اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير الشيخ الشعراوى( سورة االمائدة)

المشاركات التي تم ترشيحها

  • {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}

  • لقد كتب الحق على اليهود في التوراة التي وصفها من قبل بأنها هدى ونور، كتب وأوجب عليهم أن النفس بالنفس، وعلينا أن نأخذ كل أمر وما يناسبه من الحدث. أي أن النفس تُقتل بالنفس. ولكن عندما يقول الحق: {والعين بالعين}، فهل يعني ذلك أن تقتل العين؟ لا. ولكن العين نقلع مقابل عين. وكذلك {والأنف بالأنف}. أي الأنف المجدوعة، مقابل جدع أنف أخرى. وكذلك قوله الحق: {والأذن بالأذن} أي إصابة اذن بالصمم مقابل إصابة أذن بالصمم. إذن فلكل ما يقابله. فهناك النفس تقتل بالنفس وهناك العين تفقأ بالعين، وكذلك الأمر في جدع الأنف، وصلم الأذن.

  • إن تعبيرات اللغة واسعة تعطي لكل وصف ما يناسبه. فالإنسان مثلاً قد يكون جائعاً. ولكن إلى ماذا؟ إن كان جائعاً لطعام فهو جوعان. وإن أراد خصوصية أكل ويشتهيه كاللحم فلا يقال له: جوعان، ولكن يقال (قَرِم). وإن كان يشتهي اللبن يقال له: (عَيْمان)، وإن كان في حاجة للماء يقال له: (عطشان). وإن كان جائعاً للجنس فهو (شَبِق).

  • وذلك يكشف لنا أن الإنسانية تحتاج إلى أمور متعددة، وكل أمر له اسم. وكل شيء له تعبير. ومثال آخر: يقال: فلان جلس، أي قعد. وهذا في المعنى العام. ولكن الجلوس يكون عن اضطْجاعٍ. أما قعد، فهي عن قيام، أي كان قائماً وقعد. ولذلك قال الحق: {قِيَاماً وَقُعُوداً}.

  • ومثال آخر: يقال: (نظر) و(رمق) و(لمح)؛ وكل كلمة لها موقفها؛ فالنظر يكون بجميع عينيه. و(رَمِق) أي لحظ لحظا خفيفاً. و(لَمَح) أي اختلس النظر إليه. وكذلك قوله الحق معناه: أننا كتبنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفسن والعين مفقوءة بالعين، والأنف مجدوعة بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مخلوعة بالسن. وبعد ذلك يقول الحق عن الجروح: {والجروح قِصَاصٌ} لأن الجرح قد يكون في أي مكان. والقصاص يكون بمثله ومساوياً للشيء، وهو مأخوذ من قص الأثر؛ أي السير تبعاً لما سارت عليه القدم السابقة دون انحراف. ولما كان القصاص هو أمر مطلوب فيه المماثلة فذلك أمر صعب، صحيح أن الحق قال: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].

  • لكن القصاص أمر صعب، فالصفعة من يد جائع متهافتة بعكس الصفعة التي تأتي من يدٍ صاحبُها في منتهى النشاط والقوة. فكيف يكون القصاص مناسباً لقوة الذي فعل الفعل؟

  • إذن لا يصح أن يدخل الإنسان في متاهة. ويمكنه أن يتصدق بالقصاص فلا يأخذه. ونحن نعلم حكاية (تاجر البندقية) ذلك المرابي اليهودي الذي أقرض نقوداً مقابل رطل من لحم صاحب القرض، وكتب الاثنان لاتعاقد وجاءا بالشهود ولم يستطع الرجل أن يُسدّد المال في الميعاد ولكن القاضي أنار الله بصيرته.
  •  
  • فقال: خذ الرطل من لحم الرجل ولكن إن أنقصت أوقية فسنأخذها منك أو إن زدت أوقية فسنأخذها منك. فقال المرابي: لا أريد.
    وقد قنن الحق للجريمة، ولم يغلق سبحانه باب الطموحات الإيمانية، فقال: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُْ}. ومعنى (تصدق) أنه دفع وأعطى شيئا غير مستحق، ولا واجب عليه أي تبرع به ابتغاء وجه الله. إن الذي يتعب البشر في تقنيناتهم أنهم يطلبون إجراءات التقاضي، فساعة تقع جريمة يستمر التحقيق فيها بواسطة القضاء لأكثر من عام فتنبهت بشاعة الجريمة في النفس البشرية. ومن الواجب كذلك أن يكون الأمر لولي القصاص؛ لأنك إن مكنته أرضيت نفسه بأول شفاء. وساعة يُعطي الإنسان ذلك الحكم فقد يزهد فيه؛ لأن الأمر حين يكون في يده ويقدر على القصاص فمن المحتمل أن يعفو.
    وسيظل المتصدَّق عليه طيلة حياته يدين بحياته أو بجارحة من جوارحه لصاحب القصاص. وبدلاً من إيعازات الثأرات تنشأ المودة. وحين يشرع المشرع الأعلى يوضح لنا: لا تحكم بأنك دائماً معتدى عليك، بل تصور مرة أنك معتد، ألا تحب في مثل هذه الحالة أن يتصدق عليك صاحب القصاص؟ فإذا أرادت الحكومات لأن تنهي الثأرات فلهم في التشريع الأعلى الحكم الواضح.

  • وفي صعيد مصر، ساعة يُقتل إنسان نجد الذي عليه الثأر يأخذ كفته ويذهب إلى العائلة الطالبة للثأر، ولحظة يدخل عليهم حاملاً كفنه بيديه، تشفي النفوس من طلب الثأر. ويحيا، وصاحب الثأر متفضل عليه بالعيش {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} تكون الصدقة هنا من ولي القصاص. والفعل (تصدق) يحتاج إلى اثنين هما: (متصدِّق) و(متصدَّق عليه). وسبحانه الحق يكفر عن المتصدق من الذنوب بقدر ما تسامح فيه لأخيه، وهنا يحنن الله الخلق بعضهم على بعض؛ لذلك تأتي المسألة هنا من ناحية صاحب القصاص لترغبه في التصدق.
  • وينهي الحق الآية بقوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} وعرفنا من قبل ضرورة الحكم بما أنزل الله.
  • image.png.0fce25975b6fedc87df8f7a9b0d212f9.png

  •  

  • {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)}

  • وقفينا أي اتبعنا، فعيسى جاء من بعد موسى، فعندما يمشي رجل خلف رجل نجد أن قفا الأول يكون في وجه الثاني. وعندما يقول الحق: {وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مصدقاً لموسى الذي جاء بالتوراة. {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدًى وَنُورٌ}. وعرفنا أن (الهدى والنور) يناسبان البيئة التي نزلت إليها تلك الهداية وذلك النور.
     

  • إن هناك مقولات اسمها (المقولات الإضافية)، كأن يقول إنسان في قرية لابنه: أشعل الضوء. ويشعل الولد المصباح الكيروسيني؛ أما إذا قال إنسان في مدينة لابنه: أضيء النور، فالابن يضغط على الزر ليضيء المصباح الكهربائي. وهذه الإضافات قد تجعل اللفظ يحمل معنيين. ومثال آخر أكثر وضوحاً: يسكن الإنسان في منزل ما، ويعرف أن السقف عال بالنسبة له، ولكنه أرض بالنسبة لأصحاب الدور الثاني، إنه علو وسفل وهذا هو المعنى الإضافي. وكذلك عندما نقول: فلان ابن فلانن فهذا لا يمنع أن هذا الابن يكون أباً بالنسبة لابنه.
     

  • إذن {هُدًى وَنُورٌ} هي معان إضافية. وكل (هدى ونور) يناسب البيئة التي نزل يفيها. فالبيئة المادية الأولى كانت في حاجة إلى تقنين؛ لذلك جاءت التوراة، ومن بعد ذلك صارت هذه البيئة المادية في حاجة إلى طاقة روحية؛ لذلك جاء الإنجيل بكل الروحانيات، وعندما سئل عيسى ابن مريم عليه السلام في قضية الميراث قال: أنا لم أرسل مورثاً، فهو يعلم أنه جاء بشحنة روحية فيها مواجيد ومواعظ.

  •  

  • image.png.3f7cf0cb4195924bdf4ffff27625ee30.png
     


  • {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}
     

  • والحق أنزل في الإنجيل أن الأحكام تؤخذ من التوراة. أي أن الإنجيل تضمن إلى جانب روحانياته أسس الأحكام الموجودة في التوراة. ولذلك أوضح الحق: من لم يحكم بما أنزل الله فهو فاسق مادام قد خرج على الطاعة. فإن خرج أحد على الطاعة في أمر الألوهية والربوبية فهو كافر. ومن خرج على الأحكام بالنسبة للحكم بين الناس فهو ظالم. إذن فالمسألة كلها متداخلة، فالشرك ظلم عظيم أيضاً.

  •  

  • نداء الايمان

  •  

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}


ساعة نسمع كلمة (أنزلنا) نعرف أن هناك تشريعاً جاء من أعلى. وهناك من يريد أن يلبس الناس أهواءه، فيقول: إن الإسلام دين تقدمي، أو يقول: الإسلام دين رجعي، وكلاهما يحاول أن يلبس الإسلام بما ليس فيه، ونقول: لا تقولوا ذلك ولكن قولوا الإسلام فوقي؛ أنه جاء من الله، فإن كان للتقدمية مزايا فهو تقدمي، وإن كان للرجعية مزايا فهو رجعي، وإن كان لليمين مزايا فهو يميني وإن كان لليسار مزايا فالإسلام يساري؛ فقد جاء الإسلام بالاستطراق الاجتماعي والتقدم العلمي الأصيل؛ لأن مفهوم التقدم هو أن يرتقي الإنسان بنفيه ارتقاءً متقدماً يجعل الناس متكافئين.
إن الإسلام ليس تقدمياً فقط بالنسبة للحياة الدنيا ولكن بالنسبة لحياة أخرى خالدة فوق هذه الحياة. إن الذين يناقشون تلك الأفكار لا يحسنون فهم أفكارهم سواء أكانت تقدمية أم رجعية أم يمينية أم يسارية. ونرى أن المناهج المعاصرة التي تسبب كل هذا الصراع في الدنيا من شرق وغرب هي: الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والوجودية وغيرها.
 

وعندما ننظر- على سبيل المثال- إلى القائمين على أمر الثورة الشيوعية عام 1917، نجد قولهم: إنهم مازالوا في بداية الطريق إلى الشيوعية، ولكنه اختيار الطريق الاشتراكي.
كان يجب أن يتجهوا إلى ما نادوا به، ولكن ها نحن أولاء نرى أنهم كلما تقدموا في الزمن تراجعوا عن أفكارهم الأولى. حتى انقلبوا على أنفسهم. وذلك دليل على أن المنهج الذي اتخذوه لأنفسهم غير صحيح.
والمنهج الرأسمالي أظل كما هو؟ لا؛ لأن الأحداث قد اضطرت الرأسمالية أن تعطي العمال حقوقاً وبذلك لم تبق لرأس المال شراسته. كما سارت الشيوعية إلى معظم أساليب الرأسمالية. والرأسمالية سارت إلى بعض من أساليب الاشتراكية وهما- إذن- يريدان أن يلتقيا. ولكن الإسلام أوجد هذا اللقاء من البداية، فاحترم رأس المال، واحترم العمل. وكل إنسان لزم حدوده. وضمن وجود واستمرار حركة الحياة. ولذلك نجد أن الرأسمالية تقول: يجب أن توفر الحوافز للعمل. ولم تصل الشيوعية أيضا إلى مداها، بل قامت لإهدار حقوق الناس، ثم ماذا عن الذين لم تمتد إليهم يد الشيوعية- قبل أن توجد- وكان فيهم من يستغل الناس؟

 

كان العقل يحتم أن تؤمن الشيوعية بان هناك آخرة يعاقب فيها من استغلوا الناس من قبل، ومن مصلحتهم إذن أن توجد آخرة. وكان من اللازم أن يكونوا متدينين. وكذلك الرأسمالية التي لا تعترف إلا بالربح المادي، امتلأت مجتمعاتها بالضحايا الذين فقدوا المعنويات. وقول الحق: (أنزلنا) يعتبر أن هناك منهجاً نزل من أعلى. وحين نأخذ معطيات البيان القرآني، نجده سبحانه يبلغنا تعاليمه: {قُلْ تَعَالَوْاْ}. أي ارتفعوا إلى مستوى السماء ولا تهبطوا إلى حضيض الأرض.
 

ولذلك قال الحق: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق} ونرى أن آيات القرآن تتآزر وتخدم كل منها الأخرى. ونزول الكتاب بالحق يحتاج إلى صدق دليل أنه ينزل من الله حقا، وأن تأتي كل قوانين الحق في حركة الحياة بالانسجام لا بالتنافر، وهناك آية تشرح كلمة (الحق): {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105].
أي أنه نزل من عند الله وليس من صناعة بشر. {وبالحق نَزَلَ} أي نزل بالمنهج من عند الله الذي يقيم منطق الحق في كل نفس وكل مكان، ويَضمن كل حق يقيم حركة الحياة.

 

وهنا أجملت الآية، فقالت: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب} أي أن القرآن مصدق للكتب السماوية السابقة. وما الفارق بين كلمة (الكتاب) الأولى التي جاءت في صدر الآية، وكلمة (الكتاب) الثانية؟
إننا نعلم أن هناك (ال) للجنس، و(ال) للعهد، فيقال (لقيت رجلا فأكرمت الرجل)، أي الرجل المعهود الذي قابلته. فكلمة الكتاب الأولى اللام فيها للعهد أي الكتاب المعهود المعروف وهو القرآن، وكلمة الكتاب الثانية يراد بها الجنس أي الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، فالقرآن مهيمنٌ رقيبٌ عليها؛ لأنها قد دخلها التحريف والتزييف.
كلمة (الحق)- إذن- تعني أن كتاب الله الخاتم لكتبه المنزلة وهو القرآن قد نزل بالحق الثابت في كل قضايا الكون ومطلوب حركة الإنسان. ونزل بالحق بحيث لم يصبه تحريف ولا تغيير.

 

إذن فالحق هو في مضمونه وفي ثبوت نزوله. وقد نزل القرآن بعد كتب أنزلها الله متناسبة مع الأزمنة التي نزلت فيها؛ لأنه سبحانه خلق الخلق لمهمة أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يعمروا هذا الكون بما أمدّهم به من عقل يفكر، وطاقات تنفّذ، ومادة في الكون تنفعل، فإن أرادوا أصل الحياة مجرداً عن أي ترقٍ أو إسعاد فلهم في مقومات الأرض ما يعطيهم، وإن أرادوا أن يرتقوا بأنفسهم فعليهم أن يُعملوا العقل الذي وهبه الله ليخدم الطاقات التي خلقها الله في المادة التي خلقها الله، وحينئذ يأخذون أسرار الله من الوجود.
 

إن أسرار الله في الوجود كثيرة، وتفعل لنا وإن لم نعرف نحن السر. فنجد الجاذبية التي تمسك الأفلاك تفعل لنا، وإن لم نكن قد اكتشفنا الجاذبية إلا أخيراً. والكهرباء السارية في الكون سلباً وإيجاباً تعمل لنا وإن لم نعرف ما تنطوي عليه من سرّ.
 

إن الحق سبحانه حين يريد ميلاد سر في الكون سبحانه يمد الخلق بأسباب بروز هذا السر. واعلموا أن كل سر من أسرار الكون المسخر للإنسان له ميلاد كميلاد الإنسان نفسه، إما أن يصادف- هذا الميلاد- عمل العقل في مقدمات تنتهي إليه، وحينئذ يأتي الميلاد مع مقدمات استعملها البشر فوصلوا إلى النتيجة، تماماً مثل التمرين الهندسي الذي يقوم الطالب بحله بعد أن يعطيه الأستاذ بعضاً من المعطيات، ويستخدمها التلميذ كمقدمات ليستنبط ما يريد المدرس أن يستنبطه من مطلوب الإثبات.
 

فإن صادف أن العقل بحث في الشيء معملياً وتجريبياً وصل ميلاد السر مع البحث. وإن جاء ميلاد السر في الكون، ولم يشغل الإنسان نفسه ببحث مقدمات توصل إليه، وأراد الله ذلك الميلاد للسر فماذا يكون الموقف؟
أيمنع الله ميلاد السر لأننا لم نعمل؟. لا. بل يخرج سبحانه السر إلى الوجود كما نسمع دائماً عن مصادفة ميلاد شيء على يد باحث كان يبحث في شيء آخر، فنقول: إن هذا السر خرج إلى الوجود مصادفة.
وإذا نظرت إلى الابتكارات والاختراعات وأمهات المسائل التي اكتشفت لوجدتها من النصف الثاني، ونجد المفكر أو العالم وقد غرق في بحث ما، ثم يعطيه الله سراً من أسرار الكون لم يكن يبحث عنه، فيقال عن الاكتشاف الجديد: إنه جاء مصادفة، وحينما جعل الله لكل سر ميلاداً، فهو قد أعطى خلقه حياة من واسع فضله، وأعطاه قدرة من فيض قدرته وأعطاه علماً من عنده {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً}، ووهبه حكمة يُؤتى بها خيرا {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}. وهو سبحانه وتعالى يريد من خلقه أن يتفاعلوا مع الكون ليبرزوا الأشياء، وإذا كان سبحانه يريد منا أن ننفعل هذا الانفعال فلابد أن يضع المنهج الذي صون طاقاتنا وفكرنا مما يبددهما.

 

والذي يبدد أفكار الناس وطاقاتهم هو تصارع الأهواء، فالهوى يصادم الهوى، والفكرة قد تصادم فكرة، وأهواء الناس مختلفة؛ لذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن لنا اتفاق الأهواء حتى نصدر في كل حركاتنا عن هوى واحد؛ وهو ما أنزله الخالق الأعلى الذي لا تغيره تلك الأهواء. أما ما لا تختلف فيه الأهواء فتركنا لكي نبحث فيه؛ لأننا سنتفق فيه قهراً عنا. ولذلك نقول دائما: لا توجد اختلافات في الأفكار المعملية التجريبية المادية، فما وجدنا كهرباء روسية، وكهرباء أمريكية لأن المعمل لا يجامل. والمادة الصماء لا تحابي. والنتيجة المعملية تخرج بوضوحها واحدة.
 

إننا نرى اتفاق العلماء شرقاً وغرباً في معطيات المادة التجريبية وتحاول كل بلد أن يسرق من البلد الآخر ما انتهى إليه من نتائج لتدخلها على حضارتها، بينما يختلف الأمر في الأهواء البشرية، فكل بلد يحاول أن يبعد هوى الآخر عن حدوده؛ لأن الأهواء لا تلتقي أبداً، والحق قد وضع حركة الحياة لتنفعل ب (افعل كذا) و(لا تفعل كذا) مما تختلف فيه الأهواء ليضمن اتحادنا وعدم تعاند الطاقات فينا. بل تتساند معاً. {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
 

إذن فمنهج الله في كونه إنما جاء لينظم حركة الإنسان فيما تختلف فيه الأهواء. أما الحركة فيما لا تختلف فيه الأهواء فقد تركها سبحانه حرة طليقة: لأن البشر يتفقون فيها قهراً عنهم، لأن المادة لا تجامل والمعمل لا يحابي.
ولذلك قلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله نبياً خاتماً أعطى ب (افعل ولا تفعل). أما بالنسبة للأمر المادي المعملي فقد جعل أمره في ذات النبي صلى الله عليه وسلم. فعندما قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان أهلها يأبرون النخل؛ أي يلقّحونه ليثمر. فمر النبي صلى الله عليه وسلم بقومٍ يلقحون فقال: (لو لم تفعلوا لصلح).
فلم يأْبُروا النخل، فخرج شيصا؛ أي بُسْراً رديئاً، وخاب النخل. ومرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. فقال صلى الله عليه وسلم: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل».

 

وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيءٍ من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر».
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنها قضية كونية مادية تجريبية معملية: «أنتم أعلم بأمر دنياكم». أي أنه صلى الله عليه وسلم ترك للأمة إدارة شئونها التجريبية، ولم يكن ذلك القول تركا للحبل على الغارب في شئون المنهج، فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفيصل فيما تتدخل فيه السماء، وفيما تتركه السماء للبشر، وأعمار الناس- كما نعلم- تختلف، فنحن نقول للإنسان طفولة، وله فتوة، وشباب، وله اكتمال رجولة ونضج؛ لذلك يعطي الحق من الأحكام ما يناسب هذا المجتمع؛ يعطي أولاً الاحتياج المادي للطفولة، وعند عصر الفتوة يعطيه المسائل الإدراكية، وعندما يصل إلى الرشد يعطيه زمام الحركة في الكون على ضوء المنهج، فكانت رسالة الإسلام على ميعاد مع رشد الزمان، فَأَمِن الحق سبحانه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، أن يقفوا ليحموا حركة الإنسان من أهواء البشر. وكانت الرسل تأتي من عند الله بالبلاغ للمجتمعات البشرية السابقة على الإسلام. وكانت السماء هي التي تؤدب. ولكن عندما اكتمل رشد الإنسانية، رأينا الرسول يبلغ، ويوكِّله الله في أن يؤدب من يخرج على منهج الله في حركة الحياة، لأنه صلى الله عليه وسلم أصبح مأموناً على ذلك.
وإذا نظرت إلى الكون قديماً لوجدته كوناً انعزالياً، فكل جماعة في مكان لا تعلم شيئاً عن الجماعة الأخرى، وكل جماعة لها نظامها وحركتها وعيشها وداءاتها.

 

والإسلام جاء على اجتماع للبشر جميعاً. فقد علم الله أزلاً أن الإسلام سيجيء على ميعاد مع إلغاء فوارق الزمن والمسافات، وأن الداء يصبح في الشرق فلا يبيت إلا وهو في الغرب، وكذلك ما يحدث في الغرب لا يبيت إلا وهو في الشرق.
إذن فقد اتحدت الداءات ولابد أن يكون الدواء واحداً فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جامعاً للزمان وجامعاً للمكان ومانعا أن يجيء رسول آخر بعده، وأن العالم قد وصل إلى قمة نضجه. فإذا ما جاء الإنسان ليعلم منهج الله ب (افعل) و(لا تفعل)، وجد أن المنهج محروس بالمنهج، بمعنى أن الكتب السابقة على القرآن فيها (افعل) و(لا تفعل)، والقرآن أيضاً فيه (افعل) و(لا تفعل) لكن المنهج السابق على القرآن كان مطلوباً من المنزل إليهم أن يحافظوا عليه، ومادام قد طلب الحق منهم ذلك فكان من الواجب أن يتمثلوا لطاعته لكنهم تركوا المنهج. فكل منهج عرضة لأن يطاع وعرضة لأن يعصى، ولم يحفظوا الكتب وحدث فيها التحريف بمراحله المختلفة والتي سبق أن ذكرناها وهي النسيان وهو متمثل في قوله الحق: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 13].
وما لم ينسوه كتموا بعضه، فقال الحق فيهم: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ ما أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب أولئك يَلعَنُهُمُ الله} [البقرة: 159].
وما لم يكتموه حرفوه ولووا ألسنتهم به وقال الحق: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب} [آل عمران: 78].
ولم يقتصروا على ذلك بل وضعوا من عندهم أشياء وقالوا إنها من عند الله. وكان أمر حفظ كتب المنهج السابقة موكولاً لهم وبذلك قال الحق عنهم: {بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} [المائدة: 44].
أي أن الحق طلب منهم أن يحافظوا على المنهج، وكان يجب أن يطيعوه ولكن أغلبهم آثر العصيان. فلما عصى البشر المنهج، لم يأمن الله البشر من بعد ذلك على أن يستحفظهم على القرآن، وكأنه قال: لقد جُرّبْتم فلم تحافظوا على المنهج، ولأن القرآن منهج خاتم لن يأتي له تعديل من بعد ذلك فسأتولى أنا أمر حفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

 

ومادام الحق هو الذي يحفظ المنهج فالقرآن مهيمن على كل الكتب؛ لأنه سبحانه وتعالى قد ضمن عدم التحريف فيه. إذن فالكتاب المهيمن هو القرآن، ومادام القرآن هو المهيمن فهو حقيقة ما يسمى بالكتاب.
ودليل العهد هو قول الحق: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب}

أما قوله: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب} فالمقصود به الزبور والتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى، ثم جاء القرآن مهيمناً على كل هذه الكتب.


وساعة نجد وصفاً وصف به غير الله وسمى به الله نفسه فما الموقف؟ نعرف أن لله صفات بلغت في تخصصها به مقامها الأعلى بالله، مثل قولنا: (الله سميع) والإنسان يسمع، و(الله غني) ويقال: (فلان غني)؛ فإذا سمي الحق باسم وجد في الخلق، فليس من المتصور أن يكون هذا صفة مشتركة بين العبد والرب، ولكننا نأخذ ذلك في ضوء: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
إن أي اسم من هذه الصفات على إطلاقه لا ينصرف إلا لله، فإن قلت: (الغني) على إطلاقه فهو اسم لله، وإن قلت: (الرحيم) على إطلاقه فهو اسم لله. فإذا أطلق اللفظ من أسماء الله على اطلاقه فهو لله، واسم (المهيمن) يطلق هنا على القرآن وهو اسم من أسماء الله. ومن معنى (مهيمن) أنه مسيطر.

 

ومن أمثلة الحياة أننا نرى صاحب مصنع يطلق يد مدير في شئون العمل، وهذا يعني أنه مؤمن ومسيطر وأمين، ولابد أن متنبه، أي رقيب، وهو شهيد، إذن فالذين فسروا كلمة (مهيمن) على أنه مؤمن قول صحيح.
 

والذين فسروا كلمة: (مهيمن) على أنه (مؤتمن) قول صحيح. والذين فسروا كلمة: (مهيمن) بأنه (رقيب) قول صحيح. والذين فسروا كلمة: (مهيمن) بأنه (شهيد) قول صحيح. والذين فسروا كلمة: (مهيمن) بأنه قائم على كل أمر قول صحيح. وإذا رأيت الاختلافات في تفسير اسم واحد من أسمائه سبحانه فلتعلم أن الحق بصدق عليه كل ذلك،

وباللازم لا يكون (رقيباً) إلا إذا كان (شهيداً)، ولا يكون شهيداً إلا إذا كان قائماً على الأمر، ولا يكون كل ذلك إلا إذا كان مؤمناً ومؤتمنا.
إذن ف (مهيمن) هو قيم وشاهد ورقيب. ومادام القرآن قد جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب فعلى أي مجال يهيمن؟ نحن نعرف مدلول الكتاب بأنه نزل من عند الله، فإن بقي الكتاب الذي من عند الله كما هو فالقرآن مصدق لما به، أما إن لعبت في ذلك المنهج أهواء البشر فالقرآن مهيمن لأنه يصحح المنهج وينقيه من أهواء البشر. {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله}. و(احكم) مأخوذة من مادة (حكم)، و(الحَكَمة) هي قطعة الحديد التي توضع في فم الحصان ونربطها باللجام؛ حتى نتحكم في الحصان. والحكمة هي الأ تدع المحكوم يفلت من إرادة الحاكم.
وحين يقول الحق: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله} فهل يحدث ذلك أيضا مع غير المؤمنين؟ نعم. فإذا ما جاء إليك يا رسول الله أناس غير مؤمنين وطلبوا أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل الله. ولذلك قال الحق: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42].
لكن لماذا جاءوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم برغم عدم إيمانهم به؟
جاءوا إلى الرسول ليحكم بينهم؛ لأنهم ألفوا أن يبيحوا ما حرم الله بشهوات الدنيا وأخذوا لأنفسهم سلطة زمنية، وماداموا قد أخذوا لأنفسهم سلطة زمنية أنستهم حكم الله. وأرادوا- على سبيل المثال- أن يخرجوا على حكم الرجم وتخفيفه، ولذلك ذهبوا إلى النبي، فإن حكم هو بالتخفيف أخذوا بالحكم المخفف، وإذا لم يحكم بالتخفيف فهم لن يأخذوا الحكم، هم ذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم بقصد التيسير وقالوا له: أنت تعلم أن لنا سلطاناً وأن لنا نفوذاً ونحن نريد أن تحكم لنا لأنك عندما تحكم لنا سنؤمن بك وبعد ذلك تأتي إليك باقي جماعتنا ليؤمنوا بك ويتبعوك.
لقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك تطبيقاً لقول الحق: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} فإذا كان عندهم كتاب التوراة مصوناً من التحريف، فالرسول يشير عليهم بالحكم الموجود في التوراة، ولذلك عندما استدعى صلى الله عليه وسلم أعلم علمائهم بالتوراة حاول بعضهم أن يضع يده على السطور التي بها الحكم؛ فالحكم بما أنزل الله يكون من التوراة إن لم يبدل، أما إذا كان الحكم قد بدله الناس فالحكم من القرآن؛ لأن القرآن هو المهيمن. {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} لأنهم بهذه الأهواء يريدون أن ييسروا على أنفسهم ليستبقوا لأنفسهم السلطة الزمنية، ووصفهم الحق: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} [التوبة: 9].
هم- إذن- يريدون أن يستبدلوا بآيات الله مصلحتهم في الحكم.

 

ويقول الحق: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}، وإن افترضنا أن بعضا من التوراة لم يحرف، وبه حكم أراد الإسلام أن يبدله، فأي أمر يتبع؟ إن الاتباع هنا يكون للقرآن لأنه هو المهيمن، فسبحانه أراد بالقرآن أن يصحح ويعدل ويغير.
إن مناهج الأديان في العقائد ثابتة لا تغيير فيهان وأما ما يتصل بالأحكام التي تحكم أفعال الإنسان فالله سبحانه وتعالى ينزل حكماً لقوم يلائمهم ثم ينزل حكما آخر يلائم قوماً آخرين. ولذلك نجد أن سيدنا عيسى قال: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50].
أي أن هناك أشياء كانت محرمة في دين اليهود. وجاء عيسى عليه السلام ليحلل بعضاً من هذه المحرمات، وكان التحريم مناسباً بني إسرائيل في بعض الأمور، وجاء المسيح عيسى ابن مريم ليحلل لهم بعضاً من المحرمات، وكان تحريم بعض الأمور لبني إسرائيل بهدف التأديب: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
إذن فقد يكون تحريم الشيء بسبب الضرر الناشئ منه، أو بهدف التأديب؛ لأن الإنسان أحل لنفسه ما حرمه الله عليه.

 

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} والشرعة هي الطريق في الماء. والمنهج هو الطريق في اليابسة. ومقومات حياة الإنسان هي من الماء ومن الغذاء الذي يخرج من الأرض فكذلك جعل الحق سبحانه وتعالى في القيم هذين الاثنين، الشرعة والمنهاج، ومادام سبحانه قد جعل لكل منا شرعة ومنهاجاً، فلماذا قال في موضع آخر من القرآن: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13].
معنى هذا القول هو الاتفاق في أصول العقائد التي لا تختلف أبداً باختلاف الأزمان. ففي بدء الإسلام نجد أنه جاء ليؤصل العقيدة أولاً بلا هوادة، فنادى بوحدانية الله، وعدم الشرك به، وصفات الكمال المطلق فيه، وعدم تعدد الآلهة. أما بقية الأحكام الفعلية فقد جعلها مراحل. وكان يخفف قليلاً فقليلاً. إذن فالمراحل إنما جاءت في الأحكام الفعلية، أما العقائد فقد جاءت كما هي وبحسم لا هوادة فيه.
إذن فقوله الحق: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً}. هذا القول مقصود به العقائد. ومادام قد شرع لنا في الدين ما وصى به نوحاً، فهذا توصية بأفعال تتعلق أيضا بزمن نوح، وسبحانه الذي وضع لنا المنهاج الذي نسير عليه في زماننا. إذن فالأمران متساويان. والمهم هو وحدة المصدر المشرِّع.

 

ويقول الحق: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}. فلو شاء لجعل (افعل) ولا (تفعل) واحدة في كل المناهج، ولكن ذلك لم يكن متناسباً مع اختلاف الأزمان والأقوام الانعزالية قبل الإسلام بداءاتها المختلفة؛ لذلك كان من المنطقي أن تأتي الأحكام مناسبة للداءات. {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} [المائدة: 48].

وسبحانه وتعالى لو شاء لجعلنا أمة واحدة في (افعل) و(لا تفعل) ولكنه سبحانه لم يرد ذلك حتى لا يألف الناس العبادة وتصير كالعادة عندهم، فحينما يألف الناس أداء العبادات، فهم بذلك يحرمون لذة التكليف والإيمان، فكان لابد أن يأتي التشريع مناسبا لكل زمان. وذلك ليفرق بين قوم وقوم ففي الصوم- على سبيل المثال- نجد أن الحق يسمح لنا بالطعام والشراب والجنس في الفترة ما بين الإفطار والسحور؛ فالحق يأتي إلى الشيء الرتيب ويأتي فيه أمر الله بالامتناع عنه لفترة زمنية معينة. ولا يقرب المؤمن هذه المحرمات في زمان معين، ولا يقرب غيرها في أي زمان ومكان. مثل شرب الخمر، أو أكل لحم الخنزير. والمؤمن لا يقرب هذه الأشياء بطبيعة اختياره. ويأتيه الصوم ليعلمه ويدربه على الانصياع للتكليف فيحرمه الحق من الطعام طول نهار شهر رمضان وكذلك الشراب والجنس.

المسألة- إذن- ليست رتابة أبداً. بل هي ابتلاء واختبار البشر {ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتَاكُم} والابتلاء- كما نعلم- ليس أمراً مذموماً في ذاته، هو مذموم باعتبار ما تؤول إليه نهايته، ومادام سبحانه يبتلينا فيما آتانا فيجب أن نكون حكماء وأن نتسابق إلى الخير: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
والتسابق إلى الخيرات إنما يكون بهدف النجاح في الإبتلاء، والنجاح يعطينا أكثر مما ننال بعدم الانصياع. إذن فالابتلاء في مصلحتنا يعطي الناجحين فيه نجاحاً أخلد، وقصارى ما يزينه الشيطان للناس أو ما تتخيله نفوس الناس، أن تمر الشهوة العابرة وتنقضي في الدنيا العابرة. وبعد ذلك يأتي العذاب المقيم. وعندما نوازن هذا الأمر كصفقة نجدها خاسرة، لكن إن نجحنا في ابتلاء الله لنا فذلك هو الفوز العظيم: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
أي تسابقوا في الوصول إلى الخيرات، لأن الخير إنما يقاس بعائده، فإياكم أن تفهموا أن الله حَرَمكم شهوات الدنيا لأنه يريد حرمانكم، ولكنه حرمكم بعضا من شهوات الدنيا لأنها مفسدة. وكان التحريم لزمن محدود ليعطيكم نعيم ومتع الآخرة المُصلحة في زمن غير محدود، وهذا هو كل الخير.

 

{إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} والكل يرجع إلى الله سواء الملتزم أو المنحرف، وأمام الحق نرى القول الفصل: {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. ومادام هناك اختلاف فلابد أن يوجد من أخذ جانب الخير ومن أخذ جانب الشر، ولو أن الله قال لنا: (ستأخذون الخير) وسكت عن الشر لكان ذلك كافياً، لكنه يعطينا الصورة الكاملة

 

نداء الايمان

image.png.e9f515a33917e3b6421479baa4222354.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)}


قد يقول قائل: إن الله سبحانه وتعالى قال من قبل: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
وتكون الإجابة: أن الحق بيّن إن القرآن قد نزل مهيمناً، وعلى الرسول أن يباشر مهمة التنفيذ؛ لذلك يأتي هنا قوله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله} بلاغاً للرسول وإيضاحاً: أنا أنزلت إليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمناً فاحكم، فإذا جاءك قوم بشيء مخالف لما نزل من القرآن، فاحكم بينهم بالقرآن. والذي زاد في هذه الآية هو قوله الحق: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} والحذر هو احتياط الإنسان واحترازه مِمَّن يريد أن يوقع به ضرراً في أمر ذي نفع، والذي يرغب الضر قد يزين لنفسه ولغيره الذر كأنه الخير، على الرغم من أن ما في باطنه هو كل الشر.

 

إذن فالحذر هو ضرورة الانتباه لمن يريد بالإنسان شراً حتى لا يدخل عليه ضُرّاً في صورة نفع، كأن يأتي خصم ويقول لك: سأضع لك كذا وافعل من أجلك كذا وكذا. يجب عليك هنا أن تقول له: لا.
والحذر- إذن- يقتضي عقلاً مركباً، ولذلك كانوا يعرفون الحذر من الغراب. فها هوذا الغراب يعلم ابنه في قصة شعبية فيقول الغراب لابنه: احذر الإنسان؛ لأن الإنسان عندما ينحني ليلتقط شيئاً من الأرض فهو يلتقط قطعة من الطوب ليرميك بها. وهنا يقول الغراب الصغير لوالده: وماذا أفعل لو كان هذا الإنسان يخبئ قطعة الطوب في جيبه؟ إنها قصة توحي بأن الغراب حذر بفطرته.
ونرى مثل ذلك في مظاهر الأشياء كالمرابي الذي يزين للناس أن يضعوا أموالهم عنده ويعطيهم فائدة تبلغ عشرين بالمائة، هذه صورة شيء ينفع ولكنها ضارة بالفعل؛ لأنها تزيد المال ظاهراً ولكن ينطبق عليها قول الله: {يَمْحَقُ الله الربا}.
وهذا أمر ضار يزينه الخصم وكأنه أمر نافع. والحق يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون حذراً، فماذا يكون المطلوب من الأتباع؟. إنه الحذر نفسه؛ لأن أفضل البشر وَجَّهَهُ الله إلى الحذر: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} لأن الصورة التي دخلوا بها هي صورة تزين الخداع، فقد قالوا: نحن جئناك لتحكم لنا، فإن حكمت لصالحنا فلسوف نتبعك، وهذا أمر يبدو في صورة شيء نافع. وجاء القول الحق ليحسم هذه المسألة: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ ما أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} وهنا يحذر الله ورسوله من الفتنة عن بعض ما أنزله إليه سبحانه.

 

ويتابع الحق: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ} وهم إن تولوا، فاعلم أن الله يحميك أن تنزلق إلى شبهة باطل. فهم قد اختاروا أن يوغلوا في الكفر، وفي الابتعاد عن منهج الله، وسيصيبهم ببعض عذابه مقابل ذنوبهم، وسبحانه لا يصيبهم ظلماً، بل يصيبهم ببعض الذنوب التي ارتكبوها.
وهو أعلم بهم، لأنه الأعلم بالناس جميعاً.

 

ويختم الحق الآية بقول: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ} أي خارجون عن طاعة كتبهم ورسلهم؛ لأن طاعة الكتب السابقة على القرآن تنص على ضرورة الإيمان بالرسول النبي الأمين صلى الله عليه وسلم. ويقول الحق: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 157].
 

إذن فطريق الفلاح كان مكتوباً في التوراة والإنجيل، وكان الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي موجوداً في الكتب السابقة على القرآن، وكانت البشارة بمحمد رسولا من عند الله يأمر بكل الخير وينهى عن كل الشر ويحل للناس كافة الأشياء التي تُحْسِن الفطرة الإنسانية استقبالها، ويحرم عليهم أن يزيفوا ويغيروا المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألا يستسلموا للعناد، فقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليزيل عنهم عبء تزييف المنهج. فمن اتبع نور رسول الله صلى الله عليه وسلم أحس بالنجاة والفوز. ومن لم يتبع هذا النور فهو الخارج عن طاعة كتاب السماء. ومحاولة إنكار رسالة رسول الله محكوم عليها بالفشل، فالعارفون بالتوراة والإنجيل يعرفون وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الكتب. {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
 

ونعلم جميعاً ما فعله عبدالله بن سلام عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه. قال عبدالله بن سلام:
- لأنا أشد معرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم منّي بابني.
فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه:- وكيف ذلك يا ابن سلام؟.
قال عبدالله بن سلام: لأني أشهد أن محمداً رسول الله حقاً ويقيناً وأنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا أدري، أحداث النساء. فقال عمر بن الخطاب:
- وفقك الله يا ابن سلام.
ولكن بعض علماء بني إسرائيل وأحبارهم كتموا البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يرجون الرئاسة والطمع في الهدايا التي كان يقدمها الناس إليهم. لذلك عمدوا إلى صفة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها. وماداموا قد فعلوا ذلك فلنعلم أن الله يريد أن يصيبهم ببعض ذنوبهم.

 

ونلاحظ أن الحق حين أجرى على لسان رسوله خطاباً إلى اليهود. ولم يأت على لسانه صلى الله عليه وسلم اتهام شامل لليهود، بل اتهام لبعضهم فقط، وإن كان هذا البعض كثيراً، فلنعلم أن ذلك هو أسلوب صيانة الاحتمال؛ لأن بعضهم يدير أمر الإيمان بقلبه.
 

صحيح أن كثيراً منهم فاسقون، ولكن القليل منهم غير ذلك. فها هوذا أبو هريرة رضي الله عنه ينقل لنا ما حدث: زنى رجل من اليهود بامرأة وقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي مبعوث للتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججناها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد مع أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في امرأة ورجل زنيا؟. فلم يكلمهم حتى ذهب إلى مِدْراسهم.
وهناك طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاب رفض أن يتكلم بالكلام غير الصدق الذي يتكلمه قومه. وقال الشاب: إنا نجد في التوراة الرجم. وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجم.
عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي مُحَمَّماً مجلوداً، فدعاهم فقال: هكذا تجدون الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم. قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدّ، فقلنا: تعالَوْا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إِذْ أَمَاتُوه» ، فأمر به فرُجم فأنزل الله: {ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} يَقُولون ائتوا محمداً فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا.

 

إذن فالكثير منهم فاسقون، والقليل منهم غير فاسق لأنهم يديرون فكرة الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم. فلو أن الاتهام كان شاملاً للكل بأنهم فاسقون؛ لما أحس الذين يفكرون في أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالنور الذي جاء به. وعندما قال الحق: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ} يعني أن الذين يديرون في رؤوسهم فكرة الإيمان برسول الله سيجدون النور واضحاً في كلماته.
ونتساءل: لماذا أرادوا أن يلووا أحكام الله ليحققوا لأنفسهم سلطة زمنية وثمناً تافهاً من تلك الأشياء التي يتقاضونها، لماذا يفعلون ذلك؟

 

image.png.a002a6dd7e7157937ad456b7849af0ca.png


{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}


والجاهلية هي نسبة إلى جاهل. ولو كانت نسبة مأخوذة من الجهل لجاء القول (جهلية)، لكن الحق يقول هنا: (جاهلية) نسبة إلى جاهل. وحتى نعرف معنى الجاهل بالتحديد لابد لنا أن نتذكر ونستعيد تقسيم النسب الذي قلناه قديماً، ونعرف أن كل لفظ نتكلم به له معنى، وساعة نسمع اللفظ فالمعنى يأتي إلى الذهن إفرادياً. مثلما نسمع كلمة (جبل) فيقفز إلى الذهن صورة الجبل، لكن لا توجد حالة واضحة للجبل؛ لأن الكلمة لم تكن مصحوبة بحكم.
إذن فهناك معنى للفظ، ولكن هذا المعنى لا يستقل بفائدة. ولكن إن قلنا إن القاهرة مكتظة بالسكان، أو أن مرافقها متعبة، هناك نكون قد أتينا بحكم يوضح لنا ماذا نقصد بقولنا القاهرة.

 

إن هناك فرقا بين اللفظ حين يؤدي إلى معنى مفرد لا حكم له، وبين لفظ له حكم، ولذلك نجد العربي القديم حين يأتيه لفظ بلا حكم لم يكن لقبله. وها هوذا رجل عربي قال: أشهد أن محمداً رسولَ الله- بفتح اللام في كلمة (رسول)- وبهذا القول تكون (رسول الله) صفة لمحمد وليس فيها الخبر المطلوب. لذلك قال عربي آخر: وماذا يصنع محمدا؟ ليفلت القائل إلى أنه لم يتلق الخبر. إذن كل لفظ له معنى، وهذا المعنى مفرد ولابد له من نسبة.
 

مثلما نقول لصديق: (محمد)، ويعرف هذا الصديق محمدا، فيسألك: (وما لمحمد)؟ وبقوله هذا إنما يطلب الخبر ليعرف ماذا حدث له أو منه، فتقول: (محمد زارني أمس). وهكذا تكتمل الفائدة.
 

إذن فكل لفظ من الألفاظ المفردة له معنى حين يفرد. فإذا ما جاء الحكم تنشأ عنه النسبة. وإن كانت النسبة واقعة وبعتقدها قائلها؛ ويستطيع إقامة الدليل عليها فهذه نسبة علم؛ لأن العلم نسبة مجزوم بها وواقعة ونستطيع إقامة الدليل عليها تماما مثلما نقول:(الأرض كروية) حيث توحي الكلمة أولاً بصورة الأرض وأضفنا إليها نسبة هي (كروية) لأننا نعتقد أنها كروية والواقع يؤكد ذلك، فإذا ما جئنا بالدليل عليها فهذه نسبة علم. إذن فالعلم نسبة مُعتقَدة وواقعة وعليها دليل.
أما إذا كانت النسبة واقعة ومعتقدة ولا نستطيع التدليل عليها فذلك هو التقليد مثلما يكرر الطفل عن والده بعضاً من الحقائق ولكنه لا يستطيع إقامة الدليل عليها، إنه يقلد من يثق به، إذن فالمرحلة الأقل من العلم هي التقليد. أما إذا كان الإنسان يعتقد أن النسبة قد حدثت ولكن الواقع غير ذلك، فهذا هو الجهل، فالجهل ليس معناه أنك لا تعرف، ولكن أن تعرف قضية مناقضة للواقع.
والجاهل يختلف عن الأمي، فالأمي هو الذي لا يعرف، أما الجاهل فهو الذي يعرف قضية مخالفة للواقع ومتشبث بها.

 

{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} والحق هنا يتساءل: هل يرغبون في الاستمرار بالاعتقاد الخاطئ الجاهل؟ والأمر مع الأمي- كما عرفنا- يختلف عن الأمر مع الجاهل؛ لأنه يكفيك أن تقول للأمي العلم الذي تريد تعليمه إياه ويقبله منك، أما الجاهل فلابد للتعامل معه من عملين.. الأول أن تجعله يحذف ويستبعد من باله القضية الخاطئة، والثاني أن تجعله يقتنع بالقضية الصحيحة. والذي يرهق الدعاة إلى الدين هم الجهلة هؤلاء الذين يعتقدون اعتقاداً خاطئاً يتضمن قضايا باطلة.
لكن ماذا إن كانت النسبة مجالاً للنفي ومجالأً للإثبات؟ إن كان النفي مساوياً للإثبات فهي نسبة شك. وإن غلب الإثبات فهذا ظن. وإن كان النفي راجحاً فذلك هو الوهم. وهكذا يتضح لنا أن قضية الجهل قضية صعبة، والذي يسبب التعب في هذه الدنيا هم الجهلة؛ لأنهم يعتقدون في قضايا خاطئة. فإذا كان هناك حكم من الله. فلماذا لا يرتضون إذن؟ أيريدون حكم الجاهلية؟ وكان أهل الكتاب أنفسهم يسفهون حكم الجاهلية.

 

ولنلاحظ أن هذا التسفيه كان في زمن المواجهة بين الجاهلية وبين أهل الكتاب. وكانوا يستفتحون عن أهل المدينة ومكة. وكثيراً ما قالوا: لقد أظلّنا عهد نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. ولكن ما إن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قالوا العكس، ماذا قالوا للجاهلين؟ هاهوذا الحق يخبرنا بما قالوا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً} [النساء: 51].
وقد ذهب بعض من أحبار اليهود إلى قريش، وسألهم بعض من سادة قريش: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم القديم فأخبرونا عنا وعن محمد. فقال الأحبار: ما أنتم وما محمد؟ فقال سادة قريش: نحن ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونفك العاني ونصل الأرحام ونسقي الحجيج وديننا القديم ودين محمد الحديث. فقال الأحبار: أنتم خير منه وأهدى سبيلا. وبذلك زوروا القول.

 

وينقل الرواة قصة أخرى في هذا الموضع، أن واحداً من أحبار اليهود قال لأبي سفيان: أنتم والله أهدى سبيلاً مما هو عليه. وقال الأحبار ذلك حسداً لرسول الله.
إذن فهل يرتضي أهل الكتاب حكم الجاهلية؟ لا. ولكنه التناقض والتضارب. وماداموا قد تناقضوا مع أنفسهم صار من السهل أن يتناقضوا مع الكتاب الذي نزل إليهم. ولذلك يتساءل الحق: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} ثم يأتي من بعد ذلك بالمقابل وهو قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً}. وسبحانه لم يقل: إن الأحسن في الحكم هم المسلمون لجواز أن يكون من المسلمين من ينحرف، لذلك رد الأمر إلى ما لا يتغير أبداً وهو حكم الله.

 

وحين يقرر سبحانه ذلك فإنه- اولا- يعلم أنه سيأتي قوم مسلمون وينحرفون عن المنهج.
ونحن نرى في بعض الأحيان سلوكاً منحرفاً من مسلم، فهل نلصق هذا السلوك بالإسلام؟ لا. بل ننظر إلى حكم الله في كتابه. وعندما نرى أن حكم الله يجرم فعلاً وله عقوبة، فالعقوبة تقع على المسلم المنحرف أيضاً. والمثال قوله الحق: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
وهذا الحكم يطبق على المسلم وغير المسلم، إذن فلا نقول هذا حكم المسلمين وذلك حكم الجاهلية. ولكننا نقول: إنه حكم صاحب المنهج وهو الله.

 

ونلاحظ أن هناك استفهاماً في قوله الحق: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً}. والاستفهام هو نقل صورة الشيء في الذهن، لا نقل حقيقة الشيء. وساعة يطلب المتكلم من المخاطب أن ينقل إليه الفهم، هنا نقول: هل كان المتكلم لا يعلم الحكم؟ قد يصح ذلك في الحياة العادية. وقد نراه حين يقول إنسان لآخر: من زارك أمس؟ فنكون أمام حالة استفهام عن الذي زاره، تلك هي حقيقة الاستفهام، لكن ما بالنا إذا كان الذي يتكلم ويستفسر لا تخفى عليه خافية، إنه سبحانه يطلب- منا أن نجيب على سؤاله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً}. وتلك عظمة الأداء.
وأضرب مثالاً آخر- ولله المثل الأعلى- عندما يأتيك إنسان ويدعي أنك لم تحسن إليه لأنه كان سجيناً مثلاً وأنت الذي أخرجته من السجن. فتقول له: من الذي ذهب ودفع عنك الكفالة وأخرجك من الحبس؟
إنك أنت الذي فعلت ولا تريد أن تقول له: لقد فعلت من أجلك كذا وكذا، ولكنك تريده هو أن ينطق بما فعلته له، ولا تقول ذلك إلا وأنت واثق أنه لن يجد جواباً إلا الاعتراف بأنك أنت الذي صنعت له كذا وكذا، وبذلك تصبح المسألة إقراراً وليس إخباراً.

 

{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} فالحق عالم أنهم حين يديرون رءوسهم في الجواب، لن يجدوا إلا أن يقولوا: يارب أنت أحسن حكماً. وهذا إقرار منهم وإخبار أيضاً. أما عند المؤمن فالأمر يختلف تماماً؛ لأن المؤمن بعترف ويقر بفضل الله عليه.
 

{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فالذي يفهم أن حكم الله هو الأفضل هم القوم الذين دخلوا إلى مرحلة اليقين. ونعلم أن مراحل اليقين تتفاوت فيما بينها، فعندما يخبرك إنسان صادق في قضية ما فأنت تعلم هذه القضية. كأن يقول لك: لقد ذهبت إلى نيويورك. وهذه المدينة تقع على عدد من الجزر وبها عمارات شاهقة والعنف منتشر فيها. والناس تبدو وكأنها ممسوسة من فرط الهوس على الثروة. وحين تسمع هذا الصادق فأنت تأخذه على محمل الجد وتعتبر كلامه يقيناً وهذا هو علم اليقين، أي أنه إخبار من إنسان تثق فيه لأنه صادق.
وبعد ذلك يأتي هذا الإنسان ليوجه لك الدعوة، فتركب معه الطائرة، وتطير الطائرة على ارتفاع يساوي أربعين ألف قدم، وبعد إحدى عشرة ساعة تهبط الطائرة قليلاً؛ لترى أضواء مدينة صاخبة، ويقول لك صاحبك: هذه هي نيويورك، وتلك هي ناطحات السحاب.
هكذا صار علم اليقين عين يقين.
وعندما تنزلان معاً إلى شوارع نيويورك فأنتما تسيران إلى جزيرة مانهاتن. وتصعد إلى برج التجارة أعلى ناطحات السحاب في نيويورك، وهذا هو حق اليقين.

 

إذن: فمراحل اليقين ثلاث:

علم يقين: إذا أخبرك صادق بخبر ما،

وعين يقين: إذا رأيت أنت هذا الخبر،

وحق يقين: إذا دخلت وانغمست في مضمون وتفاصيل هذالخبر.

وقديماً قلت لتلاميذي مثالاً محدداً لأوضح الفارق بين ألوان اليقين، قلت لهم: لقد رأيت في أندونيسيا ثمرة من ثمار الموز يبلغ طول الثمرة الواحدة نصف المتر. وبالطبع صدقني التلاميذ؛ لأنهم يصدفون قولي. وقد نقلت لهم صورة علمية. وصار لديهم علم يقين. وبعد ذلك أدخل إلى غرفة وأفتح حقيبة وأخرج منها ثمرة الموز التي يبلغ طولها نصف المتر. وبذلك يصير علم اليقين عين يقين. وبعد ذلك أمسكت بسكين وقمت بتقشير ثمرة الموز ووزعت على كل واحد منهم قطعة. وهكذا صار لديهم حق يقين. وحين يطلق الحق (اليقين) فهو يشمل الذي علم والذي تحقق.


فأهل الأدلة، علموا علم اليقين، وأهل المرائي والمشاهدات علموا عين اليقين، وأهل الفيوضات والتجليات وصلوا إلى حق اليقين. والمؤمنون بالله يقول الواحد منهم: أنا بمجرد علم اليقين موقن تماماً ولا انتظر حق اليقين لأني لا أجرؤ على التكذيب؛ لذلك نجد أن سيدنا الإمام عليا- كرم الله وجهه- يقول: لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقيناً. {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 1-7].
والبداية تكون علم اليقين، ثم نرى الجحيم ونحن نسير على الصراط فتصير عين اليقين، ومن لطف الله أنه جعلنا- نحن المسلمين- لا نراها حق اليقين. وهو القائل: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71].
هو يعطينا صورة الجحيم. لكن حينما أراد الحق أن يعطينا صورة حق اليقين، فقد جاء بها في قوله الحق: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 75-82].
كل ذلك مقدمة ليقول الحق: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95].
وما يذكره الحق هنا عن منزلة المصدق المؤمن إن هذه المنزلة هي الجنة ويرى ذلك عين اليقين. أما منزلة المكذب الكافر، فله مكانه في النار؛ لذلك سيرى كل الناس النار كعين اليقين. أما من يدخله الحق النار- والعياذ بالله- فسيعاني منها حق اليقين، وسينعم المؤمنون بالجنة حق اليقين.

 

نداء الايمان

image.thumb.png.e376247a31697fd19ccd0d699cd1c465.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}


نلاحظ أن الخطاب هنا للذين آمنوا. والمنهي عنه هو اتخاذ اليهود والنصارى أولياء.

 

وما معنى الوليّ؟.

الوليّ هو الناصر وهو المعين. وهذا القول مأخوذ من ولي يلي؛ أي يقف في جانبه. ونسمي الذي ينوب عن المرأة في عقد النكاح (الوليّ). وكذلك (وليّ المقتول). والمراد هو: يا من آمنتم لاحظوا تماماً أنكم أصحاب مهمة وهي أن تخرجوا الضلالات من البشر، هذه الضلالات تمثلت في تحريف ديانات كان أصلها الهدى فصارت إلى ضلال، فإياكم أن تضعوا أيديكم لطلب المعونة والنصرة.
 

إذن قوله الحق: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} هو حكم تكليفي. وحيثية الإيمان بالله. فما دمت قد آمنت بالله فكل من تقدح أنت في إيمانه بمخالفته لمنهج ربه لا يصح أن يكون مؤتمناًَ على نصرتك؛ لأنه لم يكن أميناً على ما معه فهل تتوقع منه أن يعينك على الأمانة التي معك لا؛ لأنه لم يكن أميناً على ما نزل عليه من منهج. والولاية نصرة، والنصرة انفعال الناصر لمساعدة المنصور. وهل تجد فيهم انفعالاً لك ينصرك ويعينك، أو يتظاهرون بنصرتك، ولتعلموا أنهم سيفعلون ما قاله الحق: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47].
إنهم لو دخلوا في صفوفكم لفعلوا فيكم مثلما يفعل المنافقون، فما بالنا بالذين خانوا أمانة الكتب المنزلة عليهم؟ إذن فالموالاة والنصرة والمعونة يجب أن تكون من متحد معك في الغاية العليا. وما دام هناك من يختلف مع الإسلام في الغاية العليا وهي الإيمان فلا يصح أن يأمنه المسلم. وسبحانه يقول: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}.
وقد يتساءل الإنسان: كيف يقول الحق فيهم: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ} [البقرة: 113].
ويقول سبحانه أيضاً: {وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113].
ويقول جل شأنه: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113].

 

نحن- إذن- أمام ثلاثة أقسام؛ يهود، ونصارى، ومشركون، وقد قال مشركو قريش مثل قول أهل الكتاب بشقيهم برغم أنهم في خلاف متضارب وكل منهم ينكر الآخر، وسبحانه قال: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة} [المائدة: 14].
فكيف من بعد ذلك يقول سبحانه: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}؟

وهذا أمر يحتاج إلى وقفة إيمان لنرى الصورة كاملة،

ونعلم أن الذين يخالفون منهج الحق قد يصح أن يكون بينهم خلاف على السلطات الزمنية، لكنهم عندما يواجهون عملاقاً قادراً على دحر كل بنيان أكاذيبهم يتفقون معاً. وهذا ما نراه في الواقع الحياتي: معسكر الشرق- الذي كان- يعادي معسكر الغرب، ولكن ما إن يجيء شيء يتصل بالإسلام حتى يتفقوا معاً على الرغم من هزيمة المعسكر الشرقي؛ لأن الإسلام بمنهجه خطر على هؤلاء وهؤلاء وعلى سلطاتهم ولكنه في الحقيقة رحمة بهم إنه يخرجهم من الظلمات إلى النور وهم يتصرفون في ضوء ما قاله الحق: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}.
وعندما ينفرد كل منهم بالآخر فإنه ينطبق عليهم قول الحق: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء} [المائدة: 14].
هكذا نفهم طبيعة العلاقات بين أعداء الإسلام.

 

ويقول الحق: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي أن من يتخذهم نصراء ومعينين فلابد أنّه يقع في شرك النفاق؛ لأنه سيكون مع المسلمين بلسانه ومع أعداء الإسلام بقلبه.
 

ويذيل الحق الآية بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} ونعرف أن الظلم هو نقل حق إلى غير صاحبه، وأعلى مراتب الظلم هو الشرك بالله، وهو الظلم العظيم؛ فالحق يقول: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
ذلك أن الإنسان حين يظلم إنساناً آخر ويأخذ منه شيئاً ليعطيه لآخر فهل هناك إنسان يقدر على أن يأخذ من الله شيئاً؟ لا، فالإنسان لا يستطيع أن يظلم الله، لكنه ينال عقوبة الشرك وهذا ظلم خائب للنفس والذي يشرك بالله لا يأخذ إلا الخسار، وذلك هو كل الخيبة.
لأن الظلم حينما يحقق للظالم فهو ظلم هين، ولكن الظلم العظيم هو أن يشرك إنسان بالله ولا يأخذ إلا العقاب الصارم. فإذا كان المشرك يتأبّى على منهج الله في الأشياء فهل يجرؤ على أن يتأبّى على قدريات الله غير الاختيارية فيه كالموت مثلاً؟.

 

والحق يأمر الإنسان بالإيمان. ومتعلقات الإيمان من شهادة بوحدانيته وإيمان برسله وكتبه واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا. والمشرك يتأبّى على الإيمان والتكاليف فهل يجرؤ على التأبي على المرض أو الموت؟. لا؛ لذلك فهو يظلم نفسه ظلماً خائباً. والحق سبحانه لا يهديه؛ لأن معنى الهداية هو أن يجد الإنسان من يدله على الطريق الموصل للغاية. فهداه أي دلّه على الطريق الموصل للغاية. ولا يتجنّى سبحانه على خلقه فلا يهديهم، بل الذين ظلموا أنفسهم ولم يؤمنوا هم الذين لا ينالون عناية الحق سبحانه وتعالى باختيارهم.
 

image.thumb.png.4b6d511cc6abe83df16627be0b35182f.png


{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)}


المجال هنا كان عن النهي عن اتخاذ أهل الكتاب أولياء من دون الله، ومن سمع هذا النهي وفي قلبه الإيمان نفّذ النصيحة. ولكن الذي طمس المرض- وهو النفاق- قلبه فهو الذي يتولاهم. وهو يسارع إلى هذه الولاية. ونعرف أن المسارعة هي تقليل الزمن في قطع المسافة الموصلة للغاية فإذا كانت هناك مسافة تقتضي السير لمدة خمس عشرة دقيقة فالمسارعة تفرض على الإنسان أن يقطعها في وقت أقل من ذلك.

 

وهناك (يسارع إلى) و(يسارع في)،

مثل قول الحق: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133].
والغاية هنا هي المغفرة من الله وعلى المؤمن أن يسارع إليها، أما عندما يقال:(يسارع في كذا) أي أنه كان في الأصل منغمساً في هذا الموضوع. وعندما يقول الحق: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي كانهم كانوا مع هؤلاء الكفار من البداية، ولذلك فالمسارعة في ظرفيتهم. وبذلك يتهافتون عليهم. والعلّة العامة أن في قلوبهم مرضاً جعلهم يبتكرون ويلفقون أسباباً، هذه الأسباب هي {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ}
والموالاة هنا من الخوف أن تدور الدوائر، ونحتاج إليهم لأن عندهم الأموال والسلاح، وهذا ما قاله المنافق عبدالله بن أبيّ؛ فقد قال: أنا رجل أخشى الدوائر. أي أنه يخشى الأحداث والمصائب. مثلما نقول: (الأيام دول). ولكن كلمة (دول) هي انتقالية وقد لا يكون فيها ضرر، أما (دوائر) فهي انتقالية فيها ضرر. وعكس ذلك ما قاله عبادة بن الصامت قال رضي الله عنه:
- أنا سآخذ ولاية الله ورسوله والمؤمنين وسأنفض عني ولاية اليهود والنصارى.
وأورد الحق قول المنافق: {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} وساعة نسمع كلمة (الفتح)، فلنعرف أدلّ مدلولاتها أنه الحكم. {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89].
أي احكم يا رب بيننا وبينهم.

