اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير الشيخ الشعراوى( سورة االمائدة)

المشاركات التي تم ترشيحها

{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)}


أي تيقظوا لأحكام الله، وكونوا طوع ما يريد، فمن يخالف الله فعليه أن يعرف أنه سبحانه وتعالى شديد العقاب. ومن كان يطيع الله فليعلم أنه سبحانه غفور رحيم. وجاء سبحانه بصفة من صفات الجلال لتتقابل مع صفتين من صفات الجمال، فصفة: {شَدِيدُ العقاب} تتقابل مع صفتي: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}؛ لأن كل الناس ليسوا أخياراً، وكل الناس ليسوا أشراراً؛ لذلك جاء للأخيار بما يناسبهم من المغفرة والرحمة، وجاء للأشرار بما يناسبهم من شدة العقاب، وغلبت رحمته ومغفرته غضبه وعقابه، ونلاحظ ذلك من مجيء صفة واحدة من صفات الجلال: {شَدِيدُ العقاب} ويقابلها صفتان من صفات الجمال وهما: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.


 

image.png.ac06b7d867bf1589a84d11c63ad76023.png

 

{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)}


الرسول هو المبعوث من المرسِل الحق سبحانه إلينا نحن العباد. والحق سبحانه هو الفاعل الأول، المطلق الذي لا فاعل يزاحمه، والمفعول الأول بالرسالة هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والمفعول الثاني هو نحن. وهناك في النحو المفعول معه، وهناك أيضاً المفعول له، والمفعول فيه، والمفعول به، وأيضاً يوجد المفعول إليه والمثال على المفعول إليه قوله تعالى: {تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} [النحل: 63].
وفيه أيضا المفعول منه. والمثال على المفعول منه هو قوله الحق: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155].
و(قومه) هي مفعول منه. لأنه اختار من قومه سبعين رجلا ممن لم يعبدوا العجل ليعتذروا عمن عبد العجل ويسألوا الله أن يكشف عنهم البلاء.

 

إن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي البلاغ(ما على الرسول إلا البلاغ)، أما تنفيذ البلاغ فهو دور المؤمنين برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أدوْها فلهم الجنة، وإن لم يؤدُّوها فعليهم العقاب. وأراد الحق أن يكون البلاغ من رسوله مصحوبا بالأسوة السلوكية منه صلى الله عليه وسلم، فالرسول يبلغ وينفذ أمامنا ما بلغ به حتى نتبعه، ولذلك قال الحق: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
وهذا ما ينقض ادعاء الألوهية لبشر. فلو كان هناك إله رسول لقال الناس: كيف نتبع هذا الرسول وله من الصفات والخصائص ما يختلف عنا نحن البشر؟ إن الرسول لا يستقيم ولا يصح أن يكون إلها لأنه هو الأسوة والقدوة للمرسل إليهم. إنه يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويفعل غير ذلك من الأفعال، ويأمر من أرسل إليهم أن يتبعوه فيما يفعل، فلو كان إلها فإن المرسَل إليهم- وهم البشر- لا يقدرون على أن يفعلوا مثل ما يفعل؛ لأنه إله وطبيعته تختلف عن طبيعتم ولذلك لا يستطيعون التأسي والاقتداء به، فالأسوة لا تتأتي إلا إذا كان الرسول من جنس المرسل إليهم.. أي يكون بشراً بكل أغيار البشر.
والحق سبحانه قال: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94].
أي أن البشر تساءلوا- جهلاً- عما يمنع الله سبحانه أن يرسل لهم رسولاً من غير جنس البشر، ولماذا أرسل لهم رسولاً من جنسهم البشري؟ وهنا يأتي الأمر من الله سبحانه: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95].
وبهذا يبلغ الحق رسله ضرورة إبلاغ الناس أن الرسول لهم لابد من أن يكون من جنس البشر؛ لأن الملائكة لا يمشون مطمئنين في الأرض، ولو جاء الرسل من الملائكة لقال البشر: لن نستطيع اتباع ما جاء به الملائكة لأنهم لا يصلحون أسوة لنا؛ لأنهم من جنس آخر غير جنس البشر، ثم إن الملائكة من خلق الغيب، فكيف يبعث الله للبشر هذا الغيب ليكون رسولاً؟ ولو حدث ذلك فلابد أن يجعله الحق في صورة بشرية.

 

ففي آية أخرى يقول الحق: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9].
إنهم طلبوا أن ينزل الله عليهم ملكاً، ولو استجاب الله لهم وأرسل رسوله ملكاً لتجسد المَلَك في صورة بشرية، وهم من بعد ذلك قد يستمرون على الكفر ويعاندون ولا يؤمنون، عندئذ يحق عليهم عذاب الله ويهلكهم. إذن فمهمة الرسول هي البلاغ ولنا فيه الأسوة.
وتتابع الآية: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} كأنه سبحانه وتعالى يحذرنا من أن نأخذ شكل الإيمان دون أن نؤمن حقيقة؛ لأن الأمر الشكلي قد يجوز على أجناس البشر أن ينخدعوا فيه، ولكن الله ينظر إلينا بقيوميته، فسبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم. وفي هذا القول تحدّ للمنافقين من أنه سبحانه سيحاسبهم، فإن كتم الإنسان الكفر في قلبه وأظهر الإيمان الشكلي، فسوف ينال عقاب الله، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة المؤمنين أن يحكموا على ظاهر الأمر وأن يتركوا السرائر لله.

 

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عن أن يحكم بكفر إنسان أعلن الإيمان ولو نفاقاً. وقد أبلغنا صلى الله عليه وسلم أنه بشر، وعرف أن البشرية محدودة القدرة. ولذلك قال: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار ليأخذها أو ليتركها).
هكذا يحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نظن فيه قدرة فوق قدرة البشر، وعندما قتل صحابي رجلاً أعلن الإيمان قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه» إذن فنحن لنا الظاهر، أما السرائر فأمرها موكول إلى الله. ولذلك يقول الله:
{والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}.

image.png.42a5ea6ed24077c99f2f5352930f7e21.png

ونعلم أن ظاهرة النفاق تعطي للمنافق حقوق المسلم الظاهرة الموقوتة بحياته وزمنه، ولكن الباقي في الحياة الأخرى طويل ينال فيه جزاء ما أبطن من كفر. والكتمان غير الإخفاء. فكتم الشيء يعني أن الشيء ظاهر الوضوح ولكن صاحبه يكتمه، أما الإخفاء فهو ما يدور بالخواطر، ويمكن أن يخفيه الإنسان، ولكنه مع مرور الوقت لا يستطيع ذلك، فالشاعر العربي يقول:
ومهْما تكُنْ عندَ امرئ من خليقةٍ ** وإن خالها، تخْفى على الناس تُعْلَم

ويقال: يكاد المريب أن يقول خذوني.
ومادام الحق يعلم كُلّ ما يبدي البشر وكل ما يكتمون، وهو شديد العقاب، وغفور ورحيم، ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها، ويجازي على السيئة بمثلها، فماذا علينا أن نفعل؟ يأتينا القول الفصل في أمر الله لرسوله أن يخبرنا:

{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}
إذن فالخبيث لا يستوي أبداً مع الطيب، بدليل أن الإنسان منا إذا ما ذهب لشراء سلعة فهو يفرز البضاعة ليختار الطيب ويبتعد عن الخبيث. وهذه قضية كونية مثلها تماماً مثل عدم تساوي الأعمى والبصير، وعدم استواء الظلمات والنور. ويأتي الحق إلى المحسات ليأخذ منها ما يوضح لنا الأمر المعنوي. ولذلك يحذرنا أن نغتر بكميات الأشياء ومقدارها، فإن الطيب القليل هو أربى وأعظم وأفضل من الكثير الخبيث. والأمر الطيب قد يرى الإنسان خيره في الدنيا، ومن المؤكد أن خيره في الآخرة أكثر بكثير مما يتصور أحد؛ لأن عمر الآخرة لا نهاية له، أما عمر الدنيا فهو محدود.
 

وكثير من الناس عندما يحضرون قسمة ما، فكل واحد يرغب في أن يأخذ لنفسه النصيب الأكبر؛ لأن الإنسان تغريه الكثرة. وهذا الطمع يشيع الخبث في جميع ما يأخذه الطامع، فالذي يطمع في حفنة من قمح- على سبيل المثال- تزيد على حقه، فهو يفسد حياته بهذا الشيء الخبيث. وذلك كخلط الماء الطاهر بماء نجس فتغلب النجاسة على الماء. إذن فلا يصح أن نحكم على الأشياء بكميتها وقَدْرِها، ولكن يجب أن نحكم على الأشياء بكيفيتها وصفتها وبعمرها في الخير.
والمثال الذي لا أمل من تكراره هو التلميذ الذي يكد لمدة عشرين عاماً فهو يتخرج إنساناً له مكانة لائقة، أما التلميذ الذي يقضي عشرين عاماً في اللعب واللهو فهو يتلقى وينال مستقبلا فاشلا مؤلما. إذن، على كل منا أن يقدر النفعية بديمومتها، ولا يغتر بكثرة الخبيث.
والمثال يتكرر في حياتنا ولابد أن نضعه أمام أعيننا لنرعى الله ولا ننساق كما ينساق كثير من الناس إلى هلاكهم، فبعض الناس لا يرتضون قسمة الله في مواريثهم، فيعطي بعضُهم للذكور ولا يعطي للإناث. أو يقلل من نصيب الإناث. ونقول لمن يفعل ذلك: أنت لا تعلم ماذا تفعل. ولو أن ابنك الذكر يعلم أن يد الله في الأشياء لقال لك: ارحمني ولا تزدني؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [النساء: 11].

 

ولذلك يجب أن ينتبه الناس إلى أن قسمة الله هي أعدل قسمة، وإياك أن تظلم ابناً لك أو قريباً بزيادة فوق ما قدره الله له؛ لأن هذا عين الظلم. فإن فاتت على المورِّث وهو حي نقول لمن أخذ: احذر ولا تقبل ما هو فوق شرع الله وأَعِدْ ما هو فوق حقك. افعل ذلك برجولة الإيمان. وإياك أن تظن أن الذي سيديم الستر لأولادك هو هذه الزيادة التي ليس لك حق فيها؛ لأنك بهذه الزيادة ستقطع الأرحام وتغرس بذور الكراهية والبغض.
 

ولو نظرت إلى هذه المسألة وأقمتها على ما شرعه الله فستجد أن الرزق سيفيض عليك من كل جانب ما دمت قد راعيت حق الله في إرادته التي حكم بها لينشأ الاستطراق الأسري وتظهر العدالة الربانية؛ لذلك يجب ألا يجتريء أحد على قسمة الله؛ لذلك أقول لكل من يقرأ هذه الكلمات ويفكر في الاجتراء على قسمة الله.
 

تُب إلى الله ولا يصح أن تشوه استقامتك الإيمانية. وإياك أن يظن إنسان أنه كأب يمكنه أن يحتاط لأبنائه. فكثيراً ما رأينا أناساً تركهم أهلهم أغنياء وصاروا في عوز وفاقة وفقر، ورأينا أناساً أهلهم فقراء، وأفاض الله عليهم من رزقه، فسبحانه القائل: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9].
 

إذن فعلى المؤمن أن يحذر الكثرة إن كان بها شيء خبيث. ولنا العبرة في الحكاية التي حدثت مع أبي جعفر المنصور حينما بويع للخلافة، وذهب الناس يهنئونه بإمارة المؤمنين، ودخل عليه سيدنا مقاتل بن سليمان وكان أحد الواعظين.
هنا قال أبو جعفر لنفسه: جاء ليعكر علينا صفو يومنا، سأبدأه قبل أن يبدأني وقال له: عظنا يا مقاتل. قال مقاتل: أعظك بما رأيت أم بما سمعت؟
ذلك أن السمع أكثر من الرؤية، فالرؤية محدودة ومقصورة على ما تدركه العين، لكن السمع متعدد؛ لأن الإنسان قد يسمع أيضاً تجارب غيره من البشر.

 

قال أبو جعفر: تكلم بما رأيت. قال: يا أمير المؤمنين، مات عمر بن عبد العزيز وقد ترك أحد عشر ولداً. وخلف ثمانية عشر ديناراً كُفن منها بخمسة، واشتروا له قبراً بأربعة، ثم وزع الباقي على ورثته. ومات هشام بن عبد الملك، فكان نصيب إحدى زوجاته الأربع ثمانين ألف دينار، غير الضياع والقصور. كان نصيب الزوجات الأربع هو ثلاثمائة وعشرون ألف دينار، وهذا هو ثُمن التركة فقط. والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت بعيني هاتين في يوم واحد ولداً من أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله، وولدا من أولاد هشام بن عبد الملك يسأل الناس في الطريق.
إذن فعلى كل منا أن يعرف أنه لم يدخل الدنيا بثروة، وعليه أن يتأدب مع الله ويرعى حق الله، ولا يتدخل في قسمة الله.


{قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث فاتقوا الله ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100].
على المسلم- إذن- أن يستحضر كل ملكاته العقلية حتى يميز الخبيث من الطيب ويرفض الشيء الخبيث؛ لأننا لو تدبرنا الحكم بعقولنا لوصلنا إلى أن حكم الله هو الحكم الحق العادل.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والفلاح- كما نعلم- مأخوذ من أمر محس وهو فلح الأرض، فالإنسان يأخذ حبة قمح ويزرعها فتعطيه سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. والحق سبحانه يسمي لنا كل عمل الآخرة بالفلاح؛ لأن الكلمة لها وقعها الجميل، فإذا كانت الأرض، وهي مخلوقة من مخلوقات الله بما تحتويه من كل العناصر اللازمة للزرع واللازمة لكل حياة، هذه الأرض تعطينا لقاء حبة قمح سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، فكم يعطيك خالق الأرض؟ فاتق الله أيها المسلم ولا تتدخل في قسمة الله، وضع أمامك هذا التوجيه الحكيم الذي ورد في الأثر: شرّكم من ترك عياله بخير وأقبل على الله بشرِّ.

 

وعلى الأبناء الذي ابتلوا بهذا أن يراجعوا الأمر بنخوة إيمانية؛ لأن الأب حينما أحب ابناً له وزاد له في الميراث كان أحمق الحب، وعلى الابن أن يحترم عاطفة الحب، وأن يجازي الأب عنها ويرحمه، فيعيد الأمر إلى نصابه ويعطي كل ذي حق حقه حتى لا يتعرض أبوه لعذاب النار الذي سيناله نتيجة تدخله لصالحه في قسمة الله.

 

نداء الايمان

 

image.png.5bc4bb3e63e39077ec642731b7a03afb.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)}


وهذا نهي عن السؤال، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني ما تركتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».
ونعرف أن بني إسرائيل شددوا على أنفسهم عندما أخذوا يماطلون في أمر ذبح البقرة، وتساءلوا عن لونها، وشددوا فشدد الله عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة لكانت مقبولة منهم، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم حتى جاءت البقرة الموصوفة ملكاً ليتيم، كان هذا اليتيم ابناً لرجل صالح وكانت له عِجْلة فأتى بها موضعا كثير الشجر والمرعى وقال: اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر وعندما ساوموا اليتيم على ثمنها باعها لهم بملء جلدها ذهباً.

 

وقد شدد بعض الناس في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبدالله بن حذافة بن قيس السهمي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبي؟ فأجاب رسول الله: (أبوك حذافة). ولو فرضنا أن هذا السائل كان ينسب لغير أبيه ألا يكون في ذلك فضيحة لأمه وقد قالت له أمه: ما رأيت أعق منك قط، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رءوس الناس.


لقد أراد الحق أن يخفف من أسئلة الناس في الأمور التي تؤدي بهم إلى المشقة والتعب وتسيء إليهم وتقبل الحق من رسوله أسئلة المؤمنين عن القواعد الشريعة مثل سؤالهم عن الخمر والأهلة والحيض والشهر الحرام وغيرها. أما الأسئلة الأخرى فقد قال الحق في شأنها: {عَفَا الله عَنْهَا والله غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
ذلك أن البعض استمرأ السؤال وكأنه يمتحن النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك جاء الأمر بألا يتعمد المؤمنون السؤال عما ستره الله عنهم كي لا ينفضح عرضهم. {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ} فإن نزل القرآن وهو يحمل الإجابة كان بها. وإن لم تأت الإجابة فلا يقولن أحد: إن النبي ليس عنده جواب. أو هي سؤال عن الأشياء التي اقترحوها ادعاء منهم أنها تثبت صدق النبوة فقد حكى الله عنهم: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 90-93].
لقد ظهر من هذا القول سوء النية المبيتة منهم، فالرسول لن يأتي بالآيات، بل تأتيه الآيات بالأمر المكلف به؛ لأن الرسول لا يختار ما يُؤْتى به من آيات، ولكن الحق هو الذي يرسل الآيات المناسبة.
ولذلك يقول الحق


{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)}


والحق لم يرسل هذه الآيات رحمة بمن سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنها فقد سأل قوم عن ناقة وعقروها فأبادهم الله. وقوم عيسى عليه السلام سألوا عن مائدة ونزلت عليهم وتوعدهم الحق بعدها إن لم يؤمنوا. وكانت سنة الله مع خلقه إن اقترحوا هم آية ولم يصدقوها فإن الحق يهلكهم أو يعذبهم. ويعطي سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم ضماناً. {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33].
إذن فالأسئلة التي سألوا عنها لم يجبهم عنها لأنه سبحانه قد عفا عنها. والعفو- كما نعلم- مأخوذ من عفّى الأثر أي أذهب الأثر وعفو الله من مغفرته ورحمته.

 

نداء الايمان

 

image.thumb.png.7bfe671c8ff0652891bd459b3fbc066c.png
 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك


{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)}


هذه الآية جاءت في السورة التي أحل الله فيها بهيمة الأنعام، وحرّم منها ما حرّم. فهو سبحانه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يستبقي حياته من قوت، وما يستبقي نوعه بالتزاوج. وإذا كان الحق هو الذي جعل الإنسان خليفة في الأرض فقد أعدّ له كل هذه المقومات للحياة من قبل آدم عليه السلام، أعدّ سبحانه لخلقه الأرض والسماء والماء والهواء، ومما ذخر وخَبّأ وأوجد في الأرض من أقوات لا تنتهي إلى يوم القيامة.
 

ولنا أن نلتفت إلى فارق مهم بين (الخلق)، وبين (الجَعْل). فالخلق شيء، والجعل شيء آخر.

والخلق هو إيجاد من عدم. والجَعْل هو توجيه مخلوق لله إلى مهمته في الحياة. فخلق الله لا يخلقون شيئاً، إنما الخلق والإيجاد له سبحانه. وعلينا- نحن الخلق- أن نخصص كل شيء لمهمته في حياته التي أرادها الله، أي أن نترك (الجعل) لله ولا نتدخل فيه، بمعنى أن الخالق سبحانه وتعالى خلق الخنزير- على سبيل المثال- ليأكل من القاذورات وليحمي الإنسان من أمراض وأضرار كثيرة، وعلى الإنسان- إذن- أن يخصص الخنزير لهذه المهمة فلا يحوّله إلى غير مهمته كأن يأكله مثلا؛ لأن تحويل مهمة مخلوق لله إلى غير مهمته هو أمر يضر بالإنسان الذي أراده الله سيداً مستخلفاً في الكون.
 

وأبلغ سبحانه الناس أنه قد أحل أشياء وحرّم أشياء، وعلى الإنسان أن يرضخ لما حلله الله فيقبل عليه، وأن يرضخ بالابتعاد عما حرّم الله. والخالق سبحانه وتعالى هو الذي (خلق) وهو الذي (جعل) وهو القائل: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97].
وهو القائل: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1].

 

والحق سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نجعل له أنداداً: {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
فسبحانه وتعالى موجود وواحد أحد، فلا يصح أن تجعلوا له أنداداً؛ لأن ذلك عبث. ويثبت لنا سبحانه أن قضية الفساد في الأرض تنشأ من تعدي الناس إلى الجعل المخلوق لله فيحولونه إلى غير ما خلقه الله له.
والخَلْقُ في حياتهم اليومية يحرصون على أن يستخدموا الأشياء فيما هي مخصصة له. ومثال ذلك: أنت تستقبل من صانع الجبن قالباً من جبن. وتستقبل من صانع الصابون قالباً من الصابون، ثم تجيء بالجبن والصابون إلى المنزل، فتخبر أهل البيت بأن الجبن للأكل والصابون للغسيل، ويطيع الجميع هذه التوجيهات.
لكن إن استخدم أحد الصابون للأكل والجبن للغسيل يحدث إفساد في صحة أفراد الأسرة. وكذلك جعل الحق سبحانه وتعالى لنا أبناء من أصلابنا، فكيف نأخذ أبناء من غير أصلابنا لنجعلهم أبناء لنا؟ إن هذا خطأ في الجَعْل.
ولذلك قال الحق: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} [الأحزاب: 4].
إن الدعيّ هو في حقيقة أمره من غير صلبك، وزوجتك ليست أمّاً له، فكيف تجعله ابناً لك، وتمكنه من أن يجلس في حجر امرأة غير أمه ويشب على ذلك وينظر إلى غير محارمه على أن ذلك حلال ومباح له، إنه بذلك يفقد التمييز بين الحلال والحرام؛ لذلك فالتبني إفساد في الجعل.
إن كل فساد ينشأ في الكون حينما نجعل مخلوقاً لله في مهمة غير تلك التي جعلها الله له. والحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يقيته، وما يحفظ نوعه، فعلينا أن نتبع ما يأمر به الحق من اتباع ما هو حلال، والابتعاد عما هو حرام. وإن قال قائل: ولماذا حرّم الله بعض الأشياء التي خلقها؟ ونقول: إن الذي خلقها جعلها لمهمة غير التي يريد الإنسان أن يوجهها له، ومثال ذلك تحريم أكل لحم الخنزير.

