اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تحصينات الإنسان ضد الشيطان

المشاركات التي تم ترشيحها

تحصينات الإنسان ضد الشيطان
الإخلاص

 

إن تحقيق الإخلاص هو سبيل الخلاص من الشيطان باعترافه هو؛ حيث يقول تعالى على لسانه: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 39، 40]، فقد اعترف الشيطان بعجزه عن إغواء المخلصين.

 

فمن المخلص؟ هو الذي يعمل، ولا يحب أن يحمده الناس[1].

وقال يعقوب المكفوف: من يكتم حسناته، كما يكتم سيئاته.

 

وما الإخلاص؟

قال سهل: الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى.

وقال إبراهيم بن أدهم: الإخلاص صدق النية مع الله.

وقال أبو عثمان: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.

وقيل: الإخلاص دوام المراقبة، ونسيان الحظوظ كلها.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»[2]؛ رواه النسائي وصححه الألباني[3].

وقال الجنيد: إن لله عبادًا عقلوا، فلما عقلوا علموا، فلما علموا أخلصوا، فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع، ولما كان الإخلاص حصنًا حصينًا يعصم الإنسان من كيد الشيطان، فقد عمل الشيطان بكل قواه، وبجميع حيله ليخرج الإنسان من حصن الإخلاص.

 

وإليك هذا المثال الذي يوضح هذه الحقيقة:

يقول الغزالي رحمه الله: إن الشيطان يدخل الآفة على المصلِّي وإن حاول الإخلاص فيها، فإذا نظر إليه جماعة أو دخل عليه داخل، فيقول له: حسِّن صلاتك حتى ينظر إليك هذا الحاضر بعين الوقار والصلاح، ولا يزدريك، ولا يغتابك فتخشع جوارحه، وتسكن أطرافه، وتحسن صلاته، وهذا هو الرياء الظاهر، وهذه الدرجة الأولى.

 

الدرجة الثانية:

يكون العبد قد فهِم هذه الآفة وأخذ منها حذرَه، فصار لا يطيع الشيطان فيها، ولا يلتفت إليه، ويستمر في صلاته كما كان، فيأتيه في معرض الخير، ويقول له: أنت متبوع ومقتدى بك، ومنظور إليك، وما تفعله يؤثر عنك، ويتأسى بك غيرك، فيكون لك ثواب أعمالهم إن أحسنت، وعليك الوزر إن أسأت، فأحسِن عملك بين يديه، فعساه يُقتدي بك في الخشوع وتحسين العبادة، وهذا أخطر من الأول، وقد ينخدع به من لا ينخدع بالأول، وهو أيضًا عين الرياء ومبطل للإخلاص، فإنه إن كان يرى الخشوع وحسن العبادة خيرًا لا يرضى لغيره تركه، فلماذا تركه في الخلوة؟! وهل يمكن أن تكون نفس غيره أعز عليه من نفسه؟! فهذا محض التلبيس.

 

الدرجة الثالثة:

وهي أدق مما قبلها أن يجرِّب العبد نفسه في ذلك، ويتنبه لكيد الشيطان، ويعلم أن مخالفته بين الخلوة والمشاهدة للغير محض الرياء، ويعلم أن الإخلاص في أن تكون صلاته في الخلوة مثل صلاته في الملأ والمشاهدة، ويستحيي من ربه أن يتخشع لمشاهدة خلقه تخشعًا زائدًا على عادته، فيقبل على نفسه في الخلوة، ويُحسن صلاته على الوجه الذي يرضيه في الملأ، ويصلي في الملأ أيضًا كذلك، فهذا أيضًا من الرياء الغامض؛ لأنه حسن صلاته في الخلوة لتحسن في الملأ، فلا يكون قد فرق بينهما، فالتفاته في الخلوة والملأ إلى الخلق.

 

بل الإخلاص أن تكون مشاهدة البهائم صلاته ومشاهدة الخلق على وتيرة واحدة، فكأن نفس هذا لا تسمح بإساءة الصلاة بين أظهر الناس، ثم يستحيي من نفسه أن يكون في صورة المرائين، ويظن أن ذلك يزول بأن تستوي صلاته في الخلاء والملأ، وهيهات بعد زوال ذلك بألا يلتفت إلى الخلق، كما لا يلتفت إلى الجمادات في الخلاء والملأ جميعًا.