 

إذن فقوله الحق: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} أي الحكم الذي يضع حدّاً لمسألة موالاة أهل الكتاب والذين لا يعلمون.
والأمر من عند الله هو حكم من الله أيضاً. يخاطب المؤمنين به. والمؤمن بالله له أعمال تؤدى كأسباب إلى مسببات، وقد يأتي للمؤمنين أشياء بدون مقدمات منهم، وهي الفضل من الله. إذن فعسى الله أن يأتي بالفتح، أي بأسباب أنتم تصنعونها وتعدّون ما استطعتم من عِدِّة وعُدَّة وتؤذونهم، ولذلك قال في آية أخرى: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} [الحشر: 6].

 

مثال ذلك ما حدث لبني النضير، فكان الإجلاء، واستولى المسلمون على أرض بني قريظة، وهذا هو الفتح من عند الله. وسبحانه- إذن- يعامل المؤمنين معاملتين: الأولى أن يصنع المؤمنون مقدمات تؤدي إلى نتائج: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14].
وهنا جعل الحق قتال المؤمنين سبباً، أما الثانية فهي الأمر من عنده بالنصرة بالربوبية.

 

وساعة تسمع (عسى) و(لعل) فهذا معناه الرجاء. والرجاء أن المتكلم يرجو أن يقع ما دخلت عليه (عسى). مثال ذلك قولنا:(عسى أن تكرم زيداً). ومن يقولها إنما يرجو سامعها أن يكرم زيداً، وهذا يعني أن القائل ليس في يده إكرام زيد. أما إذا قال القائل:(عسى الله أن يكرم زيداً)، فهذا نقل للرجاء من البشر إلى الله. والقائل هنا بشر ويتكلم عن بشر، والمرجو هو الله، وقدرة الله أوسع من كل قدرة. هنا ندخل في اتساع دائرة الرجاء فما بالنا إذا كان المتكلم هو الله؟ إذن فهذا إطماع من كريم لابد أن يتحقق.
 

ونتعرف بذلك على درجات الرجاء: رجاء من بشر لبشر، رجاء بشر من إله لبشر، رجاء إله من إله لبشر، ولأن الرجاء الأخير من المالك الأعلى لذاته فهو الذي يعطي {فَيُصْبِحُواْ على ما أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أي أنهم صاروا إلى الندم. وبذلك صار قولهم: {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} هو كشف لما في قلوبهم من مرض النفاق، وقد خلعوا على المرض وعبروا عنه بهذا الكلام سترا لما في قلوبهم، فكأن الذي أسروه في نفوسهم هو كراهية هذا الدين وكراهية هذا المنهج وأنهم لا يحبون أن يستعلي هذا المنهج على غيره.
 

إذن فالحق سبحانه وتعالى يدلنا على أن القول الذي نشأ منهم: {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} لم يكن هو السبب المباشر. ولكن السبب هو المرض في قلوبهم. والمرض: أنهم لا يحبون أن ينتصر منهج الإسلام؛ لأنهم يعيشون على ثروات المخالفين للدين، وساعة تكون السيطرة للإسلام ينتهي ثراؤهم. وكذلك كان أهل الكتاب في المدينة قبل أن يأتي الإسلام كانوا أصحاب العلم والمال والجاه، وكانت الأوس والخزرج يأخذون منهم المال بالربا ويشترون منهم السلاح، ويأخذون منهم العلم. ولما جاء الإسلام ضاع من اليهود كل ذلك فتمكن من قلوبهم المرض؛ لأن الإسلام سلبهم السلطة الزمنية، هذه السلطة التي جعلتهم يحرفون كتب الله. فإذا كانوا قد دخلوا مع الله في تحريف كتبه، أفلا يدخلون معكم- أيها المسلمون- في عداوة ويلبسون عليكم بأنهم يعينون وهم يُخَذِّلون؟
 

{فَيُصْبِحُواْ على ما أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} وساعة يسمعون هذا القول الرباني وهو قرآن يتلى ويتعبد بتلاوته ويُقرأ في المساجد ويسمعونه، ولم يكن هناك فتح، ولم يكن هناك أمر، ويخبرهم الله بمصيرهم: {فَيُصْبِحُواْ على ما أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} ومعنى ذلك أنه سبحانه كتب الذي في نفوسهم. مثلما قال من قبل: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ}. أي أنهم قالوا في أنفسهم وسمعهم الخالق. ولو لم يقولوا في أنفسهم لأعلنوا أنهم لم يقولوا ذلك، لكنهم بهتوا حين كشفهم الحق وفضحهم وسجل ما في أنفسهم وأورد مضمون القول، وكان من اللازم أن يعترفوا بمضمون القول، وكان لابد لهم أن يتجهوا إلى الإيمان. لكنهم لم يفعلوا فصاروا إلى الندم. بنص الآية التي نزلت قبل أن يأتي فتح أو أمر من الله.

 

image.png.2c455eb7fbf6cb8049389eb144e853cb.png

 

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)}


هنا يرى المؤمنون رأي العين ندم هؤلاء. والندم انكسار القلب في الحاضر على تصرف سابق مثلما يرتكب إنسان حماقة وتظهر آثارها من بعد ذلك، فيقول: يا ليتني لم أكن قد فعلت ذلك. إنه انكسار نفس على تصرف سابق. وانكسار النفس يتضح على بشرة الوجه. وساعة يأتي الفتح تجد المنافقين وأهل الكتاب مكبوتين كبتاً قسرياً وهو الكبت الذي لا يجرؤ صاحبه عليه فيدعي أنه فرحان، إنه قسري بإلحاح بِنْيَة، وظهور أثر ذلك على وجوههم.
 

وهنا يفطن المؤمنون إلى ذلك فيقولون: {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ}. ولو كان هؤلاء المنافقون من الصادقين لفرحوا ولكانت أساريرهم متهللة، ولظهرت عليهم الغبطة. لكنهم صاروا عكس ذلك، صاروا نادمين مكبوتين.
{وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ} أي حبط عملهم وقولهم: (إنا معكم). والحبط هو- كما قلنا- الانتفاخ الذي يصيب البهيمة التي تأكل طعاماً غير مناسب لها، فيظن الناس أنها قد سمنت ولكنهم ياتفتون فيجدون أنها مصابة بانتفاخ قاتل.

 

{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} والخسارة في معناها الواضح أن يقل رأس المال. لقد فعل المنافقون ذلك ليستروا وراء المسلمين ولم يسلم لهم هذا الأمر وانكشفوا.

 

نداء الايمان

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)}


الخطاب هنا للمؤمنين، وكل نداء مثل هذا قد يجيء بعده حكم من الأحكام أو بشارة من البشارات أو وعيد للمخالف. والذي يأتي فيه شبه إشكال وليس بإشكال، هو أن يأتي هذا القول ويكون ما بعده أمر بالإيمان كقوله الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} فسبحانه يناديهم كمؤمنين ويطلب منهم الإيمان، ومثال ذلك قول القائل: (يا قائم قم) برغم أن المفروض أن يكون القول: (يا قائم اجلس) أو (يا قائم تعال)، أو (يا قائم انصرف إلى فلان)، فكيف إذن يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ}. هنا نقول: ما الإيمان؟ الإيمان هو استقرار العقيدة في القلب فلا تطفو للذهن لتناقش من جديد. ونسمي ذلك عقيدة، أي أمراً معقوداً في القلب.


إذن فالحق سبحانه وتعالى حينما يخاطب مؤمناً يطالبه ان يؤمن، فمعنى ذلك أن الحق يقول: أنت آمنت قبل أن أناديك وبسر الإيمان ناديتك فحافظ على هذا الإيمان دائما. وجدد دائماً إيمانك لأنني ناديتك بوصف الإيمان الذي عرفته فيك.
إن الحق يوضح: يا أيها الذين آمنوا داوموا على إيمانكم ولتكن كل لحظة من لحظات حياتكم المقبلة في إيمان عالٍ مرتقٍ قبل أن أتكلم معكم بوصف الإيمان أنتم آمنتم أولاً فناديتكم فحافظوا على ذلك واثبتوا على إيمانكم.


ومعنى قوله: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} أي من يتراجع منكم عن الإسلام فسيأتي الله بعوض عنه، وسيأتي بقوم لن يكونوا مثل هؤلاء المرتدين. إذن فمن يرتد فعليه أن يفهم أنه لن ينقص جند الله واحداً؛ لأن الذي أذن لشرعه أن ينزل على رسول ونبي خاتم لن يجعل هذا الرسول وهذا المنهج تحت رحمة أغيار الناس. فإن خرج أناس عن المنهج فالله يستبدل بهم غيرهم. وفي هذه الآية أسلوب يخالف آية البقرة في الوجه الإعرابي، وسبحانه يقول في آية البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].

هنا وجدنا الحق يقول: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} أما في الآية التي نحن بصددها في سورة المائدة فهو سبحانه يقول: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} ونجد الأسلوبين مختلفين. والحكمة العليا في أن الحق سبحانه وتعالى يأتي في كتابه بآيات متحدة في المعنى إلا أن وجه الإعراب فيها يختلف ليدلنا أن القرآن نزل إلى الناس كافة.
 

وقبل أن ينزل القرآن كانت هناك لغتان: لغة تميم، ولغة الحجاز.
وكان الخلاف بين اللغتين محصوراً في الكلمة التي بها تضعيف، أي فيها حرفان من شكل واحد أي متماثلان. وكلمة (يرتد) بها (دالان) وأصلها (يرتدد). و(يرتد) بها مِثْلان والنطق بهما صعب. ولذلك حاول الناس في مثل هذه الحالة أن يدغموا مِثْلاً في مثل. ولذلك كان من اللازم أن نُسكن الحرف الأول من المثلين. والمفروض أن (الدال) الثانية ساكنة؛ لأن (مَن) شرطية جازمة. والدال الأولى أصلها بالكسر. ولابد من الإدغام. والإدغام يقتضي إسمان الحرف الأول. إذن فمن أجل الإدغام نفعل ذلك.

ونحن نعلم أن الساكنين لا يلتقيان، وكان تسكين الحرف الأول لأنه ضروري للإدغام، أما الحرف الساكن الآخر فهو الطارئ. فنتصرف فيه، ولذلك نحركه بالفتح حتى نتخلص من التقاء الساكنين. ولذلك نقول: (من يرتد) بالفتح.
 

وجاء لي ذات مرة سؤال يقول: كيف يأتي القرآن ب (يرتد) بالنصب أي بالفتح؟ وقلت: إنها ليست (فتحة نصب) والسائل يفهم أن (مَن) إما اسم موصول، وإمَّا هي (مَن) الشرطية، فلو كانت اسماً موصولاً؛ لكان القول (من يرتدُ)- بالضم- وإن كانت (مَن) الشرطية لجاءت بالتسكين ولأن ما قبلها جاء ساكناً للإدغام تخلصنا من السكون بالفتحة وهي (فتحة) التخلص من ساكنين، لأنه- كما قلنا- لا يلتقي ساكنان.
والذي يُظهر لنا ذلك هو آية البقرة التي قال فيها الحق: (ومن يرتدد) بدليل أنه عندما عطف قال: (فيمت) بالجزم عطفا على يرتدد. أما السبب في أن جواب الشرط واضحٌ في آية المائدة أنه لم يأت فعل جوابي أو عطف، وجواب الشرط هو قول الحق: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ويدل على ذلك دخول الفاء على كلمة سوف لكن لو كان الحق قد قال: من يرتد منكم عن دينه يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه كان يمكن الفهم بسرعة أن (مَن) شرطية، لأن كلمة (يأت) جاءت مجزومة بحذف آخرها، ومن هنا يتضح أن الفتحة في (يرتد) هي فتحة التخلص من التقاء الساكنين.

وما السبب في أن الحق يأتي بآية على هذا النسق، وآية أخرى على ذاك النسق؟ نحن نعلم أن القرآن قد نزل بلغة قريش. وكانت قريش تمتلك السيادة. ولم تكن هناك قبيلة بقادرة على مواجهة قريش. ونعرف جميعاً أن رحلة قريش إلى اليمن لم يكن ليجرؤ إنسان أن يتعرض لها، وكذلك في رحلة قريش إلى الشام؛ لأن قريشا تستوطن حيث يوجد بيت الله الحرام الذي يحج إليه كل عربي.

ويوم أن يتعرض أحد لقوافل قريش عليه أن ينتظر العقاب له أو لقبيلته، إذن فالبيت الحرام هو الذي أوجد لهم تلك المهابة لذلك ينبههم الحق إلى ذلك عندما قال في سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1-5].
وقد تم وعيد الله لأصحاب الفيل، لأنهم أرادوا هدم بيت الله الحرام. ثم يتبع الحق سورة الفيل بقوله في سورة قريش؛ {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 1-2].
ليوضح سبحانه أنه من ضمن أسباب صيانة بيت الله الحرام أن حفظ سبحانه لقريش الأمان في رحلة الشتاء والصيف، ولو انهدم البيت الذي يحقق لقريش السيادة لهجم الناس على القرشيين من كل جانب؛ لأنه القائل في شأن من قصدهم لهدم بيت الله الحرام. {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5] {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1].
وما دامت تلك المسألة قد صنعها الله لقريش، فلابد لهم من عبادة رب هذا البيت: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4].
إذن فقريش أخذت السيادة بين العرب بمكانة البيت، وأخذت السيادة أيضاً في اللغة، وكانت كل أسواق العرب تعقد هناك، وأشهرها سوق عكاظ، وكان ينصب في قريش خلاصة اللغات الجميلة من القبائل المختلفة. وهكذا أخذت اللغة المصفّاة المنتفاة، فكل شاعر كان يقدم أفضل ما عنده من شعر. وكل خطيب كان يأتي بأحسن ما عنده من خطب. وبذلك كانت قريش تسمع أجود الكلمات. ولهذا كانت اللغة التي عندهم هي اللغة العالية. ولذلك عندما جيء لزمن كتابة القرآن كانت الوصية: إن اختلف عليكم شيء فاكتبوه بلغة قريش؛ لأن لغة قريش أخذت من اللغات محاسنها. وبنو تميم والحجاز كانوا مختلفين في بعض الأشياء. ولذلك كنا نسمع- عندما نتعلم الإعراب- قول المعلم وهو يسألنا: هل (ما) حجازية أو تميمية؟ وهذا يدلنا على أن هناك خلافاً بين النطق في القبيلتين.
وفي الآية التي نحن بصددها ندغم ونقول: {مَن يَرْتَدَّ} وفي آية البقرة ننطقها دون إدغان فنقول: (ومن يرتدد).
وكأن الحق جاء بآية على لغة الحجاز واية على لغة تميم، وذلك برهان جديد على أن القرآن لم يأت ليحقق سيادة القريش، إنما هو للناس كافة؛ لذلك نجد من كل لهجة كلمة، ليتضح أن القرآن لعموم الناس جميعهم.

 

وعندما نقرأ قول الحق: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
نعلم أنه سبحانه يعلمنا أنه قادر على أن يأتي بأهل إيمان غير الذين ارتدوا عنه، تماماً كما أخبرنا من قبل: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].

والقول هنا: خبر عن مصير المرتد إلى جهنم بعد أن تقوم الساعة.
ولكن القول: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} يدل على أن إجراءً سيحدث قبل أن تقوم القيامة. ومن ذا الذي يستطيع أن يتصور أن إلهاً ينزل قرآنا يتحدى به ثم يأتي في القرآن بقضية مازالت في الغيب ويجازف بها، إن لم تكن ستقع؟. والحق يقول: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} و(سوف) تخبرنا بموقف قادم سيأتي من بعد ذلك. ونقول هنا: من الذي يستطيع أن يتحكم في اختيارات الناس للإيمان؟. لا أحد يستطيع أن يتحكم في اختيارات الناس للإيمان إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يتحكم ويحكم ويخبرنا بأنه سوف يأتي أناس يؤمنون بدلاً من المرتدين.

 

أما إن ارتد أناس، وانتظروا أن يروا البديل لهم، ولم يأت فماذا يكون الأمر؟ لابد أن تنصرف الناس عن الدين. ولم يكن الحق ليجازف ويجري على لسان محمد بأن قوماً سيرتدون وهو لا يعلم أيأتي قوم مرتدون؟ والعلم جاء في هذه الآية كما جاء في كل القرآن من الله جل وعلا. وقد قالها الحق قضية كونية: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. وهل هناك قوم يحبهم الله وهم لا يحبونه؟ ونقول: إن هذا لا يحدث مع الله، وإن كان يحدث في الحياة البشرية مثلما قال الشاعر العربي:
أنت الحبيب ولكني أعوذ به ** من أن أكون محبّاً غير محبوب

شقاء المحبين إنما يأتي من أن العاشق يحب أحداً، وهذا الحبيب لا يبادله الحب؛ لذلك يظل العاشق باكياً طوال عمره. ولنا أن نلحظ أن حب الله هو السابق في هذا القول الكريم: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}؛ لأن هذه هي صفة الانكشاف للعلم، لقد علم الحق أنهم سيتجهون إليه فأحبهم، وعندما جاءوا فعلوا ما جعلهم محبوبين لله، ثم ما هو الحب؟. إنه ودادة القلب. وقلنا الكثير من قبل في أمر ودادة القلب. ونعرف أن هناك لوناً من الحب يتحكم فيه العقل. ولوناً آخر من الحب لا يتحكم فيه العقل ولكن تتحكم فيه العاطفة.
 

ومثال هذا عندما نذهب إلى طبيب ويصف لنا دواء مراً غير مستساغ الطعم، ونجد الإنسان الموصوف له الدواء يذهب إلى الصيدلية للسؤال عن الدواء، فإن لم يجده فهو يلف ويدور ويسأل في كل صيدليات البلد فإن لم يجده فهو يوصي المسافر إلى الخارج لعله يأتي له بالدواء. وإذا جاء له صديق بهذا الدواء فهو يمتلئ بالامتنان بالسرور. أيقبل المريض على الدواء غير المستساغ بعاطفته ام بعقله؟ إنه يقبل على الدواء غير المستساغ الطعم ويحبه بعقله. والحب العقلي- إذن- هو إيثار النافع.
 

ومثال ذلك نجد الوالد لابن غبي يحب ابناً ذكياً لإنسان غيره.
الوالد- هنا- يحب ابنه الغبي بعاطفته. ولكنه يحب ابن جاره لأنه يمتلك رصيداً من الذكاء. إذن هناك حب عقلي وحب عاطفي. وهذا ما يحدث في المجال البشري لكن بالنسبة لله فلا.

 

وعندما يقول الحق: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} أي أنهم يحبون الله بعقولهم، وقد يتسامى الحب إلى أن يصير بعاطفتهم، وقد يُجرب ذلك حين يجري الله على أناس أشياء هي شر في ظاهرها، ولكنهم يظلون على عشق لله. ومعنى ذلك أن حبهم لله انتقل من عقولهم إلى عاطفتهم. وسيدنا عمر جرى معه حل هذا الإشكال. كيف؟
لقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه».
وهناك من قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أحب إليه من ماله وولده لكن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: أنت أحب إليّ من مالي وولدي أما نفسي فلا وأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم القول: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه).

وهنا علم عمر- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد الحب العقلي؛ لأن عمر رضي الله عنه علم أيضا أن الحب العاطفي لا يكلف به، ولذلك قال عمر: الآن أحبك عن نفسي، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر. أي كأنه في هذه اللحظة قد اكتمل إيمان عمر. إذن فحب الله لا تقل فيه أيها المؤمن هل هو حب عقلي أو حب عاطفي؟؛ لأن المراد بحب الإله هو دوام فيوضاته على من يحب، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فالحق يلقاه في أحضان نعمه ويتجلى عليه برؤيته: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
والحسنى هي الجنة. أما الزيادة فقد قال المفسرون: إنها رؤية المحسن.

 

{فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وعندما يقول الحق: (فسوف) فلنعلم أن ما يأتي بعدها هو من إعلامات النبوة التي جاءت على لسان محمد في قرآن الله؛ لأن ذلك الأمر قد حدث كما جاء في قرآن الله، فقد ارتد قوم وانقسموا في الردة إلى قسمين؛ قسم ارتد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم ارتد على عهد أبي بكر، ومنهم من ارتد على عهد عمر. وحين تنظر إلى ما بعد (سوف) لابد أن تعرف أن هناك امتداداً زمنياً.
وأول الارتداد كان في اليمن وكان ذلك بعد حجة الوداع وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان في اليمن كاهن مشعوذ اسمه عَبْهَلة بن كعب، ويقال له: ذو الخمار، أو ذو الحمار في رواية أخرى، وهو الذي يعرف في كتب التاريخ الإسلامي باسم الأسود العنسي.
هو أحد الكذابين اللذين ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (بَيْنَما أنا نائم إذ اوتيتُ خزائن الأرض، فوُضع في يديّ سواران من ذهب فكبر عليّ وأهمّني، فأُوحِي إليَّ ان انفخهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما الكذابَيْن اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة).
وكان لهذا الكاهن حمارٌ روّضه صاحبه رياضة من لون خاص تماماً كتدريب القرود، فكان يقول له: قف. فيقف. ويقول له: سر. فيسير. واعتبر هذا الكاهن أن مثل هذا الأمر للحمار هو معجزة. أو كان الرجل اسمه (ذو الخمار) أي أنه كان يرتدي خماراً على وجهه. ومن العجيب أن اي مرتد لم يطالبه من يتعبه بعلامة صدقه في النبوة.
إن أول شيء في التأكد من صحة قول أي إنسان: (أنا نبي) أن يسأله الناس عن علامة الصدق في النبوة وأن يتعرفوا على معجزته، لكنا لا نجد ذلك في مرتد أبداً. وكيف لا يسأل الناسُ الذين يتبعون المرتد عن نفسه وعن دعواه أنه نبي وعن معجزته التي تدل على صدق رسالته، وهو ما يحدث مع أي رسول، كيف يؤمن أناس بفرد بدون معجزة؟.
هنا نذهب إلى الجانب النفسي من الأمر ونقول: إن التدين أمر فطري والإنسان الذي ليس له دين يغضب ويحزن عندما نقول له: يا قليل الدين. ولذلك نجد أن المبطل من هؤلاء يقول: أنا على دين. إنه لا يتصور أنه مبطل بلا دين. ولذلك قال الحق: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6].
فكأن الأصل في الفطرة الأصلية أن الدين ليس مجرد اسم أو صفة، ولكنه التزام بتكاليف. والذي يجعل الناس في خشية من الدين هو مشقة التكاليف؛ لذلك فعندما يأتي إنسان ويقول: أنا نبي ومعجزتي أنني خففت عليكم الصلاة والزكاة والصيام وأبحت لكم النظر إلى نساء بعضكم.
لا بد أن يسيل لعاب أصحاب الهوى الذين لا بصيرة لهم ويقولون: إن مثل ذلك لدين جميل، ويستسلمون ويخدعون أنفسهم بأنهم متدينون ورغم تحللهم من بعض التزامات التدين، إن المرء ليتعجب من مدعي النبوة في الزمن القديم وحتى عصرنا هذا لأننا لم نجد أحداً من المثقفين قد وقف أمام مدع وقال له: ما معجزتك؟ ولكن الكل سأل: ما منهجك؟ وعندما سأل أهل اليمن ذا الخمار: ما منهجك؟
كانت إجابته: إنه أسقط عنهم بعض التكليفات بداية من تقليل الصلاة والزكاة إلى إباحة الاختلاط بنساء غيرهم. واستراح بعضهم لذلك المنهج وذهلوا وغفلوا عن طلب المعجزة. وكل الذين ادعوا النبوة كانوا من هذا الصنف. ولذلك نجد أن كل مدع للنبوة يحاول التخفيف من المنهج، فهناك من خفف الزكاة.
وجاءت امرأة اسمها سجاح خففت الصلاة. وجاء ثالث ليخفف الربا فيبيحه. لكن أحداً منهم لم يأت بمعجزة. واتبعه بعضهم لمجرد تسهيل المنهج. ومدعي النبوة إنما يرضي النفوس التي لا تطيق ولا تقوى على مشقة المنهج بأن تكون متدينة ملتزمة به.

 

ومثال ذلك ما حدث في الإسكندرية عندما ظهر مدع للنبوة. وأباح منكراً مثيراً، وتبعه بعض من المتعلمين الذين أرادوا دينا على هواهم، وكذلك كان الأمر في البداية. وعندما جاء ذو الخمار، أو ذو الحمار، وهو كما قلنا: مشعوذ، وكان كما يصفه المؤرخون يسبي قلوب من يسمع منطقه وكان يريهم الأعاجيب، واستطاع بذلك أن يستولي على مُلْك اليمن، وأعلن ارتداده. وغلب على صنعاء وعلى ما بين الطائف إلى البحرين. وجعل يستطير شره استطارة الحريق.
 

وكان سيدنا معاذ بن جبل هو الوالي على اليمن من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر سيدنا معاذ بن جبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن كاهناًَ اسمه ذو الخمار أو ذو الحمار، قد ارتد.
ويذهب سيدنا معاذ إلى حضرموت. وهناك يأتيه كتاب من النبي صلى الله عليه وسلم يأمره فيه أن يبعث الرجال لمصاولة ذي الخمار. ويحتال المسلمون للنهوض بما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد ذلك يدخل على ذي الخمار رجل ديلمي اسمه فيروز فيقتله على فراشه.

 

وعلى الرغم من بعد المسافة بين اليمن والمدينة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ليلتها: (قتل الليلة الأسود العنسي).
وبعد ذلك يأتي الخبر في آخر الشهر أن مدعي النبوة قد قتل. وتلك من إعجازات النبوة. إذن فقد تعرض المؤمنون على زمن رسول الله صلى اله عليه وسلم للهزة في العقيدة بحكاية ذي الخمار أو ذي الحمار. وكانت قصة ذي الخمار كالمصل الواقي الذي يربي المناعة، وأخبرهم الله بها أولاً:
{مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
وذلك ليعطي الحق سبحانه وتعالى المؤمنين مناعة إيمانية وكأنه يقول للمؤمنين: لا تظنوا أنكم لن تتعرضوا إلى هزات عقدية دينية بل ستتعرضون. وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قد يجوز أن يفهم الناس أني وأنا حي أقوم على منهج الله في الأرض فإذا أنا مت ربما ارتدوا عن الدين.

 

ورسول الله عندما يبلغ ذلك للمؤمنين عن الله سبحانه إنما كان بقصد تربية المناعة. فلو فوجئ المسلمون بالردة ولم يكن الله قد خبرهم بها لما كان عندهم احتياط مناعي. والاحتياط المناعي هو أول عملية في الوقاية. ونعلم أن العلم المعاصر استطاع فصل الميكروب أو الفيروس المسبب لمرض وبائي، ويقوم العلماء بإضعاف هذا الميكروب أو الفيروس، ثم يوضع قليل من هذا الميكروب أو الفيروس بعد إضعافه في الجسم البشري، فتتحرك في الجسم أجهزة الوقاية والحماية لتقاتل هذا الميكروب أو الفيروس وتنتصر عليه، وبذلك تمتلك قوى الوقاية والحماية داخل الجسم القدرةَ على مقاومة هذا المرض، وهكذا أراد الحق بهذا القول الكريم: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
 

إذن فحين يوجد الارتداد، لا يفاجأ المسلمون بهذا الارتداد، ويثقون تماماً أنه بمجرد مجيئ الارتداد فإن وعد الله الآخر يجيء: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فلا فزع عند المؤمنين ساعة يحدث الارتداد ولا زلزلة في النفوس. وساعة يأتي الارتداد يقول المؤمن: إن الذي صدق في أنه يحدث الارتداد، سيصدق في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. وإذا رأيت (السين) تسبق قولاً فإن هذا يعني أن الزمن الذي يفصل بين الحدث والحدث قريب وقليل مثل قوله الحق: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس} [البقرة: 142].
أما عندما تقرأ (سوف) فأعلم أن الزمن الذي يفصل بين الحدث والحدث متسع وبعيد. ولذلك نحن نرى أن الردة قد امتدت في عهد أبي بكر- رضي الله عنه- وفي عهد عمر- رضي الله عنه-.

 

وما هي ذي مواصفات القوم الذين يأتي بهم الله في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم}؟ إنها مواصفات ست: يحبهم الله، ويحبون الله، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم.
 

وكيف يكون الإنسان المؤمن ذليلاً وعزيزاً في آن واحد؟

لأن الحق لا يريد أن يطبعنا على لون واحد من الانفعال، ولكنه يريد لنا أن ننفعل تبعاً للموقف. فعندما يحتاج الموقف إلى أن يكون المؤمن عطوفاً فالمؤمن يواجه الموقف بالعاطفة. وعندما يحتاج الموقف إلى الشدة فالمؤمن يواجه الموقف بالشدة. وإن احتاج الموقف إلى الكرم، فالمؤمن يقابل الموقف بالكرم. فالمسلم- إذن- ينفعل انفعالاً مناسباً لكل موقف، وليس مطبوعا على انفعال واحد. ولو انطبع المؤمن على موقف ذلة دائمة فقد يأتي لمواجهة موقف يتطلب العزة فلا يجدها ولو طُبع المؤمن على عزة دائمة فقد يأتي لمواجهة موقف يتطلب الذلة فلا يجدها؛ لذلك جعل الحق قلب المؤمن ليناً قادراً على المواجهة كل موقف بما يناسبه.
والمؤمن عزيز أمام عدوه لا يُغلب، ويجابهه بقوة. والمؤمن يخفض جناح الذل من الرحمة لوالديه امتثالاً لأمر الحق سبحانه: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} [الإسراء: 24].
وهل إذا خفض المؤمن جناح الذل لوالديه. أيخدش ذلك عزته؟ لا. بل ذلك أمر يرفع من عزة الإنسان. والحق يريد المؤمن أن يكون غير مطبوع على لون واحد من الانفعال، ولكن لكل موقف انفعاله. وحين ينفعل المؤمن للمواقف المختلفة فهو يميز ما يحتاج إليه كل موقف {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} ويقال في اللغة: (ذليل لفلان) فلماذا- إذاً- يقول الحق هنا: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين}، و(على) تفيد العلو.
والذلة تفيد المكانة المنخفضة، فكيف يأتي هذا التعبير؟ لقد جاء هذا القول على هذا الشكل لحكمة هي: أن المؤمن ما دام يحب الله ويحبه الله. وساعة يكون في ذلة لأخيه المؤمن فهذا يرفع من قدره. وهي ليست ذلة بالمعنى المتعارف عليه، ولكنه لين جانب وعطف ورحمة. إذن فقوله الحق: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} يعني أن المؤمنين يعطفون على غيرهم من المؤمنين حتى يبدو هذا العطف وكأنه ذلة. وبعض العلماء يقول: إن المادة (ذال) و(لام) تدل على معنيين متقابلين، مثال ذلك قوله الحق: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} [يس: 72].
أي جعلناها خاضعة لتصرفهم. وهذا التذليل ليس بقهر من الإنسان للأنعام ولكنه بتسخير من الله. وهي ميسرة لخدمة الإنسان. ومثال آخر. قوله الحق: {فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} [النحل: 69].
أي متطامنة مهيأة. إذن فهذه ذلة اللين. وهناك (ذُل)- بضم الذال- وهو ضد العز. وهناك (ذِل)- بكسر الذال- وهو اللين. إذن فالذل بكسر الذال هو ضد الصعوبة؛ أي اللين. والذُّل- بضم الذال- هو ضد العز-، فإذا اردنا ذلّة اللين؛ فذل المؤمن للمؤمن من الذُّل، وإن أردنا الذلة التي هي ضد العز، فهي من الذُّل. وعندما يكون المؤمن على ذِلة للمؤمن. فهي ذِلة اللين والعطف. وعندما يريد الحق الشيء ليتدانى للمؤمن ولا يتعبه، فهو يقول: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23].
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان: 14].
أي دُلِّيت عناقيدها. فالفاكهة تنزل إلى المكان الذي يوجد فيه المؤمن. وإن وقف المؤمن لطال بيده أن يقطف الثمار. وإن اضطجع لاستطاع أن ينال أيضاً من الثمار لأنها تتدانى له. وإن نام المؤمن لتدانى قطاف الثمار إلى مكانه وبذلك يستطيع أن يأكل منها في أي وقت وعلى أي وضع.
وهنا يأتي الحق بالقول الحكيم: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} أي أن ذلة المؤمن لأخيه المؤمن ترفع منزلته. وبها يكون المؤمن أهلاً لأن ترفع منزلته؛ لأنه مصطفى بأن الله يحبه وأنه يحب الله، ولا توجد رفعة أكثر من هذه رفعة. ولذلك نجد القول المأثور:(من تواضع لله رفعه).
أي من تواضع وفي باله الله فإن الله يرفعه.
{أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} وهذا هو الوصف الثالث للمؤمنين في تلك الآية بعد قوله الحق: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين}.
إن المؤمن عزيز على الكافرين بأنه لا يُغلب، وما دام هو يعرف ذلك فهو ينضم إلى الجهاد في سبيل الله. {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله} وكلمة (الجهاد في سبيل الله) تخصص لوناً من الجهاد، فالإنسان قد يجاهد حمية أو دفاعاً عن جنسيته أو أي انتماء آخر، وكل هذه الانتماءات في عرف الذين لا قيمة لها إلا إذا نبعت من الانتماء إلى منهج الله، لتكون كلمة الله هي العليا.

 

وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل القتال: فيما جاء عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليُرَى مكانه، فَمَنْ في سبيل الله؟ قال: (مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
 

وما دام المؤمن محبوباً من الله ويحب الله وذليلاً على المؤمنين وعزيزا على الكافرين، مادام الأمر كذلك فعندما يتولى مؤمن أمر قيادة غيره من المؤمنين فلا أحد منهم يأنف أن يكون تحت قيادته. وبذلك يخرج المؤمن عن دائرة الاستعلاء والاستكبار؛ لأنه يجاهد في سبيل الله. ولو جاءه إنسان ليلومه على ذلك فهو لا يسمح له، وكأنه سبحانه يوضح: تنبهوا جيداً إلى أن القوم الذين يحبهم الله ويحبون الله والذين هم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين ويجاهدون في سبيل الله فلا نظن أنهم بمنأى عن سخرية الساخرين، وهزؤ المستهزئين، ولوم اللائمين ليردوهم عن هذه العملية.
 

ولذلك يقول الحق: {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} وقد وضح ذلك على مر تاريخ الإسلام وجاء الحق بقوم يحبهم ويحبونه وهم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين وجاهدوا في سبيل الله وما خافوا لومة لائم.
وساعة نستقرئ هذه الآية نجد أن سوف (ابتدأ مدلولها الأول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.) وحين سئل رسول الله عن القوم الذين يحبهم الله ويحبون الله وفيهم هذه الصفات؛ أشار بيده مرة إلى أبي موسى الأشعري، وقال صلى الله عليه وسلم: «هم قوم من هذا».
وعندما نزل قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} [الجمعة: 3].
سأل أبو هريرة- رضي الله عنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هم يا رسول الله؟ فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجل من هؤلاء).
وقد حدثت الردة الأولى في اليمن، وكانت في قوم أبي موسى الأشعري، وكتب رسول الله إلى معاذ بن جبل- كما أوضحنا- وبعد ذلك تطوع فيروز الديلمي ودخل على من كان يدّعي النبوة ذي الخمار أو ذي الحمار، وقتله. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتها بالأمر. ولكن خبر القتل جاء بعد أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. وكانت تلك من علامات النبوة.
وحدث- أيضاً- في زمانه صلى الله عليه وسلم أن ادّعى مسيلمة الكذاب أنه نبي. وكتب مسيلمة إلى رسول الله كتاباً، يقول: مِن مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله.
ولم يقدر على نزع صفة النبوة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في كتاب مسيلمة: (أما بعد. فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك) كأنه قد فهم أن المسألة بالنسبة لرسول الله تحتاج إلى قسمة، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات فيها هبات النبوة: (من محمد رسول لله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين).
ولم يسمع مسيلمة كلام رسول الله، وجهزت الحملة لترسل إليه لتأديبه. وجاء عهد أبي بكر- رضي الله عنه-، وكانت المعركة على أشدها. وجاء (وحشي) الذي قتل حمزة- رضي الله عنه- في موقعة أحد. وأراد أن يكفر عن سيئاته فذهب وقتل مسيلمة. ولذلك كان يقول كلمته المشهورة: أنا قتلت في الجاهلية خير الناس- يقصد حمزة- وقتلت في الإسلام شر الناس- يقصد مسيلمة- وانتهى أمر مسيلمة.
وجاء إنسان ثالث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه (طليحة بن خويلد) من بني أسد وادّعى النبوة، وكلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن ذهب إليه وكان (خالد بن الوليد) وساعة علم الرجل أن خالداً هو الذي جاء لقتاله لاذ بالفرار، ولكنه من بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه.
ونلاحظ أننا ننطق (الردة) بكسر الرا، وصفاً لتلك الأمور التي حدثت وقوبلت هذه المقابلة. ولا نسميها (رد) فتح الراء، لأن الرد- بفتح الراء- يكون عودة إلى حق، أما الردة- بكسرة الراء- فتكون إلى باطل، مثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} [النساء: 59].
أما الذي يرتد فهو يرتد إلى باطل.
ومن العجيب أن كلمة (الردة) التي جعلها الإسلام علامة على الانتقال من الإيمان إلى الكفر يستخدمها أعداء الإسلام الذين لا يؤمنون بأديان ما، فعندما يترك الشيوعية أحد أتباعها يقولون: لقد حدثت رِدة. وكان من الواجب لو أنهم أصحاب مبادئ أصيلة أن يختاروا لفظاً آخر لكن لا يوجد في اللغة لفظ يعبر عن الرجوع إلى الباطل إلا كلمة (ردة) وكذلك كلمة (منبر) لا توجد- أيضاً- إلا في الإسلام، وهو موقف الواعظ من المصلين يوم الجمعة. وعندما يأتون إلى تصنيف جماعة متطرفة إلى اليسار فهم يقولون: (منبر اليسار) ونقول: لماذا تأخذون هذه الكلمة من عندنا؟.

 

ومثال آخر عندما يكتب كاتب: هذه الراقصة تتعبد في محراب الفن. ونقول: لماذا تستخدم كلمة (محراب)؟. عليك أن تبحث عن كلمة أخرى. وكل ذلك يدل على أن كلمات الإيمان هي الكلمات المعبرة ولذلك يذهبون إليها.
ويؤخذ في ظاهر الأمر على الإسلام أن من يرتد يُقتل.
ونقول: أيظن أحد أن هذه ضد الإسلام؟ لا إنها لصالح الإسلام؛ لأن الإنسان إذا علم أنه عندما يقبل على الإسلام فهو يقبل على الدين الكامل؛ لأن من يخرج عليه يهدر دمه ويقتل. وعلى من يفكر في الدخول إلى الإسلام أن يحتاط لحياته. إذن فالإسلام لا يسهل لأحد الدخول فيه، ولكنه يصعب عملية الدخول: وينبه كل فرد إلى ضرورة الانتباه قبل الدخول في الإسلام؛ لأنه دخول إلى دين كامل وليس لهواً أو لعباً.
إن على من يرغب في الدخول في الإسلام أن يفكر جيداً وأن ينتهي إلى الحق؛ لأن حياته ستكون ثمن الرجوع عن الإسلام وهذا دليل على جدية هذا الدين وعدم السماح بالعبث في عمليات الدخول فيه. وحين يصعب الإسلام عملية الدخول فيه إنما يعطي فرصة الاختيار ليعلم من يختار الدين الإسلامي أن يعي أن الرجوع عن الإسلام ثمنه الحياة. وساعة يطلب دين أن يفكر الإنسان جيداً قبل أن يدخل فيه فهل في ذلك خداع أو نصيحة؟ إنها النصيحة وهي عملية لصالح الإسلام، وهي أمر علني ليعلم كل داخل في الإسلام أن هذا هو الشرط.
ولو أن الإسلام يريد تسهيل المسألة لقال: تعال إلى الإسلام واخرج متى تريد. لكن الدين الحق لا يخدع أحداً. وسبحانه يقول: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].

 

وتكلمنا من قبل عن الردات التي حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كلمة (سوف) التي جاءت في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} تدل على الامتدادية. وقد حدثت ردة في عهد أبي بكر- رضي الله عنه- وظهر سبعة ادّعوا النبوة، مثال ذلك: (بنو فزارة) قوم عيينة بن حصن ارتدوا وأرسل إليهم أبو بكر- رضي الله عنه- من حاربهم. وكذلك قوم غطفان ارتدوا.
وكذلك قوم قرّة بن هبيدة بن سلمة، وكذلك بنو سُلَيْم. قوم الفجاءة بن عبد يالليل، فأرسل لهم أبو بكر من يؤدبهم. وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض من بني تميم الذين ادعت فيهم النبوّة سجاح بنت المنذر والتي تزوجت مسيلمة. وكذلك (كِندة) قوم الأشعث بن قيس، وكذلك قوم الحًطَم بن ضبيعة وهم بنو بكر بن وائل في البحرين. وقضى عليهم سيدنا أبو بكر مما جعل كثيراً من القوم يقولون: إن القوم الذين يحبهم الله ويحبون الله وفيهم كل تلك الأوصاف هم أبو بكر ومن معه.
ولكن أيمنع ذلك أن كل جماعة سيكون فيها مثل أبي بكر- رضي الله عنه-؟ لا. ومثال ذلك علي بن أبي طالب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كان علي رضي الله عنه تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان به رمد فقال: أنا اتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج على فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما كان مساء الليلة التي فتحها في صباحها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأعطين الراية- أو ليأخذنّ- غداً رجلٌ يحبه الله ورسوله»، أو قال: «يحب الله ورسوله، يفتح الله عليه». فإذا نحن بعليٍّ وما نرجوه، فقالوا هذا علي، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح الله عليه.

 

وفي عهد سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لم تحدث إلا ردة واحدة، جاءت من الغساسنة بقيادة جبلة بن الأيهم وهم من الشام وكانوا موالين للروم، وكان جبلة هو رئيسهم وأسلم وجاء ليطوف بالبيت الحرام بهيلمان كزعيم للغساسنة. وكان لهم العظمة في الجياد والملابس. وكان يرتدي رداءً طويلاً فوطئ أحد الناس رداءه؛ فسقط، فلطمه جبلة، وأبلغ الرجل عمر بن الخطاب. وقال عمر بن الخطاب: إنه القصاص. وقال سيد الغساسنة: إني أشتري هذه اللطمة بألف دينار ولم يقبل الرجل فعرض سيد الغساسنة ألفين من الدنانير فرفض الرجل، فزادها إلى عشرة آلاف ولم يقبل الرجل.
وقال جبلة لعمر: أنظرني حتى أفكر في المسألة. فلما أنظره عمر، هرب الرجل إلى الشام ووتنصر. هكذا يتضح لنا آفاق كلمة (سوف) وأي زمن تأخذ، إن لها امتدادات حتى زماننا.

 

إن الردة في زماننا جاءت من فارس ممثلة في البهائية والبابية، وهدف المرتد يكون جاه الدنيا، إن كان يريد الحكم، ووسيلة المرتد تيسير التكليف لمن يتبعه في الارتداد. ومن يدعي لنفسه النبوة والقدرة على الإتيان بتشريع جديد إنما يطلب لنفسه جاه الدنيا، والذي يتبع ذلك المدعي للنبوة إنما يقصد لنفسه تيسير التكليف.
ولماذا تيسير التكليف؟؛ لأن الإنسان مؤمن بفطرته ودليل ذلك أننا إذا واجهنا إنساناً غير مؤمن، وقلنا له: أنت قليل الدين. يغضب ويثور؛ لأنه لا يتصور أن ينزع أحد منه أنه متدين بشكل ما. ونرى إنساناً قد يسرف على نفسه كثيراً لكنه ساعة يسمع إنساناً آخر يسب الدين يثور ويغضب ويتحول إلى مدافع عن دين الله، وتلك هي الفطرة الإيمانية التي فطر الله كل الناس عليها. والذي يجعل الدين لأمراً شاقاً على النفس البشرية ليس فطرة الدين، ولكنه تكليف التدين؛ لأنه أمر يدخل في الاختيار.

 

وقد جعل الحق التكليفات الإيمانية كلها في مناط الاختيار البشري، ولم يشا أن تكون أمراً قهرياً. ولو شاء سبحانه أن يجعل كل الناس مؤمنين لما قدر أحد على الكفر: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
فليس في قدرة أحد أن يتأبى على الله، ولكنه شاء أن يجعل تكاليف الإيمان مسألة اختيارية. والإنسان حر في أن يفعل تكاليف الإيمان أو لا يفعلها، وفي كلتا الحالتين سيلقى الجزاء. مثال ذلك: (اللسان) خلقه الله صالحاً أن يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وهذا اللسان نفسه صالح لأن يقول:- والعياذ بالله- (أنا لا أؤمن بالله).
ولا يعصى اللسان صاحبه، فقد خلقه الله مجهزاً للتعبير عن مكنونات قلب الإنسان وخاضعا لإرادة الإنسان. ومثال آخر من مصنوعاتنا نحن: جهاز التليفزيون الذي صممه البشر ليكون آلة منقادة ومسخرة لما يرسله الإنسان فيه من برامج، فإن أرسل الإنسان في جهاز التليفزيون أفلاماً وبرامج دينية وعلمية تستكشف آيات الله في الكون وتثبت قيم الإنسان على الإيمان فهذا اختيار إيماني. وإن أرسل الإنسان أفلاماً خليعة تحض على المجون والفسق فهذا اختيار يلحق الإنسان بدائرة المفسدين في الأرض.

 

إذن فالحق خلق الإنسان صالحاً لتطبيق تكاليف الإيمان وصالحاً للخروج عن التكليف. وحين يأمر الله عباده أن يطبقوا أو ينفذوا التكليف الإيماني فهو يعلم أن قدرة الإنسان تسع التكليف؛ لأنه العليم بعباده، ولو لم يكن باستطاعتهم تنفيذ التكليف لما كلفهم به. وكلنا نعرف الفرق بين (العباد) و(العبيد)؛ فكل الكائنات عبيد لله، والإنسان من عبيد الله إن كان متكبراً على التكليف، وإن خرج على التكليف فهو مسير في أمور لا يقدر على الخروج منها، فلا يستطيع أحد بإرادته أن يتوقف عن التنفس، وهو- كما نعلم- أحد العمليات التي تجري على الرغم من الإنسان.
ولا أحد يستطيع أن يتنفس عندما ينتهي أجله. كذلك لا أحد يستطيع أن يقاوم المرض إن أصابه. إذن فكِبْر الإنسان وخروجه عن طاعة الله في أشياء لا تعني أنه خارج في مطلق أموره عن الله؛ لأن الحق فعال لما يريد، فلا أحد يتحكم في بدايته حين يولد، ولا أحد يتحكم في نهايته حين يموت، وهناك أمور بين قوسَيْ الميلاد والموت ما من أحد بقادر على التحكم فيها، وإرادة الاختيار إنما توجد في بعض الأمور فقط. أما كل ما عدا ذلك فهو قهري، وكلنا عبيد لله في ذلك. لكن الحق تعالى أعطى لنا الاختيار في بقية أمور الحياة.

 

والذكي حقاً هو من يسأل ربه: لقد خلقتني يارب مختاراً.
وماذا تحب أنت أن أفعل؟ هنا يجد الإنسان نفسه أمام أوامر الله ونواهيه وأمام المنهج بمطلوباته، هذا المنهج الذي يوضح للمؤمن ما الذي يمكن أن يفعله وما الذي يمكن أن يتجنبه. ويقول المؤمن: إنني أخرج من اختياري إلى مرادك يارب. والعبد الذي يتنازل عن اختياره إلى مراد خالقه هو واحد من العباد الذين وصفهم الحق بأنهم عباد الرحمن.
ونرى في حياتنا العادية نموذجا لما يحدث بين رب الأسرة وأفرادها، فرب الأسرة يقول لأبنائه: أنتم تريدون التنزه، فأي مكان تحبون الذهاب إليه؟
يجيب أحد أفراد الأسرة: لنذهب إلى المكان الفلاني. ويجيب آخر: أنت حر في أن تصحبنا إلى أي مكان تريد، المهم فقط أن تكون معنا. ومن المؤكد أن الذي يقول مثل هذا القول لرب الأسرة ينال منزلة رفيعة في قلبه. فإذا كان هذا يحدث بين إنسان وإنسان مثله فما بالنا بالاستحسان الذي يناله العبد حين يقول ذلك لخالقه الأكرم؟ لابد أن ينال منزلة راقية؛ لأنه قد خرج من دائرة العبيد إلى دائرة العباد الذين قال عنهم الحق: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 63-66].
هؤلاء هم عباد الرحمن الذين يحبهم ويحبونه. أما الذي يتمرد على منهج الله فعليه أن يعرف أنه غير قادر على أن يتمرد على قدر الله. وأراد الحق أن يعطينا مناعة إيمانية حين قال: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وتتجلى تلك المناعة في أن المؤمن لابد أن يلتفت إلى هؤلاء الذين يرتدون عن دين الله بادعاء أنهم أنبياء من بعد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

إن هذه الآية توضح لنا ما جد وما يجد من أمر هؤلاء المرتدين، والواحد منهم يعلن: أنا نبي مرسل. ويَجِدُ هذا النبي المزيف من يستمع له ويصدقه ويتبعه، ولا يجد من يسأله: إن كنتَ نبياً فما معجزتك؟ لكنه يجد من يصدقون هذا الزيف لهوى في نفوسهم.
هذا الهوى يتلخص في أن مثل هذا النبي المزيف يأتي بمنهج ميسر يخدع به أتباعه الذين يخدعون أنفسهم بأن الواحد منهم متدين، لكنّه يتبع منهاجاً ضالاً. وكثير من الذين ادعوا أنهم أنبياء وأنّه هو المهدي المنتظر لم يسألهم أحد: ما المعجزة الدالة على صدق نبوتكم؟ لأن النبي المزيف من هؤلاء يلهي الناس بالتخفيف من التكليف.

 

إننا نجد بعضاً من المثقفين أو الذين يدعون أنهم يعملون عقولهم في كل شيء يتبعون هؤلاء الدجالين. وقد رأينا منذ أعوام قليلة العجب العجاب، عندَما ادعى أحدهم النبوة. وآمن به واتبعه عدد من الرجال والنساء.
وكانت المرأة المتزوجة تدخل على هذا النبي المزيف لتقبله ويقبلها من شفتيها وأمام زوجها. أين نخوة الرجل- إذن- في مثل هذا الموقف؟ إنه التدليس الضال الذي يدعي لنفسه الهداية، إنّها هداية إلى الجحيم.
وهل تنبع تلك التيارات من الإسلام؟ لا، بل تأتي من قوم يبغضون الإسلام، ويصطادون الرجل الذي تظهر عليه المواهب والمخايل، ويقنعونه بأنه يمكن أن يلعب دور النبي المزيف.

 

مثال ذلك الهندي ميزرا غلام أحمد الذي جاء بالقاديانية. ونعلم أن الإنجليز قد استعمروا الهند لسنوات طويلة، وكانوا يعتبرونها درة التاج البريطاني. ونعلم أن خصوم الإسلام وعلى رأسهم الاستعمار يحاولون أن ينالوا من الإسلام؛ لأنهم رأوا أن التمسك بالدين أتاح للمسلمين فتح الأمبراطوريات لا بالسيف ولكن بحماية حق الاعتقاد.
 

إذا كانت الدعوة قد نشأت في الجزيرة العربية؛ فقد امتدت إلى آفاق الأرض. وانهزمت الفرس والروم أمام الذين يحملون راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله). ومن بعد ذلك نجد أن الذين هزموا التتار هم المسلمون، وكذلك اشتعلت الحروب الصليبية في حملات متتابعة، ولكن المقاتلين تحت راية الإسلام أنزلوا بهم الهزيمة الضارية.
إن الذي أرهق الاستعمار من الإسلام طاقة الإيمان والقتال في سبيله ولذلك جاء ميزرا غلام أحمد وحاول أن يضعف القدرة على الجهاد عند المسلمين، فقال: لقد جئت لكم لألغي الجهاد من العقيدة الإسلامية. وجرؤ ميزرا غلام أحمد، وأعلن إلغاء القتال. والحق يقول في كتابه الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216].
وسبحانه بقدرته يمهل ولا يهمل. وجاء وباء الكوليرا في الهند سنة 1908 ليقضي على غلام أحمد وينهي تأكيداً لقوله الحق: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].

 

وظهر أيضاً في فارس وهي موطن سلمان الفارسي مَن ادعى لنفسه النبوة، وكان من الذكاء بحيث حاول التسلل إلى الإسلام؛ لينقلب عليه من بعد ذلك، قال الرجل: أنا الباب ومن بعدي سيأتي المهدي.
وعندما سأله الناس: وماذا تحمل من منهج؟ أجاب: جئت لأخفف عنكم بعض التكاليف؛ لأن الإسلام صار بتكاليفه لا يناسب العصر. واتبعه أناس، وثار عليه أناس. ومن اتبعوه، ذهبوا إليه بغية تخفيف المنهج، ومن ثاروا عليه كانوا من القوم الذين يحبهم الله ويحبونه، وجاءوا له بالعلماء يناقشونه ويحاجونه فاعترف بأنه مخطئ وأعلن التوبة في المسجد الكبير. وعند ذلك تركه الناس.

 

لكن هذا الرجل وجد من يلتقطه ليعيده إلى ضلاله وتضليله، التقطه قنصل روسيا في فارس، وهيأ له ملجأ، واوعز إليه أن يعلن أن توبته إنما كانت هرباً من القتل. واستطاع هذا الباب، واسمه علي محمد الشيرازي أن ينال دعاية واسعة وخاصة بعد أن انضمت إلى دعوته فتاة اسمها (قرة العين) وكانوا يلقبونها بالطاهرة. ووقفت لتخطب خطبة في الناس. ومن يقرأ تلك الخطبة يعرف إلى أي انحلال كان يدعو ذلك الباب. وأعلنت هذه المرأة أن الإسلام قد انقضت مدته كدين، وأن الباب قد اختفى لفترة؛ لأنه في انتظار شرع جديد، وأن العالم يمر بفترة انتقال، وصار ينزل المنهج الجديد على الباب. وقالت تلك (الطاهرة): إنّ التشريع المختص بالمرأة، والذي جاء إلى الباب هو: (المرأة زهرة خُلِقَت لتُشَمّ ولِتُضَمّ)... (فلا يمنع ولا يُحَدّ شامّها ولا ضامّها).
(وما دامت المرأة زهرة إذن فهي تجنَى وتقطَف وإلى الأحباب تُهَدى وتتحف..) إلى أن تقول في نهاية خطابها: (لا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم).

 

ومن يرغب في أن يعرف مسلسل الفضائح الخلقية التي جاءت في خطاب قرة العين تلك فليقرأ كتاب نقطة الكاف للباب الكاشاني طبعة لندن صفحة 154. هذا ما جاء به الباب من بعد أن أعلن إلغاء الإسلام: لا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم فإنه الآن لا منع ولا حد، خذوا حظكم من الحياة، فإنه ليس بعد الممات شيء. وهذه خلاصة الانحلال الذي جاء به هذا المدعو بالباب، لقد أعلن أنه لا حساب ولا يوم آخر، وأن المرأة عرضها مشاع تضم وتشم. والغريب أن بعضاً من المتزوجين قد اتبعوه. وقالوا عن أنفسهم: إنهم متدينون، لقد أخذوا ظاهر الأمر واعتبروا الفسوق الذي جاء به هذا الباب وأسموه دينا بعد أن سهل لهم بتعاليمه الفساد، فأخذوا الانحلال عن التكاليف، وادعو أن ذلك دين.
هكذا أراد خصوم الإسلام للإسلام. وقنصل روسيا القيصرية هو الذي شجع هذا الرجل وحماه في عام واحد وستين ومائتين بعد الألف من الهجرة. وبرغم ذلك حكم أهل فارس بإعدامه بعد موجة السخط العارم، ولم يستطع أن ينقذه أحد، وتم إعدامه فعلاً. والذين قرأوا أقواله لحظة الإعدام عرفوا كيف أنه تذلل وخضع وبكى. ولو كان مبعوثاً بحق من عند الله لما تذلل وخضع وطلب النجاة. ولامتلأ بالسرور والحبور؛ لأنه ذاهب إلى الله.
لقد عرف هذا الرجل الدجال إلى أي عقاب سيذهب؛ لذلك بكى واسترحم. ولما قتل الباب، أعلن واحد من رجاله وهو ميرزا حسين أن الكتاب الذي جاء به الباب كتاب كاذب، وكان اسمه(البيان). وقال ميرزا حسين علي: إنه جاء بكتاب اسمه(الأقدس) . كأن المسألة كلها خداع للناس وتبرير الخداع.

 

ولو رجعنا إلى كتاب يسمونه(بهجة الصدور) لمؤلفه حيدر بن علي البهائي لوجدنا كل الانحرافات الممكنة، فالبهاء يقول: استر ذهبك وذهابك ومذهبك، أي لا تجعل أحداً يعرف ثروتك، ولا إلى أي مكان تذهب ولا تقل للناس: إنك بهائي حتى لا يقتلوك. واعتبر البهائيون أن القرآن قد انتهت مدته وأن كتاب(الأقدس) هو كتاب فوق القرآن.
ويقرر كتاب(الأقدس) أن القدس لابد أن تكون وطناً لليهود وأن موسى سيد الرسل جميعاً. ومما يدلنا على أن ذلك الرجل كان صنيعة الاستعمار والصهيونية، أنهم اقاموا له حفل تكريم في بريطانيا ومنحوه وسام الفروسية الإنجليزي؛ لأنه رجل خدم الاستعمار.
ونجد أن شيخنا رشيد رضا الذي نقل لنا تاريخ الإمام محمد عبده يروي قصة لقاء بينه وبين ذلك المدعو (بهاء) في بيروت، وحكى الشيخ رشيد عن الإمام محمد عبده أن هذا البهاء كان يأتي للصلوات الخمس ويصلي الجمعة. وعندما سأله عن تلك المسألة المسماة بالبهائية. أجاب بأنها محاولة للتقريب بين الشيعة وأهل السنة.
وعندما أمرت الدولة العثمانية بمحاكمة ذلك البهاء توسط قنصل روسيا فاكتفوا بنفيه إلى بغداد. وعاش فترة فيها ثم مات وقام الأمر من بعده لابنه عباس المسمى عبد البهاء.
لقد كانت البداية برجل سمى نفسه الباب صاحب كتاب البيان وقال فيه: (ملعون مطرود من يدعي أنه جاء بشريعة بعد شريعتي إلا بعد مرور ألف سنة).
وما أن تمر سبع سنوات حتى جاء رجل ثان يسمي نفسه البهاء، وأعلن أنه جاء بشريعة جديدة، ويعقد الوصية لابنه المسمى (عبد البهاء). ثم يكون الأمر من بعده إلى ابنه المسمى (شوقي أفندي) وكان يقيم بعكّا. هكذا انفضحت أكاذيبهم. ورئيس البهائية الحالي هو يهودي اسمه بترسون.

 

إذن فالردة عن الإسلام لم تكن نابعة من نفوس المسلمين ولكن مدفوع إليها من خصوم الإسلام الذين يأخذون أي رجل ملحد فيه بعض من الذكاء وينفخون فيه بدعاياتهم حتى يشوهوا دعوة الإسلام. وأقاموا مراكز لمثل هذه الانحرافات في بلجيكا وأمريكا وانجلترا. وحاولوا النفاذ إلى البلاد الإسلامية لينشروا فيها دعوتهم ومبادئهم. وكانوا يأخذون المرأة كنقطة هجوم على الإسلام. ويتهمون الإسلام بأنه يضع المرأة في الحريم، ويحبسها في خيمة وإلى آخر تلك الدعايات التي تشوه تكريم الإسلام للمرأة.
 

ومن العجيب أني سمعت بأذني من واحدة هي بنت لتلك الحضارة الغربية. تقول: كنت أتمنى أن أكون مسلمة وأمًّا لشاب مسلم.
فعلينا نحن المسلمين ألا ننخدع بتلك الدعايات وتلك المواهب التي تتسلل من باب تخفيف المنهج والمراد بها قتل قيم الإسلام التي تحمي الإنسان وتحترم مشاعره؛ لذلك يجب أن ننتبه إلى دعوات المتسللين إلى مجتمعاتنا بغية هدم ديننا. وعلى الحكومات أن تضرب على أيدي العابثين بدين الله لا أن تترك مسائل الدين لهبّات الأفراد. وكل منا مطالب بأن يرد عن دين الله كل دخيلِ عليه وكل محاولة لوضع أمور ليست من الدين في شيء. وجزى الله قضاء مصر خيراً حينما تصدوا لمثل هذه الدعوات ووقفوا دفاعاً عن الإسلام لتبيين وإيضاح كل أمر دخيل عليه، فدستور الدولة ينص على أن مصر بلد مسلم، وإن كانت بعض التقنيات في دور التشريع.

وجزى الله قضاء مصر عنا خيراً، فقد وضحوا تلك المسائل وبينوها. وعرفنا بسلوكهم أن خميرة الإيمان هي التي تحكم سلوك المسلم الحق، وإن تخلت عنه بعض القوانين التي عليه أن يحكم بها.
وكلما حدث حادث من تلك الحوادث لنا أن نتذكر القول الصدق من الله: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
وكل هذه الحركات المناوئة للإسلام تنتهي ويبقى الإسلام قوياً بأبنائه الذين يحبهم الله ويحبونه. هؤلاء الذين وصفهم الحق: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} [المائدة: 54].

 

ويذيل الحق سبحانه هذا القول الكريم: {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
نعم إنه فضل من الله؛ لأنهم ما داموا يحبهم الله ويحبون الله وهم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين فقد جعلهم سبحانه حملة لواء منهجه لتكون كلمة الله هي العليا. وذلك تفضل من الله. ولنعلم أن الخير لا يعود منا على الله؛ لأنه سبحانه هو واهب كل خير، ولم يأت لنا الخير من بعد خلقنا، ولكن نحن الذين طرأنا على الخير، نحن طرأنا على الأرض، وعلى السماء بما فيهما من كل كنوز الخير، ففي الأرض العناصر والمعادن والقوت، وفي السماء الشمس والقمر والنجوم، وكل ذلك فضل الخالق على المخلوق.
إن فضل الله يؤتيه سبحانه وتعالى من يشاء وتتسع قدرته لكل مطلوب؛ لذلك لا يمن المؤمن على الله بإيمانه، فليس عند الله أزمة في الذين يؤمنون به، وهو قادر على أن يأتي بقوم يحملون دعوته، فإذا ما ارتفعت رأس الباطل فهذا دليل على أن قطافها قد حان؛ لأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض.