 

والإنسان منا إذا ما رأى صورة من معيشة الحيوانات في الغابة. يتعجب، ففضلات حيوان هي غذاء لحيوان آخر. وسم الثعبان هو حماية وعلاج. ونعرف أن الإنسان يستخلص سم الثعبان ليستخرج منه علاجاً لبعض الأمراض ولقتل بعض الجراثيم.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].
كيف إذن نجعل من أنفسنا مشرعين نحلل الحرام ونحرم الحلال؟

إن الله الذي خلق كل شيء لم يمنحنا الإذن بذلك. وعلينا أن نسلم بأن كل شيء مخلوق لمهمة فلا يصح أن نوجه شيئا إلى غير مهمته. وتوجيه أشياء إلى غير ما جعلت له أنتج آثاراً ضارة، ومثال ذلك استخدامنا لمبيدات الحشرات في الحقول، تلك المبيدات أبادت الضار في نظرنا، وأبادت النافع أيضاً. وعلى الإنسان- إذن- أن ينتبه جيداً فلا يساوي بين الحرام والحلال، وأن ينتبه تماماً فلا يتعدى الجعل المخلوق لله. يقول سبحانه: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103].
 

والبحيرة هي الناقة التي تُشق أذنها كعلامة على أنها محرّمة فلا يتعرض لها أحد، ولا تُرد عن مرعى، ولا تُرد عن ماء، ولا يُشرب لبنها، ولا يُركب ظهرها، ولا يُجز صوفها؛ لأنهم قالوا: نُتجت خمسة أبطن آخرها ذكر.

و(السائبة) وهي الناقة التي يقدمها الرجل إن برئ من مرضه أو قدم من سفره كنذر سائب.
فلا يربطها، وتأكل كما تريد، وتشرب ما تريد، وتنام في أي مكان، ولا أحد يتعرض لها أبداً، وقد سميت (سائبة) بمعنى مأخوذ من الماء السائب. ونعرف أن صفة الماء وطبيعته الأساسية هي الاستطراق، فإن سقط الماء على قمم الجبال فهو يملأ الوديان أولاً، ثم يصعد إلى الأعالي، هكذا يكون استطراق الماء ما لم يتحكم فيه الإنسان بإقامة السدود والمضخات وشبكات توزيع المياه.

 

والوصيلة هي الناقة التي تصل أخاها، فالناقة عندما تحمل وتضع المولود، هنا ينظر أصحاب الناقة إلى جنس المولود، فإن كان ذكراً أكلوه، أما إن كان المولود أنثى فهي لهم يستبقونها لأنها وعاء إنجاب لنتاج جديد ويكفي فحل واحد لإخصاب عشرات الإناث. فإن نتجت الناقة في بطن واحد ذكراً وأنثى فإنهم لا يذبحونهما ويقال: (وصلت الأنثى أخاها) فحرمته علينا.
وفي ريفنا المصري نجد الأطفال يتمنون أن يأتي وليد الجاموسة أو البقرة ذكراً حتى يأكلوا من لحمه وحتى يشربوا من لبن الجاموسة أو البقرة كما يهوون. ذلك أن الطفل ينظر إلى مصلحته المباشرة، أما الكبار فهم يتمنون دائماً أن يكون وليد البهيمة أنثى، لأن الأنثى وعاء لنتاج جديد.

 

وال (حام) هو الفحل الذي يُحمى ظهره من أن يُركب، ويتركونه لينطلق كما يريد. وهو الذي لقح عشرة أجيال من الإناث، أو هو الذي نتجت من صلبه عشرة أبطن. وكان من الضوابط لهذه العملية أن يعرفوا أن حفيد هذا الفحل- ابن ابنه- يمكنه أن يلقح.
 

وكل هذه المسائل: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، هي من اختراعات أهل الكفر الذي يفترون على الله، فالحق سبحانه وتعالى خلق هذه الأنعام ليستمتع الإنسان بأكلها وشرب لبنها وتسخيرها إلى ما يفيده.


ومعنى (يفتري الكذب) أي أنه يختلق كذباً ويدعيه ليطرأ به على صدق ليخفيه فالكذب ستر لحقيقة كانت قائمة. والحقيقة القائمة منذ أن خلق الله الخلق أن هذه الأنعام جميعها مسخرة لخدمة الإنسان، وأبلغ سبحانه آدم بمنهجه، وكان من المفروض أن يبلغ كل جيل الجيل الذي يليه، لكن طول الزمن والغفلة هما السببان وراء نسيان الناس لبعض الأحكام؛ لذلك بعث الله الرسل ليذكروا الناس بالمنهج، وليزيلوا الكفر عن وعي الناس، فالكافرون أناس ستروا منهج الله، وستروا البلاغ عن الله، وهم بذلك يفترون الكذب على الله.
 

ومثال ذلك قصة دخول الأصنام إلى الكعبة، فقد سافر رجل اسمه عمرو بن لُحي إلى بلاد الشام، فوجد أوثاناً وأصناماً فنقل منها صنما يقال له (هبل) إلى مكة، وكان هو أول من أدخل الأصنام إلى مكة، وكما فعل عمرو بن لُحَيّ فعل غيره بوضع قوانين وقواعد لم يأت بها الله، كالوصيلة والبحيرة والسائبة والحام. وكان ذلك افتراءً على منهج الله وتغييراً لمنهج الحق، وعلى فرض أنه لا منهج قد وصلهم من الله، ألم يكن من ضرورة التعقل أن ينظروا في أمر هذه البدع والضلالات؟
إن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع العقل من أن يصل إلى حقيقة كونية سليمة.

 

ولكن قد يجهد العقل ويتعب بالتجربة الطويلة حتى يصل إلى حقيقة ما. لذلك أراد سبحانه حماية الناس من شقاء التجارب القاسية فأنزل منهجه ليحدد الحرام من الحلال. قال سبحانه: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [التوبة: 33].
ويقول في موضع آخر من القرآن الكريم:
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً} [الفتح: 28].
ولقائل أن يقول: لماذا إذن وُجد في العالم أديان أخرى. كاليهودية والنصرانية، ولماذا إذن هناك ملاحدة ما دام الله قد قرر ألا يوجد مع الإسلام دين آخر؟

ونقول: أنت لم تفهم مراد الآيتين الكريمتين، إن الحق سبحانه يقرر مرة أن الذي الذي سيظهر ولو كره المشركون، ومعنى ذلك أن هناك كافرين ومشركين، وأهل ديانات أخرى وسيظهر الإسلام عليهم، ويجعله الله هو السائد بالحجة والبرهان وبشهادة الكافرين والملحدين والوثنيين أنفسهم؛ لأن أمور الحياة ستتبعهم في كل قضايا حياتهم، ولا يجدون حلولاً لهذه المتاعب إلا بأن يذهبوا إلى قضية الإسلام، لا لأنه إسلام، ولكن لأن أسلوب وقواعد الإسلام هي التي ستخلصهم من مشكلاتهم، ولجوؤهم إلى أقضية تتفق مع الإسلام- مع كفرهم بالإسلام- هو شهادة قوية على أن الإسلام جاء دين الفطرة، ودين العقل، وأن الكل سيحتاج إليه قهراً عنه. ومن لم يأخذ ديناً فيسضطر إلى أن يأخذه نظاماً.
وإذا كان الحق سبحانه قد ذيل الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها بقوله عز وجل:
{وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} فلأنه سبحانه ينبهنا إلى أنهم لو تعقلوا الأمر لما جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام من المحرمات عليهم.

ولنا أن نتساءل: أجعلتم هذه الأشياء حراماً تكريماً لها أم زهداً فيها؟. فإن كان هو الزهد، فمعنى ذلك أنهم أخرجوها عما خلق الله؛ لأن الله خلقها لنأكل لحمها وننتفع بها. وإن كان هو التكريم، فهل من التكريم أن يترك الإنسان الحيوان الذي خدمه دون حماية من ذئب، ودون طعام يعده له ويتركه يلغ في أرض الغير؟. إن هذا أسلوب يدل على عدم الوفاء للحيوان الذي خدم الإنسان، ومثل هذا السلوك لا يستبقي حياة هذا الحيوان، بل يعرضها للخطر، لهذا يأبى العقل السويِّ هذا الزهد وذلك التكريم. فإن كان عمرو بن لُحَيِّ أو غيره قد جاءوا بأشياء وتقاليد لم يجعلها الله، فعلينا أن نشكر الحق سبحانه لأنه جاء بالإسلام ليعدل من هذه المسائل.
 

والمدقق للنظر في آيات القرآن يجدها تمثل برنامجاً مطمْئِناً لحياة الإنسان على الأرض، وكأنها حاسب آلي يضبط إيقاع حركة الإنسان في الأرض بدقة تتفوق بكل المقاييس على دقة أي حاسب آلي من صنع البشر، ذلك المسمى (كمبيوتر). إن هناك (كمبيوتر) إلهياً يهدي الإنسان من أن يضل أو يُضل. فالسماء تعدل للإنسان سلوكه إن ذهب بعيداً عن الصراط المستقيم. ولا يقولن إنسان: إنما أنا أتبع ما كان عليه آبائي.

 

image.png.5250a6b0505a8686532f3a4be371130b.png

 


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)}


بل على الإنسان أن يلتفت إلى أن أول تغيير لمنهج الله كان من أحد الآباء الذين أصابتهم الغفلة. وقول الإنسان: إنما أتبع ما كان عليه آبائي، هو قضية منقوضة؛ لأن الذي غيّر أول تغيير لم يقل: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} لأنه لم يقلد أباً له، وأيضاً فمن المحتمل أن الآباء لم يعقلوا ما غيروه من منهج الله ولم يهتدوا إلى الحق.
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا ما أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].

 

إن الآية التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ} لم يقل الله فيها اتبعوا ولكن قال:(تعالوا) أي ارتفعوا كأنهم انحطوا وتسفَّلوا بقولهم: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} إنهم بذلك يرفضون وينكرون كل ما يأتي إليهم من غير طريق تقليد الآباء، فقد قفلوا الطريق وسدوه على أنفسهم.
أما آية سورة البقرة: {بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} فيحتمل أن يقولوا: ونتبع كذلك ما جاء به الدين، فالنكير أشد على من قال: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ}.

 

وعلى هذا فالاستدراك من الله في كل آية من الآيتين جاء مناسبا لحالهم. كيف ذلك؟ لأن الذي لا يعقل يمكن أن يعلم عن طريق شخص آخر استخرج واستنبط واكتشف، فإنه إن فاته التعقل لم يفته أن يأخذ العلم من غيره، أما الذي لا يعلم فقد باء ورجع بالجهل؛ لأنه لم يصل إلى العلم بنفسه، وكذلك لم يتعلم من غيره.
وجاء سبحانه وتعالى بهمزة الإنكار لمسألة اتباع الآباء دون منهج الله. ونلحظ أن الحق جاء بعملية الهداية كأمر مشترك في الآيتين، ذلك أن الهداية من السماء، أما التعقل والعلم فهما عمليتان إنسانيتان

 

نداء الايمان.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}


والحق سبحانه قد قال من قبل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى ما أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} [المائدة: 104].
والقولان يدلان على أن هناك فريقين: فريقا يسير على الضلال، وفريقا يسير على الهداية. وهناك معركة بين الفريقين. فهل تدوم هذه المعركة طويلاً؟ نعم ستظل هذه المعركة طويلاً؛ لأن أهل الضلال لا يحبون أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، وكذلك فهم يستفيدون من فساد الكون.
والمؤمن يحب الطاعة ويحاول أن يجعل أخاه المؤمن مُحباً للطاعة، فإن رآه على مُنكر فإنه ينهاه عنه ويدفعه إلى المعروف، فالخير حين يكون من الإنسان ينفع سواه، وقد يتأجل نفعه هو لنفسه إلى الآخرة. وخير المؤمن يفيد المجتمع ويضر أهل الضلال. وصدق المؤمن يفيد المجتمع ويضر أهل الضلال. ونزاهة المؤمن يستفيد منها المجتمع، وتضر أهل الضلال. أما إن كان المجتمع فاسداً فالمؤمن يشقى بفساد هذا المجتمع.

 

إذن فمن مصلحة المؤمن أن يعدي الخير منه إلى سواه، حتى ينتشر الخير ويعود الخير إلى المؤمن من حركة الخير في المجتمع. ولذلك قال الحق سبحانه: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي ألزموا أنفسكم، وكأن نفوس المؤمنين وحدة واحدة. وهو تعبير عن ضرورة شيوع الرتابة الإيمانية المتبادلة. ومثل هذا الأمر جاء في التعامل مع أموال السفهاء؛ لقد قال الحق: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5].
لأن السفيه لا حق له في إدارة ماله حتى يرشد؛ لأن المال في الواقع هو مال كل المسلمين، وعليهم إدارته لينتفع به كل المسلمين. وتكون إدارة الأمر أولاً بالنصح، فإن لم يرتدع السفيه فليرفع عليه أقرب الناس إليه قضية حجر، ذلك لأن أي شر ينتج من سلوك السفيه بماله إنما يعود على المجتمع، وعلى هذا فالمال يظل مال الناس يقومون على إدارته إلى أن يعود السفيه إلى رشده فيعود له حق التصرف في ماله. {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
لم يقل الحق إذن: {فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ذلك أن الرشيد أصبح مأموناً على ماله؛ لذلك يعود المال إلى السفيه من فور عودته إلى الرشد. وكذلك قول الحق: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي أنكم يا جماعة المؤمنين كل منكم مسئول عن نفسه وعن بقية النفوس المؤمنة، ومن الهداية أن نقوّم الذي على فساد. ولا يقولنّ مؤمن: (وأنا مالي). وتتابع الآية
{لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} فما دمتم قد حاولتم تقويم الفساد فأنتم قد أديتم ما عليكم في ضوء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
ولكن كيف يكون التغيير بالقلب؟

أي أن يكون تصرف الإنسان المؤمن هو المقاطعة لمن يخرج على منهج الله، فإن قاطع كلُّ المؤمنين أيَّ خارج على منهج الله فلابد أن يرتدع، وعلى المؤمن ألا يقابل منحرفاً أو منحرفة بترحيب أو تعظيم، فالتغيير بالقلب أن يكون التصرف السلوكي الظاهري مطابقاً لما في القلب، فيحس فاعل المنكر أنه مستهجن من غيره.
وقد يستسهل الناس أمور الشر أولاً إذا ما صادفهم من ينافقهم بمجاملات في غير محلها، لكن لو استشعر فاعل المنكر أنه مقاطع من جماعة المسلمين وإن لم تضربه على يده، فلابد أن يرتدع، والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68].
أي أنك ساعة تعرض عن الذين يخالفون منهج الله، وساعة يعرض غيرك عنه، فإن ذلك يؤذيه، ولا يجعل الناس يستشرون في الشر ويتفاقم ويعظم ضررهم إلا احترام المجتمع لهم.

 

والمثال في القرى نجد أن الذي يمتلك بندقية ينال احتراماً ومجاملات تجعله يتجبر بسلاحه، ولو أن الناس أعرضت عنه لضاعت هيبته ولعاد مرة أخرى يسلك السلوك الملتزم. وما المقياس في أمر التغيير بالقلب ومعاملة فاعل المنكر بعدم مودة ومحبة؟
نقول: علينا أن نستمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل مرة عن هذه الآية:
{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}، فقال: (بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متّبعاً ودنيا مُؤثَرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك- بخاصة نفسك- ودع عنك العوامّ فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم).
وأنت حين لا تولي منحرفاً عن منهج الله مودة، ورحمة، ومعروفاً تكون قد ألزمت نفسك الإيجابية.

 

وإذا سأل المؤمن: وكيف يقاوم الإنسان؟. أجاب العلماء: من فرّ من اثنين، فقد فرّ، ومن فر من ثلاثة لم يفرّ. أي أن الإنسان في القتال إن واجهه شخصان ففِراره هَرب من المواجهة. وأما إن فرّ الإنسان وهو يواجه ثلاثة من الأعداء، فهذه حماية للنفس وليست فِراراً. واستنبط العلماء هذا الحكم من وعد الله بنصر المؤمنين إن كان أعداؤهم مثليهم أي كعددهم مرتين وذلك من قول الحق تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66].
هي إذن نسبة الرجل إلى الرجلين، فإن فرّ مؤمن من أمام اثنين في أثناء القتال فقد خرج عن موعود الله بالنصر له ويسمى فاراً ويبوء ويرجع بغضب الله ويكون مآله جهنم؛ لأن الله قد قال: {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} فقد وعد الله المقاتل المؤمن الصابر بالنصر إذا كان يقابل اثنين من الكفار.

لكن إذا هرب من مواجهة ثلاثة فقد فعل ما يحمي حياته؛ لأن الدين لا يدعو إلى الانتحار؛ لذلك نقول لمن يبغون تغيير المنكرات في الدنيا: لا ترموا بأنفسكم إلى التهلكة ولا تقاتلوا عدوّاً يغلبكم بكثرته. واتبعوا قول النبي الصادق الأمين على استمرار أمته ما دامت تتمسك بمنهج الله.
 

وتغيير المنكر بالقلب يتمثل- كما قلنا- في مقاطعة المنحرف مصداقاً لقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} ونلاحظ أن (على) حرف جر، والكاف للخطاب، والميم للجمع، و(أنفسكم) منصوبة. فعليكم هي (اسم فعل) أي هي ليست اسماً على حقيقته وليس حرفاً على حقيقته، بل هي حرف دخل على ضمير فأدى مؤدى اسم الفعل، أو هو اسم فعل منقول من الجار والمجرور.
{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} أي ألزموها، وحافظوا عليها، ومن الهداية أن نعرف كيف نواجه القضايا بالعقيدة الإيمانية، فينظر المؤمن إلى الكمية العددية للمهتدين، والكمية العددية للضالين. فإن كانت الكمية العددية مساوية فلتقبل على المواجهة. وإن كانت الكمية الضالة ضعف الكمية المؤمنة فلتُقْبِل الكمية المؤمنة على المواجهة أيضاً. وإن كانت الكمية الضالة أكثر من الضعف فالمؤمن معذور إن حمى نفسه بعدم المواجهة، ولكن عليه أن يقاطع كل منكر أو فاعلَ المنكر.

 

كلنا نعرف تماماً أن كل فرد يحب أن تكون له مكانة في المجتمع. فإن رأى الإنسان أن الصيت والمكانة والذكر الحسن للصادق المستقيم فالإنسان يتجه إلى أن يكون صادقاً مستقيماً. وأن رأى الفرد أن المكانة في المجتمع تكون للكاذب المنحرف فهو يتجه إلى أن يكون كاذباً منحرفاً؛ لذلك فعلى المؤمنين ألا يكرّموا إلا من يسير على المنهج الصالح. فقد روى الإمام أحمد قال: قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الناس إذا رأوْا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله- عز وجل- أن يعمهم بعقابه».
 

{لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} ويطمْئِن الحق المؤمنين إلى أنهم إن قابلوا الضرر في حياتهم فليعلموا أن هذه الحياة ليست هي كل شيء، بل هناك حياة أخرى نرجع فيها إلى الله، فمن كان في جانب الله أعطاه الله خلوداً أبدياً في النعيم، ومن كان ضد منهج الله أعطاه الله عذاب الجحيم. وقال الحق ذلك لأن المؤمن لا يضمن نفسه في كثير من المواقف، فقد يدخل معركة وفي نيته الإخلاص لكنه قد ينحرف، فيصيبه الضرر على قدر ما انحرف.
 

وعلى الذي يسيرون في ضوء منهج الله دائماً أن يحتفظوا بتلك القضية في بؤرة شعورهم. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة حينما كان في غزوة أحد، وأمر الرماة ألا يبرحوا أماكنهم وإن رأوا المؤمنين في انتصار ورأوا الأعداء في هزيمة. واتجه الرماة إلى الغنائم من فور أن رأوا انتصار المؤمنين، فلم ينصرهم الله وهم على مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وبذلك تعلم المؤمنون الدرس: أن يطيعوا الله والرسول في كل خطوة.