 

وهذا من شخص مشغول الهمِّ بالخلق في الملأ والخلاء جميعًا، وهذا من المكايد الخفية للشيطان.

 

الدرجة الرابعة:

وهي أدق وأخفى، وهي أن ينظر الناس إليه وهو في صلاته، فيَعجِز الشيطان عن أن يقول له: اخشع لأجلهم، فإنه قد عرف أنه تفطَّن لذلك، فيقول له الشيطان: تفكر في عظمة الله وجلاله، ومن أنت واقف بين يديه، واستحي من أن ينظر الله إلى قلبك وهو غافل عنه، فيحضر بذلك قلبه وتخشع جوارحه، ويظن أن ذلك عين الإخلاص، وهو عين المكر والخداع، فإن خشوعه لو كان لنظره إلى جلاله، لكانت هذه الخطرة تلازمه في الخلوة، ولكان لا يختص حضورها بحالة حضور غيره.

 

وعلامة الأمن في هذه الآفة: أن يكون هذا الخاطر مما يألفه في الخلوة كما يألفه في الملأ، ولا يكون حضور الغير هو السبب في حضور الخاطر، كما لا يكون حضور البهيمة سببًا، فما دام يفرق في أحواله بين مشاهدة إنسان أو مشاهدة بهيمة، فهو يعد خارجًا عن صفو الإخلاص مدنس الباطن بالشرك الخفي من الرياء، وهذا الشرك أخفى في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، ولا يسلم من الشيطان إلا من دق نظره، وسعد بعصمة الله وتوفيقه وهدايته؛ ا.هـ (ملخصًا)[4].

فينبغي على العبد أن يتفقد أحواله قبل العمل وأثناءه لينظر: هل دافعه إلى العمل هو إرادة وجه الله فقط أم هناك دافع آخر في حظوظ النفس وأهوائها؟

 

كمن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب، أو يحج ليتنزه، أو يصلي بالليل وله غرض في دفع النعاس عن نفسه به؛ ليراقب أهله ورحله، أو يتعلم العلم ليكون عزيزًا بين الأهل والعشيرة، أو يعمل بالوعظ ليتلذذ بالكلام، أو يتصدق على سائل ليتخلص من ذمه، أو يعود مريضًا ليعاد إذا مرض، أو يشيع جنازة ليشيع جنائز أهله ويشيعها إرضاءً لأهل الميت.

 

وبالجملة: كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب قلَّ أم كثر، إذا تطرق إلى العمل تكدَّر به صفوه، وزال به إخلاصه، ولذلك كان الإخلاص من أشد الأعمال وأصعبها، ولا يكون هذا سببًا في ترك العمل، فإن ذلك هدف الشيطان وغايته، بل يجب عليك أن تجتهد في تنقية العمل ولا تتركه خوف الرياء.

 

كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ترك العمل من أجل الناس رياءٌ، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَميَّةً، ويقاتل رياءً؛ أي: ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ»[5]؛ رواه البخاري ومسلم، والترمذي والنسائي وابن ماجه، ولقد جمع الله كل ذلك في قوله: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5] [6].


[1] تفسير القرطبي (10 /28).

[2] حسن: رواه النسائي (6 /25)، وقال الحافظ في «الفتح» (6/28): إسناده جيد، وحسنه الألباني في «الصحيحة» رقم (52).

[3] صحيح الترغيب والترهيب (61).

[4] تخريج إحياء علوم الدين (2720).

[5] متفق عليه: رواه البخاري رقم (2810) في «الجهاد»، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ومسلم رقم (1904) في «الإمارة»، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

[6] من أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى محاضرة (كيف تكون مخلصًا).


>>>>>>>>>>>>>>>>>>

 

تحصينات الإنسان ضد الشيطان
الاستعاذة


يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى، والالتصاق بجنابه من كل ذي شر، ومعنى «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»؛ أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني، أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أُمرت به، أو يحثني على فعل ما نُهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله، ولهذا أمر بالاستعاذة من شيطان الجن؛ لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه؛ اهـ ملخصًا[1].