 

فكأن الله حين يندب المؤمنين لمهمة إيمانية فلا يقال: إن المؤمنين إنما يفعلون ذلك لمصلحة ربهم. لا، ولكن ذلك فضل من الله على المؤمنين حين يختارهم لمهمة حمل البلاغ عن الله، ويعود الخير إلى المؤمنين ثمرة مضاعفة. إذن فحين يكون اختيار الله للمؤمن لمهمة إيمانية فهذا فضل من الله على المؤمن. ونعرف أن الفضل هو الأمر الزائد عن العدل فالحق سبحانه وتعالى قد قال: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
وكل تكليف من الحق للخلق هو فضل من الله؛ لأنك إن نظرت إلى كل تكليف من الحق للخلق لوجدت أن التكليف إنما يعود لصالح الخلق وما دامت الفائدة من التكليف تعود إلى الخلق فليس من المطلوب إذن أن يثاب الخلق المؤمنون المكلفون، لكن الله يأبى أن يكلف خلقه بتكاليف ويذهبون إلى هذه التكاليف بطاعة ومحبة دون أن يجازيهم على ذلك بحسن الثواب.
ولهذا نجد الحق يقول: {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات: 17].
المنّة إذن لله حين تفضل على الخلق الذين أطاعوه بحسن حياتهم في إطار تكاليفه الإيمانية، وفوق ذلك هناك الثواب، وهذا هو عين التفضل من الحق على الخلق المؤمنين: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
وساعة نسمع (بفضل الله) فلنعلم أن فضل الله لا حدود له. وقد نجد من يقول: ولكن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} [النجم: 39-40].
ونقول: لنفترض أن إنساناً مات، ونجد الأمر من الخالق سبحانه وتعالى بأن نصلي عليه؛ لندعو له بالرحمة. ودعاؤنا للميت بالرحمة يأتي له بخير أكثر مما فعل هو في حياته، ولولا أن صلاتنا على الميت تثيب الميت وتثيبنا في آن واحد لولا ذلك ما أمرنا الحق بأداء هذه الصلاة.

وقد يقول قائل: هذا الخير الذي يأتي إلى الميت من دعاء المصلين عليه ليس من سعي الميت.
ونقول: إن (اللام) في قوله الحق: {لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39].
هذه اللام تفيد الاستحقاق والملكية. وهو قول كريم يحدد العدل ولا يحدد الفضل. ونضرب مثلاً من حياتنا نحن البشر- ولله المثل الأعلى- تجد السيد يقول للخادم عنده: إن لك أجراً عندي يساوي مائة جنيه. ثم يجيء السيد في آخر الشهر ويقول للخادم: خذ مائة وخمسين جنيهاً. العدل إذن هو أن يأخذ الخادم أجره وهو مائة جنيه، ولكن الخمسين جنيهاً الزائدة هي الفضل الزائد عن الأجر.
إننا حين يأمرنا الحق سبحانه وتعالى بأن نصلي على الميت فهذا تفضل من الله على الميت وعلينا أيضاً. هذا لون من تفضل الله على خلقه. وسبحانه يجازي كل إنسان بما عمل ويمنحه فوق ذلك، ومن قصّر في شيء من العمل. ويصلي عليه الناس ويدعون له بالرحمة فتفيض رحمة الله على العبد وعلى غيره من العباد. وهذا هو مناط قول الحق: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
وعندما نحقق في هذا الموقف وحده نجد أن الجزاء يكون أفضل من العمل. وما الذي يجعل المؤمن يصلي على ميت مؤمن؟ إنه إيمان هذا الذي مات وإيمان من مات ملك له، وعلى ذلك فملكية المؤمن لإيمانه تمتد بعد أن يموت لتشمل صلوات ودعاء من صلوا عليه.
وذلك يدخل في فضل الله:
{ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].

 

وما دامت المسألة فضلاً من الله يشمل كل مؤمن فلابد أن الحق عنده من السعة ما يعطي الكل. وسبحانه واسع عليم. والحديث القدسي يقول: (يا عبادي، لو أن أوّلكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه).
إذن فخزائن الله ملأى لا تنفد، وسعة الحق مطلقة.
ولهذا نحن أيضاً نجد أن الحب في الله يزداد دائماً، فساعة نشاهد اثنين يتحابان في الله، فحبهما يزداد كل يوم؛ لأنه الحب في الله. أما إن كان الحب لأمر محدود فذلك الحب ينتهي ويترك كل منهما الاخر بانتهاء السبب لذلك الحب.

 

ولنأخذ قضية واضحة أمامنا: من كان يحب في الله فالحب لغير المحدود لا حدود له. ومن كان يحب في غير الله، فالحب هنا لمحدود ويرتبط طردا وعكسا بمدى الإثراء من هذا المحدود. ومن يحب لغرض من أغراض الدنيا يقيس ما يعطيه لمن يحب، فإن زاد ما يعطيه على ما يأخذه يحس بالخسارة. وعندما نتبادل الحب في الله فلا شيء ينقص عند الله أبداً؛ لأنه سبحانه يعطي الاثنين معاً اللذين يتحابان فيه. وسبحانه العليم أزلاً، وصاحب القدرة الذي يعطي كل إنسان المناط الذي يستحقه.

 

نداء الايمان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)}


حين نهانا الحق عن أن نتخذ اليهود والنصارى أولياء فعلينا أن نأخذ بالقياس أن النهي إنما يشمل كل خصوم ديننا، فلا نتخذ أيّاً من أعداء الدين وليّاً لنا؛ لأنه سبحانه وتعالى لم يتركنا بغير ولاية، وهو وليّنا وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا.
 

إذا أردنا المقارنة بين ولاية الله، وولاية أعداء الله فلنعرف أن كل عدو لله له قدرة محدودة لأنه من البشر، أما ولاية الله لنا فلها مطلق القدرة. وأي عدو له قد يتظاهر لنا بالولاية نفاقا. أما ولاية الله لنا فلا نفاق فيها لأنه لا قوة أعلى منه. وإن كان الحق قد منعنا أن نتخذ من أعدائه أولياء فذلك ليحررنا من الولاية المحدودة ليعطينا الولاية التي لا تتغير وهي ولايته سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} وهكذا يكون التعويض في الولاية أكبر من كل تصور. وساعة نرى (إنما) فلنعرف أن هناك ما نسميه (القصر) أو (الحصر).
 

مثال ذلك نقول: (إنما الكريم زيد): كأن القائل قد استقرأ آراء الناس ولم يجد كريماً إلا زيداً، وكأنه يقول: (زيد كريم وغير زيد ليس بكريم) واختصر الجملتين في جملة واحده بقوله: (إنما الكريم زيد) وأثبت بهذا القول الكرم لزيد ونفاه عن غيره. أما إن قال القائل: (زيد كريم) فهذا القول لا يمنع أن يكون غيره من الكرماء.
 

إن الحق سبحانه يحصر الولاية في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} وهو قد نهانا من قبل عن ولاية أهل الكتاب، وعن ولاية كل من لا توجد عنده مودة أو محبة تعين المؤمن على مهمته الإيمانية. فلو كان عند أحد من أهل الكتاب أو الملاحدة محبّة ومودّة تُعين المؤمن على أداء مهمته لما بقي هذا الإنسان على منهجه المحرّف أو على إلحاده، بل إن ذلك سيجعله يذهب إلى الإيمان برسالة الإسلام.
إننا نجد بقاء الكافر على كفره أو إلحاده أو عدم إيمانه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم دليلا على أنه لم يستطع الوصول إلى الهداية أو أنه- إن كان من أهل الكتاب- لم يستطع أن يكون مأموناً على الكتاب الذي نزل إلى نبيّه وفيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فكيف- إذن- يعين إنسان مثل هذا إنساناً مسلماً؟. إنه لا يستطيع أن يعين ولا أن يوالي ولا أن يكون على هداية؛ لأنه لم يستطع أن يهدي نفسه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم».
لأن الذي لا يستطيع أن يهدي نفسه لن يستطيع هداية غيره.

 

وحين نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال أهل الكتاب كان يعلم أنهم في ريب من أنفسهم، وفي ضلال وخلط، فهم إما يخلطون الحق بالباطل، وإما في غيظ من الذين آمنوا؛ لذلك نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسألهم، وهذا هو الاحتياط للدين، فقد يسألهم المؤمن سؤالاً، فيجيبون بصدق، فيكذبهم المسلم، وقد يجيبون بكذب فيصدقهم المسلم؛ لذلك لا يصح ولا يستقيم أن يسألهم المسلم أبداً عن شيء؛ لأنه عرضة لأمر من اثنين: إما أن يصدق بباطل، وإما أن يكذب بحق. وأهل الكتاب أنفسهم قد تضاربوا، ألم يقل الحق على ألسنتهم: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ} [البقرة: 113].
وكذلك قالت النصارى: {لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113].
إذن فأي الموقفين نصدق؟ أنصدق رأي اليهود في النصارى؟ أم نصدق رأي النصارى في اليهود؟ ولا نستطيع أن نكذب رأي اليهود في النصارى، ولا نستطيع أن نكذب رأي النصارى في اليهود، إذن فحين يقول الحق سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} فعلينا أن نفهم أنه سبحانه وتعالى ما دام قد نهاكم عن أن تتخذوا أولياء من دون الله فلن يترككم أيها المؤمنون دون ولي. بل متعكم فقط من ولاية من لا يمكن صادقاً في معونتكم ولا في نصرتكم.

 

لقد أراد سبحانه أن يكون هو بطلاقة قدرته وليكم، ورسول الله أيضاً وليكم، وكذلك الذين آمنوا. ونجد من يقول: الحق هنا قد عدد الولاية فيه سبحانه وتعالى وفي الرسول صلى الله عليه وسلم وفي المؤمنين، لماذا لم يقل- إذن-: أولياؤكم هم الله والرسول والذين آمنوا؟
ونقول: هل كانت للرسول ولاية منفصلة عن ولاية الله والمؤمنين؟ وهل كانت للمؤمنين ولاية منفصلة عن ولاية الله والرسول؟ لا؛ لأن الولاية كلها منصبة لله، فلم يعزل الحق الرسول عن ربه، ولا عزل المؤمنين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقسم الولاية إلى أجزاء، بل كلها ولاية واحدة وأمر واحد، ونلحظ أن الخطاب في (كاف الخطاب) هو للجمع: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ}، و(كاف) الخطاب هنا تضم المؤمنين ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى ولي الرسول وولي المؤمنين، والرسول ولي المؤمنين، وجاء في المؤمنين قول الحق: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
كم درجة من الولاية هنا إذن؟ الله ولي الرسول وولي المؤمنين. ذلك أن سبحانه شاء بفضله ألا يعزل الولاية أو يقسمها بل جعلها ولاية واحدة، والرسول صلى الله عليه وسلم ولي المؤمنين، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض؛ لذلك نجد أن كل مؤمن مطلوب منه معونة ونصرة أخيه المؤمن.

 

إن الإنسان- كما نعلم- ابن أغيار، وما دام الإنسان ابناً للأغيار فعلينا أن نعرف أن المؤمنين لن يظلوا كلهم في حالة توجيه النصيحة. ولن يظلوا جميعهم في حالة تلقٍ للنصيحة. وكل واحد منهم يكون مرة ناصحاً ومرة يكون منصوحاً، فساعة يصيب الضعف مؤمناً في جزء من المنهج يجد أخاه المؤمن قد هبّ لنصحه ليعتدل. وساعة يصيب الضعف الناصح في جزء من منهجه فالمنصوح السابق يهب لنصح أخيه ليعتدل. والذي خلق الخلق وهو أعلم بهم، ويعلم كيف تستوعب الأغيار الخلق، وكيف أن كل إنسان له خواطره وله ظنونه وله مواقف ضعف وله مواقف قوة. إنه سبحانه لم يطلب من الناس أن يوصوا بالخير فحسب ولكنه قال: {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3].
لماذا إذن التواصي بالحق؟؛ لأن سبل الحق شاقة، ولأن أصحاب الحق يلاقون المتاعب من أصحاب الباطل؛ لذلك لابد أن يؤازر أصحاب الحق بعضهم بعضاً فيقول الإنسان من أهل الحق لأخيه ما يساعده على التمسك بما هو أعز من الراحة والصحة والمال. ولابد أن نجعل الحق واضحاً في حياتنا وسلوكنا، وأن يتذاكر أهل الحق بما حدث لغيرهم وكيف صبروا، هكذا يكون التواصي بين المؤمنين.
وتلك هي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}.

 

إذن فقوله الحق: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله} هو ما يسمونه في اللغة (أسلوب الحصر)، أي لا ولي لكم غير الله. وحين يُرَدّ الإنسان من الولاية المحدودة القدرة ويجعل العوض له في غير محدود القدرة فذلك كسب كبير للعبد، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة، ومَن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
 

كيف تكون أنت أيها العبد في عون أخيك؟ يتحقق لك ذلك عن طريق أن تقدم لأخيك المؤمن المعونة والنصرة والمؤازرة والتواصى. وتقدم لأخيك من وقتك وطاقتك وقدرتك ومالك ما يعينه. وإياك أن تحسب المسألة بأنك كنت تستطيع أن تفعل كذا وكذا في الوقت الذي أعطيته لأخيك المؤمن، بل يجب أن تحسبها بأن الله هو الذي أعطاك الوقت والمال والجهد وأنت لا تفعل شيئاً بقدرتك أنت، وأن قدرتك المحدودة عندما تعطي بعضها منها لأخيك فأنت تصل قوتك المحدودة بصاحب القوة غير المحدودة وهو الله. وبذلك يكون الله في عونك وتكون أنت الأكثر كسباً. فمن يرد الله بجانبه فلابد أن يكون مع الخلق دائماً بالمعونة، وبهذا السلوك يرتقي المؤمن إلى أعلى درجات الذكاء.
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} وسبحانه يريد أن يبين لنا مميزات أصحاب الإيمان؛ لأننا حين نتعرف على شعب الإيمان وصفاته الجميلة إنما نميز بهذه الصفات المؤمنين من غيرهم.
وإقامة الصلاة هي الصفة الغالبة في وصف الذين يؤمنون بالله؛ لأن الصلاة هي الصلة المتجددة بإعلان الولاء لله خمس مرات في كل يوم. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «بُني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت».
وهذه الأركان الخمسة هي الدعائم والأسس التي تقام عليها عمارة الإسلام. وأي بيت لا يقوم بالأسس وحدها، ولكن هناك أشياء أخرى كثيرة وعشرات الفضائل والمطلوبات غير الأسس، وإذا ما راجع كل واحد منا علاقته بأسس الإسلام فلسوف يجد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مرة واحدة في العمر، ومن بعد ذلك يقيم الصلاة. ثم يؤتي الزكاة، لكن إن كان فقيراً فهو معفىً من أداء الزكاة. وحتى الذي يؤدي الزكاة فيؤديها في وقت واحد في السنة. ومن بعد ذلك يصوم رمضان. لكن المريض أو المسافر أو الذي له عذر فهو يفطر ويقضي الصوم؛ ويفدي عن الصيام المريض الذي لا يرجى شفاؤه والعجوز الذي تصيبه بالصوم مشقة شديدة. ومن يحج البيت يفعل ذلك مرة واحدة في العمر إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
هذه هي أركان الإسلام، وفيها إعفاءات كثيرة للمسلم. اللهم إلا الصلاة فهي أساس يتكرر ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر كله الإسلام وعموده الصلاة».
ويقول صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة».
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر».
لذلك لا تسقط أبداً، فنحن نصلي ونحن قيام، ونصلي ونحن قعود، ونصلي على جنوبنا. ونصلي ونحن غير قادرين على أية حركة، نصلي بالإيماء. ومن لا يقدر على هز رأسه بحركات الصلاة في أثناء المرض الشديد فهو يصلي بعينيه. ومن أصابه- والعياذ بالله- شلل جعله لا يقدر على تحريك جفنيه بحركات الصلاة فهو يصلي بالخواطر وبالوعي أي يجري أركان الصلاة على قلبه. أما من ذهب عنه الوعي فقد سقطت عنه الصلاة.

 

ولذلك يقول الحق: {والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة} ويقول بعد ذلك: {وَيُؤْتُونَ الزكاة}؛ لإن إيتاء الزكاة معناه تقوية أثر حركتك لغيرك وتعدية أثر هذه الحركة للضعيف عنك، وحينما تزكي إنما تعطي مالاً، والمال هو ناتج من أثر حركتك في الوجود، وعطاؤك من مالك بالزكاة يدل أيضاً على الإيمان. ثم يذيل الحق الآية بقوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ}. وهل الركوع هنا بمعنى الركوع في الصلاة؟ أو بمعنى الخضوع لكل تكاليف منهج الله؟ أو أنها نزلت هنا في مناسبة خاصة لحالة خاصة؟
هنالك رواية تقول: إن عبدالله بن سلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن قوماً من قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا ألا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل.
وشكا عبدالله مما يلقاه من اليهود، فنزلت تلك الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55].
فقال ابن سلام: رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء. وتزيد الرواية في موقع آخر: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد والناس بين قائم وراكع ودخل إنسان إلى المسجد وسأل الصدقة فلم يعطه أحد فقال الرجل: أشهد الله أني جئت إلى مسجد رسول الله وطلبت الصدقة وما أعطاني أحد شيئاً، وسمعه علي ابن أبي طالب- كرم الله وجهه وكان يصلي- فمد على يده بحيث يراها الرجل وأشار له أن يأخذ من يده الخاتم كصدقة، فأخذه الرجل. وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل فقال: هل أعطاك أحد شيئاً. فأجاب الرجل نعم خاتما، وأشار إلى علي بن أبي طالب. وهنا نزلت الآية بتمامها: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55].
وأياً كانت المناسبة التي نزلت فيها الآية، فالركوع معناه الخضوع، والخضوع يكون لكل تكاليف منهج الله. فإذا كنا نقول: فلان ركع لفلان فهذا معناه أن فلاناً قد خضع لفلان.

 

image.png.ffffdd120b98308ca2b1250d18b72585.png


{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)}


ونلاحظ أن الحق أوضح في الآية السابقة: إن الله هو المولى، وهنا تكون أنت أيها العبد المؤمن من الذين يتولاهم الله، تماماً مثل قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
وحين يكون الله في معونتك فهو يعطيك من قدرته غير المحدودة فكيف تتولى أنت الله؟ ويكون القول الحاسم في هذا الأمر هو قول الحق: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} [محمد: 7].
والحق في الآية التي نحن بصددها جاء بالمقابل لما جاء في الآية السابقة عليها فهو القائل من قبل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ}.

وفي هذه الآية يأتي بالمقابل. فيقول سبحانه: {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} [المائدة: 56].
هذه المقابلة توضح لنا كيف ينصر الله العبد، وكيف ينتصر العبدلله. ولم يقل سبحانه في وصف من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا: إنهم الغالبون فقط، ولكنه أورد هذه الغلبة في معنى عام فقال: {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون}.

 

وكلمة (حزب) معناها: جماعة التف بعضهم مع بعض على منهج يرون فيه الخير. ولا يمكن أن يجتمع قوم بقوة كل فرد فيهم بفكر كل فرد منهم إلا إذا كان هذا الأمر هو خير اجتمعوا عليه، إذن فحزب الله في أي وضع وفي أي تكوين ولأيَّةِ غايةٍ هو الحزب الغالب. وعلى المستوى الفردي نجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزّبه أمر قام إلى الصلاة».
فما معنى حَزّبه هنا؟ معناه أمر أتعبه وأرهقه وفكر فيه كثيراً. وبذلك يعلمنا رسول الله ألا نقصر رؤيتنا على رأينا وحده، ولكن لنلجأ إلى الله. فنهزم الأمر الذي يحزبنا ولا نقدر عليه بأن نقيم مع الله حزباً بالصلاة.
إننا عندما نأخذ من سنة رسول الله المثل والقدوة نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحزبُه أمر يتعلق بدنياه وإنما أمر يتعلق بمنهج الله وبالدين؛ لذلك يذهب رسول الله إلى من يعطيه ويعطي أهل الإيمان كل الطاقة. إنّه يذهب إلى الصلاة. ويعلن أن أسبابه قد انتهت ولم يعد يقوى على تحمل هذا الأمر الذي حَزَبَهُ، ولأن الله لا يغلبه شيء؛ لذلك فسبحانه يرفع الهمَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغلب كل أمر صعب. وإن حَزَبَنا هذا الأمر في نفوسنا فسنجد العجب.

 

إذن فحين تعز الأسباب على المؤمن في أمر ما ويكون قد أعطى كل جهده وما زال هذا الأمر يحزب المؤمن ويشتد عليه ويرهقه فعلى المؤمن أن يقوم إلى الصلاة، وييسر الحق هذا الأمر للمؤمن بالخير. والمؤمن عندما يحزبه أمر ما إنما يذهب بالصلاة إلى المسبب وهو الله، لكن على المسلم ألا يذهب إلى الله إلا بعد أن يستنفد كل الأسباب، فالأسباب إنما هي يد الله الممدودة، ولا يمكن للمؤمن أن يرفض يد الله ويطلب ذات الله، فإن انتهى الأخذ بالأسباب فليذهب إلى المسبب: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
 

وسبحانه الذي يجيب المضطر وهو الذي يكشف السوء وهو الذي جعل البشر خلفاء في الأرض، وسبحانه لا شريك له في ملكه، وهو القائل: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65].
وإذا قال قائل: ولكني أدعو الله ولا يستجيب لي. ونقول: أنت لم تدع دعوة المضطر؛ لأنك لم تستنفد الأسباب. وعليك أن تستنفد الأسباب كلها. فإن استنفدت الأسباب فالحق يجيبك ما دمت مضطراً.
إذن فحزب الله عندما يَغلِب إنما يعطينا قضية مكونة من (إن المؤكِّدة واسمها وخبرها) وهذه قضية قرآنية وهي تختلف عن القضية الكونية التي تصف واقع الحياة: ويقول الحق: {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} [المائدة: 56].

 

وسبحانه يعلم ما يكون في كونه، ولن تختلف قضية القرآن عن قضية واقع الكون. وساعة تجد قوماً تجمعوا وفي صورتهم الرسمية الشكلية أنهم رجال الله، ولا يَغْلِبُون فعلينا أن نعرف أنهم خدعوا أنفسهم وخدعوا الناس بأنهم حزب الله وواقع الحال أنهم ليسوا كذلك؛ لأنه سبحانه قال: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173].
وهذه قضية قرآنية. ونأخذ الأمر دائماً بسؤال: هل غلبت أم لم تغلب؟ فإن كنت قد غلبت فإن جنديتك لله صدقة. وإن لم تكن فأنت تخدع نفسك بأنها جنديّة لله وهي ليست كذلك. (ولنا المثل الواضح من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان بين صحابته في موقعة أُحُد وأمر الرُّماة أن يقفوا موقفاً خاصاً، فلما وجد الرّمَاة استهلال نصر المؤمنين على الكافرين، وأن الذين يحاربون أسفلهم يأخذون الغنائم، ذهبوا هم أيضاً إلى الغنائم وخالفوا أمر الرسول حينما قال لهم: إذا رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزَمْنا القوم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم).

 

فلما خالفوا أمر رسول الله أَكانوا جُنوداً لله بحق؟ لا، بل اختلت جُنديتهم لله. ولم يمنع وجود رسول الله فيهم سُنَّة الله الإيمانية في كونه ألا تقع، ولو ظلوا مُنتصرين على الرغم من أنهم خالفوا الرسول لهان أمر رسول الله في نظرهم؛ لذلك أراد الحق أن يُوقع بهم ألم الهزيمة المؤقتة من أجل أن يتأدبوا، وحتى يَعضُّوا على أمر سيدهم وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنّواجذ. وقد أورد الحق ذلك الأمر ورسول الله فيهم من أجل مصلحة الإسلام، فلو نصرهم على الرغم من مخالفتهم لرسول الله لجرأهم ذلك على أن يخالفوا.

 

نداء الايمان

 

image.thumb.png.2fef356e9695a325531a6a960f73fd6b.png

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}

 

الهُزُوُ هو السُّخرية والتَّنكيت. وهُزْء أهل الكتاب من أهل الحق لون من الانفعال العكسى. فساعة يرى بعض أهل الباطل واحداً ملتزماً يُصلّي ولا يُحملق في النساء قد يصفونه بصفات غير لائقة؛ لأنهم لا يستقبلون التزامه إلا بلونٍ من السخرية، وحتى لا يفهم أنه خيرٌ منهم، وقد يضلونه فيتبعهم.


ولنفرض أن ثلاثة من الشباب جمعت بينهم الصداقة ثم انحرف منهم اثنان والْتزم واحد منهم. وكان لأحد المنحرفين أُخت فيطلب زميله المنحرف يد هذه الأخت، ويأتي له الصاحب الذي لم ينحرف ليطلب الأخت نفسها، هنا نجد الأخ لا يوافق على زواج أخته بالمنحرف، بل يوافق على زواجها من الذي لم ينحرف؛ لأنه لن يخدع نفسه. وعندما يعاتبه المنحرف فهو يرد عليه: وهل أستأمنك على أختي؟ أنا أعرفك حق المعرفة.


وهكذا نرى أن القيم هي القيم. وعندما يكون هناك إنسان على حق ويلتقي بأناس على باطل نجدهم لا يتركونه وشأنه، ولأنهم لن يستطيعوا أن يكونوا مثله فلا أقل من أن يهزأوا منه حتى يحتفظوا لأنفسهم بفسادهم. وعندما ننظر إلى العادات الضَّارة التي تنتشر، مثل شمّ الهيروين أو تدخين المخدرات نجد أن الذي وقع في مصيدة هذه المصائب يريد أن يجر غيره إلى مثل هذا المستنقع. ونجد في القرآن ما يقوله لنا خالق الطباع والعليم بها: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29-30].
مثل قول أهل الباطل للمؤمن: احملنا إلى الجنة على جناحك. أو: أتريد أن تكون وليّاً. {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31].
ويرجع الواحد منهم إلى أهله فيحكي بسرور: لقد قابلنا إنساناً غارقاً في الإيمان وسخرنا منه: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 32-33].


بل قد نجد أن أهل الإضلال يتهمون المؤمن بأنه على ضلال، فماذا يكون العقاب يوم الحشر؟ {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34-36].
وكأن الحق يسأل المؤمنين: ألم آخذ لكم حقكم؟ إذن فالذين يتخذون الدين هُزُواً ولعباً. وادعوا الإيمان نفاقاً. إياكم أن تأمنوا لهم.
ولقد حذرنا الحق بداية: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51].

وهنا أمر بعدم اتخاذ الذين يتخذون الدين مادة للهزء أولياء، وعلى المؤمنين اليقظة والحذر؛ لأن الحق يقول: {واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإن كنتم مؤمنين حقاً فعليكم الأخذ بيقظة الإيمان، عليكم ألا توالوا اليهود والنصارى وكذلك من يتمسح في الإيمان نفاقاً ويريد الانتفاع بمزايا الإسلام ليأخذ حقوقه الظاهرية وقلبه مع غير المؤمنين. وتقوى الله تبدأ من أن ينفذ المؤمن المنهج، ويحاول أن يستبقي للمنهج مناعة اقتداره أمام خصومه بألا يُدخل المؤمنُ في حماية المنهج من لا يؤمن من اليهود والنصارى والكافرين والمنافقين.

 

الفاعوري on Twitter: "@TtXKQ رد على #دين_الموتى (يا أيها الذين آمنوا لا  تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار  أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) [المائدة:


{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)}


النداء هو دعوة بجهر. ومقابل النداء المناجاة. وتثبت هذه الآية أن الأذان مشروع بالقرآن، وفي ذلك رد على الذين يقولون: إن الأذان قد شرع بالسنة. أو أن القرآن بهذه الآية قد أقر تشريع الأذان. {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} ذلك أنهم كانوا يقولون عن الأذان: لقد صاحوا صياح الحمير. ووصفهم الحق بقوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} والعقل- كما نعلم- هو الأداة التي تؤدي مهمة الاختيار ما بين البدائل؛ أي أن يختار الصالح من الأمور فيدرس مزايا كل أمر ومضاره ويختار الأمر الرابح.
 

إن الهوى هو الذي يدفع العقل إلى أن يختار أمراً مخالفاً. فيجنح بالعقل إلى الضلال. وآفة الرأي الهوى. ولا يميل الإنسان عن جادة الصواب إلا إذا أراد أن يخدم هواه. ولذلك لابد أن يكبح المؤمن جماح هواه بعقله، والعقل مأخوذ من عقال البعير، فصاحب الجمل يقيد ساقه بقطعة من الحبل حتى لا يجمح. ويحتاج الإنسان إلى العقل ليكبح جماح الهوى، ولينقذ الإنسان من الضلال لا أن يبرر الهوى. والذين يريدون العقل تحرراً من الفكر نقول لهم: أنتم لا تفهمون معنى كلمة العقل. فقد جاءت كلمة العقل لتمنع الهوى لا ليجترئ الإنسان بهواه على رأيه وسلوكه المستقيم، والعقل هو الذي يمنع الفكر من أن يكون مبرراً للهوى.
فلو كانوا يعقلون لقلنا لهم: إن الأعمال التي تنادون بها عمر نفعها مظنون وقد تنفعكم في دنياكم، وعمر الدنيا لا يستطيع أحد أن يحدده بالنسبة لنفسه، فدنيا الفرد قد لا تزيد على مائة سنة. ودنيا الإنسان هو عمره فيها. وقد ستر الله سبب الموت وكيفيته عن الخلق حتى يعرف الإنسان أن عمره مظنون وقد ينتهي قبل أن تطرف عينه. ولو كانوا يعقلون لما باعوا آخرتهم بدنياهم. ولو عقلوا لأداروا مسألة البدائل في رءوسهم ولعلموا أنهم بموقفهم هذا من قضية الإيمان والإسلام إنما يقفون موقفاً خاسراً ليس في مصلحتهم.

 


توییتر \ قناة الناس در توییتر: «وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا  هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ المائدة 58  #قناة_الناس https://t.co/iPwtsUTKd4»
 


{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)}
 

(قُلْ) هي خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وحين يخاطب الحق الرسول، فالخطاب أيضاً لأمته صلى الله عليه وسلم، فنقول نحن أيضاً: {قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59].
 

و(نَقَم يَنْقِم) أي كره مني أن أفعل هذا، فلماذا تكرهون إيماننا يا أهل الكتاب؟ هل الإيمان مما يكره؟ وجاء الحق هنا بسؤال لا يقدرون على الإجابة عنه، فنحن آمنا بالله وبرسله وما أنزله علينا وما أنزل من قبل، فما الذي يُكره في هذا؟ وأبلغ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم اليهود أننا نؤمن بالله وبالرسل ومنهم سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، فغضبوا منه كثيراً. فكيف يكره أهل الكتاب إيمان المسلمين بالله؟
مثال ذلك عندما يدعوك إنسان إلى تصرف غير مستقيم أو إلى الذهاب إلى مكان مشبوه فترفض ذلك يكرهك هذا الإنسان، فتقول له: أتكره في سلوكي أن أكون مستقيماً؟ ونعلم أن الإنسان الأمين هو ثروة لمن يعرفه والذي يستحق النقمة والكراهية هو الفعل الضار، أما الإيمان بالله فهو أمر محبوب لأنه يُعلم الإنسان الأدب مع كل خلق الله، ويعلم الإنسان الحفاظ على أعراض الناس، ويعلم الإنسان ألاَّ يعتدي على أموال ودماء الناس ولا يغتاب الناس، ولا يرتشي، وأن يخلص في العمل وألا يكذب في ميعاد، فأي شيء في هذا يستحق الكراهية؟
إذن، فمن يكره إنساناً لأي سبب من هذا فهو كره بلا منطق، وكان من الواجب أن يكون سبب الكره سبباً للمحبة. وقد يأتي من يقول لك: ليس في فلان من عيوب إلا كذا.

 

وقد يورد سبباً معقولاً. ولكن لا يقول أحد أبداً: لا عيب في فلان إلا أنه شهم؛ لأن الشهامة لا يمكن أن تكون عيباً، كأن القائل قد أعمل ذهنه حتى يكتشف عيباً، لم يجد إلا صفة رائعة، وقال عنها: إن كنت تعتبر هذه الصفة عيباً فهذا هو عيبه. ويسمون ذلك من أساليب الأداء الأدبي عند العرب وهو تأكيد المدح بما يشبه الذم، فيقول قائل: لا عيب في فلان إلا كذا. وساعة يسمع السامع هذا يظن أن العيب الذي سيورده هو صفة قبيحة فيفاجأ بأنها خصلة جميلة. وبذلك يؤكد القائل المدح بما يشبه الذم: {قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}.
 

أنتم تقولون: إنكم أهل كتاب وعندكم التوارة، وكان يجب أن تعلموا كيف يشذب الإيمان النفوس ويدفع عنها الشر؛ لأن لكم سابقة في الإيمان، فقد آمنتم بالله وبالرسل السابقين على موسى وآمنتم بموسى، والمسلمون آمنوا بالله وآمنوا بما أنزل إليهم وآمنوا بالرسل ومنهم موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم فكيف يُكره ذلك؟
وإن كان هذا مما يُكره فعلينا كمؤمنين أن نسألكم: لماذا تنكرون علينا ذلك؟ لا شك أنكم تنكرون علينا إيماننا بالله لأنها قضية غير واضحة في أذهانكم.

 

ولو كانت واضحة في أذناهكم ما كرهتم إيماننا. إذن فمسألة الإيمان بالله غير مستقرة في وجدانكم كأهل كتاب بدليل أنكم تكرهون من آمن بالله، ودليل ذلك أنكم أنزلتم الله منزلة لا تليق بكماله، فجسمتموه وقلتم: {حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55].
وقلتم: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181].
وقلتم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64].

 

إذن فأنتم تكرهون لنا أن نؤمن بالله إيماناً يليق بكمال الله؛ لأنكم لم تؤمنوا بالله صحيح الإيمان، ولو طابق إيماننا إيمانكم ما كرهتمونا. وكذلك لم تؤمنوا بالكتب بدليل أنكم حرفتموها. ولم تؤمنوا بالرسل لأنكم وقفتم من عيسى عليه السلام هذه المواقف. إذن فأنتم تنقمون منا وتكرهون أموراً لا تُكره عند الطبع السليم، وهذا دليل على أن طبعكم هو المختل. وإذا كنتم تكرهون هذا الإيمان فماذا تملكون لمن تكرهون؟ لا قوة لكم لتفعلوا لنا أي شيء. ولكن حين يكرهكم الله فماذا يفعل بكم؟ إنكم حين تكرهوننا لا تملكون قدرة لعقابنا، لكن الذي يكرهكم هو الله وعنده القدرة المقتدرة لينتقم لنا منكم.
إذن فكراهيتكم لنا لا قيمة لها. وإذا كنا نجاريكم، والمجاراة لون من جدال الخصوم فماذا يعنيكم من كوننا مؤمنين؟
 

مثال ذلك أن يتهمك إنسان بأنك بخيل فتقول له: هب أنني بخيل فعلاً فماذا يعنيك من هذا؟ وهذا ما نسميه مجاراة الخصوم؛ لذلك نقول لأهل الكتاب: هب أن لكراهيتكم لنا رصيداً وأنكم تستطيعون إيذاءنا، فلكم شر من هذا وهو عقاب الله، وسنرى ماذا سيحدث لكم عندما يكرهكم الله. وهو قادر على كل شيء. وعلى فرض أن إيذاءكم لنا هو شر، فالأكثر فاعلية هو عقاب الحق لكم؛ لأنه عندما يكرهكم يقدر أن يعاقبكم بما شاء. إذن فالصفقة- صفقة كراهيتكم لنا- خاسرة من ناحيتكم.
 

 

نداء الايمان

صفات اليهود – يكرهون المؤمنين لإيمانهم بالكتب السماوية كلها | موقع البطاقة  الدعوي

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)}


فإن سلمنا جدلاً أنكم يا أهل الكتاب تعتبرون كيدكم لنا سيصيبنا بشر. على الرغم من أنكم لا تملكون أن تجازونا بشيء. وها هوذا الحق يخبركم على لسان رسوله بالأكثر شراً من هذا، وهي العقوبة التي يصنعها الله لكم وهو قادر على إنزالها بكم وهي الأكثر ضرراً. وهذا لون- كما قلنا- من مجاراة الخصم. ويعلمنا الله ذلك على لسان رسوله فيقول لخصومه: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24].
والرسول على الهدى بالقطع وخصومه على ضلال بالقطع، ولكن رسول الله يسلم الأمر طالباً من خصومه أن يراجعوا أنفسهم ليناقشوا القيم التي يدعو إليها الإسلام. وسيجدون أن قيم الإسلام هي الهدى وأنهم على ضلال. ونعلم أن الهدى والضلال لا يجتمعان، فنحن كمسلمين على هدى، وأنتم على ضلال. ووسيلة التمييز أن يحكم الإنسان عقله في المسألة، وبذلك يرى مَن الذي على هدى ومَن الذي على ضلال، فأنت لا تناقش الخصم في أصل الدعوى، ولكن سلم للخصم جدلاً. والتمييز النهائي هو الفيصل. وسيجد المميز حيثية ضلال الخصم واضحة وضوح حيثية هدى المسلمين. {قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59].

 

فإن كنتم تعيبون علينا أو تكرهوننا أو تأخذون إيماننا سُبَّة فهذا أمر لا يُكره الإنسانُ من أجله؛ لأنكم تدعون أنكم مؤمنون بالله. وكذلك لا يمكن أن يُسب الإنسان من أجل الإيمان بما أنزله الله في كتاب؛ لأنكم أيضاً تقولون إنكم مؤمنون بالتوارة. وتقولون إنكم مؤمنون بالأنبياء السابقين على موسى. والخلاف أن عيسى عليه السلام جاء بعد نبيكم فكفرتم به، لكننا آمنا به فنحن منطقيون مع أنفسنا ومع ربنا.
والحق يبلغنا: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}. ونعرف أن صيانة الاحتمال تقتضي ألا يحكم الحق عليهم جميعاً بأنهم فاسقون؛ لأن فيهم بعضاً من الناس تراودهم نفوسهم بالإيمان وبالإسلام؛ لذلك لم يكن الحق أبداً ليعمم الحكم على كل أهل الكتاب بالفسق؛ ليعطي الفرصة لمن يفكر أن يعلن إيمانه.

 

ومن بعد ذلك يأتي الخبر على لسان الرسول بعقابهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله} إذن فهناك أمر أكثر ضرراً لكم لأنه ما كان يصح أن تكرهوا إيماننا، والأكثر ضرراً من هذا هو لعنة الله {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} ويأتي سبحانه بالأوصاف التي فيهم، من لعنة الله وغضبه عليهم وجَعْلِه بعضاً منهم قردة وخنازير. وكيف يأتي الله بمثل هذه الأوصاف كمثوبة؟ إن هذا لون من فتح باب الرجاء والأمل ثم يصدمهم من بعد ذلك تماماً مثل قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].
والعذاب الأليم يُنذر به، وكذلك اللعنة لا يمكن أن تكون ثواباً، لكن الأسلوب القرآني يعطي النفس المخالِفة لوناً من الانبساط، ثم يعطيها اللون المناقض له من الانقباض، ليكون ذلك أبلغ في الانقباض وأكثر إيلاماً.

 

ومثال ذلك- كما قلنا من قبل- المسجون الذي يطلب كوب ماء فيأتي له الحارس بكوب الماء ويقربه من فمه ثم يسكب الماء على الأرض، هذه العملية زرعت في نفس السجين الأمل في الأرتواء أولاً، ثم يكون سكب الماء على الأرض سبباً في التعذيب والإمعان فيه، لكن لو رفض الحارس أولاً تقديم الماء لعاش السجين في اليأس وهو إحدى الراحتين.
 

ونرى ذلك أيضاً فيمن ينتظر حكماً قد يكون إعداماً وقد يكون براءة، وتكون فترة الانتظار هي المليئة بالقلق. وعندما يضعون المنتظر في الميزان يجدون وزنه في انخفاض. وبعد الحكم بإعدامه يبدأ وزنه في الزيادة؛ لأن اليأس إحدى الراحتين. إذن فانبساط النفس ومجيء القبض بعدها هو الأمر الأنكى والأشد قسوة على النفس، ولذلك يقول الحق: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].
هذه البشارة تأتي بالانبساط للنفس ويتلوها الانقباض، ومثل قول الحق: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29].
أي أنه قد وقع عليهم لون من العذاب يستدعي الإغاثة، ومن بعد ذلك يغاثوا لا بما ينقذهم ولكن بما يزيد عذابهم.

 

وساعة يسمعون (يغاثوا) تنفرج أساريرهم وتسكن وتطمئن نفوسهم، وبعد ذلك يحدث الانقباض بسماعهم: {بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه}، إذن فكلمة (مثوبة) تأتي لهم بشيء من الانبساط يتلوه العذاب.
هذا. وإنّ أفعل التفضيل يأتي على صورة (أفعل)، (أكرم)، (أجود)، (أشجع) فهذا لون من زيادة الصفة في طرف عنها في الطرف الآخر. اللهم إلا كلمات قليلة جاءت في اللغة على غير صيغة التفضيل منها كلمة (خير) وكلمة (شر) فلم تأت منها كلمة (أَخْيَر) بمعنى أكثر خيراً. ولا كلمة أشر بمعنى أكثر شرا، ومرة تأتي كلمة (خير) ويقابلها الخير الأقل. والذي يميز المعنى هو وجود كلمة (من) كقولنا: (فلان خير من فلان). أما إن قيل: (فلان خير) فمقابله هو (شر) لأنه لا توجد كلمة (أَخْيَر).
وهكذا نجد كلمة (خير) تأتي للوصف مرة وتأتي للمبالغة في الوصف مرة أخرى، والفاصل للتمييز بين الاثنين هو وجود (مِن). فيقال: فلان خير من فلان ومثلها في ذلك كلمة شر، وقد ورد استعمال كلمة خير للتفضيل ولغير التفضيل في قوله تعالى: {ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال: 70].
والحديث النبوي يقول: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير).
إن في كل مؤمن خيراً. ولكن في المؤمن القوي خير أكثر مما في المؤمن الضعيف. والمثال على أن كلمة (خير). تقابل كلمة (شر)، هو قول الحق: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} [آل عمران: 180].
و(خير) هنا ليست أفعل التفضيل ولكنها للوصف العادي؛ وإذا جاءت (مِن) تعرف أنها للتفضيل، وعدم الإتيان بلفظة (مِن) يدلنا على أنها للوصف العادي ومقابله كلمة (شر). وهنا يقول الحق: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك}. وجاءت كلمة (بشر) هنا للتفضيل ولا يعني ذلك أن المؤمنين في (شر) ولكنها مجاراة للخصم. واعتبار أن ما يقوله الخصم مقبول جدلاً. وهناك الأكثر شراً في الواقع وعند الله وهو المراد من قوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 60].

 

لماذا إذن يكون مصير هؤلاء إلى شر؟ لأنهم كرهوا سلوك المؤمنين ولم يستطيعوا أن ينفسوا عن الغل الذي في صدورهم بعقوبة المؤمنين. ولكن الله يكرههم ويملك لهم العقوبة ويكون مصيرهم الذي يوضحه الحق في قوله: {لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} واللعنة هي الطرد من الرحمة. والطرد من الرحمة يعني حرمانهم من الخير.
 

ومثال ذلك- ولله المثل الأعلى- عندما يكون هناك خادم في خدمة إنسان ما وهو يسكن ويأكل ويلبس على حساب السيد، فإذا لم يؤد هذا الخادم حقوق الخدمة على وجهها المطلوب، لا يرضى عنه سيده، ويطرده من الخدمة، وحين يطرد الإنسان فهو يُعْلن للناس أن هذا الخادم لم يؤد حق الخدمة، فلا يستخدمه أحد بعد ذلك، وهذا هو الغضب. وبهذا نعرف الفرق بين أن يُطرد من الرحمة فقط ولا يعقب ذلك شيء، أو أن يستمر الغضب بالإعلان عن السبب في الإخراج من الرحمة، فهذا معناه أن الله بعد أن طردهم يلاحقهم بغضبه وسخطه وأن لعنه لهم لا ينفك عنهم.
والله سبحانه وتعالى يعلن لأهل الكتاب: إن طردي لكم من رحمتي وتواصل غضبي عليكم هو شر عظيم. وغضب الله- كما نعلم- يترتب عليه أشياء في كل حركة من حركات حياتهم، إنه يمنع الهُدى أن ينفذ إلى قلوبهم، بأن يختم على قلوبهم فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر. أو أن يجعل منهم القردة والخنازير. وإن تساءلنا: كيف يكون نسلهم؟ نعرف أن الذي يُمسخ لا يَتَناسل، إنه يُمسخ إلى أن يُرى مسخاً ثم يؤخذ إلى الموت.

 

وهل هم الذين اعتدوا في السبت أو الذين عبدوا العجل أو الذين كفروا بعد نزول مائدة عيسى؟ إنهم كل هؤلاء. أو أنهم قردة، أي في خصال القردة، كالطيش وخفة الحركة وانكشاف العورة، أو طبائعهم وخصالهم كالخنازير، فهؤلاء لهم خبث ونتن وزخم كزخم الخنزير. وأهم ميزة في الخنزير أنه لا يغار على أنثاه. وهذه موجودة فيهم. وتفشت فيهم عادة تشغيل بناتهم في الدعارة وغير ذلك من أعمال الباطل.
وهكذا نفهم قوله الحق: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} إما على أساس أنه المسخ الحقيقي. والمسخ الحقيقي لا يظل متماثلاً ممسوكاً وإنما يكون المسخ لزمن محدود يراه الناس ممسوخاً ثم يموت وينتهي، وإما أن نفهمها على أن سلوكهم كسلوك القردة والخنازير.

 

ويتابع الحق: {وَعَبَدَ الطاغوت} والعبادة إنما هي طاعة العبد للمعبود فيما أمر به وفيما نهى عنه. والطواغيت هم الذين يزينون لهم الشر والنفاق وأكل السحت والإثم. ويكون مصيرهم هو قوله الحق: {أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل} وهذا هو الواقع الذي يعيشون فيه وهو شر كله، وهم لا يفكرون في السير في الطريق السليم.
وعندما نقرأ قول الحق كاملاً في هذه الآية: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 60].
نعرف أنهم في حالة غفلة عن مسار الهدى الموصل للحق؛ لأن {سَوَآءِ السبيل} هو الأمر المستوي الموصل للغاية. وكانت طرق العرب إما فيها رمال وإما بين الجبال، وكانوا يختارون السير في وسط الطريق حتى لا ينالهم أذى من جرف هاوٍ من الرمال فيقع بهم أو أن تقع عليهم صخرة من جبل.
ولذلك قال الحق: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 51-55].
أي أنه في وسط الجحيم. ويقول الحق بعد ذلك عن الذين غضب عليهم: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا...}.

 

image.png.455a97a44032d7b44ac752fc16be72b1.png

 


{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)}


وهؤلاء هم الذين اتخذوا الدين هزواً ولعباً وسخرية. وهم ساعة يدخلون على المؤمنين يدخلون ومعهم الكفر. وعندما جلسوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا أيضاً بالكفر. أي أنّ الكفر قد لازمهم داخلين خارجين. وكأن جلوسهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزدهم أي شيء. وكان من الممكن أن يدخل إنسان على مجلسه صلى الله عليه وسلم، وهو كافر، وبعد ذلك تمسّه عناية الهداية فيخرج مؤمناً.
ومثال ذلك: فضالة بن عمير الليثي الذي جاء ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفتح. وعندما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضالة قال له: ما كنت تحدث به نفسك؟ فقال: لا شيء، كنت أذكر الله عز وجل. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أستغفر الله لك. ووضع يده عليه السلام على صدر فضالة. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما أجد على ظهر الأرض أحب إلي منه.
لقد مسته العناية، فقد دخل- أولاً- بكفره وخرج- ثانياً- بعميق الإيمان. لكن هؤلاء دخلوا بالكفر وخرجوا بالكفر، كأن الدخول كان نفاقاً، بدليل قوله الحق: {والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} وهذا القول دليل نفاقهم، فقد أعلنوا الإيمان لكنهم دخلوا بالكفر وخرجوا بالكفر. وكانوا يكتمون أن الدخول إلى رسول الله هو محض نفاق. وهذه خاصية لمن قالوا آمنا، ولكان كان دخولهم إلى الإسلام نفاقاً؛ لأن كفرهم أمر مستقر في قلوبهم لا يتزحزح، وكان يكفي في الأسلوب أن يقول الحق: وقد دخلوا بالكفر وخرجوا به، ولكنه قال: (وهم) وذلك تحديداً لهويتهم الكافرة، فكأن عملية الدخول بالكفر والخروج بالكفر هي عملية مسبقة؛ لذلك يكشفهم الحق: {والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ}.

 

وجاء سبحانه بأفعل التفضيل (أعلم) فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إشراقات الله عليه وتنويره له كان يعلم أيضاً أنهم منافقون. ولكن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل إلى علم الحق سبحانه وتعالى فعلم الله ذاتي وعلم رسوله فيض منه- سبحانه-.
إذن فقوله الحق: {والله أَعْلَمُ} لم يمنع أن هناك أناساً قد علموا أنهم منافقون. وقد استقر في ذهن النبي أنهم منافقون وأن الله أعلم بما كانوا يكتمون. والكتم هو حبس الإحساس النفسي أن يخرج وأن يظهر واضحاً، ومحاولة الكتم عملية غير طبيعية لأنها قسرية. ويكاد كفرهم أن يظهر ويخرج فيحاولون أن يكتموه لأنهم يحرصون ألا ينكشفوا، ولكن علم الله لا تخفى عليه خافية.

 

image.png.2b282c83358a96e70d6dce319b23f372.png

 


{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)}


والمسارعة في الإثم تعني أنهم من بداية الأمر في الإثم، ويسارعون فيه، أي أنهم كانوا على أولية الإثم ويجرون إلى آخرية الإثم، فَضَلاَلُهم واضح من البداية، وكأن خلقهم الكفر يفضحهم، برغم محاولتهم كتمان ذلك. ويجدون أنفسهم مسارعين إلى فعل الإثم، أي أن عملهم ينزع إلى الكفر، ويجعلهم الحق يغفلون عن الكتمان، فتبدو منهم أشياء هي أكثر فضيحة من القول، ذلك أن الإثم مراحل: مرحلة قول، ومرحلة فعل. والفعل أكثر فضحاً من القول.
 

{وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان} ويقول الحق: {كَثِيراً مِّنْهُمْ} صيانة لاحتمال أن يوجد الإيمان في قلب القليل منهم، وذلك لتبرئة أي إنسان يفكر في الإيمان. وهم أيضاً يسارعون في العدوان، فإذا كان الإثم هو الجُّرم على أي لون كان، فالعدوان هو إثم يأخذ به إنسان حقاً لغيره، مثال ذلك الإنسان الذي يحقد، إثمه لنفسه ولذلك يعاني من تضارب الملكات حتى يبدو وكأنه يأكل بعضه بعضاً.
 

إن الحقد- كما نعلم- جريمة نفسية لم تتعد الحد. ويقال عن الحقد: إنه الجريمة التي تسبقها عقوبتها، عكس أي جريمة أخرى، فأي جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحقد والحسد، فتنال عقوبة الحقد صاحبها من قبل أن يحقد؛ لأن الحاقد لا يحقد إلا لأن قلبه ومشاعره تتمزق عندما يرى المحقود عليه في خير. ولذلك يقال في الأثر: (حسبك من الحاسد أنه يغْتّم وقت سرورك).
إذن من يرتكب إثماً في نفسه لا يتعدى أثر إثمه إلى غيره، أما الذي يرتكب العدوان فهو ينقل حق إنسان إلى غيره. وهو قسمان؛ هناك من يعتدي ليعطي حقا لغير ذي حق. وهناك من يعتدي بالسكوت على الظالم، فالظالم تتملكه شهوة الظلم، لكن من يرى الظالم ويسكت ولا ينهاه فهذا عدوان أيضاً؛ لأن الظالم عنده وفي نفسه ما يدفعه إلى أن يظلم، أما الشاهد الذي يصمت فليس عنده في نفسه ما يدفعه إلى أن يُسكته. فمن- إذن- الأكثر شراً؟ إنه الذي يصمت عن تنبيه الظالم إلى أنه يظلم.
{وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان} نلحظ أن كلمة (سارع) مثلها مثل كلمة (نافس) تدل على أن هناك أناساً في سباق؛ كأنهم يتسابقون على الإثم والعدوان، كأن الأثم والعدوان غاية منصوبة في أذهانهم، ومتفقة مع قلوبهم.
{وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} والسحت هو كل مال مصدره حرام، سواء أكان رشوة أمْ ربا أم سرقة أم اختلاساً أم خطفاً أم اغتصاباً، كل تلك الألوان وما ماثلها من السحت إنها أخذ لحق الغير. وأخذ حق الغير له صور متعددة، فإن أخذه أحد خفية فتلك هي السرقة. وإن سارع إنسان لخطف شيء من بضاعة إنسان آخر فهذا هو الخطف. وإذا لحق به صاحب البضاعة وتجاذبا وتشادَّا فهذه المجاذبة تخرج بالخطف إلى دائرة الغضب. وإن كان الإنسان أميناً على شيء وأخذه فهذا هو الاختلاس، وكل ذلك أكل مال بالسحت. وبئس هذا اللون من العمل.

 

image.png.d80712f1f5c5986f3e81662a8495db5e.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)}


الربانيون هم الذين يُنسبون إلى الرب في كل تصرفاتهم، وكذلك الأحبار الذين يعرفون الدين، ولا هؤلاء ولا أولئك ينهون هؤلاء الناس من أهل الكتاب عن ارتكابهم الإثم وأكلهم السحت، فكيف يُنَصَّبُ هؤلاء الربانيون والأحبار أنفسَهم قادة للضمير الديني دون أن يقوموا بواجبهم بوعظ الناس؟ وفي هذا تأكيد على أن الربانيين والأحبار إنما يريدون فقط سلطة الهيمنة على الناس.
 

 

والربانيون هم رؤساء النصارى، والأحبار هم رؤساء اليهود. وكان من بين اليهود والنصارى من تتملكه شهوات أكل السحت والظلم وقول الإثم، فلماذا لم يتحرك المنسوبون إلى الله للنهي عن ذلك وهم الذين أخذوا حظهم في الدنيا من أنهم منسوبون إلى حماية منهج الله من انحرافات البشر؟. ألم يكن من واجبهم نهي الظالمين والآثمين عن الظلم والإثم؟
 

إن الذي يظلم له شهوة في أن ينتفع من الظلم، أما أنتم أيها الربانيون والأحبار فلماذا لا تتحركون لوقف ذلك؟ لا شك أنهم قد أمتلأوا سروراً من هذا الإثم وذلك العدوان وأكل السحت، ومبعث سرورهم أن الواحد من هؤلاء لو كان سليماً في تصرفاته وأحكامه لغار على المنهج، لكنه يقبل الانحراف؛ لأن من مصلحته أن ينحرف غيره حتى لا يلومه أحد. وجاء الحق ب (لولا) في أول هذه الآية تحضيضية أي يقصد بها الحث على الفعل.. أي كان يجب أن يناهم الربانيون والأحبار عن أكل السحت وقول الإثم والعدوان. ثم تتجلى دقة الأداء القرآني- كما هو دائماً- في قوله الحق: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.
 

ونذكر أن تذييل الآية السابقة قال فيه الحق عن سلوك العامة من أهل الكتاب: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}، إذن فالحق يفرق بين بئس عن صناعة وبئس عن عمل. وبئس الربانيون والأحبار هو بئس الصناعة. ونعلم أن كل جارحة من جوارح الإنسان لها حدث خاص بها: فالعين حدثها أن ترى، والأذن حدثها السمع، واليد اللمس ومناولة الفعل، والرِّجل تسعى، واللسان مجال عمله الكلام. والجوارح تنقسم إلى قسمين: اللسان وحدثه القول، وبقية الجوارح أحداثها أفعال، بدليل أن الله يقول: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
إذن فالقول مقابله الفعل. والقول عمل، والفعل عمل. وما دام هناك قول وفعل من عامة أهل الكتاب في ذلك المجال لذلك يقول الحق: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

 

وقال عن الربانيين والأحبار: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} لإيضاح الفرق بين من يعمل ومن يصنع، فمن فُتق ثوبه بإبرة وخيط ليصلحه، فهو خائط، ولكن الذي يحترف ذلك هو (الخيَّاط)؛ فصاحب الحرفة هو من يأخذ وصفها لأنه يجيدها، أما الذي يمارسها لمرة واحدة فلا يأخذ من الصنعة إلا بقدر ما يدل على أنه لم يتقنها.
 

وكان الربانيون والأحبار قد اتخذوا أمر الدين والكهنوت صناعة بتجويد كبير. وذلك هو الذي جعل السلطة التقنينية في العالم كله تنتقل من منهج السماء إلى منهج الأرض. وحينما نرجع إلى تاريخ القانون نجد أن الأصل في التقنين كان من الكهنة الذين كانوا منسوبين إلى الله وخبر السماء، وهم الذين كانوا يحكمون بين الناس، لكنهم أفسدوا، ورأى المجتمع أنهم يحكمون في قضية بحكم، ثم في قضية مشابهة يحكمون بنقيض الحكم السابق، وأنهم ارتشوا في سبيل ذلك، وما يزوا بين الناس، وعرف الناس أن الكهنة غير مأمونين على العدالة؛ لذلك تركوا الكهنة وبدأوا يضعون قوانين خاصة بهم بعيدة عن حكم الكهنة. وهكذا انتقلت المسألة من تقنينات وحكم الكهنة إلى المجتمع الذي لم يعد يتمسك بالدين بسبب انحرافات أحكام الكهنة عن العدل وأنهم باعوا الأحكام لصالح من يدفع أكثر، أو يحكمون لصاحب النفوذ. وهكذا صارت المسألة صناعة لهم. وبئست تلك الصناعة.
 

image.png.774f0debaa647d6bef677cac00d69d1a.png

 

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}


نعرف أن اليد جارحة حرة الحركة تنفعل يميناً وتنفعل شِمالاً وتنفعل إلى أسفل وإلى أعلى، ولها من الأصابع ما جعل الله لكل أصبع مع زميله مهمة. وليلاحظ كل منا أصابعه في أثناء أي عمل، سيجدها تتباعد وتتقارب بحركة إرادية منسجمة لتؤدي المهمة. وخلقة الأصابع بالمفاصل والعُقل وحجم كل عقلة يختلف عن الأخرى؛ لتؤدي المهمة بانسجام. وساعة تعوّق هذه الجارحة عن أداء مهمتها فأنت بذلك تكون قد غللتها، أي ربطتها عن التصرف المطلوب منها.
 

ومعنى قوله: (يد الله مغلولة) أي أن يد الله- والعياذ بالله- مشلولة الحركة. وقد قالوا ذلك قبل ظهور سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل زحف الإسلام عليهم لينقض باطلهم. وحدث أن تفرغوا لصناعة آلات الحرب وبناء الحصون والزراعة، وانشغلوا عن الزراعة فخابت محاصيلهم وجاء وقت الحصاد فلم يجدوا، فقال (فنحاص) وهو واحد من اليهود: لماذا قبض الله يده عنا؟ إن يد الله مغلولة. ونلحظ أن الذي قال ذلك هو شخص واحد، ولكن الحق يقول هنا: (وقالت اليهود يد الله مغلولة). ومعنى ذلك أن (فنحاص) عندما قال ذلك سمعوه وسرّهم ما قال، ووافقوه عليها.
أو أنهم حينما شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة وقد آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت تمر على المسلمين الليالي دون طعام فيراهم اليهود فيتندرون على تلك الحال ويقولون: إن يد الله مغلولة عن محمد وآله.

 

أو أنهم قالوا: إن يد الله مغلولة في الآخرة عن عقابنا؛ لأنه سيعقابنا أياماً معدودة. والذي يبيح لنفسه أن يجعل الله منفعلاً لأحداث خلقه إنما يكفر بالله؛ لأنه يُنزلُ الله من مكانته. فإذا كانت يد الله مغلولة، فهذا الرباط والغَلُّ والمنع يكون من خَلْق الله. وكيف يقدر خلقٌ من خلق الله أن يربط يد الله؟. لقد اجترأوا على مقام الأولوهية وهذا من سوء الأدب، تماماً كما قالوا: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181].
وحينما قالوا: (يد الله مغلولة) وردّ الحق عليهم: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وقال قبلها: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} فهل يدعو الحق عليهم؟ طبعاً لا؛ لأنه هو المصدر الذي يتجه إليه الخلق بالدعاء وهو القادر على كل الخلق. ولكن الحق حين روى ما قالوه إنما ينبه الذهن الإيماني الذي يستقبل كلامه أنه ساعة يجد وصفاً لا يناسب الله فعليه أن يدفع هذا الكلام حتى قبل أن يرى الرد عليهم.

 

{وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} وهذا يعلمنا أننا إذا سمعنا وصفاً لا يليق فلابد أن ندحضه؛ لأن الحق لا يدعو على عبيده؛ لأن الدعاء هو أن يرفع عاجز طلبه إلى قادر لينفذ المطلوب له.
إذن فإن قالها الحق فهي إما أن تكون خبراً، وإما تعليماً لنا، فإذا كانت خبراً نلحظ أن الله كتب عليهم البخل ساعة قالوا هذا ومنذ لحظة هذا القول، وإن كان القصد هو تعليمنا، فنحن نتعلم الأدب الإيماني، ونرد أي وصف لا يليق بجلال الله.
وهذه المسألة لها نظير، فعندما علم الحق سبحانه وتعالى تشوّق رسوله والمؤمنين أن يذهبوا إلى المسجد الحرام؛ قال لرسوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله} [الفتح: 27].
وهل هذا إخبار من الله، أو هو تعليم لنا؟. إنه تعليم لنا أن نفعل ذلك عندما نشتاق إلى فعل. وكذلك هنا: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} لذلك يعلمنا سبحانه أن نقول: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} مثلما علمنا أن نقول: {إِن شَآءَ الله} حتى ننسب كل قدر لله. وقد حاول الفلاسفة أن ينسونا تقدير المشيئة، فقالوا: إن الله خلق النواميس والأكوان وجعل لها قوانين تعمل في الكون. وهل زاول الحق سلطانه ساعة خلق النواميس ثم ترك الأمور لذاتها؟ لا؛ لذلك جاء سبحانه بمعجزات تخرق النواميس ليدلنا على أن النواميس لم تأخذ هي الكلمة للتصرف بل إن يد الله ما زالت في كونه، فالنار- على سبيل المثال- التي تحرق يأتيها الأمر: {كُونِي بَرْداً وسلاما} [الأنبياء: 69].

 

والماء الذي يُغرق يأتيه الأمر: {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63].
وقال: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 77-78].
والعصا التي خلقت من غصن شجر جاف، تتحول إلى أفعى، أي نقلها كلها إلى جنس آخر، من نباتية إلى حيوانية. هذا هو خرق النواميس.
ويقول الحق عن هؤلاء الذين ادعوا أن يد الله مغلولة: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} أي أنهم طردوا من رحمة الله، لأنهم هم الذين بشروا على أنفسهم وقالوا إن يد الله مغلولة، وسبحانه قادر أن يمنع عطاءه عنهم.
ويتابع سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ}، وهو يعطي من يريد، وكلمة (اليد) في اللغة تُطلق على الجارحة وتطلق على النعمة، فيقول الرجل: إن لفلان علي يداً لا أنساها؛ أي أنه قدم جميلاً لا يُنسى. واستعملت اليد بهذا المعنى لأن جميع التناولات تكون باليد. وتُطلق اليد ويراد بها الملكية فيقول سبحانه: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237].
أي الذي يملك أن يُنكح المرأة، هو الذي يعفو. وفي القتال نجد القول الحكيم: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14].
أو تطلق اليد على من له ولاية في عمل من الأعمال، لذلك نجد الحق قد قال: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75].
وآدم هو الخلق الأول وكلنا من بعده مخلوقون بالتناسل من الزوجية.
وقد كرّم الله الإنسان بأنه خلقه بيديه، وخلق كل شيء ب (كن). إذن: كلمة (اليد) تطلق على معانٍ متعددة. والرسول يقول: (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم).
أي عندما تجتمع الأيدي تكون هي اليد القادرة. وعندما نقرأ كلمة (يد الله) فهل نحصرها في نعمته أو ملكه؟ {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1].

