبيل الرحمن: ﴿ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا: أي سوف يَهديهم الله طرق الخير الموصلة إلى جنته، ويُثبّتهم على الطريق المستقيم، وينصرهم على أعدائهم، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (الذين يراقبون ربهم في كل شؤونهم، ويجاهدون أعداءه المشركين، ويجاهدون كل ما يُوَسوِس لهم ويُعَطِّلهم عن الوصول إلى جنته)، فهو سبحانه معهم بالحفظ والعون والتوفيق والنصر على هؤلاء الأعداء.

♦ واعلم أنّ الإحسانَ قد قال عنهالنبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مُسلِم -: "أن تعبد اللهَ كأنك تراه،فإن لم تكن تراهُ، فإنه يَراك"، فالإحسان يَتناول المَعنَيَيْن: (التقوى وإتقان العمل) لأنّ مَن راقبَ اللهَ تعالى، أتقَنَ عمله وحَسَّنه.

♦ ومِن لطيف ما يُذكَر هنا أنّ أحد السلف كان يقول: (ظللتُ أجاهد شهوتي، حتى أصبحتْ شهوتي: المجاهَدة)، والمعنى أنّ مُجاهَدته غلبتْ شهوته، حتى أصبح يتلذذ بهذه المجاهَدة.



من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرةمن (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير. واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذاالأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

رامى حنفى محمود
شبكة الألوكة
 
العنكبوت, تفسير, سورة

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×