 

مواضع الاستعاذة:

أولًا: عند الإحساس بنزغات الشيطان ووساوسه:

قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 200].

 

ثانيًا: عند تلاوة القرآن:

قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98]، ويُبين ابن القيم رحمه الله الحكمة في ذلك فيقول:

1- منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب ما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أمره فيها الشيطان، فأمر أن يطرد مادة الداء ويخلي منه القلب؛ ليصادف الدواء محلًّا خاليًا، فيتمكن منه ويؤثر فيه، فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب وقد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه.

 

2- ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أن الماء مادة النبات، والشيطان يحرق النبات أولًا فأولًا، فكلما أحس بنبات الخير من القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه؛ لئلا يفسد عليه ما يحصل له القرآن.

 

والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها.

 

3- ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع لقراءته، كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح، فقال عليه الصلاة والسلام: «تِلْكَ المَلَائِكَةُ»[2]، والشيطان ضد الملك وعدوه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه، حتى يحضر خاص ملائكته، فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين.

 

4- ومنها: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورَجْله حتى يشغله عن المقصود بالقرآن وهو تدبُّره وتفهُّمه، ومعرفة ما أراد به المتكلم سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحولَ بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله عز وجل منه.

 

5- ومنها: أن القارئ يناجي الله تعالى بكلامه، والله تعالى أشد أذنًا للقارئ حسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة[3] إلى قينته، والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاة الله تعالى، واستماع الرب قراءته.

 

6- ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.

 

7- فإذا كان هذا فعله مع الرسل عليهم السلام فكيف بغيرهم، ولهذا يُغَلِّط القارئ تارة ويخلط عليه القراءة، ويشوشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوش عليه ذهنه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا، وربما جمعهما له فكان من أهم الأمور الاستعاذة بالله منه.

 

8- ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير ويدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفي «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ شَيْطَانًا تَفَلَّتَ عَلَيَّ البَارِحَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي... »[4]، كلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر.

 

وفي مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبي فاكهٍ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ»[5].

 

فالشيطان بالمرصاد للإنسان على طريق كل خير، فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوَّه الذي يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله تعالى منه أولًا، ثم يأخذ في السير، كما أنَّ المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه ثم اندفع في سيره؛ اهـ، مختصرًا[6].

 

ثالثًا: الاستعاذة عند دخول الخلاء:

فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبائِثِ»[7] متفق عليه.

 

رابعًا: الاستعاذة عند الدخول في الصلاة:

عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قال: «اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ثَلَاثًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وَهَمْزِهِ»[8]، رواه أبو داود، وصححه الألباني[9].

 

(نفخه): الكبر، و(نفثه): الشعر، و(همزه): الموتة، «الخنق أو الجنون».

 

وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها عليَّ، فقال صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ: خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا»، ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني[10].

 

ولكن بعض الناس يقولون: إنا نتعوذ بالله من الشيطان في الصلاة، ومع ذلك يظل يوسوس لنا ويشغلنا فيها.

والجواب: أن هذا يختلف من إنسان لآخر، فالمؤمن التقي بمجرد الاستعاذة يطرد الشيطان، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]، هؤلاء هم المتقون الذين يطردون الشيطان بمجرد الذكر.

 

أما ضعفاء الإيمان قليلو التقوى الذين شحنت قلوبهم بحب الدنيا، والانشغال بها، ولم يعد في قلوبهم مكان لذكر الله، لا يمكن أن يطردوا الشيطان بمجرد الاستعاذة كيف وقد باض الشيطان، وفرخ في قلوبهم، فلا بد أولًا من تطهيرها من قوت الشيطان ودنسه، وقوت الشيطان هو حب الدنيا.