 

والله سبحانه وتعالى أعلم بذاته فنقف عند الوصف، نعم له يد، وله يدان، وإياك أن تتصور أن كل ما يتعلق بالله مثل ما يتعلق بك؛ لأن الأصل أن لك وجوداً الآن، ولله وجود، لكن وجودك غير وجود الله، وكذلك يده ليست كيدك. حتى لا نشبه ونقول: إن له يداً مثل أيدينا، فلنقل إن المراد باليد هو القدرة أو النعمة، والهدف الراقي هو تنزيه الحق. وهناك من يقول: إن لله يداً ولكن ليست كأيدينا لأننا نأخذ كل ما يأتي وصفاً لله على أنه (ليس كمثله شيء) والتأويل ممكن. مثلما بيّن الحق: انه قد صنع موسى على عينيه.
 

وتأخذ أي مسألة تتعلق بوصف الله إما كما جاءت، بأنه له يداً ولكن ليست كالأيدي، وله وجود لا كالوجود البشرى، وله عين ليست كالأعين، ولكن كل وصف لله نأخذه في إطار (ليس كمثله شيء). وإما أن نأخذ الوصف بالتأويل، ويراد بها النعمة ويراد بها القدرة. ويقول الحق: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} والمراد هما هو (النعمة). ولم يكتف سبحانه بأن يرد بأن له يداً واحدة تعطي. لا، بل يرد بما هو أقوى مما يمكن، فهو يعطي بيديه الاثنتين، وهو القائل: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].
أنه يُعطي الظاهر ويُعطي الباطن. وإياك أن تقول تلك اليد اليمنى وتلك اليد اليسرى؛ لأن كلتا يدي الله يمين: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} أي أنه سبحانه لا يمكن. أن يكون بخيلاً، حتى وإن منع الحق فذلك منح وعطاء وإنفاق؛ لأن الذي يطغى بنعمة، قد يذهب به الطغيان إلى بلاء وسوء مصير؛ لذلك يقبض سبحانه عنه النعمة ليعطيه الأمن من أن ينحرف بالنعمة. ولذلك نجد القول الحق في سورة الفجر: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15-16].
ورد الحق بعد ذلك بقوله: {كلا}.
فلا الإعطاء هنا للإكرام، ولا المنع للإهانة. فكيف يكون الإعطاء دليل الإكرام وقد يعطيك الله ولا تؤدي حق النعمة؟ وكيف يكون المنع دليل الإهانة وهو قد منعك من وسيلة انحراف؟ إذن فهو قد أعطاك بالمنع- في بعض الأحيان- أنه قد أعطاك الأبقى وهو الهداية.
إذن فمنعه أيضاً عطاء.

 

{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} والناس تنظر دائماً إلى عطاء الله بعطاء الإيجاب، ولا تنظر عطاء السلب أي المنع، وهو أن يصرف عنك الحق مصرف سوء، وسبق أن ضربت المثل بالرجل الذي تحرى الحلال في مصدر ماله ويتقي الله في عمله ويأخذ دخله ويدير حركة حياته في إطار هذا الدخل، وقد يعود هذا الرجل إلى منزله فيجد حرارة الابن مرتفعة قليلاً، ولأن ماله حلال وذرات جسمه تعرف أن ماله حلال؛ لذلك يستقبل الأمر بهدوء ويعرض الابن على طبيب في مستوصف خيري بقروش قليلة، فيصف الطبيب دواء بقروش قليلة ويتم شفاء الابن.
هذا الرجل يختلف حاله عن حال رجل آخر أتى بماله من السحت، وساعة يرى حرارة ابنه قد ارتفعت نجد باله يدور بين ألف خاطر سوء، ويدور الرجل بابنه على الأطباء ولا يصدق طبيباً واحداً.
الرجل الأول رزقه الله الاطمئنان بمنع هواجس الحدَّة من قلبه وخواطره، أما الرجل الثاني فهو ينفق أضعاف ما أكله من سحت. إذن {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي أن هناك عطاء السلب. والعطاء الذي يحبه الإنسان هو عطاء السلب. والعطاء الذي يحبه الإنسان هو عطاء المال وهو عطاء المال وهو عطاء يذهب إلى الفانية. أما المنع فهو يمنع الإنسان من ارتكاب آثام. وبعد ذلك يأخذ الإنسان نعيمه في الآخرة. ونحن نجد كثيراً من الناس تدعو، ولكنهم لا يعلمون أن الله قد أعطى بالمنع.
يقول الحق تبارك وتعالى: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11].
لذلك يعطي الحق أحياناً أشياء يكون العبد قد ألح عليها، وبعد ذلك يتبين الإنسان أنها شر، كأن الحق ساعة منع الإنسان لفترة كان ذلك صيانة له.
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} إذن فكله إنفاق. وسبحانه ينفق كيف يشاء، فلا يبخل أبداً حتى وإن منع، فالمنع في موضعه الصحيح هو عين الإنفاق، وهكذا يكون عطاء الله عطاء النعمة ظاهرة كانت أو باطنة. فإن أردت ب (اليد) القدرة فيدا الله مبسوطتان بالثواب لقوم وبالعقاب لقوم آخرين. وهو سبحانه وتعالى يعطي لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم المناعة الإيمانية ضد كل متمرد عليه، أو ضد كل متأبٍ ومستكبر من الكافرين أو من أهل الكتاب.
فكأنه سبحانه وتعالى يوضح: وطَّنْ نفسك يا محمد ولتوطن أمتك نفسها على أن هؤلاء الكفرة لن يكتفوا بالقدر اليسير والقليل من الكراهية لك، بل كلما جاءت لك نعمة بزيادة الهدى من الله سيحسدونك، وسيبغضونك، وسيزداد تمردهم وحقدهم عليك، فوطن نفسك على ذلك. وفي هذا ما يعطي مناعة إيمانية، يسد كل منافذ وسوسة النفس ويجعل النفس على استعداد لاستقبال ما يحدث حتى ولو كان من المكاره.
ولنقرب هذا الأمر من الذهن.

 

لا تشبيهاً ولكن لمجرد تقريب الأمر من الذهن- والله المثل الأعلى- لننظر إلى ما حدث في أوروبا في أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت انجلترا تخوض الحرب ضد النازية، وكانت الأهوال تتساقط من الطائرات على المدن الإنجليزية. وجاء تشرشل ليقود الحرب فقال للإنجليز. إن الهول والصعاب هي التي تتنظركم فوطنوا أنفسكم على مواجهة الشدائد.

وإذا كان هذا قد حدث في حرب بين شعبين، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وهو يعلم ضرورة التمحيص لأمته التي تحمل راية المنهج الكامل للهداية. كان لابد إذن من أن يوطن نفس رسوله ونفوس المؤمنين معه على مواجهة الحسد والبغض والحقد والمكر والتبييت.
ويقول الحق: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم ما أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة}. ولا يأتي قول الحق: (بينهم) إلا إذا كان هناك طائفتان، والمقصود إما الطوائف اليهودية فيما بينها، وإما طوائف النصرانية فيما بينها، أو بين اليهودية والنصرانية، خصوصاً أن هذه الآيات مستهلة بقوله الحق: {يَا أَهْلَ الكتاب}. فإذا كانت لليهود فالعداوة والبغضاء قائمة بين طوائفهم بعضها مع بعضها الآخر. وإذا كانت للنصارى فالعداوة والبغضاء حاصلان فيما بين طوائفهم، وإن كانت بين اليهود كقسم وبين النصارى كقسم فهي مسألة ممكنة. وهذه العداوة والبغضاء لا تنتهي أبداً بل هي قائمة بينهم إلى يوم القيامة.
ويقول الحق: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} وهذا خبر عما وقع في حضن الإسلام، ومثال ذلك خروج (بني قينقاع) على العهد بعد أن جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق بني قينقاع وقال لهم: (يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً).
فرفضوا وقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا. فنزل فيهم قول الحق: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} [آل عمران: 12].
فكان (بنو قينقاع) أول اليهود الذين نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين موقعتي بدر وأحد.
وكان سبب ذلك أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها- بضاعة- لتبيعها في سوق (بني قينقاع)، فجلست إلى صائغ يهودي بالسوق، وحاول اليهود إجبارها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، وهي لا تشعر به، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت المرأة. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، وحدثت بذلك الفتنة، لكن الله أطفأ الفتنة وأجلى (بني قينقاع)، ثم (بني النضير) وكان لهم- قبل ذلك- التجمع القوي في المدينة بالثراء والعلم.
وقاتل المسلمون (بني قريظة) وأجلوا أهل خيبر، وتملك واستولى المسلمون على وادي القرى. حدث هذا في حضن الإسلام فماذا حدث في غير حضن الإسلام؟

 

لقد رأيناهم أيام المجوس وقد أهلكهم بختنصر، وكذلك تيتوس الروماني، ورأيناهم مقطعين في الأرض في كل زمان ومكان، وقد يقول قائل: إذا كان الحق قد قال: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} فلماذا لا تنطفئ الحرب الحالية بيننا وبينهم؟ ونقول: إن الذي يطفئ نيران الحرب لابد أن يكون من جنود الله. وعندما نصبح جنوداً لله فلسوف تنطفئ هذه الحرب.
 

والمثال القريب منا هو انتصارنا في العاشر من رمضان. لقد كان انتصارنا بالعمل تحت راية (الله أكبر) وقد جزى الله بالخير الضباط والجنود الذين كانوا يعلمون أن العتاد في جانب العدو كان أكبر من عتادنا، لكن النتيجة كانت في صالحنا لأننا دخلناها تحت ظل (الله أكبر).
أما الذين ادعوا أنه انتصار حضاري فنقول: عن أي حضارة تتحدثون؟ والإسلام هو نبع الحضارة المتوازنة، وليس الادعاء بالحضارة هو الخروج عن منهج الله. إننا إن ثبتنا على مبدأ (الله أكبر) لا كشعار ولكن كتطبيق لأطفأ الله نيران أي حرب.
ويترك سبحانه في كونه السنن التي تعطي التجارب الواقعية لمن يتشكك في الإيمان. ومثال ذلك ما حدث من مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض المقاتلين في غزوة أحد فكادت الهزيمة تلحق بهم. وفي غزوة حنين قالوا: لن نُغلب اليوم من قلة ولذلك يقول سبحانه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].

 

وقد ترك الله هذه السنن الكونية ليلفت أي غافل عن الدين أن الخصم ينال منه؛ فالغفلة تؤدي إلى الانحراف، والانحراف لا يمكن أن يؤدي إلى النصر. هكذا يحذر الحق معسكر الإيمان. أما معسكر الكفر فالحق يريد له الذلة، فيعطيه في بعض اللحظات نصراً على المؤمنين في أوقات غفلتهم، وما أن يُفيق المؤمنون من الغفلة حتى تأتي ضربتهم لمعسكر الكفر. وتأتي الضربة وقت أن يكون معسكر الكفر في علو وغلو. ولنا في المثل الريفي الإيضاح.
 

يقول المثل: لا يقع مؤمن من على حصيرة، والمقصود أن التواضع يحمي الإنسان من وهم العلو والكبر؛ لأن الذي يقع هو الذي يتخيل أنه علا في الأرض ولذلك يعميه الله عن الحرص، ويأتي قوله: {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} [الإسراء: 7].
أي أن يتم العصف بكل شيء. وأهل السياسة عندما يريدون أن ينزلوا بخصومهم العقاب يرفعون خصومهم ويمدون لهم في حبال الصبر والإمهال حتى يعلو الخصم كثيراً ثم ينكشف ويظهر سوء سلوكه فيقع أمام الناس.
ولذلك نجد القرآن صريحاً مطلق الصراحة في هذا المجال: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
فسبحانه يمد ويملي لهم ليأخذوا وليبنوا وليترفوا، وليفرحوا بما أخذوا، ومن بعد ذلك يفتح الله عليهم أبواب كل شيء. وأمثلة ذلك في الحياة كثيرة.

 

لقد رأينا الدول القوية تساعد خصومنا، واتفق المعكسر الشرقي والمعسكر الغربي لسنوات على مساعدة الخصم، وقلنا لهم: أنتم الآن في مقام: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} وأنتم أيها الخصوم قد تنتقلون إلى مقام: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا}. وسوف تنتقلون من بعد ذلك إلى مقام: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ}.
وقد حدث أن سقط الاتحاد السوفيتي بأكمله، وأخذهم الله بغتة بأيدي أناس منهم، وكثيراً ما تحدث الكوارث لمن يضطهد أهل الإيمان. إذن: فلا داعي لأن يغتر أحد بما وصل إليه.

 

ويقول الحق: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم ما أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} [المائدة: 64].
وهم مكبوتون دائماً. فالحق لا يُمَكّنهم من كل أهوائهم. لذلك يبغون في الأرض فساداً بأساليب الاختفاء. ومن يقرأ (بروتوكلات صهيون) يجد اعترافاتهم بأنهم أصحاب النظريات التي تقود إلى الأفكار الخاطئة كالماركسية والوجودية والداروينية وهي أمور مرتبة من قبل ليظهر أثرها الضار في الشعوب غير اليهودية. أما اليهود فقد حصنوهم ضد هذه المبادئ الفاسدة، هكذا أرادوا التبييت ضد العالم، وهكذا يكون سعيهم بالفساد بين الناس. وإذا نظرنا إلى الانحراف الحالي في الكون فإننا نجدهم وراءه.

 

فالرأسمالية الشرسة من اليهود. والشيوعية الشرسة من اليهود. وهؤلاء الذين يدعون أنهم أنبياء من بعد رسول الله إنما يحدث لهم ذلك بفعل اليهود، وكذلك الجمعيات التي تتخفي وراء أسماء (الماسونية والروتاري والليونز)، كلها من اليهود. ومع ذلك نتلفت إلى قوم يقولون إنهم متحضرون ويفخرون بأنهم أعضاء في الروتاري، ونسألهم: ماذا تفعلون في تلك الأندية؟ يقولون: نقوم بالأعمال الخيرية والخدمات. ونقول لهم: لماذا لا تفعلون أعمال الخير باسم الإسلام؟. وهل تظنون أن هناك خيراً يأتي من خارج الإسلام؟!
ويكتشف الكون كل فترة من الزمن أن الفساد الذي فيه إنما هو بسبب هؤلاء الناس وبسبب مكائدهم؛ لذلك يصيبهم الحق بالكوارث كل فترة من الزمن؛ لأنهم يسعون في الأرض فساداً. وهذا السعي في الأرض بالفساد إنما يأخذ صوراً متعددة، مرة يأخذ شكل النظريات العلمية، ومرة يأخذ شكل التطرف في الأنظمة السياسية من رأسمالية شرسة أو شيوعية شرسة، وكل ذلك تخريب لحياة الناس.
والناس حين تجرب نظاماً فهي تقيس نجاحه أو فشله بمقدار ما يعود عليها من خير أو من شر.
لقد كانت روسيا- على سبيل المثال- تمد العالم بالقمح من سيبيريا. ولكنها الآن تشكو قلة الزراعة وتنتظر من يبيع لها القمح. وعلى الجانب الآخر نجد الرأسمالية الشرسة تطحن أبناء تلك البلدان في الحياة غير المسئولة باسم الحرية. وقد شهدت ألمانيا- مثلاً- قسمة عاصمتها القديمة (برلين) إلى قسمين، ولكل قسم حياة، وشهدت إعادة التوحيد لأرض ألمانيا بما يصاحبه من مشكلات جمة.

 

وقد تذهب بعض المجتمعات إلى أيدي أناس لهم شراسة أشد كالحزب الحاكم في كل دولة لا تتبع منهاجاً متوازناً، ونجد رجال هذا الحزب كهيئة تأخذ الدعوة ونقيض الدعوة حتى لا يتمرد عليهم أحد، فعَرق العامل في أيديهم ومصنع الرأسمالي في أيديهم وهم يعيشون حياة الأمراء ولا يجرؤ أحد على أن يسألهم.
 

ومثال ذلك أيضاً نظرية الوجودية التي تدعو كل إنسان ليثبت وجوده، وصاحبتها موجة من الانحلال اللا مسئول، ذلك أنهم لم يفهموا إثبات الوجود على أساس أنه مسئولية العمل الصالح في الكون، ولكن فهموا الأمر على أنه انطلاق غرائز على الرغم من أن المفترض في كل إنسان إذا أراد أن يمد يده، فعلى يده أن تتوقف حيث يوجد أنف إنسان آخر. لكن هؤلاء الناس عاملوا الناس كأطفال، تماماً كما يأتي الأب لابنه بلعبة يلعب بها ولتكن آلة تليفون، يقدمها الأب لابنه ليستغل طاقته قبل أن يكون مكلفاً، ولكن الأب لا يسمح للابن أن يعلب بآلة التليفون الحقيقية، وهؤلاء الناس يأخذون الكبار إلى اللعب واللهو حتى لا يتدخل الكبار في أمور الجد.
ومثال ذلك لعبة كرة القدم، إنهم ينفخون فيها بالبطولة وينقلون قوانين الجد إلى اللعب. وقبل المبارة بثلاث ساعات تجد قوات الأمن قد سدّت الطرق إلى الملعب الذي يشهد المباراة. ولو أخطأ الحكم خطأ تافهاً فإنّ الجهور يثور ويهيج. ولكن عندما يخطئ الحكام والحكومات ألف خطأ فلا أحد يتكلم، لماذا؟. لأنكم نقلتم قوانين الجد إلى اللعب واللهو وتركتم الجِد بلا قوانين.

 

مثال آخر: نجد كل فاكهة أو محصول أو صناعة في الوجود يقيمون لها الاحتفالات ويتوجون عليها ملكة، ملكة الكروم، ملكة القمح، ملكة الأزياء، وكل ذلك من أجل إبراز مفاتن النساء، ولا يوجد تكريم للعقول التي تنتج. وعلى سبيل المثال نجد ملابس الشباب الرياضية تغطي جسد الشباب من الذكور، لكنهم لا يفعلون ذلك بالنسبة للإناث، لماذا لا يغطون أجساد البنات أيضاً أثناء ممارسة الرياضة؟ والغرض- بطبيعة الحال- هو دغدغة أعصاب الناس، وكل ذلك إفساد في الأرض.
{وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً} ومن العجيب أن سعيهم للفساد يلبسونه ثوب الحق وثوب الارتقاء وثوب الحضارة.
ويأتي أناس من المسلمين ويشجعون مثل هذا الفساد، وينسون الحقيقة البديهية وهي: {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} فسبحانه وتعالى قد خلق الكون على هيئة الصلاح، فإذا استقبلت خير الله بصلاح الوجود الذي طرأت أنت عليه فأنت تحسن حياتك وعملك، أما إن لم ترد صلاح الكون فعليك ألا تأتي بفساد.
والحق خلق الكون على نظام دقيق، ونرى ذلك في الأشياء التي لا دخل للإنسان فيها، ونجدها في منتهى الدقة والاستقامة، الشمس والكواكب والفصول والرياح، لكن الفساد يأتي عندما تدخلت يد البشر بغير منهج الله. إذن فالفساد هو الذي يصرف الناس عن منهج الله. ونجد بعضاً من الناس يركبون رءوسهم ويظنون أن ما يفعلونه هو الصلاح، فينطبق عليهم قول الحق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11-12].

 

نداء الايمان

 

image.png.3de837d4469c726071d5406edd99ec6c.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)}


هذا القول يدل على أن أهل الكتاب جميعاً في غير حظيرة الإيمان، والحق يوضح لهم: إن فسادهم كان سابقاً على ظهور الإسلام، ولهذا جاء الإسلام ليخرج الناس من فسادكم أنتم. لقد كان لكم منهج من الله ولكنكم حرّفتموه، وإن لكم رسلاً أرسلهم الله إليكم ولكنكم أسأتم إليهم، وطقوساً دينية ابتدعتموها. وجاء الإسلام لا ليهدي الملاحدة فقط، ولكن ليهدي أيضاً الذين أضلهم أرباب أهل الكتاب. وكانوا من بعد الإسلام يحاربون الإسلام بالاستشراق، وكانوا يؤلفون الكتب ليطعنوا الإسلام. لكنهم وجدوا أن الناس تنصرف عنهم؛ لذلك جاءوا بمن يمدح الإسلام ويدس في أثناء المديح ما يفسد عقيدة المسلمين.
إننا نجد بعضاً من المؤلفات تتحدث عن عظمة الإسلام تأتي من الغرب، ولكنهم يحاولون الطعن من باب خلفي كأن يقولوا: إن محمداً عبقري نادر في تاريخ البشرية ويبنون كل القول على أساس أن ما جاء به محمد هو من باب العبقرية البشرية، لا من باب الرسالة والنبوة. ونجد مثالاً على ذلك رجلاً أوروبياً يؤلف كتاباً عن مائة عظيم في العالم ويضع محمداً صلى الله عليه وسلم على رأسهم جميعاً. ونقول له: شكراً: ولكن لماذا لم تؤمن أنت برسالة محمد بن عبد الله؟

 

إن شهادتهم لنا لا تهمنا في كثير أو في قليل. لقد هاجمونا من قبل بشكل علني. ويحاولون الآن الهجوم علينا بشكل مستتر. وهم أخذوا بعضاً من أبناء البلاد الإسلامية ليربوهم في مدارس الغرب وجامعاته من أجل أن يجعلوا من هؤلاء الشباب دعاة لقضاياهم في إفساد المسلمين، ولم ينجحوا إلا مع القليل؛ لذلك نقول لشبابنا: احذروا أن تكونوا المفسدين وتدعوا أنكم المصلحون، فلا تأخذوا المسألة بالطلاء الخارجي ولكن انظروا إلى عمق القضايا، وتذكروا قول الحق: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103-104].
علينا أن نرقب كل فساد في الكون، وسنجد أن لأصابع أعداء الإسلام أثراً واضحاً. لقد كان من اجتراء الصهيونية إلى حد الوقاحة أن تقول: ليطمئن شعب الله المختار، فثمانون في المائة من وسائل الإعلام في العالم خاضعة لإرادتنا ولا يمكن أن يُعلم فيها إلا ما نحب أن يُعْلَم. والحق سبحانه وتعالى عندما يقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النعيم} [المائدة: 65].
فسبحانه وتعالى بهذه الآية يقدم الفرصة لهؤلاء الناس حتى يدخلوا إلى حظيرة الإيمان ويستغفروا الله عن خطاياهم الماضية وليبدأوا حياة جيدة على نقاء وصفاء بدلاً من التحريف والتضليل. وليعرفوا معرفة حقة قوله تعالى في رسوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.
هذا القول يجب أن يتهافت إليه غير المسلمين مع المسلمين ليأخذوا من ينبوع الرحمة، وفي ذلك تصفية عقدية شاملة لكل إنسان أن يبدأ طريق إصلاح نفسه.

 

وقوله الحق: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا} إنما يدعوهم إلى الإيمان والتقوى. والإيمان محله القلب، أي أن يستقر في القلب الاعتقادُ بوجود إله أعلى، ونؤمن بالبلاغ عن الإله الأعلى بواسطة الرسل، وأن نؤمن بالرسل وبالمناهج التي جاءوا بها، وأن نتبع هذه المناهج، وأن نؤمن بأن المرجع إلى الله، هذا الإيمان ينعكس على الحركة الإيمانية في الأرض، ويحقق الإيمانُ مع التقوى اتجاهَ الإنسان إلى الصالح من العمل. وأن يبتعد عن غير الصالح من العمل اتباعاً لقول الحق: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1-3].
 

ولذلك نجد قولاً لأحد العلماء الصالحين من العرب هو: إن الإيمان كالْعُمُد والأعمال كالأطناب. وعرف أن كل بيت له أساس من الأعمدة، وله أوتاد تثبته. والخيمة العربية هي بيت من القماش السميك على عمود من الخشب وتشد الخيمة إلى الأوتاد بحبال، وهذه الحبال هي الأطناب ولا تقوم الخيمة إلا إذا ربطت بأحبال وشدت إلى أوتاد. وكان العربي يفك هذه الخيمة، ويحملها على ظهر بعيره لينصبها في أي مكان. وكان العربي يختار القماش الذي إن نزل عليه المطر، يمتص الماء ويمنع سقوطه داخل الخيمة.
 

إذن فالإيمان عمود، والأعمال أطناب، وهكذا تكون دعوة الحق لأهل الكتاب حتى يؤمنوا ويتقوا الله حتى يكفر عنهم سئياتهم، والكفر- كما نعرف- هو الستر والتغطية والعفو هو محو الأثر، كأن الحق سيغطي على سيئاتهم ثم يمحو أثرها وذلك بأن يعفو عنها؛ لأن الإسلام إنما جاء رحمة يجب أن تستغل ليكفر الحق عن سيئاتهم التي ضللوا بها شعوبهم.
 

لقد كان من الواجب عليهم أن يعرفوا أن مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو فرصة للتراجع عن الكفر والبهتان. وقد جاء صلى الله عليه وسلم ليقيم تصفية عقدية في الكون، فالملحد يجب عليه أن يتعرف على خالق الوجود ويؤمن به، والمبدل لمنهج الله ينبغي أن يعود إلى منهج الله. وتلك هي التصفية العقدية الشاملة.
 

image.png.7b9641e3b5178105a5bb3bfc0a7db38d.png


{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}


أي أنهم لو طبقوا التوارة والإنجيل دون تحريف، وآمنوا بالقرآن الكريم لكان خيراً لهم. والتوارة كتاب اليهود. والإنجيل كتاب عيسى عليه السلام، وقد أنزل الله بعد ذلك الكتاب الجامع المانع وهو القرآن الكريم، وأراد لهم الحق بالإيمان بما جاء في التوارة والإنجيل من بشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان بالتوارة والإنجيل- من قبل تحريفهما- إنما يقود إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزله الله إليه. واليهود- كما عرفنا- هم الذين توعدوا العرب بمجيء رسول الله، لكن العرب سبقوهم إلى الإيمان بمحمد بن عبد الله {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}.
لقد كانوا- أهل الكتاب- يملكون المدخل الطبيعي للإيمان بالقرآن وهو الإيمان بالتوارة الصحيحة والإنجيل الصحيح؛ لأن فيهما نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان سيدنا عبدالله بن سلام وكان من أحبار اليهود يقول: (لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد). وحينما يعد الحق أهل الكتاب إن آمنوا واتقوا بأن يكفر عنهم سيئاتهم ويقيهم من عذاب النار فحسب، ولكن سيمحو هذه السيئات ويدخلهم الجنة. وسبحانه هو الأعلم بهم، ويعلم أن منهم الماديين المرتبطين بالدنيا لذلك جاء لهم بخير الإيمان في الدنيا فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} فسبحانه يمد لهم أيضاً يد الأسباب في الدنيا، والمؤمن هو من يرتقي في الأخذ بالأسباب فيأخذ نعيم الدنيا والآخرة، أما الكافر فيأخذ الأسباب دون أن يشكر الخالق عليها.
لقد أراد الحق لأهل الكتاب أن يحسنوا الإيمان أولاً بصحيح التوارة وبصحيح الإنجيل حتى يكون ذلك هو المدخل الطبيعي للإيمان بالقرآن، فهذا هو السبيل إلى تكفير السيئات بألا يدخلوا النار بل ويدخلون الجنة في الآخرة. وهم بالإيمان لا يأخذون خير الآخرة فقط بل يأخذون خير الدنيا أيضاً؛ لأن الحق لا يضن على مجتهد في الأسباب، وهو القائل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].
فمن بقي منهم على الكفر يأخذ من أسباب الدنيا ولكنه لا يأخذ أبداً من عطاء الآخرة: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23].

 

وبذلك يوضح الحق مصير أهل الكفر في الآخرة أولاً، ويوضح من بعد ذلك مصيرهم في عاجل الدنيا، فإن أخذوا بالأسباب أعطاهم الله نتائج الأسباب، وهو سبحانه الذي يحتفظ بطلاقة القدرة، فقد يعطل الأسباب ويسلب الأشياء خواصها، فالمزارع قد يأخذ بكل الأسباب من حرث للأرض وتسميد لها وانتقاء لسلالة البذور، ولكنَّ إعصاراً قد يهب فيقتلع كل شيء أو فيضاناً يغرق الزرع، أو حشرة فتاكة كدودة القطن تأكل المحصول.
 

إذن، فالأسباب وراءها مُسبِّب له طلاقة القدرة، وسبحانه هو الذي وضع القوانين الكونية، وهو- أيضاً- الذي يسلبها خواصها.
فأنت أيها الإنسان سيد الكون بإرادة الله ومقهور في كثير من الأقضية لقهرية الجبار. صحيح أن لك بعض الاختيارات في بعض الأشياء، ولكن هناك قهريات في أمور لا دخل لك فيها، فالمرض قد يقتل، والحادث المفاجئ قد يقتل، وتلك أشياء من قهريات الله التي تخرج الإنسان عن الأسباب.

 

إن الحق سبحانه يرينا أن بلاداً كانت دائمة المطر ثم أصابها الجفاف، لماذا؟ لأن الناس تغتر من رتابة النعمة، ولذلك يمسك الحق الكون بيده، وهو سبحانه لا يسلمه لأحد أبداً. لذلك يأتي في بعض الأحاديين ويقبض أسبابه حتى لا يفتن الإنسان بالأسباب ورتابتها.
وأمثلة ذلك في حياتنا كثيرة، نرى المزارع الذي يملك عشرات الأفدنة فتهاجمها الدودة فتأتي على الأخضر واليابس، بينما جاره الذي لا يملك إلا قطعة يسيرة وقليلة من الأرض تطرح الخير كله لصاحبها؛ لأنه دفع ما يسميه أهل الريف (غفرة الأرض) أي زكاتها. والدودة في هذه الحالة تكون هي من جنود الحق فتأكل المال الباطل ولا تلمس المال الحلال. {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].

ولذلك يقدم الحق أسبابه لمن يسعى فيها، ويزيد للمؤمن.

 

 {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}

الرزق قسمان: قسم مباشر وقسم يأتي بالرزق المباشر،

والرزق المباشر هو ما ننتفع به على الفور، كطعام نأكله أو ماء نشربه، أما الرزق الآخر فهو المال الذي قد نشتري به الرزق المباشر. وجاء سبحانه بأمور الحياة الواقعية حتى نفهم أن المنهج إنما نزل لينظم حركة الإنسان في هذه الحياة، والآخرة هي الجزاء على حسن العمل في الدنيا.
 

وبعد أن وعدهم سبحانه بالجنة جزاءً للإيمان يمد لهم الأسباب في الدنيا رخاءً وسعة وترفاً وسعادة. ونجد من يسأل: وكيف يأكلون من فوقهم؟ ونقول: إن الأكل هو المظهر الأساسي لحياة الإنسان؛ لأن كل حركة يصنعها الإنسان هي فرع عن وجود حياته. ووجود حياة الإنسان يتوقف على ثلاثة عناصر مهمة هي الأكل والشرب والتنفس. فإذا ما أردنا استبقاء الحياة والتناسل فلابد من توفير لهذه المصادر الثلاثة.

إننا عندما ننظر إلى ترتيب الثلاثة في الأهمية نجد أن الإنسان قد يصبر على الطعام شهراً. وقد يصبر على الماء مدة تتراوح ما بين ثلاثة أيام وعشرة أيام، أما التنفس فلا يطيق الإنسان ألا يجد الهواء لمدة دقائق.
ومن رأفة الحق بالخلق أن جعل الحيازة لهذه الأنواع المقومة لاستبقاء الحياة تترتب حسب أهميتها.

لذلك نرى من يملك على إنسان آخر طعامه ويتحكم فيه، لكن الحق يجعل في جسد الإنسان ما قد يقيته شهراً. ونرى أن الحيازة في الماء أقل من الحيازة في الطعام؛ لذلك لم يُمَلِّكْهَا الحق إلا نادراً؛ ذلك أن الإنسان لا يطيق الصبر على العطش إلا لمدة تتراوح ما بين ثلاثة أيام وعشرة أيام. وأما الهواء فلم يجعله الحق ملكاً لأحد على الإطلاق؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يستغني عنه إلا بمقدار الشهيق والزفير، ولا يستطيع الإنسان أن يدخره في حجم رئتيه؛ لذلك لم يأمن الحق أحداً من الخلق على ملكية الهواء.
 

وقوله الحق: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} مقصود به أن الاستقامة في تطبيق منهج الله تُخْضِعُ الأسباب الكونية لهم، أما إذا ما تمرد الإنسان على منهج الله فقد يعطيه الله زهرة الحياة الدنيا ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، فالنواميس الكونية لم تنعزل عن يد الحق.
لذلك يخاطب سبحانه الخلق خطاباً، فإن انفعلوا للخطاب، يسرَّ لهم كل ما سخره لهم في الكون. وإن لم ينفعلوا فهو ممسك الأسباب ويمكنه أن يخرق قوانينها، فلا الأرض ولا الهواء ولا أي شيء خرج عن طاعة الله، فإذا ما تمردت جماعة على نعم الله أو على الله فسبحانه يجعلهم نكالاً لغيرهم ويقبض عنهم الأسباب.
والإنسان سيد هذه الكائنات في هذا الكون، وهو منفعل- أيضاً- بقدرة ربه وقد يمرض، وقد يموت، وقد ينكسر، وقد يغرق، فإذا كان الإنسان وهو المنفعل ب (كن) من ربع فكيف حال الأشياء الأدنى منه؟ إنها أيضاً منصاعة ب (كن). والحق قادر أن يقول للأرض: كوني جدباً، وهو القادر على أن يوقف المطر لأنه هو سبحانه الذي يجعل الأشياء تسير سيراً رتيباً. ألم يقل الحق سبحانه وتعالى في خطابه لكل خلقه عن الأرض: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا}. فإذا كان الحق قد أوحى للأرض لتبرز الكنوز أو تحدث الزلازل، فما بالنا بكل شيء آخر؟. إن كل شيء إنما يسير بأمر الله، ذلك أن كل شيء يسبح بحمد الله، ولكن الإنسان لا يفقه لغات غيره من الكائنات: {لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمًْ}.

 

وخطاب الله لكل خلقه يفهمه المنفعل له من أي جنس من أجناس الوجود، ولو علمك الله هذا الانفعال، لسمعت لغة الكائنات الأخرى. مثال ذلك سيدنا سليمان عليه السلام الذي سمع قول نملة لبقية النمل: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18].
وماذا قال سليمان بعد ذلك؟.
قال سليمان: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: 19].
وهو سبحانه القائل: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير} [الأنبياء: 79].
والهدهد قال في القرآن: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} [النمل: 25].

 

إذن فكل كائن في الوجود يعرف قضية الإيمان وقضية التوحيد. وكل من في الوجود ينفعل لربه. وهكذا كل الأشياء التي تحفظ للإنسان حياته أو نوعه. فماذا عن حال من يتمرد على الله؟. إنه سبحانه قد يقول للأسباب: انقبضي عنه. ونرى ذلك في حال بعض البلاد على ألوان مختلفة، فالبلاد التي تقع في منطقة يعرف عنها أنها دائمة المطر، يخرق الله طبيعة البيئة فتصير إلى جفاف، وغيرها التي تستطيع أن تصل إلى الفضاء الخارجي. لا تقدر على مواجهة إعصار، وذلك ليتأكد لنا أن يد المكوّن سبحانه فوق أسباب الكون.
 

لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي أن يأتي الخير من كل ناحية. فإذا كان يراد بالأكل المباشر، فالمطر هو الذي ينزل من أعلى يروي الأرض فيخرج الزرع، وكذلك النخل يعلونا ويأتينا بالتمر، وكذلك أشجار الفاكهة من برتقال وتفاح وغير ذلك. أما ما تحت الأقدام فهي الخضراوات، والفواكه التي تنمو دون أن يكون لأي منها ساق على الأرض كالبطيخ والشمام وغير ذلك.
ولنا في سقوط الفاكهة من على أشجارها العالية بعد تمام النضج الحكمة البالغة، فالرزق الذي طاب وإن لم تسع إليه يأت إليك تحت قدمك.
وإن توسعنا في فهم قوله الحق: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}. فلله أسرار فوق الأسرار، وله فيما تحت الأرض أسرار. ألا نأخذ كل شيء يعيننا على الحياة من طبيعة الأرض سواء أكان حديداً أم نحاساً أم بترولاً؟. وهكذا نجد أن كل شيء في الوجود يخدم بقاء نوع الإنسان أو استبقاء حياته هو من عطاء الله.
إذن فلو أن أهل الكتاب أقاموا التوارة والإنجيل والقرآن وساروا على المنهج لوهبهم الله كل خير. ويؤكدالحق هذا المعنى في آية أخرى فيقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض}.

 

ونرى أن الحق قد أفاء على بعض الناس من النعمة الشيء الواسع والكثير ومن بعد ذلك يطغى أهلها بالنعمة فيمهلهم ربنا إلى أن يعلو أمرهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وحياتنا المعاصرة خير شاهد على ذلك؟ فكل بلد أخذت نعمة الله لتحاج بها الله وتكون ضد منهج الله نجدها تبوء بالفساد. ويأتي بأس أهلها فيما بينهم شديداً ويخربون بيوتهم بأيديهم. وكم من بلاد كانت متعة الناس أن يذهبوا إليها للترف أو الانفلات ثم يأتي بأس أهلها بينهم وتخرب بأيدي أبنائها. وفي واقع الكون ما يؤيد صدق ذلك، وكأن الحق يقول لنا: اعتبروا يا أولي الأبصار.
ويقول سبحانه: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} [النحل: 112].
والمراد بالقرية ليس قرية الريف التي نتعارف عليها اليوم؛ لأن القرية في عرف العربي القديم هي المكان الذي يقابل العاصمة. وكانت البيئة العربية قديماً بيئة (التبدّي) أي أنهم يقيمون في البادية وينتقلون من مكان إلى مكان، ولم يكونوا متوطنين في مكان واحد. وكانت عاصمة البدو هي القرية التي تتكون من عدد صغير من البيوت. ولذلك يسمي القرآن الكريم (مكة) بأم القرى. ويضرب الله مثلاً بالقرية الآمنة المطمئنة التي يأتيها رزقها واسعا من كل مكان، أي أن خيرها ليس ذاتياً ولا نابعاً منها ولكن يأتيها من كل مكان. وفي العصر الذي نعيشه نجد أن خير الدنيا يصب في قلب بعض القرى، وما أن يكفر أهل القرية بأنعم الله فما الذي يحدث؟ {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} [النحل: 112].

 

وهذا واقع نراه في كثير من البلاد التي أخذت نعمة الله فبدلتها كفراً فأحلوا قومهم دار البوار. ويرينا سبحانه القرى التي يلبسها الحق لباس الجوع والخوف. وعندما ننظر إلى قول الحق: (لباس) نرى أن الجوع له لذعة، واللباس له شمول ويلفهم الجوع كما يلفهم الثوب، وكذلك الخوف فتصير كل جارحة فيهم خائفة: أي أن الحق سلط عليهم الجوع فلا يجدون موادّ الاقتيات. وكذلك الخوف يأتيهم فإما أن يكون الخوف بسبب بأسهم فيما بينهم لأن عداوة بعضهم بعضاً شديدة، وإما أن يكون الخوف من عدو خارج عنهم. وهذا واقع معاصر.
وكيف يكون الكفر بنعم الله؟ الكفر بنعم الله إما أن يكون بمعنى ستر النعمة. واستعمالها في معاصي الله، ومثله مثل الكفر بالله أي ستر وجود الله، وقد يكون الكفر بنعمة الله بالتكاسل عن استنباط النعمة من مظانها. وفساد العالم الآن يأتي من أناس كُسالى عن استنباط نعم الله المطمورة في كونه، وأناس يجدّون في استنباط نعم ويحبسونها لأنفسهم ولا يعطون منها الضعاف، ويستخدمون النعمة في المعاصي.
إذن فقوله الحق: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].

 

وقوله الحق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}. هم حكم عام؛ فهل وُجِدَ من يؤديه؟. نعم؛ هناك أناس منهم عرفوا ذلك وساروا إلى السبيل المستقيم، وعن هؤلاء يقول سبحانه: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ}. أي منهم أمة تسير إلى أغراضها وإلى غايتها على الطريق المستقيم. وهذه إشارة إلى أن بعضاً من أهل الكتاب يفعل ذلك، والبعض الآخر لا يفعل، وهذا القول أشار أيضاً إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يُخلى وجوده وكونه من خلية خير فيه، وقد تكون خلية الخير هذه من أضعف الناس الذين لا شوكة لهم في الدنيا ولا جاه ولا قوة.
ولولا هؤلاء الناس لهدَّ الله الأرض ومن عليها. ويوضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بقوله: (لولا عباد لله رُّكع، وصبية رضع، وبهائم رُتّع لصُبّ عليكم العذاب صبا ثم رُصَّ رَصّا).
كأننا مكرمون في هذا العالم من أجل الضعاف فينا. وكأن الحق لا يحجب الخير عن كونه، بل يجعل في الكون ذرات استبقاء للخير. ولذلك نجد من يقول: إذا بالغ الناس في الإلحاد زاد الله في المد. وقد تجد بلداً كلها من الملاحدة، وتجد فيها عبداً واحداً متبتلاً لربه، ويكون هذا الرجل هو الذي يستبقي الله من أجله هواء تلك البلدة وماءها. ولذلك قال سبحانه: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ}.

 

نداء الايمان

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)}
 

تبدأ الآية بخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن عظمة رسولنا المصطفى عليه الصلاة والسلام وعلو مكانته عند من اصطفاه خاتماً لرسالاته في الأرض أن الله ذكر الرسل في خطابه لهم بنداء أسمائهم فقط كقوله الحق: {يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} [البقرة: 33].
أو قوله الحق: {ياموسى إني أَنَا الله} [القصص: 30].
أو قوله الحق: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116].
أو قوله الحق: {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ} [هود: 48].
فسبحانه ينادي كل رسول له بالاسم المشخص للذات بصرف النظر عن أي صفة، لكن رسول الله لم يُناد باسمه أبداً بل ناداه الحق بالمشخص للوصف: (يا أيها الرسول). أو قوله الحق: (يا أيها النبي).
فكأنك يا رسول الله قد اجتمعت فيك كل مسائل الرسالة لأنك صاحب الدين الذي سينتهي العالم عنده ولا يكون بعد ذلك لله في الأرض رسالة إلا فهم يؤتيه الله لأحد في كتاب الله.

 

ومن عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أقسم بحياته، على الرغم من أن الحق لا يقسم بحياة أحد من البشر إلا رسوله، فقد أقسم بحياته. وهو سبحانه يقسم بما يشاء على ما يشاء، أقسم بالريح والضحى والليل والملائكة، لكنه ما حلف بحياة بشر أبداً إلا حياة محمد صلى الله عليه وسلم. {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].
أي وحياتك يا محمد هم في سكرتهم يعمهون أي يترددون حيارى. ويقول الحق هنا مخاطباً الرسول: (يا أيها الرسول). وما دام محمد هو الرسول الخاتم الذي جاء مصدقاً لما بين أيديهم من الكتب، فمعنى هذا أن كل خير في أي كتاب سبق القرآن موجود في القرآن وفيه أيضاً زيادة مما تتطلبه مصالح الحياة المستجدة. وما دام الخطاب للرسول فهذا يعني أنه رسول مرسل من قبل الله بمنهج لخلقه ليبلغه لهم: {بَلِّغْ ما أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}. وكيف يقول الحق لرسوله: (بلِّغ) وهو أن يعلم أن مهمة الرسول هي البلاغ؟

 

لقد أراد سبحانه بذلك إخبار الناس أنه إن أبلغهم بما يكره بعضهم فهو يبلغ التزاماً بأمر الله، فهو لا يقول من عنده، ذلك أن الرسول عليه البلاغ، فإن أبلغ أحداً ما يكدره فليس له مصلحة في ذلك. ويورد سبحانه ذلك حتى إذا بَلَّغ الرسول حكماً من الأحكام فعليهم أن يستقبلوا الحكم على أساس أنه قادم من الله وسبحانه يعلم أن رسوله لا يكتم البلاغ ولكن ليجعل لرسوله العذر عند البشر، فهو سبحانه حين يخاطبهم بشيء قد يكرهونه، فهو بلاغ من الله: {بَلِّغْ ما أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}. أي أنه إن لم يفعل ولو في جزئية يسيرة من المنهج فهذا معناه أن البلاغ ناقص والله يريد أن يكون البلاغ كاملاً بالدين المتكامل.
 

إن التركيبة الإيمانية تقتضي أن يأتي القول بهذه الطريقة حتى ينسجم البلاغ بشكل كامل؛ فقد نزل المنهج بكليته، ويجب أن يُطبق بكليته من أجل أن ينصلح الكون وحتى لا تفسد حركة الإنسان في الكون، فقد أنزل سبحانه المنهج وأحكمه ليسير العالم على حسب تصميمه له دون أن يختل. ولذلك يقول الحق: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}. وبذلك يعطي الحق رسوله المناعة الكاملة. فلم يأت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلا لخير الناس.
 

لقد سبق أنَ خلق الله آدم وأعطاه المنهج. وكان على آدم أن يبلغ المنهج إلى الذرية وقد فعل، لكنَّ بعضاً من أجيال بني آدم غفلت عن المنهج؛ فيبعث الحق الرسل لتذكر بالمنهج. ولا يأتي رسول إلا بعد أن يكون الفساد قد فشا وانتشر بين الناس. وقد جعل الله في النفس الإنسانية نفساً لوامة، ونفساً تأمر بالسوء، ونفساً مطمئنة.
إن مهمة النفس اللوامة هي أن ترد على كل ما توسوس به النفس الأمارة بالسوء. لكن إن لم تلم النفس اللوامة، فالنفس الآمرة بالسوء تتمادى ولا يردعها رادع. أما النفس المطمئنة فهي النفس التي تطمئن إلى منهج الله. ومثال ذلك الإنسان الذي تلح عليه شهوته لارتكاب معصية ما فيرتكبها، ومن بعد ذلك يندم ويلوم نفسه، ويتوب عن المعصية، هذا الإنسان يردع نفسه ذاتياً. لكن إن سيطرت النفس الأمارة بالسوء فلا رادع.
وماذا إذا ساد الفساد بين عموم الناس؟ وماذا لو لم يتناهَوْا عن المنكر الذي يفعلونه؟ هنا لابد أن يرسل الحق رسولاً بمعجزة جديدة ليأخذ العالم إلى منطق الرشاد ومنهج الحق.

 

ولا يختار الحق الرسول إلا إذا علم الرسول أنه مبلغ عن الله. وسبحانه في الآية التي نحن بصددها يعطي رسوله المعذرة إن بلغ قومه شيئاً يسؤوهم، فما على الرسول إلا البلاغ في قوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}. ونعرف أن الرسالة تقتضي: المرسِل وهو الله، والمرِسَلَ إليهم وهم الخلق، ومرسَلاً وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمرسَل به وهو ما نزل على الرسول ليبلغه. وفي كل أمر مثل هذا نجد أن كلمة (أرسل) تتعدى إلى مفعولين؛ المرسَل: مثال ذلك أرسلت فلاناً إلى فلان، والمرسل إليه: وهو فلان. إذن فهنا مفعولان اثنان، أولهما تعدى الفعل إليه بذاته والآخر تعدى إليه الفعل بحرف الجر.
وحرف الجر هنا هو: (إلى). وبطبيعة الحال يعرف الرسول أنه مرسَل إلى الناس من الله رعاية لمصالحهم؛ فليس في أمر الرسالة شيء لصالح الله. وإن رأيت تعدياً ب (إلى) فهو لتحديد الغاية المرسل إليها، مثل قوله الحق: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 49].
وهذا يوضح أن عيسى- عليه السلام- جاء مبعوثاً بمنهج إلى بني إسرائيل لصالح بني إسرائيل. ومثلما يقول الحق: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً}. أي لصالح الناس. و(اللام) هنا تفيد المعنيين؛ النفعية والغاية.
{بَلِّغْ ما أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي أنه صلى الله عليه وسلم إن لم يبلغ الرسالة كاملة فمعنى ذلك أن البلاغ يكون ناقصاً. ومعاذ الله أن يكون بلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنقص شيئاً، فمنهج الله كل متكامل.

 

وقد يقول قائل: ولكن الناس قد لا تؤدي فروض الله في مواعيدها، والمثال على ذلك هو الصلاة. ونقول: إن هذا عجز في إدارة الناس لحياتهم حسب منهج الله. ومن واجب المجتمعات أن تنظم حركة الناس اليومية من بعد صلاة الفجر إلى الظهر. وفي ذلك قدر هائل من الحيوية والنشاط، وينتهي العمل عند الظهر، فلا تتصادم حركة الناس مع منهج الله، ولا توجد عرقلة ولا نشاز في حركتهم.
ثم يقول الحق: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}. وكان لابد أن يأتي هذا القول الحكيم؛ لأننا نعرف أن الرسول لا يجيء إلا بعد أن يعم الشر ويسود الفساد، ذلك أنه لو لم يسد الفساد، ولم يعم الشر لا كتفى الله بالمجتمع ليردع بعضه بعضاً، أو يكتفي الحق بأن تردع النفسُ اللوّامةُ النفسَ الأمارةَ بالسوء لتستوي النفس المطمئنة على عرش السلوك البشري.

 

لكن عندما يعم الفساد الكونَ. فالسماء ترسل الرسول بمنهج يصلح حال البشرية. وبطبيعة الحال لن يترك المجتمعُ الشريرُ الرسولَ لحاله بل يقاومه؛ لأن مثل هذا المجتمع يريد أن تكون كفة الكون غير متوازنة؛ لأن هناك منتفعين بالفساد والشر، وهم المدافعون عن الفساد، فإن جاء من ينصف الضعفاء والمظلومين فلابد أن يتعرض للمتاعب التي تأتيه من قبل الأقوياء المفسدين.
إن هذه المتاعب تبدأ أول ما تبدأ في النفس؛ ولأن الرسول مخاطب من الله فيمكنه أن يتحملها لأن الحق قد أعده لهذه المهمة، ومثل تلك المتاعب تأتي أيضاً للأتباع، لذلك يمدهم الله بالمدد الذي يجعلهم يتحملونها. والحق يحفظ للرسول ذاته على الرغم من كل ما يحدث: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}.

 

فكأن الحق يقول لرسوله: اطمئن يا محمد؛ لأن من أرسلك هداية للناس لن يخلي بينك وبين الناس. ولن يجرؤ أحد أن ينهي حياتك. ولكني سأمكنك من الحياة إلى أن تكمل رسالتك. وإياك أن يدخل في رُوعك أن الناس يقدرون عليك، صحيح أنك قد تتألم، وقد تعاني من أعراض التعب في أثناء الدعوة، ولكن هناك حماية إلهية لك. ونحن نعلم قدر المتاعب التي تعرض لها الرسول صلى الله عليه وسلم. ألم تكسر رباعيته صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد؟ ألم يشج وجهه؟ ألم تدم أصبعه فيقول: «إن أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت».
لكن قول الحق سبحانه لرسوله: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} لم يكن المقصود هو منع الجهاد في سبيل الله والمعاناة في سبيل نشر الدعوة. ولكن الحق يبين لرسوله: إن أحداً غير قادر على أن يأخذ حياتك.
ولم يمنع سبحانه المتاعب عن رسوله الكريم حتى لا يكون هناك أحد الداعين إلى الله لا يتحمل من الآلام أكثر مما تحمل رسوله صلى الله عليه وسلم، ولننظر ونستمع جيداً إلى ما ترويه عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- حول هذه الآية إنها قالت: سهر رسول الله ذات ليلة وأنا إلى جنبه، فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟ قال: «ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة»، فقالت: وبينما نحن في ذلك إذ سمعت صوت سلاح فقال صلى الله عليه وسلم: «من هذا؟» فقالوا: سعد وحذيفة جئنا نحرسك. فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قُبّة أدَم وقال: (انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله).

 

وهناك باحثة بلجيكية عكفت على دراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وصلت إلى هذه النقطة، فتوقفت عندها لتقول: لو كان هذا الرجل يخدع الناس جميعاً ما خدع نفسه في حياته، ولو لم يكن واثقاً من أن الله يحرسه لما فعل ذلك كتجربة واقعية تدل على ثقته في خالقه. وأضافت الباحثة البلجيكية: ولذلك أنا أقول بملء اليقين: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله). لقد أسلمت المرأة لمجرد وقوفها عند لمحة واحدة من لمحات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 

ويقول الحق من بعد ذلك: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}. ونعرف أن الهداية تعني الدلالة الموصلة إلى الغاية، وهي أيضاً المعونة التي توصل طالب الهداية إلى الغاية. وكان الكفار الذين يبيتون للرسول وينهكون أنفسهم في المكر والتفكير والتبييت، فيقطع الحق سبحانه وتعالى عليهم كل سبيل، وينصره عليهم، ويأتي التطبيق العملي لنصر الله للمؤمنين في بدر: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249].
 

لقد بيتوا، ولكن عند المواجهة لم يقدروا على محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه ولم يستطعوا إيذاءه، برغم المكر والتبييت؛ لأن الحق قطع عليهم كل سبيل لإيذاء محمد، ولن توجد وسيلة من وسائل اللؤم والخبث قادرة على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تمثل ذلك يوم خرج رسول الله مهاجراً وغطى الله أبصار فتيان القبائل الذين حملوا سيوفهم ليقتلوا محمداً وليفرق دمُه بين القبائل فلم يبصروه لأن الله جعل على أبصارهم غشاوة.
 

إذن فكلما فكروا في طريقة سد الله عليهم منافذ تنفيذ فكرتهم. وكأنه يقول لهم: لن تستطيعوا مصادمة محمد في منهجه لا بالعلن ولا بالدس ولا بالخفية، بل أنتم- أيها الكفار- تخدمون الدعوة من حيث تريدون هدمها، فقيامكم ضد محمد في بداية الدعوة كان لإثبات أن الحق جل وعلا أراد أن يشتد عود الدعوة بكفر أهل قريش. وعندما أردتم قتل محمد وأن يتفرق دمه بين القبائل خرج محمد سالماً وأغشى الله أبصار الذين أرادوا القتل. وهاجر صلى الله عليه وسلم. وفي الطريق إلى الهجرة يكون دليله من الكفار وهو عبدالله بن أريقط. كان ذلك لنعلم أن الكفر كان وسيلة الهداية إلى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عبدالله بن أريقط وهو كافر لا تغريه المكافأة أن يشى ويسعى بالرسول لدى مشركي مكة. ولكنهم لم يتخذوا من كل ذلك عبرة. وكذلك الغنم تُعفَّى الأثر، والأرض تشد قوائم فرس سراقة لتغوص وتسوخ فيها.
إذن فكل جنود الله في صف محمد بن عبدالله. وهكذا رأينا كيف لم يهد الحق القوم الكافرين إلى الغاية التي أرادوها وهي التمكن من محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضاً لا يهديهم الله إلى الإيمان.

 

نداء الايمان

 

image.png.3a7189c021a4c6b3d9abed97b57b6078.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)}

(قل)- كما نعرف- هي خطاب له صلى الله عليه وسلم، وما يلي ذلك بلاغ من الله لأهل الكتاب إنهم بلا منهج لأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل بل حرفوهما، ولم يؤمنوا بالقرآن، وهو المنهج الكامل المنزل على محمد بن عبدالله.

وحين يقول الحق: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ} فكلمة (شيء) تقال لأدنى فرد من أي جنس، فالقشة شيء، وورقة الشجرة شيء، وما يطلق عليه شيء- إذن- هو الأقل.
وقوله الحق: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ} أي إياكم أن تظنوا أنكم حين تقومون بتنفيذ جزء من تعاليم التوارة والإنجيل وتخفون الباقي وتهملونه تكونون قد أخذتم شيئاً من الهداية، لا؛ فأنتم لستم على شيء حتى تقيموا التوارة والإنجيل وتؤمنوا بالكتاب الذي أنزل على محمد، والمنهج ليس عرضة لأن تأخذوا منه ما يعجبكم وأن تتركوا ما لا يعبجكم.


وعندما يقال: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ}. ونعرف أن الشيء هو أقل مرتبة في الوجود، ولذلك نقول: شيء خير من لا شيء. ويقال بالعامية: هاش خير من لاش و(هاش) هو الهالك من ثياب المنزل الممزقة، أي أن الذي يملك ملابس ممزقة أفضل ممن لا يملك شيئاً على الإطلاق.

وقوله الحق: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} هو إيضاح لهم أنهم في المرتبة الأدنى من الكائنات لأنهم بلا منهج. ويضيف: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي أنهم لن يظلوا على درجة واحدة ثابتة من الطغيان والكفر، بل كلما أنزل الحق إليك آية يا محمد، وكلما نصرك الله في أمر ازدادوا هم طيغاناً وكفراً. وكان من المفروض أن زيادة نزول الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم تكون إضعافاً لتشددهم وترقيقا لقلوبهم، لكنه سبحانه أراد أن تشتد شراستهم ووحقدهم في أمر الاعتراف بالإسلام.

وقد حدث من خالد بن الوليد وكان فارس الجاهلية ضد الإسلام أن قال لعمرو ابن العاص: لقد استقر الأمر لمحمد. واتجه الاثنان إلى الإسلام على الرغم من أن كلا منهما يعرف قوته ومكانته بين قومه. وبعد أن رأى خالد وعمرو أن الخيبة هي نصيب الواقف ضد محمد مهما علا شأنه. ذهبا إلى الإسلام، وهذا هو موقف المتدبر للأمر دون حقد ولَدَد. أما الذي يزدحم بالمعاناة حقداً ولدداً فتزيده آيات الله لنصرة منهجه حقداً ولدداً وطيغاناً؛ لأن الله شاء ألا يهديهم. ولذلك تصير كل آية في صف الإيمان والمؤمنين مصدرَ إثارةٍ وغيظ ومرارة في نفوس أهل الكفر. وهكذا يوطن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره تجاه هؤلاء الكفار.
إنك يا رسول الله لا تواجه طاقة محدودة ولكنك تواجه طاقة من الشر النامي.


وكل آية إنما تهدي الذي في أعماقه بذرة من خير، أما الذي ينتفي الخير من داخله فالمسألة تزيده سراشة في قلبه. إن الشرير يُصَعِّد الشر ويزداد جُرمه وإثمه، أما الخير فينزل من قِمّةِ الجرم إلى أقل درجة. ولنا المثل في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، فالحق يقول على لسان أخوة يوسف: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8].
ومن بعد ذلك قالوا لأبيهم: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ}. ثم أخذوا في التبييت والتدبير وقالوا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}. وكان أول التدبير لهم هو ما قاله الحق حكاية عنهم: {اقتلوا يُوسُفَ}.
ومعنى القتل هو إزهاق الروح. وهذه أعلى درجات الشر، لكنهم يتراجعون عنها ويقولون: {أَوِ اطرحوه أَرْضاً}. فهم لم يرغبوا في قتله، واكتفوا بأن يتركوه في مكان بعيد، وتصوروا أن بعض السيارة قد يلتقطه فيبعدون يوسف عن أبيه. إذن هم بدأوا التدبير قتلاً، ثم انتهوا بالتفكير لنجاة يوسف: {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9].
والمرحلة الثالثة قولهم: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب} والجب فيه مياه، وهناك أناس كثيرون يذهبون إلى مصادر المياه. هكذا يورد الحق لنا كيفية نمو الخير من بطن الكيد.


إذن، فقوله الحق: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي أن الكثير منهم سيواصل رحلة التصعيد في الشر، فوطن نفسك يا محمد على ذلك.
ونلحظ أن الحق قد وضع صيانة لاحتمال أن تفكر قلة منهم في الإيمان، لذلك لم يشملهم كلهم بالحكم، ولكن الحكم شمل الكثرة من هؤلاء الكافرين. ولذلك يقول الحق لرسوله: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} أي لا تحزن عليهم يا رسول الله. فعلى الرغم من عداوة وشراسة من صادموا دعوته صلى الله عليه وسلم ومحاولتهم كل تلك المحاولات، كان لا يكف عن الدعاء لهم: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون). وكان لا يكف عن القول: (لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله). وقد تم ذلك بالفعل.
وكان الصحابة بعد الغزوات الأولى يقول كل منهم للآخر: أنا حزين لأن عمراً أفلت مني ولم أقتله. فيقول الآخر: وأنا حزين لأن عكرمة أفلت مني. ويقول الثالث: وأنا لا أدري كيف أفلت منا خالد بن الوليد. ولم يمكن الحق الصحابة الأوائل من هؤلاء المقاتلين الأشاوس لأنه يدخرهم للإسلام ليحملوا السيف للإسلام مدافعين وناشرين لدعوته. وها هوذا عكرمة بن أبي جهل يتلقى الطعنة الأخيرة في حياته فيضع رأسه على فخذ خالد بن الوليد ويسأله: أهذه ميتة ترضى عني رسول الله؟ إذن فقد أراد الله من عدم تمكين المسلمين منهم في أوائل الغزوات أن يكونوا جنداً للإسلام بقدراتهم القتالية فاستبقاهم أحياء ليخدموا الدعوة.

p-mtnw3h208c.jpg


{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

هم- إذن- أربعة ألوان من الذين لم يؤمنوا برسالة رسول الله. وهذه الآية وردت في صورتها العامة ثلاث مرات، مرة في سورة البقرة، ومرة هنا في سورة المائدة، ومرة في سورة الحج.
ففي سورة البقرة يقول الحق: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
ولنلحظ أن كلمة (الصابئين) في هذه الآية منصوبة.
وفي سورة المائدة نجد قول الحق: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69].
ولنلحظ أن كلمة (الصابئون) هنا مرفوعة ومقدمة على كلمة (النصارى).
وفي آية سورة الحج يقول الحق: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17].
هنا إخبار عن أربعة، وزاد الحق عليهم اثنين في آية الحج، ونجد أن الإخبار يختلف، وكذلك يختلف الأسلوب، فمرة تتقدم النصارى على الصابئين، ومرة تتقدم الصابئون على النصارى، ومرة تكون الصابئون مرفوعة، ومرة تكون منصوبة بالياء.

وأما اختلاف الإخبار، فهو سبحانه يخبرنا في سورة البقرة فيقول: {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
والخبر في سورة المائدة هو: {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69].
والخبر في سورة الحج هو: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17].
والآيات الثلاث في مجموعها تتعرض لمعنى واحد، ولكن الأساليب مختلفة وكذلك الغايات فيها مختلفة.


ونلاحظ هنا أن الحق قال: (آمنوا) والإيمان هنا هو الإيمان اللفظي أي بالفم وليس بالقلب، والمتصفون بذلك هم المنافقون والذين هادوا، هم أتباع موسى، والنصارى هم أتباع عيسى، والصابئون ليسوا أتباعاً لأحد فقد كانوا أتباعاً لنوح ثم صبأوا عن ديانة نوح وعبدوا الكواكب، أو هم قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة. والمجوس وهم عبدة النار. إذن الحق يريد أن يجري تصفية إيمانية في الكون، فمن يبادر ويدخل في هذه التصفية. يسلم من شر ما فعله قبل ما مجيء الإسلام، ذلك أنهم أضلُّوا أناساً أو حكموا بالظلم.