ولو أن الله سبحانه لم يقل: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. فماذا يكون موقف الذين لم يشهدوا نصراً لجند الله، وهم قد دخلوا المعارك الأولى واستشهدوا؟. لقد علموا من البداية أن المرجع إلى الله وأنه سيعطيهم حياة أخرى. وسينبئهم الله بما فعلوا. والإنباء هنا بمعنى الجزاء والتكريم.
وكما ساس الحق حياة المؤمن وهو يتحرك في الحياة الدنيا، فإنه سبحانه يسوس حياة المؤمنين بما يضمن له الحياة الآخرة في نعيم الخلد والجنة،

 

نداء الايمان

 

سلسلة ( يا أيها الذين آمنوا ) – عليكم أنفسكم | موقع البطاقة الدعوي

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)}


الحق سبحانه كما ساس ودبر حياة المؤمن الدنيوية، دبر وتولى- جل شأنه- حياته الأخروية ليلفته إلى أنه يجب عليه ألا ينظر إلى حياته العاجلة فقط ولكن عليه أن يدبر أمر نفسه فيما يستقبله من أمر الحياة الآخرة، ففي لحظة مواجهة الموت عليه ألا ينسى الوصية إن كان مديناً لأحد أو كان له دين عند أحد. وكذلك إن سافر الإنسان ضرباً في الأرض فعليه أن يوصي حتى لا يضيِّع على ورثته حقاً لهم. أو يسدد ما عليه من دين ليبرئ ذمته، وأن يُشْهِد على وصيته اثنين من المسلمين، أما إذا كان الإنسان يصاحب في السفر أناساً غير مسلمين فعليه أيضاً أن يُشهدهم على الوصية، ولم يترك الحق لنا في هذا الأمر أي عذر، بل لابد من شهادة اثنين. والشهادة هي الأمر المشهود في الحاضر،

 

ومثال قوله الحق: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
أي أن الإنسان إذا حضر الشهر وأدركه فليصم، والشهادة تأتي بمعنى الرؤية مثال ذلك قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2].
أي أن يحضر مشهد الجلد جماعة من المؤمنين. وتأتي الشهادة أيضاً بمعنى الحكم: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26-27].

 

إذن فالشهادة تأتي بمعانٍ متعددة. والأصل فيها المشهد، أي الشيء الذي تشاهده. والوصية- كما نعلم- هي إيصاء بأمر يهم الموصي بالنسبة للموصى إليه. والمؤمن يوصي بالخير. ويسمعه من لا يرث، أي الذي ليس له شرعاً نصيب في التركة، لكن قد يكون لغير الوارث سبب من أسباب المنفعة مع المورِّث. وعلى الرغم من ذلك فالسامع للوصية يبرئ ذمته فيبلغ ما سمع إلى الورثة؛ لأن الوصية هي مسألة في نفس الموصي، وقد لا يكون لها حيثية عند من يسمعها أو يتلقاها ولكنها ذات حيثية في نفس الذي يقولها؛ لذلك جعل الله الوصية قبل الدين في قوله الحق: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12].
إن ذلك يحدث على الرغم من أن الدَّيْن مقدم على الوصية؛ لأن الدين حق والوصية تبرع. ويريد الحق ذلك؛ لأن الدين له مُطالب سيطالب به، ولكن الموصي إليه قد لا يكون صاحب حق ولكنه يتلقى تبرعاً بالوصية، أو يكون حقه لدى الموصي غير موثق بصك أو شهادة؛ لذلك يقدمه الحق سبحانه وتعالى ليجعلنا نهتم بأمر الوصية. أو يكون الذي وصى بشيء قد عاش في الحياة ويعلم مَنْ مِنَ الناس أثر في حياته علمياً أو أدبياً أو خلقياً أو اجتماعياً؛ لذلك يريد الله سبحانه وتعالى ألا يبارح الإنسان الحياة إلا بعد أن يؤدي المؤمن هذا الحق الأريحي لمن كان له عليه دين في دنياه.
وهذه مسألة قد لا تشغل الورثة، بل قد يكرهونها. لكن صاحب الوصية هو الذي يعلم حيثياتها.

 

ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يؤكد أمر الوصية حتى في الوقت الذي يعز فيه التأكيد، فأمر الإنسان أن يوصي بها إن كان بين أهله وقومه، ويؤكد الحق أهمية الوصية أيضاً إن كان الإنسان مسافراً، فإن أحس باقتراب الموت فله أن ينادي اثنين من أهل دينه ويوصيهما. وإن لم يجد أحداً من أهل دينه فليُسْمِع وصيته اثنين من غير أهل دينه، ولذلك مناسبة: فقد حدث أن رجلاً مسلماً اسمه بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي، كان على سفر مع غير مسلمين وحضرت له مقدمات الموت فكتب ورقة ووضعها مع كل ما معه من متاع- احتياطياً- ونادى على اثنين من غير المسلمين وهما تميم الداري وعدّي بن بدّاء، وأوصاهما أن يسلما متاعه لأهله، ومات الرجل. لكنَّ الاثنين فتحا المتاع ووجدا فيه إناءً مفضضاً ومُذَهَّبا وله قيمة، فأخذاه وباعاه بألف درهم واقتسما المبلغ، وسلما المتاع لأهل الميت الذين عثروا على الورقة المكتوب فيها كل التفاصيل بما فيها خبر الإناء الثمين. وسأل أهل الميت الشخصين اللذين سلما المتاع عن الإناء فأنكرا أي معرفة به. وأنكرا أيضاً أنها رأيا صاحب الإناء يبيعه. وبعد فترة عثر أهل الميت على الإناء معروضاً للبيع. وعرفوا أن البيع الأول كان من الشخصين اللذين حضرا موت صاحب الإناء. فذهب أهل الميت إلى رسول الله يعرضون عليه مسألة خيانة الأمانة في أمر الوصية، فنزل قوله الحق: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ بالله إِنِ ارتبتم لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين} [المائدة: 106].
 

إنه أمر من الله لرسوله أن يحضر هذان الاثنان من بعد أن يؤديا صلوات دينهما وأن يقسما بالله، وأن يأتي أهل الميت ومعهم الورقة وليكشف الرسول الحق من الباطل. وقد أسلم تميم الداري من بعد ذلك وقص القصة وأحضر الخمسمائة درهم التي كانت في ذمته والتي أخذها ثمنا لنصف الإناء وأحضر الخمسمائة درهم الأخرى التي عند عدي ليرد ثمن الإناء كله إلى أهل الميت.
 

ولماذا قال الله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة}؟. إنه أمر بأن نحتجزهم من بعد الصلاة؛ لأن الإنسان عادة بعد أن يؤدي الصلاة سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم تصفو نفسه بالاستعداد للصدق بعد أن وقف بين يدي الله، ويكون في هذه الحالة أقل اجتراءً على الكذب؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}.
أي الشهادة التي يختلف فيها الناس وتختلف فيها الأقوال بين طرفين، ذلك أن كلمة (بين) تعني انفصال كائنين فيصير كل منهما طرفاً.
إن هذه الشهادة تحتاج إلى الفصل بين وجهتي النظر. والذي يقوم بهذا الفصل هو من يستجوب الاثنين اللذين من ذوي العدل من المسلمين أو من غير المسلمين، ويتم الاستجواب من بعد أداء الصلاة. فإن صار الأمر الذي شهدا فيه واضحاً، كان بها. وإن لم يكن قولهما واضح الصدق وفيه شك وريبة، فعلى الشاهدين أن يقسما بالله أنهما لا يشتريان بآيات الله ثمنا حتى لا يكونا من الآثمين.

 


{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)}


فإن ظهر أن الشاهدين قد حرفا وصية الميت أو أخفيا بالكذب بعضاً من تفاصيلها، فلنا أن نستدعي اثنين من أقرب الناس للميت فيقسمان بالله أن الشاهدين السابقين قد كذبا في الشهادة، وأن هذا الاتهام بالكذب ليس افتراءً ولكنه قائم على الحقيقة، ولو ظهر أن شهادتهما فيها كذب فهما المستحقان لعقاب من يظلم غيره.
وبذلك يفسح الحق لنا المجال أمام إقامة العدل بأن نستقصي الصدق، فإن ظهر لنا بدليل ما كذب الشاهدين اللذين حضرا موت صاحب الوصية، فلنأت بشاهدين من أولياء الميت بدلا منهما. وكلمة (عثر) تعني الوقوع على شيء على غير قصد. فإن عرفنا أن الإثم ظاهر من شهادة هذين الشاهدين، فلنا أن نستقصي الصدق في شهادة اثنين غيرهما من أهل الميت.

 

وفي الواقعة التي نزلت فيها الآية، قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهمي فأقسما بالله أن الشاهدين السابقين قد كذبا وأن الشهادة التي يقدمانها هي شهادة الحق لا اعتداء ولا جور فيها على أصحاب الشهادة الأولى. ولماذا كل ذلك؟ لأن الهدف هو أن تأتي الشهادة على الوجه الصحيح لها، فيقول الحق: {ذلك أدنى...}.

 


{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}


إن الشهود الأُول الذين قدموا الشهادة لأنهم حضروا لحظة الوصية عندما قالها الميت يقدمون شهادتهم بعد أن يؤدوا الصلاة وبعد أن يقسموا أن ما يقولونه هو الحق. ولابد لهم أن يحرصوا على صدق القول بدلاً من أن يفتضح أمر كذبهم.
والشهادة كما نعرف تطلق على أي أمر نحضره. والشهادة- كما نعلم- تُطلق على متلازمات متعددة يجمعها كلها (الحضور) كقوله الحق: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27-28].
أي أن نداء الحج يسمعه الناس فيأتون من كل مكان وعلى كل وسائل النقل وقد تكون صعبة حتى يشهدوا منافع لهم. وسبحانه وتعالى يقول: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18].
وشهادة الله هي حكم من الله. والملائكة أيضاً تشهد، وشهادتهم هي شهادة الإقرار. وكل ذلك ناشئ من أمر حاضر يستقرئه الشاهد. ونحن نرى الشاهد يقف أمام المحكمة، فتسأله النيابة فيقول ما رأى، ويسأله محامي الخصم فيقول ما رأى، ويسأله محامي الدفاع فيقول ما رأى. وما دام الشاهد صادقا فلن يخشى محاورة أي طرف يسأله. والأطراف التي تسأل الشاهد تطلب منه أن يأتي بالواقعة على أساليب مختلفة. وما دامت الواقعة صادقة تظل كما هي مهما تنوعت الأسئلة وتغيرت الأساليب؛ لأن الشاهد الصادق يستوحي واقعاً لا يتغير، أما الشاهد الكاذب فهو يلف ويدور ويغير من أقواله. ولهذا نرى وكيل النيابة اللبق الحاذق يبحث في ذاكرة الشاهد عن أدق الخفايا.
وهكذا نعرف أن الشهادة تطلق على الحضور. أما إذا كان الشاهد هو الذي يملك الحكم فشهادته حكم. ومثال ذلك قول الحق سبحانه: {شَهِدَ الله}. إن الله يشهد أي يحكم.

 

وفي قصة سيدنا يوسف عليه السلام نرى كيف أوقع الحق بإخوة يوسف عندما أخذوا أخا يوسف الصغير معهم في الرحلة إلى مصر. وكيف دبر يوسف لهم أمراً ليحتجز أخاه معه. وكيف كان الصراع بين إخوة يوسف خوفاً على أبيهم بعد حجز الأخ الصغير. فيقول لهم شقيقهم الأكبر كما أخبر القرآن الكريم: {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 81-82].
 

ونعرف أن إخوة يوسف كذبوا في المرة الأولى عندما فعلوا فعلتهم الشنعاء ضد يوسف لكنهم صدقوا في المرة الثانية التي احتجز فيها شقيق يوسف. ولذلك طلبوا أن يسأل والدهم إما أهل القرية التي كانوا بها وإما رفاقهم في القافلة.
لقد أُخبروا أن أخاهم قد استخرج من وعائه بعض من أدوات الملك وهو الصواع الذي يكال به ولهذا جاءت شهادتهم هذه المرة مطابقة للواقع، وهو ما أخبروا به.

 

إذن فالشهادة هي الفيصل في التنازع. ولذلك يوصي النبي صلى الله عليه وسلم ألا يشهد الرجل على أمرٍ إلا بعد أن يكون قد رآه رأي العين، كما يرى الشمس: (على مثلها فاشهد أو فدعْ).
الحق سبحانه وتعالى يقول: {ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70].

 

وهكذا نعلم أن الشهادة كلها تدور حول الحضور والشهود. ولهذا تأتي الشهادة في لوازم متعددة، فهي مرة تعني الحضور، وهي مرة تأتي بمعنى الحكم، وثالثة بمعنى الإقرار. وكلها معانٍ ملتقية.
والشهادة تتطلب أمرين: الأول هو حضور الشاهد لحظة وقوع المشهود به، والثاني هو أمانة النقل، ولذلك جعل الله في بعض الأحكام شهادة اثنتين من النساء تعدل شهادة رجل واحد. وقد يقول قائل: كيف يساوي الإسلام بين شهادة رجل جاهل أو أمي وشهادة امرأتين قد تكون كل منهما على درجة عالية من الثقافة والعلم؟
ونقول: إن المسألة في الشهادة ليست عمل عقلٍ، ولكنها أمانة نقل، وأمانة النقل لا شأن لها بالثقافة، فالشهادة تحتاج إلى حضور الحادثة، ثم إن المرأة يكون دائماً أمرها مبنياً على الستر وعدم التهجم على الرجال. فقد تقع حادثة وتوجد امرأة بجانب هذه الحادثة، وبطبيعة الحال لن تتجاسر وتتقدم وتسأل لمعرفة كل التفاصيل، على العكس من الرجل الذي يرى الحادثة، فيحاول أن يعرف كل ما جرى. وحين أراد الحق الشهادة من امرأتين، لم يطلب ذلك لضعف الثقة في المرأة أو زيادة الثقة في الرجل، ولكن لأن الشهادة ليست ابتكار عقل ولكنها حضور مشهد وأمانة نقل.
إن البعض يحاول أن يروج لمثل هذه القضايا وكأنها وسيلة للتهجم على بعض الداعين لله، ولذلك أقول لهم: يجب أن يفهم الإنسان منكم الفارق بين عداوته مع بعض الداعين إلى الله وأن يتعدى حدوده إلى أن يحاد الله؛ لأن الإنسان منهم لا يرد الحكم على الداعية، وإنما يرد الحكم على الله.

 

وأمر الحق سبحانه في شهادة اثنين من الرجال أن يؤديا الصلاة، ثم يتم حبسهما لفترة، وبعد ذلك يتم استدعاؤهما للشهادة، فإن رد أهل الميت شهادتهما في أمر الوصية فيتم استدعاء اثنين من أولياء الميت لأداء الشهادة في شأن الوصية، كل ذلك لماذا؟ من أجل أن تأتي الشهادة على وجهها الصحيح الذي يُظهر كلَّ الحقيقة.
ويذيل الحق القول الكريم: {واتقوا الله واسمعوا والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} وذلك بلاغ للمؤمنين كافة وإلى الناس عامة؛ لأن الله لا يهدي إلا من تطامن إلى منهج الله، أما من يفسق فلن يعينه الله، ذلك أن الله لا يعين كافراً ولا ظالماً ولا فاسقاً. أما من آمن بالله، فالحق سبحانه وتعالى يعينه على هذا المنهج ويهديه إلى الصراط المستقيم.
ولماذا أنزل الله هذه الآيات بعد أن أجرى الأحداث التي تتطلبها؟ نعرف أن الحكم إن نزل في ظرف يتطلبه، تكون النفس إليه أشوق وبه أعلق، مثال ذلك: كوب الماء الذي يتناوله العطشان، إنه يتناوله بشوق ولهفة. عكس الإنسان الذي يتناول كوب الماء وهو غير عطشان، فقد يضعه في مكان قريب منه دون أن يشربه، وكذلك الدواء الذي يُؤتى به للمريض لحظة معاناته القصوى من المرض، إنه يقبل عليه بلهفة مهما كان مر الطعم، وهكذا جاءت بعض أحكام القرآن مناسبة لأحداث وقعت لتكون اللهفة على التطبيق موجودة في النفوس المؤمنة.

 

نداء الايمان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}


وينبهنا الحق سبحانه هنا إلى ضرورة أن نستعد لليوم الذي يجمع الله فيه الرسل يوم الحساب، أي أننا علينا أن نراعي الالتزام في تكاليف المكلف الأعلى في كل عمل من أعمال الحياة؛ لأنه سبحانه سوف يسأل الرسل في ذلك اليوم: {مَاذَآ أُجِبْتُمْ}؟ أي كيف استجاب الناس إلى المنهج الذي دعوتم إليه؟ وفي هذا تقريع لمن خالف الرسل. ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد قال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41].
 

ونعلم- كذلك- أن يوم المشهد الأعظم سيأتي رسولنا صلى الله عليه وسلم شهيداً على أمته وعلى كل الرسل السابقين عليه،

 

ومثال ذلك في حياتنا- ولله المثل الأعلى- نجد الأهل ينتظرون الابن على باب لجنة الامتحان ويسألونه: كيف أجبت.
إن الأهل يطلبون من الابن أن يعطيهم تقدير الموقف إجمالياً. أما إن سألوه بماذا أجبت؟ فمعنى هذا أنهم يطلبون منه أن يحكي لهم ماذا أجاب تفصيلياً عن كل سؤال. وسؤال الحق لرسله: {مَاذَآ أُجِبْتُمْ} في الظاهر هذا سؤال للرسل، وفي الحق إنه للمخالفين، وكأن هذا تقريع لمن لم يؤمنوا برسالات الرسل، ذلك أن مهمة الرسل هي البلاغ عن الله.

وبماذا يجيب الرسل يؤمئذ عن الله؟

هم يجيبون الإجابة الدقيقة المتضمنة لكل أدب الإيمان:

{لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب}

ونجد من يتساءل: كيف- إذن- يقولون: {لاَ عِلْمَ لَنَآ} على الرغم من أن هناك من استجاب لدعوتهم ومن لم يستجب لها؟

ونقول: لأن الآخرة فيها حساب على نوايا القلوب والسرائر، لقد علم الرسل بالأمور العلنية من أقوال وسلوك، ولكن الحق يحاسب على حسب النية والسلوك، وهو سبحانه الأعلم بالسرائر وما تخفي الضمائر، وأيضاً فالأنبياء قد علموا الذين آمنوا بالمنهج وكانوا معاصرين لهم، ولكن ليس لهم علم بمن كفر أو آمن بعد أزمنتهم، وإجابة الرسل هي قمة الأدب مع الله، ذلك لأن كلا منهم قد علم أن معرفة الله شاملة وعلمه قد وسع كل شيء، ولذلك جاء قولهم: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب}.

 


يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم | موقع البطاقة الدعوي


{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)}
 

لماذا إذن يجمع الله كل الرسل ويسألهم سؤالاً على الإجمال، ثم لماذا يأتي بعيسى ابن مريم ليسأله سؤالاً خاصاً عن حادثة مخصوصة؟
 

أراد الحق بذلك أن يعلمنا أنه سيسأل الرسل سؤالاً يوضح لنا أدب الرسل مع الحق، ويبين لنا تقريع الحق لمن كفروا بالمنهج، أما سؤاله سبحانه وتعالى لعيسى ابن مريم، ذلك السؤال الخاص عن الحادثة المخصوصة، فمرد ذلك إلى أن بعض الذين آمنوا به قد وضعوه في موضع الألوهية أو بنوّة الألوهية، وفي ذلك تعدٍِ على التنزيه المطلق للحق سبحانه وتعالى. ونعلم أن قصارى ما صنعت الأمم السابقة أن بعضهم كفر بالرسل، وبعضهم كذب الرسل، لكن لم يدع أحد من هذه الأمم أن الرسول الذي جاء هو إله، لم يقل ذلك أحد وإن كان بعض فرق اليهود قد قالوا: إن عزيرا هو ابن الله وهذه الفرقة قد انقرضت ولم يبق يهودي يقول ذلك، وسبحانه قد جعل الشرك به قمة الكفر الذي لا غفران له.[النساء: 48].
 

فكأن عيسى عليه السلام سيواجه السؤال ضمن الرسل، ثم يسأله الحق سؤالاً خاصاً به. ويقدم الحق السؤال لعيسى ابن مريم بعد أن ذكِّره بعدد من النعم التي أنعم بها سبحانه وتعالى عليه وعلى أمه مريم عليه وعليها السلام: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [المائدة: 110].
 

ونجد هنا أن الحق سبحانه وتعالى يعدد بعضاً من نعمه على سيدنا عيسى وهي: التأييد بروح القدس وهو سيدنا جبريل عليه السلام، والكلام في المهد بما يبرئ أم عيسى السيدة مريم عليها السلام مما ألصقوه بها من اتهامات، وتعليم الحق له الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. وأنه سبحانه قد أقدره على أن يصنع من الطين كصورة الطير بإذن منه سبحانه وأن ينفخ فيه فيصير طيراً بإذنه سبحانه، وكذلك أقدره الحق سبحانه أن يبرئ الأعمى من العمى. وأن يعيد إلى الأبرص لون جلده الطبيعي ويشفيه، وأجرى على يديه تجربة إعادة الموتى إلى الحياة بإذن منه سبحانه، وكذلك منع الحق عن عيسى ابن مريم كيد اليهود وكف أيدي الذين أرادوا صلبه وقتله على الرغم من أنه جاء لهم بالمعجزات السابقة حتى يؤمنوا فآمن بعض منهم وكفر الذي قال: عن تلك المعجزات: إنها مجرد سحر.
 