 

أرأيت لو أن إنسانًا أحب امرأة وعشقها أتراه ينساها؟ لا، بل يفكر فيها دائمًا فتراه جالسًا معك بجسمه، وعقله هناك، كذلك عشاق الدنيا وسكارى الهوى لا يفارقهم ذكرها، ولو كانوا أمام ربهم وخالقهم في الصلاة، لا يفيق أحدهم إلا إذا اصطدم رأسه بجدار القبر، هناك تكون الصحوة الكبرى، واليقظة العظمى، نعوذ بالله من الغفلة.

 

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى»[11].

 

خامسًا: عند الغضب:

فقد استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن أحدهما ليتمزع أنفه من شدة الغضب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ»، فقالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»[12] متفق عليه.

 

سادسًا: عند نباح الكلاب ونهيق الحمير:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا»[13]، متفق عليه.

 

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكِلَابِ، وَنَهِيقَ الْحُمُرِ بِاللَّيْلِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ يَرَيْنَ مَا لَا تَرَوْنَ»[14] رواه أبو داود، وقال الألباني: صحيح بطُرُقِه[15].


[1] تفسير ابن كثير (1/ 15).

[2] متفق عليه: رواه البخاري (5018) في «فضائل القرآن»، باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، ومسلم (796) في صلاة «المسافرين»، باب نزول السكينة لقراءة القرآن.

[3] القينة: المغنية.

[4] متفق عليه: رواه البخاري رقم (461) في «الصلاة»، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد، ومسلم رقم (541) في «المساجد»، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة.

[5] صحيح: النسائي (6/ 21، 22) في «الجهاد»، باب ما لمن أسلم وهاجر وجاهد، ورواه أحمد في «المسند» (3/ 483)، وابن حبان في «صحيحه» (1601) «موارد الظمآن»، وهو في «صحيح الجامع» (1652).

[6] إغاثة اللهفان (1/ 94).

[7] متفق عليه: رواه البخاري رقم (142) في «الوضوء»، باب ما يقول عند الخلاء، ومسلم رقم (375) في «الحيض»، باب ما يقال إذا أراد دخول الخلاء.

[8] صحيح بشواهده: أبو داود رقم (764) في «الصلاة»، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، وفي سنده عاصم بن عمير العنزي؛ قال الحافظ في «التقريب» (3074): مقبول، ولكن للحديث شواهد بمعناه يرتقي بها إلى الصحة فلأوله شاهد عند مسلم رقم (601)، ولأخره شاهد عند أبي داود (775).

[9] تخريج الكلم الطيب (55).

[10] صحيح: أخرجه مسلم رقم (2203) في «السلام»، باب التعوذ من شيطان الوسوسة.

[11] متفق عليه: رواه البخاري رقم (608) في «الأذان»، باب فضل التأذين، ومسلم رقم (389) في «الصلاة» باب فضل الأذان.

[12] متفق عليه: رواه البخاري رقم (3282) في «بدء الخلق»، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم رقم (2610) في «البر والصلة» باب فضل من يمسك نفسه عند الغضب.

[13] متفق عليه: رواه البخاري رقم (3303) في «بدء الخلق»، باب خير مال المسلم، ومسلم رقم (2729) في «الذكر والدعاء» باب استحباب الدعاء عند صياح الديك.

[14] صحيح: أبو داود (5103) في «الأدب»، باب ما جاء في الديك والبهائم، ورواه أحمد في «المسند» (3/ 306)، ورواه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (1234)، وابن خزيمة في «صحيحه» رقم (2559) وهو في «صحيح الجامع» (620).

[15] تخريج الكلم الطيب (164).


الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
شبكة الالوكة

تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

تحصينات الإنسان ضد الشيطان
حفظ البصر


إن إطلاق البصر من أعظم مداخل الشيطان، ولذا كان غض البصر قاصمًا لظهر الشيطان قاطعًا لطمعه في الإنسان.

 

يقول ابن القيم رحمه الله: إن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان، ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والانشغال به، والفكر في الظفر به، فمبدأ الفتنة من فضول النظر؛ كما قال الشاعر:

كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدؤهَا مِنَ النَّظَرِ 
وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ 
كَمْ نَظْرَة فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا 
فَتْكَ السِّهَامِ بِلَا قَوْسٍ وَلَا وَتَرِ 

 

وقال آخر:

وكنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرفكَ 
رَائِدًا لِقَلْبِكَ يَومًا أَتْعَبَتكَ المَنَاظِرُ 
رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلَّه أَنْتَ قَادِرٌ 
عَلَيْه وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ 

 

وقال المتنبي:

وَأَنَا الَّذِي جَلَبَ المَنِيَّة طَرفهُ[1] *** فَمَنِ المطَالبُ، والقَتِيلُ القَاتِلُ؟!