والحق في سورة البقرة يقول: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} أي أنه سبحانه غفر لهم ما فعلوا من سوء وجزاهم على عملهم الصالح الذي لم يحبطوه ويذهبوه بعمل السيئات والآثام. هذا ما يتعلق بالآيتين... آية سورة البقرة، وآية سورة المائدة، ونلاحظ أن آية سورة المائدة لم يرد فيها قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} ولعل ذلك راجع إلى الاكتفاء بذكرها في سورة البقرة، وذلك له نظير في القرآن الكريم.
كحمل المطلق على المقيد ونحو ذلك.
أما في آية سورة الحج فهي التي يأتي فيها الحكم: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} كأنهم لن يؤمنوا ولن يعملوا الصالح، فتكون هذه هي التصفية العقدية في الكون.
وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصفي المسألة الإيمانية في الأرض ويقول عن المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} وهو ابتداء الخبر، وتكون فيه (الذين آمنوا) في محل نصب لأنه اسم (إن) كما يقول النحاة، وهو سبحانه قال هنا: و(الصابئون) وهي معطوفة على منصوب. وهذا كسر للإعراب. إنّ الإعراب يقتضي أن تكون الكلمة منصوبة فتكون (الصابئين) لماذا إذن عدل الحق عن إنزال الكلمة حسب سياقها من الإعراب وأنزلها بكسر الإعراب مع أنه في آية أخرى قال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين}.
لقد جاءت هنا في مكانها ودون كسر للإعراب، وهي قد جاءت مرة قبل كلمة (النصارى) وجاءت مرة أخرى بعد كلمة (النصارى). وهنا لابد أن نتعرف على زمنية الصابئين، فقد كانوا قوماً متقدمين قبل مجيء النصرانية، فإن أردنا أن نعرف زمانهم نجد القول الحق يقدمهم على النصارى، وإن أردنا أن نعرف منزلتهم فإننا نقرؤها في موضع آخر من القرآن ونجدهم يأتون بعد (النصارى). إذن فعندما أرّخ الحق لزمانهم جاء بهم متقدمين، وعندما أرّخ لكمّهم وعددهم ومقدارهم يؤخرهم عن النصارى؛ لأنهم أقل عدداً فهم لا يمثلون جمهرة كثيرة كالنصارى.
وجاء بها الحق مرة منصوبة ومرة مرفوعة، لنعرف ونلتفت إليهم. وكسر الإعراب كان لمقتضى لفت الانتباه. وكان الصابئة قوماً يعبدون الكواكب والملائكة، وهذا لون من الضلال.


إذن فهناك اليهود الذي عرفوا أن هناك إلهاً، وجاء موسى عليه السلام مبلغاً عنه، وهناك النصارى الذين عرفوا أن هناك إلهاً، وجاء عيسى ابن مريم- عليه السلام- مبلغاً عنه، وهناك المنافقون الذي أعلنوا الإيمان بألسنتهم ولكن لم يلمس الإيمان قلوبهم.

وأراد الحق أن يلفتنا إلى أن الصابئين هم قوم خرجوا عن دائرة التسليم بوجود إله خالق غيب، ويحدثنا الحق أنه يغفر لهم إن آمنوا وعملوا صالحاً. فالإيمان بالله شرط أساسي لقبول العمل الصالح والإثابة عليه. وجاء بهم متقدمين على النصارى احتراساً وتوقيا من مظنة أنه لا يعفو عنهم إن آمنوا وعملوا العمل الصالح.
ونلحظ أنها جاءت أيضاً في معرض جمع الله فيه بينهم وبين من يعبدون أغياراً من دون الله؛ لأن من يلصق ألوهية بغير الله يكون كمن عبد الكواكب وخرج عن التوحيد.
إنه سبحانه وتعالى يتيح لكل إنسان أن يدخل حظيرة الإيمان ويقيم تصفية عقدية يدخل فيها الكل إلى رحاب الإيمان ويقطعون صلة لهم بالشرك. فلو آمن المنافقون واليهود والنصارى والصابئون وعملوا الصالحات فلهم الأجر والمثوبة من الله ولا خوف عليهم من عذاب الآخرة ولا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، وجاء العمل الصالح بعد الإيمان؛ لأن الإيمان إذا لم يقترن بعمل صالح يكون عرضة للسلب والعياذ بالله ولا فائدة فيه، وسبحانه يريد أن يسيطر الإيمان على حركة الحياة بالعمل الصالح فيأمر كل مؤمن بصالح العمل حتى يكون لهم الأجر عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.


أما الذين يصرّون على موقفهم الكفري، فإن الله يفصل بينهم يوم القيامة لأنه على كل شيء شهيد. وكلمة (يفصل) تدلنا على أنه سبحانه وتعالى سيصدر الحكم الذي يبين صاحب الحق من غيره. ونعرف أن الذي يحكم إنما يحكم ببينة. والبينة هي الإقرار، والإقرار- بلغة القانون- سيد الأدلة. أو الحكم بشهود. أو الحكم باليمين، وهو سبحانه يفصل بين المواقف المختلفة. والفصل هو القضاء بحكم. وعندما يكون الذي يحكم هو الذي شهد، فهو العادل. لذلك قال الحق: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.


.نداء الايمان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)}


الميثاق هو العهد المؤكد الموثق، الذي يقتضي الوفاء الشديد. ولا تُوثق العهود إلا مظنة المخالفة. والمواثيق في الإيمان بالله كثيرة.

1-فهناك الميثاق الأول عندما كنا جميعاً في ظهور الآباء. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ} [الأعراف: 172].


وهذه شهادة الفطرة، ونحن نرى أن الفطرة تكون موجودة في الطفل المولود الذي يبحث بفمه عن ثدي أمه حتى ولو كانت نائمة ويمسك الثدي ليرضع بالفطرة وبالغريزة، وهذه الفطرة هي التي تصون الإنسان منا في حاجات كثيرة، وفي رد فعل الانعكاسي؛ مثال ذلك حين تقرب أصبعك من عين طفل، فيغمض عينيه دون أن يعلمه أحد ذلك.

 

وقد أشهدنا الحق على وحدانيته ونحن في عالم الذر: {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ}.

ويقال (أشهدته) أي جعلته شاهداً، والشهادة على النفس لَوْنٌ من الإقرار، والإقرار سيد الأدلة؛ لأنك حين تُشهد إنساناً على غيره؛ فقد يغيّر الشاهد شهادته، ولكن الأمر هنا أن الخلق شهدوا على أنفسهم وأخذ الله عليهم عهد الفطرة خشية أن يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ}.

فحين يأتي يوم الحساب، لا داعي أو يقولَن أحد إنني كنت غافلاً.


2-أو الميثاق الذي أخذه الله لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].
 

3-أو الميثاق الخاص الذي أخذ على كل أمة.

وفي كل جزئية من جزئيات الدين يؤخذ ميثاق، فنحن في الإسلام مأخوذ علينا الكثير من المواثيق. وكذلك رأينا النبي وقد أخذ لنفسه الميثاق في العقبة، رأى الرسول أن ما يربطه بالأوس والخزرج الكثير، كما يربطه بكل قوم يحنون إلى الوحدة تحت راية إيمان واحد، وكان اليهود يعتبرون عرب الأوس والخزرج مجرد همج وخدم يعملون لهم، وأرتأوا السيادة لأنفسهم. وكلما اختلفوا معهم هددوهم بمجيء رسول قادم سيؤمنون به وسيقتلونهم تقتيلاً.
وكان كل من الأوس والخزرج يحاول أن يستميل اليهود إليه، فالأوس حالفت بني قريظة. وحالف الخزرج بني قينقاع وبني النضير. وتلقى الاثنان الوعيد من اليهود بعد ظهور النبي القادم، وذلك ما جعل كلاً من الأوس والخزرج يُسرع إلى التعرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء في موسم الحج نفر من ستة رجال ودعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فآمنوا به صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.

 

وجاءوا في العام الذي يلي ذلك إلى موسم الحج وزادوا حتى صاروا اثني عشر رجلاً. وكانت المعاهدة ألا يشرك منهم أحد بالله وألا يسرق ألا يزني وألا يقتل أولاده وألا يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ورجليه، ولا يعصي رسول الله في معروف. وعادوا إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن. وفي العام الثالث جاء ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان هما نسبية بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرة بن عديّ، وكانت مبايعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد من ذلك إرباك قريش، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلْقَة(السلاح) وتكلم أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم والهدم والهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم . وبسط يده صلى الله عليه وسلم فبايعوه).

وكانت بيعة العقبة ميثاقاً يضمن لأهل البيعة الجنة إن أوفوا به. وقد أوفوا. وهذا لون من العهود والمواثيق.

 

وحين يخبرنا الحق هنا أنه أخذ من بني إسرائيل الميثاق، فمعنى ذلك أن هناك عهداً موثقاً مؤكداً: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].
وقد أخذ الحق الميثاق وأرسل رسلاً بالمنهج، لكنهم كلما جاء إليهم رسول تباحثوا: هل المنهج الذي جاء به على هواهم أولا؟. فإن لم يكن المنهج على هواهم قتلوا الرسول أو كذبوه على الرغم من أن الميثاق عهد مؤكد باتباع الرسول إن جاء بمعجزة ومنهج بلاغاً عن الله وتنفيذاً له في حركة الحياة.
 

لكنّ بني إسرائيل كانوا يتمردون على مناهج الرسل لأنها لا تأتي بما تهواه أنفسهم وأول التمرد التكذيب. وهو أول خطوة في طريق الإخلال بالميثاق، ولم يكتفوا بالتكذيب، إنما حاولوا حصار الرسول حتى لا يصل المنهج إلى آذان تهتدي به. ولذلك لا يكتفون بالتكذيب بل قد يقتلون الرسول لأنه جاء بما لا تهوى أنفسهم.
 

ما هو الهوى أولاً؟.

هو من مادة (الهاء والواو والألف المقصورة التي ترسم ياء). ونجدها منطوقة مرة هَوى ومرة هواء. ومرة (هوى) بضم الهاء وكسر الواو وتشديد الياء، وكلها تدل على التغلغل والانحياز. والهوى هو لطف الشيء في النفس والميل إليه. فالشيء تستلطفه في نفسك فتنزع إليه نزوعاً وقد يكون غير مستحب أو غير مقبول ولا مشروع.
وهل كل الهوى كذلك؟. لا، لأن هناك هوى الإيمان الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).

 

إذن فمن الممكن أن يتجه الهوى إلى الخير. وهو الهوى الذي يحمل النفس على أن يسير الإنسان تبعاً للحق. أما الهواء فهو الذي يتنفسه الإنسان ويستخلص منه الأوكسجين ليغذي به الجسم وتسير به الحياة. ولذلك يقول الأثر: وأقبلْت كالنَّفَس المرتَدِّ.
إنه الإقبال الرقيق، فنحن نعرف أننا إن أكلنا شيئاً نحبه فإننا نشعر بطعمه، وعندما نشرب شيئاً نحبه نتذوق طعمه، أما التنفس فهو أمر لا إرادي فعندما نتنفس شيئاً نحبه يكون إحساساً لطيفاً.
وهناك نطق ثالث ويعبر عن السقوط، وهو الهُوِىّ من هَوى يهوى- بالكسر للواو- ولذلك يقال: هُوِىّ الدلو، أي نزول الدلو إلى المياه التي في البئر. فأي نوع من الهوى تقصده الآية؟

 

يقول الحق: {كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} إذن الهوى الذي يُتَحَدّث عنه هنا هو هوى النفس المجردة عن المنهج، وهو الذي يتحكم في حركة هذه النفس ويقودها إلى غير طاعة الله. وهل ترك الحق النفس الإنسانية دون عاصم لها؟ لا؛ لأنه أنزل الرسل تحمل منهجاً ملخصه (افعل) و(لا تفعل). وهكذا يمكن أن يصير المنهج قَيِّماً على خواطر النفس.
 

لكن ما دام الحق قد أراد أن يكون المنهج قَيِّماً على خواطر النفس، فلماذا أوجد النفس؟. لقد أوجد سبحانه النفس لأن وجودها ينبني عليه أن يَهوَى إنسان الحق والحلال لاستبقاء النوع وتجويد العمل لحلال الرزق. إذن فالغريزة تكون موجودة وقد خلقها الله لمهمة، ولكنه يعصمها بالمنهج من الخروج عن مهمتها.
ويقول قائل: ما دام الله قد خلق غريزة الجنس.. فلماذا لا نتركها لتعبر عن نفسها؟ ونقول له: اتق الله واعلم أن الغريزة الجنسية إنما جاءت لبقاء النوع، واستخدامها فيما يغضب الله فناء للنوع وانحراف يعاقب عليه المنهج.
وكذلك أوجد الحق غريزة حب الطعام ليقيم الإنسان حياته ولم يوجدها للقضاء على الحياة بالنهم والتخمة والشره. وكذلك غريزة حب الاستطلاع ليست موجودة للتجسس على الناس، ولكن هي لاستكشاف أسرار الكون واستنباط الجديد فيما ينفع الناس. إذن فكل غريزة إنما توجد من أجل مهمة، فإن خرجت عن مهمتها، فالشرع يتحكم ويقول: لا. إن هناك إطاراً يمكن أن تستخدم فيه الغرائز، والشرع إنما يأتي لا ليمحو الغرائز، ولكن ليعلِىَ من الغرائز ليستعملها الإنسان فيما ينفع لا فيما يضر.

 

ويقال في المثل العربي: (آفة الرأي الهوى) فإذا ما وقف اثنان أمام القاضي وأحدهما مظلوم والآخر ظالم فالقاضي العادل هو الذي يرفع الظلم عن المظلوم حتى وإن كان له هوى مع الظالم. ولذلك نجد الحق قد عصم رسوله فقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3].
والسطحيون هم الذين لا يلتفتون إلى عظمة هذا الأداء البياني ويتساءلون: ما دام الحق يصوب لمحمد فكيف إذن لا ينطق عن الهوى. ونقول: أنتم لا تحسنون الفهم عن الله ولا عن رسول الله، فعندما صوّب الله لرسوله لم يكن الرسول قد خرج عن حكم إراده الله، ولم يعدل حكماً لله حسب هواه الشخصي، وإنما هو ببشريته صلى الله عليه وسلم كان يصل إلى حكم ما ويراه ثم ترى السماء تعديلاً له، فينطق محمد بالتعديل كما انزله الله.
ولم يخالف صلى الله عليه وسلم ربه في أي أمر. وجاء كل تصويب لله في أشياء لم يسبق فيها لله حكم، وكان كل تصويب قد جاء لاجتهاد بشرى من رسول الله، ولم يكن في ذلك أي هوى.

وحين قال الحق: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى}. إنما يبلغنا أنه لم يكن عند محمد حكم من الله فخالفه الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً لهوى، فمعنى الهوى أن يكون هناك منهج ثم يعدل عنه، وكل التصويبات التي صوّبها الله جاءت في أمور لم يكن فيها حكم. ولهذا نجد تصويب الحق لرسوله يتسم باللطف، فيقول سبحانه: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} [التوبة: 43].
وهذا العفو لم يكن نتيجة لمخالفة حكم من أحكام السماء، ولكن هو عفو سمح؛ لأن رسول الله أخذ بالاجتهاد البشرى في الأمور التي لم يكن فيها حكم الله، وهو قول الحق: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1].

 

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرّم أموراً على نفسه، ولم يحرمها على الناس، وهنا يوضح له الحق: لا تحرم على نفسك ما أحللتُ لك. إذن هذا أمر لمصلحة الرسول. وعندما جاء زيد بن حارثة ليخبر بين أن يكون مع رسول الله كعبد له، وأن يكون مع أهله، آثر زيدٌ رسول الله، فكافأه صلى الله عليه وسلم بأن جعله في مقام الابن، وكان التبني معروفاً عند العرب، ونادى الناس زيدا بزيد بن محمد، فلما أراد الله أن يبطل التبني قال: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله}.
وكلمة (أقسط) تعني أعدل، ومعناها أن القسط أيضاً في دائرة العدل. وعندما يقال: فلان له القسط، أي له العدل. إذن فالقسط أولاً لرسول الله، والأكثر قسطاً هو حكم الله، فكأنك يا محمد قمت بالقسط عند البشر، ولكن الله يريد لك الأقسط.
إذن فقوله الحق سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى}. هو قول لا يستدرك عليه من مخالف لمنهج الإسلام، فإذا ما قال مخالف لمنهج الإسلام: إن الله يصوب لمحمد، فكيف لا ينطق محمد عن الهوى؟. نقول: وهل تعرف معنى الهوى؟ إن الحكم بالهوى يعني أنّه وجد حكما لله فيعدل الحكم لهواه، ولم يحدث ذلك من سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكل تصويب من الله لم يأت على لسان رجل آخر، إنما جاء على لسان رسول الله نفسه. وهذه هي منتهى الأمانة في البلاغ عن الله.

والحق يقول عن بني إسرائيل: {كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} إذن فهم فريقان: منهم من لا يقبل عن الإيمان بالمنهج لهوى في نفسه فيكذب. ومنهم من تمتلئ نفسه باللدد وشدة الخصومة على الرسول، ويخشى أن يحيا الرسول لإبلاغ قوم آخرين، فيحاول أن يقتل الرسول.
والتكذيب هو أول نقطة في اللدد، ثم هناك من يترقى في اللدد ويخشى أن يصل البلاغ إلى قوم آخرين فيحاول أن يقتل الرسول. والتكذيب هو إنكار لقول أو فعل. أما القتل فهو إزالة لأصل الحياة. والذي يقتل هو الأكثر لدداً.

 

وتتجلى دقة القرآن حين يأتي الحق بصيغة الماضي، لفئة وصيغة المضارع لفئة أخرى: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} لأن التكذيب هو تأب من المكذِّب، أما القتل فهو تأبٍ على وجود الرسول من الذين يكذبون. والأبشع هو القتل؛ لأنه إزالة لكل أثر من آثار وجود المقتول. وجاء التكذيب في صيغة الماضي. وجاء في المسألة البشعة بصيغة المضارع.
فالحدث حين يكون بشعاً فهو يبرد بعد مرور فترة من الزمن. وهذا ما يجعل المجتمع يثور عندما تحدث جريمة بشعة، ولكن ما إن تمر عليها عشر سنوات ويصدر الحكم بقتل المجرم لا ينفعل الناس، بل منهم من يتعاطف مع المجرم. ولذلك يحذرنا الحق أن ننسخ من الأذهان صورة قتلهم للرسل، بل يجب أن نستحضر بشاعته دائما فلا نعطف على الذين قتلوا الرسل، وقد قال علماء العربية: إن التعبير بالفعل المضارع يكون لاستحضار صورة الفعل.

 

وساعة يأمر القاضي العادل بالقصاص من إنسان قتل إنساناً آخر، فهو لا يجعل القتل حدثاً منسياً لأنه ماضٍ، بل يستحضره في ذهنه وكأن دمه ما زال ينزف ومكان الطعنة واضحاً؛ لأنه لا يأخذ شيئاً مستوراً بالماضي، بل يأخذ شيئاً واقعاً في الحال. وكأن الحق يأمرنا باستحضار صورة ما حدث أمامنا. ومثال آخر لاستحضار الصورة: نجد الحق يقول لنا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} [الحج: 63].
إنه أنزل الماء، لكنه يتبع ذلك: {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63].
هو سبحانه يستخدم الفعل المضارع لتظل الصورة في أذهاننا مستحضرة في الحال وفي الاستقبال. والحق يقول: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} وكيف يقول الحق: إنهم يقتلون الرسل، والرسل لا تقتل، وأنه سبحانه يريد أن يجعل لهم من العمر ما يمكنهم من تمام البلاغ عنه، إن الأنبياء فقط هو الذين يجوز عليهم القتل؟ ونقول: إن الأنبياء رسل أيضاً بدليل أن الحق قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} [الحج: 52].
إن كليهما مرسل، والفرق أن الرسول يصحب وينزل معه منهجه، والنبي مرسل كنموذج هداية بمنهج قد سبق

 

image.png.2878f8378ea10b3e18e73f79c12bc13e.png

 

{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}


(وحسب) إن كانت بفتح الحاء وكسر العين فمعناها الظن، وإن كانت بفتح الحاء وفتح السين فبمعنى (عد)، والحسبان هو أن تظن وترجع وجود الشيء. والذين أخذ الله عليهم الله الميثاق وهم- بنو إسرائيل- ظنوا أن تكذيب الرسل وقتلهم لا يكون فتنة. ويعني أنهم لم يعلموا علم اليقين، وقد رجحوا ألا تكون فتنة. والأصل في الفتنة- كما نعرف- هي الاختبار، إما أن ينجح فيه الإنسان وإما ألاّ ينجح. فكيف جاءهم الظن أن هذا ليس اختباراً؟ لقد جاءهم هذا الظن من الخطأ الذي وقعوا فيه عندما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18].

والخطأ الذي تمادوا فيه عندما قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80].
لقد ظنوا أن الحق سيعاقبهم فقط على عبادة العجل ولن يعاقبهم على أي شيء آخر. وكان هذا ظناً خاطئاً. إن المنهج لم يأت لينجي أناساً بذواتهم مهما فعلوا، ولكن المنهج جاء ليحاسب كل إنسان حسب ما عمل. ومن العجيب أنهم ظنوا الظن الخاطئ ولم يقوموا بحساب الأمر بحسابه الصحيح على الرغم من أنهم أهل تفوق في العد والحساب، فالحساب هو الذي يضمن صحة أمر أو يكذبه. ومن العجيب أن من رحمة الحق بالخلق ساعة يؤاخذهم فهو يقول: لك كذا وعليك كذا. لكن ساعة يرزقهم فهو يرزقهم بغير حساب.

 

ولكنهم لم يلتفتوا إلى ذلك وقال عنهم الحق: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي ظنوا أن ذلك الأمر لا اختبار فيه وأنهم غير محاسبين عليه. ونعرف أن (أَنْ) تنصب الفعل. وقال لي سائل: لقد سمعت قارئ القرآن في المذياع ينطقها {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ}.
 

وقلت له: إن هناك ثلاثة من أكابر القراء في صدر الإسلام هم: (أبو عمرو) و(حمزة) و(الكسائي)، وكان لكل منهم أسلوب متميز. وعندما نعلم أن (أنْ) تنصب الفعل لابد أن يكون الفعل الذي يليها لا يدل على العلم واليقين والتبين، (فأن) بعد العلم لا تنصب، كقوله الحق: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض} [المزمل: 20].
وألفية ابن مالك تقول:(وبلن انصبه وكي كذابِأَنْ لا بعد علم). أما (أن) التي من بعد ظن فمن الممكن أن تنصب ومن الممكن أن يُرفع الفعل بعدها، فالذي رجح وجود الفعل وأدركه إدراكاً راجحا يرفع، والذي لم يكن لديه هذا الإدراك الراجح ينصب، والرفع هو قراءة الكسائي وأبي عمرو وحمزة. فقد بنوا الأمر على أنَّ الرجحان يقرب من اليقين. وما دام قد حدث ذلك تكون (أَنْ) هنا هي (أن) المؤكدة، لا (أن) الناصبة ويسمونها أن المخففة من الثقيلة فأصلها أنّ.

 

{وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ}. وتأتي (فتنة) بالرفع لأنها اسم تكون. و(تكون) من (كان).
و(كان) لها اسم مرفوع وخبر منصوب. وهي هنا ليس لها خبر؛ لأنها مِن (كان التامة). فهناك (كان الناقصة) وهناك (كان التامة). ونقول ذلك حتى نتقن فهم القرآن، مثلما نقرأ قوله الحق: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ..} [البقرة: 280].
و(كان) فعل ماضي، و{ذو عسرة} اسم كان التامة؛ لذلك لا خبر لها؛ لأن المقصود هو القول: وإن وُجِد ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة. ولابد لنا أن نعرف ما معنى(تام) وما معنى(ناقص) ؟ نعلم أن كل لفظ ننطق به ويدور حول أمرين اثنين، إما لفظ مهمل وغير مستعمل وإمّا لفظ مستعمل. والمستعمل هو الذي له معنى يصل إلى الذهن ساعة نطقه ويستقل به الفهم، فإن كان لا دخل للزمن فيه فهو الاسم ككلمة(أرض) و(شمس) و(قمر). وهناك لفظ لا يستقل بالفهم كحرف الجر(في) مثلاً. صحيح أنه يدل على شيء في شيء؛ ولكنه لا يستقل بالفهم؛ لذلك لابد أن ينضم لشيء، كقولنا: الماء في الكوب أو قولنا: التلميذ في الفصل. فإذا كان للفظ معنى ومستقل بالفهم، والزمن له دخل فيه فهو الفعل.

 

مثال ذلك قولنا: السماء. إن السماء كانت في الماضي وهي في الحاضر وهي في المستقبل. إذن فالزمن لا دخل له بها، وكلمة: كلُوا نجدها تأتي من الأكل، وهي معنى مستقل بالفهم والزمن جزء منه. ولفظ(في) يدل على معنى غير مستقل بالفهم فلابد من أن ينضم لشيء آخر.
إذن كل لفظ له معنى، وهذا المعنى قد يكون مستقلا بالفهم أو غير مستقل، فإن كان مستقلاً بالفهم فإننا نسأل: هل الزمن جزء منه؟ وفي هذه الحالة يكون(فعلاً) وإن لم يكن الزمن جزء منه فهو الاسم. وإن كان غير مستقل بالفهم ويريد شيئاً آخر ليستقيم المعنى فهو(حرف) .
وهكذا تعرف الألفاظ. والفعل هو معنى زائد عليه زمن كقولنا: أكل؛ فهي تعني تناول إنسان طعاماً في زمن ماضٍ، وهكذا نفهم قولنا: (كان). فإن قلنا: (كان) بمعنى حدوث شيء في الماضي، كقولنا: كان زيد مسافراً. فهي ناقصة. وفي ضوء هذا نفهم قول الحق: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
فإن أردت الوجود فقط من غير شيء جديد طارئ عليه، فالفعل يكون تاماً لا يحتاج إلى خبر.
وإن أردت الوجود مع أي شيء آخر فهو الفعل الناقص الذي تكمله بخبر. مثل قوله تعالى: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي ألا توجد فتنة، فهي لا تحتاج إلى خبر.

 

وكان مثل بني إسرائيل كمثل التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة ولا يعلم أن فيها اختباراً آخر العام فيُمضي الوقَت في تحصيل ولا جد ولا اجتهاد بل في لهو ولعب، وكان هذا حسباناً خاطئاً؛ لأن المنهج لم يأت اعتباطاً، ولكنه جاء كنظام حركة للحياة ليعمله المؤمن. وكان المفروض أن يستقبلوا المنهج على حسب تعاليم المنهج. ومن العجيب أنهم ظنوا ولم يحسبوا بالحساب على الرغم من أنهم أهل علم بالحساب، فهم حسبوا- بكسر السين- وما حسبوا- بفتح السين- وكان المفروض أن يقوموا بالحساب، فالحساب هو الذي يضمن صحة المسائل.
وكل شيء عند الله يكون بالحساب، حساب للعبد وحساب على العبد. {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي ظنوا أنها ليست اختباراً. وظنوا أن الرسالات والمناهج هي مسألة لا اختبار لهم فيها، فلما عرفوا تعاموا عن ذلك وصموا آذانهم عنه. ونعلم أن وسائل الإدراك في النفس البشرية هي السمع والأَبْصار والأفئدة: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

 

إذن فوسائل الإدراك: سمع، وبصر، وفؤاد. وما تراه العين هو تجربة الإنسان بنفسه. أما ما يسمعه الإنسان فهو تجربة كل غير له. وبذلك يكون السمع اكثر اتساعاً من العين. والسمع هو وسيلة الإدراك التي توجد أولاً في الإنسان حين يولد. ونجد المولود لا يهتز عندما يقترب شيء من عينيه؛ لأنه لا يرى بدقة وقد يستمر ذلك لمدة عشرة أيام ومن بعد ذلك يبدأ في الرؤية. لكن الطفل إذا سمع صوتاً بجانب أذنيه ينفعل، كأن حاسة السمع هي التي توجد أولاً، ولذلك يأتي لنا الحق بذك السمع أولاً ومن بعد ذلك الأبصار ثم الأفئدة.
 

(فعموا وصموا) وهو سبحانه يسألهم أولاً عن التجربة الشخصية فيهم. ولم يسألهم عن الذي سمعوه عن غيرهم فقط، (فعموا) أي لم يروا حتى الأمور المتعلقة بهم، ولم ينظروا في آيات الكون ولم يسمعوا البشير ولا النذير ولا المنهج من الله ولا اتفقوا على تنفيذه. وسبحانه يعاتبهم أولاً أنهم لم يستعملوا عيونهم. وحتى لو افترضنا أنهم لم يروا آيات الكون بأنفسهم فما بالهم لا ينظرون وقد جاءهم الرسول ودعاهم لينظروا في كون الله وأن يعتبروا.
فإذا كانوا أولاً في غفلة فلم يروا، فلماذا لم ينتبهوا ويسمعوا سماع إذعان وانقياد عندما جاءهم البشير والنذير لينبههم؛ لذلك (فعموا وصموا) منطقية جداً هنا.
وبعد ذلك قبل الله منهم، وأنجاهم من فرعون وفلق لهم البحر، وعبروا، ولكنهم بمجرد خروجهم من البحر، ومروا على قوم يعكفون ويلزمون ويقبلون على أصنام لهم يعبدونها.
قالوا لموسى: نريد إلهاً كما لهم آلهة. وأمرهم موسى أن يتوبوا وقبل الله توبتهم. مع كثرة ما ارتكبوا من ذنوب. ومن بعد ذلك يتوب الله عليهم. {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ}.
والتوبة هي فتح مجال للنفس السوية لتنطلق في الخير من جديد، فلو لم يتب الله على من أذنب فماذا يكون موقف المذنب بلا توبة؟ إنه يتمادى ويحس أنه ذاهب في طريق الشر بلا عودة. وحين يقبل الحق توبة المذنب، فذلك معناه أنه سبحانه يريد أن يحمي المجتمع من شره.

والتوبة مراحل: الأولى: حين يشرع الله التوبة، والثانية: أن يتوب العبيد، والثالثة: هي قبول الله للتوبة. وهذا ما جاء به الحق: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} [التوبة: 118].
ماذا تعني توبة الله عليهم؟ سبحانه لن يتوب عليهم توبة القبول إلا بعد أن يتوبوا. إذن فتوبة الله عليهم الأولى هي التشريع لهم بالتوبة، ثم توبتهم، ثم قبول الحق للتوبة. لكن هؤلاء عموا وصموا، وعلى الرغم من ذلك لطف الله بهم. فماذا حدث منهم بعد ذلك؟ عموا وصموا مرة أخرى {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.
و(عموا) مأخوذة من الفعل (عمى)، ومثلها مثل (أكلوا) و(شربوا) و(حضروا)، فأين الفاعل؟ الفاعل هو (واو الجماعة). وابن مالك قعّد لهذه المسألة، فساعة تسند الفعل إلى اثنين أو إلى جماعة، فلابد أن تجرد الفعل من علامة التثنية أو الجمع، فلا تقول: (قاما زيد وعمرو) ولكن تقول: (قام زيد وعمرو)، ولا نقول: (قاموا التلاميذ) بل نقول: (قام التلاميذ)، لأن مدلول (الواو) هو مدلول (التلاميذ)؛ قال ابن مالك:
وجرد الفعل إذا ما أسندا ** لاثنين أو جمع ك (فاز الشهدا).

أي أن الفعل إذا أسند لمثنى أو مجموع وجب تجريده من العلامة التي تدل على التثنية أو على الجمع. أما كلمة كثير فتعرب إما على أنها البدل من واو الجماعة، وإما على إضمار مبتدأ أي العُمْىُ والصُّم كثير منهم، وإما على أنها فاعل ويكون ذلك قد جاء على لغة طائفة من العرب وهم بنو الحارث بن كعب، وهؤلاء قد يأتون بعلامة تدل على التثنية أو الجمع إذا أسند الفعل إلى اسم ظاهر مثنى أو مجموع مثل: قاموا الرجال وسافرا محمد وعلي.
وحمل بعضهم قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} على هذا، وكان قول الحق: {كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} صيانة للاحتمال بأن قلة منهم تدير أمر الإيمان في قلوبهم، وكلمة (كثير) جاءت حتى تنبه إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يهمل أبداً القلة التي تدير أمر الإيمان في خواطرهم. ليؤكد ويعاضد ما جاء في قوله تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}. {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} و(بصير) مثلها مثل (عليم)، أي شاهد وليس مع العين أين.

 

نداء الايمان

 

image.png.45dcd88c2e84b72205820e0f78dbbbce.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)}
هناك ثلاث آيات تتعرض لهذه المسألة: {لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ}. والآية الثانية: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73].
والآية الثالثة: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116].
إذن فالخلاف في المسألة جاء على ثلاث صور:

 

طائفة تقول: المسيح هو الله. وطائفة تقول: إن المسيح هو إله مع اثنين آخرين. وطائفة تقول: إن المسيح هو وأمه إلهان. ولكل طائفة رد. والرد يأتي من أبسط شيء نشاهده في الوجود للكائن الحي، فالإنسان- كما نعرف- سيد الكون والأدنى منه يخدمه. فالإنسان يحتاج إلى الحيوان من أجل منافعه، وكذلك يحتاج إلى النبات والجماد، هذا السيد- الإنسان- يحتاج إلى الأدنى منه. والحق سبحانه وتعالى أراد أن يرد على تأليه سيدنا عيسى وسيدتنا مريم، فقال: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} [المائدة: 75].
وهذا استدلال من أوضح الأدلة، لا للفيلسوف فحسب ولكن لكل المستويات، فماداما يأكلان الطعام فقد احتاجا إلى الأدنى منهما. والذي يحتاج إلى الأدنى منه لا يكون الأعلى ولا هو الواحد الأحد. والمتبعون لهذه الفرق الثلاثة مختلفون.

 

والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ} وكلمة {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} تستعمل على أنه واحد من ثلاثة لكنه غير معين. فكل ثلاثة يجتمعون معاً، يقال لكل واحد منهم إنه {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}. وليس هذا القول ممنوعاً إلا في حالة واحدة، أن نقول: ثالث ثلاثة آلهة؛ لأن الإله لا يتعدد. ويصح أن نقول كلمة: (ثالث اثنين) لأن الله يقول: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7].
إذن فمن الممكن أن نقول: هو رابع ثلاثة، أو خامس أربعة أو سادس خمسة. وهو الذي يصير الثلاثة به أربعة أو يصير الأربعة به خمسة أو يصير الخمسة به ستة. إننا إن أوردنا عدداً هو اسم فاعل وبعد ذلك أضفناه لما دونه، فهذا تعيين بأنه الأخير. فإن قال قائل: الله رابع ثلاث جالسين فهذا قول صحيح. لكن لو قلنا إنهم آلهة. فهذا هو المحرم، والممنوع؛ لأن الإله لا يتعدد.

 

ويلاحظ أن الحق لم يقل: ما يكون من نجوى اثنين إلاّ هو ثالثهم؛ لأن النجوى لا تكون إلا من ثلاثة، فإن جلس اثنان معاً فهما يتكلمان معاً دون نجوى؛ لأن النجوى تتطلب ألا يسمعهم أحد. والنجوى مُسَارَّةَ، وأول النجوى ثلاثة، ولذلك بدأها الحق بأول عدد تنطبق عليه. فإن قلت: (ثالث ثلاثة) فهذا قول صحيح إن لم يكونوا ثلاثة آلهة.
والحق أراد أن يدفع هذا القول بالبطلان حين قال: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام}.
والطعام مقوم للحياة ومعطٍ للطاقة في حركة الحياة؛ لأن الإنسان يريد أن يستبقي الحياة ويريد طاقة، والطعام أدنى من الإنسان لأنه في خدمته، فإذا ما كانا يأكلان الطعام فهما في حاجة للأدنى. وإن لم يأكلا فلابد من الجوع والهزال.
ولذلك فهما ليسا آلهة. بعضهم يقول: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} هي كناية عن شيء آخر هو إخراج الخبث. ونقول: ليس إخراج الخبث ضرورياً لأن الله سيطعمنا في الجنة ولا يخرج منا خبث. فهذا ليس بدليل. ويرتقي الحق مع الناس في الجدل، فاليهود قالوا في المسيح- عليه السلام- ما لا يليق بمكانته كنبي مرسل وقالوا في مريم عليها السلام ما لا يليق باصطفائها من الحق.

 

واليهود إذن خصوم المسيح. وأنصار المسيح هم الحواريون! فإذا كان لم يستطع أن يصنع من خصومه ما يضرهم ولا مع حوارييه ما ينفعهم فكيف يكون إلهاً؟ والنص القرآني يقول عن مريم: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} [آل عمران: 43].
والمسيح نفسه كان دائماً مع الله خاشعاً عابداً. والذي يعبد إنما يعبد من هو أعلى منه؛ فالإله لا يعبد ذاته. وإذا كان هذا قول من ينتسبون إلى السماء إيماناً بإله وإيماناً بمنهج، فماذا عن قول الذين لا ينتسبون إلى السماء من الملاحدة الذين ينكرون الأولوهية؟

 

إذن كان من الواجب أن يؤمن المنسوبون إلى السماء بواسطة مناهج وبواسطة أنبياء وأن يصفوا هذه المسائل فيما بينهم. وعلى سبيل المثال كان العالم موجوداً ومداراً قبل المسيح فمن إذن كان يدير العالم من قبل ميلاده؟ ولذلك أراد الحق سبحانه جل جلاله أن يحسم الموقف. والقرآن يعلمنا: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24].
 

أيمكن أن يكون المتناقضان محقين؟ لا؛ لأن أحدهما لابد أن يكون على هدى ولابد أن يكون الآخر على ضلال. ولذلك نقول: كلامكم لا يلزمنا وكلامنا لا يلزمكم. ونفوض الأمر إلى الإله الذي نؤمن به. وحتى نصفي هذه المسألة نذكر قول الحق: {نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين} [آل عمران: 61].
ونقول: اجعل لعنتك على الكاذبين. حتى تخرجنا من هذا الخلاف ولا تجعل واحداً منا يسطير على الآخر، فأنت صاحب الشأن، فها نحن أولاء بأنفسنا ونسائنا وأولادنا ندعو دعاءً واحداً: اجعل لعنة الله على الكاذبين منا. وما تلاعن قوم وابتهلوا إلا وأظهر الله المسألة في وقتها. ولم يقبل أحد من أهل الكتاب هذه المباهلة،


 

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)}
إذن فالذين لا يعلنون التوبة عن ذلك يقعون في الكفر ويعذبون

 


{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)}
فكأن هذا القول يقتضي التوبة واستغفار الحق.

 


{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)}
 

و(أفك) يعني انصرف أو صُرف، أي يصرفهم غيرهم. وهذا يعني أن هذا إيعاز من الشيطان؛ لأن المسيح عليه السلام ما هو إلا رسول مثل من سبقوه من الرسل وأمه(صدِّيقة) مصدِّقة بما جاء به، والدليل على بشريتهما أنهما يحتاجان كسائر البشر لما يَقوَّم حياتهما من طعام وشراب وكساء، والأولوهية المدّعاة منهم تتنافى مع هذا الاعتقاد وهذا هو الإفك بعينه الذي يتصادم مع العقل المجرد عن الهوى.
 


{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)}
 

العقل يستنكر أن نعبد أحداً غير الله، فغيره لا يملك أن يصنع الضر للخصوم، ولا النفع لنفسه أو لأشياعه وأنصاره بدليل أن الأعداء فعلوا ما فعلوه وما ملك عيسى عليه السلام أو الحواريون أن يضروهم ولا استطاعوا أن يفعلوا شيئاً ينفعون به أنفسه.
ويختم الحق الآية بقوله: {والله هُوَ السميع العليم}. وكلمة (السميع) تدل على قول. وكلمة (العليم) تدل على شيء يدور في الخواطر، والشيء الذي يدور في الخواطر أهو حراسة سلطة زمنية جعلتهم يقولون هذا الكلام؟ إنه سبحانه العليم بذلك. فإن كان قد حصل كلام فهو قد سمعه، وإن كانت قد دارت خواطر في النفس فهو يعلمها؛ لأن العاقل قبل أن يتكلم لابد أن يدير الكلام في النفس. وكل كلام لابد له من نزوع. وهو سبحانه السميع العليم أزلا وأبدًا.

 

نداء الايمان

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
فواصل وخطوط وصور لتزين المواضيع - منتديات عبير

 

 

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}


عندما يوجد شيء مشترك بين النصارى واليهود يحدثهم الله بقوله: {قُلْ ياأهل الكتاب} أما الشيء الخاص فهو يتحدث به لكل فئة بمفردها. والغلو هو أن يتطرف إنسان في حكم ما إيجاباً أو سلباً. وهو إما الإفراط في المنزلة العالية وإما التفريط في المنزلة الدنيا. ولذلك نجد المتناقضات دائماً في الغلو. (ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لسيدنا علي- كرم الله وجهه-: يا عليّ، يهلك فيك رجلان.. محب غال ومبغض غال) ويقول: (يا عليّ لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق).
ويقول: (يا علي ستقاتلك الفئة الباغية).
إن هناك من أحب سيدنا عليًّا إلى درجة أنهم اعتبروه نبياً وقالوا: إن الوحي أخطأ عليًّا وجاء إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أو اعتبروا عليًّا إلهاً!! وكل ذلك غلو، فقد أحبّوه إلى منزلة فيها غلو وإفراط.
أما الخوارج فقد قالوا عن سيدنا علي: إنه كافر. جاء الغلو- إذن- من ناحية المحبين فجعلوه نبياً أو فوق ذلك مما يدخلهم في الشرك، أو من المبغضين القائلين بتكفيره وإخراجه من دائرة الدين، ولذلك يجب ألاّ نغلو في الدين فلا نحب إنساناً ونرفعه فوق مستوى البشر، ولا نبغض إنساناً وننزل به إلى الحضيض. بل يجب أن نعطي كل واحد قدره ومقداره الذي وضعه الله فيه؛ لأن وضع الله له هو تكريمه: {قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 77].
وجاء مثل هذا القول في آية أخرى: {ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} [النساء: 171].

 

وحتى نفهم أن مسألة الغلو إنما جاءت في ادعاءات ألوهية البشر؛ قال الحق بعد ذلك: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171].
فلا داعي للغلو بنسب الأولوهية له أو أنه ثالث ثلاثة. فإن كنتم متشككين ووصلتم إلى هذا الشك بسبب عدم عنصر الذكورة في مجيء عيسى، فافهموا أن كل الأشياء جاءت ب (كن)؛ لأنه وإن وجُدت مقدمات للإنسان، فَرَقَّ هذه المسألة إلى واحد لم يأت من إنسال، وستصل إلى آدم وآدم من تراب؛ إذن كل الكون كلمة. وإن وجدت أسباباً فما طمره الله في الكلمة الأولى، فحين يجيء إنسان أُنشئ بكلمة فلا تقولن: إن هذا شيء عجيب؛ لأن الكون كله إنما نشأ بكلمة: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].

 

وإن كانت الفتنة قد نشأت في ظاهر الأمر من أن المسيح ليس له أب في عالم الإنسال وقانون التناسل، فما كان يجب أن تكون الشبهة في هذا؛ لأنه مخلوق من أم، وآدم مخلوق بلا أب ولا أم.
وكان يجب أن تكون الفتنة في آدم أكبر. والكلمة من الله تنشئ حياة. والحياة إدخال روح في مادة لتهبها الحركة والحس ومقومات الحياة. إذن فالكلمة تقال من الله فتأتي الروح لتدخل في المادة: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}. {وَرُوحٌ مِّنْهُ} مثلها مثلما قال في آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29].
إذن فآدم كلمة، وآدم روح منه، وكذلك المسيح، فلا شبهة هنا ولا شبهة هناك. ويطلب الحق من المنسوبين إلى السماء: {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ}. فإذا كنتم منسوبين إلى السماء فلا تذبذبوا أفكار الناس بمثل هذه المسائل، وكان يجب أن تقفوا بعيسى عندما أراد الله له من التكريم؛ لأن التكريم هو أن يكون أسوة حسنة، فلو كان من جنس آخر غير البشر لا متنعت الأسوة فيه؛ لأن الأسوة إنما تكون من جنس من يتبعها، فلو رأه الناس خاشعاً متعبداً لما استطاعوا أن يفعلوا مثله لو كان من مادة أخرى غير مادة البشر.

 

وقلت مرة: لو أن إنساناً رأى أسداً يفترس في الغابة ويصول ويجول على الحيوانات، أيفكر واحد من الرائين أن يجعل نفسه أسداً؟. لا. لكن لو رأى فارساً مثله شجاعاً في حرب يصول ويجول في الأعداء فهو يقلده ويحاول أن يكون مثله. إذن فالأسوة لا تكون إلا مع وحدة الجنس، فلو أنه لم يكن من جنس البشر لما صلح أن يكون رسولاً.
 

{قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق} لقد جاء الحق هنا بالحديث شاملاً لكل أهل الكتاب؛ لأن كلا منهما جاء بطرفي الأمور. فاليهود اتهموا سيدتنا البتول المصطفاة مريم بما ليس فيها، وأولئك جاءوا بالمغالاة في الجهة الأخرى؛ لذلك يأمرهما الحق بعدم المغالاة؛ لأن الحق لا يتعاند؛ فهو شيء ثابت لا يتغير أبداً ولا يتعارض. والإنسان إن رأى حدثاً من الأحداث بعينيه ثم طُلب منه أن يحكيه فهو يحكيه الآن ويحكيه غداً ويحكيه بعد عام وتظل روايته واقعاً لأنه شهده وهذا هو الواقع المشهود يفرض نفسه عليه، لكن الكاذب لا يذكر ذلك، وقد يقول قضية ويكون فيها كاذبا فلابد أن يغير من الحقيقة عندما يحكيها لمرة ثانية. ولذلك يقال (إن كنت كذوباً فكن ذكوراً).
 

إن الذي يحكم الحق هو واقعة؛ لأن المتكلم به يستقرئ واقعاً. لكن الكاذب لا يستقرئ واقعاً فلا يعلم ماذا كذب في المرة الأولى. ونذكر الكاذب الذي جلس يقول: مرة كنا سائرين وخرجنا من القرية ذاهبين إلى المدينة لنأتي بحاجات عيد الفطر. وكانت الدنيا قمراً كالظهر وقوله: (قمراً كالظهر) هي التي تكشف كذبه، فكيف يكون في ليلة العيد قمرٌ، وأول ليلة في عيد الفطر هي أول ليلة في شوّال، وليس فيها أي قمر، الهلال يكاد يكون مخفياً.
 

إذن فالذي يستوحي واقعاً لا يتغير كلامه لأنه حق. والذي يستوحي غير الواقع لا يذكر ماذا قال فيخلط. لذلك لا يقولن إنسان غير الحق لأن قوله سيتضارب. وإذا تضارب هذا القول في مسألة الألوهية فإن الناس قد تشك في منهج السماء الذي يتبعونه. وإذا شك الناس في منهج السماء فسيكون عليكم وزر إضلال الناس؛ لأن الذي يتعرض لهذه القضية يجب ألا يجرب الناس عليه أي شيء من المخالفة. ولذلك قال سيدنا إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} [الممتحنة: 5].
لماذا قال سيدنا إبراهيم هذا الدعاء؟؛ لأنه إن قال شيئاً ثم عمل بما يناقضه فقد يتصور من يراه أنه- والعياذ بالله- كذاب.
{قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل} ويا ليتهم ضلوا فقط في ذواتهم بل هم يحاولون إضلال غيرهم. لذلك قال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109].

 

وسبحانه يوضح لهم: لا تفعلوا ذلك حتى لا تضلوا؛ لأن وزرك أن تعمل، وهناك وزر آخر هو أن تُضلِّل غيرك. ولذلك يقول الحق: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25].
قال الحق ذلك مع أنه قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. حتى نفهم الأمر علينا أن نعرف أن الوزر الأول هو وزر الضلال؛ والثاني هو وزر الإضلال.
{وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ} أي لا تقلدوا أناساً اتبعوا الهوى. والهوى هو لُطف موقع الشيء وقربه إلى النفس فيصنعه الإنسان على طريقة لا تنبغي. ولذلك كل كلمة (هوى) في القرآن جاءت في مجال الخسران والضلال. وعندما نقرأ قوله الحق: {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله}.
وهو القائل سبحانه: {واتبع هَوَاهُ فتردى}.
وقد جاء الهوى في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».
أي المطلوب أن يطوِّع الإنسان هواه لمطلوب الله. وما دام قدْ طوِّع هواه لمطلوب الله، فهذا يعني أن هواه الشخصي قد امتنع. {وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل}. إن هذا هو النهي عن اتباع الهوى الذي يضل ويكون سبباً في الإضلال عن سواء السبيل.

 

تحفة نادرة لديكورات الداخلية بطابع جمال الطاووس | منتديات نسوة

 

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)}

الحق سبحانه وتعالى يعطي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة تصبره على ما يلاقيه من خصومه من أهل الكتاب، وكأنه يقول له: إن هذا الأمر ليس بدعاً وليس عجيباً؛ لأن تاريخ أهل الكتاب الطويل يؤيد هذا، فها هوذا موقفهم من نبي الله داود، وكذلك موقفهم من عيسى ابن مريم عليه السلام. وهذا يجعل لك أسوة بهؤلاء الرسل الذين نالهم من أذى هؤلاء. فالمسألة ليست خاصة بك وحدك، وإنما هي طبيعة فيهم، ويبسط سبحانه في التسرية عن رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يجعل موقفه موقف الصلابة الإيمانية التي لا تخاف ولا تهتز. فينسب هذه الأشياء لنفسه فيقول: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].

فمرة قالوا عن الرسول: إنه مجنون، ومرة أخرى قالوا: (ساحر) وثالثة قالوا: (كذاب). وهم يعرفون كذبهم، فهم على الرغم من اتهامهم للرسول بالكذب والجنون والسحر إلا أنهم لا يأمنون أحداً على مصالحهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الأمين دائماً. وكان لهم أن يتعجبوا من موقفهم هذا، ومن صدهم عن دين الله بالكفر، وعلى الرغم من ذلك فعندما يكون هناك شيء ثمين ونفيس فلا يُؤمَن عليه إلا محمد بن عبدالله.
ما هذا الأمر العجيب إذن!!

 

لقد عرفوا صدق النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة رسالته- ما في ذلك ريب- ولكن لأن لهم أهواء أصرّوا على الضلال تمسكاً بالسلطة الزمنية. هم يعرفون أن محمداً هو الأمين. ولذلك نرى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع عليّاً- كرم الله وجهه- ويتركه في مكة ليؤدي الأمانات التي كانت عنده لهؤلاء جميعاً.
إذن {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ}. أي أنك يا رسول الله عندهم الصادق. أنت عندهم يا رسول الله الأمين. أنت عندهم يا رسول الله في منتهى السمو الخلقي. ولو لم تقل أنك رسول من الله لكانوا قد رفعوك إلى أعلى المنازل. ولكنك ببلاغك عن الله زلزلت سلطتهم الزمنية.

 

ولقد حاولوا أن يثنوك عن الرسالة، فعرضوا عليك الملك، وعرضوا عليك الثراء، ولو كنت تقصد شيئاً من ذلك لحققوا لك ما تريد. ولكنك تختار البلاغ الأمين عن الله.
لقد عرضوا عليك الملك طواعية. وعرضوا عليك الثروة. وزينوا لك أمر السيادة فيهم شريطة أن تتخلى عن الرسالة. لكنك تختار السبيل الواضح الذي لا لبس فيه على الرغم مما فيه من متاعب، تختار السبيل الذي يكلفك أمنك وأمن من يتبعك. إنك تتبع ما أنزل إليك من ربك.
ومن بعد ذلك جاءوا ليحاصروك في الشِّعب ليمارسوا معك الحصار الاقتصادي بتجويعك وتجويع من معك.

 

ومع هذا كله ما تنازلت عن البلاغ. وكان يجب أن يفطنوا إلى أنك لا تطلب لنفسك شيئاً، لا المال ولا الجاه بل أنت رسول من الله لا تأكل من صدقة أحد، لا أنت ولا أهلك. وكان يجب أن يتساءلوا: لماذا تدخل بنفسك إلى هذه الحرب الضارية؛ فلا أنت طالب جاه ولا أنت طالب مال، ولا أنت طالب لمتعة من تلك المتع. وكان يجب أن يأخذوا العبرة، فهم يعرضون عليه كل هذه الأشياء. وهو يرفضها؛ لأنه خاتم الأنبياء؛ لذلك يتمثل فيه خير كل من سبقه من الأنبياء. يتمثل فيه على سبيل المثال ما قاله سليمان لوفد بلقيس ملكة سبأ: {فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36].
إذن كان يجب على الناس أن يفطنوا إلى أن النبوة حينما تأتي إنما تأتي لتلفت الناس إلى السماء وإلى منهجها ولتنتظم حركة حياتها في الكون، وأن المنتفع أولاً وأخيراً بالمنهج هم أنفسهم؛ لأنهم هم الذين يشقون بمخالفتهم منهج الله.

 

وليجرد كل إنسان نفسه من كل شيء ولينظر إلى المنهج ولسوف يجد أنه في صالحه. فها هوذا سليمان الذي دانت له الدنيا وأُعْطِيَ ملكاً لم يعطه الله لأحد من بعده فسخر الله له الريح وسخر له الجن يفعلون له ما يشاء. وكان سليمان يعطي الدقيق النقي للعبيد ليستمتعوا بالطيبات، ويأكل هو ما تبقى من نخالة الدقيق، وكان ذلك دليلاً من الله أن هذه المناهج ليست لصالح نبي، ولكن كل نبي إنما يريد بالمنهج صالحَ من أُرسل إليهم.
وكانت مقاومة أهل الكتاب لنبي الله داود، وكيف أنهم اعتدوا في يوم السبت فدعا عليهم داود عليه السلام فمسخهم الحق قردة، ولعنهم في الزبور، وكذلك قالوا الإفك في مريم البتول ولعنهم الله في الإنجيل، ولم يكن اللعن إلا بناءً على ما فعلوا؛ لذلك يذيل الحق الآية بالقول: {ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}.

 

والعصيان- كما نعلم- هو العصيان في ذات الإنسان وفي أموره الخاصة التي لا تتعدى إلى الغير، أما الاعتداء فهو أيضاً معصية ولكنها متعدية إلى الغير. مثال ذلك: الحاقد إنما يعاقب نفسه، أما السارق أو المرتشي فهو يضر بغيره. إذن فهناك معصية وهناك عدوان، المعصية تعود على صاحبها دون أن تتعدى إلى الغير، أما العدوان فهو أخذ حق من الغير للنفس، وضرر يرتكبه الفرد فينتقل أثرة إلى الغير.

تحفة نادرة لديكورات الداخلية بطابع جمال الطاووس | منتديات نسوة



 

{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)}
ونعلم أن حراسة منهج الله تعطي الإنسان السلامة في حركة الحياة على الأرض. وقد جعل الحق سبحانه في النفس البشرية مناعة ذاتية، فساعة توجد في الإنسان شهوة على أي لون سواء في الجنس أو في المال أو في الجاه. فقد يحاول الوصول إليها بأي طريق، ولا يمنعه من ذلك إلا الضمير الذي يفرض عليه أن يسير في الطريق الصحيح. هذا الضمير هو خميرة الإيمان، وهو الذي يلوم الإنسان إن أقدم على معصية، هذا إن كان من أصحاب الدين.
ولنا أن ندقق في هذا القول القرآني لأنه يحمل الوصف الدقيق للنفس البشرية في حالتها المتقلبة، فها هوذا قابيل يتحدث عنه القرآن: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30].
ومن بعد ذلك، قتل قابيل هابيل، ثم هدأت النفس من سعار الغضب وسعار الحقد، وانتقل قابيل إلى ما يقول عنه القرآن: {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} [المائدة: 30].
فبعد أن غواه غضبه إلى أن قَتَل أخاه وسلبه الحياة. يبعث الله له غراباً ليريه كيف يواري سوأة أخيه؛ لأنه لم يكن يعرف كيف يواري جثمان أخيه. وانتقل بالندم من مرحلة أنه لم يرع حق أخيه في الحياة فأراد أن يرعى حق مماته،

 

إذن فالنفس البشرية وإن كانت لها شهوات إلا أن لها اعتدالا مزاجيا يتدخل بالندم عندما يرتكب الإنسان إثماً أو معصية. ولذلك تجد كثيراً من الناس تعاني من متاعب لأنهم ارتكبوا معاصي، لكنهم يريدون الاعتراف بها لأي إنسان وأي إنسان يتلقى الاعتراف ليست لديه القدرة على تدارك آثار تلك المتاعب؛ لأنها وقعت وانتهى الأمر.
 

لكن لماذا يريد الإنسان أن يعترف لأخر بمعصية؟. إنه اعتراف للتنفيس؛ لأن كل حركة في النفس البشرية ينتج عنها تأثير في النزوع، فعندما يغضبك أحد فأنت تنزع إلى الانتقام، ولهذا يأمرك الشرع حين يغضبك أحد أن تغير من وضعك وقل: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}. حتى تصرف الطاقة السعارية عندك، فإن أغضبك أحد وأنت قائم فاقعد، وإن كنت قاعدا فاضطجع، وأن كنت ثابتاً في مكان فلتسر بضع خطوات. والشرع حين يطلب منك أن تتحرك لحظة الغضب فذلك ليزيل من جسدك بعض الطاقة الفائضة الزائدة التي تسبب لك الغليان فتقل حدّة الغضب.
 

ولذلك فالشاعر العربي ينصح كل مستمع للشكوى ألا يرد السماع بل يصغي لصاحب الشكوى؛ لذلك يقول:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ** يواسيك أو يسليك أو يتوجع


وحينما تظهر المشاركة لصاحب الشكوى فأنت تريحه، وتهديه إلى الاطمئنان. وينصح الشاعر صاحب الشكوى أن يضعها عند ذي المروءة؛ لأن ذا المروءة إنما يعطيك أذنه ومشاعره وهو جدير أن تستأمنه على السّر، وكأن الأسرار في خِزانة لن يعرف أحد ما بداخلها، وبمثل هذا الاعتراف يريح الإنسان نفسه، ويصرف انفعاله إلى شيء آخر.
وعندما تكرر النفس البشرية فعل السوء ولا تجد من ينهها أو ينهاها، فالسوء يعم وينتشر، هنا تتدخل السماء بإرسال رسول.

 

ويوضح الحق أن السبب في إرسال رسول لهؤلاء الناس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، والتناهي عن المنكر إنما يكون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا يظنن المؤمن أنه بمنجاة عن خاطر السوء في نفسه لأن كلاً منا بشر. وعرضة للأغيار، ومن لطف الله لحظة أن يهب خاطر السوء على مؤمن أن يجد أخاً خالياً من خواطر السوء فيواصيه بالحق ويواصيه بالصبر؛ لأن الفرد إن جاءه سعار الشهوة في اللحظة التي يجيء فيه السعار نفسه عند صديق له فقد يتفقان على المنكر، أما إن جاء سعار الشهوة لإنسان وكان صديقه مؤمناً خالياً من خواطر السوء، فهو ينهاه ويوصيه بالحق والصبر. وهكذا. يتبادل المؤمنون التناهي بالتواصي؛ فمرة يكون الإنسان ناهياً، ومرة أخرى يكون الإنسان منهياً.
 

وكذلك أعطى الله هذه المسألة كلمة التواصي: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1-3].
ولم يخصص الحق قوماً ليكونوا الناهين، وقوماً آخرين ليكونوا المنهيين، لا، بل كل واحد منا عرضة أن يكون ناهياً إن اتجهت خواطر صاحبه إلى الحرام، وعرضة أيضاً لأن يكون منهياً إن كانت نفسه تتجه إلى الحرام، وبذلك نتبادل النهي والتناهي، ويسمون ذلك (المفاعلة) مثلما نقول: (شارك زيد عمرا)، ولا يشارك الإنسان نفسه إنما يشارك غيره، ومعنى هذا أن هناك شخصا قد كان فاعلا مرة، ومرة أخرى يكون مفعولاً، وكيف تكون صيغة التفاعل هذه؟. إنها مثل (تشارك) و(تضارب) أي أن يأتي الفعل من اثنين. ومن السهل إذن أن ينهي إنسان صديقاً له أو ينهاه صديق له. وقد نفسرها على أن الجميع ينهى نفسه بفعل القوة الخفية الفطرية التي توجد في كل نفس، أي أن كل نفس تنهى نفسها. إذن فالتفاعل إما أن يكون في النفس وإما أن يكون في المجتمع.

 

{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} ولننتبه هنا إلى أنهم قد فعلوا المنكر بالفعل، فكيف يكون التناهي عن المنكر؟. يمكن أن نفهم العبارة على أساس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله، أي أن الإنسان منهم كان يرى زميلاً له يتهيأ لارتكاب منكر فلا ينهاه. ومثلها في ذلك قوله الحق: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6].
وهذا القول لا يعني أبداً أن يتوضأ الإنسان بعد أن يدخل في الصلاة. إنما يعني أن نبدأ الوضوء لحظة الاستعداد للصلاة، يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأداءها.
وقوله الحق: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} يجعلنا في حالة انتباه وفراسة إيمانية ويقظة.

 

ويلتفت كل منا إلى نفسه ويرقبها ويراقبها، وإلى أي اتجاه تسير، فلا يترك الإنسان نفسه تتجه إلى أي مكان موبوء أو فعل غير مستقيم. وكذلك ينتبه الإنسان إلى أصدقائه وأخلائه حتى نتناهى عن أي منكر فلا نقع أبداً في دائرة هذا الحكم {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} وساعة نسمع (لبئس) فلنعرف أن اللام إذا سبقت فهي للقسم، وحين يقسم الله فهذا تأكيد للقضية، فهل هذا تأكيد على طريقتنا نحن البشر؟. لا. فليس أحد منا كالله، ونحن في حياتنا نعرف الأدلة على الحق، إما إقرار، وإما شهادة، وإما قسم.
 

والقاضي لا يحكم إلا بإقرار المتهم أو بشهادة الشهود، أو باليمين، وحين يأتي الحق بالحكم فهو يأتي به على معرفة الخلق. وعدم التناهي عن المنكر هو فعل وقول معا. وبما أن الحق لم يقل: لبئس ما كانوا يقولون، ذلك أن القول مقابل للفعل، وكلاهما أيضاً عمل، فالقول عمل جارحة اللسان، والفعل هو عمل الجوارح كلها، ويجمع القول والفعل وصف (العمل). ونلحظ أن المسألة لا تقتصر على القول، إنما هي عمل قد نتج عن فعل.
ولنر الحديث النبوي القائل:
(من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده وإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان).
وقوله الحق: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} دليل على أنهم كانوا يفعلون المنكر والقبيح قولاً وعملاً.

تحفة نادرة لديكورات الداخلية بطابع جمال الطاووس | منتديات نسوة

 

{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)}

ونلاحظ الفارق بين أن يخبر الحق رسوله بأمور حدثت من قبل مثل قوله الحق: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 78].
وبين الواقع الذي يجري في زمن رسول الله؛ فالخبر الأول هو خبر عن أمر صدر منهم مع من سبق من الرسل. لكن هناك أشياء يا رسول الله أنت تراها بنفسك، وهذا دليل على أن كفرهم لم يكن نزوة وانتهت، لا، بل كفرهم أصبح ملكة فيهم انطبعت عليها نفوسهم، كيف؟ نعلم أن الإسلام حينما جاء واجه معسكرات شتّى، وهذه المعسكرات كانت تفسد حركة الإنسان في الحياة، والحق سبحانه وتعالى خلق الكون مسخّراً للإنسان ويريد أن يظل الإنسان حارساً لصلاح الكون أو أن يزيد صلاح الكون وألا يسمح بتسرب الفاسد إلى الصالح.