وعندما نتأمل بالخواطر أمراً واحداً من تلك الأمور نجد أن قدرة الحق سبحانه وتعالى لها تمام الوضوح الظاهر، فمجرد كلام عيسى في المهد هو معجزة؛ والمهد- كما نعلم- هو الفراش المريح للطفل يعده له الأهل ساعة أن يولد؛ لأن الطفل لا قدرة له على أن يتزحزح من مكانه إن كان هناك شيء بارز في مهده يضايقه؛ لأن الطفل يملك الحس ولكن لا قدرة له على مدافعة ما يتطلبه الحس.
 

إن الطفل المولود لا يستطيع مثلا أن يمد يده ليزيل الحصوة الناتئةمن الأرض تحت المهد لذا يمهدون فراشه ويوطئونه له. إنه مجرد روح في جسد صغير لا حول ولا قوة له إلا استبقاء الحياة بالتعلق بثدي الأم، فإن تكلم طفل في المهد، فمعنى ذلك أنه امتلك إرادة يسيطر بها على كل جسمه إلى الدرجة التي يمكنه أن ينطق بها الكلام، وهذا لا يحدث أبداً. ونجد الأهل يمهدون الفراش للطفل، لأنهم يعلمون أن أقصى تعبير عن الانفعال هو أن يبكي. وإذا ما تمكنت حشرة صغيرة من لدغ الطفل كالبرغوث أو البعوضة فالطفل لا يملك إلا البكاء.
 

وقد تكلم عيسى في المهد بعد أن أقدره الحق على ذلك. ثم جاء الحق بحقيقة هي المقابل للمهد وهي الكلام في الكهولة. فإن كان قد تكلم في المهد إعجازاً ليبرئ أمه البتول فإنه سوف يتكلم كهلاً مبلغاً عن الله. ولم يتكلم عيسى ابن مريم وهو في المهد إلا بما قاله الحق في القرآن الكريم: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 30-33].
 

قال عيسى عليه السلام في المهد هذه الكلمات ليبرئ أمه الصدِّيقة، ذلك أنهم اتهموها في أعز شيء لديها، ولذلك لم يكن ليجدي أي كلام منها. وإنقاذاً لها أبلغها الحق عن طريق جبريل أو عيسى عليهما السلام أن تقول: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} [مريم: 26].
 

وسبحانه وتعالى يعلم أن ميلاد عيسى من أم لم يمسسها رجل هو خرق لناموس الكون في الحمل، وكذلك أراد الحق أن يكون هناك خرق للناموس في الكلام فيتكلم عيسى في المهد بكلام معجز له معنى. وعلمه الحق الكتاب: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} أي علمه الله الكتابة، وعلمه التوراة، وأنزل عليه الإنجيل، وألهمه الحكمة وهي الكلام المحكم الصواب بإلهامات الله ومقابلها في الإسلام أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
 

وجاءت دقة الأداء القرآني لتمنع أي تصور لتدخل من ذات عيسى فيما أجراه الله على يديه وذلك منعاً للفتنة فقال الحق: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} إذن فعيسى لا يخلق الطير ولكن يصنع من الطين مثل هيئة الطير، فالحق وحده هو الذي يخلق الطير؛ فلأنه الإله فهو الذي يخلق خلقاً عاماً، أما البشر فبإمكانهم أن يخلقوا أشياء ويشكلوها كمثل المخلوقات، لكنها ليست مخلوقات.
 

إننا نرى ذلك في التماثيل التي ينحتها المثَّال من الصخر أو يشكلها من الطين كهيئة الجمل أو العصفور، لكنه لا يملك أن ينفخ فيه الروح، وقد يخترع الإنسان أشياء مثل الكوب من الرمل المصهور المنقى، لكننا لم نسمع عن خلق كوب ذكر وكوب أنثى ليتوالد من الاثنين نسل من الأكواب!
 

إننا نرى دائماً أن خلق الإنسان لشيء إنما يظل معقوداً على حاله فلا ينسل ولا ينمو ولا يحس، والخالق الأعظم يخلق من عدم، أما أنت أيها الإنسان فتصنع أشياء مما وهبك الله من أشياء موجودة مطمورة في الأرض أو ظاهرة. ولم يضن سبحانه عليك بل أطلق عليك بأنك خلقت، ولكن لتنتبه إلى أنه سبحانه وتعالى أحسن الخالقين.
إذن فعيسى صَنَع من الطين مثل هيئة الطير، وكان ذلك بإذن من الله، ونفخ فيه فكان طيرا بإذن الله. والفارق بين قدرة الحادث وهو العبد، وقدرة الباقي القدير وهو الرب أمران. الأول: أن الحق سبحانه وتعالى حينما يقدر أمرا فهو يستطيعه بطلاقة قدرته أن يُقدر بعضًا من خلقه على أن يفعل الشيء، لكن العبد لا يستطيع أن يقدر عبدًا آخر أن يصنع شيئاً مثل الذي يصنعه.

 

والمثال على ذلك: نجد الطفل إن أراد أن يحمل كرسياً فهو لا يقدر، ويأتي شاب قوي ليحملَ الكرسي للطفل، هذا الشاب إنما يعدي أثر قوته إلى الطفل ولم يُعَدِّ لَهُ قوته ولم ينقلها له، ويبقى الطفل ضعيفاً كما هو، أما الحق سبحانه وتعالى فهو يُقْدرُ من يريد على ما يريد. فبعظمته سبحانه يعدي من قدرته إلى من لا يقدر ليَقْدر. والعظمة إذن فيما فعل المسيح هي أن الحق سبحانه أراد له أن يحيى فنفخ في الطين فصار طيراً بإذن الله.

 

وقد سبق سيدنا إبراهيم سيدنا عيسى في ذلك عندما سأل الله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260].
فسأله الله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} [البقرة: 260].
فقال إبراهيم: (بلى) أي أنه آمن، وأضاف: {بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].

والكلام هنا جهته منفكة، فإبراهيم قد آمن، والإيمان اطمئنان القلب إلى عقيدة ما، وما جرى زاد إبراهيم تيقناً. ولم يسأل إبراهيم ربه: أتحيى الموتى ولكن إبراهيم أقر أولاً بقدرة الحق على الإحياء وتساءل عن الكيفية. وطلب الكيفية لا شأن له بالإيمان؛ لأن الكيفية تتطلب تجربة. فأمره الحق أن يأتي بأربعة من الطير وضمها إليه ليتعرف عليها جيداً. وأن يقطعها إبراهيم بيديه ويضع كل قطعة على جبل ويناديها، فتأتي القطع بنداء إبراهيم وقد صارت هي الطير نَفْسَهَا التي كانت من قبل.
وهكذا أراد الله لعيسى عليه السلام أن يصنع من الطين مثل هيئة الطير بإذن الله وأن ينفخ فيها بإذن الله فيصير الطين طيراً.
وأراد الله لعيسى أن يبرئ الأكمه أي الذي ولد أعمى. وقد يقول قائل: إن في عصرنا يتم ترقيع القرنية ويمكن أن يَرَى ويبصر بعض من الذين ولدوا بلا قدرة على الإبصار. ونقول: إن ما يحدث في عصرنا هو سبق وتقدم على بناء على تجارب، أما ما حدث مع عيسى فكان خرقاً للناموس وأراده الله معجزة. وكذلك أراد الله أن يجري على عيسى شفاء الأبرص أي الذي أصابه بياض كالرقع في بشرته. وكذلك كف بني إسرائيل عنه عندما أرادوا إيذاءه وقتله. وعندما رأوا كل ذلك آمن بعضهم، وكفر البعض واتهموا عيسى عليه السلام بأنه ساحر. وكان ذلك منهم كذبا وافتراء عليه؛ لأنه نبي مرسل بمعجزات واضحة.

 

وفي هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق سبحانه وتعالى يسرد نعمه على سيدنا عيسى عليه السلام. وسرد النعمة على الرسول ليس المقصود منه تنبيه الرسول إلى النعمة، فالرسول يعلم النعم جيداً لأنها جرت عليه، ولكنه تقريع لمن رأى هذه الأحداث والنعم ولم يلتزم الإيمان بالله بعدها، وقد أجرى سبحانه كل هذه النعم على عيسى عليه السلام وأيده الله بما يقوي ويزكي رسالته إلى قومه. فكانت نعمة أولا عليه، لأنه مصطفى، مختار، مؤيد. ونلحظ أن هذه الآيات والنعم تنقسم إلى قسمين: قسم يقنع أصحاب العقول والألباب والفكر والمواجيد النفسية. وقسم يقنع القوم الماديين الذين لا يؤمنون بملكوت الله في غيب الله. والقسم الأول الذي يقنع أصحاب العقول والألباب هو تعليم الكتاب والحكمة والتوارة والإنجيل.
 

والقسم الثاني الذي يقنع الماديين هو الأمور المادية الحسية التي يتعرف من يراها على أنها لا يمكن أن تجري على يد بشر، كأن يخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً. وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص. وهذه الآيات خرق للناموس المادي، ولذلك يتبع الحق كل واحدة منها بذكر كلمة: {بِإِذْنِي} أي أن هذه المعجزات لم تكن لتحدث لو لم يأذن بها الله. ولم يذكر الحق ذلك بالنسبة للآيات الأخرى لأنها أمر ظاهر ومعروف، حتى يكون الأمر واضحاً أمام كل إنسان ممن يحبون عيسى ويرتفعون به إلى مقام أعلى من مقام النبوة المؤيدة ممن أرسله. وحتى لا يخدع قوم عيسى في هذه الآيات ويظنوها مزية مطلقة له، ولكنها مجرد آيات معجزات لإثبات صدق الرسالة عن الله.
إن عيسى عليه السلام حينما أخذ كل قطعة من الطين ليصور منها طيراً وينفخ فيها فتكون طيراً لم يفعل ذلك بقدرته وإرادته، وإنما حدث ذلك بإذن من الله، ولم يحترف عيسى تلك المسألة، وكذلك كان إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وكل ذلك خرق لناموس المادة، لذلك كرر الحق القول بأن هذا الخرق كان بإذن منه سبحانه حتى نعرف أن عيسى لم يأخذ من قدرة الله طلاقة له بل انحصر الأمر في هذه المسائل التي أذن الله فيها فقط.

 

إننا نجد أن كل خرق لناموس الغيب عند الأنبياء أو الأولياء، أو من يعطيهم الله هذه الإشراقية، هذا الخرق إنما هو لتكريم النبي أو الولي أو الذي تشرق عليه فيوضات الله، وعلينا أن نعرف أن الله لم يعط إنساناً واحداً القدرة على العلم بالغيب. مطلقاً إنما يطلع الحق بعضاً من خلقه بهبة من تجلياته على شيء جزئي. فالخلق سبحانه وتعالى هو مالك الغيب: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59].
ولم نر إنساناً علاماً للغيب ولكن يُعْلِمُهُ الله بغيب من بعض غيبه، حتى نعلم أنها أحداث وقتية يتجلى الله فيها بفضله، ليثبت حالة من الحالات، ثم يظل الإنسان مع الناموس العام في كون الله. والناموس الكوني هو الأمور والقوانين التي أطلقها الله في الكون لتعمل لخدمة المؤمن والكافر والطائع والعاصي. ومثال ذلك شروق الشمس وغروبها، وحركة السحاب حاملاً المطر، ووجود الأرض بعناصرها القابلة للزراعة. وخرق الناموس يكون بإذن من الله للرسل والأنبياء والأولياء؛ إننا نجد كل ذلك آيات من الحق لإثبات صدق الرسول في البلاغ عنه، وهذا الإثبات مشروط بشروط: أولها أن يكون النبوغ قد بلغ درجة قصوى في هذا المجال الذي تحدث فيه تلك المعجزة

 

، والمثال على ذلك: خرق الحق سبحانه لناموس العصا وهي فرع من شجرة وجعل موسى عليه السلام يلقيها فإذا هي حية تسعى. وما أجراه الله على عصا موسى لم يكن سحراً ولكنه نقلها من جنس إلى جنس في عصر نبغ فيه الناس في السحر، ونعلم أن موسى أنس إلى ربه فقال وأطنب وأسهب وأطال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18].
وعرف موسى من بعد مقام الأنس والانجذاب مقام الخشية فأوجز قائلاً: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18].
لقد عرف موسى عليه السلام أنه يخاطب مولاه فأطال الأنس به وعرف أيضاً مراعاة المقامات وانتقل من الانجذاب والأنس إلى مقام الرهبة فقال:(ولي فيها مآرب أخرى).
وجاء الأمر بإلقاء العصا: {أَلْقِهَا ياموسى} [طه: 19].
وهنا خرجت العصا عن ناموسها الذي يعلمه موسى عليه السلام فلم تعد للتوكؤ والهش على الغنم، ولكنها تنتقل من جنس الخشب إلى جنس الحيوان فتصير حيّة: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 20].
ولذلك كان لابد أن تُدهش المسألة موسى عليه السلام، لذلك أوجس خيفة.
ولكن موسى عندما عرف سرّ عصاه لم يوجس خيفة بل تحدى السحرة الذين جاء بهم فرعون في يوم الزينة، وعرف موسى أنه ليس بساحر مثلهم ولكن الله أتاه معجزة ستبهر حتى السحرة، فالسحرة يعلمون أن عملهم تخييل وليس تغييراً للأشياء، أما الحق فهو يغير الأشياء نفسها.
لقد جاء السحرة بناء على امر فرعون إلى يوم الزينة، ويعلمنا القرآن بلمحات جانبية أن نظام السحرة كان موجوداً، ولذلك طالب السحرة بأجرهم إن هم غلبوا موسى: {قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} [الأعراف: 113].
وعلى الرغم من اختلاف مواهب هؤلاء السحرة ورقي كل منهم في فرع من فروع السحر، إلا أنهم جميعاً سجدوا للحقيقة عندما ألقى موسى عصاه وقالوا: {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47-48].
وهكذا عرفوا أن ما فعله موسى ليس قدرة بشرية ولكنه قدرة فوق قدرة البشر. إنها المعجزة التي يجريها الله على يد الرسل لإثبات صدقهم في إدعائهم أنهم رسل من الله. وكذلك نبغ قوم عيسى عليه السلام في الطب. ولم يجرؤ أحدهم على أن يشفي بكلمة واحدة الأكمه والأبرص أو أن يخرج الميت من موته إلى الحياة. وعلى الرغم من تقدمهم في الطب لم يستطع أحدهم أن يفعل ذلك. والحق سبحانه يسهل المعجزات على رسله، والمثال في الإسلام هو الإسراء برسولنا ونبينا صلى الله عليه وسلم، وحَدَثَ الإسراء في لمح البصر، ونحن في زماننا نرى التقدم الآلي والفني قد اخترع الصواريخ التي يمكن أن تختصر الوقت لمثل الرحلة من مكة إلى القدس ولكنها تمت بوساطة آلة تعمل وبأجهزة أعدت بنظام دقيق بعد تجارب مضنية، ولكن الحق عندما أراد لم يكن الأمر سوى كلمة منه تصير معجزة في التو واللحظة. ولنحفظ ذلك جيداً. إن المعجزة خرق اقتدار لا سبق ابتكار أي أنها خرق لنواميس الكون حادث من اقتدار المقتدر سبحانه ولم يحدث ذلك من ابتكار واختراع واكتشاف مكتشف.

 

ويُسلّي سبحانه عيسى عليه السلام بذكر هذه البيانات، لكنَّ الكافرين من قوم عيسى عليه السلام قالوا إنها سحر: {فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}. ونعلم أن الحق خلق الخلق وجعل الإيمان أمراً فطرياً فيهم، ثم تأتي الغفلة فتبهت جزئية من جزئيات الإيمان، وتتلوها غفلة أخرى فتبهت جزئية أخرى، وتأتي غفلة ثالثة فتصير إلى الران وهو ما يعطي القلب فلا تنفذ إليه الهداية، وذلك بسبب ما كسبوا وفعلوا من الذنوب: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
 

ولنستمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه حذيفة: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر. حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوَكْت(أي الأثر اليسير من الشيء) ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْل(أي أكثر العمل في الكف) كَجَمْرٍ دحرجته على رجلك فنَفِط فتراه مُنْتَبِراً(أي متورّماً) وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاةً فدحرجها على رجله، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال للرجل ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيَّكم بايعت، لئن كان مسلماً ليردنّه على دينه، ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنّه على ساعيه، وأمَّا اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً).
وها هوذا الحديث الثاني الذي حدثنا به حذيفة عن رفع الأمانة والفتنة. قال حذيفة: كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره: قالوا أجل. قال: تلك تكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا. قال: أنت لله أبوك. قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نُكِت فيه نكتة سوادء، وأي قلب أنكرها نكت. فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرْبادّاً كالكور مُجَخِّياً- أي مقلوباً- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه» .
قال حذيفة: وحدثت أن بينك وبينها باباً مغلقاً يوشك أن يكسر.
قال عمر: (أكَسْراً لا أبا لك، فلو أنه فُتح لعله كان يُعاد).
هكذا كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة وضياع المناعة الإيمانية من النفس البشرية. وأراد سبحانه للمناعة الإيمانية أن تبقى في عباده، لذلك تدخل بالرسل حتى تتكون المناعة ويكبح المجتمع جماح كل فرد. تحدثه نفسه بفتنة.

 

وعندما كان يتم الفساد في الأرض. نجد الحق يرسل الرسول ليعيد البريق إلى النفس اللوامة، ويحيي في المجتمع القدرة على أن يتناسق السلوك فيه على ضوء منهج الله. ولذلك نجد أن المقاومة التي تحدث للرسل إنما تحدث من الذين يستمتعون بالفساد وبآثار الفساد. وحين يأتي منهج الهداية فهو يأخذ بأيدي المظلومين ويغضب منه الظالمون الأقوياء الجبابرة، ولذلك يهاجمون الرسل والمنهج القادم من الله؛ لأن هذا المنهج سيقطع عليهم سبل الفساد الذي يدر عليهم عائداً هو في نظرهم كبير.
لقد رأينا صناديد قريش وقد تصدوا للدعوة، فمحمد صلى الله عليه وسلم جاء بالمساواة بين كل البشر.
لقد كانوا يعرفون أن مجرد النطق ب (لا إله إلا الله محمد رسول الله) يعني فقدانهم لسلطان إرهاب الناس والقبائل. ولو كانت المسألة مجرد كلمة تقال، ويبقى الأمر على ما كان عليه لقالوها، ولكنها كانت كلمة تغير من الأمر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولا يبقى من جبروت لأحد، فكل الناس سواسية. لذلك تصدى صناديد قريش لدعوة الإسلام. وهكذا نجد أن كل رسول يأتي يبرز له من يعاديه من أصحاب الفساد والجبابرة في الأرض، مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112].

 

والمثال على ذلك هو إرادة الحق في أن يجعل صيحة الإيمان في الجاهلية تأتي أولاً إلى أذن سادة العرب جميعاً وهم قريش الذين لا يجرؤ أحد على التعرض لهم، لكن النصر لا يأتي لمحمد وهو في مكة حيث كانت مقام السيادة؛ لأن النصر لو حدث في أول الدعوة ومحمد صلى الله عليه وسلم يحيا بين قومه في مكة لقال قائل: لقد حدث النصر من قوم ألفوا السيادة وأرادوا أن يسودوا العالم كله لا الجزيرة العربية وحدها، وأن قريشاً قد ساندت محمداً لاستبقاء هذه السيادة وبسطها على غيرهم، ولكنه سبحانه جعل مقام النصر ينبع من المدينة المنورة.
إنّ الصرخة أولاً جاءت في أذن السادة ثم التف حولها المستضعفون في الأرض الذين لا يستطيعون حماية أنفسهم، ثم هاجروا وقوّاهم الله من بعد ذلك على الأقوياء.

 

إننا نجد كل داع إلى الله يأتي إنما يريد استبقاء خير النبوات حتى لا يأتي الران على القلوب، وإن استبقاء هذا الخير يغضب منه الجبابرة والمنحرفون الذين يريدون السيادة على العالم بفكرهم. والداعية إلى الله الذي لا تجد له عدواً يصيبه بالسوء حظه من ميراث النبوة ضعيف، والداعية الذي له أعداء له من ميراث النبوة الشيء الكثير.
والكافرون بعيسى عليه السلام عندما رأوا قوة الآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام. قالوا: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} وهذا يعني أن معجزات عيسى عليه السلام قد أحفظتهم وأغضبتهم وأحنقتهم وملأت مشاعرهم بالخيبة. إنه قول من قوم يكرهون منهج الحق، وعلى ذلك يكون كفر الكافر نعمةَ يدعم بها الحق الداعي إليه؛ لأن ذلك يحفزه ويدفعه إلى الدفاع عن دين الله، فمقاومة الإيمان تظهر قوة المؤمن بالعقيدة التي يؤمن بها.

 

نداء الايمان

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}


وينبهنا الحق سبحانه هنا إلى ضرورة أن نستعد لليوم الذي يجمع الله فيه الرسل يوم الحساب، أي أننا علينا أن نراعي الالتزام في تكاليف المكلف الأعلى في كل عمل من أعمال الحياة؛ لأنه سبحانه سوف يسأل الرسل في ذلك اليوم: {مَاذَآ أُجِبْتُمْ}؟ أي كيف استجاب الناس إلى المنهج الذي دعوتم إليه؟ وفي هذا تقريع لمن خالف الرسل. ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد قال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41].
 