 

ولي من أبيات[2]:

يَا رَامِيًا بِسِهَامِ اللَّحظِ مُجْتَهِدًا 
أَنْتَ القَتِيلُ بِمَا تَرْمِي فَلَا تُصب 
وَبَاعِثُ الطَّرف يَرْتَاد الشِّفاء لَهُ 
تَوَقَّهُ إِنَّه يَرْتدُّ بالعَطَبِ 
تَرْجُو الشِّفاءَ بِأَحْدَاقٍ بَهَا مَرَضٌ 
فَهَلْ سَمِعْتَ بِبُرْءٍ جَاءَ مِنْ عَطَب؟! 

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
 

ولما كان البصر جارًّا إلى المهالك، وجالبًا للمخاطر، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إطلاقه، فقال لعلي: «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا لَكَ الْأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ»[3]؛ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن غريب.

 

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما من نظرة إلا للشيطان فيها مطمع.

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ؛ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ»[4]؛ رواه مسلم والبخاري مختصرًا.

 

وعن جرير رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال: «اصْرِفْ بَصَرَكَ»[5]؛ رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح.

 

ولقد سد النبي صلى الله عليه وسلم على الشيطان كل منفذ، وأغلق في وجهه كل باب، فنهى عن الدخول على النساء، فقال: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ»، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ»[6]؛ رواه البخاري، ومسلم، والترمذي.

 

ثم قال الترمذي: ومعنى كراهية الدخول على النساء على نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» اهـ[7].

 

ونهى صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجنبية، فقال: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»؛ رواه البخاري ومسلم[8]، بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يصافح الرجل امرأة أجنبية، فقال: «لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأسِ رَجُلٍ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ»، قال الألباني: رواه الروياني بسند جيد[9].

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»[10].

 

ويحرم على المرأة أيضًا أن تنظر للرجل، قال ابن كثير رحمه الله: ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلًا؛ اهـ[11].

 

وقد شرع الله تبارك وتعالى الاستئذان من أجل البصر، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال اطَّلع رجل من جحر في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يحك به رأسه، فقال: «لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ البَصَرِ»[12]؛ رواه البخاري ومسلم.

 

وعن أنس رضي الله عنه أن رجلًا اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص - أو بمشاقص - فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه[13]؛ رواه البخاري.

 

وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي جَوْفِ بَيْتِ امْرِئٍ حَتَّى يَسْتَأذِنَ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ دَخَلَ»[14].

 

رواه البخاري في «الأدب المفرد»، وأبو داود، والترمذي وحسنه.

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ الْبَصَرُ، فَلَا إِذْنَ»[15] البخاري في «الأدب المفرد»، وأبو داود، وقال الحافظ: سنده حسن.

 

وروى البخاري في «الأدب المفرد» أيضًا عن نافع: كان ابن عمر إذا بلغ ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن؛ سنده صحيح[16].

 

وروي أيضًا عن عطاء قال: سألت ابن عباس: أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في حجري! قال: أتحب أن تراها عريانة؟![17]، وإسناده صحيح.

 

وفي «الصحيحين»، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ» فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها، فقال: «فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» فقالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ»[18].

 

ومن أجل البصر حرم دخول الحمام إلا بمئزر، فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتَّقُوا بَيْتًا يُقَالُ لَهُ الحَمَّامُ»، قالوا: إنه ينقي وينفع، قال: «فَمَنْ دَخَلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ»؛ صحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي، والألباني[19].