 

إن هذا هو مراد الحق من وجود منهج للإنسان. وهدف المنهج أن يحمي حركة الحياة كلها من الفساد وأن يزيد صلاحية الكون، فعملنا في الكون دائماً لصالحنا؛ ولا يوجد عمل يفعله مخلوق يأتي للحق سبحانه وتعالى بصفة زائدة على كمالاته- سبحانه-؛ لأن الحق له كمال الصفات، وهو الذي خلقنا وأوجدنا وأمدنا، وتكليفنا منه لم يزده سبحانه شيئا، فهو سبحانه مستغن بذاته عن جميع خلقه.
 

جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذن- ليحارب معسكرات هي معسكر أهل الشرك في مكة، ومعسكر أهل الكتاب، وكان المفترض في أهل الكتاب أن لهم صلة بالسماء ولهم إلف بمناهج الرسل. وبعجزات الرسل وعندهم البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم، ومعكسر المنافقين الذين ظهروا بعد أن قويت شوكة الإسلام، فأعلنوا الدخول في الإسلام وهم لم يؤمنوا بل أضمروا الكفر.
وعندما نتوقف عند معكسر أهل الكتاب، كان من الطبيعي أن ينتظر منهم رسول الله أن يؤمنوا لأنه جاء بالمنهج الذي يقوي من صلة السماء بالأرض، لو كانوا صادقين وحريصين على تلك الصلة. وخصوصاً أنهم كثيراً ما تباهوا بمقدم النبي قبل أن تأتي الرسالة. وكانوا يقولون للأوس والخزرج: لقد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا، يأتي سنتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.

وفي ذلك جاء قول الحق: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89].
وقالت لهم كتبهم: إن النبي إنما يأتي في أرض ذات نخيل، وهذا ينطبق على مكان مبعثه صلى الله عليه وسلم. إذن فقد عرفوا المكان، وعرفوا الصفات، وعرفوا الجبهات التي سيحارب فيها لأنه سبق لأنبيائهم أن حاربوا فيها. وعندما جاء محمد رسولاً من عند الله اهتزت سلطتهم الزمنية، وأرادوا أن يستبقوها بتحريفهم منهج السماء. وجاء محمد صلى الله عليه وسلم بالمنهج الرباني ليعيد حركة الكون إلى الإيمان.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بينما كانوا ينسجون الإكليل كتاج لملك ينصبونه.

 

هكذا أوقف رسول الله سلطتهم الزمنية ولم يعد لهم الجاه، ووحّد الأوس والخزرج، وكان اليهود يعيشون على الشقاق بينهما، ببيع الأسلحة والإقراض بالربا. ومع مجيء محمد صلى الله عليه وسلم تهدم بنيان سلطتهم؛ لذلك حاولوا أن يشجعوا خصوم رسول الله وهو ما زال في مكة ليهزموا الدين الجديد حتى لا يزحف الدين إلى المدينة ويهدر سلطانهم: وفي ذلك جاء القول الحق: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].
والثمن القليل هو الأبهة والرئاسة وسدة الحكم. وها هوذا كعب بن الأشرف كبير يهود وله ثراء ولسان، يخرج إلى قريش ليناقشهم في ضرورة وأد الدين الجديد والقضاء عليه. فقالت له قريش: إنك من أهل الكتاب. ولك صلة بالسماء.
فيقول لهم: إنكم أهدى من محمد سبيلا!! كيف يصير المشركون عبدة الأصنام أهدى من محمد سبيلا؟.
وهكذا نرى قوله الحق: {ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ}. لقد تحالفوا مع معكسر الشرك الذي كان بينهم وبينه خصومة حتى لا تتسرب السلطة من أيديهم. وتعاونوا مع الذين أشركوا لإيقاف زحف الدين الجديد.

 

{ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80].
ويتولونهم أي ينصرونهم ويعينونهم ويدعون أنهم على حق، وكأن الدين الجديد على باطل. ويقسم الحق هنا أنه بئس ما زينت لهم النفس الأمارة بالسوء، لأنهم افتقدوا النفس اللوامة، وغلبت عليهم النفس الأمارة بالسوء.
وتتابع الآية:
(أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) وينشأ عن السخط الابتعاد عن طريق الهداية. والبعد عن طريق الهداية يقود إلى العذاب الخالد. كأن الحق يوضح لهم: على فرض أنكم أخذتم متاعاً قليلاً في الحياة، ولكنكم أتيتم لأنفسكم بمتاعب أزلية تنتظركم في الآخرة


تحفة نادرة لديكورات الداخلية بطابع جمال الطاووس | منتديات نسوة

 

{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}

فلو كان عندهم إيمان بالله حقيقة وبالمنهج المنزل من الله، ما اتخذوا أهل الشرك أولياء، ولكن كثرة هؤلاء أهل فسق. ونلحظ أن الكثير فاسق، وهذا يعني أن القليل غير فاسق.

 


نداء الايمان

فواصل للمواضيع - الصفحة 5 - شبكة روايتي الثقافية

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)}


الحق سبحانه وتعالى يُقْسم لرسوله صلى الله عليه وسلم أن واقع الحياة مع فرقتين كاليهود والنصارى سيتجلى واضحاً على الرغم من أن كل جانب منهما مخالف لرسول الله في ناحية، فمواجيد هؤلاء الناس وأهواؤهم مختلفة ولكنهم اتفقوا جميعاً في الهدف.
فاليهود أشد عداوة لأنهم أخذوا سلطة زمنية جعلتهم السادة في المنطقة، أما النصارى فلم تكن لهم سيادة ولا سلطة زمنية وكانوا عاكفين في صوامعهم وبيعهم يعبدون الله. والجانب الذي ليس له سلطة زمنية لا يعادي من جاء ليسحب من أهل الجور سلطتهم الزمنية ويقيم العدل بين الناس. فما العلّة في ذلك؟

 

يقول الحق: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً}. و(القسيسون) جمع قَس وهو المتفرغ للعلم الرباني. و(الرهبان) هم الذين تفرغوا للعبادة. فكأن القسيس مهمته أن يعلم العلم. والراهب مهمته أن ينفذ مطلوب العلم ويترهبن.
 

إننا نجد هنا أن الحق سبحانه وتعالى قد امتن بشيئين وبذلك جعلهم أقرب مودة للذين آمنوا، امتن سبحانه بأن منهم قسيسين يحافظون على علم الكتاب، وامتن بأن منهم رهباناً ينفذون مدلول المطلوب من العلم، وبذلك صاروا أقرب مودة للذين آمنوا إن ظلوا على هذا الوضع؛ لأن العلّة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً. وما دام قد عللها سبحانه بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون فذلك لأنهم لا يتطاولون إلى رئاسة وليس لهم تكبر أو ترفع؛ لأن طبيعة دينهم تعطيهم طاقة روحية كبرى حتى إنهم يقولون: (من ضرب على خدّك الأيمن فادر له خدّك الأيسر). وهذا يعطيهم شحنة إيمانية نراها ناضحة عليهم.
 

{ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} وقد جاء واقع الكون مؤيداً لهذا، فمواقف اليهود من رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفة حتى إنهم نزلت بهم الخسّة وتمكن منهم الحقد ودفعهم الغدر أن أرادوا أن يقلوا عليه حجراً ليقتلوه وحاولوا دسّ السّم له.
وحين تجد إنساناً لا يجد طريقا إلى الخلاص من خصمه إلا بأن يقتله، فيمكنك أن تواجهه قائلاً: أنت لا تملك شجاعة تواجهه بها في حياته، ولو كنت تملك تلك الشجاعة ما فكرت في أن تقتله. وهذا دليل على أنه أضعف منه وليس أشجع منه، فلو كان قوياً لكان عليه أن يواجه هذا الخصم مواجهة في حركة حياته ولا يفكر في قتله؛ لأن الضعيف هو من يرى أن حياة الخصم ترهقه.
لقد كان اليهود أهلاً لهذا الضعف في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونعلم أنه صلى الله عليه وسلم حينما جهر بدعوته اتبعه بعض الناس، ولكن هؤلاء المؤمنين الأوائل عانوا من اضطهاد أهلهم وذويهم.
حتى إن البيت الواحد انقسم. مثال ذلك تجد أن أم حبيبة السيدة رملة وهي بنت أبي سفيان تؤمن بينما والدها شيخ الكفرة آنذاك، وتذهب أم حبيبة مع زوجها إلى الحبشة ويحرص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الخلايا الإيمانية لأنه يعلم أنها ستفرخ الإيمان بعد ذلك. وبتلك الهجرة إلى الحبشة أراد صلى الله عليه وسلم أن يحمي بذور الإيمان لتكون هي مركز انتشار الإيمان من بعد ذلك؛ لأنهم سوف يؤدون مهمة إيمانية، والشجاعة- كما نعلم- تقتضي الحرص. وشاعرنا أحمد شوقي- رحمه الله- قال في إحدى مقطوعاته النثرية التي سمّاها (أسواق الذهب): ربما تقتضيك الشجاعة، أن تجبن ساعة؟
وهذه الشجاعة لا تكون على العدو فقط ولكنها تكون شجاعة في مواجهة النفس، مثال ذلك: لو أن جماعة من الأقوياء كانوا جالسين معاً في جلسة سمر، ثم دخل عليهم صعلوك يحمل مسدساً، وقام بتوجيه السباب لكل منهم، هنا يتحايل عليه هؤلاء إلى أن يتمكنوا منه ليعاقبوه.

 

إذن فالشجاعة تقتضي أن يجبن الإنسان لحظة إلى أن يتمكن من الخصم. وهذه هي الكياسة والحيلة، فالإيمان ليس انتحاراً، بل يقتضي الإيمان ألا يدخل المؤمن معركة إلا وعنده حسبان في الكسب. وها هوذا حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يسمي خالد بن الوليد (سيف الله المسلول) في معركة لم ينتصر فيها خالد، ولكنه انتصر انتصاراً سلبياً بأن عرف كيف يسحب الجيش، فالأَمرُ بسحب الجيش يحتاج إلى قوة أكثر مما يحتاج إليه النصر. فالمنتصر تكون الريح معه. أما المهزوم فتكون الريح ضده.
ونجد القرآن الكريم يقول: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} [الأنفال: 16].
إذن فالمناورة والكيد من المهارة القتالية لأنها تتيح من بعد ذلك القدرة على مواجهة العدو.

 

وينير النور الإلهي بصيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستعرض الأرض كلها حتى يختار مكاناً آمنا يذهب إليه هؤلاء المؤمنون، فيختار الحبشة. لم يشأ صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالذهاب إلى أي قبيلة من القبائل، لأنه يعلم أن كل قبائل الجزيرة تخشى قريشاً، فموسم الحج جامع للقبائل تحت سيادة قريش. ومن يقف ضد إرادة قريش فسيتعرض للمتاعب، وعلى ذلك لن يأمن رسول الله على خلايا الإيمان أن يذهبوا إلى أي قبيلة. واستقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرض كلها، واختار الحبشة؟ لماذا؟
ها هي ذي كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم باقية إلى زماننا: (إن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد فأقيموا ببلاده حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم به).
وفي حديث الزهري: لما كثر المسلمون، وظهر تعذيب الكفار- قال عليه الصلاة والسلام: (تفرقوا في أرض الله فإن الله سيجمعكم، قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: إلى ها هنا وأشار بيده إلى أرض الحبشة).
وتسللوا في جنح الليل إلى الطريق متجهين إلى الحبشة. وعندما علمت قريش بالخبر حاولت أن تقطع عليهم الطريق لتعيدهم إلى مكة لتواصل الحملة عليهم والتنكيل بهم لصدهم عن الإسلام. ولكن الحق أراد أمراً مختلفاً وكان الطريق سهلاً، ووصلوا إلى الحبشة، وأنجاهم الله من كيد الكافرين.

 

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك- بما علمه له ربه- الخبرة الكاملة بالرقعة الأرضية ويعرف من يظلم من الحكام ومن لا يظلم. وصدق رسول الله في فراسته الإيمانية، فحينما ذهب المؤمنون المهاجرون إلى الحبشة وجدوا أنهم دخلوا دار أمن، أمنوا فيها على دينهم. وجن جنون قريش وأرادوا استرداد هؤلاء القوم من النجاشي ملك الحبشة فأرسلوا صناديدهم ومعهم الهدايا والتحف لملك الحبشة.
 

سافر عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة، وعمارة بن الوليد بن المغيرة. وطلب وفد قريش من النجاشي أن يسلمهم هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة، وحاولوا الدس للمهاجرين عند النجاشي، فاتهموا المسلمين المهاجرين أنهم قوم تركوا دين الآباء واعتنقوا ديناً جديداً يعادي الأديان كلها. ويقولون في عيسى بن مريم قولاً لا يليق به أو بأمه. ورفض النجاشي أن يصدق حرفاً واحداً، وطلب أن يسمع من هؤلاء المهاجرين. فتقدم جعفر بن أبي طالب وقال: (أيها الملك كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقدف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله وحده لا نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان وترك عبادة الله تعالى وأن نستحل ما كنا عليه من الخبائث، فلما قهرونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، وآثرناك على من سواك، ورجونا ألا نظلم عندك).
وثبت للنجاشي أن المسيح بشهادة القرآن نبي نقي طاهر العرض. وهكذا لم يستمع إلى وشاية وفد قريش. وامتلأ قلب النجاشي بالإيمان ولم يستكبر مع أنه ملك ووقف أمام محاولات قريش للنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وعندما سمع ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سورة مريم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
وعرف رسول الله أن الإيمان قد خامر قلب النجاشي، بدليل أن أم حبيبة بنت أبي سفيان عندما هاجرت مع زوجها إلى الحبشة وتنصر الزوج لكنها بقيت على دينها على الرغم من أنّها كانت تحبه خالص الحب، وهنا انفصلت أم حبيبة عن زوجها وذلك حتى يثبت الحق أن- هجرتها- كانت لله.

 

وأراد الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكرمها وأن يكرم النجاشي على موقفه من عدم تسليم المؤمنين إلى وفد قريش وموقفه من أنه شهد للإسلام بأنه يخرج من نفس المشكاة التي خرج منها إنجيل عيسى عليه السلام، لذلك يجعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم ولي نكاحه لأم حبيبة؛ لأنه مأمون على ما عَرَف من الإنجيل، ومأمون على ما سمع من القرآن في مريم، ومأمون على أنه لم يسلم المهاجرين؛ لذلك اختاره وكيلاً عنه في زواجه من أم حبيبة بعد أن تنصر زوجها، وتلك حادثة واحدة أضاءت أكثر من موقف: موقف أم حبيبة التي أثبتت أنها لم تذهب إلى الهجرة تبعاً لزوجها، فلو تبعت زوجها لتنصرّت كما تنصر. وأضاءت أن رسول الله كان لا ينطق عن الهوى حين قال مسبقاً عن النجاشي: إنه لا يظلم عنده أحد. وعندما يبلغ الرسول نبأ وفاة النجاشي فهو صلى الله عليه وسلم يصلي عليه صلاة الغائب.
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].

 

وهذا امتنان من الله بأن جعل منهم القسيسين الذي يعلمون وهذا تكريم للعلم والرهبان الذين ينفذون منطوقات العلم. إذن فلنعلم أننا يجب أن نفرق بين العَالِم الذي قد يُكتفى بأخذ العلم عنه إن لم يكن يعمل به، وأن نحترم الذين يعبدون الله تطبيقاً للعلم بالله ونترك هؤلاء الذين لا يعملون بعلمهم لينالوا جزاءهم، ولكن علينا أن نأخذ بعلمهم ونعمل به.
فخذ بعلمي ولا تركن إلى عملي ** واجنِ الثمار وخلِّ العود للنار

 

ونجد أن قوله الحق: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} حيثية تجعلهم أقرب مودّة للمسلمين. فهل الرهبانية ممدوحة عند الله؟ وإذا كانت ممدوحة عند الله فلماذا قال سبحانه: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].
هو سبحانه يحدثنا عن موكب الرسل إلى أن وصل إلى عيسى عليه السلام وما جاء به من الإنجيل وكيف أودع في قلوب الذين اتبعوه شفقة شديدة ورقة وعطفاً وابتدعوا الرهبانية زيادة منهم في العبادة ولم يفرضها الله عليهم، لكنهم التزموها ابتغاء رضوان الله؛ لكن منهم من حافظ عليها والكثير منهم فسق عنها. وسبحانه حين يفرض أمراً تعبدياً فعلى المؤمن أن يؤديه. ويزيد ثواب المؤمن إن ترقى في التعبديات. لكن إن ترقى الإنسان في التعبد فعليه أن يعطي هذا الترقي حقه لأنّه ألزم به نفسه أمام الله. إذن فالمأخوذ عليهم ليس ابتدع الرهبانية، ولكن عدم رعاية بعضهم لها حق الرعاية.

 

{ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} إذن فمنهم من يرصد حياته للعلم، ومنهم النموذج التطبيقي العملي وهم الرهبان، وليس فيهم الاستكبار أو العلو، وما دام فيهم ذلك فهذا يعني أنهم لا يطلبون السلطة الزمنية. وسيظلون أقرب إلينا مودة ما دامت فيهم هذه الحيثية. فإن تخلوْا عن واحدة منها وأصابوا سلطة زمنية فهذا يعني أنهم تخلوْا عن الصفة التي حكم الله لهم بسببها بأنهم أقرب مودة. وإن تمسكوا بها على العين والرأس.

 

image.png.8b537f8f31bec5d1ac17cad106c48c6e.png


{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)}


هذه دقة الأداء القرآني الذي جاء من قبل أن يجهد المفكرون أنفسهم في دراسة ظواهر وأحوال النفس البشرية في مجال علم النفس بالبحث والاستقراء والتجارب، وأثر ذلك في وظائف الأعضاء. لقد قال العلم: إن لكل آلة وظيفة، فالعين ترى، والأذن تسمع، واللسان يتذوق ويتكلم، والأنف يشم، واليد تلمس، وقال العلماء في البداية: إن هذه هي الحواس الخمس الظاهرة، وكلمة (الظاهرة) هذه إنما جاءت للاحتياط؛ لأن هناك أموراً يشعر بها الإنسان ولكن لا يدرك كيفية ولا مصدر شعوره بها مثل الجوع أو العطش، أو في أثناء المقارنة بين شيئين أيهما أكثر ثقلاً.
 

لقد حاول العلماء إدراك كيفية تمييز الإنسان بين ثقل وثقل آخر، فقالوا: إن هناك حاسة اسمها حاسة العضل، فعندما يحمل الإنسان شيئاً ما فإنه يجهد العضلات لدرجة تمكنه من التمييز بين درجات الجهد. وعرفوا أيضاً أن هناك حاسة اسمها حاسة البين، وهي الحاسة التي يميز بها الإنسان درجة نعومة أو سمك أي نوع من القماش حتى ولو كان السمك يبلغ الواحد من العشرة من المللميتر.
إذن فهناك حواس كثيرة يمكن للإنسان الإدراك بها، وهناك حواس تترك بعضاً من الأثر في النفس البشرية كآثار الحب والميل أو البغض والنفرة، ومقرها الوجدان. كإدراك حلاوة طعم شيء أو كراهة شيء آخر، فإذا استطاب الإنسان شيئاً أخذ منه مرة ثانية، وهذا العمل هو نزوع يتبع الوجدان الذي يتبع الإدراك.

 

إذن فهناك إدراك يدرك. وهناك وجدان يجد، وهناك نزوع ينزع. مثال ذلك إدراك وردة جميلة المنظر واللون في بستان هذا الإدراك قد يصيب من القلب عشقاً وحباً؛ أي وجداناً، وأنت حر في أن تدرك ما شئت، وأن تجد ما شئت، لكن ليس لك أن تمد يدك لتقطف الوردة؛ لأن الشرع يحرم ذلك. وحارس البستان أيضاً يمنعك من ذلك. هذا على الرغم من أن أحداً لا يمنعك من أن تنظر إلى الوردة وتستمتع بجمالها. فالإدراك- إذن- مباح، والوجدان أمر مباح.
 

أما النزوع فهذا هو الأمر الذي تتدخل فيه الشريعة، ولنا أن نكرر أن الإدراك مباح والوجدان مباح إلا في إدراك جمال الأنوثة، فالشرع يتدخل من البداية. فأنت قد تدرك جمال المرأة فتجد في نفسك حباً وميلاً، فإذا نوعت فكيف يمكنك أن تضبط نفسك؟ فأنت بعد الإدراك والوجدان إما أن تنزع وإما أن تكبت. وإن نزعت انتهكت أعراض الناس، وإن كبت، أصابك القهر والألم؛ لذلك يتدخل الشرع في هذه المسألة من بدايتها فيمنعك تحريماً من أن تدرك، وذلك بأمر واضح وهو غض البصر؛ لأن المسألة الجنسية من الصعب أن تفصلها عن بعضها، فالإدراك يمكن فصله عن الوجدان، والنزوع يمكن فصله عن الوجدان والإدراك في أمر الوردة.
أما في المسألة الجنسية فهي سعار.. إما أن يقابله الإنسان بأن يعف وإما أن يلغ. فإن عف الإنسان فهو يكبت ويتوتر، وإن ولغ الإنسان في أعراض الناس فهذا أمر يسبب هتك أعراض الناس. ولذلك يمنع الشرع من البداية مسألة الإدراك.

 

وقد جاءت هذه الآية الكريمة قبل أن يأتي علماء لنفس ليفسروا أمور الإدراك والوجدان والنزوع، فها هوذا الحق يقول: {وَإِذَا سَمِعُواْ} وهذا إدراك بحاسة الأذن. وما المسموع، يجيب القرآن: {ما أُنزِلَ إِلَى الرسول}. وهذا هو سبب الوجدان الذي يأتي في قوله: {ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق}. فكيف يكون نزوعهم بعد هذا الوجدان؟ إنهم: {يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين}، وهذه هي العملية النزوعية. والقرآن الذي نزل من أربعة عشر قرناً، جاء بترتيب الإدراك والوجدان والنزوع قبل أن يأتي به العلم. فساعة سمعوا بالأذن، حدث شيء في الوجدان، والتغير الذي في الوجدان له علامات ظهرت في عيونهم التّي فاضت بالدمع.
 

وهنا نميز بين أمرين: الأول هو اغروراق العين بالدمع، أي أن تمتلئ العين بالدمع لكن لم تصل درجة التأثر إلى أن تسقط الدموع من العين، ويقال: (اغرورقت عين فلان) أي امتلأت عينه بالدموع ولكنها لم تسقط. والثاني وهو فيض الدموع من العين، والفيض لا يكون إلا نتيجة امتلاء الظرف بالمظروف، فكأن الدمع قد ملأها امتلاء، تماماً مثلما نملأ إناء أو كوباً إلى النهاية فيزيد ويفيض.
 

إذن كان سبب كل ذلك أنهم عرفوا أن القرآن من الحق. ونلحظ أن: (مِنْ) تتكرر في الأداء هنا. {وَإِذَا سَمِعُواْ ما أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق}. فـ: (من) تسبق من الدمع. و(من) مدغومة في (ما) فصاروا معاً (مما) و(مِن) تسبق الحق.
{تَفِيضُ مِنَ الدمع} ف(مِن) هنا هي:(مِن) الابتدائية. و(مما عرفوا) هنا(مِن) السببية أي بسبب أنهم عرفوا أن هذا القرآن منزل من الحق سبحانه. و(من الحق) للتبعيض، أي عرفوا بعضاً من الحق؛ لأنهم لم يسمعوا كل القرآن.

 

إذن جاءت(مِنْ) ثلاث مرات، وكل مرة لها مجال لتؤدي إلى المجموع البياني الذي يصف المظاهر الثلاثة للإدراك والوجدان والنزوع. وهذه المراتب هي مظاهر الشعور التي انتهى إليها العالم التجريبي حين أراد أن يتعرف إلى وظائف الأعضاء ومدى تغلغلها إدراكاً ووجداناً ونزوعاً.
والنزوع هو الذي يهمنا هنا، لقد قالوا: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} والإيمان امر يعود إليهم. أما الكتابة مع الشاهدين فهي أمر يعود على الآخرين، فكأن المؤمن ينال حظاً عالياً، إنه يؤمن لذاته، ثم من بعد ذلك يكون وعاءً ولساناً يبلغ منهج الإيمان إلى غيره لأنه لا يكون شاهداً إلا إذا كانت شهادته امتداداً لشهادة الرسول وهذا مصداق لقوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110].
أي إنكم يا أمة محمد أفضل أمة أخرجت للناس لا حسباً ولا نسباً ولكن اتباعاً لمنهج، ومن يتبع المنهج بـ: (افعل) و(لا تفعل) فهو الذي يطبق عملية الإيمان بالله. ومن أهل الكتاب من يؤمن بالله فيصير مسلماً، ولكن الكثير منهم يخرج عن حدود الإيمان. وهناك آية أخرى يقول فيها الحق: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143].

 

إذن فالأمة التي تتبع منهج الإسلام- وهو منهج الاعتدال- هي الأمة المهتدية التي تسير إلى العمل الصالح الصحيح وتعمل به وتطبقه؛ لأنه المنهج الذي ينسخ ما قبله ويصححه، والرسول صلى الله عليه وسلم هو المهيمن على كل من سبقه من الرسل، وحياته وما جاء فيها من سلوك هو سنة إيمانية تهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم. وجاءت في هذه الآية مسألة تحويل القبلة لتعلم المسلمين أن الأمر الأول بالاتجاه إلى بيت المقدس كان اختباراً ينجح فيه من يذعن لصاحب كل أمر وهو الله، وكان ذلك من الأمور الشاقة إلا على من وفقه الله إلى الهداية، ثم جاء من بعد ذلك الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة وهي أول بيت وضعه الله للناس.
 

إذن فمادمنا شهداء، وما دام الرسول شهيداً علينا، فالرسول إنما يشهد أننا بلغنا وننال منزلتين: منزلة تلقى البلاغ عن الرسول، ومنزلة الإبلاغ من بعد ذلك إلى غيرنا من الناس. والمؤمن لا يكون شهيداً إلا إذا كانت شهادته امتداداً لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم. هذه الشهادة التي جاء بها الحق في وصف أمة المؤمنين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110].
 

فأنتم يا أمة محمد أفضل أمة أخرجها الله للناس بشرط أن تتبعوا المنهج ب (افعل) و(لا تفعل). تأمرون بالطاعات وتنهون عن كل ما نهى عنه الدين، وبذلك تكونون قد طبقتم المنهج الدال على صدق إيمانكم بالله إيماناً صحيحاً صادقاً. ولو صدق أهل الكتاب مثلكم في إيمانكم، لكان خيراً لهم مما هم عليه.
لكنّ بعضاً منهم يدير أمر الإيمان في قلبه، والكثير منهم يخرج ويفسق عن مقتضى الإيمان.

 

إذن فهم عندما قالوا: {آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين}، فذلك إقرار بأن الإيمان كان إيمان ذات وإيمان بلاغ إلى الغير. وهم بذلك قد دخلوا الإسلام وصاروا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وها هوذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
 

وها هوذا الحق يحدد لنا قيمة الكلمة الطيبة المبلغة عن الله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24-25].
إن الكلمة الطيبة هي شجرة لها من الثمار ما ينفع الناس وتظل بظلها الحنون سامعها، ولها أصل ضارب الجذور في الأرض. ولها فروع تعلو إلى اتجاه السماء. وتعطي الثمار في كل زمن بإرادة خالقها. وهذا المعنى المحسوس مادياً يضربه الله كمثل للناس حتى يعرفوا قيمة المعاني السامية. إذن سيظل صاحب قوله الحق في بلاغ منهج الإيمان إلى الناس يقطف ثمار هذه الكلمة ما بقي إنسان مؤمن إلى أن نلقى الله.
 

{فاكتبنا مَعَ الشاهدين} والشاهد هو المبلغ. وعندما يطلب مؤمن من الله أن يكتبه مع الشاهدين فهو يطلب لنفسه المكانة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فالشهيد ليس هو من قتل فقط، إنما الشهيد هو من يعطي شهادته. والشهيد في معركة إيمانية تفقه حياته هو إنسان أعطى شهادة على أن ما ذهب إليه إثمن من حياته كلها. وهو في ذلك يعطي شهادة علمية.

 

image.png.31cb5842b5e11b67bd1964c1818e46b2.png

{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)}


عندما يأتي التعجب هنا فهذا معناه أن الإنسان يحب أن يعلم أن إيمانه بالله مسألة تعطينا الخير لأنفسنا. فحين نؤمن بالله يقابلنا الحق بفيض الكرم من اطمئنان وخير وعطاء. فإياكم أيها الناس أن تعتقدوا أن الإيمان جاء ليحجب حرياتكم أو أنه يمنع عنكم اشتهاء الأشياء. ولكن الإيمان جاء ليعلي الحرية، ويعلي الشهوة فلا يأخذها الإنسان عابرة تنتهي بانتهاء الدنيا ولكن ليأخذها الإنسان خالدة ما بقيت السموات والأرض.
 

إذن فالدين إنما جاء بالنفعية العاقلة؛ لأن العاقل إنما يأخذ على مقدار عمره من نفع يسير ولا يضر أحداً، وإن كان يضر النفس أو الغير فالدين يأمر بترك هذا النفع، ذلك أن النفع إما أن يفوت الإنسان أو يفوته الإنسان. والذكي هو من يؤثر نفع غيره على نفع نفسه.
 

مثال ذلك أن يأتيك سائل يسألك الطعام لأنه لم يأكل منذ يومين، ولا يكون في جيبك إلا جنيه واحد فتعطيه له، إنك بذلك تؤثره على نفسك، فتكون ضمن من قال فيهم الحق سبحانه: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} [الحشر: 9].
 

وبمثل هذا السلوك يكون الإنسان قد اقتدى بالأنصار الذين استضافوا المهاجرين وخلصوا الإيمان فأحبوا أهله، ولا يجدون حقداً أو حسداً فيما خُصّ به المهاجرون من مال الفيء وغيره، وكان جل همهم أن يسعد المهاجرون وقد سبق أن آثروهم بأشياء كانت لهم وارتضوا لأنفسهم عدم البخل، فوقاهم الله شر البخل فكانوا من الفائزين. والمتصدق بجنيه إنما يأخذ من الله عشرة أمثاله، وهذه نفعية كبرى. وعندما أمرنا الشرع بغض البصر عن محارم الغير، والمنفذ لذلك يحفظه الله ويغض الجميع عيونهم عن محارمه، أليست هذه نفعية؟ إذن فمن الحمق أن يظن إنسان أن الدين يقيد الحرية، لأن الدين إنما يعلي الحرية وينميها، وينمي الانتفاع عند المؤمن بأن يحول بينه وبين النفعية الحمقاء.
ودائماً أضرب هذه المثل: لنفترض أن رجلاً له ولدان؛ الأول منهما يستيقظ صباحاً من النوم فيفعل مثلما علمه أبوه: يتوضأ ويصلي ويتجه إلى دراسته بعد أن يتناول إفطاره، أما الابن الثاني فلا يستيقظ إلا بصعوبة ويظل يتناوم إلى أن يأتي الضحى ثم يخرج من المنزل إلى المقهى. إن كلاً من الولدين أراد النفع لنفسه، الأول أراد النفع الآجل، والثاني أراد النفع العاجل، وبعد أن تمر عشر سنوات يتخرج الابن الأول ليكون مفلحاً وناجحاً في الحياة، ولكن الابن الثاني يظل صعلوكاً فاشلاً، إذن فكلاهما نظر إلى النفعية ولكن المنظار مختلف.
وإياكم أن تفهموا أن هناك إنساناً لا يحب نفسه، لا.
كلنا نحب أنفسنا. ولكن هناك من يحب نفسه حباً يعطي لها طول البقاء، فيجد ويجاهد، وقد يكون شهيداً، وآخر أحب نفسه بضيق أفق فحافظ على حياته بالجبن وهو قد مات ألف مرة في أثناء هذا الجبن، وفقد كرامته حرصاً على حياة لن يزيد في مقدارها يوماً واحداً. والمتنبي يقول:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ** حريصاً عليها مستهاماً بها صبا

فحب الجبان النفس أورده التُّقَى ** وحب الشجاع النفس أورده الحربا

 

ولذلك فالمتأمل بعمق في أمر الدين يقول لنفسه: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق)، والمؤمن يرى أنه من العجيب ألا يؤمن لأنه يطمح إلى مكانة المؤمن.
(ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) إذن فالمؤمن يطلب مكانة الإنسان الصالح.

 

image.png.45fafaec821935d3563137aa2caf95b8.png

 

{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)}


إنها كلمة الحق التي تقال في كل مكان وزمان. قالها نجاشي الحبشة وله سلطان لأهل الجاه من قريش الذين استبد بهم باطلهم؛ لذلك كان لهذه الكلمة وزنها، فعندما سمع ما نزل من القرآن من سورة مريم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. إذن فهي كلمة حق لها وزن، والله سبحانه وتعالى يجزل العطاء لكل من ساند الحق ولو بكلمة فهو سبحانه(الشكور) الذي يعطي على القليل الكثير، و(المحسن) الذي يضاعف الجزاء للمحسنين.
 

ولنا أن نعرف أن للقول أهمية كبرى لأنه يرتبط من بعد ذلك بالسلوك. وكان قول النجاشي عظيماً، لكن العمر قد قصر به عن استمرار العمل بما قال. فقد قال كلمته وجاءه التوكيل من رسول الله ليعقد للرسول على أم حبيبة بنت أبي سفيان فقعد عليها وكيلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرها من ماله ثم مات، ولم تكن أحكام الإسلام قد وصلت إليه ليطبقها؛ لذلك كان يكفيه أنه قال هذا القول، ولذلك صلى عليه النبي صلاة الغائب.
 

وهناك قصة (مخيريق) اليهودي. لقد تشرب قلبه الإسلام وامتلأ به وكان في غاية الثراء فقال لليهود: كل مالي لمحمد وسأخرج لأحارب معه. وخرج إلى القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل فمات شهيداً، وهو لم يكن قد صلى في حياته كلها ركعة واحدة. إذن مجرد القول هو فتح لمجال الفعل.
{فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} والحق يريد أن يؤكد لنا أن كل حركة إيمانية حتى ولو كانت قولاً إنما تأخذ كمالها من عمرها. ونعلم أن الإيمان في مكة كان هو الإيمان بالقول. ذلك أن الناس آمنت ولم تكن الأحكام قد نزلت، فغالبية الأحكام نزلت في المدينة. وعلى ذلك أثاب الله المؤمنين لمجرد أنهم قالوا كلمة الإيمان، حدث ذلك ولم يكن قد جاء من الحق الأمر بالبلاغ الشامل وهو قوله الحق: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214].

 

فهؤلاء قد جزاهم الله حسن الثواب وسمّاهم (محسنين) وكذلك فعل النجاشي، فقد ذهب إلى الإيمان دون أن توجه له دعوة وكان ذلك قبل أن يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة للملوك ليؤمنوا، وعلى هذا فالنجاشي محسن؛ لأنه قفز إلى الإيمان قبل أن يطلب منه. وساعة يتكلم الحق عن منزلة من منازل الإيمان فهو أيضاً يتعرض للمقابل، وذلك لتبلغ العظة مراميها الكاملة. فإذا تحدث عن أهل الجنة فهو يعقبها بحديث عن أهل النار، وإذا تحدث عن أهل النار فهو يعقبها بحديث عن أهل الجنة؛ لأن النفس الإنسانية تكون مستعدة للشيء ومقابله.

 

نداء الايمان

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}


نعرف أن كلمة (صاحب) وكلمة (صحبة) وكلمة (أصحاب)، هذه الكلمات تدل على الملازمة، والملازمة في الحياة تكون اختيارية لا قهرية؛ فلا أحد يصاحب أحداً بالقهر.
 

ونفهم من قوله: {أَصْحَابُ الجحيم} أن هذا يعني العشق المتبادل بين النار وأهلها، وليس هذا مرادا، فهو إما أن يكون على سبيل السخرية والاستهزاء بهم، وإما أن يكون المراد هو الملازمة التامة والمصاحبة الدائمة التي لا تنفك ولا تنهى.
 

وبعد أن تكلم الحق عن المشركين وتكلم عن اليهود وتكلم عن النصارى. فهو يتكلم عن المؤمنين، إنه ينفض أذهاننا أولا ليزيل عنها ما علق بها من أمر المخالفين ومناهجهم، ويأتي لنا من بعد ذلك بالأحكام، وقد فعل ذلك في هذه السورة التي تبدأ بآية العقود: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1].
 

وعقد الإيمان هو ما يرتفع ويسمو على ما يقوله المشركون ويخرج عما يقوله اليهود والنصارى. ومن بعد ذلك نلاحظ أن الحق بعد أن تكلم عن ضرورة الوفاء بالعقود، فهو يلزم المؤمنين بالمنهج الذي يحمي حركة الحياة. وحركة الحياة يتم استبقاؤها أولاً بالطعام والشراب. لذلك قال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} [المائدة: 1].
 

ومن بعد استبقاء حركة الحياة بالطعام والشراب، ها هوذا يقول: {حُرِّمَتْ}. وهنا لنا وقفة، فعندما يحلل الله شيئاً من أجناس الوجود؛ وحينما يحرم شيئاً آخر من أجناس الوجود فللسائل أن يسأل بعقلانية ويقول: ما دام الحق قد حرم هذه الأشياء فلماذا أوجدها؟ ونعلم في حياتنا العادية أن كل صانع إنما يحدد خصائص لصنعته. ومثال ذلك صانع الطائرة يصمم طائرته ويحدد الوقود اللازم لها، ولا يمكن أن تسير بوقود سيارة، فإذا كانت الآلات التي من صنع البشر تفسد إن استخدمنا لها ما لا يناسبها. فكيف إذن نقول لصانعنا: لماذا خلقت الأشياء التي لا تناسبنا؟ لابد أن لها مهمة في الكون واستخداماً آخر يجعلها تنتج الأشياء المفيدة لنا. مثال ذلك سمّ الحية، إنه يقتل الإنسان، ولكن الله ألهم الإنسان القدرة على استخراج السّم من الحيّة لقتل بعض الميكروبات.
 

إذن فالعالم قد خلقه الله بتركيب معين. ومثال ذلك نجد التمساح وهو راقد على الشاطئ والطيور تلتقط من فمه بعضاً من غذائها ولا يؤذيها؛ لأن هذه الطيور هي التي تنبه التمساح إذا جاء صياد ليقتنصه، فالطيور تحرص على مصدر قوتها وتحافظ على حياة التمساح، والكهرباء نستخدمها في مجالها، أما في عكس مجالها فهي تصعق وتدمر.
 

إذن فليس للإنسان أن يسأل لماذا حرم الله أشياء على الإنسان؟ لأن لتلك الأشياء دورة في الحياة. ولا يصح أن ننقل الوسيلة لتكون غاية. والحق أراد بالحلال والحرام أن ينتفع الإنسان بالصلح له.
 

مثال ذلك أن حرم الله أكل لحم الخنزير. والخنزير إنما وُجد ليأكل ميكروبات. إذن فليس للإنسان أن يُحَوَّل الوسيلة إلى غاية. ويعطي الحق كل يوم للإسلام قوة تأييد تأتيه من خصوم الإسلام.
 

ومثال ذلك: إننا نجد أن الأمراض تنتشر بنسب عالية في الأمم التي تستهلك لحم الخنزير، وتشرب الخمر، وهناك مرض اسمه (تشمع الكبد) ينتشر في تلك البلدان، فهل كنا نؤخر تنفيذ أمر الله إلى أن تنشأ المعامل وتقول لنا نتائج أكل الخنزير؟ أو كان يكفي أن نحرم على أنفسنا ما حرم الله؟ إن علينا أن ننفذ أوامر الله صيانة لنا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53].
 

وكل يوم تظهر لنا آية تؤكد صدق إيماننا بالله؛ لذلك فلا يقولن أحد: لماذا خلق الله تلك الأشياء المحرمة؟ لقد خلقها الله وسيلة لا غاية.

 

ومثال ذلك أن خلق الله لنا البترول لنستخرج منه الوقود؛ فهل أحد منا يقدر على شرب البترول؟! إذن فالتحليل والتحريم لصالح الإنسان. فإن خرج الإنسان عن ذلك فلا يلومن إلا نفسه. ولذلك يقول الحق: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} [يونس: 59].
كأن الحق يستنكر أن نصنع من حلال ما خلق أشياء محرمة. وأن نحرم أشياء حللها الله. كترك البحيرة والسائبة والوصيلة؛ وكلها أرزاق من الله. هو سبحانه خالق كل الأشياء وهو الذي يحدد نفعها وعدم نفعها للإنسان. والبحيرة هي الناقة التي كانوا يشقون أذنها حتى لا يتعرض لها أحد بعد أن تكون قد نتجت خمسة أبطن آخرها ذكر، وكانوا يطلقونها في المراعي لا تُركب ولا تُحلب ولا يُمنع عنها مرعى أو ماء. وكانوا يقولون إنها للآلهة. وعندما نستكشف آفاق من يستفيد منها، كنا نجد الكهنة هم الذين يستفيدون منها. وكذلك السائبة وكانوا يتركونها تطوعاً لا يركبها أحد ولا يحلبها أحد وكان المستفيد منها الكهنة أيضاً. وكذلك الوصيلة وهي الأنثى التي جاءت في بطن واحد مع ذكر وقالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وكذلك كانوا يطلقون الفحل الذي نتج من صلبه عشرة أبطن وقالوا قد حمى ظهره فلا يركب، ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى، والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أنا لم أحرم هذه الأشياء فلماذا تحرمونها؟
هو سبحانه قد حرم الميتة والدم لأنه هو الذي حدد وبيّن ما هو حلال وما هو حرام. وسبحانه الذي يرزق الرزق فيكون مرة رزقاً مباشراً ومرة يكون رزقا غير مباشر

 

نداء الايمان

 

image.png.f909d7605bb87f385ff10218bcf2f71b.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)}


إذن فأمر التحريم موكول إلى خالق الآله الإنسانية، وأمر التحليل موكول إلى خالق الآله الإنسانية. وأنت أيها الإنسان لا تتدخل في ذلك أبداً. لأن تدخل الإنسان يكون أحياناً بتحريم ما أحل الله، وأحياناً يكون تدخل الإنسان بتحليل ما حرم الله.
إياك أيها الإنسان أن تحرم ما أحل الله لك، وإياك أن تحلل ما حرم الله عليك. ونحن هنا أمام مراحل عدة، لا تعتقد أن هناك أمراً حلله الله هو حرام، ولا تقل إن هناك أمراً حلله الله هو حرام، ولا تمتنع عن أمر حلله الله ظناً أنه حرام، ولا تُفْتِ بأمر حلله الله على أنه حرام، ولا تجعل أمراً حلله الله فتحرمهَ على نفسك، فلا ينذر أحد ألا يأكل لحم الضأن أو البرتقال- على سبيل المثال- لأن النذر في ذلك ليس حلالاً، لأن تحريم الأشياء المحللة بالنذر هو أمر محرم. ولذلك علمنا الحق قائلاً لرسوله: {لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1].
لا بد لنا أن نعى ذلك الأمر وأن نعرف مراحله: لا تعتقد، لا تقل، لا تمتنع، لا تُفْتِ، لا تنذر، لماذا؟ لأن في ذلك اعتداء.

 

يقول الحق تبارك وتعالى: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ ما أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} [المائدة: 87].
وما الاعتداء؟ إنه تجاوز الحد فيما حرم الله أو فيما حلل الله. أي أن الله يحب من يقف عند الحدود. وهو سبحانه يقول مرة: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187].
ومرة يقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
فهي المنهيات: لا تقترب. وفي ما أحله الله: لا تتعدَّ؛ لذلك جاء القول على لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «الحلال بين والحرام بين وبينهما مُشْتَبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المُشْتَبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه؛ ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».

 

إذن فكل كائن له مميزات وله مهمة في الوجود. وأنت أيها الإنسان لا تقلب الوسيلة إلى غاية، فهناك كثير من المخلوقات هي وسائل ولا تصلح أن تكون غايات؛ ولذلك أمرنا الحق بأن نأخذ ما ننتفع به مباشرة وأن نترك الأشياء التي حرمها علينا؛ فلا نقرب- على سبيل المثال- لحم الخنزير؛ لأن الخنزير مخلوق ليخلصك من الميكروبات، فإن أكلته تكون قد قلبت الوسيلة إلى غاية. وعليك أيها الإنسان أن تحتفظ بالوسيلة كوسيلة وأن تحتفظ بالغاية كغاية.
والذي يحدد لك ذلك هو من صنعك.. إنه الله.

 

ودليل ذلك أن خصوم الإسلام يكتشفون كل يوم المميزات التي جاء بها الإسلام فيتجهون إليها. إن الله بتحريمه وبإيماننا بهذا التحريم منعنا من متاعب التجربة إلى أن تثبت، والكفار الذين لم يأمنوا اضطرتهم الظروف إلى تناوله، وعلى ذلك فكل شيء محلل أو محرم بأوامر الله يظهر لنا فائدته أو ضرره طبقاً لقول الحق سبحانه وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
 

إذن فلا اعتقاد في شيء حلال أنه حرام ولا قول بمثل ذلك ولا امتناع عنه ولا يفتي إنسان بمثل ذلك. ويأتي الأمر: {وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين}. ونعرف أن الاعتداء إنما هو أن نتجاوز الحد فيما حرم أو فيما حلل، والحق سبحانه يحب من يقف عند حدود الله. فلا يقربها الإنسان حتى لا تحدثه نفسه بمعصية. وعندما يبتعد المسلم عنها فهو يتقي الشبهات.
 

والحق يبين لنا قد أحللت لكم كذا وحرمت عليكم كذا وهو الخالق. فيجب أن نأخذ من الخالق مواصفات ما يبقي لنا الحياة؛ هذا الإبقاء هو ما نصنعه نحن حينما نخترع آلة توفر علينا الحركة وتعطينا الثمرة بأقل مجهود، فحين يصنع الصانع آلة من الآلات يصنع لها ما يوجد لها الطاقة لتقوم بعملها، ولا يستطيع المستعمل لهذه الآلة أن يغير وقود هذه الطاقة، فإن غير نوع الطاقة، فالآلة لا تؤدي مهمتها. فما بالنا بالذي خلق؟
 

إنه حين يوضح أنّ هذه الآلة لا تصلح إلا بما أحللت، ولا يصح أن تدخل عليها ما حرمت عليك. هنا يجب أن نطيع الخالق؛ لأنه هو الذي يعلم ما يصلح لنا وما لا يصلح. ولم يدع أحد في الكون أنه خلق نفسه، فلنرد اقتياتنا وحفظ حياتنا إلى خالقنا، ولنأخذ ما حلله ونبعد عما حرمه، فالآلة- الإنسان- تصلح بأن تفعل الحلال وأن تترك فعل الحرام. إذن هناك أشياء تُفعل، وهناك أشياء لا تُفعل. وهناك أشياء لم يأت فيها الحل أو الحرمة، فإن أقبل عليها الإنسان فهي تصلح، وإن لم يقبل عليها الإنسان فهي تصلح أيضاً. والحق سبحانه وتعالى يوضح: أنكم لم تخلقوا هذه الآلة- الإنسان- وأنا الذي خلقتها، فإنا أعلم بما يعطيها مدد الطاقة ومدد البقاء، فإن صنعتم غير ذلك كنتم معتدين.
 

ولذلك يخاطب الحق الذين آمنوا بأنه خلقهم من عدم وأمدهم من عدم ورزقهم لاستبقاء حياتهم ونوعهم، وعليهم أن يأخذوا من الله هذه الأحكام: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ ما أَحَلَّ الله لَكُمْ}. وسبحانه يوضح: إن الذي يؤمن بأني إله فليأخذ مني مواصفات استبقاء حياته. وعندما يقول سبحانه ذلك فلابد أن يكون هناك سبب داعٍ لهذا القول ولما نزل قوله- سبحانه-: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].
 

الحق جاء في هذا القول الكريم بحيثيات مدحهم وحيثيات قربهم من مودتنا، فمنهم القسيسون والرهبان الذين زهدوا في الحياة. ولما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بكوا واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وفيهم أبو بكر الصديق وعمر وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك أي الدسم. ويجبوا المذاكير ويسيحوا في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم فحمد الله وأثنى عليه فقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني).
 

وأنزل الحق سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ ما أَحَلَّ الله لَكُمْ} [المائدة: 87].
وكلمات الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته وللناس منطقية، فإذا كانوا يريدون أن يمتنعوا عن طبيات ما أحل الله حتى يعلنوا الزهد مثل السابقين عليهم، ومن يريد الرهبنة أَلا يصلي؟ أنه يقيم الصلاة؛ والصلاة لابد لها من حركة، والحركة لابد لها من قوة، والصلاة لابد لها من ستر العورة، وستر العورة يقتضي اللباس، وهذا اللباس يحتاج إلى تفكير من أين يأتي هذا. القماش يأتي من تاجر أقمشة، وتاجر الأقمشة لابد أنه يأتي به من المصانع التي تنسجه، والمصانع التي تنسجه لابد أن تأتي من المصانع التي غزلته، والمصانع التي غزلته لابد أن تأتي به من المحالج التي حلجت، ثم لابد من الحيوانات التي أخذ منها إن كان صوفاً، وأن تُربى وتربيتها تحتاج إلى زراعة. إذن فكل هذه الأشياء تتطلب حركة واسعة، أنت لا تشعر بها إلا حين تحتاج إلى الثوب. فإن كنت تريد أن تنقطع للعبادة فإياك أن تنتفع بحركة من يقيم أركان الإسلام، ويتحرك في الحياة في ضوء منهج الله ساعياً إلى الرزق، وهذا أمر لا يتأتى.
وأيضاً، ألا يأكل الذي يريد الانقطاع إلى العبادة؟ إنه يأكل ليقوم إلى الصلاة. وكلنا يعرف كيف يجيء رغيف الخبز. صحيح أن الإنسان يذهب إلى المخبز ليشتري رغيف الخبز، والمخبز جاء بالدقيق من المطحن. والمطحن جاءته الغلال من المخازن، والغلال جاءت من الذي زرع. والذي زرع احتاج إلى الآت تحرث وآلات تغرس وإلى آلات تجنى، وبعد ذلك احتاج إلى أشياء أخرى كالسماد وغيره، إن هذا يحتاج إلى طاقة هائلة.
إذن فالإنسان في حركته في الصلاة محتاج إلى كل هذه الأعمال، فإياك أن أردت أن تعتزل الحياة أن تنتفع بعمل من لم يعتزل الحياة. والعمل الذي لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولذلك يكون على ولي الأمر إن رأى حرفة يتطلبها الوجود الإنساني والوجود الإيماني ولم يذهب إليها أناس طوع أنفسهم عليه أن يلزم قوماً بأن يفعلوها. وكل صناعة هي فرض كفاية إن قام بها البعض سقطت عن الباقين. وإن لم يقم بها البعض أثم الجميع.
إذن فلابد من حركة الحياة. وحركة الحياة تُسْلم حلقة إلى حلقة أخرى. فلا تأخذ الثمرة وأنت مع ذلك تعتزل الحياة. والحق سبحانه وتعالى يقول: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ ما أَحَلَّ الله}. إنكم إن فعلتم ذلك تكونوا قد أخذتم صفة المشرع واعتديتم على حقه في أن يحلل وأن يحرم، وهذا اعتداء.

 

وإذا كان الله قد حرم أشياء وحلل أشياء فهذا بمقتضى صلاحية الأشياء المحللة للإنسان. وعلى الإنسان أن ينظر إلى الأشياء الموجودة المحرمة على أنها رزق غير مباشر لأنها وسيلة إلى رزق مباشر، كما عرفنا أننا نستخلص من سم الثعبان علاجاً، إذن فالثعبان مخلوق لمهمة تخدم الإنسان. والعالم كله حلقات، حيوانات تستفيد من أذى بعضها إلى أن يصل الخير كله إلى المؤمن، فلا يقولن إنسان (لماذا خلق إذا كان قد حرم).
فلا تعتد لتحلل ما حرمه الله وتحرم ما حلله الله، فبترك الاعتداء ينتظم الوجود، وحين ينظر الإنسان إلى الغابة يجد أن لكل حيوان مهمة مع غيره، هذه المهمة تؤدي إلى الصلاح فيما يصلح للإنسان. لقد حرم الحق بعض الأشياء كرزق مباشر؛ لأنها رزق غير مباشر. والرزق المباشر هو ما يأكله الإنسان مباشرة وما يلبسه، والرزق غير المباشر هو وسيلة إلى الرزق المباشر، وما حرمه الله هي أشياء مخلوقة كوسائل إلى صحة غيرها.
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ ما أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا} أي لا تجعلوا الحرام حلالاً، ولا تجعلوا الحلال حراماً، و(لا تعتدوا) أي كلوا من الطبيات دون أن تتجاوزوا الحد، وهذا هو معنى قوله الحق: {وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} [الأعراف: 31].

 

image.png.939a1672fa70fa09bf04032c9e9cce7d.png


 

{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)}


أولا نسأل: ما هو الرزق؟ الرزق هو ما انتفع به. فالذي تأكله رزق، والذي تشربه رزق، والذي تلبسه رزق، والذي تتعلمه رزق، والصفات الخلقية من حلم وشجاعة وغيرها هي رزق، وكل شيء ينتفع به يُسمى رزقاً.
ولكن حين يقول الحق: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً} فهو ينصرف إلى ما يطعمه الإنسان. وحين يقول سبحانه ذلك فالمقصود به أن يأكل الإنسان من الرزق الحلال الطيب. إذن هناك رزق حرام، مثال ذلك اللص الذي يسرق شيئا ينتفع به، هذا رزق جاء به طريق حرام، ولو صبر لجاءته اللقمة تسعى إلى فمه لأنها رزقه. أو الرزق هو ما أحله الله، وهنا اختلف العلماء وتسائل البعض: هل الرزق هو الحلال فقط والباقي ليس رزقاً؟ وتسائل البعض الآخر: هل الرزق هو ما ينتفع به ومنه ما يكون حلالاً ومنه ما يكون حراماً؟ الحق يقول: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً} [المائدة: 88].

 

كلوا ما رزقكم هذا أسلوب، {مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} هذا أسلوب آخر. فما رزقكم الله أي نأكله كله، وهذه لا تصلح؛ لإننا لا نأكله كله طبعا بل إننا سنأكل بعضه؛ لأن الذي يؤكل ويطعم إما أن يكون صالحاً لإيجاد مثله، وإما أن يكون غير صالح لإيجاد مثله، فعندما يحتفظ الإنسان بالدقيق مثلاً فهو لا ينتج سنبلة قمح، إذن يجب علينا أن نأكل بعضاً ونستبقي بعضاً صالحاً لأن ينتج مثله، فعندما نحتفظ بالقمح فهو يصلح أن يأتي بسنابل القمح؛ لذلك جاء الأمر بأن نأكل بعض ما رزقنا الله حتى نحتفظ ببعض الورق لا نأكله، وهذا يعني أن نحتفظ بامتداد الرزق، فلو أكل الإنسان كل القمح الذي عنده فكيف يحدث إن أراد أن يزرع؟ إذن فاستبقاء الرزق يقتضي أن نحتفظ ببعض الرزق لنصنع به امتداداً رزقياً في الحياة؟
والرزق الحلال هنا نوعان: ما يصلح لامتداده فيحجب احتجاز بعض منه من اجل أن يستخدمه الإنسان في استجلاب رزق آخر. وما لا يصلح لامتداده كالدقيق مثلاً. نأكل بعضه ونحتفظ ببعضه لمن لا يقدر على الحركة. ولذلك نجد الحق في سورة يوسف يقول عن رؤيا الملك: {وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأيها الملأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43].
هنا قال أهل تفسير الرؤيا: {قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44].
إنه اضطراب في الجواب؛ لأن كونها أضغاث أحلام أنها لا معنى لها، وقولهم بعد ذلك: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ} فمعنى ذلك أن لها تأويلاً وقد كان لها تأويل، ثم من الذي رأى الرؤيا؟ إنه الملك. ويأتي الحق بيوسف مفسراً للرؤيا.

 

إذن فلا ضرورة أن يكون الرائي مؤمنا ولا صالحاً. وقد يقول قائل: كيف يطلعه الله على مثل هذه المسائل؟ ونقول: قد تكون الرؤيا إكراماً للرائي، وقد تكون الرؤيا إكراماً للمعبر الذي يعرف التأويل، وهي هنا إكرام للمعبر وهو سيدنا يوسف. وعرف سيدنا يوسف كيف يفك (شفرة) الرؤيا، والعجيب في الرؤيا أن البقر الهزيل يأكل البقر السمين: وهنا قال يوسف: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف: 47].
أي كلوا البعض وليكن قليلا قليلا، لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد وهن سنين الجدب لتأكلوا فيها ما جمعتوه في سنين الخصب، اتركوا البعض الآخر. لاستمرار النوع. وتبين أن أفضل وسيلة لحفظ حبوب القمح في عصرنا هي أن نتركه في سنابله وكذلك الذرة نتركها في غلافها. وكان تعبير الرؤيا دقيقاً لأنه يريد أن يستبقي للناس حياتهم في زمن الجدب، ويستبقي لهم كذلك الضرع الحيواني، فتأكل الناس الحب، وتأكل الماشية التبن المتبقي، وكذلك ضمن الحق مقومات الحياة لكل ما يلزم للحياة. ونلحظ أن المأكول في هذه الآية هو القليل، أما الباقي فهو الكثير في سنابله، هذا في أيام الرخاء؛ فماذا عن أيام الجدب؟ {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 48].
أي أن الناس ستأكل في أعوام الجدب الكثير من الحبوب التي في المخازن ويجب أن يحتفظوا بقليل مما يحصنون في هذه المخازن، وذلك لاستبقاء جزء من القمح للزراعة.

 

إذن ف(من) في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً} للتبعيض أي أكلوا بعض ما رزقكم الله، فإن كانت الأشياء مما يكون بقاؤها سبباً لامتداد نوعها فالنوع يكون متصلاً. مثال ذلك رجل عنده بذور البطيخ وزرعها، وبعد أن جاءت الثمار أكلها هي والبذور فمن أين يزرع في العام القادم؟ كان يجب أن يحتفظ ببعض منها لتكون بذوراً. وكان يجب أن يحتفظ بجزء من البطيخ ليعطي منه الجار أو المحتاج؟
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} تصلح لاستبقاء النوع وتصلح لصرف الزائد إلى غير القادر. {واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي أنك حين تتقى من تؤمن به إلهاً فليس في ذلك غضاضة؛ لأنك آمنت أنه إله وقوي، والغضاضة في أن تأمر بأمر مُساوٍ لك، أما الانقياد والائتمار لأمر الأعلى منك، فهذا لا يكون سبباً في الغضاضة إنما هو تشريف لك وتكريم.
ونجد الحق يشرع لنا ذلك في قصة سيدنا موسى على السحرة، فألقى موسى عليه السلام عصاه، ورآها السحرة حية، والساحر ينظر إلى الشيء الذي تم سحره فيراه على حقيقته وصورته الأصلية، أما المسحورون بالرؤية فهم الذين يرون الشكل المراد لهم رؤيته. ورأى السحرة حبالهم مجرد حبال؛ وعصا موسى هي التي صارت حية.
هنا عرفوا أنها مسألة أخرى فماذا قالوا؟: {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47-48].

 

لقد عرفوا أن هذا أمر خارج عن نطاق البشرية. إذن فما كان من أمر السحرة تجاه قوم فرعون هو تخييل للنظر: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66].
وقال الحق: {سحروا أَعْيُنَ الناس} [الأعراف: 116].
أما موسى عليه السلام فحين ألقى العصا أول مرة ووجدها حية خاف لأنه رأى في ذلك قلباً للحقيقة. أما عند السحرة فليست حبالهم حيات حقيقية ولكنها سحر لأعين الناس أي تخيل للناظر. ومثال آخر هو سيدنا سليمان عندما أرسل لبلقيس ملكة سبأ. وجاء رسوله يقول لها: {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31].
فماذا قالت لحاشيتها من رجال القتال؟: {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32].
وهنا عرفت الحاشية أن المسألة تتطلب رأياً سياسياً؛ فقالوا: {قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33].
الرأي إذن هو من حق السياسي الذي يزن الأمور بموازين العقل وموازين الاحتمال الواقعة، وموازين رد الفعل، وأدارت بلقيس المعركة سياسياً، فأرسلت هدية من مقام ملكة، فإن راقته الهدية فهو طالب دنيا ويريد خيرها، وعندما وصل رسلها بالهدية، ماذا قال سليمان؟ {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 36-37].
وهنا عرفت بلقيس أن الإسلام أمر ضروري، وها هي ذي الدقة لنعرف أن الأمر من المساوى هو الذي يعطي عزة في الآمر وذلة في المأمور، أما إذا كان الأمر من غير المساوى ومن الأعلى سبحانه فلا ذلة فيه لأحد. وكان إيمان بلقيس إيماناً ملوكياً.
فقالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [النمل: 44].
إنها لم تقل أسلمت لسليمان وإنما قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ}. إذن فلا غضاضة في إيمانها. وذلك حتى لا يظن شعبها أنها ذهبت به إلى حضيض الذلة في أن يحكمهم إنسان آخر. لكن هي وسليمان محكومان لله رب العالمين، ولا غضاضة في ذلك: ونعود إلى قوله جل شأنه: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88].
أي: اجعلوا للإيمان حيثية، وما دمت قد آمنت وتأتمر بأمر من تؤمن به. فأنت لا تؤمن إلا بمن تثق في أنه يستحق الإيمان. وقوله أولاً في الآية السابقة: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88].
وقوله في تذييل هذه الآية: {واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88].
هو تسوير وإحاطة لطاعة بإيمانين، إيمان خوطبوا به، وإيمان أقروه به

 

نداء الايمان

image.png.c337d840df8495c39bca31bb81ba3a1b.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}


عندما ننظر في قول الحق: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} نعرف أن (يؤاخذ) من (أخذ) ويأخذ من أخذ، فإن قلت: (أخذت فلاناً بكذا) فذلك دليل على أنك أنزلت به نكالاً لأنه لم يدخل في تعاقد خيري معك، ولكن أن تقول: (آخذته). كأن المفاعلة حدثت بأن دخل معك في عقد الإيمان ولذلك يأخذ الحق الكافرين أخذ عزيز مقتدر. ولكنه يؤاخذ المؤمنين، لماذا؟ لأن المؤمنين طرف في التعاقد، أما الكافرون فليسوا طرفاً في التعاقد؛ لذلك يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
 

إذن فالمؤاخذة غير الأخذ، المؤاخذة هي إنزال عقوبة بمن له معك عهد فخالفه بعمل جريمة نُصَّ عليها؛ فلا يؤاخذه أبداً بجريمة لم ينص عليها، ولا يتم توقيع عقاب على أحد دون تحذير مسبق. ولذلك ففي القانون المدني يقولون: لا عقوبة إلا بجريمة ولا جريمة إلا بنص.
إذن لابد من النص أولاً على العقاب على الجريمة؛ لأن النص على فعلٍ ما بأنه جريمة يجعل الإنسان يراجع نفسه قبل الإقدام على مثل هذا الفعل. أما عدم وجود نص على أن ذلك الفعل جريمة يجعل الإنسان حراً في أن يفعله أو لا يفعله لأنه فعل مباح.