ونعلم- كذلك- أن يوم المشهد الأعظم سيأتي رسولنا صلى الله عليه وسلم شهيداً على أمته وعلى كل الرسل السابقين عليه،

 

ومثال ذلك في حياتنا- ولله المثل الأعلى- نجد الأهل ينتظرون الابن على باب لجنة الامتحان ويسألونه: كيف أجبت.
إن الأهل يطلبون من الابن أن يعطيهم تقدير الموقف إجمالياً. أما إن سألوه بماذا أجبت؟ فمعنى هذا أنهم يطلبون منه أن يحكي لهم ماذا أجاب تفصيلياً عن كل سؤال. وسؤال الحق لرسله: {مَاذَآ أُجِبْتُمْ} في الظاهر هذا سؤال للرسل، وفي الحق إنه للمخالفين، وكأن هذا تقريع لمن لم يؤمنوا برسالات الرسل، ذلك أن مهمة الرسل هي البلاغ عن الله.

وبماذا يجيب الرسل يؤمئذ عن الله؟

هم يجيبون الإجابة الدقيقة المتضمنة لكل أدب الإيمان:

{لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب}

ونجد من يتساءل: كيف- إذن- يقولون: {لاَ عِلْمَ لَنَآ} على الرغم من أن هناك من استجاب لدعوتهم ومن لم يستجب لها؟

ونقول: لأن الآخرة فيها حساب على نوايا القلوب والسرائر، لقد علم الرسل بالأمور العلنية من أقوال وسلوك، ولكن الحق يحاسب على حسب النية والسلوك، وهو سبحانه الأعلم بالسرائر وما تخفي الضمائر، وأيضاً فالأنبياء قد علموا الذين آمنوا بالمنهج وكانوا معاصرين لهم، ولكن ليس لهم علم بمن كفر أو آمن بعد أزمنتهم، وإجابة الرسل هي قمة الأدب مع الله، ذلك لأن كلا منهم قد علم أن معرفة الله شاملة وعلمه قد وسع كل شيء، ولذلك جاء قولهم: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب}.

 


يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم | موقع البطاقة الدعوي


{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)}
 

لماذا إذن يجمع الله كل الرسل ويسألهم سؤالاً على الإجمال، ثم لماذا يأتي بعيسى ابن مريم ليسأله سؤالاً خاصاً عن حادثة مخصوصة؟
 

أراد الحق بذلك أن يعلمنا أنه سيسأل الرسل سؤالاً يوضح لنا أدب الرسل مع الحق، ويبين لنا تقريع الحق لمن كفروا بالمنهج، أما سؤاله سبحانه وتعالى لعيسى ابن مريم، ذلك السؤال الخاص عن الحادثة المخصوصة، فمرد ذلك إلى أن بعض الذين آمنوا به قد وضعوه في موضع الألوهية أو بنوّة الألوهية، وفي ذلك تعدٍِ على التنزيه المطلق للحق سبحانه وتعالى. ونعلم أن قصارى ما صنعت الأمم السابقة أن بعضهم كفر بالرسل، وبعضهم كذب الرسل، لكن لم يدع أحد من هذه الأمم أن الرسول الذي جاء هو إله، لم يقل ذلك أحد وإن كان بعض فرق اليهود قد قالوا: إن عزيرا هو ابن الله وهذه الفرقة قد انقرضت ولم يبق يهودي يقول ذلك، وسبحانه قد جعل الشرك به قمة الكفر الذي لا غفران له.[النساء: 48].
 

فكأن عيسى عليه السلام سيواجه السؤال ضمن الرسل، ثم يسأله الحق سؤالاً خاصاً به. ويقدم الحق السؤال لعيسى ابن مريم بعد أن ذكِّره بعدد من النعم التي أنعم بها سبحانه وتعالى عليه وعلى أمه مريم عليه وعليها السلام: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [المائدة: 110].
 

ونجد هنا أن الحق سبحانه وتعالى يعدد بعضاً من نعمه على سيدنا عيسى وهي: التأييد بروح القدس وهو سيدنا جبريل عليه السلام، والكلام في المهد بما يبرئ أم عيسى السيدة مريم عليها السلام مما ألصقوه بها من اتهامات، وتعليم الحق له الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. وأنه سبحانه قد أقدره على أن يصنع من الطين كصورة الطير بإذن منه سبحانه وأن ينفخ فيه فيصير طيراً بإذنه سبحانه، وكذلك أقدره الحق سبحانه أن يبرئ الأعمى من العمى. وأن يعيد إلى الأبرص لون جلده الطبيعي ويشفيه، وأجرى على يديه تجربة إعادة الموتى إلى الحياة بإذن منه سبحانه، وكذلك منع الحق عن عيسى ابن مريم كيد اليهود وكف أيدي الذين أرادوا صلبه وقتله على الرغم من أنه جاء لهم بالمعجزات السابقة حتى يؤمنوا فآمن بعض منهم وكفر الذي قال: عن تلك المعجزات: إنها مجرد سحر.
 

وعندما نتأمل بالخواطر أمراً واحداً من تلك الأمور نجد أن قدرة الحق سبحانه وتعالى لها تمام الوضوح الظاهر، فمجرد كلام عيسى في المهد هو معجزة؛ والمهد- كما نعلم- هو الفراش المريح للطفل يعده له الأهل ساعة أن يولد؛ لأن الطفل لا قدرة له على أن يتزحزح من مكانه إن كان هناك شيء بارز في مهده يضايقه؛ لأن الطفل يملك الحس ولكن لا قدرة له على مدافعة ما يتطلبه الحس.
 

إن الطفل المولود لا يستطيع مثلا أن يمد يده ليزيل الحصوة الناتئةمن الأرض تحت المهد لذا يمهدون فراشه ويوطئونه له. إنه مجرد روح في جسد صغير لا حول ولا قوة له إلا استبقاء الحياة بالتعلق بثدي الأم، فإن تكلم طفل في المهد، فمعنى ذلك أنه امتلك إرادة يسيطر بها على كل جسمه إلى الدرجة التي يمكنه أن ينطق بها الكلام، وهذا لا يحدث أبداً. ونجد الأهل يمهدون الفراش للطفل، لأنهم يعلمون أن أقصى تعبير عن الانفعال هو أن يبكي. وإذا ما تمكنت حشرة صغيرة من لدغ الطفل كالبرغوث أو البعوضة فالطفل لا يملك إلا البكاء.
 

وقد تكلم عيسى في المهد بعد أن أقدره الحق على ذلك. ثم جاء الحق بحقيقة هي المقابل للمهد وهي الكلام في الكهولة. فإن كان قد تكلم في المهد إعجازاً ليبرئ أمه البتول فإنه سوف يتكلم كهلاً مبلغاً عن الله. ولم يتكلم عيسى ابن مريم وهو في المهد إلا بما قاله الحق في القرآن الكريم: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 30-33].
 

قال عيسى عليه السلام في المهد هذه الكلمات ليبرئ أمه الصدِّيقة، ذلك أنهم اتهموها في أعز شيء لديها، ولذلك لم يكن ليجدي أي كلام منها. وإنقاذاً لها أبلغها الحق عن طريق جبريل أو عيسى عليهما السلام أن تقول: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} [مريم: 26].
 

وسبحانه وتعالى يعلم أن ميلاد عيسى من أم لم يمسسها رجل هو خرق لناموس الكون في الحمل، وكذلك أراد الحق أن يكون هناك خرق للناموس في الكلام فيتكلم عيسى في المهد بكلام معجز له معنى. وعلمه الحق الكتاب: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} أي علمه الله الكتابة، وعلمه التوراة، وأنزل عليه الإنجيل، وألهمه الحكمة وهي الكلام المحكم الصواب بإلهامات الله ومقابلها في الإسلام أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
 

وجاءت دقة الأداء القرآني لتمنع أي تصور لتدخل من ذات عيسى فيما أجراه الله على يديه وذلك منعاً للفتنة فقال الحق: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} إذن فعيسى لا يخلق الطير ولكن يصنع من الطين مثل هيئة الطير، فالحق وحده هو الذي يخلق الطير؛ فلأنه الإله فهو الذي يخلق خلقاً عاماً، أما البشر فبإمكانهم أن يخلقوا أشياء ويشكلوها كمثل المخلوقات، لكنها ليست مخلوقات.
 

إننا نرى ذلك في التماثيل التي ينحتها المثَّال من الصخر أو يشكلها من الطين كهيئة الجمل أو العصفور، لكنه لا يملك أن ينفخ فيه الروح، وقد يخترع الإنسان أشياء مثل الكوب من الرمل المصهور المنقى، لكننا لم نسمع عن خلق كوب ذكر وكوب أنثى ليتوالد من الاثنين نسل من الأكواب!
 

إننا نرى دائماً أن خلق الإنسان لشيء إنما يظل معقوداً على حاله فلا ينسل ولا ينمو ولا يحس، والخالق الأعظم يخلق من عدم، أما أنت أيها الإنسان فتصنع أشياء مما وهبك الله من أشياء موجودة مطمورة في الأرض أو ظاهرة. ولم يضن سبحانه عليك بل أطلق عليك بأنك خلقت، ولكن لتنتبه إلى أنه سبحانه وتعالى أحسن الخالقين.
إذن فعيسى صَنَع من الطين مثل هيئة الطير، وكان ذلك بإذن من الله، ونفخ فيه فكان طيرا بإذن الله. والفارق بين قدرة الحادث وهو العبد، وقدرة الباقي القدير وهو الرب أمران. الأول: أن الحق سبحانه وتعالى حينما يقدر أمرا فهو يستطيعه بطلاقة قدرته أن يُقدر بعضًا من خلقه على أن يفعل الشيء، لكن العبد لا يستطيع أن يقدر عبدًا آخر أن يصنع شيئاً مثل الذي يصنعه.

 

والمثال على ذلك: نجد الطفل إن أراد أن يحمل كرسياً فهو لا يقدر، ويأتي شاب قوي ليحملَ الكرسي للطفل، هذا الشاب إنما يعدي أثر قوته إلى الطفل ولم يُعَدِّ لَهُ قوته ولم ينقلها له، ويبقى الطفل ضعيفاً كما هو، أما الحق سبحانه وتعالى فهو يُقْدرُ من يريد على ما يريد. فبعظمته سبحانه يعدي من قدرته إلى من لا يقدر ليَقْدر. والعظمة إذن فيما فعل المسيح هي أن الحق سبحانه أراد له أن يحيى فنفخ في الطين فصار طيراً بإذن الله.

 

وقد سبق سيدنا إبراهيم سيدنا عيسى في ذلك عندما سأل الله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260].
فسأله الله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} [البقرة: 260].
فقال إبراهيم: (بلى) أي أنه آمن، وأضاف: {بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].

والكلام هنا جهته منفكة، فإبراهيم قد آمن، والإيمان اطمئنان القلب إلى عقيدة ما، وما جرى زاد إبراهيم تيقناً. ولم يسأل إبراهيم ربه: أتحيى الموتى ولكن إبراهيم أقر أولاً بقدرة الحق على الإحياء وتساءل عن الكيفية. وطلب الكيفية لا شأن له بالإيمان؛ لأن الكيفية تتطلب تجربة. فأمره الحق أن يأتي بأربعة من الطير وضمها إليه ليتعرف عليها جيداً. وأن يقطعها إبراهيم بيديه ويضع كل قطعة على جبل ويناديها، فتأتي القطع بنداء إبراهيم وقد صارت هي الطير نَفْسَهَا التي كانت من قبل.
وهكذا أراد الله لعيسى عليه السلام أن يصنع من الطين مثل هيئة الطير بإذن الله وأن ينفخ فيها بإذن الله فيصير الطين طيراً.
وأراد الله لعيسى أن يبرئ الأكمه أي الذي ولد أعمى. وقد يقول قائل: إن في عصرنا يتم ترقيع القرنية ويمكن أن يَرَى ويبصر بعض من الذين ولدوا بلا قدرة على الإبصار. ونقول: إن ما يحدث في عصرنا هو سبق وتقدم على بناء على تجارب، أما ما حدث مع عيسى فكان خرقاً للناموس وأراده الله معجزة. وكذلك أراد الله أن يجري على عيسى شفاء الأبرص أي الذي أصابه بياض كالرقع في بشرته. وكذلك كف بني إسرائيل عنه عندما أرادوا إيذاءه وقتله. وعندما رأوا كل ذلك آمن بعضهم، وكفر البعض واتهموا عيسى عليه السلام بأنه ساحر. وكان ذلك منهم كذبا وافتراء عليه؛ لأنه نبي مرسل بمعجزات واضحة.

 

وفي هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق سبحانه وتعالى يسرد نعمه على سيدنا عيسى عليه السلام. وسرد النعمة على الرسول ليس المقصود منه تنبيه الرسول إلى النعمة، فالرسول يعلم النعم جيداً لأنها جرت عليه، ولكنه تقريع لمن رأى هذه الأحداث والنعم ولم يلتزم الإيمان بالله بعدها، وقد أجرى سبحانه كل هذه النعم على عيسى عليه السلام وأيده الله بما يقوي ويزكي رسالته إلى قومه. فكانت نعمة أولا عليه، لأنه مصطفى، مختار، مؤيد. ونلحظ أن هذه الآيات والنعم تنقسم إلى قسمين: قسم يقنع أصحاب العقول والألباب والفكر والمواجيد النفسية. وقسم يقنع القوم الماديين الذين لا يؤمنون بملكوت الله في غيب الله. والقسم الأول الذي يقنع أصحاب العقول والألباب هو تعليم الكتاب والحكمة والتوارة والإنجيل.
 

والقسم الثاني الذي يقنع الماديين هو الأمور المادية الحسية التي يتعرف من يراها على أنها لا يمكن أن تجري على يد بشر، كأن يخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً. وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص. وهذه الآيات خرق للناموس المادي، ولذلك يتبع الحق كل واحدة منها بذكر كلمة: {بِإِذْنِي} أي أن هذه المعجزات لم تكن لتحدث لو لم يأذن بها الله. ولم يذكر الحق ذلك بالنسبة للآيات الأخرى لأنها أمر ظاهر ومعروف، حتى يكون الأمر واضحاً أمام كل إنسان ممن يحبون عيسى ويرتفعون به إلى مقام أعلى من مقام النبوة المؤيدة ممن أرسله. وحتى لا يخدع قوم عيسى في هذه الآيات ويظنوها مزية مطلقة له، ولكنها مجرد آيات معجزات لإثبات صدق الرسالة عن الله.
إن عيسى عليه السلام حينما أخذ كل قطعة من الطين ليصور منها طيراً وينفخ فيها فتكون طيراً لم يفعل ذلك بقدرته وإرادته، وإنما حدث ذلك بإذن من الله، ولم يحترف عيسى تلك المسألة، وكذلك كان إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وكل ذلك خرق لناموس المادة، لذلك كرر الحق القول بأن هذا الخرق كان بإذن منه سبحانه حتى نعرف أن عيسى لم يأخذ من قدرة الله طلاقة له بل انحصر الأمر في هذه المسائل التي أذن الله فيها فقط.

 

إننا نجد أن كل خرق لناموس الغيب عند الأنبياء أو الأولياء، أو من يعطيهم الله هذه الإشراقية، هذا الخرق إنما هو لتكريم النبي أو الولي أو الذي تشرق عليه فيوضات الله، وعلينا أن نعرف أن الله لم يعط إنساناً واحداً القدرة على العلم بالغيب. مطلقاً إنما يطلع الحق بعضاً من خلقه بهبة من تجلياته على شيء جزئي. فالخلق سبحانه وتعالى هو مالك الغيب: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59].
ولم نر إنساناً علاماً للغيب ولكن يُعْلِمُهُ الله بغيب من بعض غيبه، حتى نعلم أنها أحداث وقتية يتجلى الله فيها بفضله، ليثبت حالة من الحالات، ثم يظل الإنسان مع الناموس العام في كون الله. والناموس الكوني هو الأمور والقوانين التي أطلقها الله في الكون لتعمل لخدمة المؤمن والكافر والطائع والعاصي. ومثال ذلك شروق الشمس وغروبها، وحركة السحاب حاملاً المطر، ووجود الأرض بعناصرها القابلة للزراعة. وخرق الناموس يكون بإذن من الله للرسل والأنبياء والأولياء؛ إننا نجد كل ذلك آيات من الحق لإثبات صدق الرسول في البلاغ عنه، وهذا الإثبات مشروط بشروط: أولها أن يكون النبوغ قد بلغ درجة قصوى في هذا المجال الذي تحدث فيه تلك المعجزة

 

، والمثال على ذلك: خرق الحق سبحانه لناموس العصا وهي فرع من شجرة وجعل موسى عليه السلام يلقيها فإذا هي حية تسعى. وما أجراه الله على عصا موسى لم يكن سحراً ولكنه نقلها من جنس إلى جنس في عصر نبغ فيه الناس في السحر، ونعلم أن موسى أنس إلى ربه فقال وأطنب وأسهب وأطال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18].
وعرف موسى من بعد مقام الأنس والانجذاب مقام الخشية فأوجز قائلاً: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18].
لقد عرف موسى عليه السلام أنه يخاطب مولاه فأطال الأنس به وعرف أيضاً مراعاة المقامات وانتقل من الانجذاب والأنس إلى مقام الرهبة فقال:(ولي فيها مآرب أخرى).
وجاء الأمر بإلقاء العصا: {أَلْقِهَا ياموسى} [طه: 19].
وهنا خرجت العصا عن ناموسها الذي يعلمه موسى عليه السلام فلم تعد للتوكؤ والهش على الغنم، ولكنها تنتقل من جنس الخشب إلى جنس الحيوان فتصير حيّة: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 20].
ولذلك كان لابد أن تُدهش المسألة موسى عليه السلام، لذلك أوجس خيفة.
ولكن موسى عندما عرف سرّ عصاه لم يوجس خيفة بل تحدى السحرة الذين جاء بهم فرعون في يوم الزينة، وعرف موسى أنه ليس بساحر مثلهم ولكن الله أتاه معجزة ستبهر حتى السحرة، فالسحرة يعلمون أن عملهم تخييل وليس تغييراً للأشياء، أما الحق فهو يغير الأشياء نفسها.
لقد جاء السحرة بناء على امر فرعون إلى يوم الزينة، ويعلمنا القرآن بلمحات جانبية أن نظام السحرة كان موجوداً، ولذلك طالب السحرة بأجرهم إن هم غلبوا موسى: {قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} [الأعراف: 113].
وعلى الرغم من اختلاف مواهب هؤلاء السحرة ورقي كل منهم في فرع من فروع السحر، إلا أنهم جميعاً سجدوا للحقيقة عندما ألقى موسى عصاه وقالوا: {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47-48].
وهكذا عرفوا أن ما فعله موسى ليس قدرة بشرية ولكنه قدرة فوق قدرة البشر. إنها المعجزة التي يجريها الله على يد الرسل لإثبات صدقهم في إدعائهم أنهم رسل من الله. وكذلك نبغ قوم عيسى عليه السلام في الطب. ولم يجرؤ أحدهم على أن يشفي بكلمة واحدة الأكمه والأبرص أو أن يخرج الميت من موته إلى الحياة. وعلى الرغم من تقدمهم في الطب لم يستطع أحدهم أن يفعل ذلك. والحق سبحانه يسهل المعجزات على رسله، والمثال في الإسلام هو الإسراء برسولنا ونبينا صلى الله عليه وسلم، وحَدَثَ الإسراء في لمح البصر، ونحن في زماننا نرى التقدم الآلي والفني قد اخترع الصواريخ التي يمكن أن تختصر الوقت لمثل الرحلة من مكة إلى القدس ولكنها تمت بوساطة آلة تعمل وبأجهزة أعدت بنظام دقيق بعد تجارب مضنية، ولكن الحق عندما أراد لم يكن الأمر سوى كلمة منه تصير معجزة في التو واللحظة. ولنحفظ ذلك جيداً. إن المعجزة خرق اقتدار لا سبق ابتكار أي أنها خرق لنواميس الكون حادث من اقتدار المقتدر سبحانه ولم يحدث ذلك من ابتكار واختراع واكتشاف مكتشف.

 

ويُسلّي سبحانه عيسى عليه السلام بذكر هذه البيانات، لكنَّ الكافرين من قوم عيسى عليه السلام قالوا إنها سحر: {فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}. ونعلم أن الحق خلق الخلق وجعل الإيمان أمراً فطرياً فيهم، ثم تأتي الغفلة فتبهت جزئية من جزئيات الإيمان، وتتلوها غفلة أخرى فتبهت جزئية أخرى، وتأتي غفلة ثالثة فتصير إلى الران وهو ما يعطي القلب فلا تنفذ إليه الهداية، وذلك بسبب ما كسبوا وفعلوا من الذنوب: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
 

ولنستمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه حذيفة: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر. حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوَكْت(أي الأثر اليسير من الشيء) ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْل(أي أكثر العمل في الكف) كَجَمْرٍ دحرجته على رجلك فنَفِط فتراه مُنْتَبِراً(أي متورّماً) وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاةً فدحرجها على رجله، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال للرجل ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيَّكم بايعت، لئن كان مسلماً ليردنّه على دينه، ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنّه على ساعيه، وأمَّا اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً).
وها هوذا الحديث الثاني الذي حدثنا به حذيفة عن رفع الأمانة والفتنة. قال حذيفة: كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره: قالوا أجل. قال: تلك تكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا. قال: أنت لله أبوك. قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نُكِت فيه نكتة سوادء، وأي قلب أنكرها نكت. فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرْبادّاً كالكور مُجَخِّياً- أي مقلوباً- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه» .
قال حذيفة: وحدثت أن بينك وبينها باباً مغلقاً يوشك أن يكسر.
قال عمر: (أكَسْراً لا أبا لك، فلو أنه فُتح لعله كان يُعاد).
هكذا كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة وضياع المناعة الإيمانية من النفس البشرية. وأراد سبحانه للمناعة الإيمانية أن تبقى في عباده، لذلك تدخل بالرسل حتى تتكون المناعة ويكبح المجتمع جماح كل فرد. تحدثه نفسه بفتنة.