 

قال القرطبي رحمه الله: أما دخول الحمام في هذه الأزمان، فحرام على أهل الفضل والدين، لغلبة الجهل على الناس، واستسهالهم إذا توسطوا الحمام رمي مآزرهم حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائمًا منتصبًا وسط الحمام وخارجه، باديًا عن عورته ضامًّا بين فخذيه، ولا أحد يغير عليه، هذا أمر بين الرجال فكيف بالنساء؟! ولا سيما بالديار المصرية؛ إذ حماماتهم خالية من المظاهر التي هي عن أعين الناس سواتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ اهـ[20].

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»[21]، متفق عليه، ويقول: «اتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ»[22]؛ رواه مسلم.

 

وقيل: إن الشيطان يقول للمرأة: أنت نصف جندي، وأنت سهمي الذي أرمي به فلا أخطئ، وأنت موضع سري، وأنت رسولي في حاجتي.

 

وقال سعيد بن المسيب: ما آيس إبليس من أحد إلا وأتاه من قبل النساء.

 

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَت اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ»[23]؛ رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب.

 

فإذا وقع بصره على امرأة، فأعجبته، فليذهب إلى زوجته فليأتها؛ لكي يصرف شهوته في الحلال، وإذا كان غير متزوج، فعليه بالصيام، فإنه له وِجاءٌ، وليكن ذا عزيمة قوية وإيمان راسخ، فلا يضعف أمام الشهوات، فإنه إذا ضعف أمامها استعبدته واستذلَّته: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» فذكر منهم: «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»[24]؛ متفق عليه.

 

وروي عن سليمان بن يسار رحمه الله أنه خرج من المدينة حاجًّا، ومعه رفيق له، حتى نزلا بالأبواء فقام رفيقه وأخذ السفرة، وانطلق إلى السوق ليبتاع شيئًا، وجلس سليمان في الخيمة، وكان من أجمل الناس وجهًا، وأورعهم، فبصرت به أعرابية من قمة الجبل، فانحدرت إليه، حتى وقفت بين يديه، وعليها البرقع والقفازان، فكشفت عن وجه لها كأنه فلقة قمر، وقالت: أهْنئني، فظن أنها تريد طعامًا، فقام إلى فضلة السفرة ليعطيها، فقالت: لست أريد هذا، إنما أريد ما يكون من الرجل إلى أهله، فقال: جهزك إليَّ إبليس؟ ثم وضع رأسه بين ركبتيه، وأخذ في النحيب، فلم يزل يبكي، فلما رأت منه ذلك، سدلت البرقع على وجهها، وانصرفت راجعة، حتى بلغت أهلها، فجاء رفيقه فوجده يبكي، فسأله فأخبره، فجلس رفيقه يبكي بكاءً شديدًا، فقال سليمان: وأنت ما يبكيك؟ فقال: أنا أحق بالبكاء منك؛ لأني أخشى أن لو كنت مكانك ما صبرتُ.

 

فلما انتهى سليمان إلى مكة سعى وطاف، ثم أتى الحجر فاحتبى بثوبه، فأخذته عيناه فنام، وإذا رجل وسيم له شارة حسنة ورائحة طيبة، فقال له سليمان: رحمك الله من أنت؟ قال: أنا يوسف، قال: يوسف الصديق؟ قال: نعم، قال: إن في شأنك وشأن امرأة العزيز لعجبًا! فقال له يوسف: إن شأنك وشأن صاحبة الأبواء لأعجب!

 

والمقصود من هذا كله: أن إطلاق النظر يردي صاحبه ويهلكه.

 

ويحرُم أيضًا النظر إلى الصبي الأمرد، قال الغزالي رحمه الله: النظر إلى وجه الصبي بشهوة حرام، بل كل ما يتأثر قلبه بجمال صورة الأمرد؛ بحيث يدرك التفرقة بينه وبين الملتحي لم يحل النظر إليه؛ اهـ[25].

 

ولهذا كله قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ... ﴾ [النور: 30، 31].

 

يقول القرطبي رحمه الله: البصر هو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثرة السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضه عن جميع المحرمات؛ ا.هـ[26].

 

ولست أعني هنا غض البصر عن العورات فقط، بل أعني حفظ البصر عن جميع المحرمات كالنظر إلى المسلم بحقد أو بغيظ أو بحسد أو باحتقار... إلخ.