 

وعلينا أن نلاحظ التعاقد في قوله الحق: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ}. وعندما ننظر إلى معنى: (اللغو) نجده الشيء الذي يجري على اللسان بدون قصد قلبي؛ مثل قول الإنسان في اللغة العامية: لا والله أو: والله أن تأتي للغداء معنا، هذا هو اللغو. أي هو الكلام من غير أن يكون للقلب فيه تصميم. وسبحانه وتعالى قد خلقنا وهو الأعلم بنا علم سبحانه أن هناك كلمات تجري على ألسنتنا لا نعنيها. ودليل ذلك أن الأم التي تحب وحيدها قد تدعو عليه، لكن ذلك بلسانها، أما قلبها فيرفض ذلك. ولهذا يقول المثل الشعبي: أَدْعي على ابني واكره من يقول آمين.
إذن الحق سبحانه وتعالى علم بشريتنا، وعلم أن اللسان قد يأتي بألفاظ لم تمر على قلبه فيقول سبحانه: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} واتبع الحق ذلك: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان}. وساعة نرى كلمة (ولكن) نعرف أن هناك استدراكاً، والاستدراك هو إثبات ما يتوهم نفيه أو نفي ما يتوهم ثبوته. وساعة نرى كلمة (عقَّدتُم) فهي دليل على أنها عملية جزم قلبية، وأن الإنسان قبل أن ينطق بالقسم قد أدار المسألة في ذهنه وخواطره وانتهى إلى هذا الرأي.

 

إذن فاللغو هو مرور كلمة اللسان دون أن تمر علة القلب، وضربنا مثلاً على ذلك وهو دعاء الأم على وحيدها.


ونحن نرى أن هناك ألفاظاً كثيرة تمر على ألسنة قد تؤدي إلى الكفر ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله يضع لنا صدق النية فيقول: (أخطأ من شدة الفرح). قالها رسول الله تعليقاً على رجل قال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك).
هذا هو اللغو ومن رحمة الله بنا أنه يعفو بعميق وواسع رحمته فيقول لنا:
{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان}. وكلمة (عقدتم) دليل على أن اللسان لم يعقد شيئاً فحسب ولكن عقده بإحكام قوي. فساعة تبالغ في الحدث فأنت تأتي له باللفظ الذي يدل على المعنى تماماً بتمكين وتثبيت. وعلى ذلك فكلمة (عقَّد) غير (عَقَدَ) إذن فكلمة (عقَّد) أي أن الإنسان قد صنع عقدة محكمة. ومثال على التأكيد قول الحق سبحانه وتعالى: {وَغَلَّقَتِ الأبواب} [يوسف: 23].
قد يقول قائل: ألم يكن يكفي أن يقول الحق سبحانه: (وغلقت الأبواب)؟ ونقول: لا إن الحق قد أتى بالفعل الذي يؤكد إحكام الإغلاق. فإغلاق الأبواب يختلف من درجة إلى أخرى؛ فهناك غلق للباب بلسان (طبلة) الباب؛ وهناك غلق بالمزلاج، وقوله الحق: {وَغَلَّقَتِ الأبواب} أي أن امرأة العزيز بالغت في غلق الأبواب. وكذلك قوله الحق: {عَقَّدتُّمُ الأيمان}. أي جالت في قلوبكم جولة تُثبِّت صدق نيتكم في الحلف. وهناك صورة أدائية أخرى تلتقي مع هذه الصورة في المعنى، حين قال سبحانه: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225].

ونلاحظ هنا أن القلوب قد كسبت، فما الذي تكسبه القلوب في مثل هذه الحالة؟ نعرف أن الكسب هو وجود حصيلة فوق رأس المال. والكسب الزائد في القسم، هو أن يؤكد الإنسان بقلبه هذا القسم؛ أي أن القسم انعقد باللسان والقلب معاً وسبب نزول آية سورة المائدة {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} أن الصحابة الذين حرموا على أنفسهم طيبات المطاعم والملابس والمناكح وحلفوا على ذلك فلما نزل قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ ما أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 87-88].
قالوا: كيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت هذه الآية أي أن تحريم الحلال لغو لا كفارة فيه

. لكن إن قال: والله لأشربن الخمر. هنا نقول له: امتثل إلى ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} إذن فهناك استدراك يتعلق باليمين المؤكدة وهي تستدعي المؤاخذة. فكيف تكون المؤاخذة وهي عقوبة، على الرغم من أنه لا عقوبة إلا بنص؟ إن الحق سبحانه وتعالى ستر العقوبة ومنعها بالكفارة: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام). والكفارة هي ستر للعقوبة. فهل معنى ذلك أن الإنسان تلزمه الكفارة ما دام قد عقَّد الأيمان؟ لا، تكون الكفارة فقد حين تحنث في القسم فلم تبر فيه. فتكون الكفارة في هذا المجال كالآتي: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، أو صوم ثلاثة أيام لمن لم يجد.

 

والمناسب في الكفارة يختلف في مفهوم المفتين باختلاف الحانث، ومثال ذلك أن خليفة في الأندلس حلف يميناً وأراد أن يؤدي عن اليمين كفارة، فجاء إلى القاضي منذر بن سعيد وسأله عن كفارة هذه اليمين؛ فقال: لابد أن تصوم ثلاثة أيام. وكان يجلس شخص آخر فأشار للقاضي إشارة فلم يعبأ القاضي منذر بن سعيد بتلك الإشارة. وخرج القاضي ومعه ذلك الشخص، فسأل القاضي: يا أبا سعيد، إن في نفسي شيئاً من فتواك؛ لماذا لم تقل للخليفة إن كفارة اليمين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين؟ فقال القاضي منذر بن سعيد: أمثل أمير المؤمنين يزجر بعتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين؟
وهذا يدلنا على أن القاضي منذر بن سعيد قد أجهد نفسه ليختار الكفارة التي تزجر. وهذا يعلمنا أن الكفارة في جانب منها زجر للنفس وفي جانب آخر جبر للذنب. وقد رجح القاضي منذر بن سعيد جانب الزجر على جانب جبر الذنب؛ لأن الخليفة لن يرهقه إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق أكثر من رقبة.

 

وفي الإطعام لعشرة مساكين من أواسط ما نطعم به الأهل، قد يقول قائل: هل الأوسطية هنا للكمية أو الكيفية؟ ونقول: يراعى فيها الكمية والكيفية. فإن كانت وجبة الإنسان مكونة من رغيف واحد فليعرف أن مِن أهله من يأكل في الوجبة الواحدة ثلاثة أرغفة فيكون الأوسط في مثل هذه الحالة رغيفين مع ما يكون من أدم كلحم ودسم. وكذلك الكسوة؛ أن يكسو الإنسان الذي يكفر عن يمين عشرة مساكين بما يستر العورة وتصح به الصلاة؛ كإزار ورداء أو قميص وعمامة، أو أي ملابس تسترهم. وها نحن أولاء نجد أن كفارة تحرير رقبة تأتي في المرتبة قبل الأخيرة ويأتي بعدها قول الحق: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ}. إذن فالحق لم يرتب الكفارة وإنما علينا أن نختار منها الكفارة الملائمة.
 

ويأتي الحق من بعد ذلك بالقول: {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} والحفظ هو عدم التضييع. أما كيف نحفظ أيماننا؟ فنقول: إن على الإنسان ألا يجري اليمين على لسانه، هذه واحدة. والثانية: أن يحاول الإنسان ألا يحنث في اليمين. وهذا يقتضي ألا يحلف الإنسان على شيء يقوله بلسانه ويخضعه لقلبه إى إذا كان على ثقة من أنه سيجند كل جوارحه للقيام بهذا العمل الذي أقسم أن يقوم به، وهذا هو معنى قوله الحق: {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ}.
 

ويذيل الحق الآية الكريمة: {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. والشكر هو الثناء من المّنعم عليه على المُنْعِمِ بالنعمة، فكأن هذه التشريعات تستحق منا الشكر؛ لأنها جعلت اللغو غير مؤاخذ عليه، ولأنها جعلت اليمين الذي عقَّدته له كفارة، وفي كل من الأمرين تيسير يستحق الشكر لله.

 

نداء الايمان

تفسير الشيخ الشعراوى

 

image.png.dd30bbc1ac047c3b7d05e32cc29a49fe.png

 

كفارة اليمين علي المذاهب الأربعة

 

[مبحث في كيفية كفارة اليمين]كفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، ولا ترتيب بين واحد منها، فهو مخير بين أن يفعل أيها شاء، فإن عجز عنها ولم يستطع أن يفعل واحداً منها فإنه يصوم ثلاثة أيام، ولا يجزي الصيام إلا بعد العجز عن فعل واحد من الأمور الثلاثة، فكفارة اليمين فيها تخيير. وترتيبن فالحالف مخير بين أن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم أو يحرر رقبة، وليس مخيراً في الصيام، أما بيان كل واحد من الثلاث المذكورة وشروطها ففيه تفصيل المذاهب

 

١) الحنفية - قالوا: يشترط في الإطعام شروط: الأول: أن يعطي كل مسكين من العشرة نصف صاع من بر، أو صاع من تمر، أو شعير أو قيمة ذلك، ودقيق البر كحبه يجزئ منه نصف صاع،

ودقيق الشعير كحبه يجزئ منه الصاع، وكل جنس من الطعام منصوص عليه لا يصلح أن يكون بدلاً عن جنس آخر منصوص عليه، ولو كان أكثر منه قيمة، فلو أدى نصف صاع من تمر جيد يساوي في القيمة أكثر من صاع من البر لا يجزئه، ونصف الصاع هو قدح وثلث، ومثل التمليك الإباحة بأن يغدي كل واحد من العشرة ويعيشهم.
الثاني: أن لا يعطي الكفارة كلها لمسكين واحد في يوم دفعة واحدة أو متفرقة على عشر مرات، فلو أعطاه كل ساعة نصف صاع لم يجزئه، أما إذا أعطاه كل يوم نصف صاع بحيث يعطيه القيمة في عشرة ايام فإنه يجزئه، لأن تجدد الحاجة كل يوم يجعله كمسكين آخر، فكأنه صرف القيمة لعشرة مساكين.
الثالث: يشترط أن يغدي كل مسكين من العشرة ويعشيه، أما إذا غدى واحداً وعشى واحداً آخر غيره وهكذا لم يجزئه، لأنه يكون قد فرق طعام العشرة على عشرين وهو لا يصح كما لا يصح أن يفرق طعام المسكين الواحد على مسكينين إلا إذا ألغى ما أعطاه لبعضهم وكمل للآخرين، ولو غدى مسكيناً وأعطاه قيمة العضاء أجزأه.
الرابع: يشترط وجود الغداء والعشاء في يوم واحد، فلو غدى واحداً في يوم وعشاه في يوم آخر فإنه لا يجزئه، وقيل يجزئه، وعلى هذا فلو أخرج الكفارة في رمضان واستبدل الغداء بالعشاء في ليلة أخرى أجزاه.
الخامس: يشترط الإدام في خبز الشعير والذرة ليمكنه أن يشبع، بخلاف خبر البر فإنه لا يشترط فيه ذلك ولكنه يستحب فيه الإدام.
السادس: يشترط أن لا يكون في تلك العشرة طفل فطيم، وأن لا يكون فيهم واحد شبعان قبل الأكل.
وأما الكسوة فيشترط فيها أمور: أحدها أن يكون الثوب مما يصلح للأوساط. ثانيها أن يكون قوياً بحيث يمكن الانتفاع به فوق ثلاثة أشهر، فلو كان قديماً أو جديداً رقيقاً لا ينتفع به هذه المدة فإنه لا يجزئ. ثالثها أن يستر البدن كله أو أكثره فيجزئ الملاءة والجبة والقميص والرداء والقباء والإزار إذا كان سابلاً يتوشح به، ولا تجزئ العمامة ولا السراويل على الصحيح. ولا بد للمرأة من خمار مع الثوب، وإذا أعطى لفقير كسوة لا تستر أكثر بدنه كالسراويل وكانت قيمتها تساوي قيمة الإطعام "نصف صاع من بر، أو صاع من تمر كما تقدم" فإنها تجزئ. ولا يشترط أن ينوي بالكسوة الإطعام على الظاهر من المذهب أما النية فإنها شرط لصحة التكفير في ذاته، وتصح في الإطعام بالتمليك والكسوة قبل الدفع وبعده ما دامت الصدقة باقية في يد الفقير، أما الإطعام بالإباحة بأن كانوا عنده فأكلوا ثم نوى ذلك التكفير فإنه لا يجزئه، لأن الطعام لم يبق في يد الفقير في هذه الحالة. وكذلك التكفير بالعتق فإنه لا يتصور فيه النية بعد التكفير، فإذا أعتق عبده ثم نوى التكفير بعد العتق فإنه لا يجزئ، ولا يصح أن يعطي من هذه الكفارة من لا يجزئه أن يعطيه من زكاة المال إلا فقراء أهل الذمة، فإنه يصلح أن يعطيهم من هذه الكفارة، وفقراء أهل الإسلام أحب.
ويشترط لصحة الكفارة بالعتق: أن يعتق رقبة كاملة الرق، وأن تكون في ملكه. وأن يكون مقروناً بالنية كما ذكر، ولا يشترط في الرقبة الإيمان.
أما الصيام فهو أن يصوم ثلاثة أيام متتابعة، فلو حاضت المرأة أثناء صومها بطلت الكفارة ويشترط لصحة الكفارة به أن يعجز عن فعل واحد من الثلاثة كما مر، ويعتبر العجز وقت الأداء لا وقت الحنث، فلو كان معه مال وقت الحنث ثم ذهب وصام، ثم رجع له الماء فإن الصيام يجزئه، لأنه كان عاجزاً وقت الأداء، ويشترط أيضاً أن يستمر العجز إلى الفراغ من الصوم، فلو صام المعسر يومين ثم حصل على المال قبل صيام الثالث لم يجزئه الصيام، ويعد قادراً من يملك الكفارة زائدة على الكفاف. والكفاف هو م نزل يسكنه، وثوب يلبسه ويستر عورته وقوت يومه، وإذا كان له مال وعليه دين مثله فإن قضى به دينه قبل أن يكفر صام، وإن لم يقض به دينه فقيل: يكفر بالمال، وقيل: يصوم، وللزوج أن يمنع زوجه المعسرة من الصوم.

 

 

المالكية - قالوا: يشترط في الإطعام شروط: أولاً: أن يملك المسكين أو الفقير مداً وهو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، ويقدر بالكيل بثلث قدح مصري كما تقدم في كفارة الصيام. ويشترط أن يكون من الأنواع التي تخرج في زكاة الفطر وهي تسعة: القمح، والشعير، والسلت، والزبيب، والدخن، والذرة، والأرز، والأقط "وهو لبن يابس خال من الزبد". ويندب الزيادة على المد لغير سكان المدينة، أما هم فلا يندب لهم لقلة مالهم، أو بملكهم رطلين من الخبز بالرطل البغدادي وهو أصغر من الرطل المصري قليلاً، ويجزئ الخبز بلا إدام على الراجح لكن يندب الإدام. والتمر والبقل إدام، ويجزئ أيضاً أن يشبعهم مرتين غداء أو عشاء أو غداءين أو عشاءين، سواء توالت المرتين أو لا، فصل بينهما بطول أو لا، وسواء أطعم العشرة مجتمعين أو متفرقين، متساوين في الأكل أو لا، واشترط بعضهم تقاربهم في الأكل.
ثانياً: يشترط في المساكين الحرية، والإسلام، وعدم لزوم نفقة على المخرج، فلا يجوز أن يدفع منها الرجل لزوجه أو ولده الفقير، ويجوز أن تدفع الزوج منها لزوجها وولدها الفقير، لأنها لا تلزمها نفقتهما.
ثالثاً: يشترط أن لا يكرر الإعطاء فلا يجوز أن يطعم واحداً عشرة أمداد في عشرة أيام كما يقول الحنفية، وهذا شرط في الكسوة أيضاً.
رابعاً: يشترط أن لا ينقص الحصص، بل لا بد أن يعطي كل مسكين حصة كاملة، فلا يجوز أن يعطي عشرين مسكيناً عشرة أمداد لكل واحد نصف مد، غلا أن يكمل لعشرة منهم ما نقص بأن يعطي لكل واحد منهم نصف مد آخر.

خامساً: يشترط أن لا تكون ملفقة من نوعين فأكثر، فلا يجوز أن يخرج بعض الكفارة طعاماً والبعض الآخر كسوة، فلو أطعم خمسة وكسا خمسة لا يجزئه إلا إذا ألغى ما أعطاه لخمسة منهم، فإذا ألغى الكسوة وجب عليه أن يطعم خمسة آخرين وبالعكس: نعم يجوز التلفيق من صنف نوع واحد بأن يعطي بعضهم أمداداً والبعض الآخر أرطالاً، ولا يشترط بقاء الصدقة في يد الفقير في الملفقة، بل يكملها ولو ذهب ما أخذه الفقير من يده. ومثلها المكررة وهي التي صرفت لأقل من عشرة، أما تكميل الناقصة وهي التي صرفت لأكثر من عشرة، فبعضهم يشترط أن يبقى ما أخذ الفقير بيده، ولكن الراجح عدم اشتراط ذلك، ويشترط في الكسوة أن تكون في حَق الرجل ثوباً يستر جميع بدنه أو إزاراً يمكن أن يشتمل به في الصلاة فلا تجزئ العمامة ولا الإزار الذي لا يمكن الاشتمال به في الصلاة، وأن تكون في حَق المرأة قميصاً ساتراً وخماراً، ولا يشترط في الكسوة أن تكون من كسوة وسط أهل بلده، بل تكفي ولو كانت أقل من كسوة الوسد، أما الطعام فيشترط فيه أن يكون من عيش أهل البلد لا عيش المكفر على المعتمد، وإذا أراد أن يكسو صغيراً فإنه يلزم أن يعطيه ما يعطي الكبير على المعتمد، وكذلك إذا أراد أن يطعمه فإنه يعطيه ما يعطي الكبير، ولو كان يستغني به عن اللبن، فلا بد من أن يعطيه مداً أو رطلين من الخبز كالكبير وهذا هو المعتمد، ويشترط في العتق أن يعتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب؛ فإذا عجز وقت الإخراج عن هذه الأمور الثلاثة: الإطعام والكسوة والكفارة، بأن لم يكن عنده ما يباع على المفلس صام ثلاثة أيام ولا يجب تتابعها بل يندب.
 

الشافعية - قالوا: يشترط في الإطعام شروط: أولاً: أن يعطي كل مسكين من العشرة مداً من الطعام "وهو رطل وثلث" أو نصف قدح مصري وثمن كيلة، والرطل المعتبر مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم، ثانياً: يشترط أن يكون الطعام من قوت غالب أهل بلد حالف اليمين، سواء كفر عن نفسه أو كفر عنه غيره، وقيل: إذا كفر عنه غيره فالعبرة بقوت بلد المكفر، فلا يجزئ التمر والأقط "وهو لبن يابس أخرج زبده" ما لم يكن قوت غالب أهل البلد المبين في صدقة الفطر، وترتب في الأفضلية هكذا: البر، فالسلت "الشعير النبوي"، فالشعير فلذرة، فالأرز، فالحمص، فالعدس، فالفول، فالتمر، فالزبيب، فالأقط، فاللبن، فالجبن. وإذا اعتاد غالب أهل البلد أكل غير الأقوات المفصلة في صدقة الفطر كاللحم مثلاً، فإنه لا يجزئ في الكفارة.
ثالثا: يشترط أن يعطي لكل واحد منهم مداً كاملاً، فلو أعطى العشرة أمداد لأحد عشر مسكيناً لم يكف. وكذا لا يكفي أن يعطي العشرة لخمسة ولا يكفي أن يعطي خمسة طعاماً، وخمسة كسوة ويشترط في الكسوة أن تكون شيئاً مما يسمى كسوة مما يعتاد لبسه كقميص أو عمامة أو خمار "طرحة" أو كساء "حرام" أو فوطة "منشفة". فلو اشترط عشرة منها وفرقها على عشرة مساكين تكفي. فلا يكفي - الخف ولا القفاز "وهو ما يلبس في اليد" ولا النعل، ولا المنطقة، ولا القلنسوة "وهي ما يغطى به الرأس كالطاقية"، ويشترط أن يكون قوياً يمكن الانتفاع به. ولا يشترط أن يكون جديداً بل يجزئ الملبوس ولو مغسولاً ما لم يكن بالياً ويشترط في العتق أن يكون المعتق رقبة مؤمنة سليمة من عيب

يخل بعمل أو كسب، فإن عجز عن الثلاثة بأن لم يجد شيئاً زائدا على ما يكفي العمر الغالب له ولمن يمونه ولو كان مالكاً للنصاب، لأن النصاب قد لا يكفيه العمر الغالب له ولممونه، فإنه في هذه الحالة يكفر بالصوم وهو صيام ثلاثة أيام بشرط أن ينوي الكفارة ولا يشترط تتابعها على الأظهر.
 

الحنابلة - قالوا: يشترط في الإطعام أن يطعم عشرة مساكين مسلمين أحراراً ولو صغاراً بأن يملكهم مداً من قمح "وهو رطل وثلث بالعراقي، والرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهماً" أو نصف صاع من تمر، أو شعير، أو زبيب، أو اقط "وهو اللبن المجمد"، ونص الصاع بالكيل المصري: قدح، ولا يجوز أن يكعمهم خبرزاً أو يطعمهم حباً معيباً "مسوساً أو قديماً أو مبلولاً ونحو ذلك" ويشترط أن لا يكون في المساكين من تلزمه نفقته كزوجه وأخته الي لا يعولها غيره، ولا من هو أصل أو فرع له كما تقدم بيانه في كفارة الصوم.
ويشترط في الكسوة أن تستر العورة المشترط سترها في الصلاة، فيعطي للرجل ثوباً ولو قديماً ما لم تذهب قوته؛ فإنه بلي وذهبت قوته فإنه لا ينفع. أو قميصاً يصلي فيه الفرض بأن يزيد منه شيء على ستر العورة، فلا يجزئ مئزر واحد، لأن الفرض لا يصح فيه. وتجزئ السراويل ويعطي للمرأة قميصاً ساتراً وخمارً يجزئها أن تصلي فيه. فإذا أعطاها ثوباً واحداً يستر بدنها ورأسها أجزأه.
ولا يشترط أن يتكون الكفارة من جنس واحد. فله أن يطعم بعضهم قمحاً والآخر تمراً كما يجوز أن يطعم البعض ويكسو البعض الآخر.
ويشترط في العتق أن يعتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب، فإن عجز عن الإطعام والكسوة والعتق فصيام ثلاثة أيام متتابعة إن لم يكن عذر يسقط به التتابع كالحيض، وإنما تجب الكفارة بغير الصوم فيما زاد عن حاجته الأصلية الصالحة لمثله، كدار يحتاج لسكناها، ودابة يحتاج لركوبها وخادم يحتاج لخدمته. فإن كان له شيء يحتاج إليه كتجارة تختل إذا أخرج منها الكفارة، أو أثاث يحتاج إليه أو حلي امرأة ونحو ذلك فإنه لا يلزم ببيع شيء منه ويكفر بالصوم

 

رابط الموضوع

https://shamela.ws/book/9849/727

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)}


ساعة تسمع كلمة: (إنما) فاعلم أنهم يسمونها في اللغة (أداة قصر) كقولنا: إنما زيد مجتهد، وهذا يعني أننا قَصِرَنْا زيداً على الاجتهاد. لكن إذا قلنا: إنما المجتهد زيد، فنحن في هذه الحالة قَصَرْنا الاجتهاد على زيد. وساعة تقصر إنساناً على وصف فذلك يسمونه: (قصر موصوف على صفة)، وعندما نقول: إنما زيد شاعر. فهذا يعني أن زيداً شاعر فقط وهو ليس بكاتب أو خطيب. أما إن قلت: إنما الشاعر زيد، فهذا يعني أنه لا يوجد شاعر إلا زيد؛ فكأنك نفيت عن الآخرين أنهم شعراء، وأن زيداً فقط هو الشاعر ويحتمل أن يكون كاتباً وخطيباً وعالماً مع كونه شاعراً. إذن فساعة ترى (إنما) فاعرف أنها أداة من أدوات القصر.
والحق سبحانه يقول هنا: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

 

أي أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام كلها رجس من عمل الشيطان. والرجس هو الشيء الرديء الخبيث القذر. والقذارة والخبث هما من الأمور التي قد تكون حسية مثل الخمر، وقد تكون معنوية كالأنصاب والأزلام؛ وجمع الحق سبحانه في هذه الآية الأمرين معاً. ولم يقل إن الخمر هي عصير العنب أو عصير التفاح، إنما جاء بالخمر التي تشمل كل ما يخامر العقل ويستره. وتعجب بعض العلماء من أن هذه الآية نزلت في البلاد التي ليس فيها شيء من عصير العنب، ذلك أنهم ظنوا أن عصير العنب فقط هو الذي يستر العقل، لكن الحق جاء بالتحريم الشامل لكل ما يستر العقل. لماذا إذن تكون الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجساً من عمل الشيطان؟
 

إنّ الحق سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض وسخر له كل شيء في الوجود وطلب منه أن يعبده وحده وأن يعمر هذه الأرض. وأراد الحق أن يضمن للإنسان سلامة أشياء متعددة؛ سلامة نفسه فلا يُعتدي عليها بالقتل أو غير ذلك، وسلامة عقله فلا يُجنى عليه بما يستر آلية الاختيار بين البدائل، وسلامة عرضه فلا يَلغ فيه أحد وحتى تأتي الأنسال التي تعمر الكون وهي أنسال طاهرة، وسلامة ماله حتى يحفظ على الإنسان أثر حركته في الحياة وحتى لا يأخذ غيره أثر حركته، وذلك حتى لا يزهد العامل في العمل ولا يعود الطاقات أن تأخذ من غير عملها فتكسل وتتواكل، فالإنسان إذا ما اعتاد أن يأخذ من غير عمل صار العمل صعباً عليه، وهكذا كانت صيانة المال لا تبدد طاقة ولا تهدر حقا، ولا تعطي غير ذي حق حقا لغيره، وهكذا حتى لا يشيع العجز الاصطناعي في الكون.
ولذلك قال الحق وهو مانح كل مال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245].
أي أنه- وهو المانح سبحانه وتعالى- قد احترم حركة الإنسان فلا يستمرئ أحد البطالة. وعندما تنتشر البطالة في الإسلام يعالج الأمر بحكمة بالغة؛ فهو يطلب من الوالي أن يسبب لهم الأسباب ليعملوا. وذلك حتى لا يتعودوا على الأخذ بغير عمل لئلا تكون مصيبة على المجتمع. وأراد سبحانه بالشريعة السمحاء أن يحمي الإنسان من كل ما يبدده، فحينما حرم الخمر، أي منع عن الإنسان ستر العقل، ذلك أن ميزة الإنسان على الحيوان هي العقل.

 

إن الإنسان يختلف عن الحيوان بأنه يحفظ حياته بالعقل، أما الحيوان فيحفظ حياته بالغريزة. ولذلك فالحيوان لا يملك إلا رداً واحداً إذا ما تم الاعتداء عليه؛ الكلب يعض المعتدي والقطة تخمش المعتدي، أما الإنسان فعندما يعتدي عليه أحد فهو يختار بين بدائل للرد على العدوان، إما أن يضرب وإما يقتل وإما أن يسامح.
 

ومثال لذلك نراه في الريف، عندما يحاول راكب الحمار أن يجبر الحمار على القفز على قناة صغيرة فيها مياه يرفض الحمار ذلك تماماً ومهما ضربه راكبه فهو يرفض القفز؛ لأن غريزته تمنعه من ذلك. أما الإنسان فقد ينتابه الغرور ويظن أنه قادر على القفز فوق القناة فيقفز لكنه قد يقع في المياه. وتوجد المجازفة عند الإنسان، لكنها لا توجد عند الحيوان بمقتضى الغريزة.
 

ومثال آخر من عالم الحيوان. نجد ذكر الجاموس يقترب من الأنثى ليشمها فإن وجدها حاملاً لا يقربها، هكذا الحيوان. أما الإنسان فلا. والحمار يتناول طعامه من البرسيم مثلا ما يشبعه ولا يزيد أبداً في الطعام مهما ضربه صاحبه؛ لأنه محكوم بالغريزة، أما الإنسان فقد يأكل فوق طاقته.
 

وهكذا نجد الغريزة هي التي تعصم الحيوان، والعقل هو الذي يعصم الإنسان. ولذلك لا يملك الحيوان القدرة على الاختيار، ولكن ميزان غرائزه لا يختل أبداً. أما ميزان الغرائز عند الإنسان فقد يختل.
لقد ميز الله الإنسان عن الحيوان بالاختيار بين البدائل بالعقل، ولذلك لا يصح ولا يستقيم من الإنسان أن يطمس هذه القدرة بالخمر. فإن طمس قدرة الاختيار، فإن غرائزه في هذه الحالة لا تنفعه لأنها غير مؤهلة لحمايته، ولذلك نجد الذي يطمس عقله يضع نفسه في مرتبة أقل من الحيوان؛ لأن الحيوان تحميه الغريزة، والإنسان يحفظه عقله، وهو في هذه الحالة قد طمسه وغطاه، وقد حرم الله الخمر لأنها تستر العقل. وكل ما يستر العقل خمر ولو كان أصله حلالاً؛ وذلك لأن العقل هو مناط التكليف. وكذلك حرم الله الميسر.

 

ولنر دقة الاسم الذي اختاره الله للقمار، إنه (الميْسر) ولم يسمه (المعسر) ذلك أن أحداً لا يقبل على الميسر وهو يظن أنه سوف يخسر، وكل من يلعبون القمار إنما يفعلون ذلك على أمل الكسب؛ لذلك جاء بالاسم الذي يعبر عن حالة اللاعب للقمار إنه يلعب على وهم الكسب، وإن كسب فالمكسب يُغْريه بالمزيد من اللعب.

والخسران يغري باللعب أكثر لعل كسباً يعرض الخسارة التي مني بها، وقد يبيع اللاعب للميسر كل ما يملك كي يعوض خسارته ومع ذلك فالكسب من الميسر هين على النفس تبدده وتنفقه فيما لا ينفع بل قد ينفقه فيما يضر، فالمكسب ليس له والخسارة محسوبة عليه. والذين يلعبون الميسر مع بعضهم لا تربطهم صداقة أو محبة. فكل منهم حريص على أن يأخذ ما في جيب الآخر. وهذا اللون من اللعب يعطل القدرة على الكسب الحلال؛ لأن الكسب الحلال يحتاج إلى حركة في الكون. والميسر يشل حركة الكاسب لأنه يزهد في العمل. والخسران يشل حركة الخاسر لأنه مهما سعى في الأرض فقد لا يستطيع أن يسدد ديونه.
 

إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن للناس ألا ينتفع أحد بشيء إلا نتيجة كده وعمله. والحق يريد أن يكون جسد كل إنسان من ناتج عرقه في عمل مشروع وكذلك أجساد من يعول. وأبلغنا أيضاً أن الأنصاب رجس من عمل الشيطان. والأنصاب ثلاثة قداح كانت توجد عند الكاهن؛ قدْح مكتوب عليه أمرني ربي، والقدح الثاني: مكتوب عليه نهاني ربي، والقدح الثالث: غفل من الكتابة أي خال منها فلا علامة فيه. فإن كان في نية إنسان السفر أو الزواج أو التجارة فهو يذهب إلى الكاهن ليضرب له هذه القداح. فإن خرج القدح المكتوب عليه أمرني ربي فعل.
 

وإن خرج نهاني ربي لم يفعل. أما أن خرج القدح الغفل فهو يعيد ضرب القداح حتى يخرج أحد القدحين: إما الذي يحمل الأمر، وإما الذي يحمل النهي. ولم يتساءل أحد لماذا عندما يخرج القدح الغفل لا يعتبر أن هذا أمر خارج عن نطاق التحريم. ويؤخذ على أنه إباحة واختيار يعمل أو لا يعمل. لقد أنساهم الحق ذلك حتى يدلنا على أن ذلك أمر كاذب جاء به الكهنة من عندهم. فإن سألهم سائل: من الإله الذي أمر ونهى؟ هنا يقول القائل منهم: الله هو الذي أمر وهو الذي نهى.(والله يعلم إنهم لكاذبون).
 

والحق سبحانه وتعالى حين ينهانا عن تلك الأمور فهو يريد للإنسان أن ينمي ملكة الاختيار بين البدائل. وعلى الإنسان أن يستنبط وأن يحلل وأن يعرف المقدمات فيدرسها ويحلل الخطوات ليصل إلى النتائج. لا أن يعطل القوة المدركة التي تختار بين البديلات، فالخمر تستر العقل، وكذلك الميسر يضع الإنسان بين فكي الوهم، وكذلك الأنصاب تعطل القدرة على السعي والرضوخ للكهنة. وعندما تسأل شارب الخمر: لماذا تشربها؟ يجيب: إنني أريد أن أستر همومي. وستر الهموم.
لا يعني إنهاءها. ولكن مواجهة الهموم هي التي تنهي الهموم بالأسباب المتاحة للإنسان. فإن لم تقو أسبابك فالجأ إلى المسبب في إطار قول الحق: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62].

 

وعندما تستنفد أسبابك وتلجأ إلى الله فهو يعينك على الأمر الشاق المسبب للهموم. ولنا في الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة. فقد كان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة. ومعنى (حزبه) أي خرج عن نطاق أسبابه. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى رب الأسباب. وقد نجد من يقول: إنني أدعو الله كثيراً ولكنه لا يستجيب لي.
ونقول: إما لأنك قد دعوت في غير اضطرار، وإما لأنك لم تلفت إلى الأسباب، وأنت حين تتجنب الأسباب فأنت ترفض يد الله الممدودة لك بالأسباب. وأنا أتحدى أن يوجد مضطر أنهى الأسباب، ولا يأتي له الفرج. وأنت حين تدعو بحاجة وتتأخر عليك، نقول لك: إنك دعوت بغير اضطرار.
وكثيراً ما أضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى المنزه دائماً- وأقول: هب أن تاجراً من تجار الجملة الكبار يجلس أمام المخازن التي يملكها وجاءت السيارات الشاحنة بصناديق بضائعه. والعمال يحملون البضائع ليضعوها في المخازن. وفجأة رأى عاملاً من عماله يكاد يقع بالصندوق الذي يحمله، هنا نجد التاجر يهب بلا شعور لنجدة العامل. فما بالنا بالحق الذي خلق لنا الأسباب؟ إنك إن استنفدت الأسباب فإن الله يعينك مصداقاً لقوله: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء} [النمل: 62].

 

إذن فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان. والأزلام هي نوع من الميسر؛ فقد كانوا يحضرون الناقة أو الجزور ويذبحونها ويقسمونها إلى ثمانية وعشرين قسماً ويخصصون لإنسان نصيباً وللثاني نصيبين وللثالث ثلاثة أنصبة، وللرابع أربعة أنصبة وللخامس خمسة أنصبة، وللسادس ستة أنصبة، والسابع له سبعة أنصبة. وكانوا يأتون بالقِداح السبعة. قدح اسمه (الفذ) ويأخذ الفائز به نصيباً، والقدح الثاني: (التوأم) ويأخذ نصيبين، والقدح الثالث اسمه (الرقيب) يأخذ ثلاثة. والقدح الرابع اسمه (المُسْبِل) ويأخذ ستة. والسابع اسمه (المُعَلَّى) ويأخذ سبعة أنصبة. وهناك ثلاثة قداح هي المنيح والسفيح والوَغْد، وهؤلاء الثلاثة لا يأخذون شيئا بل يدفعون ثمن الذبيحة. وذلك رجس من عمل الشيطان.
 

إن النفس العاقلة لا تقبل على مثل هذه الأعمال، بل لابد أن يحرك أحد تلك الأطماع، ذلك أن المخالفات إنما تنشأ من أمرين؛ إما أن تكون من النفس، وإما أن تكون من الشيطان. والمخالفة التي تكون من النفس هي التي تحقق شهوة من نوع خاص بحيث إذا زحزحت النفس عنها فهي تريدها. والمخالفة التي من نزغ الشيطان تختلف، فقد يوعز الشيطان لإنسان بالسرقة، فيرفض، فيعرف الشيطان أن لهذا الإنسان مناعة ضد هذه المعصية، فيوعز بمعصية أخرى، فإذا وجد مناعة انتقل إلى معصية ثالثة؛ لأن وسوسة الشيطان تطلب الإنسان عاصياً على أي لون من الألوان.
 

فإذا وقفت عند معصية بذاتها فاعلم أن ذلك من عمل نفسك، وإن انتقلت بالوسوسة من معصية عزت على الشيطان إلى معصية أخرى فاعلم أنها من عمل الشيطان ولا دخل للنفس بها. والعاقل الذي يتمعن في كل تلك المسائل المحرمة يرى أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام هي أمور لا تستطيبها النفس غير المنزوعة من الشيطان، فكأن قوله الحق: {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان} يدلنا على أن العاقل لا يمكن أن يصنع هذه الأشياء.
 

ويذيل الحق الآية: {فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ويأمرنا سبحانه باجتناب الرجس الذي جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، والاجتناب هو أن يعطي الإنسان الشيء المجْتَنَب جانَبَه، أي المنع للذرائع والأسباب والسد لها؛ لأنك إن لم تجتنبها فمن الجائز أن قربك منها يغريك بارتكابها. وبعض الناس يظنون أن الخمر لم يأت لها تحريم وإنما جاء الأمر فيها بالاجتناب.
 

ونقول لهم: إن التحريم هو النص بعدم احتسائها، وأما الاجتناب فهو أقوى من التحريم لأنه أمر بعدم الوجود في مكانها. فإذا كان الحق قد قال في قمة العقائد: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30].
فقد قال هنا اجتنبوا الرجس الذي يجمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. والحق سبحانه وتعالى واجه العادات التي شاعت قبل الإسلام ليخلع الفاسد منها ولم يجابهها دفعة واحدة وذلك لتعليق النفس بها والإلف لها، وإنما كان التحريم لها بالتدريج. لقد حزم الإسلام الأمر أولاً في مسائل العقائد، أما الأمور التي تترتب على إلف العادة فكان تحريمها على مراحل.

 

وحين يقول الحق سبحانه وتعالى عن شيء إنه: (رجس)، فذلك حكم الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ونحن نقبل هذا الحكم حتى ولو لم نفهم نحن معنى الرجس، أو لم نتأكد مادياً من أن الشيء المحرم هو من الرجس، ذلك أنه يكفي في ذلك حكم الله الذي يرضخ له العبد المؤمن الذي قبل التكليف من ربه؛ لأن ربه مُؤتمن على كل مصالحه. وما دام الحق قد قال عن شيء إنه رجس، فهو رجس ولا جدال في ذلك.
 

أقول ذلك لأن بعضاً يظل متصيداً لأي ثغرة مفتعلة متسائلا: كيف يكون ذلك العمل أو ذلك الشيء من الرجس؟ ونقول: إننا نرضخ لحكم الله تعالى وننفذ ما أمر به، فهو إله مأمون على كل الخلق، وتثبت لنا الأيام دائماً صدق قول الحق في أن الأشياء التي قال عنها سبحانه إنها رجس، هي من الرجس فعلاً، فحين يقول سبحانه لخلقه: افعلوا كذا، لا نسأله: وما علة ذلك التكليف، ولكننا ننفذ أمر الحق، ونكتشف في أعماقنا فائدة ذلك التكليف.
 

أما عندما يكلفنا عبد مساوٍ لنا بشيء فلابد أن نسأل: لماذا؟ والعبد المساوى لنا عليه أن يقدم لنا العلة لأي فعل يطلب منا القيام به، ولكننا لا نسأل الله عن علة التكليف لنا؛ لأننا نؤمن بأنه إله حكيم، والأيام ستثبت لنا أن قول الله حق. ومثال على ذلك نجد أن الذي لا يشرب الخمر امتثالاً لنهي الله عن ذلك الفعل، هو إنسان مستقيم السلوك، طاهر القصد، ولا يتأتى منه نشاز في الكون. أما الذي يشرب الخمر فهو معوج السلوك، غير طاهر القصد، ويتأتى منه نشاز في الكون. وقد أثبتت التجربة أن شارب الخمر إنما يصاب بأمراض في الكبد ويعاني من ارتباك في إدارة حياته وكلماته. نحن نقرأ قول الله سبحانه: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} [البقرة: 282].
والتقوى- كما علمنا- أن نجعل بيننا وبين غضب الله وقاية؛ لذلك نفعل ما أمرنا به. وحين نفعل أوامر الإله الحق فإننا نتعلم حكم الله في الفعل. ومثال ذلك قوله الحق: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45].

 

ونحن نعرف كيف تنهانا الصلاة عن الفحشاء والمنكر؛ لأننا نسلم وجوهنا وقلوبنا الله فننفذ ما أمر به. وكذلك نجد في الزكاة نماء. ونجد الحج يصفي النفس من أي كبر ويغسل الذنوب. وكل فعل أمر به الحق نجد له الأثر في نفوسنا بعد أن نقوم به. أما إن فعلت الحكم للعلة فذلك يبعد بك عن مرتبة الإيمان.
 

ونجد أن الطبيب يأتي لشارب الخمر بصورة ملتقطة للكبد بواسطة الموجات الصوتية أو الأشعة فيجد شارب الخمر صورة كبده وقد امتلأت بالتهرؤ وصارت عرضة لأمراض كثيرة ثقيلة وربما تعطلت وظائف الكبد في بعض الأحيان، وهنا يأمر الطبيب شارب الخمر أن يمتنع عن شرب الخمر. فهل امتناع شارب الخمر في مثل هذه الحالة هو امتناع بسبب الإيمان أو بسبب الأمر الطبي؟ إنه امتناع بسبب الأمر الطبي، ويستوي في ذلك المسلم العاصي والكافر. ولكن المؤمن الذي يمتنع عن شرب الخمر ابتداءً، فهو قد امتنع لا لعلة الأمر ولكن لأن الأمر من الله، وهو يتبع أوامر الحق دون سؤال عن العلة. والمؤمن يأخذ الحكم من الله دون طلب تعليل منه ليشرح له أسباب المنع في سلوكه.
 

والحق سبحانه قال: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} والعداوة المسبقة بين الشيطان وأبينا آدم عليه السلام بينها سبحانه بقوله للملائكة: {اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} [البقرة: 34].
 

وكان الشيطان موجوداً مع الملائكة، وكان الأولى أن يسجد هو؛ لأن الأمر إذا كان للجنس الأعلى وهو الملائكة، فيجب أن ينسحب على الأدنى، لكنه عصى وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [البقرة: 61].
إذن فالعداوة مسبقة بين آدم والشيطان، فكيف إذن نقبل نحن أبناء آدم وسوسته؟ وكيف نقبل نزغه؟ وكيف نقبل إغراءه؟ لابد إذن أن نتجنب ذلك لأنه رجس ومن عمل الشيطان، حتى ننجو من كل سوء، ويأتي لنا كل فلاح.

 

نداء الايمان

 

image.png.c29a70d8798226e824a6afd7fee37653.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}


لم يأت الحق هنا بالأنصاب أو الأزلام؛ لأن المؤمنين لا يعتقدون فيها وانتهوا منا، والخطاب هنا موجه للمؤمنين.

( الأنصاب والأزلام، الأنصاب: شيء ينصب يذبح عليه المشركون ويتقربون لأصنامهم بالذبائح، والأزلام: أشياء يقسمون بها، أشياء يقال لها: السهام، من أنواع الخشب يكتبون عليها افعل ولا تفعل، والثالث يكتبون عليه غفل ما عليه شيء، لا يكتب عليه شيء، فإذا أرادوا أن يسافروا أو يفعلوا شيئاً عندهم فيه اشتباه أجالوها، أعطوها أحد يعني: يخرجوها واحداً واحداً، أو هو نفسه يخرجها واحداً واحداً من محلها، فإن خرج (افعل) نفذ، وإن خرج (لا تفعل) ترك، وإن خرج الغفل الذي ما فيه شيء أعاد إجراءها، خلطها ثم أعاد إخراجها، فإن خرج (افعل) فعل، وإن خرج (لا تفعل) ترك، وإن خرج الغفل أعادها وهكذا، هذه سنة لهم وطريقة جاهلية، فشرع الله سبحانه وتعالى لعباده بدل استعمال الأزلام صلاة الاستخارة، فالمشروع للمؤمن إذا هم بأمر يشكل عليه كالزواج أو السفر أو ما أشبه ذلك صلى ركعتين، يصلي ركعتين ثم يستخير الله جل وعلا ويدعو بدعاء الاستخارة المعروف الثابت عن النبي ﷺ، والله ولي التوفيق. تفسير ابن باز)


إذن لماذا قرن الحق التكليف بالنهي عن الخمر والميسر- من قبل- بالأنصاب والأزلام؟ 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)}

قال سبحانه ذلك ليبشع لنا الأمر، فوضع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام، ولنفهم أن الحكم بالنهي عن الخمر والميسر جاء ليقرنهما بالأنصاب والأزلام، وما داموا مؤمنين فلابد أنهم قد انتهوا عن الأنصاب والأزلام.


ويقول سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء}. والإرادة هي تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه، وتتعلق الإرادة بمريد، فهل يقدر على إنقاذ ما يريد أم لا يقدر؟ إن كان يقدر على إنقاذ ما يريد، فالقدرة تكون من بعد الإرادة.
وحينما يريد سبحانه وتعالى فالقدرة تبرز المراد، فقدرته لا تتخلف ولا مراده يتخلف؛ لأن كل شيء منفعل له سبحانه وتعالى، وتختلف المسألة عند الإنسان والشيطان، فالإنسان يريد، ولكن أله القدرة على إنفاذ ذلك؟ أحياناً تكون له بعض من القدرة على إنفاذ ما يريد، وأحياناً لا.
والشيطان يريد، لكن أيقدر على إنفاذ ما يريد؟ إنه يقدر في حالة إطاعة الإنسان له. وهكذا تكون إرادة الشيطان، وهو يحب أن تحدث المعصية من الإنسان، ويتمنى الشيطان ذلك، ويخطط لذلك. لكن الفعل لا يأتي إلى الوجود إلا إذا وافق الإنسان على طاعة الشيطان.

 

إذن فالإرادة إن كانت ممن يقدر على الإرغام والإبراز فهي تظهر العمل فوراً، والقادر المطلق هو الله، وهو يحكم ما يريد، ولذلك يأتي قوله الحق: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
لكن خلقه حين يريدون فالأشياء لا تنفعل لهم انفعالها لخالقها؛ لأن إرادة المخلوقات تقتضي أن ينفذ الإنسان على قدر طاقته، وهي مهما زادت محدودة. وإرادة الشيطان تحتال على الإنسان حتى يفعل ما يتمناه، ولا يستطيع الشيطان أن يُكره الإنسان قهراً على فعل ما، ولكنه يزين له الفعل. فليس للشيطان سلطة الإكراه ليقهر الإنسان على فعل، وليس للشيطان قدرة على الإقناع أو الإتيان بأدلة تجعل الإنسان يفعل مراد الشيطان وهو راضٍ عن عمله. ولذلك يقول الشيطان في الآخرة للمذنبين: إن الذنب ذنبهم. {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22].

هكذا يعلن الشيطان أنه غير قادر على البشر، لا بالقهر ولا بالحجة، إنّه فقط زين لهم الأمر، فمن كانت له شهوة فالشيطان يزينها له فيرتكب الذنب. ويعلن الشيطان: {ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22].
ويعترف الشيطان أنه مهما صرخ مستغيثاً- يوم القيامة- فلن يجد من يغيثه، وكذلك أصحاب الذنوب الذين اتبعوه سيصرخون ولن يجدوا من الشيطان عوناً ينجيهم من العذاب.
و(أصرخ فلان فلانا) أي ذهب ليزيل صراخه وينجده.

 

إذن فقول الحق: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء} يشرح لنا أن إرادة الشيطان هي إرادة تزيين، لا إرادة قدرة على القهر أو الإقناع. وإذا سمعت كلمة (يوقع)، فافهم أن هناك شيئين الأصل فيهما الالتحام، وهناك من يريد أن يجعل بينهما يفصل هذا الالتحام. ولذلك يقال: (فلان مشى بالوقعية) أي أنه أراد أن يصنع فجوة وشرخاً بين اثنين الأصل فيهما الالتحام.
 

وكلمة (بينكم) تفيد الانفصال. وهذا الانفصال هو الذي توضع فيه الوقيعة. لماذا؟ لأن المؤمنين إخوة، ولأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، والشيطان يسعى بالخمر والميسر بأن يمشي بالوقيعة بين المؤمنين. ونجد مجالس الخمر فيها هذا؛ فالشاربون معاً كثيراً ما تقوم بينهم المعارك ويدور بينهم السباب. ولاعبو الميسر يأخذ بعضهم مال بعض، وهكذا يتحولون من وحدة كالبنيان إلى فرقة وتحدث بينهما العداوة والبغضاء.
وما الفرق بين العداوة والبغضاء؟ العداوة هي انفصال متلاحمين حدثت بينهما عداوة وبغضاء. والبغضاء هي انفعال القلب بشيء مكروه.
كأن البغضاء توجد في الصدور بعد حصول العدوان، فكأن العداوة تكون هي المنطقة الوسط التي باعدت بين هذين الشخصين بعد أن استسلما لنزغ الشيطان. وهذان الاثنان كان يجمعهما من قبل الصفاء والمودة والحب والأخوة الإيمانية.
والعداوة في هذه الحالة تأخذ من مشاعر كل طرف؛ لأن العداوة إن كانت من طرف واحد فعمرها قصير، ولكنها تطول إن كانت بين طرفين. ولذلك تكون المعركة حامية بين عدوين يستشعر كل منهما العداوة للآخر. وهي تكون عداوة مؤججة وملتهبة إن لم يتدخل طرف ثالث ليحسم بالحق بين الاثنين، فيخزي الذي على الباطل ويأخذ الحق منه ويعطيه لصاحبه، وهنا يحس صاحب الحق أن هناك من ينصره. وبهذا تحسم العداوة وتنقضي. لكن إن لم يجد الطرفان رادَّا ولا رادعاً، تظل العداوة متوهجة. ولذلك حينما عرض الحق أمر موسى عليه السلام وأمر فرعون، قال عن موسى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8].
والتقطوا موسى لماذا؟ {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8].
فهل عرفوا هم من البداية أنه عدو؟ لا، لقد التقطوه ليكون قرة عين لهم، ولكن الله أفسد مرادهم. فاللام في قوله: (ليكون) هي لام الغاية والعاقبة وليست لام العلة الفاعلة، وقد أثبت سبحانه بذلك أن فرعون ليس إلهاً، وأن أتباعه كانوا قوماً مغفلين لا فطنة لهم. فلو كان فرعون إلهاً لعرف أن هذا الوليد الذي سيربيه سيكون عدواً له.
والعداوة هنا هل هي من ناحية موسى فقط تجاه فرعون؟ لا. إنها عداوة بين الله وموسى كطرف، وفرعون كطرف. لذلك قال: {فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} [طه: 39].
ولم تنته هذه العداوة إلا بغرق فرعون. والحق ينبهنا: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر} و(في) هنا هي للسببية كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت».

 

ونقول في حياتنا اليومية: أُخذ فلان إلى الحبس لمدة أعوام في قطعة مخدرات. أي أنه أوقع نفسه في المكروه بسبب شيء ما. وقوله الحق: {فِي الخمر والميسر} دلت على أن العداوة والبغضاء مظروفة في الخمر والميسر. ويقول بعد ذلك: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}.
 

إن ذكر أي أمر يعني أن يكون هذا الأمر في بؤرة الشعور دائماً، فكل معلومة يذكرها الإنسان تكون في بؤرة شعوره، ومن بعد ذلك تتحرك لتحل محلها معلومة أخرى. وعندما يكون بال الإنسان مشغولاً بشيء فهذا الشيء لا يتزحزح من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور إلا بعد أن يأتي أمر آخر يشغل البال.
ولذلك نقول: إياكم أن تعتقدوا أن الذهن يفهم أي أمر من مرة واحدة أو من مرتين أو من ثلاث مرات. لا، بل يفهم الذهن من مرة واحدة كآلة التصوير، والمهم أن يكون ساعة التقاط المعلومة خالياً من غيرها؛ ولذلك كنا نعرف أن إخواننا المكفوفين الدارسين معنا أقدر على الاستيعاب الحفظي منا نحن المبصرين؛ لأن المبصر عندما يكون بصدد مسألة قد تنشغل عيناه بشيء، فتكون بؤرة شعوره مشتتة. أما الأعمى فبؤرة شعوره تذكر فقط ما يسمعه.

 

وهكذا نعرف ما هو (الذكر). والخمر تطمس العقل وتستره فكيف يذكر الله إذن؟ وكذلك الصلاة، وهي الذكر، تسترها الخمر عنا. وكذلك الميسر الذي يلوح فيه الوهم بالكسب كالسراب، فيلهث اللاعب خلف اللعب لعله يكسب، ويفقد القدرة على ذكر الله والصلاة.
ولأن العداوة مسبقة بين الإنسان والشيطان، نجد الشيطان قد قال فيما يحكيه الحق عنه: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].
قد عرف الشيطان كيف يقسم؟ أقسم بعزة الله أن يغوي خلقه، فلو أن الله أراد عباده لما أخذهم الشيطان. ويذيل الحق أمر الخمر والميسر بقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}. هذا استفهام، وهو طلب فهم الشيء، هذا ما نعرفه عندما يكون الاستفهام من البشر، ولكن عندما يصدر هذا الاستفهام من الله لنا، فهذا أمر الأمر سبحانه وتعالى. كيف؟ إن هناك أمراً من الآمر هو حكم لازم. وهناك أمر يريده الله من المأمور ليأمر به نفسه.

 

وهي ثقة من الآمر الأعلى في الإنسان المؤمن الذي يتلقى مثل هذا الأمر. ومثال ذلك- والله المثل الأعلى- يقول الأب لأحد أبنائه: إن إهمالك لدروسك سيجعلك تنال غضبي واحتقار زملائك لك وتتأخر عن غيرك، فهل ستنتهي من اللعب واللهو أو لا؟ ولم يقل: انته عن اللعب؛ لأن الأب أراد أن يأتي بالحيثيات حتى يحكم الابن بنفسه، وحتى يدير المسألة بمقابلها، ولا يجد إلا أن يقول: لقد انتهيت عن اللعب.
 

وهنا جاءت المسألة أيضا على هذا الشكل، فبدلاً من أن تكون حكماً من الله أصبحت حكماً من العبد المأمور. وهذا أبلغ أنواع الحكم؛ لأن المتكلم يلقي بالأمر في صيغة سؤال، ليدير المسئول كل جواب فلا يجد إلا الجواب الذي يريده السائل. ومثال ذلك عندما فتر الوحي عن حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقال أهل قريش: إن رب محمد قد قلاه وأبغضه وكرهه، ثم نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3].
ويتابع الوحي: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} [الضحى: 6].
وعندما يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسألة يجيب: نعم يا رب أنت وجدتني يتيماً فآويتني. وهذا يسمونه مشاركة المأمور في علة الأمر. وهذه أبلغ أنواع الأمر.

 

وعندما يقول الحق: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} يعلم المخاطبون ماذا يريده الله، فيقولون: نعم انتهينا يا ربنا. وبالغوا كثيراً في هذا الانتهاء، فالإمام عليّ- كرم الله وجهه- يقول: لو وقعت قطرة منها في بحر ثم جف البحر، ونبت فيه الكلأ واندلع لساني من الجوع ما قربته. ولم يكن هذا أمراً مفروضاً، ولكنها المبالغة في الانتهاء على أقصى صورة.
وها هوذا سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يقول: لو وقعت قطرة منها على يدي لحرمتها على نفسي. وهكذا كان رد فعل قول الحق: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}. وبذلك تم حسم مسألة الخمر. ونعرف أن التكليف في تحريم الخمر جاء متدرجاً، والتكاليف الإيمانية إنما تأتى على لسان رسول، والرسول لا يأتي إلا إذا عم الفساد في المجتمع، وفي ذوات البشر في آن واحد. فلا نجد من يلوم نفسه، أو يتدخل ليرد آخر عن فساده؛ هنا تتدخل السماء بإرسال رسول، ولا تصب السماء كل أحكامها في أول الأمر، ولكنها تدعو خلال الرسول بالإيمان بالله الواحد حتى يتلقوا منه الحكم. فالأيمان بوحدانية الله هو قمة العقيدة التي لا هوادة فيها.
 

لكن في الأمور التي تتعلق بالأحكام، فالأحكام تُغيِّر أوضاعاً عرفية وأوضاعاً اجتماعية متداولة بين الناس. فإذا أراد الله أن يغير عادة بحكم فهو يأتي بهذه المسألة تدريجا؛ لأنه سبحانه وتعالى يتلطف مع خلقه برحمته.
 

ومثال ذلك: كان الرجل يملك المال فلا يعطي أباه ولا أمه، إنما يعطي المال لأولاده؛ لأنه يعرف أن والده منته وسيموت قريبا، وأن الابن هو الذي يستقبل الحياة، ولذلك فالابن يأخذ كُلَّ المال. هنا قال الحق: لا، إنك أنت يا صاحب المال قد تموت قبل أبيك فاترك له شيئاً. {إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180].
لقد أراد أن يخرجهم من عدم العطاء إلى الوصية التي تكون منهم. وبعد أن استقرت الأحكام، قرر الحق للوالدين نصيباً من الميراث. إذن جاء الأمر أولاً بتلطف في الخروج عن حكم الإلف والعادة والعرف؛ حتى لا يخرجهم إخراجاً قسرياً. والحق سبحانه وتعالى لا يريد أن يجعل المال دُولة بين الأغنياء فحسب أي يتداولوه دون غيرهم، بل يريد أن يجعل المال دولة بين الناس. لذلك جاء الميراث.

 

إننا عندما نحسب ميراث ألف فدان مثلا نجده قد ذاب وتقلص وتناثر خلال ثلاثة أجيال إلى فدانين وخمسة أفدنة. وهذا تدرج أجيالي لا قسري. حتى يرتب الإنسان حياته وحياة أبنائه، فيترك المالك لأولاده ميراثاً وخيراً ليديروا العمل فيه. أما الذي لا يملك فهو يعطي لأبنائه حرفة أو وظيفة. لذلك يذيب الدِّيُن المسألةَ المالية والعقارية أو الإقطاع كما يقولون، لا بالقسر حتى لا تحدث للمجتمع هزة حقد أو هزة توتر؛ لأن الذي جمع ماله من عرقه ومن اجتهاده ساعة يرى المال قد خرج منه إلى من لم يعرق ومن لم يجد، فهو يحقد، والحق يقول: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36-37].
 

وساعة يحدث الضغن في المجتمع فإن كل استقرار وود ينتهي. وهذا هو منتهى التلطف في رعاية العادات. وكانت الخمر ومجالسها عادة موجودة عند العرب، وكان من الصعب أن يخرجهم منها مرة واحدة. لذلك جاء تحريمها بتدرج وبتلطف والذكي والفطن عندما يسمع الآية التالية يعرف أن الله قد بيت للخمر تبييتاً محكما للقضاء عليها وذلك بتحريمها، يقول الله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67].
فسبحانه يقول: (ورزقاً حسناً)، ولم يصف السكر بأنه حسن. ومعنى هذا أن أخذ الرزق وتخميره واتخاذه سكراً هو إتلاف للحسن. وجاء الحق ب(السكر) أولاً ليخبرنا أنهم كانوا يأخذون منه الرزق أولاً النصيب الذي يجعلونه خمراً. ومن بعد ذلك يطرح الحق الأمر كعظة من الواعظ للموعوظ، والعظة ليست إلزاماً، إنما هي إبداء رأي حكيم لغيره، وهذا أول التبيت للدخول إلى تحريمها، ثم يقول الحق: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
 

وهكذا رجح الحق جانب الإثم على جانب المنفعة. ومن بعد ذلك يأتي للصلاة، ولم يكن هناك حكم جازم بعدم شرب الخمر قبل الصلاة إلى أن قام واحد للصلاة وهو سكران، ونعوذ بالله مما قال، قال: قل أيها الكافرون أعبد ما تعبدون. لقد اضطرته الخمر أن يخطيء في القمة العقدية، لذلك جاء الأمر: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43].
ونعلم أن المسلم يصلي خمسة فروض في اليوم، وحتى لا يقرب الإنسان الصلاة وهو سكران فهذا يقتضي أن يمر النهار كله تقريبا دون خمر إلى ما بعد العشاء.

 

وبذلك أطال الحق المسافة الزمنية التي يمتنع فيها عن تعاطي الخمر. وفي ذلك حبس للنفس عن المعتاد عليه حتى يألف الشخص المعتادُ تركَ ما اعتادَهُ. ومن بعد ذلك يطلبون من الرسول رأياً شافياً في الخمر فيأتي قوله الحق: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91].
 

لقد كان هذا هو التدرج الذي يخرجهم من الإلف والعادة في أعمالهم، فيأتي الأمر بالتحريم وكأنه صادر منهم. ويردف الحق سبحانه وتعالى ذلك الحكم الجزئي في الخمر والميسر فكأنه يقول: ما دامت المسألة كما علمتم مني بأن هذا رجس ومن عمل الشيطان فلا تعينوا الشيطان على نفوسكم وأخلصوا في عبادة الحق وحده

 

نداء الايمان

image.png.2c7e3ed9f1fbba9fb8871ae5370299dc.png

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)}


لقد نقل الله الحكم بعدما انتهى من هذه الجزئية إلى حكم عام هو طاعة الله وطاعة الرسول. وأنت ساعة تستقرئ أمر الله بالطاعة فأنت تجدها في صور متعددة. فمرة يقول: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [المائدة: 92].
فقد كرر الأمر بالطاعة لله وللرسول، فالإطاعة لله في الحكم العام، وإطاعة الرسول في تفصيله، ومرة يقول سبحانه: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} [آل عمران: 32].

 

إنه هنا لا يكرر أمر الطاعة، فهناك أمر للطاعة، وهناك مطاع، وهناك مطيع والمطيع، هم المخاطبون، فهو هنا يوجد أمر الطاعة، والمطاع هنا هو الله، والرسول يأتي معطوفا على لفظة الجلالة.
ومرة يقول الحق سبحانه: {وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 56].

 

نحن إذن أمام حالات للطاعة: الأولى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، والثانية: أطيعوا الله والرسول، والثالثة: أطيعوا الرسول، ومرة واحدة فقط يعطف على ذلك (أولي الأمر) فيقول جل وعلا: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59].
 