 

وعندما كان يتم الفساد في الأرض. نجد الحق يرسل الرسول ليعيد البريق إلى النفس اللوامة، ويحيي في المجتمع القدرة على أن يتناسق السلوك فيه على ضوء منهج الله. ولذلك نجد أن المقاومة التي تحدث للرسل إنما تحدث من الذين يستمتعون بالفساد وبآثار الفساد. وحين يأتي منهج الهداية فهو يأخذ بأيدي المظلومين ويغضب منه الظالمون الأقوياء الجبابرة، ولذلك يهاجمون الرسل والمنهج القادم من الله؛ لأن هذا المنهج سيقطع عليهم سبل الفساد الذي يدر عليهم عائداً هو في نظرهم كبير.
لقد رأينا صناديد قريش وقد تصدوا للدعوة، فمحمد صلى الله عليه وسلم جاء بالمساواة بين كل البشر.
لقد كانوا يعرفون أن مجرد النطق ب (لا إله إلا الله محمد رسول الله) يعني فقدانهم لسلطان إرهاب الناس والقبائل. ولو كانت المسألة مجرد كلمة تقال، ويبقى الأمر على ما كان عليه لقالوها، ولكنها كانت كلمة تغير من الأمر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولا يبقى من جبروت لأحد، فكل الناس سواسية. لذلك تصدى صناديد قريش لدعوة الإسلام. وهكذا نجد أن كل رسول يأتي يبرز له من يعاديه من أصحاب الفساد والجبابرة في الأرض، مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112].

 

والمثال على ذلك هو إرادة الحق في أن يجعل صيحة الإيمان في الجاهلية تأتي أولاً إلى أذن سادة العرب جميعاً وهم قريش الذين لا يجرؤ أحد على التعرض لهم، لكن النصر لا يأتي لمحمد وهو في مكة حيث كانت مقام السيادة؛ لأن النصر لو حدث في أول الدعوة ومحمد صلى الله عليه وسلم يحيا بين قومه في مكة لقال قائل: لقد حدث النصر من قوم ألفوا السيادة وأرادوا أن يسودوا العالم كله لا الجزيرة العربية وحدها، وأن قريشاً قد ساندت محمداً لاستبقاء هذه السيادة وبسطها على غيرهم، ولكنه سبحانه جعل مقام النصر ينبع من المدينة المنورة.
إنّ الصرخة أولاً جاءت في أذن السادة ثم التف حولها المستضعفون في الأرض الذين لا يستطيعون حماية أنفسهم، ثم هاجروا وقوّاهم الله من بعد ذلك على الأقوياء.

 

إننا نجد كل داع إلى الله يأتي إنما يريد استبقاء خير النبوات حتى لا يأتي الران على القلوب، وإن استبقاء هذا الخير يغضب منه الجبابرة والمنحرفون الذين يريدون السيادة على العالم بفكرهم. والداعية إلى الله الذي لا تجد له عدواً يصيبه بالسوء حظه من ميراث النبوة ضعيف، والداعية الذي له أعداء له من ميراث النبوة الشيء الكثير.
والكافرون بعيسى عليه السلام عندما رأوا قوة الآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام. قالوا: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} وهذا يعني أن معجزات عيسى عليه السلام قد أحفظتهم وأغضبتهم وأحنقتهم وملأت مشاعرهم بالخيبة. إنه قول من قوم يكرهون منهج الحق، وعلى ذلك يكون كفر الكافر نعمةَ يدعم بها الحق الداعي إليه؛ لأن ذلك يحفزه ويدفعه إلى الدفاع عن دين الله، فمقاومة الإيمان تظهر قوة المؤمن بالعقيدة التي يؤمن بها.

 

نداء الايمان

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)}


كلمة الحَوَارِيّ مأخوذة من المحسات. فالحُوَّارَي تطلق على الدقيق النقي الخالص. وأطلقت على كل شيء نقي بصفاء خالص، و(الحَوَاري) هنا تعني المخلص والمحب لمنهج الخير. وسبحانه يقول: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ} والوحي بمعناه العام هو الإعلام بخفاء؛ أي أن الحق ألهمهم أن يؤمنوا برسالة عيسى المبلغ عن الله، أي أعلمهم بخواطر القلب التي أعلم بها أُمَّ موسى ان تلقى ابنها في اليم ليلقيه اليم إلى الساحل، وهو غير الوحي للرسول، فالوحي للرسول هو الوحي الشرعي بواسطة رسول مبلغ عن الله هو سيدنا جبريل عليه السلام، أما وحي الله إلى أم موسى أو إلى الحواريين فهو استقرار خاطر إيماني يلتفت بعده الموحى إليه ليجد الواقع يؤيد ذلك. وعندما لا يصادم إلهام القلب أمراً واقعاً ولا يجد الإلهام ما يصادمه في نفس الإنسان، فهذا لون من الوحي، أي هو إعلام بخفاء، كأن يتوقع الرجل مَقْدَم صديق من سفر، أو لوناً من الطعام يشتهيه فيجده على المائدة.
 

إذن فالإلهام وارد من الله لخلق الله مادام لا يصادم شيئاً في النفس أو في الواقع؛ لأن الإلهام الذي يقابل صداماً ليس من الله. فالشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
إن الله أوحى للحواريين أن يؤمنوا به وبرسالة عيسى عليه السلام. وبمجرد مجيء عيسى وسماعهم أنه رسول من الله أعلنوا الإيمان به وصاروا من خلصائه. وساعة نرى: (إذ) فلنفهم أن معناها تذكر وقت الحدث الذي قال فيه الحواريون: نحن آمنا بعيسى نبياً من عند الله وأشهدوه أنهم مسلمون.

 

image.png.a9b9255c456b52d399c293464796387a.png

 


{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)}


كان عيسى قال لهم: عليكم بتقوى الله فلا تسألوه هذه الآية، لأنكم مادمتم قد أعلنتم الإيمان فأنتم لا تقترحون على الله آية لإثبات صدق رسوله، وحسبكم ما أعطاه الله لي من آيات لصدق رسالتي. وعليكم ان تلزموا أنفسكم بالمنهج الذي أعلنتم أنكم مؤمنون به.
 

وقد توقف العلماء عند قولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} وتساءل العلماء: كيف كان هذا القول، وخصوصاً أن معناه الظاهري: أيقدر ربك؟ وكيف للحواريين أن يقولوا ذلك بالرغم من أنهم أشهدوا عيسى عليه السلام بأنهم مسلمون؟ وقال العلماء أيضاً: إن من يتكلم في اللغة عليه أن يكون متبصراً باشتقاقات الألفاظ واستعمالات الألفاظ وسمات الألفاظ، وكلمة (يستطيع) بمعنى يطيع كما قالوا: استجاب بمعنى أجاب، وكأن معنى سؤالهم: أيستجيب الله وينزل علينا مائدة من السماء؟ و(استطاع) تقابل: (استجاب) وسبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء، وهو الذي يطيعه كل شيء، وهو الذي يرضخ لحكمه كل شيء، والحق لا يطلب، إنما يأمر مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
الله سبحانه وتعالى لا يقول لشيء كن إلا ويعلم أنه يطيع، ولا يأمره الحق أن يطيع إلا ويكون استعداده الانفعالي أنه حين يسمع قول الله: (كن) فلازم أن يكون، والمثال على هذا هو قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1-2].
إنها لن تنتظر إلا سماع الأمر فقط. وساعة تسمع الأمر فهي تنفعل، ومعنى تنفعل أي تطيع. وكل الكون مطيع لخالقه سبحانه وتعالى. أو يكون معنى هل يستطيع: هل يفعل. وذلك من باب التعبير عن المسبب بالسبب؛ إذ الاستطاعة من أسباب إيجاد الفعل. وقيل المراد: هل تستطيع سؤال ربِّك من غير صارف ولا مانع يمنعك عن سؤاله؟ فقد قرأ الكسائي وغيره هل تستطيع ربَّك بنصب كلمة(ربَّك) وأصلها هل تستطيع سؤال ربَّك، فحذف المضاف(سؤال) وأقيم المضاف إليه وهو كلمة رب مقامه فنصب. وقال الزمخشري: ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم، وقولهم:(هل يستطيع) كلام لا يتأتَّى مثله من مؤمنين معظمين لربهم.

 

 


{قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)}


كأنهم أرادوا أن يتشبهوا بسيدنا إبراهيم خليل الرحمن عندما سأل الله عن كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه. لقد آمنوا بعلم اليقين، ويريدون الآن الانتقال إلى عين اليقين؛ لذلك سألوا عن المائدة التي صارت بعد ذلك حقيقة واضحة.
وهكذا نعرف أن هناك فارقا بين أن يؤمن الإنسان بذاته، وأن يشهد بالإيمان عند غيره. فالذي يشهد بالإيمان عند غيره يحتاج إلى يقين أعمق.

 

image.png.5f4a5d3a96f53872192abb19fe140cbd.png


{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)}
 

قوله الحق: {مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} إنما يعني أن هناك لله موائد منصوبة في الأرض. والكون كلمة مائدة فيها من الخير الكثير إن استطاع الإنسان أن يكد ويكدح.
والإنسان منا عندما يكد ويكدح ويستخرج من الأرض الزرع ويرعى الحيوانات فإنه يأتي إلى زوجه بمخزون قد يكفيهم كأسرة لمدة عام من دقيق وأرز وعسل وسكر وزيت، فتأخذ الزوجة طيراً فتذبحه وتطهو معه الخبز والخضراوات.

 

إذن فالكون كله مائدة الله المنصوبة والتي يأخذ منها كل إنسان على قدر عمله. وكلمة (مائدة) لا تطلق إلا على الخوان وعليه طعام. أما إن كانت بغير طعام فنطلق عليها (خواناً)؛ لأن (المائدة) مأخوذة من مادة (الميم والألف والدال) والمائدة تميد أي تضطرب من كثرة ما عليها من أشياء. أو هي تعطي مما عليها من أشياء. فالمائد هو المُعْطَي.
وقول عيسى عليه السلام يمتلئ بكل المعاني القيمة، فهو يطلب أن تكون المائدة مناسبة لعيد يفرح به الأولون والآخرون وآية من الحق سبحانه وتعالى، ويطلب من فضل ربوبية الرازق أن يرزقهم، ويعترف بامتنان أن الحق هو خير الرازقين.

 

والمقارنة بين قول الحواريين وقول عيسى تدلنا على الفارق بين إيمان المبلغ عن الله، وإيمان الذين تلقوا البلاغ عن عيسى. إيمان عيسى هو الإيمان القوي الناضج. أما إيمان الحواريين فهو إيمان ناقص، لقد كانت قوة إيمان عيسى نابعة من أنه يتلقى عن الله مباشرة، أما الحواريون فليسوا كذلك، على الرغم من أنهم آمنوا بالبلاغ عن الله وتم ذلك بواسطة رسول، ولذلك يعلو الرسول على المؤمنين ببلاغة في سلم الإيمان درجة أعلى. إنه يتلقى عن الله، ولهذا صحح عيسى عليه السلام طلبهم من الله وهو يدعو ربه.
 

إنه رسول مُصطفى مُجتَبَى؛ لذلك يضع الأمور في نصابها اللائق فيقول: (اللهم ربنا) و(اللهم) هي في الأصل (يا الله)، وعندما كثر النداء بها حذفنا منها حرف النداء وعوضناه بالميم في آخرها، فصارت: (اللهم). وكأن هذا اللفظ: (اللهم) تتهيأ به نفس الإنسان لمناجاة الله في تقديس وثقة في أنه سبحانه يستجيب، وهو نداء يقوم على عشق العبد لمولاه، فلا يوسط بينه وبين اسم ربه أي حرف من حروف النداء.
إننا نلحظ أن عيسى عليه السلام قدم كلامه لله بصفة الألوهية: (اللهم) فهو كنبي مرسل يعلم تجليات صفة الله. وهي تجليات عبادة من معبود إلى عابد. أما تجليات كلمة (رب) فهي تجليات تربية من رب إلى مربوب، والفارق بين عطاء الألوهية للخلق، وعطاء الربوبية، هو أن عطاء الألوهية تكليف من معبود إلى عابد.

 

والعابد يطيع المعبود فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، أما عطاء الربوبية فهو سبحانه المتولي للتربية للأجسام والعقول والمواهب والقلوب، والرب هو رب للمؤمن وللكافر. ويتولى الرب تربية الكافر على الرغم من إنكار الكافر للألوهية. فسبحانه يربي الماديات التي تقيم حياته.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول عن هؤلاء الكافرين: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25].

 

والحق سبحانه يبلغ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل الكفار عمن خلق السموات والأرض، ولن يجدوا إجابة على ذلك إلا قولهم: إن الله هو الخالق. وهي إجابة الفطرة الأولى. ونرى في حياتنا أكثر من مثل على ذلك- ولله المثل الأعلى- عندما يسأل الأطفال عن شيء من الذي أحضره؟ فإننا نجد الإجابات تتسلسل إلى أن تصل إلى أن معطي كل شيء هو الله، فإن سأل الطفل أمه: ماذا سنأكل؟ وتجيب الأم- على سبيل المثال- سنأكل بامية مثلاً. ويسأل الطفل: من أين؟ تجيب الأم: اشتراها والدك من بائع الخضر. ويسأل الطفل: ومن أين جاء بها بائع الخضر؟ تقول: الأم. من تاجر في السوق. يسأل الطفل: ومن أين جاء بها التاجر؟ تجيب الأم: من الفلاح الذي حرث الأرض وبذر فيها بذور البامية. يقول الطفل: من الذي خلق الأرض وأنبت النبات؟ تقول الأم: إنه الله ربنا خالق كل شيء.
 

لقد وصلت الأم بحوارها مع الطفل إلى عطاء الربوبية الذي يستوفي فيه المؤمن والكافر، والمؤمن هو الذي يأخذ بجانب عطاء الربوبية عطاء الألوهية أيضاً، وهو التكليف. فعطاء الألوهية يعطي المؤمن عطاء الربوبية مضافاً إليه العطاء الذي لا ينفذ، إنه يعطي المؤمن زمانا لا يموت فيه ونعمة لا يتركها ولا تتركه، ويأخذ المؤمن بالمنهج يقين الإشراق والإقبال على العمل في ضوء منهج الله.
 

لقد قال عيسى ابن مريم داعيا الله: {اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} وألزم عيسى نفسه بنداء الألوهية أولاً معترفاً بالعبودية لله ملتزماً بالتكليف القادم منه ثم جاء بنداء الربوبية. فيا من أنزلت علينا التكليف ويا من تتولى تربيتنا نحن ندعوك أن تنزل علينا مائدة من السماء. وأخذ نداءه زاوية القيم ثم زاوية المادية وهي الرزق، لكن الحواريين قدموا بشريتهم فطلبوا من المائدة الأكل والطعام فقالوا:(نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين)، أما عيسى ابن مريم بصفائية اختياره رسولاً فقد أخر الطعام عن القيم فقال: {اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين}.
صحيح أن الرزق يمس الأكل، ولكن الرزق ليس كله أكلاً. فالرزق هو كل شيء تحتاج إليه وتنتفع به، فالأكل رزق، والشرب رزق، والملبس رزق، والعلم رزق، والحلم رزق، وكل شيء تنتفع به هو رزق من عند الله، ولذلك جاء عيسى بالكلمة العامة التي يدخل فيها الأكل وتتسع لغيره. ويجيب الحق على دعاء عيسى ابن مريم: {قَالَ الله...}.

 


{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}


وساعة يقول الحق: (إني) فهو يستخدم نون الإفراد. ونعلم أن هناك أسلوبين لحديث الحق سبحانه عن نفسه. إنه ساعة يتحدث عن وحدانيته يأتي بنون الإفراد فيقول سبحانه: {إنني أَنَا الله} [طه: 14].
وساعة يتحدث سبحانه وتعالى عن سيال القدرة الشاملة العامة لكل صفات الكمال التي تتطلب إيجاد الشيء يأتي بنون التعظيم فيقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وهو سبحانه أراد هنا أن يعطينا معنى التوحيد فقال: {قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ}. ذلك أن المائدة ستنزل من السماء، ولا يقدر على ذلك إلا الله وحده سبحانه وتعالى.

 

ويتبع الحق ذلك بقوله: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين}. فسبحانه يرسل رسله بعد أن يجتبيهم، وإياك أيها العبد أن تقول: إن فلاناً بذاته من الرسل أفضل من فلان؛ لأن الحق هو الأعلم برسله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. وعلينا أن نتبع الرسل، وعندما حاول بعض من أهل الجاهلية التعجب من شأن القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم كما يخبر القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 31-32].
 

وقال أهل الجاهلية: لماذا لم ينزل القرآن على رجل عظيم من مكة أو من الطائف؟! قالوا ذلك استهزاء بشأن محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الحق سبحانه وتعالى في ذلك القول الفصل، فليس لأحد أن يختار الرسول؛ لأن الرسول مُصطفى من الله، ولا يملك أحد من البشر أن يختار رسولاً من أصحاب السلطان أو الجاه.
 

وسبحانه وتعالى يعد كل رسول الإعداد اللائق لمهمته، ومقام الرسالة النبوية هو الأعلى في الدنيا والآخرة. والحق سبحانه- وهو المنظم لأمور خلقه- قسّم الموّاهب- رحمة منه- فيما بين العباد ليتساندوا ويتآزروا ويحتاج كل منهم إلى عمل الآخر. وحين يرسل سبحانه رسولاً فهو يختار الآية المناسبة له وللعصر الذي جاء فيه، وما اقترح قوم آية وجاء بها الله، ثم لم يؤمن الذين اقترحوا الآية بعد مجيئها إلاّ أنزل الحق سبحانه بهم العذاب الأليم. وحين يطلب اتباع الرسول آيات معينة، إنما يحمل هذا الطلب في طياته التفلّت والتحلل من الالتزام بمنهج الله، كأن الذين يطلبونها يصرون على الكفر بالرسول على الرغم من طلبهم الآية، ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً} [الإسراء: 59].
 

وكذلك اقترح قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآيات غير آيات القرآن، على الرغم من أن آيات القرآن تقنع كل من له عقل يفكر وقلب يحس، وسنة الله مع الذين يطلبون الآيات ثم لا يؤمنون بها واضحة وهي العذاب الشديد، ومثال ذلك قوم ثمود الذين طلبوا ناقة للدلالة على صدق رسالة صالح عليه السلام، وعندما حدثت المعجزة كفروا بها فعاقبهم الله شر العقاب.
 

وبعض من قوم الرسول صلى الله عليه وسلم غالوا في طلب آيات غريبة: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 90-93].
وكان محمد صلى الله عليه وسلم رحيماً بآله وعشيرته، لذلك لم يطلب من الحق آيات غير التي أنزلها الله عليه، وعيسى عليه السلام دعا بأدب الرسل أن ينزل المائدة. واختلف العلماء أأنزل الحق سبحانه وتعالى المائدة أم لم ينزلها؟

 

إن هناك من تمسكوا بقول الحق سبحانه: {قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا}، وهناك من قالوا: إن الحق سبحانه وضع شروطاً لنزول المائدة، وهو إنزال العذاب بهم إن لم يؤمنوا، فتراجعوا عن طلب إنزالها ومن قالوا بنزول المائدة اختلفوا في مواصفاتها، فمنهم من قال: إن المائدة نزلت وعليها سمكة مشوية من غير فلوس وقشور ولا شوك فيها. ذلك أنها مائدة من السماء ومعها خمسة أرغفة، وعلى كل رغيف شيء مما يعرفون: رغيف عليه عسل، وآخر عليه زيتون، وثالث عليه سمن، ورابع عليه جبن، وخامس عليه قديد من اللحم.