[1] الطرف: هو البصر.

[2] التفسير القيم (625).

[3] حسن: أبو داود رقم (2149) في «النكاح»، باب ما يؤمر به من غض البصر، والترمذي رقم (2777) في «الأدب»، ورواه أحمد في «المسند» (5/ 351)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 194) وصححه وأقره الذهبي، وحسَّنه الألباني في «صحيح الجامع» (7953).

[4] متفق عليه: رواه البخاري رقم (6243) في «الاستئذان»، باب زنا الجوارح، ومسلم رقم (2657) في «القدر»، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا.

[5] صحيح: رواه مسلم رقم (2159) في «الآداب»، باب نظرة الفجأة، والترمذي رقم (2776) في «الأدب»، وأبو داود (2148) في «الآداب»، ورواه أحمد في «المسند» (4/ 361).

[6] متفق عليه: رواه البخاري رقم (5232) في «النكاح»، باب لا يخلونَّ رجل بامرأة، ومسلم رقم (2172) في «السلام»، باب تحريم الخلوة.

[7] صحيح: الترمذي رقم (2165) في «الفتن»، باب ما جاء في لزوم الجماعة، وأحمد في «المسند» (1/ 18، 26)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (1116)، و«صحيح الجامع» (2546).

[8] متفق عليه: رواه البخاري رقم (3006) في «الجهاد»، باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجَّة، ومسلم رقم (1341) في الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج.

[9] حسن: انظر السلسة «الصحيحة» رقم (226).

[10] صحيح: رواه البخاري رقم (6474) في «الرقاق»، باب حفظ اللسان، والترمذي رقم (2409) في «الزهد»، باب ما جاء في حفظ اللسان.

[11] تفسير ابن كثير (3/ 283).

[12] متفق عليه: رواه البخاري رقم (6901) في «الديات»، باب من اطلع في بيت قوم، ومسلم رقم (2156) في «الآداب»، باب تحريم النظر في بيت غيره.

[13] متفق عليه: رواه البخاري رقم (6242) في «الاستئذان»، باب الاستئذان من أجل البصر، ومسلم رقم (2158) في «الآداب»، باب تحريم النظر في بيت غيره.

[14] صحيح: رواه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (1093)، والترمذي رقم (357) في «الصلاة»، وأحمد في «المسند» (5/ 280).

[15] حسن: أبو داود رقم (5173) في «الأدب»، باب في الاستئذان، ورواه البخاري في «الأدب» رقم (1089)، وأحمد في «المسند» (2/ 366)، وحسَّنه الحافظ في «الفتح»، وضعَّفه الألباني في «الضعيفة» رقم (2586) و«ضعيف الجامع» (484).

[16] صحيح: أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (1058)، وصحَّحه الألباني في «صحيح الأدب».

[17] صحيح: أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (1063)، وصحَّحه الألباني في «صحيح الأدب».

[18] متفق عليه: رواه البخاري رقم (6229) في «الاستئذان»، باب قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]، ومسلم رقم (2121) في «اللباس والزينة»، باب النهي عن الجلوس في الطرقات.

[19] صحيح: رواه الحاكم في «المستدرك» (4/ 288)، وصححه على شرط مسلم، وأقرَّه الذهبي والألباني في «صحيح الجامع» (116).

[20] تفسير القرطبي (12/ 224).

[21] متفق عليه: رواه البخاري رقم (5096) في «النكاح»، باب ما يتقى من شؤم المرأة، ومسلم رقم (2740) في «الذكر والدعاء»، باب أكثر أهل الجنة الفقراء.

[22] صحيح: رواه مسلم رقم (2742) في «الذكر والدعاء»، باب أكثر أهل الجنة الفقراء.

[23] صحيح: رواه الترمذي رقم (1173) في الرضاع، باب (18)، وهو في «صحيح الجامع» رقم (6690).

[24] متفق عليه: رواه البخاري رقم (660) في «الأذان»، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، ومسلم رقم (1030) في «الزكاة»، باب فضل إخفاء الصدقة.

[25] تخريج إحياء علوم الدين (1524).

[26] تفسير القرطبي (12/ 223).


 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×