وحين قال الحق: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [المائدة: 92].
فهو يكرر الأمر بالطاعة عند الله وعند الرسول، لكن عند أولي الأمر لم يأت سبحانه بأمر: (وأطيعوا)؛ ذلك أن طاعة أولي الأمر تكون من باطن الطاعتين: طاعة الله، وطاعة الرسول؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وإذا قال الحق: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} تكون طاعة الله في الحكم العام، وطاعة الرسول في تفصيل الحكم. والمثال قوله الحق: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97].

 

هنا نطيع الله في الحكم العام، ونطيع الرسول في تفصيل الحج. لأن التفصيل لم يأت في القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني مناسككم» وعندما يتوحد الأمران: (وأطيعوا الله والرسول) فهذا يعني أن هناك أمراً واحداً قد صدر من الله، وصدور وحصول الفعل من الرسول يكون للقدوة والأسوة وتوكيدا للحكم.
وإذا كان لله أمر بالإجمال وللرسول أمر بالتفصيل فسبحانه يقول: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول}. وإذا كان الأمر للرسول فقط ولم يرد فيه شيء من الله فهو أمر صدر بتفويض من الله بناء على قوله الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].


وهكذا نجد أنه لا تلتبس طاعة بطاعة ولا تتناقض طاعة مع طاعة. والحق هنا يقول: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا}.

لماذا هذا التحذير؟

يأتي هذا التحذير ليعلمنا الله أن الشيطان لن يدعنا ندخل في مجال طاعة الله وطاعة الرسول، وسيحاول جاهداً أن يُلبَّس علينا الأمر. فعندما يعرف الشيطان ميلاً في نفس إنسان إلى لون من الشهوات، يدخل إليه من باب المعاصي. وإن كان الإنسان قد أوصد بعض السبل أمام الشيطان فلا يستطيع مثلا إغراءه بالسرقة أو شرب الخمر، لا يتركه بل يدخل إليه من باب الطاعة، فيأتي الشيطان إلى الإنسان لحظة الوضوء وينسيه هل غسل هذه اليد أو تلك، وهل أسبغ الوضوء أم لا؟ أو يأتي الشيطان إلى المؤمن لحظة الصلاة فينسيه عدد الركعات أو عدد السجدات، وهكذا يدخل الشيطان للمؤمن من ناحية الطاعة.
 

ومعنى قوله سبحانه: {واحذروا} أي احذروا أن يحتال الشيطان عليكم؛ لأنه سيحاول أن يدخل لكم من كل مدخل، يدخل على المسرف على نفسه بالمعصية، وأشد أعمال الشيطان على المؤمنين هي أن يدخل عليهم من باب الطاعة. ولذلك قال الحق: {واحذروا} وكثيراً ما نجد الإنسان منا ينسى موضوعاً ما، وحين يأتي إلى الصلاة فهو يتذكر هذا الموضوع. والشيطان لا يترك الإنسان في مثل هذه الحالة، فقد أقسم الشيطان فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].
وقال الحق سبحانه: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16].
إنه أقسم أن يقف على الطريق المستقيم لا على الطريق المعوج. ومثال ذلك عندما يتصدق إنسان بصدقة قد يعلنها ويقول: لقد تصدقت أكثر من فلان. وهكذا يضيع منه الأجر. الشيطان يحاول- إذن- أن يدخل علينا من باب لا تفطن إليه وهو باب الطاعة. وأروي لكم هذه القصة حتى تعرفوا مدى تَدَخُّل الشيطان، وقد حدثت مع الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. فقد جاء إليه من يسأله الفتوى في أمر غريب؛ قال السائل: ضاعت مني نقودي، فقد دفنتها في مكان من الأرض، ونزل السيل فطمس مكان النقود وأزال الحجر الذي وضعته علامة على مكانها. فقال الإمام أبو حنيفة: اذهب الليلة بعد صلاة العشاء وقف أمام ربك إلى أن يطلع الفجر، وقل لي ماذا سوف يحدث. وعندما جاءت صلاة الفجر جاء الرجل متهللاً إلى أبي حنيفة وقال: وجدت مالي.
فسأله أبو حنيفة: كيف؟ قال الرجل: بينما أنا أقف للصلاة تصورت مكان وضع النقود، ومتى نزل السيل، وكيف سار، وهكذا قست المسافة وقدرتها إلى أن عرفت موقع النقود. فضحك الإمام وقال: والله لقد علمت أن الشيطان لن يدعك تتم ليلتك مع ربك. هكذا ترى كيف يدخل الشيطان من باب الطاعة. ولذلك قال الحق: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} [المائدة: 92].
أي فإن أعرضتم عمّا كلفتكم به فاعلموا أنكم بتوليكم وإعراضكم لن تضروا الرسول؛ لأن الرسول ما كلف إلاّ أن يقوم بالبلاغ المبين، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم به. إن الحق يعلم أزلاً أن بعضاً من عباده قد يقول: إن هذا الحكم لم يَرِد في القرآن؛ لذلك جاء بالأمر بطاعة الرسول. وهكذا صارت للرسول طاعة مستقلة، وأرادها الله حتى يَرُدّ مقدماً على الذين يسألون عن نص فيه كل تفصيل. بينما نجد هذه التفاصيل في السنة النبوية الشريفة.

 

ومثال ذلك عدد ركعات كل صلاة، إنها لم تَرِدْ في القرآن، ولكننا عرفناها تفصيلاً من الرسول. وفَوَّض الحق رسوله في التشريع: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
فسبحانه قد علم أزلاً أن هناك من سيدَّعي أنه لن يطيع إلا القرآن. ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله عز وجل، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله».
أي أن الرسول هو المبلغ عن ربه، وأن علينا أن نحذر الشيطان إذا أراد أن يدخل علينا من باب الطاعة. ولكن لماذا قال الحق: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ}؟ وعن أي شيء يكون التولي؟

 

قال الحق ذلك ليوضح لنا أن الإنسان له الاختيار في أن يذهب إلى الطاعة، وله الاختيار في أن يذهب إلى المعصية، وإن تولى الإنسان عن الطاعة إلى المعصية، وعن الإيمان الذي جاء به الرسول الذي بلغ عن الله إلى البقاء في الكفر، فليعلم ذلك الإنسان أن الرسول قد أوفى مهمته وأداها. فالمطلوب من الرسول أن يبلغ المنهج، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم بلاغاً مبيناً، محيطاً، واضحاً ومستوعباً لكل أقضية الحياة.
 

لقد أبلغنا صلى الله عليه وسلم مطلوب الله منا أن نؤمن بإله واحد، قادر، حكيم، له كل صفات الكمال، ذلك هو الأمر الأول في العقيدة. وأبلغنا صلى الله عليه وسلم أن نبتعد عما كان عليه العرب من الأنصاب، ومن الأوثان، ومن الأصنام. وبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منا إيماناً، وعملاً، والعمل ينقسم إلى قسمين: عمل إيجابي، وعمل سلبي. ويتركز العمل الإيجابي في (افعل كذا)، إذا لم تكن تفعله، أما العمل السلبي فهو أن تكف عما نهاك عنه الله، ونهاك عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
 

إذن أول مطلوب الإيمان هو الاعتقاد في الإله الواحد، وأن نكف عن عبادة الأوثان والأصنام، والطلب- كما نعرف- هو أن تنشيء كلاماً تطلب به من مخاطبك أن يفعل شيئاً لم يكن مفعولاً وقت طلبه. فإذا أوضح الحق: لا تعبد الأوثان، فهذا طلب الفعل، وهو أن نكف عن عبادة الأوثان. وحين يأمرنا الحق بالصلاة والصوم والزكاة وحج البيت، فهذا طلب لأفعال. وطلب الفعل يقال له: (أمر). وطلب الكف عن فعل يقال له: (نَهْي).
 

وأنت إذا نظرت إلى كل التكاليف في الإسلام، تجدها لم تأت مرة واحدة، وإنما جاءت على مدار ثلاثة وعشرين عاماً. فعندما جاء الإسلام آمن به أناس، ولم يكن قد صدر إليهم تنفيذ أي من الأحكام التي وردت على مدار سنوات الرسالة، وإنما كان المطلوب منهم بعضاً يسيراً منها، وكانوا يؤدونها، منهم من بلغه فقط ضرورة الإيمان بالإله الواحد، وآمن بذلك ثم وافاه الأجل وكانت له الجنة.
ومنهم من امتدت حياته، فزادت عليه أحكام جديدة فنفذها، وكان إسلامه بذلك إسلاماً تاماً.

 

إذن، فالتمام في الإسلام هو تنفيذ كل عمل جاء في الأحكام التي أدركها المسلم. فإن لم يكن المسلم قد أدرك إلا حكماً واحداً ونفذه فله كل ما وعد الحق به. ومثال ذلك (مخيريق اليهودي) الذي أسلم وأوصى بماله للنبي صلى الله عليه وسلم. فلما كان يوم أُحُد، وقف في قومه قائلاً: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لَحَقُّ. فلم يجيبوه، فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أُصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء. ثم خرج إلى القتال فقاتل حتى استشهد. ولم يكن قد نفذ أي حكم من أحكام الإسلام، لكنه قاتل فنال شرف الشهادة، وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُخَيْريق خير يهود».
 

ولا بد لنا أن نفرق دائماً بين (أركان الإسلام) والمطلوب من المسلم. ونعلم جميعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان».
هذه هي أركان الإسلام. أما المسلم فقد يختلف المطلوب منه، فالمطلوب من المسلم أن يشهد مرة واحدة في حياته أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ومطلوب منه دائماً أن يقيم الصلاة مهما تكن حالته. لكن فرض الزكاة قد يسقط عنه إن كان لا يملك مالاً. وقد يسقط عنه الصوم إن كان مريضاً مرضا لا يرجى شفاؤه أو كان كبير السن لا يقدر على الصوم وعليه فدية طعام مسكين، أما المريض الذي يرجى شفاؤه وكذلك المسافر فيقضيان الصوم بعد زوال العذر ومثلهما الحائض والنفساء. وقد يسقط عنه الحج لأنه لا يملك المال الكافي. هكذا تختلف أركان الإسلام من مسلم لآخر، وهكذا نعرف أن من عاش في بدايات الإسلام ونفذ القليل من الأحكام التي نزلت حتى مات أو استشهد، فقد أدى مطلوب الإسلام منه.
وعندما نزلت مسألة النهي عن الخمر، والميسر، ذهب أناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن مصير زملائهم وإخوتهم في الإيمان الذين ماتوا أو استشهدوا قبل أن ينزل تحريم الخمر والميسر. ومجرد السؤال هو دليل على اليقظة الإيمانية، فالإنسان لا يكون مؤمناً حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

 

نداء الايمان

 

image.png.1d047328cb2734bd77ce1cbe9dfb5d77.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}المائدة


لقد أنزل الحق هذه الآية ليُطَمْئن المؤمنين السائلين عن الحكم في إخوانهم الذين ماتوا أو استشهدوا وكانوا يشربون الخمر قبل نزول الحكم بتحريمها. {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} و{طعموا} لا تخص الطعام فقط ولكن تشمل وتضم الشراب أيضاً، فالحق يقول: {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249].
وعلى ذلك فالماء طعام، بمعنى أن طعمه يكون في الفم. وهكذا عرف المسلمون السائلون عن إخوانهم الذين ماتوا أو استشهدوا أن إسلامهم كان مقصوراً على الأحكام التي نزلت في أثناء حياتهم، فقد نفذوا المطلوب منهم بعدم عبادة الأصنام. وقد يكون منهم من مات قبل أن تفرض الصلاة، أو مات قبل أن تنزل أحكام الزكاة أو الصوم، ولذلك لم يفعلوها. وعلى ذلك يكون عملهم الصالح هو تنفيذ التعاليم التي نزلت إليهم. لقد اتقوا الله فنفذوا مطلوب الإيمان على قدر ما طلب منهم الحق، آمنوا بالإله المكلِّف وجعلوا بينهم وبين الله وقاية بأن نفذوا مطلوبه سبحانه امراً ونهياً.

 

والإيمان له قمة هي أن يؤمن الإنسان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبعد ذلك بالأحكام التي تنزل من السماء. واختلف العلماء فيما بينهم في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، فمن العلماء من قال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، إنما نظروا إلى الإيمان بالقمة العقدية وهي الإيمان بالله: والذين قالوا بأن الإيمان يزيد وينقص إنما نظروا إلى الإيمان بالأحكام التي ينزلها الله، وأخذوا ذلك من قوله الحق: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124].
فكل آية تنزل بأحكام جديدة فهي تزيد الإيمان. فعندما نزل الحكم بالزكاة أمن به المسلمون وطبقوه. ومنهم ممن لم يكن يملك المال فلم يطبق الحكم على الرغم من أنه آمن به.

 

فالمسلم يؤمن بالحكم، وإن كان مستطيعاً فهو يفعله، وإن كان غير مستطيع فهو لا يفعله. ولهذا كانوا يستبشرون بالأحكام التي تنزل بها الآيات. وعلى ذلك يكون خلاف العلماء خلافا على جهة منفكة،

 

ونلاحظ أن الحق يقول: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ والله يُحِبُّ المحسنين} [المائدة: 93].
إذن، فهنا ثلاث مراحل: هناك من أدرك حكماً فاتقى الله وآمن وعمل صالحاً، وبعد ذلك انتقل وأفضى إلى ربه فلا جناح عليه، وهناك من عاش ليعاصر أحكاماً أخرى فآمن بها وعمل بها، وهناك من عاش ليعاصر أحكاماً قد زادت فعمل بها أيضاً. والإيمان الأول ارتبط بالعمل الصالح، وكذلك الإيمان الثاني الذي جاء في الآية.
ثم يأتي الإيمان الثالث مرتبطاً بالإحسان.

 

والإحسان كما نعلم له وجهان: الأول أن يعبد المؤمن الله كأنه يراه، وكلما جاء تكليف، يحسن المؤمن في أدائه، كأنه يرى الله، وإن لم يكن يراه فإنه يحس أنه سبحانه يراه. وإذا ما استوعب المسلم كل أحكام الله التي استوعبت بدورها كل أقضية الحياة، فهو يحسن أداء هذه الأحكام. والوجه الثاني للإحسان أن يزيد المؤمن في أداء هذه التكاليف فوق ما فرض الله، وهي النوافل. وبذلك لا يكتفي المؤمن بتصديق الأحكام التي نزلت، بل يزيد من جنسها. والحق يقول: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15-16].
وجاء الحق بالتعليل وهو: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16].
ووجه إحسانهم أن الواحد منهم لا يقف عند ما كلفه الله به، بل يزيد على ما كلفه الله من جنس ما كلفه سبحانه، فالحق قد فرض على المسلم خمسة فروض، والمحسن هو من يزيد ويتقرب إلى الله بالنوافل. وفرض سبحانه على المسلم صوم رمضان، والمحسن هو من يؤدي صيام رمضان بتمامه ويزيد بصوم أيام أخرى من العام. وفرض سبحانه على المسلم زكاة مال بقدر اثنين ونصف في المائة وهو ربع العشر، والمحسن قد يزيد الزكاة إلى أكثر من ذلك. وفرض سبحانه على المسلم حج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا، والمحسن هو الذي يزيد مرات الحج.

 

إذن، فالمحسن هو من عشق التكليف من الله، وعرف منزلة القرب من الله، فوجد أن الله قد كلفه دون ما يستحق سبحانه منا فزاد من العمل الذي يزيده قرباً من الله. ويضيف الحق في وصف المحسنين: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].
ولم يكلفنا سبحانه بألا نهجع إلا قليلاً من الليل. كلفنا فقط بأن نصلي العشاء، وبعد ذلك قد ننام لنصحو لنصلي الصبح، أما المحسن الذي عرف حلاوة الخلوة مع الله فهو لا يهجع إلا قليلاً من الليل. ويضيف الحق سبحانه في وصف المحسنين: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18].
ولم يكلف الله المسلم بالاستغفار في السحر، لكن المحسن يفعل ذلك ويضيف الحق سبحانه: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19].

ولم يقل سبحانه: إنه حق معلوم، لأن الحق المعلوم هو الزكاة. وهذه المراحل الثلاث هي التي تُدخل المؤمن في مرتبة الإحسان. ولذلك نجد الحق في آخر مرحلة في الآية التي نحن بصددها يتحدث عن الإحسان: {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} أي أن يزيد الإنسانُ المؤمنُ من جنس ما فرض الله. ووقت أن كان التكليف في دور الاستكمال فكل حكم يأتي كان يستقبله المؤمن بإيمان وعمل. أما الذين أدركوا كل التكاليف خلال الثلاثة والعشرين عاماً- المدة التي مكثها وعاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى- فقد استوت عندهم التكاليف، وإذا ما أرادوا الإحسان فلابد لهم من الزيادة من جنس التكليف.

 

image.jpeg.6dcb3a44fc62e63c7b5ddbf9bb6d9465.jpeg

 

 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)}


وهذا انتقال لحكم جديد، فبعد أن تكلم الحق فيما أحله لنا وقال سبحانه: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} [المائدة: 1].
وبعد أن تكلم الحق سبحانه فيما حرم علينا من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكى وذبح وحرَّم ما ذبح للأصنام وما استقسم بالأزلام وكذلك الخمر والميسر، أراد أن يعطينا محرمات من نوع خاص، وحتى نعرف هذه المحرمات لابد لنا أن نعرف أن هناك أشياء محرمة في كل زمان وكل مكان، كالخمر والميسر والزنا وغير ذلك من النواهي الثابتة، سواء أكانت عبادة أصنام أم أزلام أم غير ذلك من أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وهناك محرمات في أزمنة خاصة، أو في أمكنة خاصة. والفعل، أي فعل، لابد له من زمن ولابد له من مكان.
نحن مأمورون بالصلاة في زمانها في أي مكان طاهر وصالح للصلاة فيه، وكذلك الصوم يتحكم فيه الزمان، أما الحج فالذي يتحكم فيه هو الزمان والمكان. وأما العمرة فالذي يتحكم فيها هو المكان؛ لأن الإنسان يستطيع أن يعتمر في أي زمان- غالباً- ويتكلم سبحانه هنا عن نهي في مكان خاص وفي زمان خاص، فالصيد ليس محرماً إلا في حالة أن يكون الإنسان حُرماً.

 

ونعلم أن كلمة و(حُرُم) هي جمع (حَرَام)، والحرام إما أن يكون الإنسان في المكان الذي يبدأ فيه بالتحريم. ومثال ذلك منطقة رابغ التي يبدأ عندها الإحرام بالنسبة لسكان مصر، فإن وصلت إلى هذا المكان وبدأت في عمل من أعمال الحج أو العمرة فأول عمل هو الإحرام. ومن لحظة الإحرام حتى ولو أحرمت من بلدك أو بيتك لا يحل لك الصيد. و(الحرم) أيضاً هو وصف للمكان حتى وإن لم يكن الإنسان حاجاً، فالصيد محرم في الحرم، والحرم له حدود بينها الشرع، فالصيد فيه حرام على المُحْرِم وغير المحْرِم. ونعلم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم قد جعل الحق لها الأرض كلها مسجداً وطهوراً.
 

وعلى ذلك فأي مكان يصلح للصلاة، ويصلح أن نقرأ فيه العلم، ويصلح أن نقيم عليه مصنعاً ويصلح أن نزرعه. إذن فأي أرض تصلح أن تكون مسجداً لأنها مكان للسجود. ولكن المسجد بالمعنى الاصطلاحي هو المكان المخصص للصلاة. أما المسجد الحرام فمركزه الكعبة وحولها الطواف وحول ذلك جدران الحرم. ويقع المسجد الحرام في دائرة الحرم، والتي تبدأ من التنعيم والجعرانة والحديبية والجحفة وغيرها، هذه حدود الحرم. فالإنسان إذا ما جاء إلى ميقات الحج عند رابغ مثلا فهو لا يصطاد؛ لأنه أصبح في دائرة الحرم، فالصيد محرم عليه حتى ولو لم يكن حاجاً أو معتمرا.
 

والحج- كما نعلم- هو رحلة فرضها الله مرة واحدة في العمر يخرج إليها المسلم الذي يحيا في كل مكان مع نعمة المنعم. وعندما يخرج المسلم إلى الحج فهو يتحلل من كل النعم التي تصنع له التمييز ليستوي مع كل خلق الله. وأول سمة مميزة للإنسان هي الملابس، لذلك يخلع المسلمون ملابسهم ويرتدون لباساً موحداً يتساوون فيه. وحين يترك المسلم النعمة كلها فذلك لأنه ذاهب إلى المُنْعِم.
ومن بعد ذلك يريد الحق أن يؤدبنا تأديباً إيمانياً مع الوجود كله. ويصفي الله في الحج هذه المسألة كلها، فالكل سواء في ملابس تكاد تكون واحدة، وكلهم شُعْثٌ غُبْر، وكلهم يقولون: (لبيك اللهم لبيك). هكذا تتم تصفية التفاوت في الإنسان بالإحرام.

 

ومن بعد ذلك ينظر إلى الجنس الأدنى وهو الحيوان، ويعلمنا الحق الأدب مع هذا الجنس فيأتي بتحريم صيده. ويعلمنا الأدب مع الزرع الذي تحت الحيوان فيمنع المسلم من قطع شجر الحرم. وهكذا تصفي كل هذه المسألة، وتصبح العبودية مستطرقة في الجميع.
وتزول في الحج كل الألقاب والمقادير المتباينة من فور اتجاههم إلى الحج، وحول الكعبة يرى الخفيرُ الوزيرَ وهو يبكي، ويشعر الجميع أن الكل سواء، والحق يقول: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97].
فالحيوان يأمن وكذلك النبات، هذا ما أمر به الحق في دائرة الحرم؛ لأن ذلك تدريب للإنسان على أن يخرج من النعمة إلى المنعم. ومن بعد ذلك يدخل إلى المسجد ويطوف حول الكعبة. ونجد الإنسان- سيد الوجود- يقف من كل ما يخدمه في الوجود موقفاً مختلفاً، فالحيوان يأخذ كرامته وكذلك النبات، وكذلك الجماد يأخذ أيضاً كرامته، فمن عند الحجر الأسود يبدأ الطواف سبعة أشواط.
في الحج ينفض الإنسان أي طغيان عن نفسه ويتساوى مع كل الناس، ينفض طغيانه أمام الجنس الأدنى وهو الحيوان فحرّم عليه صيده- ونعلم أن الحيوان يغذي الإنسان- وينفض أيضا طغيانه مع النبات- والنبات يغذي الإنسان- فحرّم قطعه.

 

وينفض الحق كبرياء الإنسان أمام الجماد- وهو أحط الأجناس- فأمر الحق الإنسان أن يستلم الحجر الأسود أو أن يقبله، وإن لم يستطع من الزحام فعليه الإشارة للحجر، ومن لم يستطع استلام الحجر أو تقبيله فقد يخيل إليه أن حجه لم يقبل وذلك زيادة منه في التعلق بالمناسك والاحتياط في أدائها.
كل ذلك حتى يحقق الله سبحانه وتعالى استطراق العبودية، ودائماً نجد من يتساءل: وكيف نقبل الحجر على الرغم من أن الله قد نهانا عن الوثنية وعبادة الأصنام؟ ونقول؟ إن الحجرية ليست لها قيمة في هذا المجال، ولكن رب الإنسان والحيوان والنبات والحجر هو الذي أمرنا بذلك، بدليل أننا نرجم حجراً آخر هو رمز إبليس، والعبد في أثناء أداء المشاعر- إنما ينتقل من مراد نفسه إلى مراد ربه، فيقبل ويعظم حجراً ويرجم حجراً آخر، وهكذا صفيت العبودية بالنسبة للناس فاستطرقوا، وصُفيت العبودية بالنسبة للحيوان والنبات والجماد.

 

ويلفتنا سيدنا عمر رضي الله عنه فيقول للحجر الأسود: (أنا أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك).
كأن سيدنا عمر رضي الله عنه يعلمنا حتى لا يقول أحد: إنها وثنية، فالوثنية أن تعبد حجراً بمرادك، أما الحجر الأسود فنحن نعظمه بمراد الله.
{ياأيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94].

 

ما الفرق بين ما تناله الأيدي وما تناله الرماح؟.

ما تناله الأيدي هو صغار الأفراخ والأشياء السهلة اليسيرة، أما ما تناله الرماح فهو ما تصطاده بجهد وبالرمح وحسن تصويبه.

وقال الحق: (ولنبلوكم) لأن هناك فارقاً بين أن يلح الإنسان على المعصية فيفعلها، وبين أن يصل إلى منزلة لا يلح فيها على معصية، بل قد تقع عليه المعصية، وإن وقعت عليه المعصية فهو لا يرتكبها.
كأن الحق يبتلينا ما دمنا لا نلح على المعصية، ويريد أن يرى ماذا يكون التصرف منا إن جاءت المعصية إلينا فهل نفعلها أو لا؟. فإن كان الإيمان قوياً فلا أحد يقرب المعصية. ولذلك يبتليكم الله يشيء من الصيد المحرّم عليكم بان يجعله في متناول أيديكم.

 

حدث ذلك في الحديبية لقد كاد الصيد يضع نفسه بين أيدي المؤمنين ولم يقربوه وكان هذا اختباراً. ونعلم أن الابتلاء غير مذموم في ذاته، إنما المذموم فيه الغاية منه؛ لأن الابتلاء اختبار، وقد ينجح إنسان، وقد يفشل إنسان آخر. وكأن الحق قد ابتلى المؤمنين بان جعل الصيد يتكاثر أمامهم حتى يقوي عود الإيمان في قلب المؤمن فلا يتهافت على المعصية وتتكون لديه المناعة وذلك. {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} وسبحانه وتعالى العالم بكل شيء قبل أن يحدث. لكن هناك فرق بين علم وعلم، وإن علم الله أزلي لا يتخلف، ولكن هذا العلم ليس حجة على الناس؛ لأن الحجة على الناس هو ما يقع منهم فعلاً، ولذلك كان الابتلاء.
 

وأسوق هذا المثل- ولله المثل الأعلى- إن الوالد قد ينظر إلى أحد أبنائه ويقول: أنه يلعب طول السنة ومن الأفضل ألا ندخله الامتحان؛ لأنه سوف يرسب. ولا يدخل الابن الامتحان، ولكن الوقاحة قد تصل به إلى الحد الذي يقول فيه: لو كنت دخلت الامتحان لكنت من الناجحين. ولو كان والده أدخله الامتحان ورسب، لكان هذا الرسوب حجة عليه.
إذن فعلم الحق لا يلزمنا الحجة، إنما العلم الواقعي هو الذي يلزمنا بها.
وقد حدثت هذه الابتلاءات في النبوّات كثيراً. ومثال ذلك ابتلاء الحق لليهود بتحريم الصيد يوم السبت، فكان الحيتان تأتي في هذا اليوم مشرعة وكأنها تلح عليهم أن يصطادوها. وفي الأيام الأخرى لا تأتي الحيتان، فيحتالون لعصيان الأمر باختراع نوع من الشباك السلكية تدخل فيها الحيتان، وتطل محبوسة فيها إلى يوم الأحد فيأخذونها. وتكون حيلتهم هي دليل الغباء منهم؛ لأن الصيد قد تم بالنية والعمل والاستعداد المسبق. وكان الابتلاء في الإسلام بشيء من الصيد. {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وقد علمنا من قبل قوله الحق: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
فإن كانت المسائل مأمورات فعلينا أن ننفذها. وإن كانت نواهي فيجب ألا نقربها حتى لا نقع فيها فتكون حجة علينا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه».
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ...}.

 

نداء الايمان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)}


أي لا تقتلوا الصيد إن كنتم قد أحرمتم بالحج أو بالعمرة أو بهما معا، وإن لم تحرموا فالصيد محرّم أيضاً في حدود منطقة الحرم. وسبحانه قد جعل الحرم زماناً والحرم مكاناً. وهو فَيْءٌ يلجأ إليه الناس من غرور عزة قوم على حساب ذلة قوم آخرين. وقديماً كان يحارب بعضهم بعضا، ولذلك جعل الحق أربعة أشهر حرماً في الزمان، أي لا قتال فيها، وذلك حتى يستريح المتعب من الحرب، ويستريح من يخاف على عزته، أو يذوق فيها الجميع لذة السلام والأمن، وقد يستمرون في ذلك الاستمتاع بالسلام والأمان. وكذلك جعل الحق الحرم أيضاً مكاناً آمناً، لا يتعرض فيه أحد لأحد. وكان الإنسان يقابل في الحرم قاتل أبيه فلا يتعرض له، كل ذلك ليحمي عزة المسلمين أن تنكسر أمام غيرهم.
 

ومثال ذلك طرفان كلاهما على خلاف مع الآخر، وكل منهما يرغب في الصلح مع الطرف الآخر. وهنا يتدخل أي إنسان من الخارج فينجح؛ لأن الطرفين ميالان للصلح. وكل منهما يريد إنهاء الحرب ولكن تأخذه العزة بالإثم وتستولي عليه الحمية ويأنف أن يبدأ خصمه بطلب الصلح.
وقد أراد الحق أن تكون هناك في الأشهر الحرم فرصة للائتلاف والصلح وذلك بأن يلجأ الناس إلى البيت الحرام حتى تنفض البشرية عن نفسها البغضاء وحتى يرتاح البشر من القتال، فتصدر الأحكام في رويّة واتزان وهدوء أعصاب.

 

ويقول الحق جل وعلا: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكعبة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} [المائدة: 95].
ولا يعتبر الشيء صيداً إلا إذا كان مما يؤكل. أما إذا كان الشيء المصاد لا يؤكل كالسبع وغيره فقد قال بعض العلماء: لا يمنع ولا يحرم ولكنا نقول: إن الصيد هو كل ما يصاد سواء ليؤكل أو حتى غير مأكول، وذلك لنعلم أنفسنا وجوارحنا وأعضاءنا الأدب ونحن حرم. ومعنى (حُرُم) هو أن نكون محرمين أو في الحرم، والحرم له حدود معروفة. وداخل الحرم ممنوع على الإنسان أن يصطاد أي شيء من لحظة بلوغه ميقات الحج والعمرة.

 

إذن فحيز الصيد محدود بالنسبة لكل من دخل الحرم المكّي الشريف سواء أكان محرماً أم لا. وحيز الصيد بالنسبة لمن أراد الحج أو العمرة هو أكثر رقعة واتساعا، ذلك أن التحريم يبدأ من حين الاحرام بالحج أو العمرة أو بهما. ولكن ماذا يكون الحكم إن اعتدى إنسان على الحكم واصطاد؟
{وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً}.
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق قتل الخطأ بالعمد، وذلك حتى ينتبه كل مسلم إلى كل فعل وهو محرم، أو وهو في البيت الحرام.
هب أنك أردت أن تحك جلد رأسك بأظافرك وأنت محرم، هنا قد يتساقط بعض شعرك؛ فإن ثبت ذلك فعليك هدي للكعبة أو صوم أو إطعام مساكين؛ لأن الحق يريد لك حين تحرم أن تنتبه بكل جوارحك إلى أن كل حركة من حركاتك محفوظة ومحسوبة عليك، ولتكن في منتهى اليقظة الإيمانية، وأي خطأ مهما يكن يسيراً يوجب الفدية. لذلك من قتل وجب عليه الجزاء لتعديه على شيء حرمه الله. والجزاء محدد بنص القول الحق: {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} وعند المثلية وقف العلماء أيضاً: أتكون المثلية بالقيمة، أو المثلية في الشكل؟

 

والمثلية في القيمة تعني أن تقوِّم الشيء المقتول بثمنه، وتشتري بالثمن شيئاً من الأنعام وتذبحها. والمثلية في الشكل تعني أن نشبه الشيء المقتول بمثيل له مما يذبح ويكون أقرب إلى شكله. ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قتل مسلم ضبعاً أمر المسلم أن يفدي بكبش. والصحابة رضوان الله عليهم: علي، عمر، وعثمان وعبدالله بن عمر أمروا رجلاً قتل نعامة أن يفديها ببدنة ناقة أو بعير لأنها تشابه النعامة في العلو. وحينما قتل إنسان ظبياً فداه بشاة. والظبي أو الغزال هو الذكر، والغزالة هي الأنثى، وعندما قتل غزالاً صدر الحكم بالفداء بعنزة. ومن قتل (يربوعاً)- وهو من الزواحف وأكبر من الفأر قليلاً- صدر الحكم أن تكون الفدية (الجفرة) وهي ولد الماعز بعد أن يستغني عن لبن أمه ويستطيع الأكل.
إذن، فالمثلية هنا مثلية الشكل. وقال أبو حنيفة بإباحة أن تكون المثلية بالقيمة إن لم يوجد الشبيه. وعلى ذلك فالذي يصطاد من أجل أن يطعم نفسه يدفع ثمن الخطأ لغيره من المحتاجين. وإن كانت المثلية بالقيمة فالذي يحدد هذه القيمة أناس لهم بصيرة وهما اثنان من ذوي العدل. {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكعبة} وهم الذين لا يميلون عن الحق، ويقيمون الميزان.
 

ويأمرنا الحق أن نحكم بالإنصاف لنكون من ذوي العدل، أي أن الإنسان حين يواجه خصمين فهو يعطي نصفه لخصم ونصفه الآخر للخصم الثاني، فلا يميل بالهوى ناحية أحدهما. ولا يدير الإنسان وجهه إلى الخصم أكثر مما يديره للآخر.
 

وإن سأل أحد: كيف نأتي بذوي العدل؟ ونقول: انظر إلى عدالتهما في نفسيهما ولنر تصرفات الإنسان هل هي مستقيمة أو لا؟ وهل هو مسرف أو معتدل سواء في الطعام أو الغضب أو في أي لون من ألوان السلوك؟ ومن كان مأموناً على نفسه فهو مأمون على غيره، ويجب كذلك أن يكون من ذوي الخبرة في هذا الأمر، ولذلك يجب أن ينتبه الناس إلى هذه المسائل لأننا نرى أن موجة من النفاق للشباب تسود بعض المجتمعات، فنسمع أصواتاً تقول: إن الشباب يجب أن يتولى القيادة.
 

ونقول لأصحاب هذه الأصوات: تمهلوا ودققوا النظر في مثل هذا القول؛ لأن الشباب عليه أن يزاول عمله الخاص في فترة الشباب، وعلينا ملاحظته وهو يؤدي عمله فإن نجح ورأينا فيه أمانة على حركة نفسه، وعدلاً مع نفسه وعدم إسراف على نفسه فإننا نرشحه من بعد ذلك ليخدم أمته بعد أن يثبت أنه مأمون في عدالة نفسه. ولا يصح أن نجرب في الأمة مَن لا يَستند إلى رصيد من الخبرة السابقة.
إنه لا يصح أن نولي الأمر في أي قطاع لمن أطلقوا عليهم: الأطفال المعجزة. ومن يريد أن يجرب فليجرب في نفسه، وفيما يملك، لا في الأمم والشعوب. وعلى الشاب أن يبدأ حياته بنشاط جدي لذاته، ليستخلص النفعية القريبة منه وألا يغش نفسه، فإن نجح في ذلك، نأخذ منه بعض الوقت أو كل الوقت لخدمة أمته بعد أن يثبت لنا أنه قد وصل إلى النضج العقلي الكافي، وقد زادت تجاربه وفقد شهية الطموح الشخصي والمتع الصغيرة، ووصل إلى القدرة على التجرد ليحكم بين الناس.

 

فإذا كان الحق قد أمرنا أن نختار ذوي العدل للحكم في رقبة شاة، فما بالنا برقاب الناس ومصالح الناس؟
نحن- إذن- مطالبون بأن نميز ذوي العدل بين الناس من خلال مراقبة حركة الإنسان مع نفسه وعلى نفسه وعلى أهله، وعندما نكتشف أنه صار مأموناً على نفسه، هنا نستطيع أن نوليه أمور غيره بالخدمة العامة، وذلك حتى لا تخيب الأمة، فالأمم إنما تخيب باختيار غير مدروس لقيادات المواقع المختلفة فيها.

 

ولنا أن نلاحظ في عملنا دقة المعاني التي جاءت في القرآن الكريم، فنحن هنا في أمر شاة أو حيوان نستصدر الحكم من ذوي العدل. {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكعبة} وما يحكم به ذوا العدل إنما يذهب كله للكعبة؛ ليأكله الموجودون في البيت الحرام لعبادة الرحمن. وقد أراد الله أن يضمن قوت الذين يسكنون وادياً غير ذي زرع حتى من أغلاط الذين يعتدون على ما حرَّمَ الله صيده من الحيوان.
ولكن ما الحل إذا ما كان المخطئ لا يملك القدرة على أن يقدم هدياً بالغ الكعبة؟

 

والحق سبحانه لا يترك مثل هذه الأمور دون بيان أو تفصيل، فهاهوذا يضع الكفارة بإطعام مساكين، يحدد عددهم الاثنان من ذوي العدل. ومن لا يستطيع إطعام مساكين فليصم أياماً بعدد الفقراء الذين كانوا يستحقون الطعام لو أخرجه. {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} والوبال هو الثقل والعاقبة.
ولماذا الوبال؟ لأن الإنسان حين يدفع من ماله ثمن شراء المثل لما قتل سيعز عليه ماله، وأيضاً إن أطعم مساكين فهو سيشتري الطعام بمال يعز عليه، وكذلك يسبب له الصيام الإرهاق. إن هذا اللون من الكفارة يذيق الإنسان وبال ما فعل. وأراد الحق بذلك ألا يجعل الإحساس مجرد أمر شكلي، أو أن تظل الإساءة أمراً شكلياً. وشاء سبحانه أن يرتب النفع للإحسان والضر للإساءة، حتى تستقيم الأمور في الكون. ولنا في قصة ذي القرنين المثل الواضح على ذلك: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 83-84].
لقد مكن الحق لذي القرنين في الأرض، وأعطاه من كل شيء سببا. ومع ذلك لم يركن ذو القرنين إلى ما أعطى فلم يتقاعس ولم يكسل، بل يخبرنا الحق: {فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 85].

 

لقد أخذ ذو القرنين من تمكين الله له في الأرض، وأخذ من عطاء الله له بشيء من كل سبب، إنه أخذ طاقة وإحساساً بالمسئولية ليواصل مهمته: {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف: 86].
 

لقد بلغ مغرب الشمس في نظر عينيه، لأن الإنسان عندما يقف وقت الغروب في خلاء فالشمس تغرب أمامه وكأنها تسقط في آخر الأفق. والحقيقة أن ذلك هو نهاية قدرة البصر. وجاء التفويض لذي القرنين: إما أن يعذب هؤلاء القوم، وإما أن يعاملهم بالحسنى. وليقس عمل كل إنسان منهم، وليجاز كل إنسان منهم حسب عمله. وهو لا يفعل ذلك عن هوى، لأنه ممكن في الأرض من الحق سبحانه وتعالى؛ لذلك قال الحق: {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} [الكهف: 87].
 

وكل إنسان- حتى النفعي- حين يرى أن ارتكاب العمل السيء يأتي له بالمتاعب والخسارة، يرجع عنه ولو لم يكن مؤمناً باليوم الآخر. أما من يؤمن باليوم الآخر ويعمل عملاً صالحاً فماذا تكون نوعية معاملته؟ ها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف: 88].
 

إنه ينال التكريم والتشجيع، فالتكريم والتشجيع يجب أن ينالهما صاحب الحق فيهما لا المنافق أو المتمسح بالأبواب. هكذا يكون دستور كل متمكن في الأرض. وهكذا تكون رعاية أوامر الله ونواهيه. وحين أمرنا الحق بتحريم الصيد في البيت الحرام أو على المحرم ووضع عقوبة لمن أخطأ، فهو سبحانه وتعالى عادل معنا، فلا عقوبة إلا بنص ولا تجريم إلا بعد النص، ولذلك قال سبحانه: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}. فسبحانه يعفو عما سلف، أما من عاد ليرتكب نواهي الله في هذا المجال فيعاقبه الحق. فلا يقبل منه هدى ولا إطعام مساكين ولا صوم؛ لأن في تكرار المخالفة إصراراً عليها، لذلك ينتقم منه الله، وهو العزيز الذي لا يُغْلَب.
وبعد أن تكلم الحق عن صيد البر وحكمه، أراد أن يوضح لنا أن ذلك الحكم لا ينسحب على كل صيد. فسبحانه حرم صيد البر إن كنا حرماً، أو في دائرة الحرم

 

image.png.edecc88bd5d6724b2a881b99bea2a6ca.png


{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)}
وهذا قول دقيق يبين تحليل صيد البحر وطعامه، وتحريم صيد البر على المحرم كما حرّم الصيد في دائرة الحرم على المحرم وغير المحرم؛ لأن المسألة ليست رتابة حِلٍ، ولا رتابة حُرمة، إنما هي خروج عن مراد النفس إلى مراد الله. وصيد البحر هو ما نأخذه بالحيل ونأكله طرياً، وطعام البحر هو ما يعد ليكون طعاماً بأن نملحه ولذلك قال: {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}. ولهذا جاء الحق بطعام البحر معطوفاً على صيد البحر. والشيء لا يعطف على نفسه، فإذا ما جاء العطف فهو عطف شيء على شيء آخر، فالعطف يقتضي المغايرة.
إذن فالمقيم يأكل السمك الطري والذي في سيارة ورحلة فليأخذ السمك ويجففه ويملحه طعاماً له، مثلما فعل سيدنا موسى مع الحوت. ولكنْ هناك ألوان من الصيد ليست للأكل، كاللؤلؤ والمرجان والحيوانات التي نستخرجها من البحر لعظامها وأسنانها وخلاف ذلك، فماذا يكون الموقف؟ لقد أباح لنا سبحانه الاستمتاع بكل صيد البحر. وجاء هذا التحليل هنا بأسلوب اللف والنشر، مثلما قال الحق: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73].

 

وكلنا يعرف أن الليل للراحة والنهار للتعب. والليل يسلم للنهار، والنهار يسلم لليل. إذن فالمسكن يعود إلى الليل، وابتغاء الفضل بالكد يعود إلى النهار. إذن فقد جاء الحكم على طريق اللف والنشر المرتب، وأوضحت من قبل كيف أن الشاعر العربي قد فعل ذلك فقال:
قلبي وجفني واللسان وخالقي ** راضٍ وباكٍ شاكرٌ وغفورُ

فالقلب راض، والجفن باكٍ، واللسان شاكر، والخالق غفور، ولكن الشاعر جاء بالأحكام منشورة بعد أن لف الكلمات الأربع الأولى. أي أنه طوى المحكوم عليه مع بعضه ثم نشر الأحكام من بعد ذلك. وفي حياتنا- في أثناء السفر- نشتري الهدايا للأبناء ونرتبها حسب ورود الأبناء إلى حياتنا، أي أننا نلف الهدايا ثم ننشرها من بعد ذلك. وبعد أن حلل الحق صيد البحر جاء بتحريم صيد البر إن كنا حُرُماً، وذلك تأكيد جديد على تحريم صيد البر في أثناء الإحرام أو الوجود في الحرم.
 

ويذيل الحق الآية بقوله: {واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُون} أي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية؛ لأنكم لستم بقادرين على تحمل عذاب النار، فالحق- كما قلنا من قبل- له صفات جمال، وهي التي تأتي بما ييسر وينفع كالبسط، والمغفرة والرحمة، وله سبحانه وتعالى صفات القهر مثل: الجبار وشديد العقاب وغيرها. وكل صفة من صفات الحق لها مطلوب. فعندما يذنب الإنسان فالتجلي في صفات الله يكون لصفات الجلال، ومن جنود صفات الجلال النار.
 

إذن فإياكم أن تظنوا أنكم انفلتم من الله، فمساحة الحرية الممنوحة لكل إنسان تقع في المسافة بين قوسين: قوس الميلاد، وقوس الموت، فلا أحد يتحكم في ميلاده أو وفاته. إياك- إذن- أيها الإنسان أن تقع أسير الغرور؛ لأنك مختار فيهم بين القوسين. ومحكوم بقهرين، قهر أنه قد خلقك بدءاً، وقهر أنك ستعود إليه سبحانه وتعالى نهاية.

 

نداء الايمان
 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)}


(جعل) تعني بَيَّن ووضَّح، فقال: إن الكعبة محرمة ولها كرامة تستحق من المؤمن أن يأمن فيها. أو (جعل) تعني إيجاد صفات للأشياء بعد أن تكون ذات المادة موجودة، مثل قوله الحق سبحانه: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 7].
أي أنه سبحانه خصص جزءا من خلايا الإنسان ليكون عيناً، وجزءا آخر ليكون أذنا، وجزءا ثالثاً ليكون لساناً. والحق هنا يقول: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ}. ونعرف أن كل الأسماء للمعنويات مأخوذة من المُحسات.

 

والكعب هو الشيء الناتيء الخارج عن حد المتساوي. ومثال ذلك الكعب في القدم يكون مرتفعاً. وكذلك الفتاة نطلق عليها: (طفلة) وهي دون البلوغ، وعند البلوغ وظهور الثديين نقول إنها (كَعَاب وكاعب)، أي أن ثدييها قد صارا مرتفعين، والكعبة نتوء، والنتوء ارتفاع، وهذا الارتفاع هو علامة البيت، فالبيت هو مساحة من الأرض، أما الارتفاع فهو يحدد الحجم.
 

ومثال ذلك عندما نريد حساب مساحة الأرض؛ نقيس الطول والعرض؛ ونضرب الطول في العرض حتى نحسب المساحة. أما إذا كان هناك ارتفاع فهذا يعني الانتقال من المساحة إلى الحجم. والحق سبحانه يقول: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127].
أي أن سيدنا إبراهيم بعمله إنما أراد أن يصنع للبيت ارتفاعاً وحجماً، وهذا البناء يدل على صناعة حجم لمساحة من الأرض. إذن فالكعبة هي البيت بعد أن صار له ارتفاع. وكلمة (بيت) تعني المكان الذي أعد للبيتوتة، فالإنسان يضرب في الأرض طيلة نهاره وعندما يحب أن يستريح يذهب إلى البيت.

 

فالله جعل الكعبة بيتاً للناس حتى يستريحوا فيه من عناء حياتهم ومشقة كدحهم لأنه بيت ربهم باختيار ربهم، لا باختيارهم، فكل مسجد هو بيت الله ولكن باختيار خلق الله، أما الكعبة فهي بيت الله باختيار الله، وهي قبلة لبيوت الله التي قامت باختيار خلق الله.
{جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} وكلمة {البيت الحرام} تدل على أن له حرمات كثيرة. وجعل الله الكعبة بيتاً حراماً لكل المسلمين قياماً. والقيام هو الوقوف، والوقوف هو القيام على الأمر. والقائم على أمرٍ ما يحفظ له قوام حياته ووجوده.

 

وهكذا نفهم أنه سبحانه أراد أن تكون الكعبة هي البيت الحرام ليحفظ على الناس قوام حياتهم، بالطعام والشراب واستبقاء النسل ودفع الأذى، وفوق ذلك له سيطرة وسيادة وجاه وتمكين، ولذلك يعطي الإيمان الحياة الراقية، فالحياة مسألة يشترك فيها المؤمن والكافر، وتبدأ بوجود الروح في المادة فتنتقل المادة إلى الحالة الحس والحركة، والمؤمن هو من يرتقي بحياته فيعطي لها بالإيمان منافع، ويسلب عنها المضار، فيأخذ السيادة، وبذلك تتصل حياته الدنيا بحياته في الآخرة، فلا تنتهي منه الحياة أبداً.
 

لقد جعل الحق سبحانه وتعالى الكعبة البيت الحرام قياماً للناس.. أي قواماً لحياتهم سواءً الحياة الدنيا او حياة الآخرة، الحياة المادية التي تنتهي بالموت، والحياة التي تبدأ بالآخرة. والحق سبحانه يقول عن ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
 

هكذا يكون الإيمان بالله وصلاً لحياتين: الحياة المادية في الدنيا، وحياة الآخرة. وأراد الحق بذلك دفع الأذى وجلب النفع والجاه والسيطرة للمؤمنين، ونعرف أن البيت الحرام هو أول بيت وضع للناس: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].
كذلك نعرف أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أقام القواعد من البيت، أما البيت نفسه فقد أقيم من قبل ذلك. وما دام الحق سبحانه قد قال: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96].

 

فمعنى ذلك أن الله لم يحرم الناس من قبل إبراهيم أن يكون لهم بيت. فالناس معناها البشر من آدم إلى أن تقوم الساعة، وأقام إبراهيم خليل الرحمن البُعْد الثالث وهو رفع القواعد للبيت الحرام. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26].
أي أن الحق سبحانه وتعالى أظهر مكان البيت لإبراهيم عليه السلام، ونعرف أن إبراهيم أشرك ابنه إسماعيل في إقامة القواعد من البيت، ونعلم أن إسماعيل قد جاء إلى هذا المكان رضيعاً مع أمه، وقال إبراهيم بعد أن رفع القواعد متوجها إلى ربه بالدعاء: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم} [إبراهيم: 37].

 

لقد عرف إبراهيم مكان البيت وأنه بوادٍ غير ذي زرع، لا ماء فيه ولا نبات. وجاء الحق بهذه الكنابة لنعرف أنه لا حياة بدون زرع، والماء لازم للزرع. وبذلك يكون إبراهيم عليه السلام قد لبى نداء الله بأن يأتي إلى مكان ليس به أي نعمة تقيم الحياة، ولا يوجد فيه إلا المنعم، ولذلك نرى سيدتنا هاجر عليها السلام عندما تتلقى الأمر من إبراهيم بالسكن مع ابنها في ذلك المكان تناديه: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ فيقول لها: إلى الله تقول: رضيت بالله. هنا تركته سيدتنا هاجر ليمشي كما أراد، فالله لن يضيعها لا هي ولا ابنها؛ لأنها قالت: رضيت بالله.
 

وقص الرسول الله صلى الله عليه وسلم علينا قصتها، والسعي الذي قامت به بين الصفا والمروة، وكيف كانت ثقتها في أن الخالق الأكرم لن يضيعها لا هي ولا ابنها، بل سيرزقهما، فتسعى بين الصفا والمروة لعلها تجد طيراً يدلها على موقع للماء، وتعود إلى المروة لعلها تجد قافلة تسير. إنها تأخذ بالأسباب مع علمها أنها في صحبة المسبب الأعظم. وسعت سبعة أشواط. وهي الأنثى وفي تلك السن، وذلك من لهفتها على توفير شربة ماء لطفلها.
السعي- كما نعرفه- عملية شاقة. ولو أن الله أعطاها الماء على الصفا أو على المروة لما أثبت كلمتها: (إن الله لا يضيعنا). ولكن الحق يعطيها الماء عند قدمي طفلها الرضيع. وبذلك لها يكون سبحانه قد نبهنا وأرشدنا إلى قضيتين: أمّا الأولى فإن الإنسان يلزمه أن يسعى على قدر جهده، وأما الثانية فهي أن السعي لا يعطي بمفرده الثمرة، ولكن الثمرة يعطيها الله. وجعل الله من السعي بين الصفا والمروة تعليماً لنا بدرس عملي تطبيقي أن نأخذ بالأسباب ولا ننسى المسبب؛ لأن فتنة الناس تأتي من الغرور بالأسباب. {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6-7].

 

إنه لا يصح أبداً أن تعزلك الأسباب عن المسبب، ولا تقل سأبقى مع المسبب إلى أن تأتيني الأسباب؛ لا، كُنْ دائماً مع الأسباب، وتذكر دائماً المسبب. ولذلك نقول: إن الجوارح تعمل، ولكن القلوب تتوكل. وهذا هو المغزى من عطاء الحق سبحانه الماء لهاجر عند قدمي ابنها، وبذلك تستجاب دعوة إبراهيم التي دعا بها الله: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
 

لقد دعا إبراهيم عليه السلام بالرزق من الثمرات، لأن الوادي غير ذي زرع. ولذلك جعل الحق أفئدة الناس تهوي إلى الكعبة وإلى البيت الحرام. يقول- سبحانه-: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} [القصص: 57].
وكلمة (يُجبى) تدلنا على أن الناس لا تأتي بهذه الثمرات اختياراً إلى البيت الحرام الذي جعله الله قياماً لحياة من يوجد فيه، بل يأتون بالثمرات قهراً.

 

وهناك أناس لهم مزارع كبيرة وحدائق وفيرة الثمار في الطائف وفي غيرها من البلاد، وعندما يريد إنسان الشراء من نِتاج مزارعهم يقولون له: إنه مخصص لمكة فإن أردت شراءه فاذهب إلى مكة.
لقد استجاب الحق لدعاء إبراهيم: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ}. و(تهوي)- بكسر الواو- تدل على السقوط من حالق.. أي من مكان مرتفع شاهق. وكأن الشوق إلى الكعبة يجعل الإنسان مقذوفاً إليها. ولذلك نجد الكَلِف بالحج- المحب له والمتعلق به- تشتاق روحه إلى الحج.

 

وعلينا أن نفرق بين (يَهْوَى).. أي يحب الذهاب، و(يَهوى) بكسر الواو أي يذهب بالاندفاع، فالإنسان إن سقط من مكان عالٍ لا يستطيع أن يقول: سأتوقف عند نقطةٍ ما في منتصف مسافة السقوط؛ لأن الذي يقع من مكان لا يقدر على أن يمسك نفسه. ولذلك قال الحق: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات} [إبراهيم: 37].
وهذا دليل على أن الهْوُي ليس من صنعة الجسم، ولكنه من صنعة الأفئدة.

 

والأفئدة بيد الله سبحانه هو الذي جعلها تهوِي، والكعبة هي البيت الحرام وهي قوام لحياة الناس، وسبحانه القائل: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97].
فالداخل إلى الكعبة آمن حتى ولو كان قاتلاً. وكان الرجل يلتقي بقاتل أبيه في الكعبة فلا يتعرض له، إذن فقد أعطى الحق لهم من مقومات الحياة الشيء النافع وحجب عن الموجود منهم الضر.
وأما السيادة والجاه فقد عرفنا ان قريشاً سادت العرب وكان رجالها سدنة وخدماً لبيت الله، والكل يأتي إليهم فلا أحد يتعرض لقوافلهم الذاهبة إلى الشام أو اليمن. وإلا فمن يتعرض لقوافل قريش فإن قريشاً تستطيع الانتقام منه عندما يأتي إليها. وكان ذلك قمة السيادة. إذن فمقوم الحياة إما أن يأتي بنافع كالرزق، وأما أن يمنع الضار؛ وذلك بالأمن الذي يصيب كل داخل إليها، وكذلك بالسيادة التي أخذتها قريش على العرب جميعاً. وأعطى الله المثل لقريش على حمايته للكعبة، عندما جاء أبرهة ليهدم الكعبة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1].

 

ورد سبحانه كيد أصحاب الفيل؛ لأنهم لو هدموا الكعبة لضاعت السيادة من قريش، ولذلك قال الحق وصفاً لذلك: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5]. {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 1-2].
جعل الحق أصحاب الفيل كعصف مأكول أي كتبن أو نحوه أكلته الدواب وألقتهُ رَوْثا، فعل سبحانه ذلك حتى تألف قريش وتطمئن إلى أن الكعبة لن يمسها سوء، وإلى أن رحلات الشتاء والصيف مصونة بحكم حاجة كل القبائل إلى الحج. وقال سبحانه: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4].
أي أسبغ عليهم النعمة بالطعام وسلبهم المضرة بالخوف، وأبقى لهم السيادة والجاه بخدمة الكعبة التي جعلها الله للناس جميعاً قياما وامناً؛ لأن الذين يذهبون إلى حج البيت يُكفر عنهم سبحانه سيئاتهم ويخرجون من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم، وهذا قيام لحياتهم الأخروية أيضاً.

 

إذن جعل الله البيت الحرام قياماً لكل ألوان الحياة، والبيت الحرام مكان كما نعلم. وجعل الحق الشهر الحرام أيضاً قياماً للحياة، والشهر الحرام هو زمان كما نعلم. والشهر الحرام هو أحد الأشهر الحرم الأربعة: شهر منها فرد أي غير متصل بغيره من الأشهر الحرم وهو رجب- ولذلك يسمى رجب الفرد- وثلاثة سرد أي متتابعة يلي بعضها بعضاً وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. والمراد بالشهر الحرام هو الجنس لكل شهر من الأشهر الحرم.
 

ونعلم أن كل حدث من الأحداث يحتاج إلى فاعل. والفاعل يحتاج إلى زمن ليفعل فيه الفعل، وإلى مكان يفعل فيه، وإلى سبب يدعو إلى الفعل، وإلى قدرة تبرز هذا الفعل. ولذلك نذكر جميعاً قول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23-24].
فإياك أن تقول: إني فاعل ذلك غداً إلا بعد أن تتبعها بقولك: (إن شاء الله). ولا يمنعنا هذا أن نخطط لمستقبلنا. فمادمنا قد استعنا بالمشيئة، فلنا أن نخطط لحياتنا. ونقول: (إن شاء الله) لأن عناصر الفعل: فاعل، ومفعول يقع عليه الفعل، وزمان، ومكان، وسبب، وقدرة تبرز الفعل. ولا أحد منا يملك واحداً من هذه العناصر، فأنت أيها الإنسان لا تملك وجود ذاتك غداً، ولا تملك وجود المفعول غداً، ولا تملك الزمان، ولا تملك المكان، ولا تملك السبب؛ لأنه من الجائز أن يتغير، ولا تملك القدرة على العمل، فقد تسلب منك القدرة قبل أن تفعل الفعل.

 

إذن، فأنت لا تملك من عناصر الفعل شيئاً. فلا تجازف وتقول: أنا أفعل ذلك غداً. بل أسندها إلى من يملك كل العناصر، وقل: (إن شاء الله)، وبذلك لا تكون كاذباً.
وهنا في هذه الآية يوجد عنصران: المكان، والزمان، المكان هو البيت الحرام، والزمان هو الشهر الحرام، والذي يحدث الفعل فيه نسميه: المفعول فيه، وهو إما ظرف مكان وإما ظرف زمان. وأراد الحق سبحانه بذلك أن يؤكد ما فيه قيام الناس زمانا ومكانا، فلو أنه سبحانه لم يفعل ذلك بالنسبة للزمان وهو الأشهر الحرم، والمكان وهو الحرم، لاستمرت الحرب بين قبائل العرب إلى ما لا نهاية. ولذلك أراد بالأشهر الحرم أن يعطي للعقل فرصة للتأمل في أسباب الحرب، ويعطي كل إنسان من العرب الراحة من القتال. وكان كل عربي في ذلك الزمن يهتم بالاستعداد للقتال اهتمامه بالطعام والشراب، فكل منهم تربى على الفروسية والقتال والضرب بالرمح والمبارزة بالسيف.

 

وحينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لينساح بالدعوة في أرض الله صحب معه الكثير من الرجال الذين لم يكونوا في حاجة إلى التدريب على أعمال الحرب، فقد كان كل الناس تقريباً جاهزين للقتال. وكأن الله سبحانه أراد للإسلام أن ينهي الثأر بين القبائل، وأن يستفيد الإسلام من استعداد كل عربي للقتال. واستفاد الإسلام أيضاً من أن أمة العرب كانت- غالباً- متبدية؛ بيت كل إنسان منهم على ظهر البعير، يشد رحاله، وينصب خيمته وينام؛ لأن الناس إنما ارتبطوا بالأوطان عندما بنوا المنازل، فمن بنى لنفسه بيتاً في مكان ما فهو يشتاق إلى ما بناه.
وكأن الحق قد أعدهم للانسياح بكلمة الله في الأرض فلا يحزن لترك مكان إلى مكان آخر، بل إن الشخص منهم كان يذهب إلى البلاد ويتوطن فيها ليؤصل الوجود الإسلامي. فكان كل واحد منهم نواة الخير للأمم التي انساحوا إليها؛ فمن ذهب منهم إلى الشام توطن فيها ولم يصعب عليه فراق الجزيرة. وكذلك من ذهب إلى مصر وغيرها من البلدان.
إذن فقد أراد الحق بحرمة الأشهر الحرم والبيت الحرام أن يرتاح العرب من القتال بدلاً من أن تهلك الحربُ الحرثَ والنسلَ، وأراد الحق ذلك قياماً للناس، واستبقاء للنوع.

 

وكذلك حرم الله: {والهدي والقلائد} والهدي هو الذي يُهْدَى للحرم فيأكله الناس هناك، ذلك لأن الحرم موجود بوادٍ غير ذي زرع. والهدي هو البهيمة التي يتطوع بها أي إنسان ويضع حول عنقها قلادة من لحِاء وقشر الشجر أو غير ذلك، وعندما يرى الناس القلادة يعرفون أن تلك البهيمة مهداة للحرم فلا يقربها أحد حتى صاحبها وإن قرصه وعضه الجوع، وفي ذلك قيام للناس.
وتتابع الآية: {ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي أنه مدبر لهم ما يحفظ حياتهم في كل حالٍ من أغيار الحياة؛ فقد رتب سبحانه لهم حفظ الأرواح، وحفظهم من الجوع، وآمنهم، وحفظ لهم السيادة، كل ذلك بتدبيره وهو الحكيم. لقد دبر كل شيء أزلاً، وأتت الأمور على وَفْق ما دبر من خير ومصلحة، فإذا كان كل ذلك قد فعله سبحانه وتعالى فلأنه الأعلم والأحكم.
وقد حدث كل ذلك بعلمه وحكمته، ونؤمن أن ما لا نعرفه قد فعله وصنعه- أيضاً- بهذه الحكمة المطلقة وذلك العلم المطلق. {ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لقد رتب حياة الناس في الجزيرة وحول البيت الحرام على الرغم من انهم قبل الرسالة كانوا يعبدون الأصنام، ولكنه هداهم بالرسالة المحمدية. ولذلك قال: {اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فسبحانه جعل البيت أمنا وأماناً، وهذا إخبار شرعي لا إخبار كوني.

 

والفرق بين الإخبار الكوني والإخبار الشرعي أن الإخبار الكوني لابد أن يحدث لأنه لا دخل للناس به، أما الإخبار الشرعي فهو أمر يجب أن يقوم الناس بتنفيذه، فإن أطاع الناس الخبر القادم من الله جعلوا البيت آمنا، وإن أساءوا جعلوه غير آمن.
 

وفي زماننا القريب عندما اعتدى شاب يدعى جهيمان على الحرم، تساءل الناس: كيف يعتدي إنسان على الحرم وقد أراده الله حرماً آمناً؟ وقلنا: إن أمر الله بجعل البيت حراماً آمنا هو أمر شرعي ينفذه المؤمنون إن أطاعوا، وإن لم ينفذوه فهم غير مؤمنين. والمثال على الأمر الشرعي والكوني قوله الحق: {والطيبات لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26].
 

إنَّنَا نجد في الحياة خبيثاً يتزوج امرأة طيبة، ونجد طيباً يتزوج خبيثة. وهذا يثبت لنا أن قوله الحق: {والطيبات لِلطَّيِّبِينَ} هو أمر شرعي بأن نزوج الطيب طيبة مثله، وهو واجب التنفيذ إن كنا مؤمنين بالمنهج، أما إن خالفنا المنهج فإننا نزوج الطيب خبيثة والطيبة خبثاً، وبذلك يختل التكافؤ في الأسرة، وتصير حياة المجتمع جحيماً، ومن أجل أن نحفظ للمجتمع توازنه علينا أن نزوج الطيب للطيبة وأن نترك الخبيثة للخبيث، حتى لا تكون حياتنا في فتنة. وينبهنا سبحانه إلى ضرورة مراعاة أوامره الشرعية

 

نداء الايمان

 

image.png.01982b0574d48c170a01c066eff9272e.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×