 

نداء الايمان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)}


ونعرف أن هذا هو الحوار الذي سوف يدور بين الحق وبين عيسى ابن مريم عليه السلام يوم يجمع الحق سبحانه وتعالى الرسل: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 109].
وقد يقول قائل: ولماذا جاء الحق سبحانه وتعالى بهذا الحوار في صيغة الفعل الماضي؟: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116].
وكلنا يعرف أن لكل حدث زمناً ومكاناً. وزمان الحدث هو يوم القيامة. ومكان هذا الحدث في ساحة المشهد والحشر، وسبحانه هو خالق كل زمن وكل مكان، وله أن يتحدث عن أي أمر بأي صيغة شاء، سواء أكانت صيغة الماضي أم الحاضر أم المستقبل، فقد أوجد كل شيء من ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، وبيده أمر كل ما خلق ومن خلق. وهو أزلي قيوم، أما نحن بنو الإنسان فأمر الزمن يختلف، الزمن بالنسبة لأفعالنا هو واحد من ثلاثة؛ ماضٍ: أي أن يكون الحدث قد وقع قبل أن أتكلم؛ مثل قولي (قابلني زيد)، ومعنى ذلك أن الفعل قد تم وصار محققاً.
وحاضر: أي أن يكون الحدث في حالة وقوعه، أي يحصل الآن مثل قولي: (يقابلني زيد) وأنت تقصد الحال أي أنه يقابلني الآن.
إن معنى ذلك أن العين ترى زيداً وليس مع العين أين. ومستقبل: أي أن يكون الحادث سوف يقع مقولي: (سيقابلني زيد). وهنا لا يملك الإنسان نفسه أن يحدث منه الحدث، ولا يملك ألا يقع على الإنسان الذي سوف يقابله أمرٌ قد يمنعه من إتمام الحدث، ولا يملك الإنسان أن يظل السبب للمقابلة قائماً. إذن فمع المستقبل لا يصح للإنسان أن يحكم بشيء، لأنه لا يملك أي عنصر من عناصر الحدث. والذي يملك هذا هو الحق سبحانه وتعالى وحده. ولذلك يعلمنا القرآن شرف الصدق في الكلمة بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23-24].

 

وعلى الإنسان أن يحترم قدرته المحدودة، وان يتذكر دائماً قدرة الحق سبحانه وتعالى عليه. وهذا لا يعني أن الحق سبحانه يمنعنا من التخطيط للمستقبل، لا، بل يطلب منا أن نخطط وأن ندرس كل الاحتمالات، وعلينا أن نقول: (إن شاء الله)؛ لأننا بذلك نقدم مشيئة من يملك كل أمر وهو الله- سبحانه وتعالى-.
وقد حاول بعض المستشرقين من أعداء الإسلام أن ينفذوا بسمومهم إلى عقول المسلمين بالتساؤل عن عدم ترتيب الأفعال على نسق حدوثها في بعض من آيات القرآن، فقال قائل منهم: كيف يقول الحق- سبحانه-: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1].

 

وهذا خبر عن يوم القيامة فكيف يأتي به الله على صيغة الماضي، ثم يقول بعد ذلك: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}؟ واستعجال الشيء لا يكون إلاّ إذا لم يكن قد حدث، فكأن في الكلام تناقضاً، ذلك لأنه يقول: أتى، ويقول بعد ذلك: فلا تستعجلوه؟
ونقول: إن الذي يتكلم هو الحق سبحانه وتعالى وليس إنساناً مثلك محكوماً بأزمانه. بل المتكلم هو صاحب كل الأزمان وخالقها. وعندما يقول سبحانه: {أتى أَمْرُ الله} فمعنى ذلك أن أمر الله آتٍ لا محالة، لأنه لا قدرة تخرج مراده على ألاّ يكون. وأي فعل من الحق سبحانه وتعالى إنما يتجرد عن ملابسات الزمان وعن ملابسات المكان، فإن كنا نقرأ على سبيل المثال قوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 100].
فليس معنى ذلك أن مغفرة الله ورحمته قد مضى زمانها وانقضى وقتها. ولكن لنقل: كان الله غفوراً رحيماً ولا يزال غفوراً رحيماً، فسبحانه وتعالى غفور ورحيم قبل أن يوجد من يغفر له ويرحمه، ومن باب أولى يكون غفورا رحيما بعد أن يوجد من يستحق المغفرة والرحمة. وسبحانه منزه عن أن تعتريه الأحداث فيتغير؛ لأن الزمن مخلوق من الله، فلا تقل متى أو أين؛ لأنهما به وجدا. والحق يأتي بالماضي لأنه متحقق الوقوع، ليثبت حدوث أمر لم يحدث بعد، ذلك لأن الله إذا قال عن شيء إنه سيحدث فلابد أن يحدث.

 

ويؤكد الحق سبحانه في أي كلام من عيسى ابن مريم على أنه (ابن مريم) وهنا يسأل الحق عيسى- عليه السلام-: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} ونعرف أن السؤال إنما يأتي دائماً على وجهين: إما سؤال يعرف به السائل ما كان يجهله فيريد أن يعلمه من المسئول، كقول القائل: أقابلك فلان أمس؟ وإما أن يأتي السؤال لا ليعلم السائل من المسئول، ولكن ليقرر السائل المسئولَ.
ومثال ذلك- ولله المثل الأعلى- يسأل التلميذ أستاذه ليتعلم منه وليخبره الأستاذ بعلم جديد وخبر جديد. وأيضاً يسأل الأستاذ التلميذ ليقرره بالحقيقة ويوافقه عليها لتستقر لدى التلميذ. وسؤال الله عيسى من النوع الأخير؛ ليكون ذلك حجة على من قال بألوهية عيسى أو بنوته لله. وحاول بعض المستشرقين أن يشككوا في القرآن فقالوا: إن هناك تناقضاً في القرآن- والعياذ بالله- واستندوا على ذلك بقول الحق: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24].
أي أن الحق يقرر أن كل كائن مسئول عما يفعل ويعتقد، ولكنه سبحانه يقول في موضع آخر من القرآن الكريم: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39].
فهل معنى ذلك أنهم لن يُسألوا؟ لا، بل سوف يُسألون ليقرروا ما فعلوا لا ليعلم الله منهم ما فعلوا، فهو سبحانه عليم بكل شيء.
وهؤلاء المستشرقون لا يعلمون أن السؤال يرد عند العرب على وجهين، وجه ليعلم السائل، ووجه ليقرر المسئول، وسؤال الحق للناس يوم القيامة ليقرروا ما فعلوا وكان منهم؛ لأن الإقرار سيد الأدلة، وليس سؤال الحق سبحانه هو سؤال من يرغب في أن يعلم فسبحانه عليم بكل شيء، وعلى الإنسان أن يحتفظ بالمقام الذي وضعه فيه ربه، وكذلك كان عيسى ابن مريم. وكذلك يكون سؤال الله لعيسى، إنه لتقريع وتأنيب وتوبيخ من قالوا عن عيسى ما لم يبلغهم إياه.
إن عيسى عليه السلام لم يبلغهم ولم يطلب منهم أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله؛ لأن عيسى ابن مريم، إنما يبلغ ما أُوحي إليه من ربه فقط، ولهذا تأتي إجابة عيسى رداً على أي تزَيُّد من الأتباع: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} وساعة نسمع {سُبْحَانَكَ} فلنعرف أنها إجمال التنزيه لله، وهو تنزيه أن يشابهه خلق من خلق الله، فلله وجود، وللإنسان وجود، ولكن إياك أيها الإنسان أن تقول: إن وجودي كوجود الله؛ لأن وجود الله ذاتي، ووجودك غير ذاتي وكل ما فيك موهوب لك من الله؛ لذلك فلا غناك مثل غنى الله، بل غناه ذاتي وغناك موهوب منه سبحانه، ولا أي صفة من صفاتك كصفات الله، فله سبحانه مطلق القدرة والقوة، وعليك أن تأخذ كل شيء يتعلق بالله في نطاق (سبحانه) (وليس كمثله شيء).

 

وكذلك يكون تنزيه عيسى لربه وخالقه: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} فعيسى ابن مريم يعلم أن الرسول المصطفى من الله ليس له أن يقول إنه إله. ويرد عيسى على ذلك بقضية متفق عليها: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} لأن الكل متفق على أن الله يعلم كل ما يبدر من العباد من سلوك وأقوال وأفعال {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور}. والكل يعلم ارتفاع الحق وتنزهه عن أن يوجد له معلوم جديد لم يعلمه من قبل. والكل يعلم- كذلك- أن الله يعلم خفايا الصدور؛ لذلك يقول عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ويقرر أن الحق العليم بكل شيء يعلم أن ذلك لم يخطر له على بال، وهذه هي العلة في إيراد ثلاث صور في هذه الآية.
الصورة الأولى هي قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} وهذا تنزيه من عيسى لربه، والصورة الثانية هي قول عيسى: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}، والصورة الثالثة هي: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}. إذن فلا شيء من عند عيسى، وقد يسأل سائل: وماذا يكون في النفس؟ الذي يكون في النفس هو ما أسِرُّ به ولم يظهر؛ لأن النفس تُطلق مرة ويراد بها الذات التي تضم الروح والجسد معا، وعندما تُطلق على ذات الله فنحن ننزهها عن أن تكون أبعاضاً، ولكنها ذاته المأخوذة في نطاق التنزيه.
والمثال هو قول الحق: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54].
وهكذا يكون فهمنا لمجيء كلمة (نفس) منسوبة لله، إنه المنزه أن يكون مثلنا، فلله وجه ولنا وجه، ولكن وجه الله نفهمه في نطاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وكذلك يد الله وكذلك كل صفات الله. ونعلم أن لله أسماء أعلمنا ببعضها، وعَلَّم بعضاً من خلقه بعضها، واستأثر ببعضها لذاته. وهناك بعض من الصفات لله تأتي لمجرد المشاكلة، كقول الحق: {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].
ولا نقول أبداً: إن الله مخادع، ولكن الصفة هنا جاءت للمشاكلة لذكرها في مقابلة يخادعون الله. ولذلك لا نأخذ منها اسماً لله، بل إنه جاء للرد على ما يبدو من أعداء الله.

 

ويختم عيسى ابن مريم قوله: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} هي مبالغة في ذات الحدث، ومبالغة في تكرير الحدث، فهو سبحانه يعلم غيب كل واحد من خلقه وغيب كل ما في كونه، وهكذا جاء القرآن برد عيسى عليه السلام وهو رد يستوعب كل مجالات الإنكار على الذين قالوا مثل هذا القول: ويتابع القرآن على لسان سيدنا عيسى عليه السلام ما يناقض ما قاله بعض من أتباعه فيقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ...}.

 


{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}
 

لقد عرض سيدنا عيسى عليه السلام- من خلال قوله لربه تبارك وتعالى- المنهج الذي جاء به على الناس جميعاً وبلغه تمام البلاغ، فقد أبلغ أنه عبد الله وأنه لرسوله، ومادام الحق علاّم الغيوب فهو أعلم بكل شيء حتى بما في النفس، كأنه يثبت أيضاً أن نفسه لم تحدثه بأي خاطر من تلك الخواطر. ويعلن أنه لم يبلغ إلا ما أمر به ربه.
{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117].
والشهيد هو الرائي الذي لا عمل له في تحريك المشهود إلى غير ما شهده.
ويقول عيسى ابن مريم عليه السلام: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْْ} وأمر توفيه الحق لرسالة عيسى ورفعه إليه، قد ذكرناه من قبل في خواطرنا ولكن أضيف الآن بعضاً من اللمحات؛ لأني أرى أنّ من حق كل قارئ أو متلق لهذه الخواطر أن يجد الخلاصة الملائمة التي تغنيه عن الرجوع إلى ما سبق من قول في هذا الأمر، وذلك حتى تتصل المعاني في ذهن القارئ.

 

لقد كان لميلاد عيسى عليه السلام ضجة، وكذلك كان لمسألة توفِّي الله له ضجة. ولقد شبه الله لقتلة عيسى أنهم قتلوه، فعندما أرادوا أن يقتلوه دخل خوخة، والخوخة هي باب في باب، وهذا نظام البيوت القديمة حيث يوجد باب كبير لإدخال الأشياء الكبيرة وفي هذا الباب الكبير يوجد باب صغير يسمح بمرور الأفراد. وفي سقف هذا البيت فتحة. وعندما دخل رجل يدعى (تطيانوس) طالباً لعيسى عليه السلام نظر عيسى لأعلى ووجد شيئاً قد رفعه، واستبطأ القوم تطيانوس وخرج عليهم من بعد ذلك، فتساءلوا: إن كان هذا تطيانوس فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين تطيانوس؟
إذن فقد اختلط عليهم الشبه بعد أن ألقى الله شبه عيسى على تطيانوس. أو أن عيسى حينما دخلوا عليه كان معه الحواريون وقال عيسى للحواريين: أيكم يُلقى شبهي عليه وله الجنة؟. وكان كل حواري يعلم أنه لا رسالة له مثل عيسى عليه السلام. فماذا إذن يريد الحواري لنفسه أكثر من الجنة؟. وتقدم (سرخس) فألقي عليه شبه المسيح عليه السلام وقتل اليهود سرخس. أو أن الذين ذهبوا لقتل عيسى وعرفوا أنه رفع فخافوا أن تنتشر حكاية رفع عيسى بين الناس فيؤمنوا به، ولهذا جاء القتلة بشخص وقتلوه، أو أن القتيل هو واحد ممن باعوا عيسى لليهود وتيقظت في نفسه ملكة التوبة فقدم نفسه بدلاً وفداءً للرسول.

 

ومسألة التوفي- كما نعلم- هي الأخذ كاملاً دون نقض للبنية بالقتل، ونحن- المسلمين- نعرف أن الحق رفع محمداً صلى الله عليه وسلم بالإسراء والمعراج إلى السموات وعاد إلينا مرة أخرة ليكمل رسالته؛ لذلك نصدق أمر رفع عيسى وأن الله توفاه، أي استرده كاملاً دون نقض للبنية، وأنه سيعود مرة أخرى ليصلي خلف مؤمن بالله وبمحمد رسول الله.
وإن أمر الرفع في الإسلام مقبول. فقد رفع الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعراج، ودار بينه وبين إبراهيم عليه السلام حوار، وكذلك دار حوار بينه وبين يحيى عليه السلام، وآدم عليه السلام وغيرهم من الأنبياء، وفرض الحق الصلاة على أمة المسلمين في تلك الرحلة.
نحن- إذن- نصدق تماماً مسألة صعود الإنسان بشحمه ولحمه إلى السماء كأمر وارد وحاصل، أما طول المدة أو عدمها فذلك لا ينقض المبدأ.

 

أما مسألة ارتباط نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض بقيام الساعة، فالنصوص في هذه المسألة من القرآن الكريم محتملة وغير قطعية الدلالة، وقد وردت في السنة النبوية المطهرة، ولكنها غير معلومة من الدين بالضرورة فلا نكفر من يتأبى عليه فهمها، وقد أراد الحق سبحانه الرحمة بالخلق؛ لذلك فكل شيء يقف فيه العقل ولا يزيد به حكم من الأحكام يأتي به الله في أسلوب لا يسبب الفتنة. فإن صدقنا أن عيسى رفع فلن يزيد ذلك علينا حكماً ولن ينقض حكماً، ولذلك جاء الحق سبحانه بمسألة الإسراء بنص قطعي، أما مسألة المعراج فلم تأت نصاً في القرآن بل جاءت التزاماً لأن الحق سبحانه قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى عِندَ سِدْرَةِ المنتهى عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} [النجم: 13-15].
وهكذا فالإسراء آية أرضية، والمعراج آية سماوية. والآية الأرضية يمكن أن يقيم رسول الله الدليل عليها، وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ووصفه لهم بقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].

 

لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أوصاف القوافل التي رآها في طريق العودة، إذن كان الإسراء آية أرضية، أما الآية السماوية وهي المعراج فجاءت التزاماً وكذلك أمر رفع عيسى عليه السلام، فمن يرى أن ذلك جاء من طلاقة قدرة الله فهو يصدق ذلك. ومن يقف عقله نقول له: إن وقوف عقلك لا يخرجك عن الإيمان واليقين. وعندما نتأمل بالدقة اللغوية كلمة (توفيتني) نجد (توفاه) قد تعني أماته، فالحق سبحانه يقول: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11].
والحق سبحانه وتعالى يقول أيضاً: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [الزمر: 42].
إنه سبحانه يسمي النوم وفاة، وسماه- أيضاً- موتاً.

وهو أمر فيه إرسال وفيه قبض. ومعنى الموت في بعض مظاهره غياب حس الحياة، والذي ينام إنما يغيب عن حس الحياة، إذن فمن الممكن أن تكون الوفاة بمعنى النوم. ويقال أيضاً عن الدِّين توفيت دَيني عند فلان أي أخذت دَيني كاملاً غير منقوص. وكذلك أمر قتل المسيح قال فيه الحق جل وعلا القول الفصل: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157].
ونعرف أن الموت يقابله القتل أيضاً، فالحق يقول: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144].
فالموت خروج الروح مع بقاء الأبعاض سليمة، أما القتل فهو إحداث إتلاف في البنية فتذهب الروح. وقد قال الحق على لسان المسيح: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أي أخذتني كاملاً غير منقوص. وهذه مسألة لا تنقض الرفع. ونعلم أن كل ذلك سيكون مجالاً للحوار بين عيسى ابن مريم والحق سبحانه يوم المشهد الأعظم جاء به القرآن لنا ليخبرنا بالذي يُثَبِّت صدق الإيمان.

 

إن عيسى عليه السلام يقول عن نفسه: إنه مجرد شهيد على قومه في زمن وجوده بينهم، ولكن بعد أن رفعه الله إليه فالرقابة على القوم تكون لله، فالحق سبحانه شهيد دائماً ورقيب دائماً، ولكن عيسى ببشريته يقدر أن يشهد فقط، والله القادر وحده على أن يشهد ويغير ويمنع.

 

تداء الايمان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}
 

لقائل أن يقول: أليس في ذلك الأمر إشكالٌ واضح؟.

لقد ادّعى بعض أتباع عيسى أنهم أبلغوا من عيسى أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله. فكيف يطلب لهم عيسى المغفرة في هذه الآية.
ونقول: إن عيسى لم يقل: (يا رب اغفر لهم) ولكنه قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي أن عيسى قد ترك الأمر لطلاقة المشيئة الإلهية، وهو كرسول من عند الله يعلم أن رحمة الله سبقت غضبه، وأن له سبحانه طلاقة القدرة، فلا قدرة تقيده فطلاقة المشيئة موجودة. وهم عباد الله باختيارهم.

 

إننا نعرف أن كل خلق الله هم عبيد الله. ولكن المطيعين لله والمؤمنين به خاصة هم عباد الله. إذن فالخلق نوعان: عباد الله ذهبوا لله إيماناً ومحبة وطاعة، والنوع الثاني هم العبيد الذي يُقهرون لقاهرية سيدهم، وحتى الكافر لم يكفر رغما عن الله. بل كفر بما آتاه الله من قدرة اختيار في أن يفعل أو لا يفعل، وكان الحق قادراً على أن يخلق خلقاً لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يأمرهم به الله. وقد فعل الحق ذلك مع الملائكة.
لكن قدرة القهر تثبت لله صفة القهار على المقهور ولا تثبت صفة المحبة، فالمحبة تأتي من أن يكون المخلوق مختاراً أن يؤمن أو أن يكفر، ثم يختار الإيمان. إنه بذلك آمن بالمحبة لا بالقهر. وهكذا يريد الله خلقه المؤمنين به. إن كل الوجود- ما عدا الإنسان- مقهور، ولا يقدر على المعصية: الشمس، والقمر، والمطر، والهواء، والسحاب وكل ما في الكون مقهور لله.

 

إذن لو أراد الله خلقاً مقهورين على الإيمان به ما استطاع أحد من خلقه أن يكفر به، ولكن الحق أراد أن يثبت صفة القهر فيما دون الإنسان، أما في الإنسان فقد خلقه الله مختاراً بين الكفر والإيمان حتى يأتي بعض من العباد ليصنعوا ما يحبه الله ويرضاه ويتبعوا منهج الله، وهم يعلمون أن الله لم يكلفهم ما لا طاقة لهم به. فلا يكلف سبحانه أحداً بأن يموت أو يمرض، ولا يكلف فاقد آلة الاختيار وهي العقل، ولا يكلف من لم يبلغ رشد العقل؛ لأن التكليف للإنسان لا يتم إلا بوجود ثلاثة شروط: الأول: أن يوجد العقل، والثاني: أن يكون العقل في تمام النضج وهو الرشد، والثالث: ألا تكون هناك قوة تهدد حياته وتقهره على فعل ما.
وهكذا نعلم أن هناك ثلاثة يخرجون من دائرة التكليف. وهم: المجنون وغير ناضج العقل لأنه لم يبلغ الرشد، والمقهور بفعل فاعل. وقد أعطى الحق مع التكليف الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وبذلك ليس لأحد عند الله حجة، ومن دخل التكليف طائعاً فهو من عباد الله.
ومن عصى الله وخرج عن التكليف فهو من العبيد المقهورين في كل شيء فيما عدا التكاليف التي خيرّوا فيها.

 

إذن فالعبادة هم الذين دخلوا العبادية بأن وازنوا بين الإيمان ونقيضه الكفر.. أي بين المراد لله وغير المراد لله. فكيف إذن يقول عيسى ابن مريم على الرغم من علمه بكفرهم: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}؟. ونقول: إن معنى (العباد) و(العبيد) الذي شرحناه سابقاً هو وضع الإنسان في الدنيا وما يكون عليه فيها، ولكن الحوار الذي نقرؤه في القرآن بين عيسى عليه السلام والحق سبحانه وتعالى يكون في الآخرة، وكلنا في الآخرة عباد طائعون.
 

وعندما نستقرئ كلمة (عباد) في القرآن نجد أن العباد هم الصفوة المختارة التي اختارت مراد الله فوق اختيارهم فاستوت مع المقهور تماماً. ومثال ذلك قول الحق سبحانه: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63].
أنه يأتي هنا بالخصال الجميلة لهذه الصفوة من العباد. والشيطان نفسه يعلن عدم استطاعته إغواء العباد المخلصين كما يقرر القرآن الكريم: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83].

 

أما في الآخرة فكلنا عباد، وها هوذا الحق سبحانه يخاطب الذين أضلوا غيرهم بقوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي} [الفرقان: 17].
إن الكل عباد لله يوم القيامة، والكل ينفذ مراد الله، ولا ولاية لأحد على أي شيء من أبعاضه وجوارحه، فالعين التي كانت مسخرة للعبد في الدنيا تأتمر بأمر العبد فيختار أن يرى الحلال أو يرى الحرام، هذه العين تسترد حريتها من صاحبها فلا ولاية له عليها في اليوم الآخر، وكذلك اليد واللسان والجلد والقدم، وكل الأبعاض. وتكون النفس الإنسانية في الدنيا كقائد لكل الأبعاض والجوارح تنفذ أوامر الإنسان سواء للخير أو للشر، وسواء للطاعة أو للمعصية. لكن هذه الأبعاض والجوارح تنطلق يوم القيامة لتشهد على كل ما فعل الإنسان، فليس لأحد مراد غير مراد الله: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
لقد انتهت مرادات البشر وبقي مراد الله فصار الكل عباداً لله. وعلى هذا فليس هناك إشكال في قول عيسى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}. ونعلم أيضاً أن كلمة (عبيد) تشملنا كلنا فيما نحن غير مخبرين فيه مثل إرادة التنفس أو ميعاد الميلاد أو ميعاد الموت، ولكن المؤمنين يرتقون من (العبيدية) إلى (العبادية) بتنفيذ منهج الله، أما الكافرون والعصاة فهم يعصون الله بما لهم من اختيار ويسيرون في درب العصيان معاندة لمنهج الله. وحتى يثبت الحق لنا جميعاً أن الكافرين مجرد عبيد فهو يصيبهم بالمرض والفاقة والآلام النفسية العميقة ولا يجرؤ واحد منهم أن يصادم مراد الله في هذه الأحداث التي يجريها عليهم.

ولذلك فالمؤمن يشكر الحق باختياره لأن الله حماه بأدوات الاختيار وجوداً ونضجاً وعدم إكراه.
 

ولنا أن نلاحظ أننا كلنا في يوم القيامة- كما قلنا من قبل- نصير عباداً لله فلا مراد لأحد فينا على أي شيء، وكل المراد يكون لله، وقد أورد الحق سبحانه ما جاء على لسان عيسى عليه السلام فقال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} وهذا التذييل لكلمات عيسى ابن مريم لم يأت باعتذار أو طلب الحنان من الله على الذين كفروا بالله وأشركوا به، فالعزيز الحكيم هو الذي لا يغلب على أمره ولا تسيطر عليه قوة ولا تحمي هؤلاء الناس قوة من دون الله، فهو القادر العزيز، إن شاء غفر لهم فلا راد لمشيئته.
وبعض السطحيين الذين يتلمسون الأخطاء في القرآن قالوا: ألم يكن الأجدر أن يقول عيسى: إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم؟. ونرد على هؤلاء السطحيين فنقول: إن كل كلمة في القرآن جاذبة لمعناها، وكل معنى في القرآن عاشق لكلمته. ولذلك جاء التذييل في هذه الآية بما يخدم طلاقة المشيئة في تعذيبهم أو في الغفران لهم، فإن عذبهم فليس هناك قوة ثانية تستطيع أن تحميهم من عذابه؛ لأنه سبحانه عزيز، وإن غفر لهم فلا توجد قوة أعلى تسأله: كيف غفرت لهم وقد كانوا كافرين؟

 

إذن فسبحانه لا يسأل عما يفعل لأنه عزيز حكيم. وأيضاً فقولهم: كان الأنسب أن يقول: فإنك أنت الغفور الرحيم. نقول لهم: هي تناسب قوله {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} ولكنها لا تناسب {إِن تُعَذِّبْهُمْ} فكان لابد أن يأتي تذييل الآية بما يناسب {إِن تُعَذِّبْهُمْ} وبما يناسب قوله تعالى: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ}.

 

image.png.a7378ffc08c89ed6ed66478b786a8a86.png

 

{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)}
 

نعرف أن هناك صدقاً ينفع يوم القيامة وهو الصدق الموصول بصدق الدنيا. وهناك صدق لا ينفع يوم القيامة ومثال ذلك قول إبليس اللعين كما يحكي القرآن الكريم: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم: 22].
مثل هذا الصدق لا ينفع أحداً؛ لأن الآخرة ليست دار التكليف. لكن الصدق الموصول بصدق الدنيا هو قول عيسى عليه السلام: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}. ولذلك يقول الله في الصدق الموصول: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ}.

 

ذلك أن صدق الصادقين يوم القيامة هو صدق موصول بصدقهم في زمن التكليف وهو الدنيا ويتلقون رضاء الله: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} وإن تساءل إنسان: كيف يرضى العبد عن ربه؟.
نقول: إن العباد المؤمنين عندما يعاينون الجزاء المعد لهم في الآخرة يمتلئون بالحبور ويقولون: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} [الزمر: 74].
هذه الآية التي تتحدث عن يوم ينفع الصادقين صدقهم بقوله: {ذلك الفوز العظيم} كأن هناك فوزاً سطحياً، وفوزاً عظيماً، والفوز السطحي: هو ما يعطيه الإنسان لنفسه في دار التكليف من متعة قصيرة العمر والأجل فيبدو ظاهرياً وكأنه قد فاز، وفي الحقيقة ليس هو الفوز العظيم لأن الندم سيعقبه، وأي لذة يعقبها الندم ليست فوزاً؛ لأن الدنيا بكل ما فيها من نعيم هو نعيم على قدر إمكانات الإنسان وتصوره، وهو نعيم مهدد بشيئين؛ أن يزول النعيم عن الإنسان، وكثيراً ما رأينا منعمين زال عنهم النعيم، أو أن يترك الإنسان هذا النعيم بالموت، ونرى ذلك كثيراً. أما النعيم الذي هو الفوز العظيم فهو النعيم الموصول الذي لا يمنعه أحد، ولا يقطعه شيء

 

نداء الايمان

 

image.thumb.png.368af0999b35b5349cdb5e4ca309a44f.png

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}


السماء والأرض هما ظرفان للوجود وللكائنات كلها من أبراج وكواكب وشمس وقمر ونجوم وهواء وغمام وماء وحيوان وإنسان. فالأرض وهي المُلْك الأسفل الذي نراه وما فيه من أقوات وحيوان وإنسان. والسماء وما تحوي وتضم من الملكوت الأعلى، هما جميعاً لله مِلْكا ومُلْكاً فهو سبحانه الذي يملك كل شيء ويملك كذلك المالك للشيء.

وقول الحق: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} ينطبق مع قول المسيح ابن مريم: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118].
أي أنه ليس لشيء من خلق الله أن يخرج عن مرادات الله، أما في الدنيا فقد جعل الله أسبابها في أيدي الناس، رزق إنسان في يد إنسان آخر، ومَلَّك بعضنا أمر بعض، فهناك مالك الطعام ومالك الثوب، ولكن ليس كل مالك مَلِكاً؛ لأن المَلِك هو الذي يملك المالك، وهذه سنن الكون. وفي الآخرة هناك مالك واحد هو مالك يوم الدين. فكأن الحق أنهى هذه السورة بالحديث عن نهاية الحياة؛ لأنه سبحانه قد بدأها بالحديث عن أحكام الله فقال: {أَوْفُواْ بالعقود أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} [المائدة: 1].
لقد تكلم سبحانه في الأحكام عن الصيد في البر والصيد في البحر وعن الحلال والحرام من الأنعام وعن النكاح، وعن كل ما يتعلق بمسئوليات الحياة، ومَلَّكَ بعضنا أمر بعض، لكن في اليوم الآخر فالمسألة مختلفة. فبدأ السورة بأمر هو {أَوْفُواْ بالعقود}.

 

إن كل أمر ورد من الأمر الأعلى، فالمأمور يفعل أو لا يفعل. فهناك من الناس من يؤمن ومن يعصي، ومعنى ذلك أن المأمورين لهم حرية الاختيار، فلو كان الأمر لابد أن يفعل دون اختيار لكان الآمر قد خلق الخلق وهم مفطورون على أن يفعلوا فيكون بذلك قد قهرهم، لكن الآمر الأعلى ترك هذه الأوامر لاختيار البشر، وهم صالحون للطاعة والوفاء بالعقود، وهم صالحون للمعصية.
 

لقد بدأ سبحانه السورة بمنطقة الاختيار في الإنسان التي خلقها الله لينشأ عنها التكليف. وأوضح بعد ذلك أن للاختيار أمداً محدداً سينتهي، ويجمع الله الناس يوم ينفع الصادقين صدقهم ويكون الأمر كله لله.
ويختم الحق السورة بقوله سبحانه: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} أي أنه سبحانه يملك الكون كله، والكون- كما نعلم- مكون من أجناس متعددة. وأول جنس في الكون هو الخادم الذي لا يُخْدَم هو الجماد، والجماد قد يكون ماءً أو جبالاً أو حديداً، أو شمساً، أو قمراً، أو نجوماً، كل هذه جمادات، أي ليس لها حس. وهذه الجمادات تخدم أول ما تخدم النبات. والنبات يخدم الحيوان، والحيوان يخدم الإنسان.
هكذا يكون الجماد خادماً لكل ما يعلوه من نبات وحيوان وإنسان. النبات يخدم الحيوان والإنسان.
والحيوان يخدم الإنسان. وكل هذه الأشياء التي تخدم الإنسان لا اختيار لها وكلها مقهورة لخدمة الإنسان؛ فالشمس لم تغضب يوماً على البشر فلم تمدهم بحرارتها ولا المطية تأبت على صاحبها.

 

والإنسان فيه قسمان: قسم مقهور للحق فلا يستطيع الإنسان أن يتحكم فيه أو يسيطر عليه مثل المرض أو الموت وهو في ذلك يشترك مع الحيوان والنبات والجماد، وقسم يكون الإنسان فيه مختاراً وهو تطبيق المنهج.
إننا إذا نظرنا إلى الجانب الذي قهر فيه الحق الإنسان نجده لمصلحة الإنسان. فالإنسان لا يختار أن يتنفس ولا أن يسري الدم في عروقه ولا أن تعمل كليتاه. إنه مقهور في كل ذلك. ومن رحمة الله بالخلق أن جعلهم مسيّرين ومقهورين في هذه النواحي، فلم يجعل تنفس أحد بيد صاحبه ولا جعل القلب يعمل بإرادة الإنسان. والإنسان- إذن- يُخير في مسائل التكليف فقط. وكأن الحق يذكر الإنسان أن منطقة الاختيار هي عقد بين المؤمن وربه؛ لأن الاختيار سيسلب من العباد يوم القيامة، ويكون كل العباد مقهورين ويصير الكائن البشري مثل الجماد والنبات والحيوان. ولذلك يقول الحق سبحانه: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120].
إنّ الإنسان يوم القيامة سيصير بلا اختيار لأن الحق استعمل (ما) هنا وهي تدل على الأشياء غير العاقلة أي التي لا اختيار لها. كأن العقل له عمل في الدنيا وهو التمييز بين البدائل، أما في الآخرة فالكل متساوٍ أمام خالقه. وعلمنا من قبل الفارق بين (مُلْك) و(ملكوت) وكلنا يقرأ قول الحق: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} [الأنعام: 75].
كأن الحق ينبهنا إلى أن العالم فيه ما يقع تحت الإحساس والإدراك، وفيه ما لا يقع تحت الإحساس والإدراك. فالذي يقع تحت الحس والإدراك هو عالم المُلْك. والذي لا يقع تحت الحس والإدراك هو عالم الملكوت. ولا نعرف عن عالم الملكوت إلا ما أخبرنا به الله. وهناك في عالم الملك ما يخفيه الله عنا، وسبحانه وحده هو القادر على كل شيء، والحق يطلب منا أن نعتبر بما في العالم المشهود من ظواهر. وله سبحانه مطلق العلم بعالم (الملكوت) أي ببواطن هذه الظواهر غير المشهودة. و(الملك) و(الملكوت) موجودان في الدنيا والآخرة، إلا أن المُلْك ظاهر والملكوت خفي.

 

ويوزع الحق سبحانه وتعالى أسباب الملك في الدنيا بين أيدي خلقه، ويملك التصرف فيما بين أيدينا وفيما خفي عنا، ويشاء الحق أن ينهي هذه المسألة من مبررات الخلافة للإنسان على الإنسان وفي الأرض فيقول: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ} فلله الملكوت، ولكم بعض الملك أيها العباد في ظواهر نسبة الأشياء إلى أسبابها وذلك في الدنيا، أما يوم القيامة فكل شيء ينتهي إلى الله.
 

ولكن لماذا قال الحق: {وَمَا فِيهِنَّ} على الرغم من أن الحق استخلف الإنسان في الأرض، والإنسان عاقل وكان من حقه أن يُغلب فيأتي القول: ومن فيهن؛ لأن(مَن) للعاقل، لقد أراد الحق بذلك أن ينبئنا أن الكل أصبح لا اختيار له، وأصبح مقهوراً على المراد منه فقد تساوى الجميع عاقلهم وغير عاقلهم فيقول لنا: {وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
 

وبهذه الآية ختمت سورة المائدة. وهي سورة مدنية، وهي من آخر ما نزل من القرآن الكريم، وفيها التشريع. وفيها التكاليف. وفيها الأحكام. وفيها ما يتعلق بكل السور المدنية من بيان اعوجاج أهل الكتاب.
ومن بعد ذلك جاءت سورة الأنعام، وهي مكية. وجاءت المكية بعد المدنية في الترتيب المصحفي حسب ما انتهى إليه آخر عرض للقرآن في آخر رمضان من حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه السلام. ومن المعلوم أن القرآن له (ترتيب نزولي) و(ترتيب مصحفي). والترتيب النزولي حسب ما نزلت سورة القرآن في مكة أو المدنية. ورب قائل يقول: إن الحق أنزل هذا القول الكريم فوق عرفات وهو قوله سبحانه: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3].
فكيف يقال ذلك؟
نقول: لنفهم معاً معنى الاصطلاح القائل: (مدني) و(مكي)،

هناك آيات من القرآن نزلت بالمدينة، وآيات أخرى نزلت بمكة، وآيات ثالثة فيما بينهما، وآيات رابعة نزلت بين السماء والأرض

. وجاء الاصطلاح (مكي) على الآيات التي نزلت قبل الهجرة، وجاء الاصطلاح (المدني) على الآيات التي نزلت من بعد الهجرة، وإن نزلت بمكة.
وأراد الحق أن يكون للقرآن ترتيب نزولي وترتيب مصحفي، وقد شاء سبحانه أن يعدل بالقرآن ميزان الكون الإنساني المضطرب، واضطراب الكون الإنساني إنما يكون بواسطة أناس لا يؤمنون بإله، أو بأناس يؤمنون بإله ويشركون معه غيره فيعبدون أوثاناً، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} أو بأناس يعبدون النار، أو بأناس تابعين لمنهج سماوي ولكن حرفوا فيه قليلاً أو كثيراً.

 

إننا نجد أن الأقرب إلى الإيمان بالله هم الأجناس الذين آمنوا بالرسالات السابقة على رسول الله، فقد جاءتهم الرسل ومعهم المعجزات، ومعهم كتب المناهج، والمنطق يقتضي أن يكون هؤلاء هم الأقرب للإيمان من غيرهم، ولذلك كان من المطلوب أن نواجه أولاً الوثنيين ونصفي المعركة مع أهل الكتاب من بعد ذلك؛ لأن أهل الكتاب لهم إلف بنزول منهج السماء إلى الأرض بواسطة الرسل.
 

إذن ففي نزول القرآن كانت الأمور المكية التي تتعلق بالعقيدة الأساسية هي الظاهرة. وهي الاعتراف بألوهية واحدة تحكم الكون. أما في المدينة فد ناقش الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب في كل أمور الدين بعد أن استتب أمر التوحيد.


لقد كان هذا الترتيب منطقياً مع هذه الحقيقة. فقد كان في العالم موجتان اثنتان: موجة إلحاد، وموجة تغيير في منهج الله السماوي. ولذلك كانت قلوب المسلمين مع قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب؛ لأنهم على الأقل يؤمنون بإله، وأن الإله يرسل الرسل ومعهم المنهج الإلهي والمعجزات الدالة على صدق رسالتهم، وحتى الذين انحرفوا من أهل الكتاب كانوا يتمسحون في هذا الكتاب المنزل إليهم بالرغم من أنهم حرفوه.
 

لقد وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقف بجانب الروم عندما واجهوا فارس. وعندما هزمت الروم حزن المسلمون وفرح الكفار؛ لأن الروم كانوا أهل كتاب؛ إنهم كانوا نصارى، وكانت هزيمتهم تعني انهزام منطق السماء أمام منطق الإلحاد، لذلك حزن المسلمون، وفرح الكفار. وأراد الله أن يصور لنا الموقف، وأن يوجه قلوبنا إلى الذين يؤمنون أيضاً بأن هناك إلهاً حتى ولو كانوا قد أخطأوا في تصور هذا الإله وفي البلاغ عنه، أو أخطأوا في تأويل ما جاءت به الرسل فقال سبحانه: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله} [الروم: 1-5].
إنّ المسلمين يفرحون بنصر الروم على فارس؛ لأن الروم لهم علاقة بالسماء، والرسل، والمناهج، والوحي. وجعل الله الأمر واضحاً هكذا لكي يبين موقفنا وليجعلها إعجازاً لكتابه ولرسوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موجوداً بمقر الدعوة وهو الجزيرة العربية، وليس عنده سفارات ولا مخابرات ولا مكتب حربي حتى يأتيه بالأخبار وينبئه عن استعدادات الروم التي تُجري لرد الهزيمة.

هذا الرسول يتنبأ بخبر معركة قادمة بين الفرس والروم، وينتصر فيها الروم، معركة تحدث بعد سبع أو تسع سنوات. وعندما راهن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه المشركين على ذلك، وجعل بينه وبينهم خمس سنين أجلاً لغلبة الروم وظهورهم على الفرس، ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل) فكانت مائة بعير إلى تسع سنين.

 

إن الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم كلام الواثقين، لأنه ينقل الخبر عن الله، وجعله الله قرآناً يتلى ويصلى به، ومحفوظاً أبد الدهر، ولا يمكن أن يكذب هذا القائل إنه سبحانه هو الذي يملك ميزان الكون كله، وأي إنسان من رجالات الحرب المعاصرين لا يمكنه أن يتنبأ بمصير معركة قادمة، على الرغم مما قد يُجمع لها ويحشد من معلومات عن القوة والعدة والعتاد. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ عن الله وهو واثق تمام الوثوق مما يبلغ.
 

وقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم الخصم الإلحادي، وكان قلبه مع أهل الكتاب، ونرى أيضاً أن أهل الكتاب كانوا يستبشرون بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ألم يقل بعض أهل الكتاب وهم اليهود في المدينة للأوس والخزرج: قد أظل زمان نبي يُبعث وسنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم. ولكنهم كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ذلك؛ لأنه سيسلب منهم السيادة، والسلطة الزمنية.
إذن فنزول القرآن أولاً كان في مكة، ومن بعد ذلك نزل في المدينة. لكن في الترتيب المصحفي- كما قلنا- جاءت المدنيات أولاً، وبعد ذلك جاءت المكيات. وذلك حسب ما أراد الله عندما راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان الأخير من حياة الرسول الكريم.

 

إنَّ أصل الإيمان واحد، وهو الإيمان بإله، ووحي، ورسل، ومنهج، وكل ذلك له فائدة إقامة نظام يحكم الحياة. وهو نظام ضروري لتنصلح حال الحياة سواء آمن الناس بإله أو كفر بعضهم. وجاء هذا النظام الذي يحكم في السور المدنية أولاً ولم يغفله الحق في بعض السور المكية. إنّ الحق شاء لرسوله أن يوحد القلوب المؤمنة بإله واحد أولاً ليواجهوا معكسر الإلحاد. ولكن هناك من اختلف وتخلف عن مؤازرة موكب الإيمان.
 

وهكذا تنتهي خواطرنا حول سورة المائدة، ومع أن سورة المائدة مدنية وسورة الأنعام مكية إلا أن السياق بين تذييل المائدة وافتتاح الأنعام فيه اتساق واضح. فالحق يقول في آخر سورة المائدة: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
ويقول سبحانه في أول سورة الأنعام: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1].
فسبحانه وتعالى قدير ويملك كل الكون، ولم يأخذ ذلك الملك افتئاتاً أو ادعاء، ولكنه جل شأنه هو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي جعل الظلمات والنور.

 

نداء الايمان

 




لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير { المائدة آية : 120}  مكرر - YouTube

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×